ج1.وج2.إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
ج1.إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
المجلد الأول، المقدمة
مدخل إلى علم الأصول الفصل الأول في
تعريف أصول الفقه وموضوعه وفائدته واستمداده
الفصل الثاني في الأحكام
الفصل الثالث في المبادئ اللغوية
الفصل الرابع في تقسم اللفظ إلى مفرد
ومركب
المقصد الأول: في الكتاب العزيز
المقصد الثاني: في السنة، الفصل
الأول: في معنى السنة لغة وشرعا
الفصل الثاني: في حجية السنة
واستقلالها بالتشريع
الفصل الثالث: في عصمة الأنبياء
الفصل الرابع: في أفعاله صلى الله
عليه وسلم
الفصل الخامس: في تعارض الأفعال
الفصل السادس: في حكم التعارض بين
القول والفعل
الفصل السابع: في التقرير
الفصل الثامن: فيما هم بفعله ولم
يفعله صلى الله عليه وسلم
الفصل التاسع: في حكم إشارته وكتابته
صلى الله عليه وسلم
الفصل العاشر: فيما تركه صلى الله
عليه وسلم والقول في الحوادث التي لم يحكم بها
الفصل الحادي عشر: في الأخبار وفيه
أنواع، النوع الأول: في معنى الخبر لغة واصطلاحًا، النوع الثاني: أقسام الخبر من
حيث الصدق والكذب
النوع الثالث: في تقسيم الخبر
المقصد الثالث: الإجماع
المقصد الرابع: في الأوامر والنواهي
والعموم ... الفصل الأول: في مباحث الأمر
الفصل الثاني: في النواهي
الفصل الثالث: في العموم
الفصل الرابع: في الخاص والتخصيص
والخصوص وفيه ثلاثون مسألة، فهرس المحتويات
المجلد الثاني، تابع المقصد الرابع،
الباب الخامس: في المطلق والمقيد
الباب السادس: في المجمل والمبين
الباب السابع: في الظاهر والمؤول
الباب الثامن: في المنطوق والمفهوم
الباب التاسع: في النسخ وفيه سبع
عشرة مسألة
المقصد الخامس: من مقاصد هذا الكتاب
في القياس وما يتصل به من الاستدلال، الفصل الأول: في تعريفه
الفصل الثاني: في حجية القياس
الفصل الثالث: في أركان القياس
الفصل الرابع: في الكلام على مسالك
العلة وهي طرقها الدالة عليها
الفصل الخامس: فيما لا يجري فيه
القياس
الفصل السادس: في الاعتراضات
الفصل السابع: في الاستدلال
المقصد السادس: من مقاصد هذا الكتاب
في الاجتهاد والتقليد، الفصل الأول: في الإجتهاد
الفصل الثاني: في التقليد وما يتعلق
به من أحكام المفتي والمستفتي
المقصد السابع: من مقاصد هذا الكتاب
في التعادل والترجيح، المبحث الأول: في معناهما، وفي العمل بالترجيح، وفي شروطه
المبحث الثاني: في التعارض بين دليلين
قطعيين
المبحث الثالث: في وجوه الترجيح بين
المتعارضين لا في نفس الأمر، بل في الظاهر
خاتمة لمقاصد هذا الكتاب
الفهارس، فهرس الآيات القرآنية
فهرس أطراف الأحاديث النبوية،
فهرس الأعلام المترجمين
فهرس الكتب الواردة في المتن، فهرس
الفرق
فهرس الأبيات الشعرية والأمثال
العربية، فهرس الأماكن والبلدان، فهرس مراجع التحقيق
فهرس موضوعات الجزء الثاني
[ معلومات الكتاب - فهرس المحتويات ]
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم
الأصول
ج / 1 ص -5- مقدمة سماحة مفتي زحلة
والبقاع الغربي الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على
من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فيعتبر القرن الخامس عشر الهجري من
عصور نهضة العلوم الشرعية، بما في ذلك علم أصول الفقه. حيث توجهت عناية العلماء به
في منهجين.
الأول: التصنيف في هذا الفن، بما في
ذلك الأطروحات العلمية المقدمة من الباحثين لنيل درجات الماجستير والدكتوراه في
الشريعة الإسلامية، وهنا تشوقت النفوس إلى الاستزادة منه، وتعالت النداءات إلى
تجديده تحت عنوان "تأصيل الأصول".
الثاني: التوجه نحو تحقيق كتب التراث
لتوفير المادة العلمية بين يدي الباحثين، وتسهيل الحصول على تلك الكنوز التي كانت
دفينة في خزائن المكتبات العامة والخاصة قرونا طويلة.
وهنا تشوقت النفوس للوقوف على
محتويات تلك الذخائر العلمية، بما في ذلك المطبوع منها، وهو أحوج إلى التحقيق
العلمي من المخطوط، ومن بين تلك الأسفار العلمية النفيسة كتاب "إرشاد الفحول
للإمام الشوكاني".
ولما كان هذا العلم لا تناله إلا
أيدي الفحول من العلماء؛ لأنه كما قال الإمام الغزالي: علم ازدوج فيه العقل
والنقل، كان من نافلة القول إن الاعتناء بتلك الكتب لا يقوى عليها إلا النخبة من
العلماء وأهل التحقيق. حيث لا يكفي أن يعزى القول إلى مصدره، بل لا بد من تعقب
المصنف، واقتناص غرر الكلام، ودرر القواعد، والتعليق عليها كلما اقتضى الأمر.
وهنا تبرز غزائم الرجال في إماطة
اللثام عن مكنون النص، ومصادره؛ لنشرف على التراث، ولو من خلال كتاب واحد.
كيف لا، والشوكاني هو المبرز في هذا
الميدان، وهو الأمين في النقل، والفقيه الأصولي في اختيار الراجح من القول،
والمتبحر في تحرير المذاهب، وإنه بحق لنقرأ من خلال إرشاده
ج / 1 ص -6- علم الأصول على اختلاف
مناهجه، ومدارسه.
وهنا تتجلى عناية فضلية الباحث
المحقق الشيخ أحمد عزو عناية لتحقيق هذا السفر الجليل، وقد اشتق جهده من اسمه،
فتوافق الاسم والمسمى، وكان إخراج هذا الكتاب بحلة جديدة، وباهتمام مميز وكأني به
يرشد مرة ثانية القارئ إلى مصادر هذا الكتاب من خلال تحقيقاته، واستدراكاته
وتعليقاته فيلبس "إرشاد الفحول" حلة جديدة ستكون بإذن الله تعالى واحدة
من مآثر المحقق الفاضل وتكرمة للمصنف الكبير، وقنية المنية لكل قارئ شغوف بهذا
العلم من خلال الكتاب المحقق.
والله ولي التوفيق
وكتبه
مفتي زحلة والبقاع الغربي الشيخ خليل
الميس
9/ شوال 1417هـ
16/ شباط 1997م
ج / 1 ص -7- مقدمة الدكتور ولي الدين
صالح فرفور الدمشقي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ملهم الوصول إلى علم
الأصول، والصلاة والسلام على سيدنا محمد البحر الزخار ونور الأنوار ومعدن الأسرار
النبي المختار وعلى آله وصحبه الطيبين الأبرار.
اعلم أن الشريعة الإسلامية خاتمة
الشرائع السماوية، المنزلة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جامعة بين المعقول
والمنقول، مشتملة على أصول وفروع.
وعلم الأصول: من أجل العلوم شرفًا
وأعظمها قدرًا، إذ إنه القطب الذي تدور عليه أحكام الشريعة، يرتقي بالإنسان من أرض
التقليد، إلى سماء الاجتهاد، مع ملكة الاستنباط.
وعلم الخلاف: من أهم العلوم، تتجسد
فيه عقلية العلماء وفقاهة الفقهاء بما يخدم مصالح الأمة الإسلامية على مر الأزمان،
ويكفل سعادتها ورقيها من بين سائر الأمم، تتجلى فيه أسرار الرحمة الإلهية لهذه
الأمة المحمدية. فاختلافهم رحمة جامعة، واتفاقهم حجة
قاطعة، وإن علماء الشريعة ما زالوا يتوسعون في هذا العلم ومداركه، ويقعدون قواعده،
ويبنون مسائله، ويوضحون دلائله، ويخرجون فروعه على أصول صحيحه وكليات صريحة من
كتاب وسنة متواترة.
وإذا كان الوحي الظاهر قد انقطع
نزوله، فإن الوحي الباطن ما زال نابضا لدى المجتهدين إلى ما شاء الله، له محاكمات
في واقعات، وتأثيرات عن انفعالات، عالمه الأمر، ميزانه الفهم، ميزابه الفضل، تكمن
فيه العلوم والمعارف، خص الله الشريعة الإسلامية به من بين سائر الشرائع، به يميز
المجتهد الصحيح من السقيم، ويعرف الأدلة القطعية والظنية والراجح والمرجوح، وتقيس
الأمور بأشباهها ونظائرها قياسا شرعيًّا صحيحًا على ضوابط علمية اجتهادية، حتى
يسمو بهذه الشريعة إلى سماء الإرادة معرجا من شمس الوصول إلى مغارب الأصول على مر
الدهور.
وبعد: فإن كتاب إرشاد الفحول لمؤلفه
الإمام محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، الصنعاني، اليماني، من الكتب
المفيدة في هذا المجال، لما احتوى عليه من كثرة النقول وعزو الأقوال إلى قائليها
من أئمة هذا العلم.
ولقد سلك مؤلفه مسلك المتكلمين
والفقهاء، واعتنى بإيراد القواعد والمسائل الأصولية
ج / 1 ص -8- واختلاف العلماء فيها
مبينا دليل كل من غير تقيد بأصول مذهب معين، فهو أشبه ما يكون بأصول الفقه المقارن.
وأخيرا: أشكر القائمين على هذا العمل
من محقق وناشر وكل من ساهم في إخراجه بثوب جديد يتماشى مع الزمان.
والله أسأل أن يرحمنا، وأن يتقبل منا
أعمالنا، وأن يلهمنا الإخلاص في القول والعمل، إنه خير مسئول، وهو على كل شيء
قدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
د. ولي الدين فرفور الدمشقي
حرر في 27/ رمضان /1417هـ
4/ شباط /1997م
ج / 1 ص -9- مقدمة التحقيق:
الحمد لله مصور النسم في ظلمات
الأرحام، مقدر القسم للأنام، مشرع الأحكام، مبين الحلال والحرام، محكم أصول
الشريعة المنيعة بالتمام، ومنضج ثمار فروعها المتصلة بكتابه أفضل الإحكام، بسنة
نبيه الناسخ كل شريعة ماضية بشريعة الإسلام، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة
والسلام.
ونشهد ألا إله إلا الله شهادة راسخة
في صميم القلب، تؤمل صاحبها برضى الرب، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي رفع عن الأمة
باليسر كل عسير وصعب، عليه وعلى آله وصحبه صلاة وسلاما يدفعان عنا كل كرب.
وبعد:
فلما كان الهدف من وجود الإنسان هو
تحقيق العبودية لله عز وجل، وبما أنه سبحانه وتعالى لم يكلنا إلى أنفسنا في تحقيق
ذلك، بل أرسل إلينا الرسل، وأيدهم بالوحي الأمين، فلا بد لنا من معرفة وفهم مرامية
وأهدافه، وما فيها من التعاليم التي تصلح لنا المعاش والمعاد، فكتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم هما النبعان الصافيان اللذان تكفلا بسعادة الدنيا ونعيم
الآخرة لمن تمسك بهما.
ولكن لما فسدت السليقة، ودخلت
العجمة، وأصابت اللسان آفة اللحن، لم يتسن لكل فرد من أفراد هذه الأمة هذا الفهم،
بل اختص بأناس توفرت فيهم شروط وميزات تؤهلم لذلك، فأحاطوا بدقائق علم خاص سموه
علم "أصول الفقه"، فلذلك نص العلماء على أن حكم تعلمه فرض كفاية لحاجة
الأمة إلى استنباط الأحكام الشرعية للحادثات المتجددة.
وبرعت أقلام العلماء في وصف علم أصول
الفقه، فقال الإمام الإسنوي:
هو المعلم الذي يكون المجتهد المبدع،
والفقيه المثمر، ويقضي على أكذوبة غلق باب الاجتهاد، ويذهب أسطورة سد طريق
الاستنباط، وأنه لا يمكن أن يستغني عنه من أراد أن يتأهل للنظر والاجتهاد أو من
يهتم بعلم الفقه والخلاف.
وقال الإمام الغزالي:
هو العلم الذي ازدوج فيه العقل
والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، فأخذ من صفوة
ج / 1 ص -10- الشرع والعقل سواء
السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا مبني على محض
التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد.
أول من صنف في هذا الفن:
أول من قعد قواعد علم أصول الفقه،
وأصل أصوله هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي، المجتهد صاحب المذهب في رسالته التي
كتبها لعبد الرحمن بن مهدي.
المصنفات المؤلفة فيه على مذهب
الإمام الشافعي رضي الله عنه:
كثرت الكتب والتآليف المدونة في هذا
العلم فمنها:
1- "البرهان": للإمام أبي
المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني.
2- "البحر المحيط": للإمام
بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي.
3- "المستصفى من علم
الأصول": للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي.
4- "المحصول": للإمام فخر
الدين محمد بن عمر الرازي.
ترجمة المؤلف:
اسمه ونسبه:
هو الإمام محمد بن علي بن محمد بن
عبد الله بن الحسن بن محمد بن صلاح.
عرف هو ووالده في صنعاء بالشوكاني،
وهي نسبة إلى قرية من قرى السحامية تسمى شوكان، بينها وبين صنعاء دون مسافة يوم.
قال في معجم البلدان: شوكان قرية
باليمن من ناحية ذمار.
مولده ونشأته:
ولد في يوم الاثنين، الثامن والعشرين
من شهر ذي القعدة، سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف هجرية، بهجرة شوكان من بلاد خولان
باليمن، ونشأ بصنعاء اليمن.
اهتمامه بالعلم:
- اهتم الإمام الشوكاني بالقرآن
الكريم: فقرأه على جماعة من المعلمين، وختمه على الفقيه حسن بن عبد الله الهبل،
وجوده على مشايخ القرآن بصنعاء.
- واهتم بعلوم الحديث، فسمع البخاري
من أوله إلى آخره، وسمع صحيح مسلم والترمذي، وبعض موطأ الإمام مالك، وبعض شفاء
القاضي عياض، وبعض سنن النسائي، وبعض سنن ابن ماجة، وسمع جميع سنن أبي داود
وتخريجها للمنذري، وكذلك سمع بعض فتح
ج / 1 ص -11- الباري، وبعض شرح مسلم
للنووي، وسمع شرح بلوغ المرام وغيرها من علوم الحديث.
- واهتم بعلوم العربية، فحفظ الكافية
والشافية لابن الحاجب، وقرأ بعض شروح الكافية كشرح الرضي، وشرح الخبيصي، وقرأ بعض
شروح الشافية أيضًا.
- واهتم بعلم الأصول فبرع فيه وألف
وصنف، فمن مصنفاته الكتاب الذي بين أيدينا.
- واهتم بعلوم أخرى كثيرة، منها علم
الفقه، حتى إنه ترك التقليد واجتهد رأيه اجتهادًا مطلقًا غير مقيد، وهو قبل
الثلاثين من عمره، وولي القضاء والإفتاء في صنعاء اليمن.
- شيوخه:
من شيوخه:
1- والده علي بن محمد الشوكاني.
2- الفقيه حسن بن عبد الله الهبل.
3- العلامة عبد الرحمن بن قاسم
المداني.
4- العلامة أحمد بن عامر الحدائي.
5- العلامة أحمد بن محمد الحرازي،
وقرأ عليه شرح الأزهار.
6- العلامة إسماعيل بن الحسن بن أحمد
بن الحسن بن الإمام القاسم بن محمد، وقرأ عليه الملحة في النحو وشرحها.
7- العلامة القاسم بن يحيى الخولاني،
وقرأ عليه شرح الغاية.
8- العلامة الحسن بن إسماعيل
المغربي، وقرأ عليه التنقيح في علوم الحديث.
9- العلامة عبد الله بن إسماعيل
النهمي، وقرأ عليه إيساغوجي للقاضي زكريا.
10- العلامة هادي بن حسين القارني،
وقرأ عليه شرح الجزرية.
نشره للعلم:
استغرق الإمام الشوكاني جميع وقته في
درس العلم وتحصيله، ونشره وتعليمه للناس، حتى بلغت دروسه في اليوم والليلة ثلاثة
عشر درسًا، منها ما يأخذه عن مشايخه، ومنها ما يأخذه عنه تلامذته، و استمر على ذلك
مدة، حتى لم يبق عند أحد من شيوخه ما لم يكن من جملة ما قرأه الإمام، ثم إنه بعد
ذلك فرغ نفسه لإفادة الطلبة، فكانوا يأخذون عنه في كل يوم زيادة على عشرة دورس في
فنون متعددة، منها التفسير والحديث والأصول، والنحو، والصرف، والمعاني، والبيان،
والمنطق، والفقه، والجدل، والعروض.
ج / 1 ص -12- مؤلفاته:
حكى الزركلي في الأعلام، أن مؤلفات الإمام
الشوكاني بلغت أربعة عشر ومائة مؤلف، منها:
1- نيل الأوطار في شرح المنتقى من
الأخبار. وهو مطبوع في ثمانية مجلدات.
2- حاشية شفاء الأوام واسمها
"وبل الغمام على شفاء الأوام".
3- الدرر البهية في المسائل الفقهية.
4- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن
السابع، وهو مطبوع.
5- فتح القدير في علم التفسير، وهو
مطبوع.
6- السير الجرار على حدائق الأزها.
وهو مطبوع.
7- الفوائد المجموعة في الأحاديث
الموضوعة، وهو مطبوع.
وفاته:
توفي سنة ألف ومائتين وخمسين هـ رحمه
الله تعالى عن سبعة وسبعين عامًا1.
منهج التحقيق:
سرت في تحقيق هذا الكتاب على النحو
التالي:
1- وضعت مقدمة تشتمل على:
أ- مقدمة التحقيق، ب- ترجمة للمؤلف.
2- قمت بمقابلة الكتاب على نسخة
قديمة الطباعة ورمزت له بـ "أ"، حيث اعتمدت في ضبط النص على نشرة
الدكتور شعبان محمد إسماعيل، ورمزت لها بالحرف "ب" وذلك بعد أن عجزت عن الحصول على مخطوط للكتاب، إذ إنني
أرسلت إلى مكتبة الجامع الكبير في صنعاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مصادر الترجمة البدر الطالع بمحاسن
مَنْ بعد القرن السابع عشر "للشوكاني" 2/ 214-215
معجم المطبوعات "لسركيس"
"1160-1161".
الأعلام "للزركلي"
"6/ 298".
معجم المؤلفين "لكحالة"
"11/ 53".
إيضاح المكنون "للبغدادي"
"1/ 11".
هدية العارفين "للبغدادي"
"2/ 365".
التاج المكلل "لصديق خان"
"305-317".
ج / 1 ص -13- اليمن، وطلبت الحصول
على مخطوطة أصلية للكتاب، بعد أن علمت بوجودها هناك، ولم يكن لنا نصيب بالحصول
عليها.
3- قمت بتخريج الآيات القرآنية بردها
إلى سورها، ووضع أرقامها، وجعلتها بين قوسين مزهرين. { }.
4- قمت بتخريج الأحاديث النبوية
والآثار، وجعلتها بين قوسين صغيرين " " ورقمتها
بأرقام مسلسلة موضوعة بين معكوفتين [ ] و ذلك في التعليق.
5- ترجمة الأعلام الواردة أسماؤهم من
غير الصحابة المعروفين.
6- عرفت بالكتب الواردة أسماؤها،
ونسبتها إلى مؤلفيها.
7- شرحت غريب الألفاظ، وضبطتها.
8- وضعت علامات الترقيم في الكتاب.
9- علقت على بعض النقاط الغامضة بما
يوضحها ويزيل غموضها.
10- وضعت عناوين لبعض فصول الكتاب،
وجعلتها بين قوسين كبيرين " ".
11- قمت بتخريج الأبيات الشعرية
ببيان بحرها ونسبتها إلى ناظميها.
12- وضعت ترجمة للفرق المذكورة في
الكتاب.
13- وضعت للكتاب فهارس على النحو
التالي:
أ- فهرس الآيات القرآنية.
ب- فهرس الأحاديث النبوية.
جـ- فهرس الأعلام.
د- فهرس الفرق والمذاهب.
هـ- فهرس الأماكن والبلدان.
و- فهرس الأبيات الشعرية.
ز- فهرس الكتب الوارد ذكرها في المتن.
ح- فهرس مراجع التحقيق.
ط- فهرس الموضوعات.
ج / 1 ص -14- وفي الختام:
وحيث إنني أتوجه بالشكر والثناء
لإرادة "دار الكتاب العربي" حيث انتدبتني لهذا العمل، أقول: إلى كل من
يقرأ هذا الكتاب، أو يطلع على نقص أو خلل في العمل بتحقيقه، إنني لم أدع العصمة،
ولا الكمال في عملي، فإن العصمة للأنياء، والكمال لله وحده، ولكنني أرجو ممن وجد
خطأ في العمل أن يرسل به إلي، وأنا له من الشاكرين، سائلًا المولى تبارك وتعالى أن
يحفظ ألسنتنا وأقلامنا من الزلل، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله
رب العالمين.
المحقق: أحمد عزو عناية
دمشق - كفر بطنا
ج / 1 ص -15- بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف:
إياك نعبد وإياك نستعين، يا من هو
"المحمود"* المشكور على الحقيقة، إذ لا منعم سواه، وكل نفع يجري على يد
غيره فهو الذي أجراه، وكل خير يصل إلى بعض مخلوقاته من بعض فهو الذي قدره وقضاه.
فأحمده حمدًا يرضاه، وأشكره شكرًا
يقابل نعماه، وإن كانت غير محصاة، امتثالًا لأمره، لا قيامًا بحق شكره، فإن لساني
وجناني1 وأركاني2 لا تقوم بشكر أقل نعمة من نعمه العظمية، ولا تؤدي بعض البعض مما
يجب علي من شكر أياديه الجسيمة3.
والصلاة والسلام على رسوله المصطفى،
محمد المبعوث إلى الأحمر من العباد والأسود صلاةً وسلامًا يتجددان بتجدد الأوقات،
ويتكرران بتكرر الآنات4، وعلى آله الأبرار وصحابته الأخيار.
وبعد: فإن علم "أصول
الفقه" لما كان هو العلم الذي يأوي إليه الأعلام، والملجأ الذي يُلجأ إليه
عند تحرير المسائل، وتقرير الدلائل، في غالب الأحكام، وكانت مسائله المقررة،
وقواعده المحررة، تؤخذ مسلمة عند كثير من الناظرين، كما نراه في مباحث الباحثين
وتصانيف المصنفين، فإن أحدهم إذا استشهد لما قاله بكلمة من كلام أهل الأصول، أذعن
له المنازعون، وإن كانوا من الفحول، لاعتقادهم أن مسائل هذا الفن، قواعد مؤسسه على
الحق، الحقيق بالقبول، مربوطة بأدلة علمية من المعقول والمنقول، تقصير عن القدح في
شيء منها أيدي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": المعبود:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بالفتح: القلب، لاستتاره في الصدر،
وقيل لوعيه الأشياء وجمعه لها. ا. هـ لسان العرب مادة جنن.
2 جمع ركن، وركن الإنسان قوته وشدته،
وركن الرجل: قومه وعدده ومادته. وأركان الإنسان: جوارحه. ا. هـ لسان العرب مادة
ركن.
3 جمع يد وهي النعمة والإحسان
تصطنعه، وجمعها: يُدِي يِدِي وأيد. ا. هـ الصحاح مادة يدي.
4 جمع الآن: وهو اسم للوقت الذي أنت
فيه، وهو ظرف غير ممكن، وهو معرفة، ولم تدخل عليه الألف واللام للتعريف؛ لأنه ليس
له ما يشركه. ا. هـ التعريفات "55".
ج / 1 ص -16- الفحول، وإن تبالغت في
الطول، وبهذه الوسيلة صار كثير من أهل العلم واقعًا في الرأي، رافعًا له أعظم
راية، وهو يظن أنه لم يعمل بغير علم الرواية، حملني ذلك بعد سؤال جماعة لي من أهل
العلم على هذا التصنيف، في هذا العلم الشريف، قاصدًا به إيضاح راجحه، من مرجوحه،
وبيان سقيمه من صحيحه، موضحًا لما يصلح منه للرد إليه، وما لا يصلح للتعويل عليه،
ليكون العالم على بصيرة في علمه يتضح له بها الصواب، ولا يبقى بينه وبين درك الحق
الحقيق بالقبول الحجاب.
فاعلم يا طالب الحق، أن هذا كتاب
تنشرح له صدور "المنصفين"*، ويعظم قدره بما اشتمل عليه من الفوائد
الفرائد، في صدور قوم مؤمنين، ولا يعرف ما اشتمل عليه من المعارف الحقة إلا من كان
من المحققين.
ولم أذكر فيه من المبادئ التي يذكرها
المصنفون في هذا الفن إلا ما كان لذكره، مزيد فائدة، يتعلق به تعلقا تاما، وينتفع
به فيه انتفاعا زائدا.
وأما المقاصد: فقد كشفت لك عنها
الحجاب، كشفًا يتميز به الخطأ من الصواب، بعد أن كانت مستورة عن أعين الناظرين
بأكثف جلباب، وإن هذا لهو أعظم فائدة يتنافس فيها المتنافسون من الطلاب؛ لأن تحرير
ما هو الحق هو غاية الطلبات، ونهاية الرغبات، لا سيما في مثل هذا الفن الذي رجع
كثير من المجتهدين بالرجوع إليه إلى التقليد، من حيث لا يشعرون، ووقع غالب
المتمسكين بالأدلة بسببه في الرأي البحت وهم لا يعلمون، وسميته: "إرشاد
الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول".
ورتبته على مقدمة، وسبعة مقاصد،
وخاتمة.
أما المقدمة فهي
"مشتملة"** على فصول أربعة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": المصنفين.
** في "أ" تشتمل.
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم
الأصول
ج / 1 ص -17- الفصل الأول: في تعريف أصول
الفقه وموضوعه، وفائدته، واستمداده:
اعلم أن لهذا اللفظ اعتبارين:
أحدهما باعتبار الإضافة والآخر
باعتبار العلمية.
أما الاعتبار الأول فيحتاج إلى تعريف
المضاف، وهو الأصول، والمضاف إليه وهو الفقه؛ لأن تعريف المركب1 يتوقف على تعريف
مفرداته، ضرورة توقف معرفة الكل على معرفة أجزائه، ويحتاج أيضًا إلى تعريف
الإضافة؛ لأنها بمنزلة الجزء الصوري.
أما المضاف فالأصول: جمع أصل، وهو في
اللغة ما ينبني عليه غيره.
وفي الاصطلاح: يقال على الراجح،
والمستصحب، والقاعدة الكلية والدليل.
والأوفق بالمقام الرابع.
وقد قيل: إن النقل عن المعنى اللغوي
هنا خلاف الأصل، ولا ضرورة هنا تلجئ إليه؛ لأن الانبناء العقلي كانبناء الحكم على
دليله يندرج تحت مطلق الانبناء؛ لأنه يشمل الانبناء الحسي، كانبناء الجدار على
أساسه، والانبناء العقلي كانبناء الحكم على دليله.
ولما كان مضافًا إلى الفقه هنا وهو
معنى عقلي دل على أن المراد الانبناء العقلي.
وأما المضاف إليه وهو الفقه فهو في
اللغة الفهم2.
وفي الاصطلاح: العلم بالأحكام
الشرعية، عن أدلته التفصيلية بالاستدلال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
أ- مركب إسنادي: مثل شاب قرناها.
ب- ومركب مزجي: وهو كل كلمتين نزلت
ثانيتهما منزلة التأنيت مما قبلها مثل: بعلبك.
ج- ومركب إضافي: وهو الغالب، وهو كل
اسمين نزل ثانيهما منزلة التنوين مما قبله. مثل: عبد الله. اهـ أوضح المسالك إلى
ألفية ابن مالك "1/ 133" قطر الندى "133".
2 هو في اللغة عبارة عن فهم غرض
المتكلم من كلامه.
وفي الاصطلاح: هو العلم بالأحكام
الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.
وقيل: هو الإصابة والوقوف على المعنى
الخفي الذي يتعلق به الحكم، وهو علم مستنبط بالرأي والاجتهاد، ويحتاج فيه إلى
النظر والتأمل. ا. هـ التعريفات "216" ولذلك
لا يسمى الله فقيها؛ لأنه لا يخفى عليه شيء.
ج / 1 ص -18- وقيل: التصديق بأعمال
المكلفين، التي تقصد لا لاعتقاد.
وقيل: معرفة النفس مالها وما عليها
عملًا.
وقيل: اعتقاد الأحكام الشرعية
الفرعية عن أدلتها التفصيلية.
وقيل: هو جملة من العلوم
"بأحكام شرعية يستدل على أعيانها"* يعلم باضطرار أنها من الدين.
وقد اعترض على كل واحد من هذه
التعريفات باعتراضات، والأول أولاها إن حمل العلم فيه على ما يشمل الظن؛ لأن غالب علم
الفقه ظنون. وأما الإضافة فمعناها اختصاص المضاف بالمضاف إليه، باعتبار مفهوم
المضاف إليه.
فأصول الفقه ما "يختص"**
بالفقه، من حيث كونه مبنيًّا عليه ومستندًا إليه.
وأما الاعتبار الثاني: فهو إدراك
القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية.
وقيل: هو العلم بالقواعد... إلخ.
وقيل: هو نفس القواعد الموصلة بذاتها
إلى استنباط الأحكام... إلخ.
وقيل: هو طرق الفقه "على وجه
الإجمال وكيفية الاستدلال بها، وما يتبع الكيفية"***.
وفيه: أن ذكر الأدلة التفصيلية تصريح
باللازم المفهوم ضمنا؛ لأن المراد استنباط الأحكام تفصيلا، وهو لا يكون إلا عن
أدلتها تفصيلا، ويزاد عليه:
على وجه التحقيق لإخراج علم الخلاف1،
والجدل2، فإنهما وإن اشتملا على القواعد الموصلة إلى مسائل الفقه، لكن لا على وجه
التحقيق، بل الغرض منها إلزام الخصم.
ولما كان العلم مأخوذًا على أصول
الفقه عند البعض، حسن ههنا أن نذكر تعريف مطلق العلم:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين القوسين ساقط من "أ".
** في "أ": تختص.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخلاف: منازعة تجري بين
المتعارضين لتحقيق حق، أو لإبطال باطل. ا. هـ التعريفات "135".
2 هو القياس المؤلف من المشهورات
والمسلمات، والغرض منه:
أ- إلزام الخصم وإفحام من هو قاصر عن
إدراك مقدمات البرهان،
ب- دفع المرء خصمه عن إفساد قوله
بحجة، أو شبهة، أو يقصد به تصحيح كلامه.
وهو الخصومة في الحقيقة. ا. هـ
التعريفات "101".
ج / 1 ص -19- وقد اختلفت الأنظار في
ذلك اختلافًا كثيرًا، حتى قال جماعة "منهم"*
الرازي1: بأن مطلق العلم ضروري، فيتعذر تعريفه، واستدلوا بما ليس فيه شيء من
الدلالة، ويكفي في دفع ما قالوه ما هو معلوم بالوجدان لكل عاقل، أن العلم ينقسم
إلى ضروري2، ومكتسب3.
وقال قوم منهم الجويني4:
إنه نظري، ولكنه يعسر تحديده5، ولا
طريق إلى معرفته إلا القسمة والمثال، فيقال مثلا: الاعتقاد إما جازم، أو غير جازم،
والجازم إما مطابق أو غير مطابق، والمطابق إما ثابت، أو غير ثابت فخرج من هذه
القسمة اعتقاد جازم مطابق ثابت وهو العلم.
وأجيب عن هذا بأن القسمة والمثال إن
أفاد تمييزًا لماهية العلم عما عداها، صلحًا للتعريف لها فلا يعسر، وإن لم يفيدا
تمييزًا لم يصلح بهما معرفة ماهية العلم.
وقال الجمهور: إنه نظري،
"لا"** يعسر تحديده، ثم ذكروا له حدودا.
فمنهم من قال: هو اعتقاد الشيء على
ما هو به عن ضرورة أو دليل.
وفيه: أن الاعتقاد المذكور يعم
الجازم وغير الجازم، وعلى تقدير تقييده بالجازم يخرج عنه العلم بالمستحيل، فإنه
ليس بشيء اتفاقا.
ومنهم من قال: هو معرفة المعلوم على
ما هو به
وفيه: أنه يخرج عن ذلك علم الله عز
وجل؛ إذ لا يسمى معرفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": منها.
** في "أ": فلا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن عمر بن الحسين، التيمي،
البكري، الطبرستاني، الرازي، الشافعي، المعروف بالفخر الرازي، وبابن خطيب الري،
أبو عبد الله، مفسر، متكلم، فقيه، أصولي، شاعر، أديب، طبيب، مشارك في كثير من
العلوم، ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة هـ، وتوفي بهراة، سنة ست وستمائة هـ، ومن
آثاره "مفتاح الغيب"
و"المحصول" و"شرح الوجيز للغزالي" في فروع الشافعي. ا. هـ سير
أعلام النبلاء "21/ 500" شذرات الذهب "5/ 21" معجم المؤلفين
"11/ 79".
2 ما لا يحتاج فيه إلى تقديم مقدمة
كالعلم بثبوت الصانع، وحدوث الأعراض. ا. هـ التعريفات "200".
3 والاكتسابي: هو الذي يحصل بمباشرة
الأسباب. ا. هـ التعريفات "200".
