Translate

الخميس، 15 يونيو 2023

ج1وج2.الايضاح في علوم البلاغة

ج1وج2. الإيضاح في علوم البلاغة

ج / 1 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم

الكلمة الأولى

أحمده وأسأله التوفيق والسداد، وبعد:

فهذ اشرح جديد مفصل، لكتاب الإيضاح، تأليف العالم الإمام الخطيب القزويني، إمام البلاغة وشيخ البيان، المتوفى عام 739هـ.

توخيت فيه عمق البحث، ودقة التحليل، والعناية ببسط المسائل، وحل المشكلات، وأومأت فيه إلى شتى المراجع والمصادر. ليكون جامعًا لمسائل البلاغة ومصدرا للدراسات العالية فيها، ومرجعا للطلاب والدارسين والباحثين. والله يعلم مقدار ما أخذ مني من جهد وبحث ومراجعة، ومع ذلك فقد ثابرت على كتابته وإخراجه، لسد النقص الذي نلمسه في دراسات البلاغة.

وقد ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب عام 1949، وها هي ذي الطبعة الثانية منقحة مهذبة. والله أسأله أن يجعله خالصًا لوجهه، وأن ينفع به العلم والثقافة ولغة الكتاب العزيز. فهو وليي، نعم المولى ونعم النصير.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

محمد عبد المنعم خفاجي.

الإيضاح في علوم البلاغة

ج / 1 ص -4- مقدمات:

نشأة البلاغة العربية ومراحل التأليف فيها:

1- كان القرن الثاني الهجري أول عصر شهد نشأة آراء كثيرة أصيلة ومترجمة حول البلاغة1 وعناصرها، بعد فساد الملكات، وقد أخذ العلماء في بحث أصول بلاغات العرب، وفي تدوين آرائهم في معنى كلمة البلاغة والفصاحة. وأهم ما يؤثر من ذلك: وصية بشر بن المعتمر -من زعماء المعتزلة وتوفي نحو عام 210هـ- في البلاغة2، وتفسير ابن المقفع للبلاغة3، وتعريف العتابي لها4، ووصية5 أبي تمام للبحتري تدخل في هذا الباب، ويقول البحتري خير الكلام ما قل ودل ولم يمل6، وفي البيان للجاحظ تحديد البلاغة كما يراها حكيم الهند7، ويقسمها الكندي فيلسوف العرب المتوفى عام260هـ إلى ثلاثة أنواع: فنوع لا تعرفه العامة ولا تتكلم به، ونوع بالعكس،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لا تجد في العصر الجاهلي كلمات من البلاغة إلا ما روي عن عامر بن الظرب حين سئل من أبلغ الناس؟ فقال: من حلى المعنى المزين باللفظ الوجيز وطبق المفصل قبل التحزيز "206 جـ1 العمدة، 280 جـ2 الأمالي" وفي العصر الأموي نجد لمعاوية كلمات في البلاغة ولسواه، روي أن معاوية سأل صحارًا عنها فأجابه "راجع 81 جـ1 البيان، 18 جـ2 الكامل".

2 104 وما بعدهاجـ1 البيان.

3 91 جـ1 البيان، 214 جـ1 العمدة، 75 جـ1 البيان، 44-46 الرسالة العذراء، 2 و3 و22 و23 جـ3 العقد، 140-150 جـ1 زهر الآداب.

4 90 و157 جـ1 البيان.

5 151 جـ1 زهر الآداب.

6 36 جـ1 المستطرف وتروى عن الثعالبي برواية أخرى: "ماقل ودل" "218 جـ1 العمدة".

7 78 و79 جـ1 البيان، 20-38 الصناعتين، 144 جـ1 زهر، 44 الرسالة العذراء.

ج / 1 ص -5- ونوع تعرفه ولا تتكلم به وهو أحمدها1، وذكر بزر جمهر حكيم الفرس فضائل الكلام ورذائلة في كلمة مترجمة رواها صاحب الموازنة2. إلى آخر هذه الكلمات والآراء.

2- ثم ألفت بعد ذلك كتب تجمع كثيرًا من الآراء والدراسات الموجزة حول البلاغة وبحوثها. ومن هذه الكتب: مجاز القرآن لأبي عبيدة م 207هـ والفصاحة للدينوري م 280هـ3 والتشبيه والتمثيل للفضل بن نوبخت4 وصناعة الكلام للجاحظ5، ونظم القرآن 6 والتمثيل 7 له أيضًا، والبلاغة وقواعد الشعر للمبرد8.. وفي الكامل إشارات لمسائل كثيرة في البلاغة، وكذلك الرسالة العذراء لابن المدبر، والبلاغة للحراني"9"، وقواعد الشعر لثعلب، وقد نشرته عام 1948 بشروح كثيرة، والبلاغة والخطابة للمروزي 10 والمطابق والمجانس لابن الحرون 11 وتهذيب الفصاحة لأبي سعيد الأصفهاني12 وإعجاز القرآن في نظمه وتأليفه للواسطي المعتزلي م 306هـ، وصنعة البلاغة للباحث، وللسيرافي م 368هـ. ونظم القرآن لابن الأخشيد 13، وكذلك لابن أبي داود م 316هـ 14 وكتاب الرد على من نفى المجاز في القرآن للحسن بن جعفر 15 ومن هذه الكتب أيضًا المفصل في البيان، والفصاحة للمرزباني م 378هـ.

على أن أهم الكتب التي تناولت بعض مسائل البلاغة بالبحث،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 219 جـ1 العمدة.

2 183 الموازنة.

3 116 الفهرست لابن النديم.

4 383 المرجع.

5 38 الجاحظ لمردم.

6 40 المرجع.

7 76 جـ6 معجم الأدباء.

8 88 فهرست، 144 جـ7 معجم الأدباء.

9 178 فهرست.

10 215 فهرست.

11 212 فهرست.

12 197 فهرست.

13 57 و58 فهرست.

14 324 فهرست.

15 520 فهرست.

ج / 1 ص -6- أو التي ألفت فيها خاصة هي: كتاب جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي، ففي مقدمته بحوث موجزة طريفة تتصل بالبلاغة. وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وهو أهم ماألف في هذا الطور من كتب تتصل ببلاغات العرب نثرًا وشعرًا، وتتعرض لتحديد البلاغة بما حولها من آراء كانت ذائعة في عصر الجاحظ، وفيه كثير من بحوث البلاغة، فهو يعرف الاستعارة1 ويتكلم على السجع2 ويشير إلى التفصيل والتقسيم3 والاستطراد والكناية4 والأمثال5 والاحتراس6 والقلب7 والأسلوب الحكيم 8، والجاحظ أول من تكلم على المذهب الكلامي9 ويرى البلاغة في النظم لا في المعاني10 وهو ماذهب إليه ابن خلدون 11، والجاحظ يشيد بالإيجاز12، كما يدعو في البيان كثيرًا إلى ترك الوحشي والسوقي، ويحث على الإفهام والوضوح، وعلى ترك التعمق والتهذيب في صناعة الكلام، إلى غير ذلك من شتى مادونه في البيان. ولا يضير الجاحظ أن كانت دراساته موجزة مفرقة كما يقول أبو هلال 13، فهي على كل حال ذات أثر كبير في نشأة البيان، وهي التي أوحت إلى كثير أن يعدوا الجاحظ الواضع الأول لعلم البيان. ومن الخطأ التهوين بأثر الجاحظ في البيان كما ذهب إليه بعض الباحثين المحدثين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 116 جـ1 البيان.

2 194 جـ1 البيان.

3 170 جـ1 و91 جـ2 البيان.

4 180 جـ و8 و29 و31 و80 جـ3 البيان.

865 و88 و114 و183 جـ1 و224 جـ2 البيان.

1616 جـ1 البيان.

7 180 جـ1 البيان.

2018 و202 جـ2 البيان.

1019 البديع لابن المعتز نشر محمد خفاجي، 76 جـ2 العمدة.

4010 جـ3 الحيوان.

57711 مقدمة ابن خلدون. ويقول شيلر: في الفن الشكل هو كل شيء والمعنى ليس شيئًا مذكورًا.

8312 و86 جـ1 ومواضيع أخرى.

13 ص6 و7 الصناعتين.

ج / 1 ص -7- 3- وقد بدأ التدوين في البلاغة على يد ابن المعتز الذي ألفه كتابه القيم "البديع"1 وثعلب الذي ألف كتابه "قواعد الشعر"، وبعد قليل ظهر نقد النثر كما ظهر نقد الشعر لقدامة بن جعفر المتوفى عام 337هـ. ثم كتاب الصناعتين لأبي هلال المتوفى عام 395هـ، ثم كتاب الموازنة للآمدي، والوساطة للجرجاني، وإعجاز القرآن للباقلاني، وسر الفصاحة لابن سنان الخفاجي، والعمدة لابن رشيق وهما أكثر الكتب اتصالًا بالبلاغة.

4- ثم جاء بعد ذلك أبو بكر عبد القاهر الجرجاني شيخ البلاغة العربية والمتوفى عام 471هـ. فألف في البلاغة كتابين جليلين هما:

1- أسرار البلاغة، وفيه دراسات واسعة تتناول بحوث علم البيان من تشبيه ومجاز واستعارة وفيه شرح للسرقات وبعض ألوان البديع.

2- دلائل الإعجاز، وفيه بحوث كثيرة هي أصول علم المعاني. كماأنه تحدث فيه عن الكناية وعن التمثيل والمجاز والاستعارة والسرقات أيضًا.

5- وبعد عصر الجرجاني بحث الزمخشري في تفسيره، والرازي في كتابه "نهاية الإعجاز"، وابن الأثير صاحب المثل2 السائر، وبدر الدين بن مالك صاحب المصباح، والتنوخي صاحب "الأقصى القريب"، وكثير من العلماء، في البلاغة والفصاحة.

ومن أهم هؤلاء العلماء في هذا الطور أبو يعقوب السكاكي المتوفى عام 626هـ تلميذ الحاتمي3، الذي ألف كتابه "المفتاح"، وجعله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 على نهجه ألف ابن منقذ المتوفى عام 84هـ كتابه "البديع".

2 شرحه عز الدين بن أبي الحديد م 665هـ في كتابه "الفلك الدائر على المثل السائر".

3 73 المفتاح.

ج / 1 ص -8- أقسامًا، وخص البلاغة بالقسم الثالث منه، وقسمها إلى ثلاثة أقسام: المعاني -البيان- البديع. وبذلك تميزت علوم البلاغة ومباحث كل علم منها بالتفصيل.

والفلسفة والمنطق تغلب على السكاكي إلى حد كبير، من حيث كان يغلب الذوق والطبع على عبد القاهر.

وبذلك تنتهي مراحل التأليف والابتكار في بحوث البلاغة وتدوينها تدوينًا كاملًا.

6- وجاء الخطيب القزويني المتوفى عام 739 فألف في البلاغة كتابيه: تلخيص1 المفتاح والإيضاح. وقد ألف الإيضاح ليكون كالشرح لتلخيص المفتاح وجمع فيه كثيرًا من آراء عبد القاهر والسكاكي في شيء من التنظيم والشرح.

وعلى متن التلخيص كثرت الشروح والحواشي والتقارير وفي مقدمتها الأطول للعصام، والمطول2 للسعد وشروح التلخيص وسواها... وهذه أهم كتب البلاغة وشروحها في هذا العهد. قوانين البلاغة لعبد اللطيف البغدادي م 629هـ، والتبيان لابن الزملكاني م651هـ، والمعيار للزنجاني م654هـ، وبديع القرآن لابن أبي الأصبع م654هـ، والفوائد الغياثية للعضد م 756هـ وشرحها الكرماني م 786هـ والتبيان لشرف الدين الطيبي م743هـ، والطراز ليحيى ابن حمزة العلوي م 749هـ، وعروس الأفراح للسبكي م 773هـ، والسمرقندية للسمرقندي وهي رسالة في الاستعارات، وتوفي السمرقندي عام 880هـ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لزكريا الأنصاري م 926هـ "مختصر تلخيص المفتاح": وللعباسي م 963 شرح لشواهد التلخيص سماه معاهد التنصيص.

2 عليه كتاب في شرح شواهده اسمه عقود الدرر في حل أبيات المطول والمختصر، وهو مطبوع طبعة حجر عام 1307هـ في 166 صفحة.

ج / 1 ص -9- 9- شروح المفتاح للسكاكي.

أ- شرحه بتمامه المولى حسام.

ب- وشرح القسم الثالث منه: الشيرازي م 710هـ في "مفتاح الفتاح"، والترمذي وهو معاصر للشيرازي، والخلخالي م 745هـ، والسعد "712-791هـ"، والسيد م 816هـ في "المصباح" الذي ألفه عام 803 "1"هـ، وعماد الدين الكاشي. وله رسالة في حل المتشابهات التي أوردها الخطيب على المفتاح، والأبهري سلطان شاه، وطاشكبري زاده م 962هـ، وشيخ زاده م 951هـ، والشربيني م 769هـ، والخوارزمي، وقد فرغ منه عام 642هـ، والفناري م834، وله على شرحي السعد والسيد تعليقات، وابن كمال باشام 940، وسواهم.

ج- واختصر القسم الثالث منه:

المعانيجي م 990هـ، والقزويني 666-739هـ، والأيجي م756هـ في الفوائد الغياثية، وبدر الدين ابن مالك م 686هـ في "المصباح في اختصار المفتاح" ونظم "المصباح" المراكشي، ثم شرحه وسماه "ضوء المصباح على ترجيز المصباح"، واختصر هذا المختصر ابن النحوية م 718هـ، وسماه "ضوء الصباح"، ثم شرحه في مجلدين في كتاب أسفار المصباح عن ضوء المصباح، ولمحمد بن خضر "مصباح الزمان في شرح المصباح".

هذا وقد ألف السعد "المطول على تلخيص المفتاح للخطيب القزويني" وانتهى من تأليفه عام 748هـ، كما انتهى من تأليف مختصر المطول عام 756هـ.. وفرع ابن يعقوب من تأليف شرحه على مختصر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 على شرح السيد حواش: للبسطامي م 871هـ، وللمولى اللطفي م 900هـ، ولحميد الدين م 908هـ، ولأسعد الناجي م 922، ولمحيي الدين الفنري م 954، وللشهاب الخفاجي م 1069هـ.

ج / 1 ص -10- السعد في مكناسة في المحرم 1108هـ.. وانتهى ابن السبكي من تأليف شرحه "عروس الأفراح" على مختصر السعد في جمادى الأولى عام 758هـ.. وانتهى الدسوقي من كتابة شرحه على مختصر السعد في شوال عام 1210هـ.