4 هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف
ضياء الدين، أبو المعالي، الجويني، الشافعي، الشهير بإمام الحرمين، ولد سنة تسع
عشرة وأربعمائة هـ، تفقه على والده، وتوفي في نيسابور سنة ثمان وسبعين وأربعمائة
هـ، من آثاره: "الإرشاد في علم الكلام"، "البرهان في الأصول"،
و"الرسالة النظامية". ا. هـ شذرات الذهب "3/ 358"، هدية
العارفين "1/ 626"، سير أعلام النبلاء "18/ 468"
الفوائد البهية "246".
5 أي تعريفه؛ لأن الحد: هو القول
الدال عى ماهية الشيء. ا. هـ التعريفات "112".
ج / 1 ص -20- ومنهم من قال: هو الذي
يوجب كون من قام به عالمًا أو يوجب لمن قام به اسم العالم.
وفيه: أن يستلزم الدور1 لأخذ العالم
في تعريف العلم.
ومنهم من قال: هو ما يصح ممن قام به
اتقان الفعل.
وفيه: أن في المعلومات ما لا يقدر
العالم على إتقانه، كالمستحيل.
ومنهم من قال: هو اعتقاد جازم مطابق.
وفيه: أنه يخرج عنه التصورات وهي علم.
ومنهم من قال: هو حصول صورة الشيء في
العقل، أو الصورة الحاصلة عند العقل.
وفيه: أنه يتناول الظن، والشك
والوهم2، والجهل المركب3.
وقد جعل بعضهم هذا حدًّا للعلم
بالمعنى الأعم، الشامل للأمور المذكورة.
وفيه: أن إطلاق اسم العلم على الشك،
والوهم والجهل المركب، يخالف مفهوم العلم لغة واصطلاحًا.
ومنهم من قال: هو حكم لا يحتمل طرفاه
-أي: المحكوم عليه، وبه- نقيضه.
وفيه: أنه يخرج عنه التصور وهو علم.
ومنهم من قال: هو صفة توجب تمييزًا
لمحلها لا يحتمل النقيض بوجه.
وفيه: أن العلوم المستندة إلى العادة
تحتمل النقيض، لإمكان خرق العادة بالقدرة الإلهية.
ومنهم من قال: هو صفة يتجلى به المدرك
للمدرك.
وفيه: أن الإدراك مجاز عن العلم
فيلزم تعريف الشيء بنفسه، مع كون المجاز مهجورًا في التعريفات، ودعوى اشتهاره في
المعنى الأعم الذي هو جنس الأخص غير مسلمة.
ومنهم من قال: هو صفة يتجلى بها
المذكور لمن قامت هي به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو توقف الشيء على ما توقف عليه
إما بمرتبة، أو أكثر، وإنما كان مستحيلًا لأنه يلزم عليه كون الشيء الواحد سابقا
على نفسه، مسبوقًا بها، مثاله قولنا: زيد أوجد عمرًا وعمرو أوجد زيدا. ا. هـ تحفة
المريد "52".
2 هو من خطرات القلب، والجمع أوهام،
وتوهم الشيء تخليه وتمثله، كان في الوجود أو لم يكن. ا. هـ لسان العرب مادة وهم.
3 الجهل هو عدم العلم بالشيء، كعدم
علمنا بما تحت الأرضيين، وهذا هو الجهل البسيط. أما المركب: فهو الجهل بالحكم،
والجهل بأنه جاهل، ولذلك قيل:
جهلت وما تدري بأنك جاهل ومن لي بأن
تدري بأنك لا تدري
ا. هـ حاشية الدمياطي على شرح
الورقات "5".
ج / 1 ص -21- قال المحقق الشريف1:
وهذا أحسن ما قيل في الكشف عن ماهية العلم؛ لأن المذكور يتناول الموجود، والمعدوم،
والممكن، والمستحيل، بلا خلاف، ويتناول المفرد، والمركب، والكلي، والجزئي، والتجلي
هو الانكشاف التام، فالمعنى أنه صفة ينكشف بها لمن قامت به ما من شأنه أن يذكر،
انكشافًا تامًا لا اشتباه فيه.
فيخرج عن الحد الظن، والجهل المركب،
واعتقاد المقلد المصيب أيضًا لأنه في الحقيقة عقدة على القلب، فليس فيه انكشاف
تام، وانشراح ينحل به العقدة انتهى.
وفيه: أنه يخرج عنه إدراك الحواس،
فإنه لا مدخلية للمذكور فيه، إن أريد به الذكر اللساني، كما هو الظاهر، وإن أريد
به ما يتناول الذكر بكسر الذال، والذكر بضمها، فأما أن يكون من الجمع بين
"معنيي"* المشترك، أو من الجمع بين الحقيقة والمجاز، وكلاهما مهجور في
التعريفات.
هذا جملة ما قيل في تعريف العلم، وقد
عرفت ما ورد على كل واحد منها.
والأولى عندي أن يقال في تحديده: هو
صفة ينكشف بها المطلوب، انكشافًا تامًّا، وهذا لا يرد عليه شيء مما تقدم فتدبر.
وإذا عرفت ما قيل في "حد
العلم"** فاعلم أن مطلق التعريف للشيء قد يكون حقيقيًّا، وقد يكون اسميًّا،
فالحقيقي تعريف الماهيات الحقيقية، والاسمي تعريف الماهيات الاعتبارية.
وبيانه أن ما يتعقله الواضع ليضع
بإزائه اسمًا إما أن يكون له ماهية حقيقية أو لا، وعلى الأول إما أن يكون متعقله
نفس حقيقة ذلك الشيء، أو وجوها واعتبارات منه، فتعريف الماهية الحقيقية بمسمى
الاسم من حيث إنها ماهية حقيقية تعريف حقيقي، يفيد تصور الماهية في الذهن
بالذاتيات، كلها أو بعضها، أو بالعرضيات، أو "بالمركب"*** منهما، وتعريف
مفهوم الاسم وما تعقله الواضع. فوضع الاسم بإزائه تعريف اسمي، يفيد تبيين ما وضع
الاسم بإزائه بلفظ أشهر.
فتعريف المعدومات لا يكون إلا
اسميًّا؛ إذ لا حقائق لها بل لها مفهومات فقط، وتعريف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": معنى.
** في "أ": تعريفه.
*** في "أ": بالمركبات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو علي بن محمد، المعروف بالسيد
الشريف، الجرجاني، ولد في جرجان سنة أربعين وسبعمائة هـ، وهو فارس في البحث
والجدل، من كبار علماء العربية، توفي سنة ست عشرة وثمانمائة هـ، من آثاره:
"شرح مواقف الإيجي"، "حاشية على شرح الشمسية في المنطق"،
"التعريفات". ا. هـ كشف الظنون "12/ 11891".
هدية العارفين "12/ 728"،
الأعلام "5/ 7".
ج / 1 ص -22- الموجودات قد يكون
اسميًّا. وقد يكون حقيقيًّا؛ إذ لها مفهومات وحقائق، والشرط في كل واحد منهما الاطراد
والانعكاس، فالاطراد: هو أنه كلما وجد الحد وجد المحدود، فلا يدخل فيه شيء ليس من
أفراد المحدود؛ فهو بمعنى طرد الأغيار فيكون مانعًا، والانعكاس: هو أنه كلما وجد
المحدود وجد الحد؛ فلا يخرج عنه شيء من أفراده فهو بمعنى جمع الأفراد، فيكون
جامعًا.
ثم العلم بالضرورة ينقسم إلى ضروري
ونظري:
فالضروري: ما لا يحتاج في تحصيله إلى
نظر.
والنظري: ما يحتاج إليه.
والنظر: هو الفكر المطلوب به علم أو
ظن.
وقيل: هو ملاحظة المعقول لتحصيل
المجهول.
وقيل: هو حركة النفس من المطالب
التصورية، أو التصديقية، طالبة للمبادئ، وهي المعلومات التصورية، أو التصديقية،
باستعراض صورها صورة صورة.
وكل واحد من الضروري والنظري ينقسم
إلى قسمين تصور1 وتصديق2، والكلام فيهما مبسوط في علم المنطق.
والدليل ما يمكن التوصل بصحيح النظر
فيه إلى مطلوب خبري.
وقيل: ما يمكن التوصل بصحيح النظر
فيه إلى العلم بالغير.
وقيل: ما يلزم من العلم به العلم
بشيء آخر.
وقيل: هو ترتيب أمور معلومة للتأدي
إلى مجهول.
والأمارة هي التي يمكن أن يتوصل
بصحيح النظر فيها إلى الظن.
والظن تجويز راجح.
والوهم تجويز مرجوح.
والشك تردد الذهن بين الطرفين.
فالظن فيه حكم لحصول الراجحية، ولا
يقدح فيه احتماله للنقيض المرجوح.
والوهم لا حكم فيه، لاستحالة الحكم
بالنقيضين؛ لأن النقيض الذي هو متعلق الظن قد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو إدراك المفرد، نحو: "أعلي
مسافر أم سعيد؟" تعتقد أن السفر قد حصل من أحدهما، ولكن تطلب تعيينه، ولذا
يجاب فيه بالتعيين، فيقال سعيد مثلًا ا. هـ جواهر البلاغة "86".
2 هو إدراك وقوع نسبة تامة بين
المسند والمسند إليه، أو عدم وقوعها بحيث يكون المتكلم خالي الذهن مما استفهم عنه
في جملته مصدقًا للجواب بنعم أو لا.
نحو أحضر الأمير؟ فيجاب بنعم أو لا.
ا. هـ جواهر البلاغة "87".
ج / 1 ص -23- حكم به، فلو حكم بنقيضه
المرجوح -وهو متعلق الوهم- لزم الحكم بهما جميعا.
والشك لا حكم فيه بواحد من الطرفين،
لتساوي الوقوع واللاوقوع في نظر العقل، فلو حكم بواحد منهما -لزم الترجيح بلا
مرجح، ولو حكم بهما جميعًا- لزم الحكم
بالنقيضين.
والاعتقاد في الاصطلاح: هو المعنى
الموجب لمن اختص به كونه جازمًا بصورة مجردة، أو بثبوت أمر أو نفيه.
وقيل: هو الجزم بالشيء من دون سكون
نفس، ويقال على التصديق، سواء كان جازمًا، أو غير جازم، مطابقًا أو غير مطابق،
ثابتًا أو غير ثابت، فيندرج تحته الجهل المركب؛ لأنه حكم غير مطابق، والتقليد لأنه
جزم بثبوت أمر أو نفيه، لمجرد قول الغير.
وأما الجهل البسيط: فهو مقابل للعلم
والاعتقاد، مقابلة العدم للملكة؛ لأنه عدم العلم، والاعتقاد عما من شأنه أن يكون
عالمًا أو معتقدًا.
موضوع علم أصول الفقه:
وأما موضوع علم أصول الفقه: فاعلم أن
موضوع العلم ما يبحث فيه من أعراضه الذاتية. والمراد بالعرض هنا المحمول على الشيء الخارج عنه. وإنما يقال له إنما
يقال له العرض الذاتي؛ لأنه يلحق الشيء لذاته، كالإدراك للإنسان، أو بواسطة أمر
يساويه كالضحك للإنسان بواسطة تعجبه، أو بواسطة أمر أعم منه داخل فيه كالتحرك
للإنسان بواسطة كونه حيوانا.
والمراد بالبحث عن الأعراض الذاتية:
حملها على موضع العلم، كقولنا: الكتاب يثبت به الحكم، أو على أنواعه، كقولنا:
الأمر يفيد الوجوب، أو على أعراضه الذاتية، كقولنا: النص يدل على مدلوله دلالة
قطعية، أو على أنواع أعراضه الذاتية، كقولنا: العام الذي خص منه البعض، يدل على
بقية أفراده دلالة ظنية.
وجميع مباحث أصول الفقه راجعة إلى
إثبات أعراض ذاتية للأدلة والأحكام، من حيث إثبات الأدلة للأحكام، وثبوت الأحكام
بالأدلة، بمعنى أن جميع مسائل هذا الفن هو الإثبات، والثبوت.
وقيل: موضوع علم أصول الفقه هو
الدليل السمعي الكلي فقط، من حيث إنه يوصل العلم بأحواله إلى قدرة إثبات الأحكام
لأفعال المكلفين، أخذًا من شخصياته1.
والمراد بالأحوال ما يرجع إلى
الإثبات، وهو ذاتي للدليل والأول أولى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بناء على هذا: فالفقيه يبحث في فعل
المكلف لمعرفة الحكم الشرعي فيه. ودليله الجزئي
والأصولي يبحث في الدليل الكلي الموصل إلى ذلك الحكم الفقهي ودليله الجزئي ونوع
ذلك الدليل الكلي وأعراضه وأنواع تلك الأعراض. ا. هـ.
ج / 1 ص -24- فائدة علم أصول الفقه
وثمرته:
وأما فائدة هذا العلم: فهي العلم
بأحكام الله سبحانه أو الظن بها.
ولما كانت هذه الغاية بهذه المنزلة
من الشرف، كان علم طالبه بها ووقوفه عليها مقتضيًا لمزيد عنايته به، وتوفر رغبته
فيه؛ لأنها سبب الفوز بسعادة الدارين.
استمداد علم أصول الفقه:
وأما استمداده فمن ثلاثة أشياء:
الأول:علم الكلام1، لتوقف الأدلة
الشرعية على معرفة الباري سبحانه، وصدق المبلغ، وهما مبنيان فيه، مقررة أدلتهما من
مباحثه.
الثاني: اللغة العربية؛ لأن فهم
الكتاب والسنة، والاستدلال بهما متوقفان عليها، إذ هما عربيان.
الثالث: الأحكام الشرعية من حيث
تصورها؛ لأن المقصود إثباتها أو نفيها، كقولنا:الأمر للوجوب، والنهي للتحري،
والصلاة واجبة، والربا حرام2.
وجه ذكرنا لما اشتمل عليه هذا الفضل
أن يوجب زيادة بصيرة لطالب هذا العلم كما لا يخفى على ذي فهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو علم باحث عن الأعراض الذاتية
للموجود من حيث هو على قاعدة الإسلام. ا. هـ التعريفات "201".
2 انظر المنخول "3-4".
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم
الأصول
ج / 1 ص -25- الفصل الثاني: في
الأحكام
وإنما قدمنا الكلام في الأحكام على
الكلام في اللغات؛ لأنه يتعلق بالأحكام مسائل من مهمات علم الكلام، سنذكرها ههنا
إن شاء الله تعالى.
وفيه أربعة أبحاث:
1- البحث الأول في الحكم.
2- الثاني في الحاكم.
3- الثالث في المحكوم به.
4- الرابع في المحكوم عليه.
أما البحث الأول في الحكم:
فاعلم أن الحكم هو: الخطاب المتعلق
بأفعال المكلفين بالاقتضاء1 أو التخيير أو الوضع، فيتناول اقتضاء الوجود، واقتضاء
العدم، إما مع الجزم، أو مع جواز الترك، فيدخل في هذا الواجب والمحظور، والمندوب،
والمكروه، وأما التخيير فهو الإباحة.
وأما الوضع: فهو السبب، والشرط،
والمانع.
فالأحكام التكليفية خمسة؛ لأن الخطاب
إما أن يكون جازما، أو لا يكون جازمًا، فإن كان جازما فإما أن يكون طلب الفعل، وهو
الإيجاب، أو طلب الترك، وهو التحريم.
وإن كان غير جازم، فالطرفان إما أن
يكونا على السوية، وهو الإباحة، أو يترجح جانب الوجود، وهو الندب، أو يترجح جانب
الترك، وهو الكراهة، فكانت الأحكام ثمانية، خمسة تكليفية وثلاثة وضعية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 طلب الفعل مع المنع عن الترك، وهو
للإيجاب، أو بدونه وهو الندب، أو طلب الترك مع المنع عن الفعل وهو للتحريم، أو
بدونه وهو للكراهة. ا. هـ التعريفات "50".
ج / 1 ص -26- وتسمية الخمسة تكليفية
تغليب؛ إذ لا تكليف في الإباحة بل ولا في الندب، والكراهة التنزيهية عند الجمهور.
وسميت الثلاثة وضعية؛ لأن الشارع
وضعها علامات لأحكام تكليفية، وجودًا وانتفاء.
فالواجب في الاصطلاح: ما يمدح فاعله،
ويذم تاركه، على بعض الوجوه فلا يرد النقض بالواجب المخير، وبالواجب على الكفاية،
فإنه لا يذم في الأول، إذا تركه مع الآخر، ولا يذم في الثاني إلا إذا لم يقم به
غيره.
وينقسم إلى معين ومخير، ومضيق،
وموسع، وعلى الأعيان، وعلى الكفاية.
ويرادفه الفرض عند الجمهور1، وقيل:
الفرض ما كان دليله قطعيًّا، والواجب ما كان دليله ظنيًّا والأول أولى؟
والمحظور: ما يذم فاعله ويمدح تاركه،
ويقال: له المحرم، والمعصية، والذنب، والمزجور عنه، والمتوعد عليه، والقبيح.
والمندوب: ما يمدح فاعله، ولا يذم
تاركه.
وقيل: هو الذي يكون فعله راجحًا في نظر
الشرع، ويقال له: مرغب فيه، ومستحب، ونفل، وتطوع، وإحسان، وسنة.
وقيل: إنه لا يقال له سنة، إلا إذا
داوم عليه الشارع، كالوتر، ورواتب الفرائض.
والمكروه: ما يمدح تاركه، ولا يذم
فاعله.
ويقال بالاشتراك على أمور ثلاثة: على
ما نهي عنه نهي تنزيه، وهو الذي أشعر فاعله أن تركه خير من فعله، وعلى ترك الأولى،
كترك صلاة الضحى، وعلى المحظور المتقدم.
والمباح: ما لا يمدح على فعله، ولا
على تركه.
والمعنى: أنه أعلم فاعله أنه لا ضرر
عليه، في فعله وتركه، وقد يطلق على ما لا ضرر على فاعله، وإن كان تركه محظورا، كما
يقال: دم المرتد مباح، أي: لا ضرر على من أراقه، ويقال للمباح: الحلال، والجائز،
والمطلق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: عند جمهور الشافعية، فالفرض
والواجب عندهم لفظان مترادفان منقولان من معناهما اللغوي إلى معنى واحد هو ما يمدح
فاعله ويذم تاركه شرعًا، سواء ثبت ذلك بدليل قطعي، أو ظني. إلا في باب الحج. أما
السادة الحنفية فقالوا: إن الفرض لازم
علمًا، أي: يلزم اعتقاد حقيته، والعمل بوجبه، لثبوته بدليل قطعي، حتى لو أنكره
قولًا أو اعتقادًا، كان كافرًا. والواجب لا يلزم اعتقاد حقيته، لثبوته بدليل ظني،
ومبني الاعتقاد على اليقين. لكن يلزم العمل لموجبه للدلائل الدالة على و جوب اتباع
الظن، فجاحده لا يكفر. ا. هـ. التلويح على
التوضيح "2/ 124".
ج / 1 ص -27- والسبب: هو جعل وصف
ظاهر منضبط مناطًا1 لوجود حكم، أي: يستلزم وجوده وجوده.
وبيانه: أن الله سبحانه في الزاني
مثلًا حكمين: أحدهما تكليفي، وهو وجوب الحد عليه، والثاني وضعي، وهو جعل الزنا
سببًا لوجوب الحد؛ لأن الزنا لا يوجب الحد بعينه وذاته، بل بجعل الشرع.
وينقسم السبب بالاستقراء إلى
الوقتية، كزوال الشمس، لوجوب الصلاة، والمعنوية كالإسكار للتحريم وكالملك للضمان،
والمعصية للعقوبة.
والشرط: هو الحكم على الوصف بكونه
شرطًا للحكم.
وحقيقة الشرط: هو ما كان عدمه يستلزم
عدم الحكم، فهو وصف ظاهر منضبط، يستلزم ذلك، أو يستلزم عدم السبب، لحكمة في عدمه،
تنافي حكمة الحكم أو السبب.
وبيانه: أن الحول شرط في وجوب
الزكاة، فعدمه يستلزم عدم وجوبها، والقدرة على التسليم شرط في صحة البيع، فعدمها
يستلزم عدم صحته، والإحصان شرط في سببية الزنا للرجم، فعدمه يستلزم عدمها.
والمانع: هو وصف ظاهر منضبط، يستلزم وجوده حكمة، تستلزم عدم الحكم، أو عدم السبب،
كوجود الأبوة، فإنه يستلزم عدم ثبوت الاقتصاص للابن من الأب؛ لأن كون الأب سببًا
لوجود الابن، يقتضي أن لا يصير الابن سببًا لعدمه.
وفي هذا المثال الذي أطبق عليه جمهور
أهل الأصول نظر؛ لأن السبب المقتضي للقصاص هو فعله، لا وجود الابن ولا عدمه، ولا
يصح أن يكون ذلك حكمة مانعة للقصاص، ولكنه ورد الشرع بعدم ثبوت القصاص لفرع من أصل.
والأولى أن يمثل لذلك بوجود النجاسة
المجمع عليها في بدن المصلي، أو ثوبه فإنه سبب لعدم صحة الصلاة، عند من يجعل
الطهارة شرطًا، فههنا قد عدم شرط وهو الطهارة، ووجد مانع وهو النجاسة، لا عند من
يجعلها واجبة فقط.
وأما المانع الذي يقتضي وجوده حكمة
تخل بحكمة السبب، فكالدين في الزكاة، فإن حكمة السبب -وهو الغنى- مواساة الفقراء
من فضل ماله، ولم يدع الدين في المال فضلًا يواسي به، هذا على قول من قال أن الدين
مانع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ناط الشيء ينوطه أي: علقه.ا. هـ
الصحاح ولسان العرب مادة نوط.
ج / 1 ص -28- البحث الثاني: في
الحاكم
اعلم أنه لا خلاف في كون الحاكم
الشرع بعد البعثة، وبلوغ الدعوة.
وأما قبل ذلك: فقالت الأشعرية1: لا
يتعلق له سبحانه حكم بأفعال المكلفين، فلا يحرم كفر ولا يجب إيمان.
وقالت المعتزلة2: إنه يتعلق له تعالى
حكم بما أدرك العقل فيه صفة حسن، أو قبح لذاته، أو لصفته، أو لوجوه واعتبارات على
اختلاف بينهم في ذلك.
قالوا: والشرع كاشف عما أدركه العقل
قبل وروده.
وقد اتفق الأشعرية والمعتزلة على أن
العقل يدرك الحسن والقبح في شيئين:
الأول: ملاءمة الغرض للطبع ومنافرته
له، فالموافق حسن عند العقل، والمنافر قبيح عنده.
الثاني: صفة الكمال والنقص، فصفات
الكمال حسنة عند العقل، وصفات النقص قبيحة عنده.
ومحل النزاع بينهم -كما أطبق عليه
جمهور المتأخرين، وإن كان مخالفًا لما كان عند كثير من المتقدمين- هو كون الفعل
متعلق المدح، والثواب، والذم، والعقاب، آجلًا وعاجلًا.
فعند الأشعرية ومن وافقهم: أن ذلك لا
يثبت إلا بالشرع، وعند المعتزلة ومن وافقهم: أن ذلك ليس لكون الفعل واقعًا على وجه
مخصوص، لأجله يستحق فاعله الذم.
قالوا: وذلك الوجه قيد يستقل العقل
بإدراكه، وقد لا يستقل.
أما الأول: فالعقل يعلم بالضرورة حسن
الصدق النافع، وقبح الكذب الضار، ويعلم نظرًا حسن الصدق الضار، وقبح الكذب النافع.
وأما الثاني: فكحسن صوم آخر يوم من
رمضان، وقبح صوم الذي بعده، فإن العقل لا طريق له إلى العلم بذلك، لكن الشرع لما
ورد علمنا الحسن والقبح فيهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهم أصحاب أبي الحسن على بن
إسماعيل الأشعري، وهم فرقة من أهل السنة والجماعة ولهم أقوال تخالف أقوال
الماتريدية منها أن الناشئ في شاهق عال إذا لم يؤمن لا يحاسبه الله لأنه ليس آثما
لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} والماتريدية
خالفوهم فقالوا يحاسبه الله لأن الرسول في الآية المراد به العقل. ا. هـ الملل
والنحل "1/ 94" تحفة المريد
"30-31".
2 هم أصحاب واصل بن عطاء الغزال الذي
اعتزل مجلس الحسن البصري، ويسمون بأصحاب العدل والتوحيد، وهم فرقة خالفت أهل السنة
والجماعة ببعض الاعتقادات منها: خلق أفعال العباد - وجوب الصلاح والأصلح على الله-
خلق القرآن الكريم ا. هـ الملل و النحل "1/ 43" التعريفات "282".
ج / 1 ص -29- وأجيب: بأن دخول هذه
القبائح في الوجود. إما أن يكون على سبيل الاضطرار، أو على سبيل الاتفاق، وعلى
التقديرين فالقول بالقبح باطل.
بيان الأول: أن فاعل القبيح. إما أن
يكون متمكنًا من الترك أو لا يكون فإن لم يتمكن من الترك فقد ثبت الاضطرار، وإن
تمكن من الترك. فإما يتوقف رجحان الفاعلية على التاركية، على مرجح أو لا يتوقف، إن
لم يتوقف فاتفاقي، لا اختياري، لعدم الإرادة، وإن توقف، فذلك المرجح إما أن يكون
من العبد أو من غيره، أو لا منه ولا من غيره، فالأول محال؛ لأن الكلام فيه كما في
الأول، فيلزم التسلسل1، وهو محال، والثاني يقال فيه: أن عند حصول ذلك المرجح إما
أن يجب "وقوع"*، الأثر أو لا، فإن وجب فقد ثبت الاضطرار؛ لأن قبل وجود
هذا المرجح كان الفعل ممتنع الوقوع، وعند وجوده صار واجب الوقوع، وليس وقوع هذا
المرجح بالعبد ألبتة، فلم يكن للعبد تمكن في شيء من الفعل والترك، ولا معنى
للاضطرار إلا ذلك، وإن لم يجب حصول هذا المرجح لا يمتنع وجود الفعل تارة، وعدمه
أخرى، فترجيح جانب الوجود على جانب العدم، إما أن يتوقف على انضمام مرجح إليه أو
لا يتوقف، إن توقف لم يكن الحاصل قبل ذلك مرجحًا تامًّا، وقد فرضناه مرجحًا تامًّا
هذا خلف، وإن لم يتوقف فلا ترجيح ألبتة وإلا لعاد القسم الأول.
وإن كان حصول ذلك المرجح لا من العبد
ولا من غير العبد، فحينئذ يكون واقعًا لا لمؤثر فيكون اتفاقيا.
ورد هذا الجواب: بأن القادر يرجح
الفاعلية على التاركية من غير مرجح.
وأجيب عن هذا الرد: بأن ترجيح القادر
إن كان له مفهوم زائد على كونه قادرا، كان تسليمًا لكون رجحان الفاعلية على
التاركية لا يمكن إلا عند انضمام آخر إلى القادرية، فيعود الكلام الأول، وإن لم
يكن له مفهوم زائد "لم
يبق"** لقولكم: القادر يرجح أحد مقدورية على الآخر إلا مجرد أن صفة القادرية
مستمرة في الأزمان كلها، ثم إنه يوجد الأثر في بعض تلك الأزمنة دون بعض، من غير أن
يكون ذلك القادر قد رجحه، وقصد إيقاعه، ولا معنى للاتفاق إلا ذلك.
ولا يخفى ما في هذا الجواب من
التعسف2، لاستلزامه نفي المرجح مطلقًا، والعلم الضروري حاصل لكل عاقل، بأن الظلم
والكذب والجهل قبيحة عند العقل، وأن العدل والصدق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": قبول.
** في "أ": لم يكن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو ترتيب أمور غير متناهية ا. هـ
التعريفات "80".
2 تعسف في كلام، أي: تكلف. ا. هـ
المعجم الوسيط مادة عسف.
ج / 1 ص -30- والعلم حسنة عنده، لكن
حاصل ما يدركه العقل من "قبيح هذا القبح"*، وحسن هذا الحسن هو أن فاعل
الأول يستحق الذم وفاعل الثاني يستحق المدح، وأما كون الأول متعلقًا للعقاب
الأخروي، والثاني متعلقًا للثواب الأخروي فلا.
واحتج المثبتون للتحسين والتقبيح
العقليين، بأن الحسن والقبح لو لم يكونا معلومين قبل الشرع لاستحال أن يعلما عند
وروده؛ لأنهما إن لم يكونا معلومين قبله فعند وروده بهما، يكون واردًا بما لا يعقله
السامع ولا يتصوره، وذلك محال، فوجب أن يكونا معلومين قبل وروده. وأجيب بأن
الموقوف على الشرع ليس تصور الحسن والقبح، فإنا قبل الشرع نتصور ماهية ترتب العقاب
والثواب، والمدح والذم على الفعل، ونتصور عدم هذا الترتب، فتصور الحسن والقبح لا
يتوقف على الشرع، إنما المتوقف عليه هو التصديق، فأين أحدهما من الآخر؟ واحتج
المثبتون أيضًا بأنه لو لم يكن الحكم بالحسن والقبح إلا بالشرع لحسن من الله
سبحانه كل شيء ولو حسن منه كل شيء لحسن منه إظهار المعجزة على يد الكاذب، ولو حسن
منه ذلك لما أمكننا التمييز بين النبي والمتنبئ، وذلك يفضي إلى بطلان الشرائع.
وأجيب بأن الاستدلال بالمعجز على
الصدق مبني على أن الله إنما خلق ذلك المعجز للصدق، وكل من صدقه الله فهو صادق،
وبأن العقل يمنع من خلق المعجز على يد الكاذب مطلقا؛ لأن خلقه عند الدعوى يوهم أن
المقصود منه التصديق، فلو كان المدعى كاذبًا لكان ذلك إيهامًا لتصديق الكاذب، وأنه
قبيح، والله لا يفعل القبيح.
واحتج المثبتون أيضًا بأنه لو حسن من
الله كل شيء لما قبح منه الكذب، وعلى هذا لا يبقى اعتماد على وعده ووعيده.
وأجيب: بأن هذا وارد عليهم؛ لأن
الكذب قد يحسن في مثل الدفع به عن قتل إنسان ظلما، وفي مثل من توعد غيره بأن يفعل
به ما لا يجوز من أنواع الظلم ثم ترك ذلك، فإنه هنا يحسن الكذب ويقبح الصدق.
ورُدَّ بأن الحكم قد يتخلف عن
المقتضى المانع، ولا اعتبار بالنادر، على أنه يمكن أن يقع الدفع لمن أراد أن يفعل ما
لا يحل بإيراد المعاريض، فإن فيها مندوحة1 عن الكذب.
واحتج المثبتون أيضًا بأنه لو قيل
للعاقل: إن صدقت أعطيناك دينارا، وإن كذبت أعطيناك دينارًا، فإنا نعلم -بالضرورة-
أن العاقل يختار الصدق، ولو لم يكن حسنًا لما اختاره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": قبيح هذا القبح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الندح بالضم: الأرض الواسعة،
والجمع: أنداح، والمتندح: المكان الواسع، ولي عن هذا الأمر مندوحة ومنتدح، أي:سعة.
يقال: "إن المعاريض لمندوحة عن الكذب". ا. هـ الصحاح مادة ندح.
ج / 1 ص -31- وأجيب: بأنه إنما يترجح
الصدق على الكذب في هذه الصورة؛ لأن أهل العلم اتفقوا على قبح الكذب، وحسن الصدق،
لما أن نظام العالم لا يحصل إلا بذلك والإنسان لما نشأ على هذا الاعتقاد واستمر
عليه، لا جرم ترجح الصدق عنده على الكذب.
ورد هذا بأن كل فرد من أفراد
الإنسان، إذا فرض نفسه خالية عن الإلف، والعادة، والمذهب، والاعتقاد، ثم عرض عليها
عند هذا الفرض هذه القضية، وجدها جازمة بترجيح الصدق على الكذب.
وبالجملة: فالكلام في هذا البحث
يطول، وإنكار مجرد إدراك العقل لكون الفعل حسنًا أو قبيحًا مكابرة1، ومباهتة2.
وأما إدراكه لكون ذلك الفعل الحسن متعلقًا للثواب، وكون
ذلك الفعل القبيح متعلقًا للعقاب فغير مسلم.
وغاية ما تدركه العقول أن هذا الفعل
الحسن يمدح فاعله، وهذا الفعل القبيح يذم فاعله، ولا تلازم بين هذا وبين كونه
متعلقًا للثواب والعقاب.
ومما يستدل به على هذه المسألة في
الجملة قوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}3
وقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا
رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}4 وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} ونحو هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المكابرة: هي المنازعة في المسألة
العلمية، لا لإظهار الصواب بل لإلزام الخصم وقيل: المكابرة: هي موافقة الحق بعد
العلم به. ا. هـ. التعريفات "292".
2 قال أبو إسحاق: البهتان: الباطل
الذي يتحير من بطلانه وهو من البهت التحير وبهتانًا موضع المصدر وقوله تعالى:
{أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} حال المعنى أتأخذونه مباهتين
آثمين. ا. هـ لسان العرب مادة بهت.
3 هو جزء من آية في سورة الإسراء رقم
"15".
4 هو آية من سورة طه رقمها "134".
البحث الثالث: في المحكوم به
هو فعل المكلف، فمتعلق الإيجاب يسمى
واجبًا، ومتعلق الندب يسمى مندوبًا، ومتعلق الإباحة يسمى مباحًا، ومتعلق الكراهة
يسمى مكروهًا، ومتعلق التحريم يسمى حرامًا، وقد تقدم1 حد كل واحد منها.
وفيه مسائل ثلاث:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة "26".
ج / 1 ص -32- المسألة الأولى:
إن شرط الفعل الذي وقع التكليف به،
أن يكون ممكنًا فلا يجوز التكليف بالمستحيل، عند الجمهور، وهو الحق، وسواء كان
مستحيلًا بالنظر إلى ذاته، أو بالنظر إلى امتناع تعلق قدرة المكلف به.
وقال جمهور الأشاعرة: بالجواز مطلقًا.
وقال جماعة منهم: إنه ممتنع في
الممتنع لذاته، جائز في الممتنع لامتناع تعلق قدرة المكلف به.
احتج الأولون: بأنه لو صح التكليف
بالمستحيل لكان مطلوبًا حصوله، واللازم باطل؛ لأن تصور ذات المستحيل، مع عدم تصور
ما يلزم ذاته لذاته، من عدم الحصول، يقتضي أن تكون ذاته غير ذاته، فيلزم قلب
الحقائق.
وبيانه: أن المستحيل لا يحصل له صورة في العقل، فلا يمكن أن يتصور شيء هو اجتماع
النقيضين فتصوره إما على طريق التشبيه، بأن يعقل بين السواد والحلاوة أمر، هو
الاجتماع، ثم يقال مثل هذا الأمر لا يمكن حصوله بين السواد والبياض، وإما على سبيل
النفي بأن يعقل أنه لا يمكن أن يوجد مفهوم اجتماع السواد والبياض.
وبالجملة: فلا يمكن تعلقه بماهيته بل
باعتبار من الاعتبارات.
والحاصل: أن قبح التكليف بما لا يطاق
معلوم بالضرورة، فلا يحتاج إلى استدلال، والمجوز لذلك لم يأت بما ينبغي الاشتغال
بتحريره، والتعرض لرده، ولهذا وافق كثير من القائلين بالجواز على امتناع الوقوع،
فقالوا: يجوز التكليف بما لا يطاق، مع كونه ممتنع الوقوع.
ومما يدل على هذه المسألة في الجملة:
قوله سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}1 {لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}2 {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ
لَنَا بِه}3.
وقد ثبت في الصحيح:
أن الله سبحانه قال عند هذه الدعوات المذكورة في القرآن:
"قد فعلت"4 وهذه الآيات ونحوها إنما تدل على عدم الوقوع، لا على عدم
الجواز، على أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من آية في سورة البقرة رقمها
"286".
2 جزء من آية في سورة الطلاق رقمها
"7".
3 جزء أيضًا من الآية المتقدمة في
سورة البقرة رقمها "286".
4 أخرجه مسلم من حديث ابن عباس في
كتاب الإيمان، باب تجاوز الله تعالى عن حديث النفس "126". أخرجه الترمذي
في كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة البقرة "2992" وقال: هذا حديث حسن. والنسائي في الكبرى، كما في تحفة الأشراف
للمزي "5434" وأحمد في مسنده "1/ 233".
ج / 1 ص -33- الخلاف في مجرد الجواز
لا يترتب عليه فائدة أصلًا.
قال المثبتون للتكليف بما لا يطاق:
لو لم يصح التكليف به لم يقع، وقد وقع لأن العاصي مأمور بالإيمان، وممتنع منه
الفعل؛ لأن الله قد علم أنه لا يؤمن ووقوع خلاف معلومه سبحانه محال، وإلا لزم
الجهل، واللازم باطل، فالملزوم مثله.
وقالوا أيضًا: بأنه لو لم يجز لم
يقع، وقد وقع فإنه سبحانه كلف أبا جهل بالإيمان، وهو تصديق رسوله في جميع ما جاء
به، ومن جملة ما جاء به أن: أبا جهل لا يصدقه، فقد كلفه بأن يصدقه في أنه لا
يصدقه، وهو محال.
وأجيب عن الدليل الأول: بأن ذلك لا
يمنع تصور الوقوع، لجواز وقوعه من المكلف في الجملة، وإن امتنع لغيره، من علم أو
غيره، فهو في غير محل النزاع. وعن الثاني: بأنه لم يكلف إلا بتصديق، وهو ممكن في
نفسه، متصور وقوعه، إلا أنه ممن علم الله أنهم لا يصدقونه، كعلمه بالعاصي.
هذا الكلام في التكليف بما لا يطاق،
وأما التكليف بما علم الله أنه لا يقع: فالإجماع منعقد على صحته ووقوعه.
المسألة الثانية:
إن حصول الشرط الشرعي ليس شرطًا في
التكليف، عند أكثر الشافعية، والعراقيين من الحنفية.
وقال جماعة منهم الرازي وأبو حامد1
وأبو زيد2 والسرخسي3: هو شرط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: الشيخ الإمام البحر، حجة
الإسلام، زين الدين، أبو حامد، محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، الشافعي، الغزالي،
المولود سنة خمسين وأربعمائة هـ بطوس، برع في الفقه، ومهر في الكلام والجدل، توفي
سنة خمس وخمسمائة هـ، ونسبته إلى قرية يقال لها: غزالة من آثاره: "إحياء علوم
الدين"، "كيمياء السعادة". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "19/
322" هدية العارفين "2/ 79-81" الأعلام "7/ 22".
2 هو عبد الله بن عمر بن عيسى
الدبوسي، البخاري، الحنفي، فقيه، أصولي، أحد القضاة السبعة، ولد سنة سبع وستين
وثلاثمائة هـ، نسبته إلى دبوسية، قرية بين بخارى وسمرقند، وتوفي سنة ثلاثين
وأربعمائة هـ، في بخارى، ومن آثاره: "تقويم الأدلة"، "الأسرار في
الأصول والفروع عند الحنفية". ا. هـ هدية العارفين "1/ 348" معجم
المؤلفين "6/ 96" شذرات الذهب "3/ 245".
3 هو محمد بن أحمد، الإمام الكبير،
العلامة الحجة، المتكلم، الفقيه، الأصولي، المناظر، الملقب بشمس الأئمة، صاحب
المبسوط، الذي أملاه وهو في السجن بأوزجند، نسبته إلى سرخس، بلدة قديمة من بلاد
خراسان، توفي حوالي سنة تسعين وأربعمائة هـ، من آثاره: "أصول السرخسي"، "المبسوط".
ا. هـ الجواهر المضية "3/ 78" تاج التراجم "234" هدية
العارفين "2/ 76".
ج / 1 ص -34- وهذه المسألة ليست على
عمومها؛ إذ لا خلاف في أن مثل الجنب، والمحدث، مأموران بالصلاة، بل هي مفروضة في
جزء منها، وهو أن الكفار مخاطبون بالشرائع، أي: بفروع العبادات عملًا عند الأولين،
لا عند الآخرين.
وقال قوم من الآخرين: هم مكلفون
بالنواهي؛ لأنها أليق بالعقوبات الزاجرة، دون الأوامر.
والحق: ما ذهب إليه الأولون وبه قال
الجمهور.
ولا خلاف في أنهم مخاطبون بأمر
الإيمان؛ لأنه مبعوث إلى الكافة، وبالمعاملات أيضا.
والمراد بكونهم مخاطبين بفروع
العبادات: أنهم مؤاخذون بها في الآخرة، مع عدم حصول الشرط الشرعي، وهو الإيمان.
استدل الأولون بالأوامر العامة كقوله
تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُم}1 ونحوها، وهم من جملة الناس.
واستدلوا أيضًا بما ورد من الوعيد
للكفار على الترك كقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ
مِنَ الْمُصَلِّين}2.
لا يقال: قولهم ليس بحجة، لجواز
كذبهم؛ لأنا نقول: ولو كذبوا لكذبوا.
واستدلوا أيضًا بقوله سبحانه:
{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}3.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}4.
والآيات والأحاديث في هذا الباب
كثيرة جدًّا.
واستدل الآخرون بأنهم: لو كلفوا بها
لصحت؛ لأن الصحة موافقة الأمر، "ولأمكن"*
الامتثال؛ لأن الإمكان شرط، ولا يصح منهم؛ لأن الكفر مانع، ولا يمكن الامتثال حال
الكفر، لوجود المانع، ولا بعده، وهو حال الموت، لسقوط الخطاب.
وأجيب: بأنه غير محل النزاع؛ لأن
حالة الكفر ليست قيدًا للفعل في مرادهم بالتكليف به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": أو لأمكن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الآية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ} [رقم 21: من سورة البقرة].
2 الآيتان من سورة المدثر رقمهما
"42-43".
3 هما جزء من آيتين في صورة فصلت
رقمهما "6-7".
4 هما جزء من آيتين في سورة الفرقان،
رقمهما "68-69".
ج / 1 ص -35- مسبوقًا للإيمان،
والكافر يتمكن من أن يسلم، ويفعل ما وجب عليه، كالجنب والمحدث، فإنهما مأموران
بالصلاة، مع تلبسهما بمانع عنها، يجب عليهما إزالته لتصح منهما، والامتناع الوصفي
لا ينافي الإمكان الذاتي.
واستدلوا أيضًا: بأنه لو وقع التكليف
للكفار، لوجب عليهم القضاء.
وأجيب: بمنع الملازمة لأنه لم يكن
بينه وبين وقوع التكليف وصحته ربط عقلي، لا سيما على قول من يقول: إن القضاء لا
يجب إلا بأمر جديد1.
وأيضًا قوله سبحانه: {إِنْ
يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}2 ودليل على "عدم"* وجوب
القضاء.
واحتج القائلون بالتفصيل: بأن النهي
هي ترك المنهي عن فعله، وهو ممكن مع الكفر.
وأجيب: بأن الكفر مانع من الترك
كالفعل؛ لأنها عبادة يثاب العبد عليها، ولا تصح إلا بعد الإيمان وأيضًا: المكلف به
في النهي هو الكف، وهو فعل3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ساقطة من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال السادة الأحناف: إن الأداء
والقضاء يجبان بسبب واحد، وهو الأمر الذي وجب به الأداء عند الجمهور، ولكن قال
العراقيون منهم: يجب القضاء بنص مقصود غير الأمر الذي وجب به الأداء، ففي الصوم
مثلًا: وجب القضاء بقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر}. ا. هـ خلاصة
الأفكار شرح مختصر المنار. "50". التلويح على التوضيح "1/ 214".
2 جزء من آية في سورة الأنفال رقمها
"38".
3 وخلاصة القول في سورة السادة
الأحناف: أن الكفار مخاطبون بالإيمان، والعقوبات، والمعاملات، وبالعبادات في حق
المؤاخذة في الآخرة، لقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ
فِي سَقَرَ} وأما في حق وجوب الأداء في الدنيا: فمختلف فيه، فعند العراقيين:
يخاطبون بجميع أوامر الله ونواهيه من حيث الاعتقاد والأداء في حق المؤاخذة في
الآخرة، وقال مشايخ ما وراء النهر: إنهم مخاطبون فيما لا يحتمل السقوط كالإيمان.
ا. هـ. التلويح على التوضيح "1/ 213" خلاصة الأفكار "6".
المسألة الثالثة:
إن التكليف بالفعل -والمراد به: أثر القدرة الذي هو الأكوان، لا التأثير الذي هو
أحد الأعراض النسبية- ثابت قبل حدوثه اتقافًا، وينقطع بعده اتفاقًا، ولا اعتبار
بخلاف من خالف في الطرفين، فهو بين السقوط، وما قالوه: من أنه لو انقطع انعدم
الطلب القائم بذات الله سبحانه، وصفاته أبدية، فهو مردود، بأن كلامه سبحانه واحد،
والتعدد في العوارض الحادثة من التعليق ككونه أمرًا، أو نهيًا، وانتفاؤهما لا يوجب
انتفاءه.
ج / 1 ص -36- واختلفوا هل التكليف به
باق حال حدوثه أم لا؟
فقال جمهور الأشعرية: هو باق.
وقالت المعتزلة والجويني: ليس بباق.
وليس مراد من قال بالبقاء: أن تعلق
التكليف بالفعل لنفسه؛ إذ لا انقطاع له أصلًا، ولا أن تنجيز التكليف باق؛ لأن
التكليف بإيجاد الموجود محال؛ لأنه طلب يستدعي مطلوبًا غير حاصل، وهو تكليف
بالمحال، ولا أن القدرة مع الفعل، لاستلزمه أن لا تكليف قبله، وهو خلاف المعقول،
وخلاف الإجماع، فإن القاعد مكلف بالقيام إلى الصلاة.
بل مرادهم: أن التكليف باقٍ عند
التأثير لكن التأثير عين الأثر عندهم.
واستدلوا: بأن الفعل مقدور حال
حدوثه؛ لأنه أثر القدرة فيوجد معها، وإذا كان مقدورًا حينئذ فيصح التكليف به؛ لأنه
لا مانع إلا عدم القدرة وقد انتفى.
وأجيب: بأنه يلزم التكليف بإيجاد
الموجود وهو محال.
ويرد: بأن ذلك لا يلزم؛ لأن المحال
إنما هو إيجاد الموجود بوجود سابق، لا بوجود حاصل.
البحث الرابع: في المحكوم عليه وهو
المكلف
اعلم: أنه يشترط في صحة التكليف
بالشرعيات فهم المكلف لما كلف به، بمعنى تصوره، بأن يفهم من الخطاب القدر الذي
يتوقف عليه الامتثال، لا بمعنى التصديق به، وإلا لزم الدور1، ولزم عدم تكليف
الكفار، لعدم حصول التصديق "لهم"*.
واستدلوا على اشتراط الفهم بالمعنى
الأول: بأنه لو لم يشترط لزم المحال؛ لأن التكليف استدعاء حصول الفعل على قصد
الامتثال، وهو محال عادة وشرعًا ممن لا شعور له بالأمر.
وأيضًا: يلزم تكليف البهائم؛ إذ لا
مانع من تكليفها إلا عدم الفهم، وقد فرض أنه غير مانع في صورة النزاع "وقد اتفق المحققون على كون الفهم بالمعنى المذكور شرطًا لصحة
التكليف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ساقطة من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم الكلام على الدور في الصفحة
"20".
ج / 1 ص -37- ولم يخالف في ذلك إلا
بعض من قال بتكليف ما لا يطاق* وقد تقدم 1 بيان فساد قولهم.
فتقرر بهذا أن المجنون غير مكلف،
وكذلك الصبي الذي لم يميز؛ لأنهما لا يفهمان خطاب التكليف، على الوجه المعتبر.
وأما لزوم أرش2 جنايتهما ونحو ذلك:
فمن أحكام الوضع، لا من أحكام التكليف.
وأما الصبي المميز فهو وإن كان يمكنه
تمييز بعض الأشياء، لكنه تمييز ناقص بالنسبة إلى تمييز المكلفين.
وأيضًا: ورد الدليل برفع التكليف قبل
البلوغ، ومن ذلك حديث: "رفع القلم عن ثلاثة"3.
وهو وإن كان في طرقه مقال، لكنه
باعتبار كثرة طرقه من قسم الحسن، وباعتبار تلقي الأمة له بالقبول، لكونهم بين عامل
به، ومؤول له، صار دليلًا قطعيا.
ويؤيده حديث: "من اخضر مئزره
فاقتلوه"4 وأحاديث: النهي عن قتل الصبيان حتى يبلغوا كما ثبت عنه -صلى الله
عليه وسلم- في وصاياه لأمرائه، عند غزوهم للكفار5، وأحاديث أنه -صلى الله عليه
وسلم- كان لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة "33".
2 الأرش هو دية الجراحات والجمع أروش
ا. هـ المصباح المنير مادة أرش.
3 أخرجه أحمد عن عائشة بلفظ:
"رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستقظ، وعن الغلام حتى يحتلم، وعن
المجنون حتى يفق" "6/ 100، 101" والدارمي عن عفان بن مسلم، عن حماد
بن سلمة "2/ 171".
ومن طريق يزيد بن هارون عن حماد بن
سلمة: أخرجه أحمد "6/ 144"، وأبو داود في الحدود: باب في المجنون يسرق
أو يصيب حدًّا "4398". وأخرجه النسائي في الطلاق: باب من لا يقع طلاقه
من الأزواج "6/ 156". وابن ماجة في الطلاق: باب طلاق المعتوه النائم
والصغير. "2041".
وابن الجارود في المنتقى
"148" من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة. وصححه الحاكم
"2/ 59" من طريق أبي الوليد الطيالسي، وموسى بن إسماعيل.
وابن حبان في "صحيحه" كتاب
الإيمان باب التكليف رقم "142".
4 الحديث: أخرج بنحوه ابن حبان في
صحيحه "4782" وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه "18743" وابن ماجه
في كتاب الحدود باب من لا يجب عليه الحد "2541" بلفظ" "سمعت عطية القرظي يقول: عرضنا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله فكنت فيمن
لم ينبت فخلي سبيلى". وأخرجه البيهقي كتاب الحجر باب البلوغ بالإنبات.
"6/ 58".
وقوله من أخصر مئزره كتاب عن قوله:
من نبت شعر عانته. ومثله قول سيدنا عثمان حينما أتي بغلام قد سرق فقال: انظروا إلى
مؤتزره، فنظروا فوجدوه لم ينبت فلم يقطعه. ا. هـ. انظر مصنف عبد الرازق
"18735".
5 أخرجه البيهقي في السنن في كتاب
السير باب ترك قتل من لا قتل فيه من البرهان والكبير وغيرها 6/ 90. عن ابن عباس
رضي الله عنهما. بلفظ: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بعث جيوشه
قال: "اخرجوا بسم الله فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا
تمثلوا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا |أصحاب الصوامع" والطبراني في
المعجم الكبير من حديث جرير "2304". وأبو
يعلى في مسنده "2549". وأحمد في مسنده 1/300.
ج / 1 ص -38- يأذن في القتال إلا لمن
بلغ سن التكليف1.
والأدلة في هذا الباب كثيرة.
ولم يأت من خالف في ذلك بشيء يصلح
لإيراده كقولهم: إنه قد صح طلاق السكران، ولزمه أرش جنايته، وقيمة ما أتلفه.
وهذا استدلال ساقط، لخروجه عن محل
النزاع، في أحكام التكليف، لا في أحكام الوضع، ومثل هذا من أحكام الوضع.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {لا
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون}2، حيث
قالوا: إنه أمر لمن لا يعلم ما يقول، ومن لا يعلم ما يقول لا يفهم ما يقال له، فقد
كلف من لا يفهم التكليف.
ورد بأنه نهي عن السكر عند إرادة
الصلاة، فالنهي متوجه إلى القيد.
ورد أيضًا بغير هذا مما لا حاجة إلى
التطويل بذكره.
ووقع الخلاف بين الأشعرية،
والمعتزلة: هل المعدوم مكلف أم لا؟.
فذهب الأولون إلى الأول والآخرون إلى
الآخر.
وليس مراد الأولين بتكليف المعدوم أن
الفعل، أو الفهم مطلوبان منه حال عدمه، فإن بطلان هذا معلوم بالضرورة، فلا يرد
عليهم ما أورده الآخرون من أنه إذا امتنع تكليف النائم، والغافل، امتنع تكليف
المعدوم "بطريق الأولى"*، بل مرادهم التعليق العقلي، أي: توجه الحكم في
الأزل إلى من علم الله وجوده، مستجمعًا شرائط التكليف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": بالأولى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثاله: ما ورد عن ابن عمر رضي الله
عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم "عرضه يوم أحد
وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمسة عشر سنة
فأجازه". أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب غزوة الخندق وهي الأحزاب
"4097". والنسائي في الطلاق باب متى يقع طلاق الصبي "3431"
"6/ 156"، والترمذي في كتاب الأحكام
باب ما جاء في حد بلوغ الرجل والمرأة "1361" وابن ماجه في كتاب الحدود،
باب من لا يجب عليه الحد "2543"، وأبو داود، في
كتاب الخراج والفيء والإمارة باب متى يفرض للرجل في المقاتلة "2957"،
وأحمد في المسند "2/ 17".
2 جزء من آية طويلة في سورة النساء
"43".
ج / 1 ص -39- واحتجوا: بأنه لو لم
يتعلق التكليف بالمعدوم، لم يكن التكليف أزليا؛ لأن توقفه على الوجود الحادث،
يستلزم كونه حادثا، واللازم باطل، فالملزوم مثله؛ لأنه أزلي، لحصوله بالأمر
والنهي، وهما كلام الله، وهو أزلي.
وهذا البحث يتوقف على مسألة الخلاف
في كلام الله سبحانه، وهي مقررة في علم الكلام.
واحتج الآخرون: بأنه لو كان المعدوم
يتعلق به الخطاب، لزم أن يكون الأمر والنهي، والخبر، والنداء، والاستخبار، من غير
متعلق موجود، وهو محال.
ورد بعدم تسليم كونه محالًا بل هو
محل النزاع.
وتطويل الكلام في هذا البحث قليل
الجدوى، بل مسألة الخلاف في كلام الله سبحانه، وإن طالت ذيولها، وتفرق الناس فيها
فرقًا، وامتحن بها من امتحن، من أهل العلم وظن من ظن أنها من أعظم مسائل أصول
الدين، ليس لها "كبير"* فائدة، بل
هي من فضول العلم، ولهذا صان الله سلف هذه الأمة من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم
عن التكلم فيها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": كبير.
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم
الأصول
ج / 1 ص -40- الفصل الثالث: في
المبادئ اللغوية
اعلم: أن البحث إما أن يقع عن ماهية
الكلام، أو عن كيفية دلالته، ثم لما كانت دلالته وضعية، فالبحث عن هذه الكيفية،
إما أن يقع عن الواضع، أو الموضوع، أو الموضوع له، أو عن الطريق التي يعرف بها
الوضع فهذه أبحاث خمسة:
البحث الأول: عن ماهية الكلام
وهو يقال بالاشتراك على المعنى
القائم بالنفس، وعلى الأصوات المقطعة المسموعة، ولا حاجة إلى البحث في هذا الفن عن
المعنى الأول، بل المحتاج إلى البحث عنه فيه هو المعنى الثاني.
فالأصوات كيفية للنفس، وهي الكلام
المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة، المتواضع عليها.
والانتظام: هو التأليف للأصوات
المتوالية على السمع.
وخرج بقوله الحروف الحرف، الواحد؛
لأن أقل الكلام حرفان، وبالمسموعة الحروف المكتوبة، وبالمتميزة أصوات ما عدا
"صوت"* الإنسان، وبالمتواضع عليها المهملات، وقد خصص النحاة الكلام بما
تضمن كلمتين بالإسناد، وذهب كثير من أهل الأصول: إلى أن الكلمة الواحدة تسمى
كلامًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ج / 1 ص -41- البحث الثاني: عن
الواضع
اختلف في ذلك على أقوال:
الأول: أن الواضع هو الله سبحانه،
وإليه ذهب الأشعري1، وأتباعه، وابن فورك2.
القول الثاني: أن الواضع هو البشر،
وإليه ذهب أبو هاشم3 ومن تابعه من المعتزلة.
القول الثالث: أن ابتداء اللغة وقع
بالتعليم من الله سبحانه، والباقي بالاصطلاح.
القول الرابع: أن ابتداء اللغة وقع
بالاصطلاح والباقي توقيف، وبه قال الأستاذ أبو إسحاق4 وقيل: إنه قال بالذي قبله.
والقول الخامس: أن نفس الألفاظ دلت
على معانيها بذاتها، وبه قال عباد بن سليمان الصيمري5.
القول السادس: أنه يجوز كل واحد من
هذه الأقوال، من غير جزم بأحدها، وبه قال الجمهور كما حكاه صاحب
"المحصول"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: على بن إسماعيل بن إسحاق بن
سالم، صاحب الأصول، الإمام الكبير، إليه تنسب الطائفة الأشعرية، ولد سنة ستين
ومائتين، وتوفي سنة أربع وعشرين و ثلاثمائة ببغداد، من تصانيفه: "رسالة في
الإيمان"، "إمامة الصديق"، "الرد على المجسمة"، وغيرها
كثير بلغت ثلاثماثمة مؤلف. ا. هـ.
سير أعلام النبلاء "15/
85" الجواهر المضية "2/ 544" الأعلام "4/ 263".
2 هو: محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني،
صاحب التصانيف، الإمام العلامة، الصالح، شيخ المتكلمين، توفي سنة ست وأربعمائة هـ،
من تصانيفه "تفسير القرآن"، "دقائق الأسرار"، "طبقات
المتكلمين" وغيرها. ا. هـ.
هدية العارفين "2/ 60" سير
أعلام النبلاء "17/ 214"، شذرات الذهب "3/ 181".
3 هو عبد السلام بن محمد بن عبد
الوهاب, الجبائي، شيخ المعتزلة، وابن شيخهم، من كبار الأذكياء، توفي سنة إحدى
وعشرين وثلاثمائة هـ، من تصانيفه "الجامع
الكبير"، "العرض"، "المسائل العسكرية" وغيرها ا. هـ.
سير أعلام النبلاء "15/
63"، شذرات الذهب "2/ 289".
4 هو إبراهيم بن محمد، الإسفراييني،
الأصولي، الشافعي، الملقب بركن الدين، أحد المجتهدين في عصره، توفي سنة ثماني عشرة
وأربعمائة هـ، من تصانيفه: "أدب
الجدل"، "معالم الإسلام"، "العقيدة" وغيرها. ا. هـ. هدية
العارفين "1/ 8". سير أعلام النبلاء "17/
353".
5 هو أبو سهل، عباد بن سليمان
البصري، المعتزلي، من أصحاب هشام الفوطي، يخالف المعتزلة في أشياء اخترعها لنفسه،
كان أبو علي الجبائي يصفه بالحذق في الكلام، من آثاره: كتاب "إثبات الجزء
الذي لا يتجزأ" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 551".
6 واسمه "المحصول في أصول الفقه"، للإمام فخر الدين محمد بن عمر
الرازي، وله شروح كثيرة، منها: "شرح شمس الدين محمد بن محمود الأصبهاني"
وهو حافل مات ولم يكمله. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1615".
ج / 1 ص -42- احتج أهل القول الأول
بالمنقول والمعقول:
أما المنقول فمن ثلاثة أوجه:
الأول: قوله سبحانه: {وَعَلَّمَ
آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}1.
دل هذا على أن الأسماء توقيفية، وإذا
ثبت ذلك في الأسماء، ثبت أيضًا في الأفعال، والحروف؛ إذ لا قائل بالفرق.
وأيضًا: الاسم إنما سمي اسمًا لكونه
علامة على مسماه، والأفعال، والحروف كذلك، وتخصيص الاسم ببعض أنواع الكلام اصطلاح
للنحاة.
الوجه الثاني: أن الله سبحانه ذم
قومًا على تسميتهم بعض الأشياء، دون توقيف، بقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا
أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ
سُلْطَان}2.
فلو لم تكن اللغة توقيفية لما صح هذا
الذم.
الوجه الثالث: قوله سبحانه: {وَمِنْ
آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ
وَأَلْوَانِكُمْ}3.
والمراد: اختلاف اللغات، لا اختلافات
"تأليفات"* الألسن.
وأما المعقول فمن وجهين:
الأول: أن الاصطلاح إنما يكون بأن
يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره، وذلك لا يعرف إلا بطريق، كالألفاظ،
والكتابة، وكيفما كان، فإن ذلك الطريق. إما الاصطلاح،
ويلزم التسلسل، أو التوقيف وهو المطلوب.
الوجه الثاني: أنها لو كانت
بالمواضعة لجوز العقل اختلافها، وأنها على غير ما كانت عليه؛ لأن اللغات قد تبدلت،
وحينئذ لا يوثق بها. وأجيب عن الاستدلال بقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاء} بأن
المراد بالتعليم الإلهام، كما في قوله: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ
لَكُمْ}4، أو تعليم ما سبق وضعه من خلق آخر، أو المراد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* وقع تحريف في الأصل وهو بالتفات
والصواب تأليفات كما ذكر في حاشية النسخة "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "31" من
سورة البقرة.
2 جزء من الآية "32" من
سورة النجم.
3 جزء من الآية "22" من
سورة الروم.
4 جزء من الآية "80" من
سورة الأنبياء.
ج / 1 ص -43- بالأسماء المسميات،
بدليل قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُم}1.
ويجاب عن الاستدلال بقوله: {إِنْ
هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} بأن المراد ما
اخترعوه من الأسماء للأصنام، من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام2.
ووجه الذم مخالفة ذلك لما شرعه الله.
وأجيب عن الاستدلال بقوله:
{وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُم} بأن المراد التوقيف عليها بعد الوضع، وإقرار الخلق
على وضعها.
ويجاب على الوجه الأول من المعقول:
بمنع لزوم التسلسل؛ لأن المراد وضع الواضع هذا الاسم لهذا المسمى، ثم تعريف غيره
بأنه وضعه كذلك.
ويجاب عن الوجه الثان: بأن تجويز
الاختلاف خلاف الظاهر.
ومما يدفع هذا القول أن حصول اللغات
لو كان بالتوقيف من الله عز وجل، لكان ذلك بإرسال رسول لتعليم الناس لغتهم؛ لأنه الطريق
المعتاد في التعليم للعباد، ولم يثبت ذلك.
ويمكن أن يقال: إن آدم -عليه السلام-
علمها، غيره.
وأيضًا يمكن أن يقال: إن التعليم لا
ينحصر في الإرسال، لجواز حصوله بالإلهام، وفيه أن مجرد الإلهام لا يوجب كون اللغة
توقيفية، بل هي من وضع الناس بإلهام الله سبحانه لهم كسائر الصنائع.
احتج أهل القول الثاني: بالمنقول،
والمعقول.
أما المنقول: فقوله سبحانه: {وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِه}3.
أي: بلغتهم، فهذا يقتضي تقدم اللغة
على بعثة الرسل، فلو كانت اللغة توقيفية لم يتصور ذلك إلا بالإرسال، فيلزم الدور؛
لأن الآية تدل على سبق
اللغات للإرسال، والتوقيف يدل على
سبق الإرسال لها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "31" في
سورة البقرة.
2 البحيرة قال الزجاج: كان أهل الجاهلية
إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها، وشقوها، وامتنعوا من نحرها، ولا
تطرد من ماء ولا مرعى.
السائبة: روي عن ابن عباس: أنها تسيب
للأصنام، فتعطى للسدنة.
الوصيلة: قال الزجاج: هي الشاة إذا
ولدت ذكرًا كان لآلهتهم، وإذا ولدت أنثى كانت لهم، وإن ولدت ذكرًا وأنثى قيل: وصلت
آخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.
الحامي: قال أبو عبيدة والزجاج: إنه
الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين. ا. هـ. انظر تفسير القرطبي والسايس عند الآية
"103" من المائدة.
3 جزء من الآية "4" من
سورة إبراهيم عليه السلام.
ج / 1 ص -44- وأجيب: بأن كون التوقيف لا يكون إلا بالإرسال إنما يوجب سبق
الإرسال على التوقيف، لا سبق الإرسال على اللغات، حتى يلزم الدور؛ لأن الإرسال
لتعليمها إنما يكون بعد وجودها، معلومة للرسول عادة، لترتب فائدة الإرسال عليه.
وأجيب أيضًا بأن آدم عليه السلام
علمها، كما دلت عليه الآية، وإذا كان هو الذي علمها لأقدم رسول اندفع الدور.
وأما المعقول: فهو أنها لو كانت
توقيفية لكان إما أن يقال: إنه تعالى يخلق العلم الضروري، بأن وضعها لتلك المعاني،
أو لا يكون كذلك، والأول لا يخلو. إما أن يقال:
"الله"* خلق ذلك العلم في عاقل، أو في غير عاقل، وباطل أن يخلقه في
عاقل؛ لأن العلم بأنه سبحانه وضع تلك اللفظة لذلك المعنى يتضمن العلم به سبحانه،
فلو كان ذلك العلم ضروريًّا لكان العلم به سبحانه ضروريًّا، ولو كان العلم بذاته
سبحانه ضروريًًا لبطل التكليف، لكن ذلك باطل، لما ثبت أن كل عاقل يجب أن يكون
مكلفًا. وباطل أن يخلقه في غير العاقل؛ لأن من البعيد أن يصير الإنسان الغير
العاقل عالمًا بهذه اللغات العجيبة، والتركيبات اللطيفة.
احتج أهل القول الثالث: بأن الاصطلاح
لا يصح إلا بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره، فإن عرفه بأمر آخر اصطلاحي،
لزم التسلسل، فثبت أنه لا بد في أول الأمر من التوقيف، ثم بعد ذلك لا يمتنع أن
تحدث لغات كثيرة بسبب الاصطلاح، بل ذلك معلوم بالضرورة، فإن الناس يحدثون في كل
زمان ألفاظًا ما كانوا يعلمونها قبل ذلك.
وأجيب: بمنع توقفه على الاصطلاح، بل
يعرف ذلك بالترديد والقرائن، كالأطفال.
وأما أهل القول الرابع: فلعلهم
يحتجون على ذلك: بأن فهم ما جاء توقيفًا لا يكون إلا بعد تقدم الاصطلاح والمواضعة.
ويجاب عنه: بأن التعليم بواسطة رسول
أو بإلهام يغني عن ذلك.
واحتج أهل القول الخامس: بأنه لو لم
يكن بين الأسماء والمسميات مناسبة بوجه ما، لكان تخصيص الاسم المعين للمسمى المعين
ترجيحًا بدون مرجح، وإن كان بينهما مناسبة ثبت المطلوب.
وأجيب: بأنه إن كان الواضع هو الله
سبحانه، كان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين، كتخصيص وجود العالم بوقت معين،
دون ما قبله أو ما بعده.
وأيضًا: لو سلمنا أنه لا بد من
المناسبة المذكورة بين الاسم والمسمى، كان ذلك ثابتًا في وضعه سبحانه، وإن خفي
علينا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ج / 1 ص -45- وإن كان الواضع البشر،
فيحتمل أن يكون السبب خطور ذلك اللفظ في ذلك الوقت بالبال دون غيره، كما يخطر ببال
الواحد منا أن يسمي ولده باسم خاص.
واحتج أهل القول السادس: على ما
ذهبوا إليه من الوقف: بأن هذه الأدلة التي استدل بها القائلون لا يفيد شيء منها
القطع، بل لم ينهض شيء منها لمطلق الدلالة، فوجب عند ذلك الوقف؛ لأن ما عداه هو من
التقول على الله بما لم يقل، وأنه باطل. وهذا هو الحق.
البحث الثالث: عن الموضوع
اعلم أنه لما كان الفرد الواحد من
هذا النوع الإنساني لا يستقل وحده، بإصلاح جميع ما يحتاج إليه، لم يكن بد في ذلك
من جمع، ليعين بعضهم بعضًا فيما يحتاج إليه، وحينئذ يحتاج كل واحد منهم إلى تعريف
صاحبه بما في نفسه من الحاجات، وذلك التعريف لا يكون إلا بطريق من أصوات مقطعة، أو
حركات مخصوصة، أو نحو ذلك، فجعلوا الأصوات المقطعة هي الطريق إلى التعريف؛ لأن
الأصوات أسهل من غيرها، وأقل مؤنة، ولكون إخراج النفس أمرًا ضروريًّا، فصرفوا هذا
الأمر الضروري إلى هذا التعريف، ولم يتكلفوا له طريقًا أخرى غير ضرورية، مع كونها
تحتاج إلى مزاولة.