8- يمتاز الإيضاح للخطيب القزويني بعدة ميزات ظاهرة: فهو أوفى كتاب في بحوث البلاغة، وهو أوضح الكتب المؤلفة فيها نظامًا وأسلوبًا، وهو كثير البحث والتعمق والاستنباط لأسرار البلاغة العربية، فوق أنه كتاب تطبيقي جميل في البلاغة، وينقد القزويني فيه كثيرًا من آراء السكاكي، وإن كان يعتمد الخطيب فيه على عبد القاهر والسكاكي كثيرًا. ومع ذلك فالخطيب يجمع في كتابه خلاصات لبحوث علماء البلاغة في شتى العصور حتى عصره، والكتاب بعد ذلك غزير المادة، كبير الفائدة في الأدب والنقد والبلاغة والبيان1.

وهناك مؤلفات جديدة ظهرت في البلاغة في عصر الحواشي، ومن بينها عقود الجمان للسيوطي. كما ظهرت في العصر الحديث عدة مؤلفات في البلاغة فيها لون من التهذيب والتنسيق وحسن الأخذ والاختيار.

وبذلك تنتهي مراحل التأليف في البلاغة منذ نشأتهاحتى الآن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 شرحه الاقصرائي م 800هـ وحيدرة م 820هـ، والأستاذ الصعيدي والأستاذ التنوخي.

ج / 1 ص -11- الخطيب وأثره في البلاغة العربية:

والخطيب القزويني1 هو "جمال الدين أبو المعالي محمد بن عبد الرحمن، ابن خطيب دمشق" كما يقول جورجي زيدان، وبتفصيل أوسع هو "الشيخ الإمام العالم العلامة خطيب الخطباء، مفتي المسلمين، جلال الدين، أبو عبد الله، محمد، ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي محمد عبد الرحمن، ابن إمام الدين أبي حفص عمر، القزويني الشافعي" كما يقول تلاميذه أو هو نفسه في مقدمة كتابه "الإيضاح" فهو من أسرة علمية ودينية كبيرة، كان لها ولاشك أثرها في حياته وتفكيره وروحه.

ولد عام 666هـ، وتعلم الفقه، وتولى القضاء، وانتقل إلى دمشق، وتولى الخطابة في مسجدها، ثم تولى القضاء بمصر، وتمكن نفوذه فيها أيام الملك الناصر، اكتسب مالًا طائلًا، ثم جاء إلى دمشق وتوفي فيها. وأشهر مؤلفاته تلخيص المفتاح، والإيضاح في المعاني والبيان2، وكانت وفاته عام 739هـ، كمايقول صاحب الدرر الكامنة.

وتدل مؤلفات الخطيب في البلاغة على ثقافة بلاغية وأدبية واسعة وقراءة مستفيضة لأهم المؤلفات في البلاغة وفي مقدمتها: "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" لعبد القاهر، والمفتاح للسكاكي.

ألف الخطيب مختصرًا صغيرًا للمفتاح في البلاغة، أو للقسم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 شذرات الذهب، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، وسواها.

2 وقد حرف جورجي زيدان اسمه فذكره "الإفصاح" بدل الإيضاح ""44 جـ3 تاريخ أدب اللغة العربية".

ج / 1 ص -12- الثالث بعبارة أوضوح، وسماه "تلخيص المفتاح1" لخص فيه ذلك السفر القيم وقدم فيه وأخر، وحذف واختصر، وفيه بعض آراء له لم يرتضها جهابذة هذه الفنون، "ومن العجيب أن يسمي كتابه بهذا الاسم، وهو في رأي أحد الباحثين ليس بالتلخيص له وحده، بل أشبه بأن يكون تلخيصًا لكتابي أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لعبد القاهر ولسر الفصاحة لابن سنان الخفاجي.. وروح التلخيص من الكتاب الأخير واضح كل الوضوح في مقدمته"2 وقد يكون في هذا الرأي لون من المبالغة، فمتن التلخيص ليس تلخيصًا للأسرار ودلائل وسر الفصاحة في قليل ولا كثير، إنما هو تلخيص للقسم الثالث من المفتاح وحده، وما فيه من روح التأثر بعبد القاهر فمرجعه إلى المفتاح نفسه، الذي اعتمد فيه السكاكي على عبد القاهر إلى حد بعيد. وقد يستساغ ذلك في الإيضاح لا في "تلخيص المفتاح".

ثم ألف الخطيب كتابه الإيضاح في البلاغة على ترتيب التلخيص، وبسط القول فيه ليكون كالشرح له، فأوضح مواضعه المشكلة، وفصل معانيه المجملة، واعتمد على المفتاح والأسرار والدلائل وغير هذه المؤلفات في بحوثه ودراساته فيه، كما يشير إليه الخطيب نفسه في مقدمة الإيضاح. والكتاب "فيه أمهات مسائل هذه الفنون بعبارة واضحة فيها روح من أسلوب عبد القاهر الجامع بين التحقيق العلمي والرصانة الأدبية3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 شرحه الخلخالي م 745، وناظر الجيش م 778هـ والبابرتي م 786، وشمس الدين القونوي م 788هـ، التيزيتي م 793هـ، والسيد عبد الله م 800هـ، وعصام الدين م 951هـ، والسعد م 791هـ... وعلى شرح السعد شروح: ليسن الحمصي م 961، ولابن يعقوب م 1108هـ وللدسوقي هـ 1230هـ.

2 62، 137 بحوث وآراء في علوم البلاغة للأستاذ المرحوم أحمد المراغي.

3 63 المراجع.. وفي المكتبة الأزهرية حاشية مخطوطة على أبيات الإيضاح، وهي نسخة في مجلد بقلم فارسي في 126 ورقة بنمرة "43" 1095 وفيها نسخة أخرى في مجلد بقلم معتاد بخط محمد حسن سنة 1365 في 150 ورقة بنمرة "2110" 5286 شرح مخطوط على الإيضاح، بدار الكتب المصرية.

ج / 1 ص -13- وعلى "تلخيص المفتاح للخطيب" كثير من الشروح والحواشي والتقارير ممايدل على مدى شهرته العلمية عند الباحثين. ولا يزال منهج الخطيب في البلاغة وفي تلخيصه بالذات هو المنهج العلمي في علوم البلاغة إلى عصرنا الراهن.

وكتاب الإيضاح عمل جليل في البلاغة سواء في ترتيبه وتقسيمه وتنظيم بحوثه، أم في استيعابه واستقصائه وتحليله، أم في جمعه واستمداده من شتى المصادر والمراجع، أم في أسلوبه الأدبي وروحه وكثرة تطبيقاته الأدبية، وهو أهم كتاب دراسي في البلاغة في العصر الحاضر.

وهذا شرح جديد للإيضاح، يتناول بالبحث والتحليل والدراسة والتعليق والشرح جميع مسائله وشواهده، ويشير إلى مصادره ومراجعه التي ألف منهاالخطيب هذا الكتاب. وهو عمل سيكون له أثره في البلاغة العربية، وفي خدمة الإيضاح وتذليل صعوبات البحث فيه بتوفيق الله.

ويمتاز هذا الشرح بدقة البحث. وطول المراجعة، وكثرة الشرح والتفصيل، والإلمام بكل رأي، وتحليل كل مذهب ما عليه وماله، وبعرض آراء جديدة في شتى بحوث البلاغة وعلومها.. كما يمتازا بمقدمته التي هي تأريخ للبلاغة ونشأتها وأطوار التأليف فيها، وغير ذلك مما يحتوي عليه من مميزات، وقد وضعنا للكتاب بعض العناوين المساعدة على فهمه وإيضاحه.

ج / 1 ص -14- ترجمة الخطيب:

عن الدر الكامنة لابن حجر 1، والعقد المذهب لابن الملقن، وشذرات الذهب2.

هو قاضي القضاة أبو المعالي جلال الدين محمد بن القاضي سعد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن إمام الدين عمر القزويني الشافعي.

ولد بالموصل سنة 666 وسكن بلاد الروم، مع والده وأخيه واشتغل بالعلم وتفقه على والده وولي قضاء نيكسار من بلاد الروم ثم قدم دمشق وسمع من العز الفاروثي وطائفة وحدث وتفقه واشتغل في الفنون وأتقن الأصول والعربية والمعاني والبيان، وكان فهما ذكيا مفوهًا ذا ذوق سليم حسن الإيراد والمحاضرة حلو العبارة فصيحًا جميل الهيئة كبير الذهن جوادًا أديبًا حسن الخط، وناب عن أخيه الأكبر إمام الدين قاضي قضاة الشام إلى أن مات أخوه سنة 699 ثم ولي خطابة جامع دمشق فأقام بها مادة طويلة ثم طلبه الملك الناصر إلى القاهرة في سنة 724 وكان قدومه على البريد يوم الجمعة فاتفق أنه اجتمع بالناصر ساعة وصوله فأمر به أن يخطب بجامع القلعة فخطب مرتجلًا مع ما هو عليه من التعب وأثر السفر فأعجب به السلطان وشكره وسأله عن حاله وكم عليه من الدين فذكر أن عليه ثلاثين ألف فأمر بوفائها عنه فشافهه بقضاء دمشق فباشرها والخطابة جميعًا إلى أن ولاه قضاء الديار المصرية في سنة 727 فعم أمره جدًّا وصرف مال الأوقاف على الفقراء والمحتاجين وحج مع السلطان فأعانه بمال وأحسن إلى المصريين والشاميين وكان لهم ذخرًا وملجأ ولم يزل على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ص6 جـ4 طبع الهند عام 1350هـ - لابن حجر م852.

2 123/ 6 شذرات الذهب.

ج / 1 ص -15- حاله إلى أن أعيد إلى قضاء الشام بسبب أحوال أولاده وفرح به أهل الشام فأقام قليلًا وتعلل وأصابه فالج فمات منه في سنة 739 عن 73 سنة فأسفوا عليه كثيرًا وشيعه عالم عظيم، وللشعراء فيه مدائح كثيرة ومراث عددة وكان يرغب الناس في الاشتغال بأصول الفقه وفي المعاني والبيان. وتصنيفه المسمى تلخيص المفتاح مشهور ونظمه السيوطي وسماه عقود الجمان.. وله إيضاح التلخيص أيضًا. وكان يعظم الأرجاني الشاعر ويقول أنه لم يكن للعجم نظيره واختصر ديوانه فسماه "السور المرجاني من شعر الأرجاني". وقال الذهبي: عظم شأنه لماولي قضاء الديار المصرية وبلغ من العز ما لا يوصف بحيث لاترد له شفاعة وربما رمي علي يد السلطان نفسه وكان فصيحًا حلو العبارة، مليح الصورة، سمحًا حليمًا كثيرة التحمل وسيرته تحتمل كراريس، وذكر اليوسفي في سيرة الملك الناصر محمد أن القاضي كان محسنًا إلى الناس كثير التصدق والمكارم والبر لأرباب البيوت، قال: أنه لم يوجد لأحد من القضاة منزلة عند سلطان تركي نظير نزله جلال الدين، وكان الناصر يحتمل ما ينقل إليه من سيرة ولده حتى كان يقول لوالي البلد: أكبس فلانًا ثم يرسل إليه يقول: لا تفعل، نبقى في حياء من والده... فرحمه الله تعالى عليهم وغفرانه.

وترجم له السيوطي في بغية الوعاة "ص66"، فنسبه إلى أبي دلف العجلي، وذكر ما لايخرج عما سبق، ثم قال: ولا أعلمه نظم شيئًا مع قوة باعه في الأدب، ومات في منتصف جمادى الأولى عام 739هـ.

ويقول صاحب الدرر الكامنة: أن له ابنًا اسمه محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عمر القزويني، وهو ابن القاضي جلال الدين خطيب جامع دمشق.. وقد ترجم له1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 185 جـ4.. ويقول فيه: أنه ولد عام 701هـ وتفقه ومهر في الخطابة ومات في جمادي الآخر عام 742هـ.

الإيضاح في علوم البلاغة

ج / 1 ص -16- أول كتاب الإيضاح للخطيب القزويني:

تمهيد:

قال الشيخ الإمام، العالم العلامة خطيب الخطباء، مفتي المسلمين، جلال الدين: أبو عبد الله محمد، ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي محمد عبد الرحمن، ابن إمام الدين أبي حفص عمر، القزويني الشافعي. متع الله المسلمين بمحياه، وأحسن عقباه:

الحمد لله رب العالمين وصلاته على محمد وعلى آل محمد أجمعين.

أمابعد: فهذا كتاب في علم البلاغة وتوابعها1، ترجمته 2 بـ"الإيضاح" وجعلته علي ترتيب مختصري الذي سميته تلخيص المفتاح. وبسطت فيه القول ليكون كالشرح له، فأوضحت مواضعه المشكلة، وفصلت معانيه المجملة وعمدت إلى ماخلاعنه المختصر، مماتضمنه "مفتاح العلوم3"، وإلى ماخلاعنه المفتاح من كلام الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني4 رحمه الله -في كتابيه: دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، وإلى ما تيسر النظر فيه من كلام غيرهما5، فاستخرجت زبدة6 ذلك كله، وهذبتها ورتبتها، حتى استقر كل شيء منها في محله، وأضفت إلى ذلك ما أدى إليه فكرى، ولم أجده لغيري. فجاء بحمد الله جامعًا لأشتات هذا العلم. وإليه أرغب في أن يجعله نافعًا لمن نظر فيه من أولى الفهم.

وهو حسبي ونعم الوكيل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 علم البلاغة يشتمل على المعاني والبيان وتوابعها هو علم البديع والكلام في السرقات الشعرية.

2 المراد: سميته.

3 تأليف السكاكي م 626هـ.

4 هو شيخ البلاغة العربية وفيلسوفها. توفي عام 471هـ. واسمه أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني: وله ترجمة في فوات الوفيات وفي بغية الوعاة للسيوطي وعرض له ولكتابيه: الأسرار والدلائل صاحب كتاب بحوث وآراء في علوم البلاغة "ص58، 129-132".. وقد ألفت فيه كتابًا عنوانه "عبد القاهر والبلاغة العربية".

5 أي غير السكاكي والجرجاني.

6 زيدة الشيء: جوهرة وخلاصته.