وأيضًا: فإن الحركات والإشارات قاصرة
عن إفادة جميع ما يراد فإن ما يراد تعريفه قد لا تمكن الإشارة الحسية إليه كالمعدومات.
إذا عرفت هذا: فاعلم أن الموضوعات
اللغوية هي كل لفظ وضع لمعنى.
فيخرج ما ليس بلفظ من الدلائل
الموضوعة، وما ليس بموضوع من المحرفات، والمهملات، ويدخل في اللفظ المفردات،
والمركبات الستة، وهي الإسنادي، والوصفي، والإضافي، والعددي، والمزجي، والصوتي.
ومعنى الوضع يتناول أمرين: أعم وأخص،
فالأعم: تعيين اللفظ بإزاء معنى، والأخص: تعيين اللفظ للدلالة على معنى.
البحث الرابع: عن الموضوع له
قال الجويني والرازي وغيرهما: إن
اللفظ موضوع للصورة الذهنية، سواء كانت موجودة في الذهن والخارج، أو فى الذهن فقط.
ج / 1 ص -46- وقيل: هو موضع
"للوجود"* الخارجي، وبه قال أبو إسحاق1.
وقيل: هو موضوع للأعم، من الذهبي
والخارجي، ورجحه الأصفهاني2.
وقيل: إن اللفظ في الأشخاص، أي
الأعلام الشخصية، موضوع "للموجود"** الخارجي،
ولا ينافي كونه للموجود الخارجي وجوب استحضار الصورة الذهنية فالصورة الذهنية، آلة
لملاحظة الوجود الخارجي، لا أنها هي الموضوع لها، وأما فيما عدا الأعلام الشخصية،
فاللفظ موضوع لفرد غير معين، وهو الفرد المنتشر فيما وضع لمفهوم كلى، أفراده
خارجية أو ذهنية، فإن كانت خارجية، فالموضوع له فرد ما من تلك الأفراد الخارجية،
وإن كانت ذهنية، له فرد ما من الذهنية، وإن كانت ذهنية وخارجية، فالاعتبار
بالخارجية.
وقد ألحق علم الجنس بالأعلام الشخصية
من يفرق بينه وبين اسم الجنس، فيجعل علم الجنس موضوعًا للحقيقة المتحدة، واسم
الجنس لفرد منها غير معين.
وفي اسم الجنس مذهبان:
أحدهما: أنه موضوع للماهية، مع وحدة
لا بعينها ويسمى فردًا منتشرًا، وإلى هذا ذهب الزمخشري3، وابن الحاجب4، ورجحه
السعد5، وابن الهمام6.
والثاني: أنه موضوع للماهية من حيث
هي، ورجحه الشريف7.
فالموضوع له على المذهب الأول هو
الماهية بشرط شيء. وعلى المذهب الثاني هو الماهية لا بشرط شيء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ" للموجود.
** في "أ": للموجود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو إبراهيم بن علي بن يوسف، جمال
الدين الشيرازي الفيروزآبادي، ولد سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة هـ، وسكن بغداد،
وتوفي سنة ست وسبعين وأربعمائة هـ، وهو إمام قدوة، مجتهد، شافعي المذهب. ا. هـ سير
أعلام النبلاء "18/ 452"، هدية العارفين
"1/ 8".
2 هو محمد بن محمود بن محمد، أبو عبد
الله، شمس الدين الأصفهاني، ولد سنة ست عشرة وستمائة هـ، وتوفي سنة "ثمان
وثمانين وستمائة هـ، وهو قاض من فقهاء الشافعية بأصفهان، من تآليفه: "القواعد
في العلوم الأربعة"، "شرح المحصول". ا. هـ. الفوائد البهية
"197"، الأعلام "7/ 87".
3 هو: جار الله، أبو القاسم، محمود
بن عمر بن محمد، الخوارزمي، الزمخشري، من أئمة العلم والتفسير والآداب، ولد سنة
سبع وستين وأربعمائة هـ، وتوفي سنة ثمان وثلاثين وخمسائة هـ، من آثاره:
"الكشاف عن حقاتق التنزيل"، "والمستقصى في الأمثال".ا. هـ.
سير أعلام النبلاء، "20/
151"، معجم المؤلفين. "12/ 186".
4 هو الشيخ الإمام العلامة المقرئ،
الأصولي، الفقيه المالكي، النحوي، جمال الأئمة والملة والدين، أبو عمرو، عثمان بن
عمر بن أبي بكر، ولد سنة سبعين وخمسمائة وتوفي بالإسكندرية سنة ست وأربعين وستمائة
هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "23/ 265"، الأعلام "4/ 211".
5 هو مسعود بن عمر بن عبد الله
التفتازاني سعد الدين من أئمة العربية والبيان والمنطق، ولد بتفتازان سنة اثنتي
عشرة وسبعمائة هـ، وتوفي بسمرقند سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة هـ، من تصانيفه:
"تهذيب المنطق"، "المطول في البلاغة"، "شرح العقائد النسفية"
"التلويح إلى كشف غوامض التنقيح". ا. هـ.
الأعلام "7/ 219"، شذرات الذهب "6/ 319" معجم المؤلفين "12/ 228".
6 هو مخمد بن عبد الواحد، المعروف
بابن الهمام، كمال الدين، عالم مشارك في الفقه والأصول والتفسير والتصوف والفرائض،
ولد بالإسكندرية سنة تسعين وسبعمائة هـ، وتوفي سنة إحدى وستين وثمانمائه هـ، من
تصانيفه: "شرح الهداية واسمه فتح القدير"،
"المسايرة في العقائد المنجية في
الآخرة". ا. هـ. معجم المؤلفين "1/ 264"،
شذرات الذهب "7/ 298"، الفوائد البهية "180"، الأعلام
"6/ 255".
7 هو علي بن محمد الجرجاني. تقدم في
الصحفة "21".
ج / 1 ص -47- البحث الخامس: عن
الطريق التي يعرف بها الوضع
اعلم: أنه لما كان الكتاب والسنة
واردين بلغة العرب، وكان العلم بهما متوقفًا على العلم بها كان العلم بها، من أهم
الواجبات.
ولا بد في ذلك من معرفة الطريقة التي
نقلت هذه اللغة العربية بها إلينا؛ إذ لا مجال للعقل في ذلك؛ لأنها أمور وضعية،
والأمور الوضعية لا يستقل العقل بإدراكها فلا تكون الطريق إليها إلا نقلية.
والحق أن جميعها منقول بطريق التواتر.
وقيل: ما كان منها لا يقبل التشكيك
كالأرض، والسماء، والحر، والبرد، ونحوها، فهو منقول بطريق التواتر، وما كان منها
يقبل التشكيك كاللغات التي فيها غرابة، فهو منقول بطريق الآحاد.
ولا وجه لهذا، فإن الأئمة المشتغلين
بنقل اللغة قد نقلوا غريبها كما نقلوا غيره، وهم عدد لا يجوز العقل تواطأهم على
الكذب، في كل عصر من العصور، هذا معلوم لكل من له علم بأحوال المشتغلين بلغة العرب.
وقد أورد الرازي في
"المحصول" تشكيكًا على هذا، كعادته المستمرة في مصنفاته، حتى في
"تفسير الكتاب العزيز" فقال: "أما
التواتر: فالإشكال عليه من وجوه:
الأول: أنا نجد الناس مختلفين في
معاني الألفاظ، التي هي أكثر الألفاظ دورانًا على ألسنة المسلمين، اختلافًا لا
يمكن "معه"* القطع بما هو الحق كلفظة الله تعالى، فإن بعضهم زعم أنها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ج / 1 ص -48- ليست عربية بل سريانية،
والذين جعلوها عربية اختلفوا في أنها من الأسماء المشتقة، أو الموضوعة، والقائلون
بالاشتقاق اختلفوا اختلافًا شديدًا، وكذا القائلون بكونها موضوعة، اختلفوا أيضًا
اختلافًا كثيرًا.
ومن تأمل أدلتهم في تعيين مدلول هذه
اللفظة علم أنها متعارضة وأن شيئًا منها لا يفيد الظن الغالب، فضلًا عن اليقين.
"وكذلك"1 اختلفوا في
الإيمان، والكفر، والصلاة، والزكاة، حتى إن كثيرًا من المحققين في علم الاشتقاق،
زعم: أن اشتقاق الصلاة من "الصلوين" وهما عظما الورك، ومن المعلوم أن
هذا الاشتقاق غريب.
وكذلك اختلفوا في الأوامر، والنواهي،
وصيغ العموم، مع شدة اشتهارها، وشدة الحاجة إليها، اختلافًا شديدًا، وإذا كان
الحال في هذه الألفاظ، التي هي أشهر الألفاظ والحاجة إلى استعمالها ماسة جدًّا
كذلك، فما ظنك بسائر الألفاظ؟ وإذا كان كذلك: ظهر أن دعوى التواتر في اللغة والنحو
متعذر انتهى.
ولا يخفاك أن محل النزاع هو كون نقل
هذه اللغة العربية إلينا بطريق التواتر، عن العرب الموثوق بعربيتهم، فالاختلاف في
الاشتقاق والوضع وغير ذلك خارج عن محل النزاع، ولا يصلح للتشكيك به بوجه من الوجوه.
وقد تنبه الرازي لهذا فقال فإن قلت:
هب أنه لا يمكن دعوى التواتر في معاني هذه الألفاظ، على سبيل التفصيل، ولكنا نعلم
معانيها في الجملة، فنعلم أنهم يطلقون لفظ "الله" تعالى على الإله سبحانه، وإن كنا لا نعلم مسمى هذا اللفظ أهو
الذات، أم المعبودية، أم القادرية، وكذا القول في سائر الألفاظ.
قلت: حاصل ما ذكره أنا لا نعلم إطلاق
لفظة "الله" "على الإله"2 سبحانه وتعالى من غير أن نعلم أن
مسمى هذا الاسم ذاته أو كونه "محمودًا أو كونه"3 قادرًا على الاختراع،
أو كونه ملجأ الخلق أو كونه بحيث تتحير العقول في إدراكه، إلى غير ذلك من المعاني
المذكورة لهذا اللفظ، وذلك يفيد نفي القطع بمسماه، وإذا كان الأمر كذلك في هذه
اللفظة، مع نهاية شهرتها، ونهاية الحاجة إلى معرفتها، كان تمكن الاحتمال فيما
عداها أظهر انتهى.
وهذا الجواب باطل؛ لأن هذه اللفظة قد
نقلت إلينا على طريقة التواتر، ونقل إلينا الناقلون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "أ": "وكذا.
2 ما بين قوسين ساقط من "أ".
3 ما بين قوسين ساقط من "أ".
ج / 1 ص -49- لها: أنها موضوعة للرب
سبحانه وتعالى وهذا القدر يكفي في الاستدلال به على محل النزاع وأما الاختلاف في
مفهوم الإله سبحانه وتعالى فبحث آخر، لا يقدح به على محل النزاع أصلًا.
ثم قال مردفًا لذلك التشكيك بتشكيك
آخر، وهو: أن من شرط التواتر استواء الطرفين "والوسطة"*. فهب أن علمنا حصول شرائط التواتر في حفاظ اللغة، والنحو
والتصريف، في زماننا، فكيف نعلم حصولها في سائر الأزمنة؟ انتهى.
ويجاب عنه: بأن علمنا حصولها فيهم في
سائر الأزمنة بنقل الأئمة الثقات الأثبات، المشتغلين بأحوال النقلة إجمالًا
وتفصيلًا.
ثم أطال الكلام على هذا، ثم عاد إلى
التشكيك في نقلها آحادًا، وجميع ما جاء به مدفوع مردود، فلا نشتغل بالتطويل بنقله
والكلام عليه، ففيما ذكرنا من الرد عليه ما يرشد إلى الرد لبقية ما شكك به.
وقد اختلف في جواز إثبات اللغة بطريق
القياس:
فجوزه القاضي أبو بكر الباقلاني1،
وابن شريح2، وأبو إسحاق الشيرازي، والرازي، وجماعة من الفقهاء.
ومنعه الجويني، والغزالي، والآمدي3،
وهو قول عامة الحنفية، وأكثر الشافعية. واختاره ابن الحاجب، وابن الهمام، وجماعة
من المتأخرين. وليس النزاع فيما ثبت تعميمه بالنقل، كالرجل، والضارب، أو
بالاستقراء، كرفع الفعل، ونصب المفعول، بل النزاع فيما إذا سمي مسمى باسم في هذا
الاسم -باعتبار أصله من حيث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الوسط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن الطيب الباقلاني،
الإمام العلامة، أوحد المتكلمين ومقدم الأصوليين، القاضي أبو بكر، البصري،
البغدادي، ولد سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، وتوفي سنة ثلاث وأربعمائة هـ، من
تصانيفه: "إعجاز القرآن"، "الإنصاف" وغيرها. ا. هـ. سير أعلام البنلاء "17/
190"، هدية العارفين "2/ 95"،
الأعلام "6/ 176".
2 هو أحمد بن عمر بن سريج البغدادي،
شيخ الإسلام، فقيه العراقيين، القاضي الشافعي، ولد سنة بضع وأربعين ومائتين هـ،
وتوفي سنة ست ثلاثمائة هـ، ا. هـ. شذرات الذهب "2/ 247"، سير أعلام
النبلاء "14/ 201".
3 هو أبو الحسن على بن محمد،
التغلبي، سيف الدين الآمدي، والحنبلي، ثم الشافعي، العلامة المصنف، ولد سنة نيف
وخمسين وخمسمائة هـ، له كتاب "أبكار الأفكار" في الكلام، توفي سنة إحدى
وثلاثين وستمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "22/ 364"، الأعلام
"4/ 332"، هدية العارفين "1/ 707".
ج / 1 ص -50- الاشتقاق أو غيره- معنى
يظن اعتبار هذا المعنى في التسمية، لأجل دوران ذلك الاسم مع هذا المعنى، وجودًا
وعدمًا، ويوجد ذلك المعنى في غير ذلك الاسم.
فهل يتعدى ذلك الاسم المذكور إلى ذلك
الغير بسبب وجود ذلك المعنى فيه، فيطلق ذلك الاسم عليه حقيقة؛ إذ لا نزاع في جواز
الإطلاق مجازًا إنما الخلاف في الإطلاق حقيقة، وذلك كالخمر، الذي هو اسم للنيء من
ماء العنب، إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، إذا أطلق على النبيذ إلحاقًا له بالنيء
المذكور بجامع المخامرة للعقل، فإنها معنى في الاسم، يظن اعتباره في تسمية النيء
المذكور به، لدوران التسمية معه، فمهما لم توجد في ماء العنب لا يسمى خمرًا بل
عصيرًا، وإذا وجدت فيه سمي به، وإذا زالت عنه لم يسم به، بل خلا، وقد وجد ذلك في
النبيذ، أو يخص اسم الخمر بمخامر للعقل، هو ماء العنب المذكور، فلا يطلق حقيقة على
النبيذ، وكذلك تسمية النباش سارقًا للأخذ بالخفية، واللائط زانيًا للإيلاج المحرم.
احتج المجوزون: بأن دوران الاسم مع
المعنى وجودًا وعدمًا يدل على أنه المعتب؛ لأن يفيد الظن.
وأجيب: بأن إفادة الدوران لذلك
ممنوعة، لما سيأتي1 في مسالك العلة، ويعد التسليم لإفادة الدوران، وكونه طريقًا
صحيحة، فنقول: إن أردتم بدوران الاسم مع المعنى المذكور، دورانًا مطلقًا، سواء وجد
في أفراد المسمى أو غيرها بادعاء ثبوت الاسم في كل مادة يوجد فيها ذلك المعنى،
وانتفائه في كل ما لم يوجد فيه بطريق النقل، فغير المفروض؛ لأن ما يوجد فيه ذلك
المعنى حينئذ يكون من أفراد المسمى، فلا يتحقق إلحاق فرع بأصل، وإن أردتم بدوران
الاسم مع المسمى أن يدور معه في الأصل المقيس عليه فقط، لوجود الاسم في كل مادة
يوجد فيها المسمى، وانتفائه في كل ما لم يوجد فيه، منعنا كونه طريقًا مثبتًا تسمية
الشيء باسم لمشاركة المسمى في معنى دار الاسم معه وجودًا وعدمًا، وإن سلمنا كونه
طريقًا صحيحة لإثبات الحكم في الشرعيات، فذلك لا يستلزم إثبات كونه طريقًا صحيحة في
إثبات الاسم، وتعديته من محل إلى محل آخر؛ لأن القياس في الشرعيات سمعي، ثبت
اعتباره بالسماع من الشارع، وتعبدنا به، لا أنه عقلي.
وأجيب ثانيًا: بالمعارضة على سبيل
القلب، بأنه دار أيضًا مع المحل، ككونه ماء العنب، ومال الحي، ووطأ في القبل، فدل
على أنه معتبر، والمعنى جزء من العلة.
ومن قال بقطع النباش، وحد شارب
النبيذ فذلك لعموم دليل السرقة، والحد، أو لقياسهما على السارق والخمر قياسًا
شرعيًّا في الحكم، لا لأنه يسمى النباش سارقًا، والنبيذ خمرًا بالقياس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر "2/ 140".
ج / 1 ص -51- في اللغة، كما زعمتم،
وأيضًا القياس في اللغة إثبات بالمحتمل، وهو غير جائز؛ لأنه كما يحتمل التصريح
باعتباره، يحتمل التصريح بمنعه، وأيضًا لا يصح الحكم بالوضع بمجرد الاحتمال المجرد
عن الرجحان وأيضًا هذه اللغة العربية قد تقدم1 الخلاف هل هي توقيفية، أو اصطلاحية،
وعلى القولين، فلا طريق إليها إلا النقل فقط، وعلى القول بالتفصيل كذلك؛ لأنه راجع
إلى القولين.
وإذا عرفت هذا علمت أن الحق منع
إثبات اللغة بالقياس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة "41".
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم
الأصول
ج / 1 ص -52- الفصل الرابع: في تقسيم
اللفظ إلى مفرد ومركب
اعلم: أن اللفظ إن قصد بجزء منه
الدلالة على جزء معناه، فهو مركب، وإلا فهو مفرد.
والمفرد: إما واحد، أو متعدد، وكذلك
معناه، فهذه أربعة أقسام:
الأول:
الواحد للواحد، إن لم يشترك في
مفهومه كثيرون، لا محققًا، ولا مقدرا، فمعرفة لتعينه إما مطلقًا، أي: وضعًا
واستعمالًا فعلم، "شخصي، وجزئي" حقيقي، إن
كان فردًا، أو مضافًا بوضعه الأصلي، سواء كان العهد، أي: اعتبار الحضور لنفس
الحقيقة أو لحصة منها معينة مذكورة، أو في حكمها، أو مبهمة من حيث الوجود، معينة
من حيث التخصيص، أو لكل من الحصص، وإما بالإشارة الحسية فاسمها وأما بالعقلية، فلا
بد من دليلها سابقًا كضمير الغائب، أو معًا كضميري المخاطب، والمتكلم، أو لاحقًا،
كالموصولات.
وإن اشترك في مفهومه كثيرون تحقيقًا
أو تقديرًا فكلي، فإن تناول الكثير على أنه واحد فجنس وإلا فاسم الجنس.
وأيا ما كان فتناوله لجزئياته: إن
كان على وجه التفاوت بأولية، أو أولوية أو أشدية، فهو المشكك، وإن كان تناوله لها
على السوية فهو المتواطئ.
وكل واحد من هذه الأقسام إن لم
يتناول وضعًا إلا فردًا معينًا فخاص، خصوص البعض، وإن تناول الأفراد واستغرقها
فعام، سواء استغرقها مجتمعة، أو على سبيل البدل، والأول يقال له العموم الشمولي،
والثاني البدلي وإن لم يستغرقها، فإن تناول مجموعًا غير محصور فيسمى عامًّا عند من
لم يشترط الاستغراق، كالجمع المنكر، وعند من اشترط واسطة.
والراجح: أنه خاص؛ لأن دلالته على
أقل الجمع قطعية، كدلالة المفرد على الواحد.
وإن لم يتناول مجموعًا بل واحدًا أو
اثنين أو يتناول محصورًا فخاص، خصوص الجنس أو النوع.
الثاني:
اللفظ المتعدد للمعنى المتعدد، ويسمى
المتباين، سواء تفاصلت أفراده كالإنسان، والفرس، أو تواصلت كالسيف، والصارم.
ج / 1 ص -53- الثالث:
اللفظ الواحد للمعنى المتعدد فإن وضع
لكل، فمشترك، وإلا فإن اشتهر في الثاني فمنقول ينسب إلى ناقله، وإلا فحقيقة ومجاز.
الرابع:
اللفظ المتعدد للمعنى الواحد، ويسمى
المترادف.
وكل من الأربعة ينقسم إلى مشتق، وغير
مشتق، وإلى صفة وغير صفة.
ثم دلالة اللفظ على تمام ما وضع له
مطابقة، وعلى جزئه تضمن، وعلى الخارج التزام.
وجميع ما ذكرنا ههنا قد بين في علوم معروفة
فلا نطيل البحث فيه، ولكنا نذكرها ههنا خمس مسائل تتعلق بهذا العلم تعلقًا تاما.
المسألة الأولى: في الاشتقاق
الاشتقاق: أن تجد بين اللفظين
تناسبًا في المعنى والتركيب، فترد أحدهما إلى الآخر.
وأركانه أربعة:
أحدها: اسم موضوع لمعنى.
وثانيها: شيء آخر له نسبة إلى ذلك
المعنى.
وثالثها: مشاركة بين هذين الاسمين في
الحروف الأصلية.
ورابعها: تغيير يلحق ذلك الاسم في
حرف فقط، أو حركة فقط، أو فيهما معا، وكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة إما أن يكون
بالزيادة أو النقصان، أو بهما معًا، فهذه تسعة أقسام:
أحدها: زيادة الحركة.
ثانيها: زيادة الحرف.
ثالثها: زيادتهما.
رابعها: نقصان الحركة.
خامسها: نقصان الحرف.
سادسها: نقصانهما.
سابعها: زيادة لحركة مع نقصان الحرف.
ثامنها: زيادة الحرف مع نقصان الحركة.
تاسعها: أن يزاد فيه حركة وحرف،
وينقص عنه حركة وحرف.
وقيل: تنتهي أقسامه إلى خمسة عشر،
وذلك لأنه يكون إما بحركة، أو حرف بزيادة أو نقصان، أو بهما، والتركيب مثنى وثلاث
ورباع.
ج / 1 ص -54- وينقسم إلى الصغير
والكبير والأكبر لأن المناسبة أعم من الموافقة، فمع الموافقة في الحروف والترتيب
صغير، وبدون الترتيب كبير، نحو: جذب وجبذ1، وكنى
"ونكى"*2 وبدون الموافقة أكبر لمناسبة ما كالمخرج في ثلم وثلب3، أو
الصفة، كالشدة4 في الرجم والرقم5 فالمعتبر في الأولين الموافقة وفي الأخير
المناسبة.
والاشتقاق الكبير والأكبر ليس من غرض
الأصولي؛ لأن المبحوث عنه في الأصول إنما هو المشتق بالاشتقاق الصغير.
واللفظ ينقسم إلى قسمين:
صفة: وهي ما دل على ذات مبهمة غير
معينة، بتعيين شخصي، ولا جنسي، متصفة بمعين كضارب، فإن معناه: ذات ثبت لها الضرب.
وغير صفة وهو ما لا يدل على ذات
مبهمة متصفة بمعين.
ثم اختلفوا، هل بقاء وجه الاشتقاق
شرط لصدق الاسم المشتق، فيكون للمباشر حقيقة اتفاقا، وفي الاستقبال مجازًا
اتفاقًا، وفي الماضي الذي قد انقطع خلاف مشهور بين الحنفية والشافعية:
فقالت الحنفية: مجاز.
وقالت الشافعية: حقيقة، وإليه ذهب
ابن سينا6 من الفلاسفة7، وأبو هشام من المعتزلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ناك وهو تحريف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جبذت الشيء: مثل جذبته، مقلوب منه.
ا. هـ. الصحاح مادة جبذ.
2 نكيت في العدو نكاية: إذا قتلت
فيهم وجرحت. ا. هـ. الصحاح مادة نكى.
3 الثلب: شدة اللوم والأخذ باللسان،
وثلبه ثلبًا: إذا صرح بالعيب وتنقصه. ا. هـ. لسان العرب والصحاح مادة ثلب.
والثلم: الخلل في الحائط وغيره.
4 لغة: القوة، وسميت حروفها شديدة
"يعني خص ضغط قظ" لمنعها النفس أن يجري معها لقوتها في مخارجها. ا. هـ.
الدقائق المحكمة في شرح المقدمة الجزرية 39.
5 القتل، وإنما قيل للقتل رجم: لأنهم
كانوا إذا قتلوا رجلًا رموه بالحجارة حتى يقتلوه، ثم قيل لكل قتل رجم. ا. هـ. لسان
العرب مادة رجم.
والرقم: والترقيم: تعجيم الكتاب،
ورقم الكتاب يرقمه رقمًا: أعجمه وبينه. ا. هـ. اللسان مادة رقم.
6 هو الحسين بن عبد الله، أبو علي،
العلامة الشهير، الفيلسوف، المعروف، بابن سينا الرئيس، ولد سنة سبعين وثلاثمائة
هـ، وتوفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة هـ، بهمذان، من تآليفه: "الأدوية
القلبية"، "الإشارات" وغيرها. ا. هـ. هدية العارفين "1/ 308"، سير أعلام النبلاء "17/
531"، إيضاح المكنون "2/ 555".
7 الفلسفة: مشتقة من كلمة يونانية:
وهي: فيلاسوفيا وتفسيرها: محبة الحكمة، فلما
عربت قيل: فيلسوف، ثم اشقت الفلسفة منه، ومعنى الفلسفة: علم حقائق الاشياء، والعمل
بما هو أصلح.
والفلاسفة أنكروا حدوث العلم، وعلمه
تعالى بالجزئيات، وحشر الأجساد، فكفروا بذلك. ا. هـ. مفاتيح العلوم
"153"، تحفة المريد "68".
ج / 1 ص -55- احتج القائلون
بالاشتراط: بأن الضارب بعد انقضاء الضرب يصدق عليه أنه ليس بضارب، وإذا صدق عليه
ذلك، وجب أن لا يصدق عليه أنه ضارب؛ لأن قولنا ضارب يناقضه -في العرف- قولنا ليس
بضارب.
وأجيب: بمنع أن نفيه في الحال يستلزم
نفيه مطلقا، فإن الثبوت في الحال أخص من الثبوت مطلقًا، ونفي الأخص لا يستلزم نفي
الأعم، إلا أن يراد النفي المقيد بالحال لا نفي المقيد بالحال.
وأجيب أيضًا بأن اللازم النفي في
الجملة، ولا ينافي الثبوت في الجملة، إلا أن يقال: إن الاعتبار بالمنافاة في اللغة
لا في العقل.
واحتجوا ثانيًا: بأنه لو صح إطلاق
المشتق إطلاقًا حقيقيًّا، باعتبار ما قبله، لصح باعتبار ما بعده، ولا يصح اتفاقًا.
وأجيب: بمنع الملازمة فإنه قد يشترط
المشترك بين الماضي والحال، وهو كونه ثبت له الضرب.
واحتج النافون بإجماع أهل اللغة على
صحة ضارب أمس والأصل في الإطلاق الحقيقة.
وأجيب: بأنه مجاز بدليل إجماعهم على
صحة ضارب غدًا وهو مجاز اتفاقًا.
ويجاب عنه: بأن مجازيته لعدم تلبسه
بالفعل، لا في الحال، ولا في الماضي، فلا يستلزم مجازية ضارب أمس.
والحق: أن إطلاق المشتق على الماضي
الذي قد انقطع حقيقة؛ لاتصافه بذلك في الجملة.
وقد ذهب قوم إلى التفصيل فقالوا: إن
كان معناه ممكن البقاء اشترط بقاؤه، فإذا مضى وانقطع فمجاز، وإن كان غير ممكن
البقاء لم يشترط بقاؤه، فيكون إطلاقه عليه حقيقة.
وذهب آخرون إلى الوقف ولا وجه له،
فإن أدلة صحة الإطلاق الحقيقي على ما مضى وانقطع ظاهرة قوية.
ج / 1 ص -56- المسألة الثانية: في
الترادف
هو توالي الألفاظ المفردة الدالة على
مسمى واحد، باعتبار معنى واحد.
فيخرج عن هذه الأدلة اللفظين على
"شيء"* واحد لا باعتبار واحد بل باعتبار صفتين كالصارم والمهند، أو
باعتبار الصفة وصفة الصفة، كالفصيح والناطق.
والفرق بين الأسماء المترادفة
والأسماء المؤكدة، أن المترادفة تفيد فائدة واحدة من غير تفاوت أصلا.
وأما المؤكدة: فإن الاسم الذي وقع به
التأكيد يفيد تقوية المؤكد أو "دفع"** توهم التجوز، أو السهو أو عدم
الشمول.
وقد ذهب الجمهور إلى إثبات الترادف
في اللغة العربية، وهو الحق.
وسببه إما تعدد
"الوضع"***، أو توسيع دائرة التعبير، وتكثير وسائله، وهو المسمى عند
"أهل البيان"****، بالافتنان، أو تسهيل مجال النظم، والنثر، وأنواع
البديع، فإنه قد "يصلح"***** أحد اللفظين المترادفين للقافية، أو الوزن،
أو السجعة1 دون الآخر، وقد يحصل التجنيس2، والتقابل3، والمطابقة4، ونحو ذلك:
"بهذا"****** دون هذا، وبهذا يندفع ما قاله المانعون لوقوع الترادف، في
اللغة من أنه لو وقع لعري عن الفائدة، لكفاية أحدهما، فيكون الثاني من باب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": مسمى.
** في "أ": رفع.
*** في "أ": الوضع.
**** في "أ": الشأن.
***** في "أ": يحصل.
****** في "أ": هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو توافق الفاصلتين في الحرف
الأخير من النثر، نحو {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} ا. هـ. جواهر البلاغة
"404".
2 هو الجناس وهو: تشابه لفظين في
النطق، واختلافهما في المعنى، وهو لفظي ومعنوي، نحو: "سميته يحيى
ليحيا". ا. هـ. جواهر البلاغة "396".
3 وهو المقابلة: وهو أن يؤتي بمعنيين
متوافقين أو معان متوافقة ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب، كقوله تعالى:
{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}.
4 وهو الطباق: وهو الجمع بين
متقابلين في المعنى.
مثاله: قوله تعالى {ثُمَّ لا يَمُوتُ
فِيهَا وَلا يَحْيَى}. ا. هـ. جواهر البلاغة "366-367".
ج / 1 ص -57- العبث، ويندفع أيضًا ما
قالوه: من أنه يكون من تحصيل الحاصل، ولم يأتوا بحجة مقبولة في مقابلة ما هو معلوم
بالضرورة، من وقوع الترادف في لغة العرب، مثل: الأسد والليث، والحنطة، والقمح،
والجلوس والقعود، وهذا كثير جدًّا وإنكاره مباهتة.
وقولهم: إن ما يظن أنه من الترادف،
هو من اختلاف الذات والصفة، كالإنسان والبشر، أو الصفات كالخمر لتغطية العقل
والعقار لعقره أو لمعاقرته، أو اختلاف الحالة السابقة كالقعود من القيام والجلوس
من الاضطجاع، تكلف ظاهر، وتعسف بحت، وهو وإن أمكن تكلف مثله في بعض المواد
المترادفة، فإنه لا يمكن في أكثرها، يعلم هذا كل عالم بلغة العرب، فالعجب من نسبة
المنع من الوقوع إلى مثل ثعلب1، وابن فارس2 مع توسعهما في هذا العلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبو العباس، أحمد بن يحيى بن
زيد، إمام الكوفيين في اللغة والنحو، المعروف بثعلب، ولد ببغداد سنة مائتين هجرية،
وتوفي فيها سنة إحدى وتسعين ومائتين، وهو حجة مشهور بالحفظ، من آثاره: "قواعد
الشعر"، و"الفصيح". ا. هـ. تذكرة الحفاظ
"20/ 666"، هدية العارفين "1/ 54".
2 هو أحمد بن فارس زكريا، القزويني،
الرازي، المالكي، اللغوي، أبو الحسين توفي في الري سنة خمس وتسعين وثلاثمائة هـ،
من آثاره: "مقاييس اللغة" "اختلاف النحاة" ا.
هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 103"، هدية
العارفين "1/ 68"، الأعلام "1/ 193".
المسألة الثالثة: في المشترك
وهو اللفظة الموضوعة لحقيقتين
مختلفتين أو أكثر، وضعًا أولا، من حيث هما كذلك.
فخرج بالوضع: ما يدل على الشيء
بالحقيقة، وعلى غيره بالمجاز، "وخرج بقيد: أولًا: المنقول"*، وخرج بقيد الحيثية: المتواطئ فإنه يتناول الماهيات
المختلفة، لكن لا من حيث هي كذلك، بل من حيث إنها مشتركة في معنى واحد.
وقد اختلف أهل العلم في المشترك:
فقال قوم: إنه واجب الوقوع في لغة العرب، وقال آخرون: إنه ممتنع الوقوع وقالت
طائفة: إنه جائز الوقوع.
احتج القائلون بالوجوب: بأن الألفاظ
متناهية، والمعاني غير متناهية، والمتناهي إذا وزع على غير المتناهي لزم الاشتراك،
ولا ريب في عدم تناهي المعاني؛ لأن الأعداد منها، وهي غير متناهية بلا خلاف.