ج / 1 ص -17- مقدمة1:

في الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة:

وانحصار علم البلاغة في علمي2 المعاني والبيان للناس في تفسير الفصاحة والبلاغة أقوال مختلفة، لم أجد فيما بلغني منها. ما يصلح لتعريفها به، ولا ما يشير إلى الفرق بين كون الموصوف بهما الكلام وكون الموصوف بهما المتكلم 3، فالأولى أن نقتصر على تلخيص القول فيهما بالاعتبارين، فنقول:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 الإيضاح مقسم إلى: مقدمة وثلاثة فنون وخاتمة، فالمقدمة ليست من قبيل مقاصد علم البلاغة وتوابعها، بل هي تمهيد لذلك. والفنون الثلاثة هي من مقاصد البلاغة إلا أن موضوع كل فن منها يختلف عن موضوع الآخر، فموضوع الفن الأول -وهو علم المعاني- الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وموضوع الفن الثاني -علم البيان- الاحتراز عن التعقيد المعنوي، وموضوع الفن الثالث -البديع- ليس الاحتراز عن شيء أصلًا، بل مجرد تحسين اللفظ وتزيينه. والخاتمة تشمل السرقات والكلام علي حسن الابتداء والتخلص وحسن الخاتمة، فهي من الفن الثالث أو متصلة به بصلة كبيرة.

والمقدمة هنا لبيان معنى شيئين: الأول معنى الفصاحة والبلاغة، والثاني انحصار علم البلاغة في علمي المعاني والبيان، وكل ذلك مما يرتبط بالمقصود من الكتاب.. فالمقدمة هنا هي مقدمة كتاب.

وذكر معنى الفصاحة والبلاغة قبل الشروع في مسائل المعاني والبيان والبديع ضروري، لتوقف معرفة معانيها علي معرفة معنى البلاغة والفصاحة.

2 في الأصل "في علم".

3 في هذا الكلام شيء من المجازفة: فقد سبق أبو هلال ببيان الفرق بين الفصاحة والبلاغة في الصناعتين، فذكر أن البلاغة هي كل ماتبلغ به المعنى قلب السامع فتمكنه في نفسه لتمكنه في نفسك مع صورة مقبولة

ج / 1 ص -18- ..........................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= ومعرض حسن، ثم قال: وأما الفصاحة فقد اختلفوا فيها، فقال قوم: إنها مأخوذة من قولهم: أفصح فلان عما في نفسه إذا أظهره وعلى هذا ترجع الفصاحة والبلاغة إلى معنى واحد وإن اختلف أصلهما في اللغة، وقال بعضهم: الفصاحة تمام آلة البيان، وعلى هذا تكون الفصاحة والبلاغة مختلفين، وذلك أن الفصاحة تمام آلة البيان فهي مقصورة على اللفظ والبلاغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب فكأنها مقصورة على المعنى إلخ "39 وما بعدها صناعتين".

وذكر ابن سنان الخفاجي في سر الفصاحة أن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ والبلاغة لاتكون إلاوصفًا للألفاظ مع المعاني، فلا يقال في كلمة واحدة أنها بليغة وإن قيل أنها فصيحة إذا فضلت عن مثلها، وكل كلام بليغ فصيح وليس كل فصيح بليغًا كالذي يقع فيه الإسهاب في غير موضعه، ثم قال: والفصاحة على ذلك شطر البلاغة وأحد جزءيها، ولها شروط إذا تكاملت في الألفاظ فلا مزيد على فصاحتها، وتلك الشروط: منها ما يتعلق باللفظة الواحدة، ومنها ما يوجد في الألفاظ المنظومة بعضها مع بضع.. وهذا كله هو خلاصة رأي القزويني أقتبسه من ابن سنان "راجع ص55 وما بعدها من سر الفصاحة طبعة الرحمانية" وذكر ابن رشيق في العمدة: أن البلاغة والفصاحة راجعان إلى اللفظ والمعنى جميعًا إلخ "ص80 طبعة هندية".

وذكر عبد القاهر: أن البلاغة والفصاحة وما يجري مجارها مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة وينسب فيه الفضل والمزية إليه دون المعنى معناها حسن الدلالة وتمامها فيما له كانت دلالة ثم تبرجها في صورة هي أبهى، ولا جهة لذلك غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته ويختار له اللفظ الذي هو أخص به وأكشف عنه وأحرى بأن يظهر مزية "ص35 من دلائل الإعجاز"، وقال في أسرار البلاغة: أما رجوع الاستحسان "أي الوصف بالبلاغة والفصاحة" إلى اللفظ من غير شرك من المعنى فيه فلا يعدو نمطًا واحدًا، هو أن تكون اللفظ مما يتعارفه الناس في استعمالهم ويتداولونه في زمانهم، ولا يكون وحشيًّا غريبًا أو عاميًّا سخيفًا"ص3 أسرار البلاغة"، فالبلاغة والفصاحة عنده مترادفان، وإن اختلف فهم كلامه فيهما وفي هل يرجعان عنده إلى اللفظ أو إلى المعنى. ويرى عبد القاهر أن الفصاحة تقال لكون اللفظ جاريًا على القوانين المستنبطة من استقراء كلامهم كثير الاستعمال على ألسنة العرب الموثوق بعربيتهم "ص353 دلائل الإعجاز" وهو كلام السكاكي أيضًا "ص176 من المفتاح".

ويرى السكاكي أن البلاغة بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدًّا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، وأما الفصاحة فهي عنده قسمان: قسم يرجع إلى المعنى وهو خلوص الكلام من التعقيد المعنوي، وقسم يرجع إلى اللفظ وهو أن تكون الكلمة عربية أصلية جارية على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم، لا مما أحدثه المولدون، ولا مما أخطأت فيه العامة "وأن تكون" سليمة من التنافر "راجع ص176 من المفتاح".

ويرى ابن الأثير أنه يحتاج في تأليف الكلمات إلى ثلاثة أشياء: اختيار الألفاظ المفردة، ونظم كل كلمة مع أختها بحيث لا يكون هناك قلق ولا منافرة، والغرض المقصود من ذلك الكلام على اختلاف أنواعه... والأول والثاني عنده هما المراد بالفصاحة، والثلاثة بجملتها هي المراد بالبلاغة. وتكلم في كتابة المثل السائر على الصناعة اللفظية "وهي عنده قسمان: قسم اللفظة المفردة، وقسم الألفاظ المركبة"، وعلى الصناعة المعنوية.

ج / 1 ص -19- كل واحدة منهما1 تقع صفة لمعنيين: أحدهما الكلام كمافي قولك قصيدة فصيحة أو بليغة، ورسالة فصيحة أو بليغة، والثاني المتكلم كما في قولك شاعر فصيح أو بليغ، وكاتب فصيح أو بليغ. والفصاحة خاصة تقع صفة للمفرد فيقال: كلمة فصيحة، ولايقال كلمة2

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- أي من البلاغة والفصاحة.

2- هذا هو الفرق بين الفصاحة والبلاغة عند الخطيب، فالفصاحة عنده صفة للمفرد والكلام والمتكلم، والبلاغة صفة للكلام والمتكلم فقط. ولاشك أن من يرى أن البلاغة والفصاحة مترادفان بحيز أن يقال كلمة بليغة كمايقال كلمة فصيحة، وإن كان عبد القاهر -الذي يرى أن الفصاحة والبلاغة مترادفان- يجعلهما وصفًا للكلام لا للفظ المفرد فلاتقول عنده كلمة فصيحة ولا كلمة بليغة.

هذا والمراد بالكلام ما يقابل الكلمة فيشمل المركب الإسنادي والمركب الناقص جميعًا، فإنه قد يكون بيت من القصيدة غير مشتمل على إسناد يصح السكوت عليه مع أنه متصف بالفصاحة مثل:

إذا ما الغانيات برزن يومًا وزججن الحواجب والعيونا

فيكون المراد بالكلام تامًّا أو ناقصًا. وورد على هذا الرأي اعتراضات منها: أن المركب الناقص إنما يصح إدخاله في مدلول الكلام لو كانوا يطلقون على مثل هذا المركب أنه كلام فصيح ولم ينقل عنهم ذلك بل المنقول وصفهم له بأنه فصيح دون كونه كلامًا، على أنه يجوز أن يكون وصفه بالفصاحة باعتبار فصاحة مفرداته.

وقيل أن المركب الناقص خارج عن المفرد وعن المركب التام فلايتصف بالفصاحة والبلاغة بالنظر لذاته بل قد يوصف بها بالنظر لمفرداته.

والصحيح أن المراد بالكلام مايقابل المفرد، حقيقة "وهو اللفظة الواحدة المفردة" أو حكماً "وهو المركب الناقص"، فالمركب الناقص على هذا داخل في المفرد؛ لأن المفرد يطلق على ما يقابل المركب، وعلى ما يقابل المثنى والمجموع وعلى ما يقابل الكلام، ومقابلة المفرد ههنا بالكلام قرينة دالة على أنه أريد به ما ليس بكلام تام الإفادة، فيكون المركب الناقص داخلًا فيه -أي في المفرد.

ج / 1 ص -20- بليغة1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 إذالم يسمع ذلك عن العرب، وهذا هو التعليل الصحيح. وبعضهم يعلل لهذا بأن البلاغة إنما هي باعتبار المطابقة لمقتضى الحال وهي لا تتحقق في المفرد، وورد على هذا التعليل بأن عدم تحقق المطابقة لمقتضى الحال في المفرد إنما هو في بلاغة الكلام والمتكلم، فلم لا يجوز أن تكون هناك بلاغة أخرى غير المطابقة يصح وجودها في الكلمة؟

ج / 1 ص -21- الفصاحة1:

أما فصاحة المفرد2 فهي خلوصه3 من تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس اللغوي:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هي في اللغة تنبئ التزامًا عن الظهور والإبانة "راجع ص353 من الدلائل" يقال: فصح الأعجمي وأفصح: إذا انطلق لسانه وخلصت لغته من اللكنة وجادت فلم يلحن، وأفصح به أي صرح، وفصح اللبن إذا أخذت رغوته وذهب لباؤه، قال أبو محجن الثقفي أو نضلة السلمي:

رأوه، فازدروه، وهو خرق وينفع أهله الرجل القبيح

فلم يخشوا مصالته عليهم وتحت الرغوة اللبن الفصيح

2 بدأ بذكر أقسام الفصاحة وتعريف كل قسم منها على حدة دون أن يعرفها في نفسها على الإطلاق لتعذر جمع المعاني المختلفة غير المشتركة في أمر يعمها في تعريف واحد.. وقدم الكلام على الفصاحة قبل البلاغة؛ لأن معرفة البلاغة سواء كانت بلاغة كلام متكلم موقوفة على معرفة الفصاحة في الجملة "إذ لا دخل لفصاحة المتكلم في بلاغة الكلام أو المتكلم"، لكون الفصاحة مأخوذة في تعريف البلاغة، ولهذا أيضًا قدم فصاحة المفرد على فصاحة الكلام والمتكلم، أما توقف فصاحة الكلام على فصاحة المفرد فظاهر، وأما توقف فصاحة المتلكم عليه فبواسطة أخذ فصاحة الكلام المتوقف عليها في فصاحة المفرد.. هذا وعيب المفرد أما في مادته أي حروفه وهو التنافر أو في صورته وهو المخالفة للقياس اللغوي المستنبط من استقراء اللغة "فالقياس اللغوي هو الضابط المتقرر من استعمالات العرب وهو القياس الصرفي"، وأما من دلالته على معناه وهو الغرابة.

3 تفسير الفصاحة بالخلوص من هذه العيوب لا يخلو عن تسامح؛ لأن الفصاحة تحصل عند الخلوص؛ لأنها هي كون الكلمة جارية على القوانين الصرفية متناسبة الحروف كثيرة الاستعمال، ويلزم من ذلك الخلوص، وبتفصيل أدق أقول: الفصاحة هي كون اللفظ جاريا على القوانين المستنبطة من استقراء كلام العرب كثير الاستعمال على ألسنة العرب الموثوق بعربيتهم.

ج / 1 ص -22- فالتنافر1:

منه ما تكون الكلمة بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعسر النطق بها، كما روي أن أعرابيًّا سئل عن ناقته فقال: تركتها ترعى الهعخع2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هو وصف في الكلمة يوجب ثقلها على اللسان وعسر النطق بها، والحكم في التنافر هو الذوق، وهو قوة يدرك بها لطائف الكلام ووجوه تحسينه، فكل ما يعده الذوق الصحيح ثقيلًا متعسر النطق به فهو متنافر سواء كان من قرب المخارج أو بعدها أو غير ذلك، وقد صرح بذلك ابن الأثير في "المثل السائر". وقال الزوزني: أن قرب المخارج سبب للثقل المخل بالفصاحة، وأن في قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} ثقلًا قريبًا من التناهي فيخل بفصاحة الكلمة، ولكن الكلام الطويل المشتمل على كلمة غير فصيحة لا يخرج عن الفصاحة، كما لا يخرج الكلام الطويل المشتمل على كلمة غير عربية عن أن يكون عربيًّا. ورد رأي الزوزني بما يأتي:

1 أن فصاحة الكلمات مأخوذة في تعريف فصاحة الكلام من غير تفرقة بين طويل وقصير.

2 وأن الزوزني يرى أن الكلام ما ليس بكلمة، وحينئذ فالقول بوجود كلمة غير فصيحة في كلام فصيح أكثر فسادًا من ذلك القول على تفسير غيره، فالفساد لازم لكلام الزوزني في المركب التام وفي المركب الناقص إذا اشتمل كل منهما على كلمة غير فصيحة، أما على قول غير الزوزني وهو الشارح "السعد" فالفساد في المركب التام فقط؛ لأنه يجعل المركب الناقص داخلًا في الكلمة.

3 على أن القياس على الكلام العربي ظاهر الفساد؛ لأن القرآن عربي باعتبار كله أو جله، وأيضًا فلم يشترط في عربية الكلام عربية الكلمات.

4 ولو سلم عدم خروج السورة عن الفصاحة مع اشتمالها على كلمة غير فصيحة، فإن مجرد اشتمال القرآن على كلام غير فصيح بل على كلمة فصيحة مما يقود إلى نسبة الجهل أو العجز لله.

2 هي اسم شجرة من شجر الصحراء، وتنطق الكلمة بصور كثيرة، وقيل أنها كلمة معاياة لا أصل لها في اللغة.

ج / 1 ص -23- ومنه ما هو دون ذلك كلفظ مستشزر في قول امرئ القيس:

غدائره مستشزرات إلى العلا تضل العقاص في مثنى ومرسل1

والغرابة:

أن تكون الكلمة وحشية لا يظهر معناها، فيحتاج في معرفته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 من معلقة امرئ القيس أمام الشعراء الجاهليين التي مطلعها:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بن الدخول فحومل

وقبل هذا البيت:

وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل

الفرع: الشعر التام. المتن: ظهر المرأة. أثيث: كثير. قنو النخلة: عنقودها. المتعكثل: المتراكم. الغدائر: الذوائب، جمع غديرة. والضمير فيها عائد إلى الفرع في البيت الأول. مستشزرات أي مرتفعات إن كان بكسر الزاي على لفظ اسم الفاعل، أو مرفوعات إن روي بالفتح على لفظ اسم المفعول، استشزره أي رفعه متعديًا، واستشزر أي ارتفع لازمًا. تضل: تغيب وتختفي. العقاص: جمع عقيصة وهي الخصلة المجموعة من الشعر. المثنى: المفتول. المرسل: خلاف المثنى.

والمعنى: أن ذوائبه مشدودة على الرأس وأن شعره مقسم إلى عقاص ومثنى ومرسل والأول يغيب في الأخيرين. والمراد وصف الشعر بالكثافة والكثرة والطول.. والشاهد هنا قوله مستشزرات فهو لفظ متنافر ثقيل على اللسان، ولكنه أقل ثقلًا من "الهعخع".. وقال الخلخالي: أن سبب الثقل في مستشزرات راجع إلى توسط الشين التي هي من الحروف المهموسة "وهي عشرة يجمعها قولهم: سكت فحثه شخص. وما عداها فحروف مجهورة" الرخوة "وهي ما عدا الحروف الشديدة التي يجمعها قولهم: أجد قط بكت، وما عدا الحروف المتوسطة التي يجمعها قولهم: لن عمر"، بين التاء التي هي من المهموسة الشديدة وبين الزاي التي من المجهورة الرخوة، ولو قال: مستشرف لزال الثقل.

ورد رأي الخلخالي بأن الراء المهملة أيضًا هي من الحروف المجهورة.. ومن الألفاظ المتنافرة: أطلخم بمعنى اشتد، ومثعنجر: للسائل من الماء أو الدمع.

ج / 1 ص -24- إلى أن ينقر1 عنها في كتب اللغة المبسوطة، كما روي عن عيسي بن عمر2 النحوي أنه سقط عن حماره، فاجتمع عليه الناس، فقال: ما لكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنة افرنقعوا عني، أي اجتمعتم تنحوا.

أو يخرج لها وجه بعيد3 كما في قول العجاج4:

ومقلة وحاجبًا مزججا وفاحما ومرسنا مسرجا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- ينقر: أن ينقش. والكلمة الوحشية هي التي لا تكون مأنوسة الاستعمال عند العرب الخلص من سكان البادية، لا بالنسبة للمولدين.

2- عالم جليل من ثقيف ومن أئمة النحو واللغة ومن المتقعرين في كلامهم توفي عام 150هـ، وتروى هذه القصة عن أبي علقمة النحوي حين هاجت به مرة ببعض طرق البصرة فوثب عليه قوم يعضون إبهامه ويؤذنون في أذنه، وكان أبو علقمة نحويًّا مغربًا في ألفاظه.

وقوله: ذي جنة، أي صاحب جنون.

3- سبب هذا التخريج هو عدم ظهور معنى الكلمة، وسبب التقبيس والتنقير عن الكلمة في المعاجم هو وحشيتها.

وما يحتاج إلى تخريج يعده بعض البلاغيين من التعقيد، والبعض يجعله خطأ، وكلا الوجهين غير صحيح؛ لأن الوارد من هذا الباب إنما مورد من عربي موثوق بعربيته فلا يعد خطأ، كما أن هنا فرقا بين هذا الباب وبين التعقيد؛ لأن التعقيد فيه خطأ ناشئ، عن عدم ظهور الدلالة على المراد. وهنا لا خطأ ولا خفاء في الدلالة فلا تعقيد.

4- شاعر راجز مشهور أدرك الدولة الأموية. والبيت من أرجوزة العجاج "ما هاج أحزانًا وشجوًا قد شجا". وفي أسرار البلاغة ص48 ذكره عبد القاهر مع الاستعارات القبيحة "في قوله: ومرسنا".. المقلة: العين. مزججا: مدققًا مطولًا. فاحما: أي شعرًا أسود كالفحم. المرسن: الأنف... والشاهد في البيت في قوله مسرجًا فإنه غير ظاهر المعنى. إذ أن العلماء قد اختلفوا في معناه. والحاصل أن مسرجًا اسم مفعول مشتق فلا بد له من أصل يرجع إليه فقيل هو:

1 فعل "بالتشديد" للنسبة مثل كرمته أي نسبته للكرم.

ولما لم يوجد التسريج الذي حق النسبة أن تكون إليه جعلنا مسرجًا منسوبًا للسرج أو للسريجي نسبة تشبيهية أي هو منسوب لهما من حيث أنه شبيه بهما. ووجه بعد هذا التخريج أن مجرد النسبة لا يدل على التشبيه.

2 وقيل أنه من فعل بتشديد العين بمعنى صيرورة فاعله كأصله مثل قوس الرجل أي صار كالقوس، فمسرج أي صائر كالسراج أو كالسريجي.. وهذا مردود بأن سرج على هذا لازم فلا يصاغ منه اسم مفعول.

3 وقيل أنه من فعل بمعنى صيرورة فاعله أصله أو صيرورته ذا أصله مثل عجزت المرأة أي صارت عجوزًا وورق الشجر صار ذا ورق، فمسرج أي صار سراجًا أو سريجًا أي مثل أحدهما أو صار ذا سراج وهذا مردود بما يرد به الوجه السابق.

4 وقيل هو اسم مفعول من سرج الله وجهه أي نوره وبهجه، فمعنى مسرج: منور، فليس فيه نسبة تشبيهية، وهذا وإن لم يكن غريبًا من حيث عدم احتياجه لتخريج بعيد، لكنه بعيد من حيث أنه يحتاج إلى تفتيش عليه في كتب اللغة المبسوطة.

ج / 1 ص -25- فإنه لم يعرف ما أراد بقوله "مسرجًا"، حتى اختلف في تخريجه: فقيل هو من قولهم للسيوف: سريجية، أي منسوبة إلى قين1 يقال له "سريج"، يريد أنه في الاستواء والدقة كالسيف السريجي، وقيل: من السراج، يريد أنه في البريق كالسراج2. وهذا يقرب من قولهم: سرج وجهه أي حسن، وسرج الله وجهه أي بهجه وحسنه3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 القين: الحداد.

2 هذان التخريجان هما حاصل الوجه الأول الذي سبق ذكره والذي سبق بيان ما عليه من رد.

3 أي أن الوجه المذكور قريب من هذا الوجه الثاني في أن كلا منهما غريب والكلمة عليهما غير ظاهرة المعنى، وهذا التخريج الثاني هو الوجه الرابع الذي سبق ذكره، ورد بأنه يحتاج إلى تفتيش على معناه فهو غريب. وقال الإمام المرزوقي: أن مسرجًا لفظ مستحدث من السراج أي أنه لفظ أحدثه المولدون وأخذوه من السراج واستعملوه بمعنى حسن ولم يكن ذلك اللفظ واقعًا في لغة العرب أصلًا، ويرد عليه أن العجاج قبل عصر التوليد والاستحداث.

ووجه القرب بين الوجهين المذكورين أن مسرجًا عليهما مشتق من سرج، لكن على الوجه الأول مشتق منه للنسبة التشبيهية، وعلى الوجه الثاني مشتق منه اشتقاقًا لغويًّا لا على إفادة النسبة التشبيهية.

ج / 1 ص -26- ومخالفة القياس1:

كما في قول الشاعر2:

الحمد لله العلي الأجلل "أنت مليك الناس ربا فاقبل"

قإن القياس الأجل بالإدغام.

وقيل هي:3 خلوصه مما ذكر4، ومن الكراهة في السمع5

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هو أن تكون الكلمة على خلاف قانون مفردات الألفاظ الموضوعة، أعني على خلاف ما ثبت عن الواضع، فالموافقة للقياس أن تكون الكلمة على وفق ما ثبت عن الواضع سواء وافقت القانون التصريفي أم خالفته ولكن ثبتت عن الواضع كذلك، والمخالفة أن تكون الكلمة على خلاف ما ثبت عن الواضع سواء خالفت القانون الصرفي أيضًا أم لا، فنحو آل وماء وأبي يأبي وعور يعور فصيح؛ لأنه ثبت عن الواضع كذلك.

2 هو أبو النجم الراجز المشهور. وهذا الشاهد في الكتاب لسيبويه صحيفة 302 من الجزء الثاني وروايته فيه هكذا: الحمد لله الوهوب المجزل.

ومثل البيت قول الشاعر:

مهلًا أعاذل قد جربت من خلقي أني أجود لأقوام وإن ضننوا

3 أي فصاحة المفرد.

4 أي من التنافر والغرابة ومخالفة القياس.

5 وهذا القول لابن الأثير في "المثل السائر". قال: الألفاظ داخلة في حيز الأصوات، فما استلذه السمع منها فهو الحسن، وما استكرهه فهو القبيح "راجع ص58 المثل السائر"، وهو رأي أشار إليه ابن سنان الخفاجي في سر الفصاحة ص61.

ج / 1 ص -27- بأن تمج الكلمة ويتبرأ من سماعها كما يتبرأ من سماع الأصوات المنكرة. فإن اللفظ من قبيل الأصوات، والأصوات منها ما تستلذ النفس سماعه ومنها ما تكره سماعه، كلفظ الجرشي في قول أبي الطيب:

"مبارك الاسم أغر اللقب" كريم الجرشي شريف النسب1

أي كريم النفس، وفيه2 نظر.

ثم علامة كون الكلمة فصيحة، أن يكون استعمال العرب الموثوق بعربيتهم لها كثيرًا، أو أكثر من استعمالهم ما بمعناها3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- من قصيدة يمدح بها المتنبي سيف الدولة.. الأغر من الخيل: الأبيض الجبهة، ثم استعير لكل واضح. الجرشي: النفس. والمعنى أن اسم سيف الدولة علي وهو اسم جميل ميمون ولقبه لقب واضح مشهور، وهو كر يم النفس عظيم الحسب، شريف النسب.. والشاهد الجرشي فإنها لفظ غير فصيح، لكراهته في السمع كما يقول هذا القائل، أو لغرابته على رأي من عداه من البلاغيين والبيت في ص62 من سر الفصاحة.

2- أي في هذا القول وهو أن تكون كراهة الكلمة في السمع سببًا لعدم فصاحتها.. ووجه النظر كما قالوا هو ما يأتي:

1 أن الكراهة في السمع إنما هي من جهة الغرابة المفسرة بالوحشية مثل تكأكأتم، وافرنقعوا، ونحو ذلك.

2 وأن الكراهة في السمع وعدمها يرجعان إلى عدم طيب النغم أو إلى طيبه لا إلى نفس اللفظ. ويمكن رد هذا الوجه الثاني بالقطع باستكراه الجرشي دون "النفس" مع قطع النظر عن النغم.

3- هذا منقول عن السكاكي "ص176 من المفتاح". وخلاصته: أن فصاحة الكلمة تعرف بأحد أمرين:

1 أن تكون هذه الكلمة كثيرة الاستعمال عند العرب الموثوق بعربيتهم: إذا لم يكن لها مرادف.

2 أو أن تكون هذه الكلمة أكثر استعمالًا عندهم من الكلمات الأخرى المرادفة لها المشتركة معها في المعنى وهذا فيما إذا كان للكلمة مرادف.

ج / 1 ص -28- وأما فصاحة الكلام:

فهي خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد، مع فصاحتها.

فالضعف1:

كما في قولنا ضرب غلامه زيدًا، فإن رجوع الضمير إلى المفعول المتأخر لفظًا ممتنع عند الجمهور، لئلا يلزم رجوعه إلى ما هو متأخر لفظًا ورتبة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هو أن يكون تأليف الكلام على خلاف القانون النحوي المشهور بين الجمهور كالإضمار قبل الذكر لفظًا ومعنى وحكمًا، نحو ضرب غلامه زيدًا، فلو تقدم المرجع على الضمير لفظًا "بأن يتقدم عليه لفظًا ورتبة مثل ضرب زيد غلامه أو لفظًا فقط مثل ضرب زيدًا غلامه"، أو تقدم معنى بأن يتقدم المرجع على الضمير لفظًا لكن هناك ما يدل على تقدمه معنى، كالفعل المتقدم الدال على المرجع تضمنا نحو اعدلوا هو أقرب للتقوى، وكسياق الكلام المستلزم له استلزامًا قريبا نحو ولأبويه أي المورث أو بعيدًا نحو توارت بالحجاب أي الشمس، وكون المرجع فاعلًا المتقضى لتقدمه على المفعول نحو خاف ربه عمر، أو مبتدأ المقتضى لتقدمه على الخبر مثل في داره زيد، أو مفعولًا أول في باب أعطى مثل أعط درهمه زيدًا، أو تقدم حكمًا، بأن يتأخر لمرجع عن الضمير لفظًا وليس هناك ما يقتضي ذكره قبله إلا حكم الواضع بأن المرجع يجب تقدمه، لكن خولف حكم الواضع لأغراض تأتي في بحث وضع المضمر موضع المظهر. فالمرجع المتأخر لغرض متقدم حكمًا مثل: ربه رجلًا، ونعم رجلًا زيد، وقل هو الله أحد. وفي باب التنازع مثل ضربني وضربته محمد وباب البدل والمبتدأ المفسر بالخبر.

نعم لو تقدم المرجع في كل ذلك جاز ولا يكون هناك ضعف ولا يضر ذلك بفصاحة الكلام.. وقد أشار السكاكي إلى ضعف التأليف في المفتاح ص94.

ج / 1 ص -29- وقيل يجوز1، كقول الشاعر2:

جزى ربه عنه عدي بن حاتم جزاء الكلاب العاويات، وقد فعل3

وأجيب عنه بأن الضمير لمصدر جزى، أي "جزى"، رب الجزاء4 كما في قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، أي العدل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي يجوز رجوع الضمير إلى المفعول المتأخر لفظًا.

2 هو النابغة الذبياني الشاعر الجاهلي المشهور، كما في الخصائص لابن جني.

3 يدعو الشاعر على عدي بأن يجزيه شرًّا كجزاء الكلاب العاويات التي تضرب وترمى بالحجارة، ثم يقول الشاعر. بل قد حصل هذا الجزاء فعلًا وأصبح حقيقة لا دعاء. والشاهد في البيت قوله: "جزى ربه عني عدي بن حاتم"، فقد رجع الضمير إلى المفعول المتأخر في اللفظ كما هو متأخر في الرتبة.

ومثل هذا البيت قول سليط بن سعد:

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر وحسن فعل كما يجزى سنمار

ومثله:

ألا ليت شعرى هل يلومن قومه زهيرا على ما جرى من كل جانب

وفي معنى البيت قول النابغة:

جزى الله عبسًا عبس آل بغيض جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

ومن ضعف التأليف:

فلو أن مجدًا أخلد الدهر واحدًا من الناس أبقى مجده الدهر "مطعما".

4 في هذا تكلف وحمل للأسلوب على ما لا يفيده وإن كان أخف من حمل البيت على ضعف التأليف.