واحتجوا ثانيًا: بأن الألفاظ العامة
-كالموجود، والشيء- ثابتة في لغة العرب، وقد ثبت أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ج / 1 ص -58- وجود كل شيء نفس ماهيته
فيكون وجود الشيء مخالفًا لوجود الآخر، مع أن كل واحد منهما يطلق عليه لفظ الموجود
بالاشتراك.
وأجيب عن الدليل الأول: بمنع عدم
تناهي المعاني، إن أريد بها المختلفة، أو المتضادة، وتسليمه مع منع عدم وفاء
الألفاظ بها، إن أريد المتماثلة المتحدة في الحقيقة، أو المطلقة فإن الوضع للحقيقة
المشتركة كاف في التفهيم.
وأيضًا: لو سلم عدم تناهي كل منها،
لكان عدم تناهي ما يحتاج إلى التعبير والتفهيم ممنوعًا.
وأيضًا: لا نسلم تناهي الألفاظ،
لكونها متركبة من المتناهي، فإن أسماء العدد غير متناهية، مع تركبها من الألفاظ
المتناهية.
وأجيب عن الدليل الثاني: بأنا لا
نسلم أن الألفاظ العامة ضرورية في اللغة، وإن سلمنا ذلك، لا نسلم أن الموجود مشترك
لفظي، لم لا يجوز أن يكون مشتركًا معنويًّا؟ وإن سلمنا ذلك، لم لا يجوز اشتراك
الموجودات كلها في حكم واحد، سوى الوجود وهو المسمى بتلك اللفظة العامة؟
واحتج القائلون بالامتناع: بأن
المخاطبة باللفظ المشترك لا يفيد فهم المقصود على التمام، وما كان كذلك يكون منشأ
للمفاسد.
وأجيب: بأنه لا نزاع في أنه لا يحصل
الفهم التام بسماع اللفظ المشترك، لكن هذا القدر لا يوجب نفيه؛ لأن أسماء الأجناس
غير دالة على أحوال تلك المسميات، لا نفيًا، ولا إثباتا، والأسماء المشتقة لا تدل
على تعيين الموصوفات ألبتة، ولم يستلزم ذلك نفيها، وكونها غير ثابتة في اللغة.
واحتج من قال بجواز الوقوع وإمكانه:
بأن المواضعة تابعة لأغراض المتكلم، وقد يكون للإنسان غرض في تعريف غيره شيئًا على
التفصيل، وقد يكون غرضه تعريف ذلك الشيء على الإجمال، بحيث يكون ذكر التفصيل سببًا
للمفسدة، كما روي عن أبي بكر -رضي الله عنه- أنه قال لمن سأله عن الهجرة عن النبي
-صلى الله عليه وسلم- من هو؟ فقال: "هو رجل يهدني السبيل"1.
ولأنه ربما لا يكون المتكلم واثقًا
بصحة الشيء على التعيين، إلا أنه يكون واثقًا بصحة وجود أحدهما لا محالة، فحينئذ
يطلق اللفظ المشترك لئلا يكذب، ولا يُكذَّب، ولا يظهر جهله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة
"2/ 490" وذكره الكاندهلوي في "حياة الصحابة" بلفظ:
"فإذا لقيه لاقٍ فيقول لأبي بكر: من هذا معك؟ فيقول: هادٍ يهديني الطريق.
يريد الهدى في الدين ويحسب الآخر دليلًا" "1/ 338".
ج / 1 ص -59- بذلك فإن أي معنى لا يصح فله أن يقول إنه كان مرادي الثاني، وبعد
هذا كله فلا يخفاك أن المشترك موجود في هذه اللغة العربية لا ينكر ذلك إلا مكابر
كالقرء فإنه مشترك بين الطهر والحيض مستعمل فيهما من غير ترجيح وهو معنى الاشتراك،
وهذا لا خلاف فيه بين أهل اللغة وقد أجيب عن هذا بمنع كون القرء حقيقة فيها لجواز
مجازية أحدهما وخفاء موضع الحقيقة ورد بأن المجاز إن استغنى عن القرينة التحق
بالحقيقة وحصل الاشتراك وهو المطلوب وإلا فلا تساوي، ومثل القرء العين فإنها
مشتركة بين معانيها المعروفة وكذا الجون مشترك بين الأبيض والأسود وكذا عسعس مشترك
بين أقبل وأدبر وكما هو واقع في لغة العرب بالاستقراء فهو أيضًا واقع في الكتاب والسنة
فلا اعتبار بقول من قال إنه غير واقع في الكتاب فقط أو غير واقع فيهما لا في اللغة.
المسألة الرابعة: الخلاف في استعمال
المشترك في أكثر من معنى
اختلف في جواز استعمال اللفظ المشترك
في معنييه أو معانيه.
فذهب الشافعي1، والقاضي أبو بكر،
وأبو على الجبائي، والقاضي عبد الجبار بن أحمد2، والقاضي جعفر3، والشيخ
"الحسن"*4، وبه قال الجمهور، وكثير من أئمة أهل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الشيخ حسن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن إدريس، أبو عبد الله،
صاحب المذهب المعروف، ولد سنة خمسين ومائة هجرية، وتوفي سنة أربع ومائتين هـ، من
آثاره كتاب "الأم". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 5"، تذكرة
الحفاظ "1/ 361".
2 هو أبو الحسن، الهمداني،
الأسداباذي، المعتزلي، القاضي عبد الجبار، صاحب التصانيف، وكان شافعي المذهب، توفي
سنة خمس عشرة وأربعمائة هـ، من آثاره: "المغني في أبواب التوحيد والعدل"
و"دلائل النبوة". ا. هـ. شذرات الذهب "3/ 203"، هدية العارفين
"1/ 498"، إيضاح المكنون "1/ 329"، سير أعلام النبلاء
"17/ 244".
3 هو جعفر بن علي بن تاج الدين
الظفيري، فقيه، زيدي، نشأ بوطنه حصن الظفير، تولى القضاء، توفي بالظفر سنة تسع
ومائة وألف هـ، ومن آثاره: "هداية
الأكياس إلى عرفان أسرار لب الأساس" مجلد واحد ضخم. ا. هـ. معجم المؤلفين
"3/ 141"، الأعلام "2/ 126".
4 هو الحسن بن إسماعيل بن الحسين بن
محمد المغربي، الصنعاني حفيد شارح بلوغ المرام، وأحد شيوخ الشوكاني، المتوفى سنة
ثمان ومائتين وألف. ا. هـ. البدر الطالع "1/ 196".
ج / 1 ص -60- البيت إلى جوازه.
وذهب أبو هاشم، "وأبو
الحسن"*1 البصري، والكرخي2، إلى امتناعه.
ثم اختلفوا: فمنهم من منع منه لأمر
يرجع إلى القصد، ومنهم من منع منه لأمر يرجع إلى الوضع.
والكلام ينبني على بحث هو: هل يلزم
من كون اللفظ لمعنيين، أو معانٍ على البدل، أن يكون موضوعًا لهما أو لها على
الجمع، أم لا؟
فقال المانعون: إن المعلوم بالضرورة
المغايرة بين المجموع، وبين كل واحد من الأفراد؛ لأن الوضع تخصيص لفظ بمعنى، فكل
وضع يوجب أن لا يراد باللفظ إلا هذا "الموضوع"** له، ويوجب أن يكون هذا
المعنى تمام المراد باللفظ، فاعتبار كل من الوضعين ينافي اعتبار الآخر، فاستعماله
للمجموع استعمال له في غير ما وضع له وأنه غير جائز.
وإن قلنا: إن ذلك اللفظ وضع للمجموع،
فلا يخلو إما أن يستعمل لإفادة المجموع وحده، مع إفادة أفراده، فإن كان الأول لم
يكن اللفظ مفيدًا إلا لأحد مفهوماته؛ لأن الواضع وضعه بإزاء أمور ثلاثة على البدل،
وأحدها ذلك المجموع، فاستعمال اللفظ فيه وحده لا يكون استعمالًا له في كل مفهوماته،
وإن قلنا: إنه مستعمل في إفادة المجموع والأفراد على البدل، فهو محال كما قدمنا.
واحتج المجوزون بأمور:
أحدها: أن الصلاة من الله رحمة، ومن
الملائكة استغفار، ثم إن الله سبحانه أراد بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبي}3 كلا المعنيين، وهذا هو الجمع بين معنى المشترك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": أبو الحسن وهو
تحريف.
** في "أ": الموضع والصواب
الموضوع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن علي بن الطيب، أبو
الحسن البصري، شيخ المعتزلة، صاحب التصانيف الكلامية، كان فصيحًا بليغًا، يتوقد
ذكاء، توفي ببغداد في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وأربعمائة هجرية، من آثاره: كتاب
"تصفح الأدلة" "المعتمد".
ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 587"، هدية العارفين "2/ 96".
2 هو عبيد الله بن الحسين، انتهت
إليه رياسة الحنفية بالعراق ولد سنة ستين ومائتين، وتوفي سنة أربعين وثلاثمائة
هجرية، من آثاره: "شرح الجامع الكبير" "المختصر" "شرح
الجامع الصغير". ا. هـ. الفوائد جزء من الآية "56" من سورة الاحزاب.
ج / 1 ص -61- وأجيب: بأن هذه الآية
ليس فيها استعمال الاسم المشترك في أكثر من معنى واحد؛ لأن سياق الآية لإيجاب
اقتداء المؤمنين بالله، وملائكته في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا بد
من اتحاد معنى الصلاة في الجميع؛ لأنه لو قيل: إن الله يرحم النبي، والملائكة
يستغفرون له، يا أيها الذين آمنوا ادعوا له، لكان هذا الكلام في غاية الركاكة،
فعلم أنه لا بد من اتحاد معنى الصلاة، سواء كان معنى حقيقيًّا، أو معنى مجازيًّا،
أما الحقيقي: فهو الدعاء، فالمراد أنه سبحانه يدعو ذاته بإيصال الخير إلى النبي
-صلى الله عليه وسلم- ثم من لوازم هذا الدعاء الرحمة، فالذي قال: إن الصلاة من
الله الرحمة، قد أراد هذا المعنى، لا أن الصلاة وضعت للرحمة.
وأما المجازي: فكإرادة الخير، ونحو
ذلك، مما يليق بهذا المقام، ثم إن اختلف ذلك لأجل اختلاف الموصوف فلا بأس به، ولا
يكون هذا من باب الاشتراك، بحسب الوضع.
واحتجوا -أيضًا- بقوله سبحانه:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ} الآية1، فإنه نسب السجود إلى العقلاء وغيرهم، كالشجر، والدواب، فما نسب
إلى غير العقلاء يراد به الانقياد، لا وضع الجبهة على الأرض، وما نسب إلى العقلاء
يراد به وضع الجبهة على الأرض، إذ لو كان المراد الانقياد لما قال {وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاس}2؛ لأن الانقياد شامل لجميع الناس.
وأجيب: بأنه يمكن أن يراد بالسجود
الانقياد في الجميع، وما ذكروا من أن الانقياد شامل لجميع الناس باطل؛ لأن الكفار
لم ينقادوا.
ويمكن أن يراد بالسجود وضع الرأس على
الأرض في الجميع، فلا يحكم باستحالته من الجمادات، إلا من يحكم باستحالة التسبيح
من الجمادات، وباستحالة الشهادة من الجوارح والأعضاء يوم القيامة.
إذا عرفت هذا لاح لك عدم جواز الجمع
بين معنى المشترك، أو معانيه، ولم يأت من جوزه بحجة مقبولة.
وقد قيل: إنه يجوز الجمع مجازًا، لا
حقيقة، وبه قال جماعة من المتأخرين,
وقيل: يجوز إرادة الجمع لكن بمجرد
القصد، لا من حيث اللغة، وقد نسب هذا إلى الغزالي والرازي.
وقيل: يجوز الجمع في النفي لا في الإثبات،
فيقال مثلًا: ما رأيت عينًا، ومراده العين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "18" من
سورة الحج.
2 جزء من الآية "18" من
سورة الحج.
ج / 1 ص -62- الجارحة، وعين الذهب،
وعين الشمس، وعين الماء، ولا يصح أن يقال: عندي عين، وتراد هذه المعاني بهذه اللفظ.
وقيل: بإرادة الجميع في الجمع، فيقال
مثلًا: عندي عيون، ويراد تلك المعاني، وكذا المثنى، فحكمه حكم الجمع، فيقال مثلًا:
عندي جونان، ويراد أبيض وأسود، ولا يصح إرادة المعنيين، أو المعاني بلفظ المفرد،
وهذا الخلاف إنما هو في المعاني التي يصح الجمع بينها، وفي المعنيين اللذين يصح
الجمع بينهما، لا في المعاني المتناقضة.
المسألة الخامسة في الحقيقة والمجاز
وفيها عشرة أبحاث:
البحث الأول في تفسير لفظي الحقيقة
والمجاز:
أما الحقيقة: فهي فعيلة من حق الشيء،
بمعنى ثبت، والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة.
وفعيل في الأصل: قد يكون بمعنى
الفاعل، وقد يكون بمعنى المفعول، فعلى التقدير الأول: يكون معنى الحقيقة الثابتة،
وعلى الثاني يكون معناها المثبتة.
وأما المجاز: فهو مفعل، من الجواز
الذي هو التعدي، كما يقال: جزت "موضع كذا"* أي: جاوزته وتعديته، أو من
الجواز الذي هو قسيم الوجوب والامتناع، وهو راجع إلى الأول؛ لأن الذي لا يكون
واجبًا ولا ممتنعا، يكون مترددًا بين الوجود والعدم، فكأنه ينتقل من هذا إلى هذا،
"ومن هذا إلى هذا"**.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": هذا الموضع.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
البحث الثاني في حدهما:
فقيل في حد الحقيقة: إنها اللفظ
المستعمل فيما وضع له.
فيشمل هذا الوضع اللغوي، والشرعي،
والعرفي، والاصطلاحي.
وزاد جماعة في هذا الجد قيدًا، وهو
قولهم: في اصطلاح التخاطب؛ لأنه إذا كان التخاطب
ج / 1 ص -63- باصطلاح، واستعمل فيه
ما وضع له في اصطلاح آخر، لمناسبة بينه وبين ما وضع له في اصطلاح التخاطب، كان
مجازًا مع أنه لفظ مستعمل فيما وضع له.
وزاد آخرون في هذا الحد قيدًا،
فقالوا: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولًا لإخراج مثل ما ذكر.
وقيل في حد الحقيقة: إنها ما أفيد
بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به.
وقيل في حدها: إنها كل كلمة أريد بها
عين ما وضعت له في وضع واضع، وضعًا لا يستند فيه إلى غيره.
وأما المجاز: فهو اللفظ المستعمل في
غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة.
وقيل هو اللفظ المستعمل في غير ما
وضع له أولًا، على وجه يصح.
وزيادة قيد: على وجه يصح لإخراج مثل
استعمال لفظ الأرض في السماء.
وقيل في حده -أيضًا-: إنه ما كان بضد
معنى الحقيقة.
البحث الثالث: الحقائق اللغوية
والعرفية والشرعية والخلاف في ثبوتها وثمرة ذلك:
قد اتفق أهل العلم على ثبوت الحقيقة
اللغوية والعرفية.
واختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية،
وهي اللفظ الذي استفيد من "الشرع"* وضعه
للمعنى، سواء كان اللفظ والمعنى مجهولين عند أهل اللغة أو كانا معلومين لكنهم لم
يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى، أو كان أحدهما مجهولًا والآخر معلومًا.
وينبغي أن يعلم قبل ذلك الخلاف
والأدلة من الجانبين أن الشرعية هي اللفظ المستعمل فيما وضع له بوضع الشارع، لا
بوضع أهل الشرع كما ظن.
فذهب الجمهور إلى إثباتها، وذلك
كالصلاة، والزكاة، والصوم والمصلي والمزكي والصائم وغير ذلك فمحل النزاع الألفاظ
المتداولة شرعًا، المستعملة في غير "معانيها اللغوية"**.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الشارع.
** في "أ": ما و ضع له في
اللغة.
ج / 1 ص -64- فالجمهور جعلوها حقائق
شرعية بوضع الشارع لها.
وأثبت المعتزلة أيضًا مع الشرعية
حقائق دينية، فقالوا إن ما استعمله الشارع في معان غير لغوية ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الأسماء التي أجريت على
الأفعال، وهي الصلاة والصوم والزكاة ونحو ذلك.
والقسم الثاني: الأسماء التي أجريت
على الفاعلين كالمؤمن والكافر والفاسق ونحو ذلك.
فجعلوا القسم الأول حقيقة شرعية
والقسم الثاني: حقيقة دينية، وإن كان الكل على السواء في أنه عرف شرعي.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني وبعض
المتأخرين ورجحه الرازي أنها مجازات لغوية غلبت في المعاني الشرعية لكثرة دورانها
على ألسنة أهل الشرع.
وثمرة الخلاف: أنها إذا وردت في كلام
الشارع مجردة عن القرينة هل تحمل على المعاني الشرعية أو على اللغوية؟
فالجمهور قالوا بالأول والباقلاني
ومن معه قالوا بالثاني.
قالوا أما في كلام المتشرعة فيحمل
على الشرعي اتفاقًا لأنها قد صارت حقائق عرفية بينهم وإنما النزاع في كون ذلك بوضع
الشارع وتعيينه إياها بحيث تدل على تلك المعاني بلا قرينة فتكون حقائق شرعية أو
بغلبتها في لسان أهل الشرع فقط ولم يضعها الشارع بل استعملها مجازات لغوية لقرائن
فتكون حقائق عرفية خاصة لا شرعية.
احتج الجمهور بما هو معلوم شرعًا أن
الصلاة في لسان الشارع وأهل الشرع لذات الأذكار والأركان والزكاة لأداء مال مخصوص
والصيام لإمساك مخصوص والحج لقصد مخصوص وأن هذه المدلولات هي المتبادرة عند
الإطلاق وذلك علامة الحقيقة بعد أن كانت الصلاة في اللغة للدعاء والزكاة للنماء
والصيام للإمساك مطلقًا والحج للقصد مطلقًا
وأجيب عن هذا بأنها باقية في معانيها
اللغوية والزيادات شروط والشرط خارج عن المشروط.
ورد بأنه يستلزم أن لا يكون مصليًا
من لم يكن داعيًا كالأخرس.
وأجيب أيضًا بأنه لا يلزم من سبق
المعاني الشرعية عند الإطلاق ثبوت الحقائق الشرعية لجواز صيرورتها بالغلبة حقائق
عرفية خاصة لأهل الشرع وإن لم تكن حقائق شرعية بوضع الشارع
ج / 1 ص -65- ورد بأنه إن أريد بكون
اللفظ مجازًا أن الشارع استعمله في معناه لمناسبة للمعنى اللغوي ثم اشتهر فأفاد
بغير قرينة فذلك معنى الحقيقة الشرعية فثبت المدعي وإن أريد أن أهل اللغة استعملوه
في هذه المعاني وتبعهم الشارع في ذلك فخلاف الظاهر للقطع بأنها معان حادثة ما كان
أهل اللغة يعرفونها.
واحتج القاضي ومن معه بأن إفادة هذه
ألفاظ لهذه المعاني لو لم تكن لغوية لما كان القرآن كله عربيًّا وفساد اللازم يدل
على فساد الملزوم، أما الملازمة فلأن هذه الألفاظ مذكورة في القرآن فلو لم تكن
إفادتها لهذه المعاني عربية لزم أن لا يكون القرآن عربيًّا.
وأما فساد اللازم فلقوله سبحانه:
{قُرْآنًا عَرَبِيًّا}1 وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ
قَوْمِه}2.
وأجيب بأن إفادة هذه الألفاظ لهذه
المعاني وإن لم تكن عربية لكنها في الجملة ألفاظ عربية فإنهم كانوا يتكلمون بها في
الجملة وإن كانوا يعنون بها غير هذه المعاني وإذا كان كذلك كانت هذه الألفاظ عربية
فالملازمة ممنوعة.
وأجيب أيضًا: بأنا لا نسلم أنها ليست
بعربية على تسليم أنها مجازات لغوية جعلها الشارع حقائق شرعية لأن المجازات عربية
وإن لم "تصرح"* العرب بآحادها فقد جوزوا نوعها وذلك يكفي في نسبة
المجازات بأسرها إلى لغة العرب وإلا لزم "أنها"** كلها ليست بعربية
واللازم باطل فالملزوم مثله.
ولو سلمنا أن المجازات العربية التي
صارت حقائق بوضع الشارع ليست بعربية لم يلزم أن يكون القرآن غير عربي بدخولها فيه
لأنها قليلة جدًّا والاعتبار بالأغلب فإن الثور الأسود لا يمنع إطلاق اسم الأسود
عليه بوجود شعرات بيض في جلده على أن القرآن يقال بالاشتراك على مجموعه وعلى كل
بعض منه فلا تدل الآية على أنه كله عربي كما يفيده قوله في سورة يوسف {إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}3 والمراد منه تلك السورة.
وأيضًا: الحروف المذكورة في أوائل
السور ليست بعربية و"المشكاة"4 لغة حبشية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": تصرح.
** في "أ": كونها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "28" من
سورة الزمر.
2 جزء من الآية "4" من
سورة إبراهيم عليه السلام.
3 جزء من الآية "2" من
سورة يوسف عليه السلام.
4 قال الفراء: المشكاة: الكوة التي
ليست بنافذة. ا. هـ. الصحاح مادة شكو وقد وردت هذه الكلمة في القرآن في سورة النور
الآية "35".
وقال في اللسان: إنها من كلام العرب،
وقيل: إنها حبشية. ا. هـ. اللسان مادة شكا.
ج / 1 ص -66- والإستبرق"1
و"السجيل"2 فارسيان و"القسطاس"3 من لغة الروم.
وإذا عرفت هذا تقرر لك ثبوت الحقائق
الشرعية، وعلمت أن نافيها لم يأت بشيء يصلح للاستدلال كما أوضحناه وهكذا الكلام
فيما سمته المعتزلة حقيقة دينية فإنه من جملة الحقائق الشرعية كما قدمنا4 فلا حاجة
إلى تطويل البحث فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الزجاج، هو الديباج الصفيق
الغليظ الحسن، وهو اسم أعجمي أصله بالفارسية استقره، ونقل من العجمية، إلى
العربية. ا. هـ. لسان العرب والمعجم الوسيط مادة استبرق وقد وردت هذه الكلمة في
القرآن في سورة الكهف الآية:31".
2 حجارة كالمدر، وفي التنزيل العزيز
{تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} وقيل: هو حجر من طين، معرب دخيل، وهو:
سنك وكل أي حجارة وطين. ا. هـ. لسان العرب مادة سجل وقد وردت هذه الكلمة في القرآن
في سورة الفيل الآية "4".
3 القِسطاس والقُسطاس: أعدل الموازين
وأقومها. ا. هـ. لسان العرب والصحاح مادة قسطس وقد وردت هذه الكلمة في القرآن في
سورة الإسراء الآية "35".
4 انظر صفحة: "63".
البحث الرابع: المجاز واقع في لغة
العرب عند جمهور أهل العلم
وخالف في ذلك أبو إسحاق الإسفراييني
وخلافه هذا يدل أبلغ دلالة على عدم اطلاعه على لغة العرب وينادي بأعلى صوت بأن سبب
هذا الخلاف تفريطه في الاطلاع على ما ينبغي الاطلاع عليه من هذه اللغة الشريفة وما
اشتملت عليه من الحقائق والمجازات التي لا تخفى على من له أدنى معرفة بها.
وقد استدل بما هو أوهن من بيت
العنكبوت، فقال: "إنه"* لو كان المجاز واقعًا في لغة العرب لزم الإخلال
بالتفاهم إذ قد تخفى القرينة.
وهذا التعليل عليل فإن تجويز خفاء
القرينة أخفى من السُّها1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كوكب خفي في بنات نعش الكبرى،
والناس يمتحنون به أبصارهم، وفي المثل: أريها السها تريني القمر. ا. هـ. الصحاح
مادة سها.
ج / 1 ص -67- واستدل صاحب المحصول
لهذا القائل بأن اللفظ لو أفاد المعنى على سبيل المجاز، فأما أن يفيد مع القرينة
أو بدونها والأول باطل لأنه مع القرينة المخصوصة لا يحتمل غير ذلك فيكون هو مع تلك
القرينة حقيقة لا مجازًا والثاني باطل لأن اللفظ لو أفاد معناه المجازي بدون
قرينة. لكان حقيقة فيه إذ لا معنى للحقيقة إلا كونها مستقلة بالإفادة بدون قرينة.
وأجاب عنه بأن هذا نزاع في العبارة.
ولنا أن نقول اللفظ الذي لا يفيد إلا
مع القرينة هو المجاز، ولا يقال للفظة مع القرينة حقيقة فيها لأن دلالة القرينة
ليست دلالة وضعية حتى يجعل المجموع لفظًا واحدًا دالًّا على المسمى.
وعلى كل حال: فهذا "القول"* لا ينبغي الاشتغال بدفعه ولا التطويل في رده فإن
وقوع المجاز وكثرته في اللغة العربية أشهر من نار على علم وأوضح من شمس النهار.
قال ابن جني1: أكثر اللغة مجاز.
وقد قيل إن أبا علي الفارسي2 قائل
بمثل هذه المقالة التي قالها الإسفراييني وما أظن مثل أبي علي يقول ذلك فإنه إمام
اللغة العربية الذي لا يخفى على مثله مثل هذا الواضح البين الظاهر الجلي.
وكما أن المجاز واقع في لغة العرب
فهو أيضًا واقع في الكتاب العزيز عند الجماهير وقوعًا كثيرًا بحيث لا يخفى إلا على
من لا يفرق بين الحقيقة والمجاز.
وقد روي عن الظاهرية3: نفيه في
الكتاب العزيز وما هذا بأول مسائلهم التي جمدوا فيها جمودًا يأباه الإنصاف وينكره
الفهم ويجحده العقل.
وأما ما استدل به لهم من أن المجاز
كذب لأنه ينفي فيصدق نفيه وهو باطل لأن الصادق إنما هو نفي الحقيقة فلا ينافي صدق إثبات
المجاز وليس في المقام من الخلاف ما يقتضي ذكر بعض المجازات الواقعة في القرآن
والأمر أوضح من ذلك، وكما أن المجاز واقع في الكتاب العزيز وقوعًا كثيرًا فهو
أيضًا واقع في السنة وقوعًا كثيرًا والإنكار لهذا الوقوع مباهتة لا يستحق المجاوبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عثمان بن جني، أبو الفتح، من
أئمة الأدب والنحو، صرفي لغوي، توفي ببغداد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة هجرية، عن
نحو خمس وستين عامًا، من آثاره: "سر الصناعة" "شرح ديوان
المتنبي". ا. هـ. شذرات الذهب "3/ 140"،
الأعلام "4/ 204".
2 هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار،
الفارسي، الفسوي، أبو علي، إمام النحو، ولد سنة ثمان وثمانين ومائتين هـ، وتوفي
سنة سبع وسبعين وثلاثمائة هجرية، من آثاره: "أبيات الإعراب" "أبيان
المعاني". ا. هـ. سير أعلام النبلاء
"16/ 379"، هدية العارفين "1/ 272".
3 وهي فرقة تنسب إلى مؤسسها داود بن
على الظاهري الأصفهاني شيخ أهل الظاهر، وستأتي ترجمته في الصفحة "135"،
ويقال لها الداوودية، وهم يأخذون بالظاهر ويرفضون التأويل والرأي. ا. هـ. مفاتيح
العلوم "46". وسير أعلام النبلاء "13/ 97".
ج / 1 ص -68- البحث الخامس: علاقات
الحقيقة والمجاز
إنه لا بد من العلاقة في كل مجاز
فيما بينه وبين الحقيقة.
والعلاقة هي اتصال للمعنى المستعمل
فيه بالموضوع له وذلك الاتصال إما باعتبار الصورة كما في المجاز المرسل أو باعتبار
المعنى كما في الاستعارة وعلاقتها المشابهة وهي الاشتراك في معنى مطلقًا لكن يجب
أن تكون ظاهرة الثبوت لمحله والانتفاء عن غيره كالأسد للرجل الشجاع لا الأبخر1.
والمراد الاشتراك في الكيف فيندرج
تحت مطلق العلاقة المشاكلة الكلامية كإطلاق الإنسان على الصورة المنقوشة ويندرج
تحتها أيضًا المطابقة2 والمناسبة3 والتضاد المنزل منزلة التناسب لتهكم نحو:
{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم}4 فهذا الاتصال المعنوي.
وأما الاتصال الصوري فهو إما في
اللفظ وذلك في المجاز بالزيادة والنقصان وفي المشاكلة البديعية وهي الصحبة
الحقيقية أو التقديرية.
وقد تكون العلاقة باعتبار ما مضى وهو
الكون عليه كاليتيم للبالغ أو باعتبار المستقبل وهو الأول إليه كالخمر للعصير أو
باعتبار الكلية والجزئية كالركوع "في الصلاة"*، واليد فيما وراء الرسغ،
والحالية والمحلية، كاليد في القدرة، والسببية والمسببية، والإطلاق والتقييد
واللزوم، والمجاورة، والظرفية، والمظروفية، والبدلية، والشرطية، والمشروطية
والضدية5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": للصلاة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخر: نتن الفم، وقد بخر فهو
أبخر. ا. هـ. لسان العرب والصحاح مادة بخر.
2 وتسمى بالتضاد وبالتطبيق وبالتكافؤ
وبالتطابق، وهو أن يجمع المتكلم في كلامه بين لفظين يتنافى وجود معناهما معا في
شيء واحد في وقت واحد. ا. هـ. جواهر البلاغة
"366".
3 هي العلاقة الموجودة بين الحقيقة
والمجاز.
4 جزء من الآية "34" من
سورة التوبة و"24" الانشقاق.
5 السببية والمسببية: مثل
"رعينا الغيث" أي: النبات الذي سببه الغيث. =
ج / 1 ص -69- ومن العلاقات: إطلاق
المصدر على الفاعل، أو المفعول كالعلم في العالم أو المعلوم.
ومنها: تسمية إمكان الشيء باسم
وجوده، كما يقال للخمر التي في الدن: إنها مسكرة.
ومنها: إطلاق اللفظ المشتق بعد زوال
المشتق منه.
وقد جعل بعضهم في إطلاق اسم السبب
على المسبب أربعة أنواع: القابل، والصورة، والفاعل، والغاية، أي تسمية الشيء باسم
قابله نحو سال الوادي، وتسمية الشيء باسم صورته كتسمية القدرية باليد وتسمية الشيء
باسم فاعله حقيقة أو ظنًّا كتسمية المطر بالسماء والنبات بالغيث وتسمية الشيء باسم
غايته كتسمية العنب بالخمر.
وفي إطلاق اسم المسبب على السبب أربعة
أنواع على العكس من هذه المذكورة قبل هذا.
"وعند"* بعضهم من العلاقات
الحلول في محل واحد، كالحياة في الإيمان والعلم، وكالموت في ضدهما، والحلول في
محلين متقاربين، كرضى الله في رضى رسوله، والحلول في حيزين متقاربين، كالبيت في
الحرم كما في قوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}1.
وهذه الأنواع راجعة إلى علاقة
الحالية والمحلية كما أن الأنواع السابقة مندرجة تحت علاقة السببية والمسببية فما
ذكرناه ههنا مجموعة أكثر من ثلاثين علاقة.
وعد بعضهم من العلاقات ما لا تعلق
لها بالمقام كحذف المضاف نحو {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة}2 يعني أهلها، وحذف المضاف
إليه نحو: أنا ابن جلا3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": عند.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= - الإطلاق والتقييد: نحو قوله
تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء}.
- اللزوم: نحو "نطقت الحال
بكذا" أي: دلت.
- المجاورة: نحو "سال
الوادي" أي: الماء المجاور له.
- الظرفية والمظروفية: نحو قوله
تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} والغائظ اسم للمطمئن من
الأرض وسمي الحدث به مجازًا لأنه يكون في المطمئن من الأرض عادة.
- البدلية: مثل "فلان أكل
الدم" أي: الدية.
- الشرطية: نحو قوله تعالى: {وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: صلاتكم.
- المشروطية: كإطلاق العلم على
المعلوم.
- الضدية: نحو قوله تعالى:
{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: أنذرهم.
ا. هـ. نسمات الأسحار
"75"، التلويح على التوضيح "1/ 72".
1 جزء من الآية "97" من
سورة آل عمران.
2 جزء من الآية "82" من
سورة يوسف عليه السلام.
3 هذا جزء من صدر بيت وتمامه:
ج / 1 ص -70- أي أنا ابن رجل جلا.
والنكرة في الإثبات إذا جعلت للعموم
نحو {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ}1 أي: كل نفس والمعرف باللام إذا أريد به
الواحد المنكر نحو {ادْخُلُوا
عَلَيْهِمُ الْبَاب}2 أي بابًا من أبوابها والحذف نحو {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}3 أي كراهة أن تضلوا والزيادة
كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء}4.
ولو كانت هذه معتبرة لكانت العلاقات
نحو أربعين علاقة لا كما قال بعضهم إنها لا تزيد على إحدى عشرة.
وقال آخر لا تزيد على عشرين.
وقال آخر لا تزيد عن خمس وعشرين
فتدبر.
واعلم أنه لا يشترط النقل في آحاد
المجاز، بل العلاقة كافية، والمعتبر نوعها، ولو كان نقل آحاد المجاز معتبرًا لتوقف
أهل العربية في التجوز على النقل ولوقعت منهم التخطئة لمن استعمل غير المسموع من
المجازات وليس كذلك بالاستقراء.
ولذلك لم يدونوا المجازات كالحقائق
وأيضًا لو كان نقليًّا لاستغنى عن النظر في العلاقة لكفاية النقل.
وإلى عدم اشتراط نقل آحاد المجاز ذهب
الجمهور، وهو الحق. ولم يأت من اشترط ذلك بحجة تصلح لذكرها وتستدعي التعرض لدفعها.