ج / 1 ص -30- والتنافر1:

منه ما تكون الكلمات بسببه متناهية في الثقل على لسان وعسر النطق بها متتابعة، كما في البيت الذي أنشده الجاحظ2:

وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر3

ومنه ما هو دون ذلك كما في قول أبي تمام:

كريم متى أمدحه والورى معي "وإذا ما لمته لمته وحدي4".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هو أن تكون الكلمات ثقيلة على اللسان وإن كان كل منها فصيحة.

2 البيت في دلائل الإعجاز ص46 مع تعليق لعبد القاهر عليه..

وهو لا يعرف قائله.

3 حرب: اسم رجل. القفر: الخالي من الماء والكلأ.. ويقول القزويني الرحالة في "عجائب المخلوقات: أن هاتفًا من الجن صاح بحرب ابن أمية فمات فرثاه ذلك الجني بهذا البيت.. قوله "قفر" بالرفع نعت مقطوع. والبيت خبر مراد منه التأسف والتحزن.

4 الواو في "والورى" للحال، وهو مبتدأ، وخبره "معي".. يقول أبو تمام في ممدوحه: هو كريم في خلقه ومعروفه، إذا ما مدحته كان الورى كلهم معي يمدحون ويشيدون أو يسمعون ويؤيدون، وإذا ما أردت لومه على تأخير معروف أو على شبه ذلك وقفت وحدي لا يشاركني في ذلك أحد ولا يؤيدني فيه إنسان.. والبيت في ص46 من دلائل الإعجاز، وذكر الصاحب إسماعيل بن عباد الكاتب أنه أنشد القصيدة التي منها هذا البيت بحضرة الأستاذ ابن العميد الوزير، فلما بلغ هذا البيت قال له الأستاذ: هل تعرف فيه شيئًا من الهجنة؟ قال: نعم مقابلة المدح باللوم وإنما يقابل بالذم أو الهجاء، فقال الأستاذ: غير هذا أريد، فقال: لا أدري غير ذلك، فقال الأستاذ: هذا التكرير في أمدحه أمدحه مع الجمع بين الحاء والهاء وهما من حروف الحلق خارج حد الاعتدال نافر كل النفار، فأشاد الصاحب بذوقه ونقده.

ج / 1 ص -31- فإن في قوله: أمدحه "أمدحه" ثقلًا لما بين الحاء والهاء من التنافر1.

والتعقيد2:

أن لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد به وله3 سببان: أحدهما ما يرجع إلى اللفظ وهو أن يختل نظم4 الكلام. ولا يدري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وهناك فرق آخر بين البيت والبيت الذي قبله، وهو أن منشأ الثقل في الأول نفس اجتماع الكلمات وفي البيت الثاني اجتماع حروف منها. ومجموع الحروف التي في الكلمتين والتي حصل الثقل باجتماعها أربعة وهي: الحاءان والهاءان، فما ذكر من مجموع الحروف التي حصل الثقل باجتماعها حاصل مع تكرير أمدحه، ولو قال وفي الثاني تكرير حروف منها لكان أوضح وأخضر. أما ثقل مجرد الجمع بين الحاء والهاء فلا يخل بالفصاحة لوقوعه في التنزيل كما في قوله "فسبحه".

2 أي كون الكلام معقدًا فهو مصدر المبني للمفعول لا للفاعل، والمراد بأنه مصدر المبني للمفعول الحاصل بالمصدر أي الهيئة المترتبة عليه. وتجد الكلام في التعقيد في "أسرار البلاغة ص118، وفي دلائل الإعجاز ص65، وفي المفتاح ص176".

3 أي عدم ظهور المعنى المراد منه للمتكلم، أما الغرابة فهي كون اللفظ غير ظاهر الدلالة على المعنى الموضوع له، وأما اللغز والمعمى: فقيل هما غير فصيحين مطلقًا ولا يعدان من البديع لعدم ظهور الدلالة، وقيل أن الدلالة فيهما إن كانت ظاهرة للفطن فهما فصيحان ويعدان من البديع وإلا فلا. واللغز والمعمى بمعنى وهو قول يدل ظاهره على خلاف المراد.

4 النظم هو تأليف الكلمات مترتبة المعاني متناسقة الدلالات على حسب ما يقتضيه العقل لا تواليها في النطاق وضم بعضها إلى بعض كيفما اتفق، بخلاف نظم الحروف فإنه تواليها في النطق من غير اعتبار معنى يقتضيه "راجع دلائل الإعجاز ص40 و45".

ج / 1 ص -32- السامع كيف يتوصل منه إلى معناه1، كقول الفرزدق2:

وما مثله في الناس إلا مملكًا أبو أمه حي أبوه يقاربه

إلا مملك أبو أمه أبوه، فإنه مدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي3 خال هشام بن عبد الملك بن مروان، فقال وما مثله -يعني إبراهيم الممدوح- في الناس، حي يقاربه -أي أحد يشبهه في الفضائل- إلا مملكًا يعني هشامًا، أبو أمه -أي أبو أم هشام- أبوه -أي أبو الممدوح- فالضمير في أمه للملك، وفي أبوه للممدوح، ففصل بين أبو أمه -وهو مبتدأ- وأبوه -وهو خبره- بحي -وهو أجنبي-، وكذا فصل بين حي ويقاربه وهو نعت حي -بأبوه- وهو أجنبي، وقدم المستثنى على المستثنى منه4، فهو كما تراه في غاية التعقيد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 بأن لا يكون ترتيب الألفاظ على وفق ترتيب المعاني، بسبب تقديم أو تأخير أو حذف أو إضمار أو غير ذلك، مما يوجب صعوبة فهم المراد، وإن كان ذلك في الكلام جاريًا على قواعد النحو.. فإن سبب التعقيد يجوز أن يكون اجتماع أمور كل منها شائع الاستعمال في كلام العرب، ويجوز أن يكون التعقيد حاصلًا ببعض منها لكنه مع اعتبار الجميع يكون أشد وأقوى، فذكر ضعف التأليف لا يغني عن ذكر التعقيد اللفظي كما توهمه البعض.

2 هو الشاعر الأموي المشهور قرين جرير والأخطل توفي عام 110هـ. والبيت في 15 و56 أسرار البلاغة، 76 مفتاح، 65 دلائل الإعجاز، 154 و197 الصناعتين، قال ابن عبد ربه في العقد: معناه ما مثل هذا الممدوح في الناس إلا الخليفة الذي هو خاله، فقال أبو أمه حي أبوه يقاربه، فبعد المعنى القريب ووعر الطريق السهل، وليس المعنى بتوعر اللفظ وقبح البنية حتى ما يكاد ينفهم "13/ 4 العقد".

3 من الأمراء الأشراف السادة الفرسان توفي عام 125هـ وهشام أحد الخلفاء الأمويين المشهورين.

4 ما نافية، "مثله" اسمها، "في الناس" خبرها. مملكًا: مستثنى مقدم منصوب على الاستثناء. أبو أمه: مبتدأ ومضاف إليه، وحي بدل من مثله، ففيه أيضًا فصل بين البدل والمبدل منه، أبوه خبر المبتدأ، يقاربه صفة لحى، ويصح أن يكون "مملكًا" مستثنى من الضمير المستثنى في الجار والمجرور الواقع خبر ما. وأبو أمه مبتدأ خبره حي، وأبوه خبر بعد خبر، والجعلة صفة لمملكًا، وكذلك جملة يقاربه وعلى هذا الوجه فلا تعقيد في البيت، ولكن في حمله عليه تكلف شديد.

ج / 1 ص -33- فالكلام الخالي من التعقيد اللفظي ما سلم نظمه من الخلل، فلم يكن فيه ما يخالف الأصل من تقديم أو تأخير أو إضمار أو غير ذلك، إلا وقد قامت عليه قرينة ظاهرة، لفظية أو معنوية، كما سيأتي تفصيل ذلك كله وأمثلته اللائقة به1.

والثاني ما يرجع إلى المعنى، وهو ألا يكون انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني -الذي هو لازمه والمراد به- ظاهرًا2 كقول العباس بن الأحنف:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 قال الخلخالي: ذكر ضعف التأليف يغني عن ذكر التعقيد اللفظي. وأجيب بأنه يجوز أن يحصل التعقيد باجتماع عدة أمور موجبة لصعوبة فهم المراد وإن كان كل واحد منها جاريًا على القانون النحوي مثل إلا عمرًا الناس ضرب زيد. وينفرد ضعف التأليف في مثل جاءني أحمد، ويجتمع الضعف والتعقيد في بيت الفرزدق، فبينهما عموم وخصوص من وجه... وهذا ومن التعقيد اللفظي قول أبي تمام:

ثانيه في كبد السماء، ولم يكن كاثنين ثان إذ هما في الغار

وقول المتنبي:

أنى يكون أبا البرايا آدم وأبوك والثقلان أنت محمد

وتركيب البيت الصحيح: أنى يكون آدم أبا البرايا وأبوك محمد وأنت الثقلان، وكذلك قول الفرزدق:

إلى ملك ما أمه من "محارب" أبوه ولا كانت "كليب" تصاهره

أي: إلى ملك أبوه ما أمه من محارب ولا كانت تصاهره كليب.

2 أي أن لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد لخلل واقع في انتقال الذهن -أي بسبب بطء نفس السامع في انتقالها- من المعنى الأول الذي هو المعنى الأصلي الحقيقي للكلام إلى المعنى الثاني الملابس له وهو المعنى الكنائي أو المجازي. والحاصل أن من شروط فصاحة الكلام أن يسلم من التعقيد المعنوي بأن لا يكون ما فيه من كناية أو مجاز بعيدًا عن الفهم والوضوح: فإن من شروط فصاحة الكناية والمجاز قرب فهم المعنى الثاني من أصله الحقيقي، وإلا كانا غير فصيحين بحيث يفتقر في فهمه إلى وسائط مع خفاء القرينة، فالمدار في صعوبة الفهم على خفاء القرينة كثرت الوسائط أو لا، وخفاء القرائن أو عدم خفائها بحسب جريان الكلام على أسلوب البلغاء أو عدم جريانه، وسبب الخفاء إيراد اللوازم البعيدة المفتقرة إلى الوسائط الكثيرة مع خفاء القرائن الدالة على المقصود بسبب عدم جريان الكلام على أسلوب البلغاء، فلو كانت القرينة ظاهرة فلا خلل تعددت الوسائط أم لا. هذا وتجد الكلام على التعقيد المعنوي في دلائل الإعجاز صحيفة 207.

ج / 1 ص -34- سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا وتسكب عيناي الدموع لتجمدا1

كنى بسكب الدموع عما يوجبه الفراق من الحزن، وأصاب؛ لأن من شأن البكاء أن يكون كناية عنه، كقولهم: أبكاني وأضحكني أي ساءني وسرني، وكما قال الحماسي2:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 العباس شاعر عباسي، غزل مجيد. والبيت في 208 دلائل الإعجاز، وتعليق الخطيب على البيت مأخوذ من عبد القاهر في دلائل الإعجاز. وتسكب في البيت بالرفع وهو الصحيح، ونصبه على العطف على "بعد" أو على "لتقربوا" وهم، ومعنى البيت: أني اليوم أطيب نفسًا بالفراق والبعد، وأوطنها على مقاساة الأحزان والأشواق، وأتجرع غصصها وأتحمل لأجلها حزنًا يفيض الدموع من عيني؛ لأتسبب بذلك إلى وصل يدوم فإن الصبر مفتاح الفرج ولكل بداية نهاية ومع كل عسر يسرًا، كما يشير إليه عبد القاهر في دلائل الإعجاز... وعلى هذا فالسين في "سأطلب" لمجرد التأكيد على ما ذكره صاحب الكشاف في قوله تعالى "سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا".

2 هو حطان بن المعلى، شاعر إسلامي مشهور. والبيت من السريع، وهو في الحماسة، وتجده أيضًا في دلائل الإعجاز "ص208" ومثل البيت قول مسلم:

أبكاني الدهر مما كان أضحكني والدهر يخلط أحلاء بأمرار

وقول الخنساء:

ألا يا صخر إن أبكيت عيني لقد أضحكتني زمنًا طويلًا

ج / 1 ص -35- أبكاني الدهر ويا ربما أضحكني الدهر بما يرضى

ثم طرد ذلك في نقيضه، فأراد أن يكنى عما يوجبه دوام التلاقي من السرور بالجمود، لظنه أن الجمود خلو العين من البكاء مطلقًا من غير اعتبار شيء آخر، وأخطأ1:

لأن الجمود خلو العين من البكاء في حال إرادة البكاء منها، فلا يكون كناية عن المسرة، وإنما يكون كناية عن البخل كما قال الشاعر2:

ألا إن عينًا لم تجد يوم "واسط" عليك بجاري دمعها لجمود

ولو كان الجمود يلح أن يراد به عدم البكاء في حال المسرة لجاز أن يدعى به للرجل، فيقال: لا زالت عينك جامدة، كما يقال: لا أبكى الله عينك. وذلك مما لا يشك في بطلانه.

وعلى ذلك قول أهل اللغة: سنة "جماد" لا مطر فيها، وناقة جماد: لا لبن لها، فكما لا تجعل السنة والناقة جمادًا إلا على معنى أن السنة بخيلة بالقطر، والناقة لا تسخو بالدر، لا تجعل العين جمودًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لعدم فهم ذلك اللازم بسرعة من جمود العين ففيه مخالفة لموارد استعمال البلغاء؛ لأن تعارف البلغاء على خلافه، فهو مخطئ في نظر البلغاء وإن صح أن يكون لكلامه وجه من التأويل يحمل كلامه على ما يصححه بأن نقول: استعمل جمود العين الذي هو يبسها في حال خلوها من الدموع مطلقًا مجازًا مرسلًا من باب استعمال المقيد في المطلق، ثم كنى به عن دوام السرور لكونه لازمًا لذلك عادة، وهذا وان كان معنى صحيحًا إلا أن فيه بعدًا وتعقيدًا.

2 هو أبو عطاء يرثي ابن هبيرة وقد قتل في معركة يوم "واسط".

والبيت في ص208 من دلائل الإعجاز وهو من أبيات عزاها المرتضى لمعن بن زائدة.

ج / 1 ص -36- ألا وهناك ما يقتضي إرادة البكاء منها، وما يجعلها إذا بكت محسنة موصوفة بأنها قد جادت، وإذا لم تبك مسيئة موصوفة بأنها قد ضنت.

فالكلام الخالي عن التعقيد المعنوي ما كان الانتقال من معناه الأول إلى معناه الثاني -الذي هو المراد به- ظاهرًا، حتى يخيل إلى السامع أنه فهمه من حاق اللفظ، كما سيأتي من الأمثلة المختارة للاستعارة والكناية.