وكل من له علم وفهم يعلم أن أهل اللغة العربية ما زالوا يخترعون المجازات عند وجود
العلاقة ونصب القرينة وهكذا من جاء بعدهم من أهل البلاغة في فني النظم والنثر
ويتمادحون باختراع الشيء الغريب من المجازات عند وجود المصحح للتجوز ولم يسمع عن
واحد منهم خلاف هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الآية "14" من سورة
التكوير.
2 جزء من الآية "23" من
سورة المائدة.
3 جزء من الآية "176" من
سورة النساء.
4 جزء من الآية "11" من
سورة الشورى.
البحث السادس: في قرائن المجاز
اعلم: أن القرينة إما خارجة عن
المتكلم والكلام، أي: لا تكون معنى في المتكلم وصفة له، ولا تكون من جنس الكلام، أو
تكون معنى في المتكلم أو تكون من جنس الكلام.
ج / 1 ص -71- وهذه القرينة التي تكون
من جنس الكلام إما لفظ خارج عن هذا الكلام الذي يكون المجاز فيه بأن يكون في كلام
آخر لفظ يدل على عدم إرادة المعنى الحقيقي أو غير خارج عن هذا الكلام بل هو عينه
أو شيء منه يكون دالًّا على عدم إرادة الحقيقة.
ثم هذا القسم على نوعين:
إما أن يكون بعض الأفراد أولى من بعض
في دلالة ذلك اللفظ عليه كما لو قال كل مملوك لي حر فإنه لا يقع على المكاتب مع
أنه عبد ما بقي عليه درهم فيكون هذا اللفظ مجازًا من حيث إنه مقصور على بعض الأفراد
"أو لا يكون أولى وهو ظاهر"*.
أما القرينة التي تكون لمعنى في
المتكلم فكقوله سبحانه: {وَاسْتَفْزِزْ
مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم} الآية [64 من سورة الإسراء] فإنه سبحانه لا يأمر
بالمعصية.
وأما القرينة الخارجة عن الكلام
فكقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِن} فإن سياق
الكلام وهو قوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} [الكهف: 29] يخرجه عن أن يكون للتخيير.
"ونحو"**: طلق امرأتي إن
كنت رجلًا فإن هذا لا يكون توكيلًا لأن قوله إن كنت رجلًا يخرجه عن ذلك فانحصرت
القرينة في هذه الأقسام.
ثم القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي
قد تكون عقلية وقد تكون حسية وقد تكون عادية وقد تكون شرعية فلا تختص قرائن المجاز
بنوع من هذه الأنواع دون نوع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط "من
"أ".
** في "أ": ونحو قوله.
البحث السابع: في الأمور التي يعرف
بها المجاز ويتميز عندها عن الحقيقة
اعلم: أن الفرق بين الحقيقة والمجاز
إما أن يقع بالنص أو الاستدلال:
أما "النص"* فمن وجهين:
الأول: أن يقول الواضع: هذا حقيقة
وذاك مجاز.
الثاني: أن يذكر الواضع حد كل واحد
منهما بأن يقول: هذا مستعمل فيما وضع له، وذاك مستعمل في غير ما وضع له، ويقوم
مقام الحد ذكر خاصة كل واحد منهما.==
* في "أ": بالنص.
ج / 1 ص -72- وأما الاستدلال فمن
وجوه ثلاثة:
الأول أن يسبق المعنى إلى أفهام أهل
اللغة عند سماع اللفظ بدون قرينة فيعلم بذلك أنه حقيقة فيه فإن كان لا يفهم منه
المعنى المراد إلا بالقرينة فهو المجاز.
واعترض على هذا بالمشترك المستعمل في
معنييه أو معانيه فإنه لا يتبادر أحدهما أو أحدها لولا القرينة المعينة للمراد مع
أنه حقيقة.
وأجيب: بأنها "تتبادر"*
جميعها عند من قال بجواز حمل المشترك على جميع معانيه ويتبادر أحدها لا بعينه عند
من منع من حمله على جميع معانيه.
ورد بأن علامة المجاز تصدق حينئذ على
المشترك المستعمل في المعين إذ يتبادر غيره وهو علامة المجاز مع أنه حقيقة فيه.
ودفع هذا الرد بأنه إنما يصح ذلك لو
تبادر أحدهما لا بعينه على أنه المراد واللفظ موضوع للقدر المشترك مستعمل فيه.
وأما إذا علم أن المراد أحدهما بعينه
إذ اللفظ يصلح لهما وهو مستعمل في أحدهما ولا يعلمه فذلك كافٍ في كون المتبادر غير
المجاز فلا يلزم كونه للمعين مجازًا.
الثاني: صحة النفي للمعنى المجازي
وعدم صحته للمعنى الحقيقي في نفس الأمر، واعترض بأن العلم بعدم صحة النفي موقوف
على العلم بكونه حقيقة فإثبات كونه حقيقة به دور ظاهر وكذا العلم بصحة النفي موقوف
على العلم بأن ذلك المعنى ليس من المعاني الحقيقية وذلك موقوف على العلم بكونه
مجازًا فإثبات كونه مجازًا به دور.
وأجيب بأن سلب بعض المعاني الحقيقية
كافٍ فيعلم أنه مجاز فيه وإلا لزم الاشتراك وأيضًا إذا علم معنى اللفظ الحقيقي
والمجازي ولم يعلم أيهما المراد أمكن أن يعلم "بصحة"** نفي المعنى
الحقيقي أن المراد هو المعنى المجازي وبعدم صحته أن المراد هو المعنى الحقيقي.
الثالث: عدم اطراد المجاز وهو أن لا
يجوز استعماله في محل مع وجود سبب الاستعمال المسوغ لاستعماله في محل آخر كالتجوز
بالنخلة للإنسان الطويل دون غيره مما فيه طول وليس الاطراد دليل الحقيقية فإن المجاز
قد يطرد كالأسد للشجاع.
واعترض:بأن عدم الاطراد قد يوجد في
الحقيقة كالسخي، والفاضل، فإنهما لا يطلقان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": يتبادر.
** في "أ": بصحته.
ج / 1 ص -73- على الله سبحانه مع
وجودهما على وجه الكمال فيه، وكذا القارورة لا تطلق على غير الزجاجة، مما يوجد
معنى الاستقرار فيه كالدن1. وأجيب عنه: بأن
الأمارة عدم الاطراد لا لمانع لغة أو شرعا، ولم يتحقق فيما ذكرتم من الأمثلة فإن
الشرع منع من إطلاق السخي، والفاضل على الله سبحانه، واللغة منعت من إطلاق
القارورة على غير الزجاجة.
وقد ذكروا غير هذه الوجوه مثل قولهم
من العلامات الفارقة بين الحقيقة والمجاز أنها إذا علقت الكلمة بما يستحيل تعليقها
به علم أنها في أصل اللغة غير موضوعة له فيعلم أنها مجاز فيه.
ومنها:أن يضعوا اللفظة لمعنى، ثم
يتركوا استعماله إلا في بعض معانيه المجازية، ثم استعملوه بعد ذلك في غير ذلك الشيء،
فإنا نعلم كونه من المجاز العرفي مثل:استعمال لفظ الدابة في "الحمار"*.
ومنها: امتناع الاشتقاق، فإنه دليل
على كون اللفظ مجازًا.
منها: أن تختلف صيغة الجمع على
الاسم، فيجمع على صيغة مخالفة لصيغة جمعه لمسمى آخر، هو فيه حقيقة.
ومنها: أن المعنى الحقيقي إذا كان
متعلقًا بالغير، فإنه إذا استعمل فيما لا يتعلق به شيء كان مجازًا، وذلك كالقدرة
إذا أريد بها الصفة كانت متعلقة بالمقدور وإذا أطلقت على النبات الحسن لم يكن لها
متعلق فيعلم كونها مجازًا فيه.
ومنها: أن يكون إطلاقه على أحد
مسمييه متوقفًا على تعلقه بالآخر نحو: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}2؛ ولا يقال:
مكر الله ابتداء.
ومنها: لا يستعمل إلا مقيدًا ولا
يستعمل للمعنى المطلق كنار الحرب، وجناح الذل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الحمال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إناء كهيئة الحب،
"الجرة" إلا أنه أطول منه، وأوسع رأسًا، والجمع دنان، ا. هـ. المصباح
المنير مادة دنن.
2 جزء من الآية "54" من
سورة آل عمران.
ج / 1 ص -74- البحث الثامن: عدم
اتصاف اللفظ قبل الاستعمال بالحقيقة والمجاز
في أن اللفظ قبل الاستعمال لا يتصف
بكونه حقيقة ولا بكونه مجازًا لخروجه عن حد كل واحد منهما، إذ الحقيقة هي اللفظ
المستعمل فيما وضع له، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له.
وقد اتفقوا على أن الحقيقة لا تستلزم
المجاز؛ لأن اللفظ قد يستعمل في ما وضع له، ولا يستعمل في غيره، وهذا معلوم لكل
عالم بلغة العرب.
واختلفوا هل يستلزم المجاز الحقيقة؛
أم لا؟ بل يجوز أن يستعمل اللفظ في غير ما وضع له، ولا يستعمل في ما وضع له أصلا.
فقال جماعة: إن المجاز يستلزم
الحقيقة. واستدلوا على ذلك: بأنه لو لم يستلزم لخلا الوضع عن الفائدة، وكان عبثًا
وهو محال.
أما الملازمة: فلأن ما لم يستعمل لا
يفيد فائدة، وفائدة الوضع: إنما هي إعادة المعاني المركبة، وإذا لم يستعمل لم يقع
في التركيب فانتفت فائدته.
وأما بطلان اللازم فظاهر.
وأجيب بمنع انحصار
"فائدة"* في إفادة المعاني المركبة، فإن صحة التجوز فائدة.
واستدل القائلون: بعدم الاستلزام
-وهم الجمهور- بأنه لو استلزم المجاز الحقيقة لكانت لنحو شابت لمة الليل أي: أبيض
الغسق، وقامت الحرب على ساق أي اشتدت حقيقة واللازم منتفٍ.
وأجيب عن هذا بجوابين، جدلي وتحقيقي:
أما الجدلي فبأن الإلزام مشترك لأن
نفس الوضع لازم للمجاز، فيجب أن تكون هذه المركبات موضوعة لمعنى متحقق وليس كذلك.
وأما التحقيقي: فباختيار أن لا مجاز
في المركب، بل في المفردات، ولها وضع واستعمال، ولا مجاز في التركيب حتى يلزم أن
يكون له معنى. ومن اتبع عبد القاهر1 في أن المجاز مفرد ومركب ويسمى عقليًّا،
وحقيقة عقلية،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": فائدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد القاهر بن الرحمن الجرجاني،
أبو بكر، شيخ العربية، توفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة هـ، من تصانيفه:
"أسرار البلاغة" "دلائل الإعجاز في المعاني والبيان". ا. هـ.
هدية العارفين "1/ 606"، سير أعلام النبلاء "18/
432".
ج / 1 ص -75- لكونهما في الإسناد،
سواء كان طرفاه حقيقتين، نحو: سرتني رؤيتك أو مجازين نحو أحياني اكتحالي بطلعتك أو
مختلفين فإن اتبعه في عدم الاستلزام -أيضًا فذاك وإلا فله أن يجيب: بأن مجازات
الأطراف لا مدخل لها فيه، ولها حقائق مجاز الإسناد ليس لفظًا، حتى يطلب لعينه
حقيقة ووضع بل له معنى حقيقة بغير هذا اللفظ، واجتماع المجازات لا يستلزم اجتماع حقائقها.
ومن قال بإثبات المجاز المركب في
الاستعارة التمثيلية1، نحو طارت به العنقاء2، وأراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى، فلا بد
أن يقول بعدم الاستلزام. ومن نفى المجاز المركب أجاب عن المجاز العقلي بأنه من
الاستعارة التبعية3 وذلك؛ لأن عرف العرب أن يعتبروا القابل فاعلًا، نحو مات فلان، وطلعت
الشمس ولم يلتزموا الإسناد إلى الفاعل الحقيقي كما في أنبت الله، وخلق الله فكذا
سرتني رؤيتك؛ لأنها قابلة لإحداث الفرح ونحوها من الصور الإسنادية.
وأشف ما استدلوا به قولهم: إن الرحمن
مجاز في الباري سبحانه؛ لأنه معناه ذو الرحمة، ومعناه الحقيقي -وهو رقة القلب- لا
وجود له، ولم يستعمل في غيره تعالى.
وأجيب: بأن العرب قد استعملته في
المعنى الحقيقي، فقالوا لمسيلمة4: هو رحمان اليمامة.
ورد: بأنهم لم يريدوا بهذا الإطلاق
أن مسيلمة رقيق القلب حتى يرد النقض به، ومما يستدل به للنافي أن أفعال المدح
والذم هي أفعال ماضية ولا دلالة لها على الزمان الماضي فكانت مجازات لا حقائق لها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو تركيب استعمل في غير ما وضع له
لعلاقة المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة معناه الوضعي. نحو: "إني أراك تقدم
رجلًا وتؤخر أخرى"، يضرب لمن يتردد في أمر، فتاوة يحجم، وتارة يقدم.ا. هـ.
جواهر البلاغة "333".
2 أصل العنقاء: طائر عظيم، معروف
الاسم، مجهول الجسم.ا. هـ. لسان العرب والصحاح مادة عنق.
3 هي الاستعارة التي تجري في اللفظ
المشتق أو الفعل. ا. هـ. جواهر البلاغة "312".
4 هو مسيلمة الكذاب ابن ثمامة،
الحنفي، الوائلي، متنبئ، من المعمرين، ولد ونشأ باليمامة، وتوفي سنة اثنتي عشرة
هجرية، سنة فتح اليمامة على يدي سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه. ا. هـ. شذرات
الذهب "1/ 23"، الكامل لابن الأثير "2/ 203"، الأعلام
"7/ 226".
ج / 1 ص -76- البحث التاسع: في اللفظ
إذا دار بين أن يكون مجازًا أو مشتركًا
هل يرجح المجاز على الاشترك أو
الاشترك على المجاز؟
فرجح قوم الأول، ورجح آخرون الثاني.
استدل الأولون بأن المجاز أكثر من
الاشتراك في لغة العرب، فرجح الأكثر على الأقل، قال ابن جني: أكثر اللغة مجاز وبأن
المجاز معمول به مطلقًا، فبلا قرينة حقيقة، ومعها مجاز والمشترك بلا قرينة مهمل،
والإعمال أولى من الإهمال، وبأن المجاز أبلغ من الحقيقة كما هو مقرر في علم
المعاني والبيان، وبأنه أوجز كما في الاستعارة فهذه فوائد للمجاز، وقد ذكروا غيرها
من الفوائد التي لا مدخل لها في المقام، وذكروا للمشترك مفاسد منها: إخلاله بالفهم
عند خفاء القرينة عند من لا يجوز حمله على معنييه أو معانيه، بخلاف المجاز فإنه
عند خفاء القرينة يحمل على الحقيقة.
ومنها: تأديته إلى مستبعد من نقيض أو
ضد كالقرء إذا أطلق مرادًا به الحيض فيفهم منه الطهر أو بالعكس.
ومنها احتياجه إلى قرينتين: إحداهما
"معينة"* للمعنى المراد، والأخرى "معينة"* للمعنى الآخر بخلاف المجاز فإنه تكفي فيه قرينة
واحدة.
واحتج الآخرون: بأن للاشتراك فوائد
لا توجد في المجاز، وفي المجاز مفاسد لا توجد في المشترك.
فمن الفوائد: أن المشترك مطرد فلا
يضطرب، بخلاف المجاز فقد لا يطرد كما تقدم1.
ومنها: الاشتقاق منه بالمعنيين،
فيتسع الكلام نحو أقرأت المرأة بمعنى حاضت وطهرت والمجاز لا يشتق منه، وإن صلح له
حال كونه حقيقة.
ومنها: صحة التجوز باعتبار
"معنيي"** المشترك فتكثر بذلك الفوائد.
وأما مفاسد المجاز التي لا توجد في
المشترك فمنها: احتياجه إلى الوضعين الشخصي والنوعي، والشخصي باعتبار معناه الأصلي
والفرعي للعلاقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": تعينه.
** في "أ": معنى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "74".
ج / 1 ص -77- والمشترك يكفي فيه
الوضع الشخصي، ولا يحتاج إلى النوعي لعدم احتياجه إلى العلاقة.
ومنها: أن المجاز مخالف للظاهر، فإن
الظاهر المعنى الحقيقي، لا المجازي، بخلاف المشترك، فإنه ليس ظاهرًا في بعض،
معانيه دون بعض، حتى يلزم بإرادة أحدها مخالفة الظاهر.
ومنها: أن المجاز قد يؤدي إلى الغلط
عند عدم القرينة، فيحمل على المعنى الحقيقي، بخلاف المشترك، فإن معانيه كلها
حقيقية.
وقد أجيب عن هذه الفوائد والمفاسد
التي ذكرها الأولون والآخرون. والحق أن الحمل على المجاز أولى من الحمل على
الاشتراك لغلبة المجاز بلا خلاف، والحمل على الأعم الأغلب دون القليل النادر متعين.
واعلم أن التعارض الحاصل بين أحوال
الألفاظ لا يختص بالتعارض بين المشترك والمجاز، فإن الخلل في فهم مراد المتكلم
يكون على خمسة أوجه:
أحدها: احتمال الاشتراك.
وثانيها: احتمال النقل بالعرف أو
الشرع.
وثالثها: احتمال المجاز.
ورابعها: احتمال الإضمار.
وخامسها: احتمال التخصيص.
ووجه كون هذه الوجوه تؤثر خللًا في
فهم مراد المتكلم: أنه إذا انتفى احتمال الاشتراك والنقل، كان اللفظ موضوعًا لمعنى
واحد، وإذا انتفى احتمال المجاز والإضمار كان المراد من اللفظ ما وضع له، وإذا
انتفى احتمال التخصيص كان المراد باللفظ جميع ما وضع له، فلا يبقى عند ذلك خلل في
الفهم.
والتعارض بين هذه يقع في عشرة وجوه؛
لأنه يقع بين الاشتراك وبين الأربعة الباقية، ثم بين النقل وبين الثلاثة الباقية،
ثم بين المجاز والوجهين الباقيين، ثم بين الإضمار والتخصيص.
فإذا وقع التعارض بين الاشتراك والنقل،
فقيل: إن النقل أولى؛ لأنه يكون اللفظ عند النقل لحقيقة واحدة مفردة في جميع
الأوقات، والمشترك مشترك في الأوقات كلها.
وقيل: الاشتراك أولى؛ لأنه لا يقتضي
"نسخ"*وضع سابق، والنقل يقتضيه.
وأيضًا: لم ينكر وقوع المشترك في لغة
العرب أحد من أهل العلم، وأنكر النقل كثير منهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*في "أ": فسخ.
ج / 1 ص -78- وأيضًا قد لا يعرف
النقل فيحمل السامع ما سمعه من اللفظ على المعنى الأصلي، فيقع الغلط.
وأيضًا: المشترك أكثر وجودًا من
المنقول.
وهذه الوجوه ترجح الاشتراك على
النقل، وهي أقوى مما استدل به من رجح النقل، وأما التعارض بين المشترك والمجاز:
فقد تقدم1 تحقيقه في صدر هذا البحث.
وأما التعارض بين الاشتراك والإضمار،
فقيل: إن الإضمار أولى؛ لأن الإجمال الحاصل بسبب الإضمار مختص ببعض الصور،
والإجمال الحاصل بسبب الاشتراك عام في كل الصور، فكان إخلاله بالفهم أكثر من إخلال
الإضمار به.
وقيل: إن الاشتراك أولى؛ لأن الإضمار
محتاج إلى ثلاث قرائن، قرينة تدل على أصل الإضمار، وقرينة تدل على موضع الإضمار،
وقرينة تدل على نفس المضمر، والمشترك يفتقر إلى قرينتين كما سبق، فكان الإضمار
أكثر إخلالًا بالفهم.
وأجيب: بأن الإضمار وإن افتقر إلى
تلك القرائن الثلاث، فذلك في صورة واحدة، بخلاف المشترك، فإنه يفتقر إلى القرينتين
في صور متعددة، فكان أكثر إخلالًا بالفهم، على أن الإضمار من باب الإيجاز، وهو من
محسنات الكلام.
وأما التعارض بين الاشتراك والتخصيص
فقيل: التخصيص أولى؛ لأن التخصيص أولى من المجاز، وقد تقدم2 أن المجاز أولى من
الاشتراك. وأما التعارض بين النقل والمجاز، فقيل المجاز أولى؛ لأن النقل يحتاج إلى
اتفاق أهل اللسان على تغيير الوضع، وذلك متعذر أو متعسر، والمجاز يحتاج إلى قرينة
مانعة عن فهم الحقيقة وذلك متيسر.
وأيضًا المجاز أكثر من النقل والحمل
على الأكثر مقدم، وأيضًا في المجاز ما قدمنا3 من الفوائد وليس شيء من ذلك في
المنقول.
وأما التعارض بين النقل والتخصيص،
فقيل: التخصيص أولى لما تقدم من أن التخصيص مقدم على المجاز، والمجاز مقدم على
النقل.
وأما التعارض بين المجاز والإضمار،
فقيل هما سواء، وقيل المجاز أولى؛ لأن الإضمار يحتاج إلى ثلاث قرائن كما تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة "76".
2 انظر صفحة: "76".
3 انظر صفحة: "76".
ج / 1 ص -79- وأما التعارض بين
المجاز والتخصيص: فالتخصيص أولى؛ لأن السامع إذا لم يجد قرينة تدل على التخصيص حمل
اللفظ على عمومه، فيحصل مراد المتكلم، وأما في المجاز فالسامع إذا لم يجد قرينة
لحمله على الحقيقة، فلا يحصل مراد المتكلم.
وأما التعارض بين الإضمار والتخصيص:
فالتخصيص أولى لما تقدم من أن التخصيص مقدم على المجاز، والمجاز هو والإضمار سواء،
وهو أولى من الإضمار.
البحث العاشر: في الجمع بين الحقيقة
والمجاز
ذهب جمهور أهل العربية، وجميع
الحنفية، وجمع من المعتزلة، والمحققون من الشافعية، إلى أنه لا يستعمل اللفظ في
المعنى الحقيقي والمجازي، حال كونهما مقصودين بالحكم، بأن يراد كل واحد منهما.
وأجاز ذلك بعض الشافعية، وبعض
المعتزلة كالقاضي عبد الجبار، وأبي علي الجبائي1 مطلقًا إلا أن لا يمكن الجمع
بينهما كافعل أمرًا وتهديدًا فإن الأمر طلب الفعل، والتهديد يقتضي الترك فلا
يجتمعان معًا.
وقال الغزالي، وأبو الحسين: إنه يصح استعماله
فيهما عقلًا لا لغة، إلا في غير المفرد كالمثنى والمجموع، فيصح استعماله فيهما لغة
لتضمنه المتعدد كقولهم: القلم أحد اللسانين2.
ورجح هذا التفصيل ابن الهمام، وهو
قوي؛ لأنه قد وجد المقتضى وفقد المانع فلا يمتنع عقلًا إرادة غير المعنى الحقيقي،
مع المعنى الحقيقي بالمتعدد. واحتج المانعون
مطلقًا: بأن المعنى المجازي يستلزم ما يخالف المعنى الحقيقي، وهو قرينة عدم
إرادته، فيستحيل اجتماعهما. وأجيب: بأن ذلك الاستلزام إنما هو عند عدم قصد
التعميم، أما معه فلا، واحتجوا ثانيًا: بأنه كما يستحيل في الثوب الواحد أن يكون
ملكًا وعارية في وقت واحد، كذلك يستحيل في اللفظ الواحد أن يكون حقيقة ومجازًا.
وأجيب بأن الثوب ظرف حقيقي للملك، والعارية، واللفظ ليس بظرف حقيقي للمعنى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن الوهاب بن سلام
الجبائي، أبو علي، من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره، إليه نسبة
الطائفة الجبائية، ولد سنة خمس وثلاثين ومائتين، وتوفي سنة ثلاث وثلاثمئة هجرية،
من آثاره: "تفسير" حافل مطول. ا. هـ. الأعلام "6/ 256"، سير أعلام النبلاء "14/ 183".
2 انظر فواتح الرحموت "1/ 216".
ج / 1 ص -80- والحق امتناع الجمع
بينهما لتبادر المعنى الحقيقي من اللفظ من غير أن يشاركه غيره في التبادر عند
الإطلاق، وهذا بمجرده يمنع من إرادة غير الحقيقي بذلك اللفظ المفرد، مع الحقيقي،
ولا يقال: إن اللفظ يكون عند قصد الجمع بينهما مجازًا لهما؛ لأن المفروض أن كل
واحد منهما متعلق الحكم لا مجموعهما ولا خلاف في جواز استعمال اللفظ في معنى
مجازي، يندرج تحته المعنى الحقيقي، وهو الذي يسمونه عموم المجاز.
واختلفوا هل يجوز استعمال اللفظ في
معنييه، أو معانيه المجازية، فذهب المحققون إلى منعه وهو الحق؛ لأن قرينة كل مجاز
تنافي إرادة غيره من المجازات.
وإلى هنا انتهى الكلام في المبادئ.
الخلاف في بعض حروف المعاني:
وقد ذكر جماعة من أهل الأصول في
المبادئ مباحث في بعض الحروف، التي ربما يحتاج إليها الأصولي، وأنت خبير بأنها
مدونة في فن مستقل، مبينة بيانًا تامًا، وذلك كالخلاف في الواو هل هي لمطلق الجمع،
أو للترتيب؟
فذهب إلى الأول جمهور النحاة،
والأصوليون، والفقهاء.
قال أبو علي الفارسي: أجمع نحاة
البصرة، والكوفة، على أنها للجمع المطلق.
وذكر سيبويه1 في سبعة عشر موضعًا من
"كتابه"2 أنها للجمع المطلق، "وهو الحق"*.
وقال الفراء3 وثعلب، وأبو عبيد4:
إنها للترتيب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عمرو بن عثمان، أبو بشر الفارسي
ثم البصري، إمام النحو، حجة العرب توفي سنة ثمانين ومائة هجرية، من تآليفه:
"الكتاب" المشهور بكتاب سيبويه. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 351"، معجم الأدباء "16/ 114".
2 أي كتاب سيبويه في النحو، وهو مجلد
واحد، ليس في ترتيب، ولا خطبة، ولا خاتمة، وعليه شروح وتعليقات وردود نشأت من
اعتناء الأئمة واشتغالهم به وهو مطبوع في خمسة مجلدات بتحقيق عبد السلام هارون. ا.
هـ. كشف الظنون "2/ 1426".
3 هو يحيى بن زياد، أو زكريا الديلمي
الكوفي، ولد سنة أربع وأربعين ومائة هـ، وتوفي في طريقه إلى الحج سنة سبع ومائتين
هـ، من آثاره: "مشكل اللغة" "البهي"
"معاني القرآن"، وغيرها كثير، حتى بلغت تآليفه ثلاثة آلاف ورقة.
قيل سمي بالفراء؛ لأنه كان يفري الكلام. ا. هـ. معجم
الأدباء "20/ 9"، تهذيب التهذيب
"11/ 212"، سير أعلام النبلاء "10/ 118".
4 هو أبو عبيد القاسم بن سلام،
الإمام الحافظ، اللغوي، المحتهد ذو الفنون، ولد سنة سبع وخمسين ومائة هـ، وتوفي
سنة أربع وعشرين ومائتين هـ، من آثاره: "الأموال"
"كتاب الناسخ والمنسوخ". ا. هـ. تذكرة الحفاظ "1/ 417"، تهذيب
"8/ 315"، سير أعلام
النبلاء "10/ 490".
ج / 1 ص -81- وروي هذا عن الشافعي
والمؤيد بالله1، وأبي طالب2.
احتج الجمهور بأن الواو قد تستعمل
فيما يمتنع الترتيب فيه كقولهم: تقاتل زيد وعمرو، ولو قيل: تقاتل زيد فعمرو، أو تقاتل
زيد ثم عمرو، لم يصح، والأصل الحقيقة، فوجب أن يكون حقيقة في غير الترتيب.
وأيضًا: لو اقتضت الواو الترتيب لم
يصح قولك: رأيت زيدًا وعمرًا بعده، أو رأيت زيدًا وعمرًا قبله؛ لأن قولك: بعده
يكون تكرارًا لما تفيده الواو من الترتيب، وقولك: قبله يكون مناقضًا لمعنى الترتيب.
ويمكن أن يجاب عن هذا الاستدلال:
بأنه امتنع جعل الواو هنا للترتيب لوجود مانع، ولا يستلزم ذلك امتناعه عند عدمه.
واحتجوا أيضًا بقوله تعالى:
{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّة}3 في سورة البقرة. وقال في سورة
الأعراف: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا}4 وقوله: {وَاسْجُدِي
وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِين}5، مع أن الركوع مقدم على السجود، وقوله:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه}6 وقوله:
{أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ}7 وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة}8
و{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}9 وليست في شيء من هذه المواضع للترتيب وهكذا في غيرها
مما يكثر تعداده.
وعلى كل حال: فأهل اللغة العربية لا
يفهمون من قول من قال اشتر الطعام والإدام أو اشتر الإدام والطعام والترتيب أصلًا،
وأيضًا لو كانت الواو للترتيب لفهم الصحابة رضي الله عنهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الحسين بن علي، الحسني، من أئمة
الزيدية باليمن، ولد ونشأ بصعدة، وتوفي سنة خمس وعشرين ومائة وألف هـ، ولاه أبوه
بلاد رازح. ا. هـ. الأعلام "2/ 247".
2 هو عبد الرحمن بن عمر بن أبي
القاسم، نور الدين، الفقيه الحنبلي، نزيل بغداد، ولد سنة أربع وعشرين وستمائة هـ،
وحفظ القرآن بالبصرة، توفي سنة أربع وثمانين وستمائة هـ، من آثاره: "الحاوي
في الفقه" "الكافي في شرح
الخرقي". ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 386" الأعلام "9/ 319".
3 جزء من الآية "58" من
سورة البقرة.
4 جزء من الآية "161" من
سورة الأعراف.
5 جزء من الآية "43" من
سورة آل عمران.
6 جزء من الآية "92" من
سورة النساء.
7 جزء من الآية "33" من
سورة المائدة.
8 جزء من الآية "38" من
سورة المائدة.
9 جزء من الآية "2" من
سورة النور.
ج / 1 ص -82- في قوله سبحانه: {إِنَّ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ}1 أن الابتداء يكون من الصفا، من دون
أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولكنهم سألوه فقال: "ابدأوا
بما بدأ الله به"2.
واحتج القائلون بالترتيب، بما صح أن
خطيبًا قال في خطبته: "من يطع الله ورسوله فقد اهتدى، ومن عصاهما فقد
غوى"، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بئس خطيب القوم أنت، قل
ومن يعص الله ورسوله"3.
ولو كان الواو لمطلق الجمع لما افترق
الحال بين ما علمه الرسول وبين ما قاله.
وأجيب عن هذا: بأنه إنما أمره صلى
الله عليه وسلم بذلك؛ لأنه فهم منه اعتقاد التسوية بين الله ورسوله، فأمره بعدم
الجمع بينهما في ضمير واحد تعظيمًا لله سبحانه.
والحاصل: أنه لم يأت القائلون بإفادة
الواو للترتيب بشيء يصلح للاستدلال به، ويستدعي الجواب عنه.
وكما أن الواو لمطلق الجمع من دون
ترتيب ولا معية، فالفاء للتعقيب بإجماع أهل اللغة، وإذا وردت لغير تعقيب فذلك
لدليل آخر، مقترن معناه بمعناها.
وكذلك "في" للظرفية إما
محققة أو مقدرة.
وكذلك "من" ترد لمعان.
وكذلك "الباء" لها معان
مبينة في علم الإعراب، فلا حاجة لنا إلى التطويل بهذه الحروف، التي لا يتعلق
بتطويل الكلام فيها كثير فائدة، فإن معرفة ذلك قد عرفت من ذلك العلم.
ولنشرع الآن بعون الله وإمداده
وهدايته وتيسيره في المقاصد فنقول:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "158" من
سورة البقرة.
2 أخرجه مسلم من حديث جابر مطولًا،
كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم "1218". وأبو داود، كتاب
المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم "1905". وابن ماجه، كتاب
المناسك باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم "3074". وابن خزيمة في
صحيحه "2757". والبيهقي في السنن كتاب الحج "5/ 93". وابن
حبان في صحيحه "3944".
3 أخرجه مسلم من حديث عدي بن حاتم،
كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة وخطبتها "870". والنسائي، كتاب الجمعة،
باب ما يكره في الخطبة "3279" 6/ 90. وأبو داود. كتاب الصلاة، باب الرجل
يخطب على قوس "1099". والحاكم في المستدرك، كتاب الجمعة "1/ 289"
وقال: حديث صحيح. وابن حبان في صحيحه "2798".
وأخرجه الإمام أحمد "4/ 379".
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات
]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم
الأصول
ج / 1 ص -85- المقصد الأول: في
الكتاب العزيز
الفصل الأول: فيما يتعلق بتعريفه
اعلم أن الكتاب لغة: يطلق على كل
كتابة ومكتوب، ثم غلب في عرف أهل الشرع على القرآن.
والقرآن في اللغة: مصدر بمعنى
القراءة، غلب في العرف العام على المجموع المعين من كلام الله سبحانه، المقروء
بألسنة العباد، وهو في هذا المعنى أشهر من لفظ الكتاب وأظهر، ولذا جعل تفسيرًا له،
فهذا تعريف الكتاب باعتبار اللغة، وهو التعريف اللفظي الذي يكون بمرادف أشهر.
وأما حد الكتاب اصطلاحًا: فهو الكلام
المنزل على الرسول، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا نقلًا متواترًا.
فخرج بقوله: المنزل على الرسول
المكتوب في المصاحف: وسائر الكتب والأحاديث القدسية، والأحاديث النبوية وغيرها،
وخرج بقوله: المنقول إلينا نقلًا متواترًا: القراءات الشاذة1.
وقد أورد على هذا الحد أن فيه دورًا؛
لأنه عرف الكتاب بالمكتوب في المصاحف، وذلك؛ لأنه إذا قيل: ما المصحف؟ فلا بد أن
يقال: هو الذي كتب فيه القرآن.