وقيل فصاحة الكلام هو خلوصه مما ذكر1 ومن كثرة التكرار2 وتتابع الإضافات. كما في قول أبي الطيب "المتنبي":

"وتسعدني في غمرة بعد غمرة" سبوح لها منها عليها شواهد3

وكما في قول ابن بابك4:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي من الضعف والتنافر والتعقيد.

2 أي للفظ الواحد اسمًا كان أو فعلًا أو حرفًا.

3 سبوح: أي فرس حسن الجري لا تتعب راكبها كأنها تجري في الماء "لها" صفة لسبوح، و"منها" حال من شواهد، و"عليها" متعلق بشواهد، و"شواهد" فاعل الظرف -أعني "لها"- يعني أن لها من نفسها علامات دالة علي نجابتها وأصالتها. والغمرة: هي الشدة. قيل التكرار ذكر الشيء مرة بعد أخرى ولا يخفى أنه لا تحصل كثرته بذكره ثالثًا بل لا تحصل الكثرة إلا بذكره ست مرات فالتكرار ذكر الشيء مرتين وتعدده بالتربيع وكثرته بالتسديس، وأجيب بأن المراد بالكثرة ما يقابل الواحدة ولا يخفى حصولها بذكرة ثالثًا. والشاهد في البيت كثرة التكرار فيه.

4 من شعراء العصر العباسي. وله ترجمة في اليتيمة. مدح عضد الدولة والصاحب، وتوفي عام 410هـ.

ج / 1 ص -37- حمامة جرعا حومة الجندل اسجعي "فأنت بمرأى من سعاد ومسمع"1

وفيه نظر 2؛ لأن ذلك 3 أن أفضي باللفظ إلى الثقل على اللسان فقد حصل الاحتراز عنه بما تقدم4، وإلا فلا يخل بالفصاحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم. يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم"5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 الشاهد في البيت كثرة الإضافات المتتابعة، ففيه إضافة حمامة إلى جرعى وجرعى إلى حومة، وحومة إلى الجندل.

والجرعى: تأنيث الأجرع قصرها للضرورة وهي أرض ذت رمل لا تنبت شيئًا. والحومة: معظم الشيء. الجندل: أرض ذات حجارة. السجع: هدير الحمام ونحوه. والمعنى أيتها الحمامة التي تعيش أو تحلق في هذا المكان غنى وأصدحي فأنت بحيث تراك سعاد المحبوبة وتسمع صوتك، يقال: فلان بمرأى مني ومسمع، أي بحيث أراه وأسمع قوله كما في الصحاح، ومن الخطأ أن يقال فأنت بموضع ترين منه سعاد وتسمعين كلامها.

ومثل البيت في تتابع الإضافات قول أبي العتاهية:

سبحان ذي الملكوت أي ليلة مخضت بوجه صباح يوم الموقف

وقول مسلم:

ثاروا إلى صفق الشمول فأشعلوا نيران حرب كؤوسها إشعالًا

2 أي في القول السابق الذي يجعل خلو الكلام من كثرة التكرار وتتابع الإضافات شرطًا لفصاحته.

3 أي كثرة التكرار وتتابع الإضافات.

4 أي بما سبق ذكره من التنافر.

5 يسمى هذا اللون في البديع "الإطراد". ووردت أيضًا مثل للتكرير وتتابع الإضافات غير معيبة، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَاْهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُوْرَهَا وَتَقْوَاهَا}. وقال: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوْحً}. وقال: {ذَكْرُ رَحْمَةِ رَبِكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}.

ج / 1 ص -38- قال الشيخ عبد القاهر1: قال الصاحب2. إياك والإضافات المتداخلة، فإنها لا تحسن، وذكر أنها تستعمل في الهجاء، كقول القائل:

يا علي بن حمزة بن عماره أنت والله ثلجة في خياره

ثم قال الشيخ3: ولا شك في ثقل ذلك في الأكثر، لكنه إذا سلم من الاستكراه ملح ولطف. ومما حسن فيه قول ابن المعتز4 أيضًا:

وظلت تدير الراح أيدي جآذر عتاق دنانير الوجوه، ملاح5

ومما جاء فيه حسنًا جميلًا قول الخالدي6 يصف غلامًا له:

ويعرف الشعر مثل معرفتي وهو على أن يزيد مجتهد

وصيرفي القريض وزان دينار المعاني الدقاق، منتقد7

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 راجع هذا القول في ص82 من دلائل الإعجاز.

2 هو الصاحب بن عباد الوزير م 385هـ، والبيت الآتي يتهكم، فيه بعلي بن حمزة البصري اللغوي المتوفى عام 390هـ.

3 أي عبد القاهر أيضًا.

4 هو الخليفة العباسي الشاعر الأديب العالم الناقد، توفي عام 296هـ.

5 الراح: الخمر. جآذر: جمع جؤذر وهو ولد البقرة الوحشية.

6 سعيد بن هشام، من شعراء اليتيمة، رقيق الشعر مطبوع توفي عام 370هـ.

7 الصيرفي: المحتال في الأمور. المنتقد: الخبير بالدراهم الجيدة والزيوف ثم أطلق فصار بمعنى الخبير بالشيء مطلقًا. والمعنى هو مثلي في معرفة الشعر والبصر به ونظمه بل هو لديه القدرة على أن يكون أبرع مما هو فيه، وهو دقيق البصر بالشعر ناقد له يزن المعاني الدقيقة بموازين النقد التي لا تسرف فيه الحكم والتقدير.

ج / 1 ص -39- ...........................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والشاهد في البيت كثرة الإضافات مع حسنها، وهو الشاهد في البيت السابق.

شواهد للإخلال بالفصاحة:

قال تأبط شرًّا:

يظل بموماة ويمسي بغيرها جحيشًا ويعرورى ظهور المسالك

وقال حسان يرثي:

ولو أن مجدًا أخدل الدهر واحدًا من الناس أبقى مجد ه الدهر مطعما

وقال المتنبي:

كيف ترثي التي ترى كل جفن راءها غير جفنها غير راق

وقال الفرزدق:

وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم خضع الرقاب نواكس الأبصار

وقال أبو تمام:

قد قلت لما أطلخم الأمر وانبعث عشواء تالية غبسًا دهاريسا

لي حرمة بك أضحى حق نازلها وقفا عليك، فدتك النفس، محبوسًا

وللمتنبي:

جفخت وهم لا يجفخون بها بهم شيم على الحسب الأغر دلائل

وقال:

أقل، أنل، اقطع، احمل سل، أعد زد، هش، بش، تفضل، سر أدن، صل

وقال الشاعر:

فأصبحت بعد خط بهجتها كأن قفرًا رسومها قلما

وللمتنبي:

ومن جاهل بي وهو يجهل جهله ويجهل علمي أنه بي جاهل

فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا قلاقل عيس كلهن قلاقل

وقال الحريري:

غازور من كان له زائر وعاف عافى العرف عرفانه

ولبشر بن عوانة أو للبديع في وصف الأسد:

فخر مضرجًا بدم كأني هدمت به بناء مشمخرًّا

وقال المتنبي:

فلا يبرم الأمر الذي هو حالل ولا يحلل الأمر الذي هو مبرم

وقال المتنبي:

أنى يكون أبا البرايا آدم وأبوك والثقلان أنت محمد

قال امرؤ القيس في وصف الفرس:

وأركب في الروع خيفانة كسا وجهها سعف منتشر

وقال أبو تمام:

جذبت نداء غدوة السبت جذبة فخر صريعًا بين أيدي القصائد

ج / 1 ص -40- وأما فصاحة المتكلم:

فهي ملكة "1" يقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح. فالملكة قسم من مقولة الكيف التي هي هيئة قارة لا تقتضي قسمة ولا نسبة، وهو مختص بذوات الأنفس راسخ في موضوعه.

وقيل: ملكة. ولم يقل صفة، ليشعر بأن الفصاحة من الهيئات الراسخة، حتى لا يكون المعبر عن مقصوده بلفظ فصيح فصيحًا.

إلا إذا كانت الصفة التي اقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح راسخة فيه.

وقيل يقتدر بها، ولم يقل بعبر بها، ليشمل حالتي النطق وعدمه: وقيل: بلفظ فصيح، ليعم المفرد والمركب2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 الملكة: كيفية راسخة في النفس.

2 أما المركب فظاهر. وأما المفرد فكما تقول عند التعداد: دار، غلام. جارية، ثوب. إلى غير ذلك.

ج / 1 ص -41- البلاغة.

وأما بلاغة الكلام:

فهي مطابقته لمتقضى الحال1 مع فصاحته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي لجميع ما يقتضيه الحال على قدر الطاقة، فالمراد المطابقة الكاملة وقوله لمتقضى الحال أي لمناسب الحال لا موجبه، والمراد بمناسب الحال الخصوصيات التي يبحث عنها في علم المعاني دون كيفيات دلالة اللفظ التي يتكفل بها علم البيان إذ قد تتحقق البلاغة في الكلام بدون رعايتها بأن يؤدي الكلام الطابق بدلالات وضعية. نعم إذا أدى المعنى بدلالات عقلية مختلفة في الوضوح والخفاء فلا بد في بلاغة الكلام من رعاية كيفية الدلالة أيضًا.

والحال هو الداعي للمتكلم إلى إيراد الكلام على وجه مخصوص، أي إلى أن يعتبر مع الكلام الذي يؤدي به أصل المعنى خصوصية ما، وهي مقتضى الحال. مثلًا إنكار المخاطب للحكم حال يقتضي تأكيده، والتأكيد مقتضى الحال. ومعنى مطابقته له أن الحال إن اقتضى التأكيد كأن الكلام مؤكدًا وإن اقتضى الإطلاق كان الكلام عاريًا عن التأكيد، وهكذا إن اقتضى حذف المسند إليه حذفه وإن اقتضى ذكره ذكره، إلى غير ذلك من التفاصيل المشتمل عليها علم المعاني. فالإنكار حال، والتأكيد مقتضى، وقولك "إن زيدًا في الدار" مؤكدًا بأن كلام مطابق لمقتضى الحال، يعني أنه مشتمل عليه، إذ هذا المثال مشتمل على التأكيد، وليس المراد بكونه مطابقًا له أنه جزئي من جزئياته إذ لا يصدق عليه أي لا يحمل عليه، ضرورة أن مقتضى الحال هو التأكيد وهو لا يحمل على قولك أن زيدًا في الدار إذ لا يقال "إن زيدًا في الدار" تأكيد، فالمراد بالمطابقة هنا الاشتمال لا مصطلح المناطقة الذي هو الصدق.

والتحقيق أن مقتضى الحال هو الكلام الكلي المشتمل على الخصوصية، ومطابقة الكلام لذلك المقتضى كون الكلام الجزئي الصادر من المتكلم الملقى للمخاطب المشتمل على الخصوصية من أفراد ذلك الكلام الكلي الذي يقتضيه الحال، فإن ذلك المقتضى صادق عليه، فقولنا" إن زيدًا في الدار" مؤكدًا جزئي من جزئيات ذلك الكلام الكلي الذي يقتضيه الحال، الذي هو الإنكار المقتضى لكلام مؤكد بمطلق تأكيد لا بتأكيد مخصوص، فقولنا "أن زيدًا في الدار" مطابق له بمعنى أنه صادق عليه -أي بمعنى أن الكلام الكلي المؤكد الذي هو مقتضى الحال صادق ومحمول على هذا الجزئي لكونه جزئيًّا من جزئياته. فالبلاغة على هذا التحقيق مطابقة هذا الجزئي لذلك الكلي بمعنى كونه جزئيا من جزئياته بحيث يصح حمل مقتضى الحال عليه، فالكلام الجزئي مطابق "بكسر الباء" والكلام الكلي مطابق "بفتحها". هذا هو تحقيق السعد في مختصره، وإن كان قد حقق في كبيره أن التحقيق هو مذهب الجمهور الأول: من أن المقتضى هي الخصوصية والمطابقة هي الاشتمال. وهذا والحال على المذهبين واحد، وهو الأمر الداعي للمتكلم إلى أن يعتبر مع الكلام الذي يؤدي به أصل المراد خصوصية ما، سواء كان ذلك الأمر داعيًا له في نفس الأمر أو غير داع في نفس الأمر بل بتنزيل، فالحال هو الأمر الداعي مطلقًا. أما ظاهر الحال فهو الأمر الداعي في نفس الأمر لاعتبار المتكلم خصوصية ما، فهو أخص من الحال.

ج / 1 ص -42- ومقتضى الحال مختلف. فإن مقامات الكلام متفاوتة1 فمقام التنكير يباين مقام التعريف2 ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد3 ومقام التقديم يباين مقام التأخير4، ومقام الذكر يباين مقام الحذف، ومقام القصر يباين مقام خلافة، ومقام الفصل يباين مقام الوصل،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لأن الاعتبار اللائق بهذا المقام يغاير الاعتبار اللائق بذلك، وهذا عين تفاوت مقتضيات الأحوال؛ لأن التغاير بين الحال والمقام إنما هو بحسب الاعتبار، وهو أنه يتوهم في الحال كونه زمانًا لورود الكلام فيه، وفي المقام كونه محلًّا له.

2 فالمقام الذي يناسبه تنكير المسند إليه أو المسند يباين المقام الذي يناسبه التعريف.

3 أي مقام إطلاق الحكم أو التطبيق أو المسند إليه أو السند أو متعلقه يباين مقام تقييده بمؤكد أو أداة أو تابع أو شرط أو مفعول أو ما يشبه ذلك.

4 أي مقام تقديم المسند إليه أو متعلقاته يباين مقام تأخيره.

ج / 1 ص -43- ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة، وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي1.

وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام 2.. إلى غير ذلك كما سيأتي تفصيل الجميع.

وارتفاع3 شأن الكلام في الحسن والقبول بمطابقته للاعتبار المناسب4، وانحطاطه بعدم مطابقته له.

فمتقضى الحال هو الاعتبار المناسب5

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 فإن مقام الأول يباين مقام الثاني؛ لأن الذكي يناسبه من الاعتبارات اللطيفة والمعاني الدقيقة الخفية ما لا يناسب الغبي.

2 راجع ص13 من المفتاح. وقوله ولكل كلمة أي كالفعل، مع صاحبتها أي كأداة الشرط مثل أن الشرطية إذ لها معها مقام ليس لذلك الكلمة مع ما يشارك تلك الصاحبة في أصل المعنى كذا الشرطية، فالفعل الذي قصد اقترانه بأداة الشرط له مع أن مقام ليس له مع إذا وكذلك من أدوات الشرط مع الماضي مقام ليس له مع المضارع، على أن المراد بالكلمة أداة الشرط وبصاحبتها الماضي وبمشارك الصاحبة الفعل المضارع. وهكذا ما يشبه ذلك فللفعل مع هل الاستفهامية مقام ليس له مع الهمزة، والمسند إليه مع المسند الفعلي له مقام معه ليس له مع المسند الاسمي الخ.

3 راجع ص73 من المفتاح تجد ما هنا مأخوذًا منه بالنص والمقصود من هذا بيان تعدد مراتب البلاغة، والحسن المراد منه الحسن الذاتي الداخل في البلاغة لا العرضي الخارج لحصوله بالمحسنات البديعية، والمراد بالقبول عند السامع. والمراد بالكلام الكلام الفصيح.

4 أي باشتماله على الأمر المعتبر المناسب لحال المخاطب، فكلما كان الاشتمال أتم كان الكلام أرفع وأعلى. فالمراد بالاعتبار المناسب الأمر الذي اعتبره المتكلم مناسبًا بحسب السليقة للعرب الخاص أو بحسب تتبع خواص تراكيب البلغاء لغيرهم.

5 يعني إذا علم أن ليس ارتفاع شأن الكلام الفصيح في الحسن الذاتي إلا بمطابقته للاعتبار المناسب على ما يفيده إضافة المصدر –لأنه مفرد مضاف لمعرفة فيعم والعموم في هذا المقام يستلزم الحصر.. فالمعنى كل ارتفاع فهو بالمطابقة. فالباء في قولنا: بمطابقته للسببية القريبة حتى يفيد العموم -ومعلوم أنه إنما يرتفع بالبلاغة التي هي عبارة عن مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال. فقد علم أن المراد بالاعتبار المناسب ومقتضى الحال واحد. فهما متحدان أو متساويان. فمقتضى الحال هو مناسب الحال لا موجبه.

ج / 1 ص -44- وهذا -أعني تطبيق الكلام على مقتضى الحال- هو الذي يسميه الشيخ عبد القاهر بالنظم. حيث يقول: النظم تآخي معاني النحو فيما بين الكلم، على حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام.

فالبلاغة صفة راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى1 عند التركيب2.

وكثيرًا ما يسمى ذلك3 فصاحة أيضًا4. وهو مراد الشيخ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 صرح عبد القاهر بأن وصف اللفظ بالفصاحة إنما هو من حيث أنه دال على المعنى "50 دلائل الإعجاز". والحاصل أنه إذا كانت البلاغة هي المطابقة والمطابقة صفة المطابق فتكون المطابقة راجعة للكلام من رجوع الصفة للموصوف. لكن رجوعها له باعتبار أفادته المعنى الحاصل بسبب التركيب، وهو المعنى الثاني الذي يعتبره البلغاء. وهو الخصوصيات التي يقتضيها الحال الزائد على أصل المراد. فالبلاغة إذا وصف بها المعنى كان المراد المعنى الثاني باعتبار أن المقصود من اللفظ إفادته. وإذا وصف بها اللفظ فهو باعتبار إفادته ذلك المعنى المقصود ونفيه عن اللفظ مراد به اللفظ المجرد عن المعنى والخصوصيات. ونفيها عن المعنى مراد به المعنى الأول للفظ الذي هو مجرد ثبوت المحكوم للمحكوم عليه.

2 لأن البلاغة عبارة عن مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال، فظاهر أن اعتبار المطابقة وعدمها إنما تكون باعتبار المعاني والأغراض التي يصاغ لها الكلام لا باعتبار الألفاظ المفردة والكلم المجردة.

3 أي الوصف المذكور.

4 كما يسمى بلاغة، فهما مترادفان، عن عبد القاهر حقيقة، وعلى شيء من التجوز عند الخطيب.

ج / 1 ص -45- عبد القاهر بما يكرره في دلائل الإعجاز من أن الفصاحة صفة راجعة إلى المعنى دون اللفظ، كقوله في أثناء فصل منه:

علمت أن الفصاحة والبلاغة وسائر ما يجري في طريقهما أوصاف راجعة إلى المعاني، وإلى ما يدل عليه بالألفاظ، دون الألفاظ أنفسها.

وإنما قلنا مراده ذلك؛ لأنه صرح في مواضع من دلائل الإعجاز بأن فضيلة الكلام للفظه لا لمعناه، منها أنه حكى قول من ذهب إلى عكس ذلك فقال: "فأنت تراه لا يقدم شعرًا حتى يكون قد أودع حكمة أو أدبًا أو اشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر". ثم قال: "والأمر بالضد إذا جئنا إلى الحقائق وما عليه المحصلون؛ لأنا لا نرى متقدمًا في علم البلاغة مبرزًا في شأوها إلا وهو ينكر هذا الرأي"، ثم نقل عن الجاحظ في ذلك كلامًا منه قوله: "والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي1 وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك".. ثم قال: "ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير فيه كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار. فكما أنه محال إذا أردت النظر في صوغ الخاتم وجودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل، كذلك محال إذا أردت أن تعرف كان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه، وكما لو فضلنا خاتمًا بأن تكون فضة هذا أجود أو فضه أنفس لم يكن ذلك تفضيلًا له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فصلنا بيتًا على بيت من أجل معناه أن لا يكون ذلك تفضيلًا له من حيث هو شعر وكلام".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- 340 جـ3 الحيوان.. وذلك في الصناعتين ص55.

ج / 1 ص -46- هذا لفظه، وهو صريح في أن الكلام من حيث هو كلام لا يوصف بالفضيلة باعتبار شرف معناه، ولا شك أن الفصاحة من صفاته الفاضلة، فلا تكون راجعة إلى المعنى، وقد صرح فيما سبق بأنها راجعة إلى المعنى دون اللفظ.

فالجمع بينهما بما قدمنا بحمل كلامه حيث نفى أنها من صفات اللفظ على نفي أنها من صفات المفردات1 من غير اعتبار التركيب، وحيث أثبت أنها من صفاته على أنها من صفاته باعتبار إفادته المعنى عند التركيب.

وللبلاغة طرفان:

أعلى، إليه تنتهي، وهو حد الإعجاز2، وما يقرب منه3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي المفردة عن اعتبار إفادة المعنى -وهي الخصوصيات- وليس المراد التي هي غير مركبة.

2 الإعجاز أن يرتقي الكلام في بلاغته إلى أن يخرج عن طوق البشر ويعجزهم عن معارضته.

3 عطف على قوله "وهو"، والضمير في منه عائد إلى أعلى، يعني أن الأعلى مع ما يقرب منه كلاهما حد الإعجاز، وهذا هو الموافق لما في المفتاح فالبلاغة أمر كلي لها ثلاث مراتب: مرتبة عليا ولها فردان، وسفلى وهي فرد واحد، ووسطى ولها أفراد. ويترتب على هذا أن بعض القرآن أبلغ من بعض وإن كان الجميع معجزًا.

ويجوز أن يكون "وما يقرب منه" معطوفًا على "حد الإعجاز" والضمير في منه عائد إليه، يعني أن الطرف الأعلى هو حد الإعجاز. وما يقرب من حد الإعجاز. فهذا عكس الأول، إذ الأول يفيد أن حد الإعجاز نوع له فردان: الأعلى وما يقرب منه، وهذا يفيد أن الطرف الأعلى نوع تحته فردان: حد الإعجاز وما يقرب منه. والمراد بحد الإعجاز البلاغة في أقصر سورة، وما يقرب منه البلاغة في مقدار آية أو آيتين. وفي التقدير الثاني نظرًا؛ لأن القريب من حد الإعجاز لا يكون من الطرف الأعلى الذي هو حد الإعجاز.

ج / 1 ص -47- وأسفل، منه تبتدئ وهو ما1 إذا غير الكلام عنه إلى ما هو دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات2 وإن كان صحيح الإعراب... وبين الطرفين مراتب كثيرة متفاوتة3:

وإذ قد عرفت معنى البلاغة في الكلام وأقسامها ومرابتها، فاعلم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي هو طرف للبلاغة إذا غير الكلام عنه إلى مرتبة هي أدنى منه وأنزل.

2 التي تصدر عن محالها بحسب ما يتفق من غير اعتبار اللطائف والخواص الزائدة على أصل المراد.

3 أي بعضها أعلى من بعض بحسب تفاوت المقامات ورعاية الاعتبارات والبعد من أسباب الإخلال بالفصاحة بناء على أن البلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال في الجملة، لكن الحق كما في عبد الحكيم أنها مطابقة الكلام لجميع ما يقتضيه الحال لكن بقدر الطاقة.

هذا وبلاغة الكلام تتفاوت باختلاف الخصوصيات كما أو كيفا والمقام واحد، وباختلاف الخصوصيات تبعًا لاختلاف المقامات، وبترك خصوصية مراعاة لحال المخاطب.

وللبلاغة طرف أسفل وطرف أعلى وما بينهما: أما الأسفل فهو الكلام الفصيح الذي طابق أدنى مطابقة وليس تحته إلا ما يلتحق بأصوات الحيوانات. وأما الأعلى فهو حد الإعجاز الكلام الإلهي وما يقرب منه "وهو أبلغ كلام البشر".. وبينهما مراتب لا تحصى.

ولنا أن نتسائل. هل في طاقة البلغاء -بالطبع أو بالاكتساب- الوصول إلى حد الإعجاز، ولو بأن يأتوا بمثال أقصر سورة من القرآن؟ وللجواب على ذلك.

أقول: ولا شك أن علوم البلاغة ترسم أصول البيان العربي والسليقة العربية ومناهج الأداء والأسلوب، وبالوقوف على ذلك يمكن مع سلامة الذوق محاكاة أهل هذه السليقة في بلاغتهم، فنتكلم عن علوم البلاغة - لأنها قواعد السليقة العربية، وهل توصل إلى حد الإعجاز، وهل هي صالحة كأداة للوصول إلى مرتبة الإعجاز؟ ولا شك أن علوم البلاغة لا تؤدي إلى الوصول لحد البلاغة؛ لأنها لا تعرفنا المقامات بل الخصوصيات وحدها، ولو فرضنا جدلًا أنها تعرفنا مع الخصوصيات المقامات أيضًا، فلا تسلم الإحاطة بها لو فرضنا الإحاطة بها فإنها لا تعطيك قدرة على إنشاء كلام بليغ بدليل أن كثيرًا من علماء البلاغة لم يستطيعوا الإتيان بكلام بليغ، ولو فرضنا أنها تعطي الملكة فلا شك في أن الملكة البشرية لا تقدر على مراعاة الخصائص كلها في الكلام البليغ.

ج / 1 ص -48- أنه يتبعها وجوه كثيرة1 غير راجعة إلى مطابقة مقتضى الحال ولا إلى الفصاحة، تورث الكلام حسنًا وقبولًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هذا ويرى علماء البلاغة أن القرآن يتفاوت في بلاغته؛ لأنه:

أ قد يقتضي المقام عشر خصوصيات فيأتي الله عز وجل بخمس منها حسب قدرة البشر مراعاة للمقام.

ب وقد تختلف المقامات فيكون مقام مقتضيًا لعشر خصوصيات وآخر مقتضيًا لخمس ولا شك أن الكلام الذي روعيت فيه العشرة أبلغ من الآخر.

وأرى أن القرآن لا تتفاوت بلاغته وأن أسلوبه وسوره وآياته في درجة واحدة من البلاغة. ويمكن الرد على رأي علماء البلاغة بما يأتي:

أ أن مراعاة مقام المخاطب والاتيان بكلام يوافق حاله هو البلاغة الكاملة التي ليس فيها تفاوت.

ب لا نسلم أن الكلام الأول أبلغ من الثاني بل هما في درجة واحدة من البلاغة؛ لأن العبرة ليست بالكم بل بالكيف، ولو سلمنا لهم رأيهم لكانت سورة البقرة أبلغ من "قل هو الله أحد" أو لكانت أبلغ من نصفها، أو لكان القرآن أبلغ من سورة منه.

أ وهي المحسنات البديعية، وتحسينها عرضي خارج عن حد البلاغة، وإنما تعد محسنة بعد رعاية المطابقة والفصاحة. وجعلها تابعة لبلاغة الكلام دون المتكلم؛ لأنها ليست مما تجعل المتكلم متصفًا بصفة.

والمحسنات البديعية إن أتى بها في الأسلوب من حيث أنها محسنة بحث عنها في علم البديع وكان تحسينها عرضيًّا، أما إذا اعتبرت من حيث المطابقة فتحسينها ذاتي يبحث عنه في علم المعاني.

هذا والبلاغة هي المطابقة والفصاحة واعتبار الخصوصيات، فالمطابقة والفصاحة أعم من البلاغة من حيث التحقق؛ لأنهما يوجدان بدون البلاغة فيما إذا لم تراع الخصوصية، وحينئذ فلا يعلم من كون تلك الوجوه تابعة للبلاغة كونها غيرهما؛ لأنهما تابعان لها أيضًا باعتبار أنهما من جملتها، فاحتاج إلى إفادة أنها غيرهما، فقال الخطيب في التلخيص: ويتبعها وجوه أخر، فقوله "أخر" يفيد أن تلك الوجوه ليست للازمة للبلاغة لكونها سوى الأمرين اللذين تحصل بهما البلاغة وتلك الوجوه في الكلام إنما تكون بعد البلاغة. ويقول السكاكي: البلاغة بمرجعها: علم المعاني وعلم البيان، والفصاحة بنوعيها: اللفظية والمعنوية، ما يكسو الكلام حلة التزيين، وههنا وجوه مخصوصة كثيرًا ما يصار إليها لقصد تحسين الكلام وهي قسمان: قسم يرجع إلى المعنى وقسم يرجع إلى اللفظ ص176 مفتاح.

ج / 1 ص -49- وأما بلاغة المتكلم:

فهي ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ.

وقد علم بما ذكرنا1 أمران:

أحدهما: أن كل بليغ -كلامًا كان أو متكلمًا فصيح2، وليس كل فصيح بليغًا3.

الثاني: أن البلاغة في الكلام: مرجعها إلى الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد4، وإلى تمييز الكلام الفصيح من غيره5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي من تعريف البلاغة والفصاحة.

2 لأن الفصاحة مأخوذة في تعريف البلاغة مطلقًا، أي بلاغة كلام أو متكلم، لكن أخذها في بلاغة الكلام صراحة وفي بلاغة المتكلم بواسطة.

3 لجواز أن يكون كلام فصيح غير مطابق لمقتضى الحال. وكذا يجوز أن يكون لأحد ملكه يقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح من غير مطابقة لمقتضى الحال.

4 وإلا ربما أدى المعنى المراد بلفظ فصيح غير مطابق لمقتضى الحال فلا يكون بليغًا.