وأجيب: بأن المصحف معلوم في العرف،
فلا يحتاج إلى تعريفه بقوله الذي كتب فيه القرآن.
وقيل في حده: هو اللفظ العربي المنزل
للتدبر والتذكر المتواتر. فاللفظ جنس يعم الكتب السماوية وغيرها، والعربي يخرج غير
العربي من الكتب السماوية وغيرها، والمنزل يخرج ما ليس بمنزل من العربي، وقوله
للتدبر والتذكر: لزيادة التوضيح وليس من ضروريات هذا
التعريف. والتدبير: التفهم لما يتبع ظاهره من التأويلات الصحيحة، والمعاني
المستنبطة.
والتذكر: الاتعاظ بقصصه وأمثاله.
وقوله: المتواتر يخرج ما ليس بمتواتر
كالقراءات الشاذة، والأحاديث القدسية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي القراءة المخالفة للعربية أو
الرسم وهي مردودة إجماعًا، وهي التي لم تثبت بطريق التواتر، وكل قراءة انفرد بها
أحد الأئمة الأربعة أو راو من رواتهم لا تجوز القراءة بها مطلقًا. وهم: ابن محيصن
ويحيى اليزيدي -والحسن البصري والأعمش. ا. هـ. القراءات الشاذة 1/ 10-11.
ج / 1 ص -86- وقيل في حده: هو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه، فخرج الكلام الذي لم ينزل،
والذي نزل لا للإعجاز كسائر الكتب السماوية والسنة. والمراد بالإعجاز: ارتقاؤه في
البلاغة إلى حد خارج عن طوق البشر، ولهذا عجزوا عن معارضته عند تحديهم، والمراد
بالسورة: الطائفة منه المترجم أولها وآخرها توقيفًا. واعترض على هذا الحد: بأن
الإعجاز ليس لازمًا بينا، وإلا لم يقع فيه ريب، وبأن معرفة السورة تتوقف على معرفة
القرآن.
وأجيب: بأن اللزوم بين وقت التعريف
لسبق العلم بإعجازه، وبأن السورة اسم للطائفة المترجمة من الكلام المنزل، قرآنًا
كان أو غيره، بدليل سورة الإنجيل.
وقال جماعة في حده: هو ما نقل إلينا
بين دفتي المصحف تواترًا.
وقال جماعة: هو القرآن المنزل على
رسولنا، المكتوب في المصاحف، المنقول تواترًا بلا شبهة.
فالقرآن تعريف لفظي للكتاب، والباقي
رسمي ويعترض عليه بمثل ما سبق، ويجاب عن الاعتراض بما مر.
وقيل: هو كلام الله العربي الثابت في
اللوم المحفوظ للإنزال.
واعترض عليه: بأن الأحاديث القدسية
والقراءات الشاذة بل وجميع الأشياء ثابتة في اللوح المحفوظ لقوله تعالى: {وَلا
رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِين}1 وأجيب بمنع كونها أثبتت في اللوح
للإنزال. والأولى أن يقال: هو كلام الله المنزل على محمد المتلو المتواتر، وهذا لا
يرد عليه ما ورد على الحدود فتدبر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "59" من
سورة الأنعام.
الفصل الثاني: حكم المنقول آحادًا
اختلف في المنقول آحادًا هل هو قرآن
أم لا؟ فقيل:" ليس بقرآن؛ لأن القرآن "مما"* تتوفر الدواعي على نقله، لكونه كلام الرب سبحانه،
وكونه مشتملًا على الأحكام الشرعية، وكونه معجزًا، وما كان كذلك فلا بد أن يتواتر،
فما لم يتواتر "ليس"** بقرآن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* وقع في "أ": ما.
** في "أ": فليس.
ج / 1 ص -87- هكذا قرر أهل الأصول
"دليل"* التواتر، وقد ادعى تواتر كل واحدة من القراءات السبع، وهي قراءة
أبي عمرو1، ونافع2، وعاصم3، وحمزة4 والكسائي5، وابن كثير6، وابن عامر7 دون غيرها،
وادعى أيضًا تواتر القراءات العشر، وهي هذه مع قراءة يعقوب8، وأبي جعفر9، وخلف10
وليس على ذلك أثارة من علم، فإن هذه القراءات كل واحدة منها منقولة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو زبان بن العلاء بن عمار،
التميمي ثم المازني البصري، شيخ القراء والعربية، ولد سنة سبعين هجرية، وتوفي سنة
سبع وخمسين ومائة هـ، كان أعلم الناس بالقرآن والعربية وأيامها والشعر، قال فيه
الفرزدق.
ما زلت أفتح أبوابًا وأغلقها حتى
رأيت أباعمرو بن عمار
ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/
407"، تهذيب التهذيب "12/ 178".
2 هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي
نعيم، الليثي، المدني، أحد القراء السبعة، واشتهر في المدينة، وانتهت إليه رياسة
القراءة فيها، توفي سنة تسع وستين ومائة هـ، ا. هـ. الأعلام "8/ 5".
3 هو عاصم بن أبي النجود، الإمام المقرئ،
أبو بكر الأسدي الكوفي، ما كان في الكوفة أقرأ منه، توفي سنة سبع وعشرين ومائة هـ،
ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 256"، تهذيب التهذيب "5/
38".
4 هو حمزة بن حبيب بن عمارة، الإمام
القدوة، شيخ القراء، أبو عمارة التميمي الكوفي، قال ابن فضيل: ما أحسب أن الله
يدفع البلاء عن أهل الكوفة إلا بحمزة، توفي سنة ست وخمسين ومائتين هـ، ا. هـ. سير
أعلام النبلاء "7/ 92"، تهذيب التهذيب "3/ 27"، شذرات الذهب
"1/ 240".
5 هو علي بن حمزة بن عبد الله،
الأسدي الكوفي، الملقب بالكسائي لكساء أحرم فيه، وكان ذا منزلة رفيعة عند الرشيد،
وأدب ولده الأمين، توفي سنة تسع وثمانين ومائة هـ. ا. هـ. سير أعلام النبلاء
"9/ 131"، شذرات الذهب "1/ 321".
6 هو عبد الله بن كثير بن عمرو، مقرئ
مكة، الإمام العلم، أحد القراء السبعة، توفي سنة اثنتين وعشرين ومائة هـ، وكان
عطارًا، وكانت ولادته سنة ثمان وأربعين هجرية ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/
318"، تهذيب التهذيب "65/ 367".
7 هو عبد الله بن عامر بن يزيد،
الإمام الكبير، مقرئ الشام، اليحصبي الدمشقي، ولد سنة أحدى وعشرين هجرية، وكانت
وفاته سنة ثماني عشرة ومائة هحرية ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 292"،
تهذيب التهذيب "5/ 274".
8 هو يعقوب بن إسحاق بن زيد، مقرئ
البصرة، الإمام المجود الحافظ، أبو محمد، أحد القراء العشرة، ولد بعد سنة ثلاثين
ومائة، ورجحه بعض الأئمة عل الكسائي، توفي سنة خمس ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام
النبلاء "10/ 169"، شذرات الذهب
"2/ 14".
9 هو يزيد بن القعقاع، احد الأئمة العشرة،
روى إسحاق المسيبي: لما غسل أبو جعفر نظروا ما بين نحوه إلى فؤاده كورقة المصحف
فما شك من حضره أنه نور القرآن، وكانت وفاته سنة سبع وعشرين ومائة هـ. ا. هـ.
شذرات الذهب "1/ 176"، سير أعلام النبلاء "5/ 287".
10 هو خلف بن هشام بن ثعلب، أبو
محمد، الإمام الحافظ الحجة، البغدادي البزار المقرئ ولد سنة خمسين ومائة هـ، توفي
سنة تسع وعشرين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام
النبلاء "10/ 576"، شذرات الذهب "2/ 67"، تهذيب التهذيب
"3/ 156".
ج / 1 ص -88- نقلًا آحاديًا، كما
يعرف ذلك من يعرف أسانيد هؤلاء القراء لقراءاتهم، وقد نقل جماعة من القراء الإجماع
على أن في هذه القرءات ما هو متواتر، وفيها ما هو آحاد، ولم يقل أحد منهم بتواتر
كل واحدة من السبع، فضلًا عن العشر، وإنما هو قول قاله بعض أهل الأصول، وأهل الفن أخبر
بفنهم.
والحاصل: أن ما اشتمل عليه المصحف
الشريف، واتفق عليه القراء المشهورون فهو قرآن، وما اختلفوا فيه، فإن احتمل رسم
المصحف قراءة كل واحد من المختلفين مع مطابقتها للوجه الإعرابي. والمعنى العربي،
فهي قرآن كلها. وإن احتمل بعضها دون بعض، فإن صح إسناد ما لم يحتمله، وكانت موافقة
للوجه الإعرابي، والمعنى العربي، فهي الشاذة، ولها حكم أخبار الآحاد في الدلالة
على مدلولها، وسواء كانت من القراءات السبع أو من غيرها.
وأما ما لم يصح إسناده مما لم يحتمله
الرسم فليس بقرآن، ولا منزل منزلة أخبار الآحاد.
أما انتفاء كونه قرآنا فظاهر، وأما
انتفاء تنزيله منزلة أخبار الآحاد، فلعدم صحة إسناده، وإن وافق المعنى العربي
والوجه الإعرابي فلا اعتبار بمجرد الموافقة، مع عدم صحة الإسناد، وقد صح أن النبي
صلى الله عليه وسلم أخبر بأن القرآن أنزل على سبعة أحرف1، وصح عنه صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "أقرأني جبريل على حرف فلم أزل
أستزيده حتى أقرأني على سبعة أحرف"2.
والمراد بالأحرف السبعة: لغات العرب،
فإنها بلغت إلى سبع لغات، اختلفت في قليل من الألفاظ، واتفقت في غالبها، فما وافق
لغة من تلك اللغات، فقد وافق المعنى العربي والإعرابي، وهذه المسألة محتاجة إلى
بسط تتضح به حقيقة ما ذكرنا، وقد أفردناها بتصنيف3 مستقل فليرجع إليه.
وقد ذكر جماعة من أهل الأصول في هذا
البحث ما وقع من الاختلاف بين القراء في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب،
كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف "818 ".
والبخاري، كتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض "2419".
والترمذي، كتاب القراءات. باب ما جاء أنزل القرآن على سبعة أحرف "2943".
وقال حسن صحيح. والنسائي، كتاب الصلاة، باب جامع ما جاء في القرآن "935"
"2/ 150". وأبو داود. كتاب الصلاة، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف
"1475" ابن حبان في صحيحه "741".
2 أخرجه البخاري من حديث ابن عباس،
كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف برقم "4991". مسلم،
كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف "819".
والإمام أحمد في المسند "1/ 263". والطبراني في الأوسط "1813".
وعبد الرزاق في المصنف "2370".
3 لم أجد فيما بين يدي من المراجع من
صرح باسم هذا التصنيف في مصنفات الشوكاني.
ج / 1 ص -89- البسملة، وكذلك ما وقع
من الاختلاف فيها بين أهل العلم هل هي آية من كل سورة1، أو آية من الفاتحة فقط2،
أو آية مستقلة أنزلت للفصل بين كل سورتين3، أو ليست بآية4، ولا هي من القرآن5،
وأطالوا البحث في ذلك. وبالغ بعضهم فجعل
هذه المسألة من مسائل الاعتقاد وذكرها في مسائل أصول الدين.
الحق أنها آية من كل سورة لوجودها في
رسم المصاحف، وذلك هو الركن الأعظم في إثبات القرآنية للقرآن، ثم الإجماع على
ثبوتها خطأ في المصحف في أوائل السور، ولم يخالف في ذلك من لم يثبت كونها قرآنا من
القراء وغيرهم.
وبهذا الإجماع حصل الركن الثاني وهو
النقل، مع كونه نقلًا إجماعيًّا بين جميع الطوائف.
وأما الركن الثالث: وهو موافقها
للوجه الإعرابي والمعنى فذلك ظاهر.
إذا تقرر لك هذا علمت أن نفي كونها
من القرآن مع تسليم وجودها في الرسم مجرد دعوى غير مقبولة. وكذلك دعوى كونها آية
واحدة، أو آية من الفاتحة، مع تسليم وجودها في الرسم في أول كل سورة، فإنها دعوى
مجرد عن دليل مقبول تقوم به الحجة.
وأما ما وقع من الخلاف في كونها
تقرأ6 في الصلاة أو لا تقرأ7، وعلى القول بكونها تقرأ هل يسر بها مطلقًا8 أو تكون
على صفة ما يقرأ من الإسرار في السرية، والجهر في الجهرية9، فلا يخفاك أن هذا خارج
عن محل النزاع، وقد اختلفت الأحاديث في ذلك اختلافًا كثيرًا، وقد بسطنا القول في ذلك
في رسالة مستقلة10، وذكرنا في "شرح المنتقى"11 ما إذا رجعت إليه تحتج إلى
غيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو مذهب عبد الله بن المبارك.
2 وهو مذهب الإمام الشافعي.
3 وهو مذهب الإمام أبي حنيفة.
4 وهو مذهب الإمام مالك.
5 وهو مذهب الحسن البصري. ا. هـ.
القرطبي عند تفسير الفاتحة "بسم الله الرحمن الرحيم".
6 وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد.
7 وهو مذهب الإمام مالك وفي بعض
أقواله أنها تقرأ في النفل.
8 وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل.
9 وهو قول غير أبي حنيفة وأحمد. ا.
هـ. القرطبي عند ذكر أحكام البسملة.
10 واسمها: "الرسالة المكملة في
أدلة البسملة" ا. هـ. إيضاح المكنون "1/ 569"، البدر الطالع
"2/ 221".
11 واسمه: "نيل الأوطار بشرح
المنتقى في الأخبار"، للشوكاني محمد بن علي، وهو في مجلدات، مطبوع في مصر،
وهو في إبطال دعوى الإجماع. ا. هـ. ذيل كشف الظنون "2/ 697".
ج / 1 ص -90- الفصل الثالث: في
المحكم والمتشابه من القرآن
اعلم أنه لا اختلاف في وقوع النوعين
فيه لقوله سبحانه: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ}1، واختلف في تعريفهما: فقيل: المحكم ما له دلالة واضحة، والمتشابة
ما له دلالة غير واضحة، فيدخل في المتشابه المجمل والمشترك.
وقيل في المحكم: هو متضح المعنى، وفي
المتشابه هو غير المتضح المعنى، وهو كالأول2، ويندرج في المتشابه ما تقدم3.
والفرق بيهما4 أنه جعل في التعريف
الأول الاتضاح وعدمه للدلالة، وفي الثاني لنفس المعنى.
وقيل في المحكم هو: ما استقام نظمه
للإفادة، والمتشابه ما اختل نظمه لعدم الإفادة، وذلك لاشتماله على ما لا يفيد
شيئًا ولا يفهم منه معنى، هكذا قال الآمدي ومن تابعه.
واعترض عليه بأن القول باختلاف نظم
القرآن5 مما لا يصدر عن المسلم، فينبغي أن يقال في حده هو: ما استقام نظمه لا
للإفادة بل للابتداء.
وقيل المحكم: ما عرف المراد منه، إما
بالظهور، وإما بالتأويل، والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه.
وقيل: المحكم ما لا يحتمل من التأويل
إلا وجهًا واحدًا، والمتشابه ما احتمل أوجهًا.
وقيل: المحكم الفرائض، والوعد
والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال.
وقيل المحكم الناسخ، والمتشابه
المنسوخ.
وقيل: المحكم هو معقول المعنى،
والمتشابه هو غير معقول المعنى، وقيل غير ذلك.
وحكم المحكم هو وجوب العمل به، وأما
المتشابه فاختلف فيه على أقوال: الحق عدم جواز العمل به لقوله سبحانه: {فَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}6 والوقف على قوله: {إِلَّا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "7" من
سورة آل عمران.
2 أي كالتعريف الأول.
3 من المجمل المشترك.
4 أي بين التعريفين.
5 وذلك عند قوله في التعريف السابق:
المتشابه: ما اختل نظمه لعدم الإفادة.
6 جزء من الآية "7" من
سورة آل عمران.
ج / 1 ص -91- اللَّه} متعين ويكون
قوله سبحانه: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مبتدأ وخبره: {يَقُولُونَ آمَنَّا
بِهِ} ولا يصح القول بأن الوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}؛ لأن
ذلك يستلزم أن يكون جمله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِه} حالية، ولا معنى لتقييد علمهم
به بهذه الحالة الخاصة، وهي حال كونهم يقولون هذا القول. وقد بسطنا الكلام على هذا
في تفسيرنا الذي سميناه "فتح القدير"1 فليرجع إليه، فإن فيه ما يثلج
خاطر المطلع عليه إن شاء الله. وليس ما ذكرناه من عدم جواز العمل بالمتشابه لعلة كونه
لا معنى له، فإن ذلك غير جائز بل لعلة قصور أفهام البشر عن العلم به والإطلاع على
مراد الله منه، كما في الحروف التي في فواتح السور، فإنه لا شك أن لها معنى لم
تبلغ أفهامنا إلى معرفته، فهي مما استأثر الله بعلمه، كما أوضحناه في التفسير
المذكور، ولم يصب من تمحل لتفسيرها، فإن ذلك من التقول على الله بما لم يقل، ومن
تفسير كلام الله سبحانه بمحض الرأي، وقد ورد الوعيد الشديد عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ستأتي ترجمته في الصفحة "222".
الفصل الرابع: في المعرب هل هو موجود
في القرآن أم لا؟
والمراد به ما كان موضوعًا لمعنى عند
غير العرب ثم استعملته العرب في ذلك المعنى.
كإسماعيل، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب،
ونحوها، ومثل هذا لا ينبغي أن يقع فيه خلاف.
والعجب ممن نفاه، وقد حكى ابن
الحاجب، وشراح كتابه النفي لوجوده عن الأكثرين، ولم يتمسكوا بشيء سوى تجويز أن
يكون ما وجد في القرآن من المعرب مما اتفق فيه اللغتان العربية والعجمية وما أبعد
هذا التجويز، ولو كان يقوم بمثله الحجة في مواطن الخلاف لقال من شاء ما شاء بمجرد
التجويز، وتطرق المبطلون إلى دفع الأدلة الصحيحة بمجرد الاحتمالات البعيدة،
واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله، وقد أجمع أهل العربية على أن العجمة علة من
العلل المانعة للصرف في كثير من الأسماء الموجودة في القرآن، فلو كان لذلك التجويز
البعيد تأثير لما وقع منهم هذا الإجماع.
وقد استدل النافون بأنه لو وجد فيه
ما ليس هو بعربي لزم أن لا يكون كله عربيًا وقد قدمنا الجواب عن هذا1.
وبالجملة فلم يأت الأكثرون بشيء يصلح
للاستدلال به في محل النزاع، وفي القرآن من اللغات الرومية، والهندية، والفارسية،
والسريانية، ما لا يجحده جاحد، ولا يخالف فيه مخالف،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "65".
ج / 1 ص -92- حتى قال بعض السلف: إن
في القرآن من كل لغة من اللغات، ومن أراد الوقوف على الحقيقة فليبحث كتب التفسير
في مثل: المشكاة1 والإستبرق2، والسجيل3، والقسطاس4، والياقوت5، وأباريق6، والتنور7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدمت في الصفحة "65".
2 تقدمت في الصفحة "66".
3 تقدمت في الصفحة "66".
4 تقدمت في الصفحة "66".
5 فارسي معرب، الواحدة، ياقوتة،
والجمع: يواقيت، وهو حجر من الأحجار الكريمة، وهو أكثر المعادن صلابة بعد الماس،
ولونه شفاف مشرب بالحمرة أو الزرقة أو الصفرة، يستعمل للزينة. ا. هـ لسان العرب
والمعجم الوسيط مادة ياقوت "يقت" وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم
في سورة الرحمن الآية "58".
6 واحدة إبريق، وهو فارسي معرب،
معناه: الإناء أو الكور. ا. هـ. لسان العرب
مادة برق وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في سورة الواقعة الآية "18".
7 هو فارسي معرب، معناه: وجه الأرض،
وكل مفجر ماء تنور. ا. هـ. لسان العرب مادة تنر وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم
في سورة هود الآية "40".
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات
]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم
الأصول
المقصد الثاني: في السنّة
الفصل الأول: في معنى السنّة لغة
وشرعا
...
ج / 1 ص -95- البحث الأول: في معنى
السنة لغة وشرعًا
وأما لغة: فهي الطريقة المسلوكة،
وأصلها من قولهم سننت الشيء بالمسن1 إذا أمررته عليه حتى يؤثر فيه سنًّا أي:
طريقا، وقال الكسائي: معناها الدوام فقولنا: سنة معناه الأمر بالأدامة من قولهم:
سننت الماء إذا واليت في صبه.
قال الخطابي2: أصلها الطريقة
المحمودة، فإذا أطلقت انصرفت إليها، وقد يستعمل في غيرها مقيدة كقوله: "من سن
سنة سيئة" وقيل: هي الطريقة المعتادة، سواء كانت حسنة أو سيئة، كما في الحديث
الصحيح: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن
سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"3.
وأما معناها شرعًا: أي: في اصطلاح
أهل الشرع فهي: قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره، وتطلق بالمعنى العام
على الواجب وغيره في عرف أهل اللغة والحديث، وأما في عرف أهل الفقه فإنما يطلقونها
على ما ليس بواجب، وتطلق على ما يقابل البدعة كقولهم: فلان من أهل السنة.
قال ابن فارس في "فقه اللغة
العربية"4: وكره العلماء قول من قال: سنة أبي بكر وعمر، وإنما يقال: سنة الله
وسنة رسوله.
ويجاب عن هذا بأن النبي صلى الله
عليه وسلم قد قال في الحديث الصحيح: "عليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين عضوا عليها بالنواجذ"5. ويمكن أن يقال:
إنه صلى الله عليه وسلم أراد بالسنة هنا الطريقة.
وقيل في حدها اصطلاحًا هي: ما يرجح
جانب وجوده على جانب عدمه ترجيحًا ليس معه المنع من النقيض.
وقيل هي: ما واظب على فعله النبي صلى
الله عليه وسلم مع ترك ما بلا عذر.
وقيل هي: في العبادات النافلة، وفي
الأدلة ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير،
وهذا هو المقصود بالبحث عنه في هذا العلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حجر يحدد به. ا. هـ. الصحاح مادة
سنن.
2 هو حمد بن محمد بن إبراهيم
الخطابي، العلامة، فقيه، محدث. توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة هجرية، وهو من ولد
زيد بن الخطاب "أخي عمر"، وكانت ولادته سنة تسع عشرة وثلاثمائة هـ، من
آثاره: "معالم السنن في شرح سنن أبي داود" "غريب الحديث"
"أعلام السنن". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 23"
معجم المؤلفين "2/ 61" الأعلام "2/ 273".
3 أخرجه مسلم من حديث جرير بن عبد
الله، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة "1017". وابن ماجه، المقدمة
"203". والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء فيمن دعا إلى هدى فاتبع أو
ضلالة "2675" وقال: حسن صحيح. والنسائي كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة
"2553" 5/ 75. وابن حبان في صحيحه "3308".
4 واسمه "فقه اللغة" لأبي
الحسين، أحمد القزويني المعروف بابن فارس المتوفى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة هـ،
وهو المسمى بالصاحبي؛ لأنه ألفه للصاحب كشف الظنون "2/ 288" ابن عباد. ا. هـ.
5 أخرجه الترمذي من حديث العرباض بن سارية،
كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة "2676" وقال: حسن صحيح. ابن ماجه
في المقدمة "43". وأبو داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة "4607".
الإمام أحمد في المسند "4/
126". ابن حبان في صحيحه5.
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات
]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم
الأصول
ج / 1 ص -96- البحث الثاني: في حجية
السنة واستقلالها بالتشريع
اعلم أنه قد اتفق من يعتد به من أهل
العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام وأنها كالقرآن في تحليل الحلال
وتحريم الحرام، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا وإني أوتيت
القرآن ومثله معه"1 أي: أوتيت القرآن وأوتيت مثله من السنة التي لم ينطق بها
القرآن، وذلك كتحريم لحوم الحمر الأهلية وتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من
الطير، وغير ذلك مما لا يأتي عليه الحصر.
وأما ما يروى من طريق ثوبان2 في
الأمر بعرض الأحاديث على القرآن فقال يحيى بن معين3: إنه موضع وضعته الزنادقة.
وقال الشافعي: ما رواه أحد عمن يثبت
حديثه في شيء صغير ولا كبير. وقال ابن عبد البر4 في كتاب "جامع العلم: قال
عبد الرحمن بن مهدي5: الزنادقة والخوارج وضعوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج بنحوه أبو داود من حديث
المقدام بن معد يكرب، كتاب السنة باب لزوم السنة "4064". والإمام أحمد
في المسند "4/ 130". والطبراني في الكبير "20/ 283"
"669". والبيهقي في السنن، كتاب الضحايا، باب
ما جاء في أكل لحوم الحمر الأهلية "9/ 334". وابن حبان في صحيحه
"12".
2 هو ثوبان بن جحدر أو بجدد، مولى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو عبد الرحمن، سبي من أرض الحجاز فاشتراه النبي
صلى الله عليه وسلم وأعتقه، فلزم النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، توفي بحمص سنة
أربع وخمسين هجرية. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "3/ 15"، تهذيب التهذيب
"2/ 31".
3 هو الإمام الحافظ الجهبذ، شيخ
المحدثين، أبو زكريا البغدادي. ولد سنة ثمان وخمسين ومائة هـ، وكان من المكثرين من
كتابة الحديث، حتى قال عنه ابن المديني: ما أعلم أحدًا كتب ما كتب يحيى بن معين،
توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 71"،
تهذيب التهذيب "11/ 280".
4 هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن
عبد البر، الأندلسي، القرطبي، المالكي، أبو عمر الإمام العلامة، حافظ المغرب، شيح
الإسلام، ولد سنة ثمان وستين وثلاثمائة هجرية، وتوفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة
هجرية، من آثاره: "الاستيعاب" "والاستذكار" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 153"، شذرات الذهب
"3/ 314"، هدية العارفين "2/ 550"،
وكتابه جامع العلم اسمه "جامع بيان العلم وآدابه".
5 هو الإمام الناقد المجود، سيد
الحفاظ، أبو سعيد، عبد الرحمن بن مهدي العنبري، البصري اللؤلؤي، ولد سنة خمس
وثلاثين ومائة هـ، وتوفي سنة ثمان وتسعين ومائة هجرية، بعد أن أملى الألوف المؤلفة
من الحديث. ا.هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 192"، تهذيب التهذيب "6/
279"، شذرات الذهب "1/ 355".
ج / 1 ص -97- حديث: "ما أتاكم
عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا قلته وإن خالف فلم أقله"1.
وقد عارض حديث العرض قوم فقالوا:
عرضنا هذا الحديث الموضوع على كتاب الله فخالفه، لأنا وجدنا في كتاب الله: {وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}3 ووجدنا فيه:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}3
ووجدنا فيه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ
أَطَاعَ اللَّهَ}5 قال الأوزاعي6: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب.
قال ابن عبد البر: إنها تقضي عليه
وتبين المراد منه.
وقال يحيى بن أبي كثير7: السنة قاضية
على الكتاب.
والحاصل أن ثبوت حجية السنة المطهرة
واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في دين
الإسلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة
"59" وقال: أخرجه الدارقطني في الأفراد، والعقيلي في الضعفاء، وأبو جعفر
البختري في فوائده، والحديث منكر جدا، استنكره العقيلي وقال: إنه ليس له إسناد
يصح. وقد سهل ابن حجر عن هذا الحديث فقال: إنه جاء من طرق لا تخلو من مقال وقد جمع
طرقه البيهقي في كتاب المدخل.
2 جزء من الآية 7 من سورة الحشر.
3 جزء من الأية 31 من سورة آل عمران.
4 جزء من الآية 92 من سورة المائدة.
5 جزء من الآية 80 من سورة النساء.
6 هو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد،
شيخ الإسلام، عالم أهل الشام، أبو عمرو الأوزاعي، كان يسكن محلة الأوزاع وهي:
العقيبة الصغيرة ظاهر باب الفراديس بدمشق، ولد في بعلبك في حياة الصحابة، توفي سنة
سبع وخمسين ومائة. ا.هـ. سير أعلام
النبلاء "7/ 107" تذكرة الحفاظ "1/ 178"، تهذيب التهذيب
"6/ 238".
7 هو يحيى بن أبي كثير صالح، الإمام
الحافظ، أحد الأعلام، أبو نصر الطائي، اليمامي، كان طلابة للعلم، حجة، أقام
بالمدينة عشر سنين في طلب العلم، توفي سنة تسع وعشرين ومائة هـ، ا.هـ. سير أعلام
النبلاء "6/ 27"، تهذيب التهذيب
"11/ 268".
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات
]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم
الأصول
ج / 1 ص -98- البحث الثالث: في عصمة
الأنبياء
ذهب الأكثر من أهل العلم إلى عصمة
الأنبياء بعد النبوة من الكبائر، وقد حكى القاضي أبو بكر إجماع المسلمين على ذلك.
وكذا حكاه ابن الحاجب وغيره من متأخري الأصوليين، وكذا حكوا الإجماع على عصمتهم
بعد النبوة مما يزري بمناصبهم، كرذائل الأخلاق والدناءات وسائر ما ينفر عنهم، وهي
التي يقال لها صغائر الخسة، كسرقة لقمة، والتطفيف بحبة، وإنما اختلفوا في الدليل
على عصمتهم مما ذكر، هل هو الشرع أو العقل؟
فقالت المعتزلة وبعض الأشعرية: إن
الدليل على ذلك الشرع والعقل؛ لأنها منفرة عن الاتباع، فيستحيل وقوعها منهم عقلًا
وشرعًا، ونقله إمام الحرمين في "البرهان"1 عن طبقات الخلق، قال: وإليه
مصير جماهير أئمتنا.
وقال ابن فورك: إن ذلك ممتنع من
مقتضى المعجزة.
قال القاضي عياض2: وإليه ذهب الأستاذ
أبو إسحاق ومن تبعه.
وقال القاضي أبو بكر وجماعة من محققي
الشافعية والحنفية: إن الدليل على امتناعها السمع فقط، وروي عن القاضي أبي بكر رضي
الله عنه أنه قال: الدليل على امتناعها الإجماع، وروي عنه أنه قال: إنها ممتنعة
سمعًا والإجماع دل عليه، قال: ولو رددنا ذلك إلى العقل فليس فيه ما يحيلها، واختار
هذا إمام الحرمين، والغزالي، وإلكيا3 وابن برهان4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو لأبي المعالي عبد الملك بن عبد
الله الجويني النيسابوري، الشافعي، المعروف بإمام الحرمين، المتوفى سنة ثمان
وسبعين وأربعمائة هـ، يسمى "البرهان في
أصول الفقه" ا. هـ. كشف الظنون "1/ 242".
2 هو عياض بن موسى، الإمام العلامة،
الحافظ الأوحد، شيخ الإسلام، القاضي أبو الفضل، ولد سنة ست وسبعين وأربعمائة
هجرية، وتوفي بمراكش سنة أربع وأربعين وأربعمائة هـ، من آثاره: "الشفاء"
"شرح صحيح مسلم" وغيرهما. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "20/
212" شذرات الذهب "4/ 138"، هدية
العارفين "1/ 805".
3 هو علي بن محمد بن علي الطبرستاني،
الشافعي، عماد الدين، شيخ الشافعية ببغداد المعروف بإلكيا الهراسي -وهي كلمة
فارسية معناها: الكبير- توفي سنة أربع وخمسائة هجرية، من مؤلفاته كتاب "شفاء
المسترشدين في مباحث المجتهدين". ا. هـ. شذرات الذهب "4/ 8" كشف الظنون "2/ 1056"، هدية
العارفين "1/ 694".
4 هو أحمد بن علي بن برهان، أبو
الفتح، فقيه بغدادي، ولد سنة تسع وسبعين وأربعمائة هجرية، وتوفي سنة ثماني عشرة
وخمسمائة هجرية، من آثاره: "الوجيز" "البسيط" "والوسيط". ا. هـ. الأعلام "1/
173".
ج / 1 ص -99- قال الهندي1: هذا
الخلاف فيما إذا لم يسنده إلى المعجزة في التحدي، فإن أسنده إليها كان امتناعه
عقلًا.
وهكذا وقع الإجماع على عصمتهم بعد
النبوة من تعمد الكذب في الأحكام الشرعية، لدلالة المعجزة على صدقهم، وأما الكذب
غلطًا فمنعه الجمهور وجوزه القاضي أبو بكر.
واستدل الجمهور: بأن المعجزة تدل على
امتناعه، واستدل القاضي بأن المعجزة إنما تدل على امتناعه عمدًا لا خطأ، وقول الجمهور
أولى. وأما الصغائر التي لا تزري بالمنصب، ولا كانت من الدناءات، فاختلفوا هل تجوز
عليهم، وإذا جازت هل وقعت منهم أم لا؟ فنقل إمام الحرمين وإلكيا عن الأكثرين
الجواز عقلًا، وكذا نقل ذلك عن الأكثرين ابن الحاجب، ونقل إمام الحرمين وابن
القشيري2 عن الأكثرين -أيضًا- عدم الوقوع.
قال إمام الحرمين: الذي ذهب إليه
المحصلون أنه ليس في الشرع قاطع ذلك نفيًا أو إثباتا، والظواهر مشعرة بالوقوع.
ونقل القاضي عياض تجويز الصغائر
ووقوعها عن جماعة من السلف، منهم أبو جعفر الطبري3 جماعة من الفقهاء والمحدثين.
قالوا ولا بد من تنبيههم عليه إما في الحال على رأي جمهور المتكلمين، أو قبل
وفاتهم على رأي بعضهم.