5 الأولى أن يقال: وإلى الاحتراز عن أسباب الإخلال بالفصاحة، وذلك لئلا يؤدي الكلام المطابق لمقتضى الحال بلفظ غير فصيح، فلا يكون أيضًا بليغًا لوجوب وجود الفصاحة في البلاغة. ويدخل في تمييز الكلام الفصيح من غيره تمييز الكلمات الفصيحة من غيرها لتوقفه عليها.

ج / 1 ص -50- والثاني -أعني التمييز1- منه ما يتبين في علم متن2 اللغة، أو التصريف3، أو النحو4، أو يدرك بالحس5، وهو 6 ما عدا التعقيد المعنوي7.

وما يحترز به عن الأول -أعني الخطأ8- هو علم المعاني. وما يحترز به عن الثاني -أعني التعقيد المعنوى- هو علم البيان9.

وما يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته، هو علم البديع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي تمييز الفصيح من غيره.

2 وذلك كالغرابة، يعني يعرف بعلم متن اللغة تمييز السالم من الغرابة عن غيره بمعنى أن من تتبع الكتب المتداولة وأحاط بمعاني المفدرات المأنوسة علم أن ما عداها مما يفتقر إلى تنقير أو تخريج فهو غير سالم من الغرابة.

3 وذلك كمخالفة القياس.

4 كضعف التأليف والتعقيد اللفظي.

5 أي بالذوق وذلك كالتنافر في مستشزر مثلًا أو في "وقبر حرب: البيت".

6 وهو أي ما يبين في العلوم المذكورة أو ما يدرك بالحس.

7 إذ لا يعرف بتلك العلوم تمييز السلام من التعقيد المعنوي من غيره.

8 أي في تأدية المعنى المراد.

9 يسمون هذين العلمين علم البلاغة لمكان مزيد اختصاص لهما بالبلاغة وإن كانت البلاغة تتوقف على غيرهما من العلوم كاللغة والنحو والصرف.

ج / 1 ص -51- وكثير من الناس يسمى الجميع علم البيان1.

وبعضهم يسمى الأول علم المعاني، والثاني والثالث علم البيان، والثلاثة علم البديع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 والبيان في غير الاصطلاح هو المنطق الفصيح المعبر عما في الضمير.

ملاحظة:

المعنى الأول هو أصل المراد، وهو ثبوت المحكوم به للمحكوم عليه، والمعنى الثاني هو الخصوصيات. كما يرى ابن قاسم وابن يعقوب والشيخ يسن وسواهم، وقيل المعنى الأول هو ما يفهم من اللفظ بحسب التراكيب وهو أصل المعنى مع الخصوصيات من تعريف وتنكير إلخ، والمعنى الثاني هو الأغراض التي يقصدها المتكلم ويصوغ الكلام لأجل إفادتها وهي أحوال المخاطب التي يورد المتكلم الخصوصيات من أجلها من إشارة لمعهود وتعظيم وتحقير وإنكار وشك إلخ، وهذا بالنسبة لعلم المعاني، وأما بالنسبة لعلم البيان، فالمعاني الأول هي المدلولات المطابقية مع رعاية مقتضى الحال، والمعاني الثواني هن المعاني المجازية أو الكنائية. وهذا هو المأخوذ من الدلائل كما في المطول، وكلام السعد في المختصر يصح حمله على الوجهين.

فأصل المراد إذا -الذي هو المعنى الأول- إفادة ثبوت المسند للمسند إليه بأي طريق كان، والخصوصية هي المزايا البلاغية التي يقصدها البليغ كما يرى السعد وهي المعنى الثاني.. لكن عبد الحكيم يرى أن أصل المراد هو أصل المعنى مع الخصوصيات، والمعنى الثاني هو الأغراض، راجع التجريد عند شرح قوله "ويؤتي باسم الإشارة لإفادة القرب أو البعد أو التوسط" مثلًا. ومما في التجريد نستنبط: أن مباحث علم البلاغة عند السعد تشمل المعاني الوضعية للألفاظ والتراكيب، وهي عند السيد خاصة بمستتبعات التراكيب، وعند عبد الحكيم أن مباحثها شاملة للمعاني الوضعية ولمستتبعات التراكيب.

هذا والنكتة البلاغية لا يشترط فيها الاختصاص بتلك الطرق بل يكفي كونها مناسبة للمتقضى موجبة كانت أو مرجحة أولم تكن كذلك، والترجيح من قصد المتكلم، وهذه هي طريقة المفتاح، ومذهب الشارح أن النكنة لابد أن تكون موجبة أو مرجحة.

الإيضاح في علوم البلاغة

ج / 1 ص -52- الفن الأول: علم المعاني1.

تعريف الخطيب:

وهو علم2 يعرف به أحوال اللفظ التي بها يطابق مقتضى الحال3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 قدم المعاني على البيان لكونه منه بمنزلة المفرد من المركب، فاتصال المعاني بالبيان كاتصال المفرد بالمركب، ونسبته إليه من جهة التوقف، وإن كان توقف المركب على المفرد من جهة كونه جزءًا له، بخلاف توقف البيان على المعاني فعلم المعاني كالمفرد والبيان بمنزلة المركب، وذلك؛ لأن رعاية المطابقة لمقتضى الحال التي هي ثمرة علم المعاني معتبرة في علم البيان "من حيث أنها شرط في الاعتداد بمثمرته التي هي الإيراد، فليس المراد اعتبارها في البيان على سبيل الجزئية له؛ لأنه ليس مركبًا من اعتبار المطابقة وإيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة، فإن الرعاية أمر خارج عن البيان ليست جزءًا منه ولا فائدة له، وإنما هي شرط للاعتداد بفائدته، فاعتبرت فيه من تلك الحيثية، وأما الإيراد فهو فائدة علم البيان ومقصود منه، فاعتبر فيه من تلك الحيثية، مع زيادة شيء آخر هو إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة.. فثمرة علم المعاني تشبه الجزء من علم البيان لتوقفه عليها من حيث اعتبار ثمرته، فالرعاية والإيراد يشبهان أجزاء علم البيان لتوقفه عليهما، فكان علم المعاني بمنزلة الجزء، لكونه ثمرته المقصودة منه كالجزء. وإنما قلنا من حيث اعتبار ثمرته؛ لأن تحققه لا يتوقف على رعاية المطابقة، ومنه يمكن تحقق ملكة يقتدر بها على إيراد المعنى بطرق مختلفة وضوحًا وخفاء من غير رعاية للمطابقة، ولا شك أن هذه الملكة تسمى علم البيان.

2 أي ملكة يقتدر بها على إدراكات جزئية، ويجوز أن يراد به الأصول والقواعد المعلومة.

3 أي يطابق بها اللفظ مقتضى الحال، وذلك احتراز من الأحوال التي ليست بهذه الصفة، مثل الإعلال والإدعام والرفع والنصب وما أشبه ذلك مما لابد منه في تأدية أصل المعنى، وكذا المحسنات البديعية من التجنيس والترصيع ونحوهما مما يكون بعد رعاية المطابقة... والمراد أنه علم تعرف به هذه الأحوال من حيث أنها يطابق بها اللفظ مقتضى الحال، لظهور أن ليس علم المعاني عبارة عن قصور معاني التعريف والتنكير مثلًا، وبهذا يخرج عن التعريف علم البيان إذ ليس البحث فيه عن أحوال اللفظ من هذه الحيثية...... والمراد بأحوال اللفظ الأمور العارضة له من التقديم والتأخير والإثبات والحذف وغير ذلك.

ومقتضى الحال على التحقيق هو الكلام الكلي للتكيف بكيفية مخصوصة على ما أشير إليه في المفتاح وصرح به الشيرازي في شرحه - وذلك حيث يقول السكاكي في تعريف علم المعاني: هو تتبع خواص تراكيب البلغاء إلخ، فهو يشير إلى أن المقتضى هو الكلام المتكيف بتلك الكيفيات؛ لأ ن الذي يذكر إنما هو الكلام لا الحذف والتقديم إلخ.. وأورد أن الذي يذكر إنما هو الكلام الجزئي لا الكلي فهو كالكيفيات لا يذكر، إلا إن قلنا أنه شاع وصف الكلي بوصف جزئياته-، لا نفس الكيفيات من التقديم والتأخير والتعريف والتنكير على ما هو ظاهر عبارة المفتاح وغيره، ولو أريد بمقتضى الحال الكيفيات لا الكلام، لما صح القول بأنها أحوال بها يطابق اللفظ مقتضى الحال؛ لأنها عين مقتضى الحال.. وأحوال الإسناد أيضًا من أحوال اللفظ باعتبار أن التأكيد وتركه مثلًا من الاعتبارات الراجعة إلى نفس الجملة. وتخصيص اللفظ بالعربي مجرد اصطلاح؛ لأن الصناعة إنما وضعت لذلك.

ج / 1 ص -53- قيل: "يعرف" دون "يعلم"، رعاية لما اعتبره بعض الفضلاء من تخصيص العلم بالكليات والمعرفة بالجزئيات، كما قال صاحب "القانون"1 في تعريف الطب: الطب علم يعرف به أحوال بدن الإنسان، وكما قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله2: التصريف علم بأصول يعرف بها أحوال أبنية الكلم.

تعريف السكاكي:

وقال السكاكي: "علم المعاني: هو تتبع خواص تراكيب الكلام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هو ابن سينا و"القانون" أحد مؤلفاته المشهورة في الطب.

2 هو ابن الحاجب عثمان بن عمر الإمام العالم النحوي المشهور، مؤلف الشافية وسواها من الكتب المشهورة.

ج / 1 ص -54- في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره، ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما تقتضي الحال ذكره1".

نقد تعريف السكاكي:

"قال الخطيب": وفيه2 نظر:

1 إذا التتبع ليس بعلم ولا صادق عليه، فلا يصح تعريف شيء من العلوم3 به.

2 ثم قال4: "وأعني بالتراكيب تراكيب البلغاء"، ولا شك أن معرفة البليغ من حيث هو بليغ متوقفه على معرفة البلاغة، وقد عرفها في كتابه بقوله: "البلاغة: هي بلوغ المتكلم في تأدية المعنى حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها5 وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها".

فإن أريد بالتراكيب في حد البلاغة تراكيب البلغاء، وهو الظاهر، فقد جاء الدور6، وإن أراد غيرها فلم يبينه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي إيراده في الكلام.

2 أي في تعريف السكاكي لعلم المعاني.

3 أجيب عن هذا الاعتراض: بأن المراد من التتبع العلم مجازًا مرسلًا من إطلاق المسبب على السبب

4 أي السكاكي كما في المفتاح ص70.

5 بأن يورد كل كلام موافقًا لمقتضى الحال، فالمراد بالتراكيب في

6 لأن علم البلاغة يتوقف على تراكيب البلغاء وتراكيب البلغاء تتوقف على علم البلاغة، ومتى عرفنا البلاغة فقد وصلنا إلى حد نعرف به توفية خواص التراكيب حقها.

وقد أجيب عن اعتراض الدور هذا بأن بلاغة الكلام غير بلاغة المتكلم، فلا يتوقف العلم بالبليغ المتكلم على العلم ببلاغة الكلام التي وقع فيها التحديد فلا يمتنع أخذ البليغ في الحد.

ج / 1 ص -55- 3 على أن قوله "وغيره" مبهم لم يبين مراده به1.

المقصود من علم المعاني:

ثم المقصود من علم المعاني منحصر في ثمانية أبواب:

أولها: إحوال الإسناد الخبري.

وثانيها: أحوال المسند إليه.

وثالثها: أحوال المسند.

ورابعها: أحوال متعلقات الفعل.

وخامسها: القصر.

وسادسها: الإنشاء.

وسابعها: الفصل والوصل.

وثامنها: الإيجاز والإطناب والمساواة.

ووجه الحصر أن الكلام إما خبر أو إنشاء؛ لأنه أما أن يكون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وأجيب عن هذا الاعتراض بأن المراد به الاستهجان بقرينة الاستحسان. هذا وقد بسط الحفيد في "الدر النضيد" شرح تعريف السكاكي ونقده: وقال: المشهور أن المراد بالاستحسان المحسنات البديعية. فالبديع خارج عن المعاني والبلاغة، والأوضح في تعريف علم المعاني كما يرى السعد في المطول أن نقول: هو علم يعرف به كيفية تطبيق الكلام العربي لمقتضى الحال.

ج / 1 ص -56- لنسبته خارج تطابقه، أو لا تطابقه. أو لا يكون لها خارج 1،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 تفصيل ذلك أن الكلام لا محالة يشتمل على نسبة تامة بين الطرفين قائمة بنفس المتكلم، وهي تعلق أحد الشيئين -أي الطرفين: المسند أو المسند إليه- بالآخر، بحيث يصح السكوت على التعلق، سواء كان ذلك التعلق إيجابيًّا أو سلبيًّا "وهذا لا يكون إلا في الخبر، بخلاف الإنشاء فلا يتصف بإيجاب ولا بسلب؛ لأنهما من أنواع الحكم، والإنشاء ليس بحكم، بل هو إيجاد معنى بلفظ يقارنه في الوجود" أو غيرهما كما في الإنشائيات.

والمراد بالتعلق ما يشمل النسبة الحكمية -أعني ثبوت المحمول للموضوع- وما يشمل النسبة الإنشائية. والمراد بالإيجاب إدراك الثبوت، أي أنه مطابق للواقع أو غير مطابق، وبالسلب عكسه فهو إدراك الانتقاء أي أنه مطابق للواقع أو غير مطابق، وتفسير النسبة بإيقاع المحكوم به على المحكوم عليه أو سلبه عنه خطأ في هذا المقام؛ لأنه لا يشمل النسبة في الكلام الإنشائي، فلا يصح التقسيم.

والتحقيق أن الإنشاء له نسبة كلامية ونسبة خارجية تارة يتطابقان وتارة لا. والفارق بين الخبر والإنشاء هو قصد المطابقة أو قصد عدمها في الخبر. والإنشاء ليس فيه قصد للمطابقة ولا لعدمها، وعبد الحكيم وغيره يقولون: الإنشاء لا خارج له إذ لو كان له خارج لكان خبرا يتصور فيه الصدق والكذب اللذان هما من لوازم الخارجية، واللازم باطل فبطل الملزوم.

هذا والخبر له ثلاث نسب: نسبة ذهنية. ونسبة كلامية، ونسبة خارجية في أحد الأزمة الثلاثة. فبين طرفيه -اللذين هما النسبة الكلامية- في الخارج والواقع نسبة ثبوتية أو سلبية بحيث يقصد مطابقة تلك النسبة لذلك الخارج بأن تكونا ثبوتيتين أو سلبيتين أو لا يقصد مطابقتهما له، بأن تكون النسبة المفهومة من الكلام ثبوتية والتي بينهما في