ونقل ابن حزم4 في "الملل
والنحل"5 عن أبي إسحاق الإسفراييني، وابن فورك، أنهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن عبد الرحيم، أبو عبد الله،
صفي الدين، الشافعي، المتكلم على مذهب الأشعري توفي سنة خمس عشرة وسبعمائة هجرية،
من آثاره: "الزبدة" "الفائق"،
في علم الكلام، و"النهاية"، "الرسالة السيفية" في أصول الفقه،
ا. هـ. شذرات الذهب "6/ 37" كشف
الظنون "2/ 1217".
2 هو عبد الرحيم بن عبد الكريم بن
هوازن، الشيخ الإمام، المفسر العلامة، أبو نصر، اعتنى به أبوه، وأسمعه وأقرأه حتى
برع في العربية والنظم والنثر، توفي سنة أربع عشرة وخمسمائة هجرية. ا. هـ. سير
أعلام النبلاء "19/ 424"، هدية العارفين "1/ 559"، شذرات الذهب "4/ 45".
3 هو محمد بن جرير، من أهل آمل
طبرستان، ولد سنة أربع وعشرين وأربعمائة هـ، توفي سنة عشر وثلاثمائة هجرية، في بغداد،
وهو فقيه، مفسر، محدث، أصولي من آثاره: "اختلاف الفقهاء" "تاريخ الأمم
والملوك" "تهذيب الآثار". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/
267"، معجم المؤلفين "9/ 147"، الأعلام "6/ 69".
4 هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم،
عالم الأندلس في عصره، الإمام الأوحد ذو الفنون والمعارف، توفي مشردًا عن بلده من
قبل الدولة، سنة ست وخمسين وأربعمائة هـ، من آثاره: "المحلى"
ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 184"، شذرات
الذهب "3/ 29"، الأعلام "4/ 254".
5 واسمه: "الفصل بين أهل
الأهواء والنحل" قال عنه التاج السبكي: هذا من أشر الكتب، وما برح المحققون
من أصحابنا ينهون عن النظر فيه لما فيه من الازدراء بأهل السنة، وقد أفرط فيه في
التعصب على أبي الحسن الأشعري حتى صرح بنسبته إلى البدعة ا. هـ. كشف الظنون
"2/ 1820".
ج / 1 ص -100- معصومون عن الصغائر والكبائر جميعًا، وقال: إنه الذين ندين الله به.
واختاره ابن برهان، وحكاه النووي1 في "زوائد الروضة"2 عن المحققين.
قال القاضي حسين3: وهو الصحيح من مذهب أصحابنا يعني
الشافعية، وما ورد من ذلك فيحمل على ترك الأول.
قال القاضي عياض: يحمل على ما قبل
النبوة، أو على أنهم فعلوه بتأويل.
واختار الرازي العصمة عمدًا وجوزها
سهوًا.
واختلفوا في معنى العصمة فقيل: هو أن
لا يمكن المعصوم من الإتيان بالمعصية.
وقيل: هو أن يختص في نفسه أو بدنه
بخاصية تقتضي امتناع إقدامه عليها.
وقيل: إنها القدرة على الطاعة وعدم
القدرة على المعصية.
وقيل: إن الله منعهم منها بألطافه
بهم فصرف دواعيهم عنها.
وقيل: إنها "تهيئة"* العبد
للموافقة مطلقًا، وذلك يرجع إلى خلق القدرة على كل طاعة.
فإن قلت: فما تقول فيما ورد في
القرآن الكريم منسوبًا إلى جماعة من الأنبياء وأولهم أبونا آدم عليه السلام. فإن
الله يقول: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّه فَغَوَىْ}4.
قلت: قد قدمنا5 وقوع الإجماع على
امتناع الكبائر منهم بعد النبوة، فلا بد من تأويل ذلك بما يخرجه عن ظاهره بوجه من
الوجوه. وهكذا يحمل ما وقع من إبراهيم عليه
السلام من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من "أ": بتهيئة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو يحيى بن شرف، النووي الدمشقي،
الشافعي، محيي الدين، أبو زكرياء، ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة هـ، في قرية نوى
جنوب سورية، وتوفي فيها سنة ست وسبعين وستمائة هـ، من آثاره: "شرح
المهذب" "شرح صحيح مسلم" "رياض الصالحين"
"الأذكار" وغيرها. ا. هـ. معجم المؤلفين "13/ 202"، الأعلام
"8/ 149"، شذرات الذهب
"5/ 354".
2 في فروع الشافعية، وهو عبارة عن مختصر
لشرح "الوجيز" للرافعي واسمه "روضة الطالبين وعمدة المفتين"
فاعتنى به العلماء، فشرحوه، واختصروه ونظموه، ووضعت عليه زيادات، منها: زيادات الإمام
السيوطي. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 929".
3 هو حسين بن محمد بن أحمد، أبو علي،
العلامة، شيخ الشافعية، بخراسان، تفقه عليه خلق كثير، منهم: إمام الحرمين، ومحيي السنة، توفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة. من آثاره:
"التعليقة الكبرى" "الفتاوى"
وغيرها. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 260" شذرات الذهب "3/ 310"، إيضاح المكنون "2/ 188".
4 جزء من الآية "121" من
سورة طه.
5 انظر صفحة: "98".
ج / 1 ص -101- قوله: {إِنِّي
سَقِيم}1 وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُم}2 وقوله في سارة: "إنها
أخته"3 على ما يخرجه عن محض الكذب، لوقوع الإجماع على امتناعه منهم بعد
النبوة، وهكذا في قوله سبحانه وتعالى في يونس عليه السلام: {إِذْ ذَهَبَ
مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْه}4 لا بد من تأويله بما يخرجه عن
ظاهره، وهكذا ما فعله أولاد يعقوب بأخيهم يوسف5، وهكذا يحمل ما ورد عن نبينا صلى
الله عليه وسلم أنه: "كان يستغفر الله في كل يوم، وأنه كان يتوب إليه في كل
يوم"6 على أن المراد رجوعه من حالة إلى أرفع منها.
وأما النسيان فلا يمتنع وقوعه من
الأنبياء، قيل إجماعا، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني"7 قال قوم: ولا
يقرون عليه بل ينبهون.
قال الآمدي: ذهب الأستاذ أبو إسحاق
الإسفراييني وكثير من الأئمة إلى امتناع النسيان.
قال الزركشي8 في "البحر":
وأما الإمام الرازي في بعض كتبه فادعى الإجماع على الامتناع. وحكى القاضي عياض
الإجماع على امتناع، السهو والنسيان في الأقوال البلاغية، وخص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "89" من
سورة الصافات.
2 جزء من الآية "63" من
سورة الأنبياء.
3 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة،
كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ
خَلِيلًا} "3358"، مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل إبراهيم عيه السلام
"2371". وأبو داود، كتاب الطلاق، باب في الرجل يقول لامرأته "يا
أختي" "2212". والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنبياء
عليهم السلام "3166". وأحمد في مسنده "2/ 403". وابن حبان في صحيحه "5737". وقال الترمذي: حسن صحيح.
4 جزء من الآية "87" من
سورة الأنبياء.
5 وذلك من إلقائهم له في الجب،
وبيعهم إياه بثمن بخس، كما ورد في سورة يوسف.
6 أخرجه مسلم من حديث الأغر المزني،
كتاب الذكر، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه "2702". و أبو داود،
كتاب الصلاة، باب في الاستغفار "1515"،
والطبراني في الكبير "1/ 301 "883". والإمام أحمد في المسند
"4/ 260". والبغوي "1288". وابن
حبان في صحيحه "931".
7 أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه مطولًا في كتاب الصلاة باب التوجه نحو القبلة حيث كان
"401". ومسلم في المساجد باب السهو في الصلاة "572". وأبو داود
في الصلاة باب: إذا صلى خمسًا "1020". والبيهقي في سننه في الصلاة باب سجود
السهو في الزيادة في الصلاة بعد التسليم "2/ 335". وأحمد في مسنده "1/
379" وابن ماجه في الإقامة باب ما جاء فيمن شك في
صلاته فتحرى الصواب "1212".
8 هو محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي،
أبو عبد الله، بدر الدين، فقيه أصولي شافعي، ولد سنة خمس وأربعين وسبعمائة هجرية،
وتوفي سنة أربع وتسعين وسبعمائة هجرية، من آثاره: "البحر المحيط"
"الإجابة لإيراد ما استدركه عائشة على الصحابة"، "لقطة
العجلان" وغيرها. ا. هـ. شذرات الذهب "6/ 335" الأعلام "6/ 60".
ج / 1 ص -102- الخلاف بالأفعال، وأن الأكثرين
ذهبوا إلى الجواز، وتأول المانعون الأحاديث الواردة في سهوه -صلى الله عليه وسلم-
على أنه تعمد ذلك، وهذا التأويل باطل بعد قوله: "أنسى كما تنسون، فإذا نسيت
فذكروني"، وقد اشترط جمهور المجوزين للسهو والنسيان اتصال التنبيه بالواقعة.
وقال إمام الحرمين: يجوز التأخير.
وأما قبل الرسالة: فذهب الجمهور إلى
أنه لا يمتنع من الأنبياء عقلا ذنب كبير ولا صغير.
وقالت الروافض1: يمتنع قبل الرسالة
منهم كل ذنب.
وقالت المعتزلة: يمتنع الكبائر دون
الصغائر، واستدل المانعون مطلقًا أو مقيدًا بالكبائر بأن وقوع الذنب منهم قبل
النبوة منفر عنهم عن* أن يرسلهم الله فيخل بالحكمة من بعثهم. وذلك قبيح عقلًا.
ويجاب عنه: بأنا لا نسلم ذلك،
والكلام على هذه المسألة مبسوط في كتب الكلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": عند.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهم عشرون فرقة منها ثلاث زيدية،
وفرقتان من الكيسانية، وخمس عشرة من الإمامية، أما الروافض السبئية فقد أظهروا
بدعتهم في زمن سيدنا علي كرم الله وجهه فقالوا لعلي: أنت الإله. فأحرق قومًا منهم،
ونفى زعميهم ابن سبأ، ثم افترقت الرافضة بعد ذلك أربعة أصناف زيدية، إمامية،
كيسانية، غلاة، وسموا الرافضة لرفضهم الاعتراف أولًا بأبي بكر وعمر ثم لرفضهم بعد
ذلك ما اتفق عليه الإجماع ا. هـ. الفصل بين الملل والأهواء والنحل "1/ 189".
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات
]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم
الأصول
البحث الرابع: في أفعاله صلى الله
عليه وسلم
اعلم أن أفعاله صلى الله عليه وسلم
تنقسم إلى سبعة أقسام:
الأول:
ما كان من هواجس1 النفس والحركات
البشرية، كتصرف الأعضاء وحركات الجسد فهذا القسم لا يتعلق به أمر باتباع، ولا نهي
عن مخالفة وليس فيه أسوة، ولكنه يفيد أن مثل ذلك مباح.
القسم الثاني:
ما لا يتعلق بالعبادات ووضح فيه أمر
الجبلة2، كالقيام والقعود ونحوهما، فليس فيه تأس، ولا به اقتداء ولكنه يدل على
الإباحة عند الجمهور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جمع هاجس وهو الخاطر يقال: هجس في
صدري شيء، يهجس، أي: حدس ا. هـ. الصحاح مادة هجس.
2 الجبلة: الخلقة، والجمع جبلات. ا.
هـ. الصحاح مادة جبل.
ج / 1 ص -103- ونقل القاضي أبو بكر
الباقلاني عن قوم أنه مندوب، وكذا حكاه الغزالي في "المنخول"1 وقد كان
عبد الله بن عمر رضي الله عنه يتتبع مثل هذا ويقتدي به، كما هو معروف عنه منقول في
كتب السنة المطهرة.
القسم الثالث:
ما احتمل أن يخرج عن الجبلة إلى
التشريع بمواظبته عليه على وجه معروف وهيئة مخصصة"* كالأجل والشرب واللبس
والنوم، فهذا القسم دون ما ظهر فيه أمر القربة، وفوق ما ظهر فيه أمر الجبلة على
فرض أنه لم يثبت فيه إلا مجرد الفعل. وأما إذا وقع منه صلى الله عليه وسلم الإرشاد
إلى بعض الهيئات كما ورد عنه الإرشاد إلى هيئة من هيئات الأكل والشرب واللبس والنوم
فهذا خارج عن هذا القسم داخل فيما سيأتي.
وفي هذا القسم قولان للشافعي ومن معه،
يرجع فيه إلى الأصل، وهو عدم التشريع، أو إلى الظاهر، وهو التشريع والراجح الثاني.
وقد حكاه الأستاذ أبو إسحاق عن أكثر المحدثين فيكون مندوبًا.
القسم الرابع:
ما علم اختصاصه به صلى الله عليه وسلم
كالوصال والزيادة على أربع فهو خاص به لا يشاركه فيه غيره، وتوقف إمام الحرمين في
أنه هل يمنع التأسي به أم لا، وقال: ليس عندنا نقل لفظي أو معنوي في أن الصحابة
كانوا يقتدون به صلى الله عليه وسلم في هذا النوع ولم يتحقق عندنا ما يقتضي ذلك،
فهذا محل التوقف.
وفرق الشيخ أبو شامة المقدسي2 في
"كتابه" في الأفعال بين المباح والواجب. فقال: ليس لأحد الاقتداء به
فيما هو مباح له كالزيادة على الأربع، ويستحب الاقتداء به في الواجب عليه كالضحى
والوتر، وكذا فيما هو محرم عليه كأكل ذي الرائحة الكريهة، وطلاق من تكره صحبته.
والحق أنه لا يقتدي به فيما صرح لنا بأنه
خاص به كائنًا ما كان إلا بشرع يخصنا، فإذا قال مثلًا: هذا واجب علي مندوب لكم كان
فعلنا لذلك الفعل لكونه أرشدنا إلى كونه مندوبًا لنا لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": وجه مخصوص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه: "المنخول من تعلقيات
الأصول" لأبي حامد الغزالي، وهو من أوائل الكتب التي صنفها، رآه أبو المعالي
الجويني فقال: دفنتني وأنا حي فهلا صبرت الآن كتابك غطى على كتابي، وهو مطبوع ا.
هـ. المنخول -المقدمة- سير أعلام النبلاء "19/ 335".
2 هو عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي،
ثم الدمشقي، أبو شامة، العلامة المجتهد، شهاب الدين، أبو القاسم، وسمي بأبي شامة
لشامة كبيرة كانت فوق حاجبه الأيسر، توفي سنة خمس وستين وستمائة هـ، من آثاره:
"الروضتين في أخبار الدولتين النووية والصلاحية" "الضوء الساري إلى
معرفة رؤية الباري". وكتابه اسمه: "المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال
الرسول صلى الله عليه وسلم" ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1616" شذرات الذهب
"5/ 318"، الأعلام "3/ 299"، هدية العارفين "1/ 523".
ج / 1 ص -104- لكونه واجبًا عليه، وإن قال: هذا مباح لي أو حلال
"لي"*، ولم يزد على ذلك، لم يكن لنا أن نقول: هو مباح لنا، أو حلال لنا،
وذلك كالوصال فليس لنا أن نواصل.
هذا على فرض عدم ورود ما يدل على
كراهة الوصال لنا، أما لو ورد ما يدل على ذلك، كما يثبت أنه صلى الله عليه وسلم
"واصل أيامًا تنكيلًا لمن لم ينته عن الوصال"1 فهذا لا يجوز لنا فعله
بهذا الدليل الذي ورد عنه، ولا يعتبر باقتداء من اقتدى به فيه كابن الزبير. وأما
لو قال: هذا حرام علي وحدي، ولم يقل حلال لكم فلا بأس بالتنزه عن فعل ذلك الشيء،
أما لو قال: حرام علي حلال لكم، فلا يشرع التنزه عن فعل ذلك الشيء فليس في ترك الحلال
ورع.
القسم الخامس:
ما أبهمه صلى الله عليه وسلم لانتظار
الوحي، كعدم تعيين نوع الحج مثلًا. فقيل: يقتدى به في ذلك، وقيل:
لا، قال إمام الحرمين في "النهاية"2 وهذا عندي
هفوة3 ظاهرة. فإن إبهام رسول الله صلى الله عليه وسلم محمول على انتظار الوحي
قطعًا، فلا مساغ للاقتداء به من هذه الجهة.
القسم السادس:
ما يفعله مع غيره عقوبة له كالتصرف
في أملاك غيره عقوبة له، فاختلفوا هل يقتدى به فيه أم لا فقيل:
يجوز، وقيل: لا يجوز، وقيل هو بالإجماع موقوف على معرفة
السبب. وهذا هو الحق فإن وضح لنا السبب، الذي فعله لأجله كان لنا أن نفعل مثل فعله
عند وجود مثل ذلك السبب، وإن لم يظهر السبب لم يجز. وأما إذا فعله بين شخصين متداعيين
فهو جار مجرى القضاء، فتعين علينا القضاء بما قضى به.
القسم السابع:
الفعل المجرد عما سبق، فإن ورد
بيانًا كقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولفظه: أن أبا هريرة رضي الله عنه
قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال فقال رجل من المسلمين:
فإنك يا رسول الله تواصل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأيكم مثلي إني
أبيت يطعمني ربي ويسقيني"، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال. واصل بهم يومًا ثم
يومًا رأوا الهلال. فقال: "لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل بهم، حين أبوا أن
ينتهوا".
أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب النهي
عن الوصال "1103". والبخاري، كتاب الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال
"1965". وذكره البغوي في المصابيح، كتاب الصوم "1411". وفي المسند
الجامع برقم "13449". وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الصوم، باب الوصال
"7753" أحمد في مسنده "2/ 281". ابن حبان، كتاب الصوم، باب
صوم الوصال "3575" والبيهقي في سننه، كتاب الصوم، باب النهي عن الوصال
في الصوم "4/ 282".
2 هو "نهاية المطلب في دراية
المذهب"، لإمام الحرمين، جمعه بمكة المكرمة وأتمه في نيسابور، قال ابن
النجار: إنه مشتمل على أربعين مجلدًا ثم اختصره ولخصه. واختصره ابن أبي عصرون
وسماه: "صفوة المذهب من نهاية المطلب". ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1990".
3 الهفوة: الزلة، وقد هفا يهفو هفوة.
ا. هـ. الصحاح مادة هفا.
ج / 1 ص -105- أصلي"1
و"خذوا عني مناسككم"2 وكالقطع3 من الكوع4 بيانًا لآية السرقة، فلا خلاف
أنه دليل في حقنا، وواجب علينا، وإن ورد بيانًا لمجمل كان حكمه حكم ذلك المجمل من
وجوب وندب، كأفعال الحج وأفعال العمرة، وصلاة الفرض وصلاة الكسوف.
وإن لم يكن كذلك بل ورد ابتداء، فإن
علمت صفته في حقه من وجوب أو ندب أو إباحة فاختلفوا في ذلك على أقوال:
الأول:
أن أمته مثله في ذلك الفعل، إلا أن
يدل دليل على اختصاصه "به"* وهذا هو الحق.
والثاني:
أن أمته مثله في العبادات دون غيرها.
والثالث:
الوقف.
والرابع:
لا يكون شرعًا لنا إلا بدليل.
وإن لم تعلم صفته في حقه، وظهر فيه
قصد القربة فاختلفوا فيه على أقوال:
الأول: أنه للوجوب
وبه قال جماعة من المعتزلة، وابن
شريج، وأبو سعيد الأصطخري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري من حديث مالك بن
الحويرث، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم "6008" ومسلم، كتاب
المساجد، باب من أحق بالإمامة "674". وأبو داود، كتاب الصلاة، باب من
أحق بالإمامة "589". وأحمد في مسنده "3/ 436". والنسائي، كتاب الأذان، باب اجتزاء المراء بأذان غيره "2/
9". والبيهقي في سننه "2/ 17". وابن حبان في صحيحه "1658".
2 أخرجه مسلم، من حديث جابر كتاب
الحج باب استحباب رمي حجرة العقبة يوم النحر "1297". وأبو داود، كتاب
المناسك، باب التعجيل من جمع "1944". الترمذي، كتاب الحج، باب ما جاء في
الإفاضة من عرفات "886". النسائي، كتاب الحج، باب الأمر بالسكينة في الإفاضة
من عرفة "5/ 258". وابن ماجه، كتاب الحج، باب الوقوف بجمع "3023".
وأبو يعلى في مسنده "2147".
3 والحديث عن عبد الله بن عمر قال:
قطع النبي صلى الله عليه وسلم سارقًا من المفصل. أخرجه ابن عدي في الكامل تحت ترجمة
خالد بن عبد الرحمن المخزومي "3/ 38". وابن أبي شيبة في مصنفه من طريق
رجاء بن حيوه مرسلًا في كتاب الحدود، باب ما قالوا من أين تقطع "6/
528". وذكره الحافظ الزيلعي في نصب الراية "3/
270" وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا موقوفًا على سيدنا عمر رضي الله عنه "6/
528".
4 الكوع والكاع: طرف الزند الذي يلي
الإبهام. ا. هـ. الصحاح مادة كوع.
5 هو الحسن بن أحمد بن يزيد،
الإصطخري، أبو سعيد، الشافعي الإمام القدوة، العلامة، شيخ الإسلام، فقيه العراق،
توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة هجرية. من آثاره:
"كتاب أدب القضاء". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 250" شذرات
الذهب "2/ 312".
ج / 1 ص -106- وابن خيران1، وابن أبي
هريرة2.
واستدلوا على ذلك بالقرآن والإجماع
والمعقول:
أما القرآن فبقوله تعالى: {وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}3 وقوله: {قُلْ
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}4 وقوله: {فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}5 وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِر}6
وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ}7.
وأما الإجماع: فلكون الصحابة كانوا
يقتدون بأفعاله. وكانوا يرجعون إلى رواية من يروي لهم شيئًا منها في مسائل كثيرة
منها: أنهم اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين فقالت عائشة: "فعلته أنا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم"8 فرجعوا إلى ذلك وأجمعوا عليه.
وأما المعقول فلكون الاحتياط يقتضي
حمل الشيء على أعظم مراتبه.
وأجيب عن الآية الأولى:
بمنع تناول قوله: {وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُول} للأفعال بوجهين:
الأول:
أن قوله: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا} يدل على أنه أراد بقوله: {وَمَا ءآتَيْتُكُم} ما أمركم.
الثاني:
أن الإتيان إنما يأتي في القول.
والجواب عن الآية الثانية:
أن المراد بالمتابعة فعل مثل ما
فعله، فلا يلزم وجوب فعل كل ما فعله، ما لم يعلم أن فعله على وجه الوجوب، والمفروض
خلافه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الحسين بن صالح بن خيران، أبو
علي، الإمام شيخ الشافعية، البغدادي، عرض عليه القضاء فلم يتقلده، توفي سنة عشرين
وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 58""، شذرات الذهب
"2/ 287".
2 هو الحسن بن الحسين بن أبي هريرة،
أبو علي، البغدادي، القاضي، شيخ الشافعية، انتهت إليه رياسة المذهب، أخذ عنه
الطبري والدراقطني، توفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء
"15/ 430"، شذرات الذهب "2/ 370".
3 جزء من الآية "7" من
سورة الحشر.
4 جزء من الآية "31" من
سورة آل عمران.
5 جزء من الآية "63" من
سورة النور.
6 جزء من الآية "21" من
سورة الأحزاب.
7 جزء من الآية "59" من
سورة النساء.
8 ولفظ الحديث عن عائشة "إذا
جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم
فاغتسلنا" رواه الترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء إذا التقى الختانان وجب
الغسل "108" وقال حسن صحيح. وفي الباب عن أبي هريرة. وأخرجه ابن ماجه،
كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان برقم
"608"، أحمد في المسند "6/ 161". المزني في مختصره، باب الماء
من الماء "495"، وقال في التلخيص لابن حجر "1/ 134"
وصححه ابن حبان وابن القطان.
ج / 1 ص -107- والجواب عن الآية
الثالثة:
أن لفظ الأمر حقيقة في القول
بالإجماع، ولا نسلم أنه يطلق على الفعل، على أن الضمير في أمره يجوز أن يكون
راجعًا إلى الله سبحانه؛ لأنه أقرب المذكورين.
والجواب عن الآية الرابعة:
أن التأسي هو الإتيان بمثل فعل الغير
في الصورة والصفة، حتى لو فعل صلى الله عليه وسلم شيئًا على طريق التطوع وفعلناه
على طريق الوجوب لم نكن متأسين به فلا يلزم وجوب ما فعله إلا إذا دل دليل آخر على
وجوبه، فلو فعلنا الفعل الذي فعله مجردًا عن دليل الوجوب، معتقدين أنه واجب علينا
لكان ذلك قادحًا في التأسي.
والجواب عن الآية الخامسة:
أن الطاعة هي الإتيان بالمأمور أو
المراد على اختلاف المذهبين، فلا يدل ذلك على وجوب أفعاله صلى الله عليه وسلم.
وأما الجواب عن دعوى إجماع الصحابة:
فهم لم يجمعوا على كل فعل يبلغهم، بل
أجمعوا على الاقتداء بالأفعال على صفتها التي هي ثابتة لها من وجوب أو ندب أو
نحوهما والوجوب في تلك الصورة لمذكورة مأخوذ من الأدلة الدالة على وجوب الغسل من
الجنابة.
وأما الجواب عن المعقول:
فالاحتياط إنما يصار إليه إذا خلا عن
الغرر قطعا، وهاهنا ليس كذلك لاحتمال أن يكون ذلك الفعل حرامًا على الأمة وإذا
احتمل لم يكن المصير إلى الوجوب احتياطًا.
القول الثاني: أنه للندب
وقد حكاه الجويني في "البرهان" عن الشافعي فقال: وفي كلام الشافعي ما يدل عليه،
وقال الرازي في "المحصول": إن هذا القول نسب
إلى الشافعي، وذكر الزركشي في "البحر"1: أنه حكاه عن القفال2 وأبي حامد
المروزي3 واستدلوا بالقرآن والإجماع والمعقول.
أما القرآن فقوله تعالى: {لقَدْ
كَانَتْ لَكُم في رسول اللهْ أُسْوَةٌ حَسَنَة}4، ولو كان التأسي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه "البحر المحيط في
الأصول" للإمام الزركشي. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 226".
2 هو محمد بن علي بن إسماعيل، أبو
بكر، الإمام العلامة، الفقيه، الأصولي، اللغوي عالم خراسان الشافعي، القفال،
الكبير، توفي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "دلائل النبوة"
"محاسن الشريعة". ا. هـ. سير أعلام البنلاء "16/ 283"، شذرات
الذهب "3/ 51" هدية العارفين "2/ 48".
3 هو أحمد بن بشر بن عامر، المروزي،
أبو حامد، شيخ الشافعية، مفتي البصرة، توفي سنة اثنتين وستين وثلاثمائة هـ، من
أثاره: "الجامع" في المذهب "شرح مختصر المزني" ا. هـ. سير
أعلام النبلاء "16/ 166"، شذرات الذهب "3/ 40"،
هدية العارفين "1/ 66".
4 جزء من الآية "21" من
سورة الأحزاب.
ج / 1 ص -108- واجبًا لقال عليكم،
فلما قال {لَكُمْ} دل على عدم الوجوب ولما "أثبت"* الأسوة دل على رجحان
جانب الفعل على الترك، وإن يكن مباحًا.
وأما الإجماع: فهو أنا رأينا أهل
الأعصار متطابقين على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك يدل على انعقاد
الإجماع على أنه يفيد الندب؛ لأنه أقل ما يفيده جانب الرجحان.
وأما المعقول: فهو أن فعله إما أن
يكون راجحًا على العدم أو مساويًا له أو دونه، والأول متعين؛ لأن الثاني والثالث
مستلزمان أن يكون فعله عبثًا وهو باطل وإذا تعين أنه راجح على العدم فالراجح على
العدم قد يكون واجبًا وقد يكون مندوبًا، والمتيقن هو الندب.
وأجيب عن الآية: بأن التأسي هو إيقاع
الفعل على الوجه الذي أوقعه عليه فلو فعله واجبًا أو مباحًا وفعلناه مندوبًا لما
حصل التأسي. وأجيب عن الإجماع: بأنا لا نسلم أنهم استدلوا
بمجرد الفعل، لاحتمال أنهم وجدوا مع الفعل قرائن أخر.
وأجيب عن المعقول: بأنا لا نسلم أن
فعل المباح عبث؛ لأن العبث هو الخالي عن الغرض، فإذا حصل في المباح منفعة ناجزة لم
يكن عبثًا "بل"** من حيث حصول النفع به خرج عن العبث، ثم حصول الغرض في التأسي
بالنبي صلى الله عليه وسلم ومتابعة أفعاله بين، فلا يعد من أقسام العبث.
القول الثالث: أنه للإباحة
قال الرازي في "المحصول":
وهو قول مالك1 ولم يحك الجويني قول الإباحة هاهنا؛ لأن
قصد القربة لا يجامع استواء الطرفين لكن حكاه غيره كما قدمنا عن الرازي وكذلك حكاه
ابن السمعاني2 والآمدي، وابن الحاجب حملًا على أقل الأحوال. واحتج من قال بالإباحة:
بأنه قد ثبت أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يكون صادرًا على وجه يقتضي
الإثم لعصمته، فثبت أنه لا بد أن يكون إما مباحًا أو مندوبًا أو واجبًا. وهذه
الأقسام الثلاثة مشتركة في رفع الحرج عن الفعل. فأما رجحان الفعل فلم يثبت على
وجوده دليل، فثبت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": أتت.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الإمام مالك بن أنس بن مالك،
شيخ الإسلام، حجة الأمة، إمام دار الهجرة، ولد سنة ثلاث وتسعين هجرية، وتوفي سنة
تسع وتسعين ومائة هجرية، ودفن في البقيع. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/
48"، تذكرة الحفاظ "1/ 208"، شذرات الذهب
"1/ 289".
2 هو منصور بن محمد بن عبد الجبار،
التميمي، السمعاني المروزي، شيخ الشافعية، ولد سنة ست وعشرين وأربعمائة هـ، وتوفي سنة
تسع وثمانين وأربعمائة هـ، من آثاره: كتاب "الاصطلام" وكتاب
"البرهان" و"الأمالي". ا. هـ. سير
أعلام النبلاء "19/ 114" شذرات الذهب "3/ 393"،
هدية العارفين "2/ 473".
ج / 1 ص -109- بهذا أنه لا حرج في
فعله، كما أنه لا رجحان في فعله، فكان مباحًا وهو المتيقن، فوجب التوقف عنده وعدم مجاوزته
إلى ما ليس بمتيقن. ويجاب عنه: بأن محل النزاع كما عرفت هو كون ذلك الفعل قد ظهر
فيه قصد القربة وظهورها ينافي مجرد الإباحة وإلا لزم أن لا يكون لظهورها معنى يعتد
به.
القول الرابع:
الوقف، قال الرازي في
"المحصول": وهو قول الصيرفي1 وأكثر المعتزلة، وهو المختار انتهى.
وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن أكثر أصحاب الشافعي، وحكاه
أيضًا عن الدقاق2، واختاره القاضي أبو الطيب الطبري3. وحكاه في "اللمع"
عن الصيرفي وأكثر المتكلمين. وعندي أنه لا معنى للوقف في الفعل الذي قد ظهر فيه
قصد القربة، فإن قصد القربة يخرجه عن الإباحة إلى ما فوقها، والمتيقن مما هو فوقها
الندب.
وأما إذا لم يظهر فيه قصد القربة، بل
كان مجردًا مطلقًا فقد اختلفوا فيه بالنسبة إلينا على أقوال:
الأول: أنه واجب علينا
وقد روي هذا عن ابن سريج، قال
الجويني "وهو كذلك في النقل عنه، وهو أجل قدرًا من ذلك ولكن حكاه ابن الصباغ4
عن الاصطخري"* وابن خيران، وابن أبي هريرة، والطبري، وأكثر متأخري الشافعية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن عبد الله الصيرفي، أبو
بكر، أحد المتكلمين الفقهاء من الشافعية من أهل بغداد، توفي سنة ثلاثين وثلاثمائة
هجرية، كان أعلم الناس بالأصول بعد الشافعي من آثاره: "كتاب الفرائض"
البيان في دلائل الإعلام على أصول الأحكام".ا. هـ الأعلام "6/ 224".
2 هو محمد بن محمد بن جعفر الدقائق.
أبو بكر، الفقيه، الشافعي، الأصولي، الذي ولي القضاء بكرخ ببغداد، له كتاب في
الأصول، على مذهب الإمام الشافعي توفي سنة اثنتين وتسعين وثلثمائة هـ، ا. هـ تاريخ
بغداد "3/ 229".
3 هو طاهر بن عبد الله بن طاهر،
الطبري الشافعي، شيخ الإسلام، القاضي، فقيه، ولد سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة هـ،
وتوفي سنة خمسين وأربعمئة هـ، من آثاره: "شرح مختصر المزني".
ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 668" شذرات الذهب
"3/ 284"، هدية العارفين "1/ 429".
4 هو عبد السيد بن محمد، أبو نصر،
البغدادي، الفقيه، المعروف بابن الصباغ، ولد سنة أربعمائة هـ، وتوفي سنة سبع
وسبعين و أربعمائة هـ، من آثاره: "الشامل" "الكامل"
"تذكرة العالم والطريق السالم". ا. هـ. سير
أعلام النبلاء "18/ 464" هدية العارفين "1/ 573"، شذرات الذهب
"3/ 355".
ج / 1 ص -110- وقال سليم الرازي1:
أنه ظاهر مذهب الشافعي، واستدلوا بنحو ما استدل به القائلون بالوجوب مع ظهور قصد
القربة.
ويجاب عنهم بما أجيب به عن أولئك بل
الجواب عن هؤلاء بتلك الأجوبة أظهر لعدم ظهور قصد القربة في هذا الفعل، وقد اختار
هذا القول أبو الحسين بن القطان2 والرازي في "المعالم"3، قال القرافي4:
وهو الذي نقله أئمة المالكية في كتبهم الأصولية والفروعية، ونقله القاضي أبو بكر
عن أكثر أهل العراق.
القول الثاني: أنه مندوب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق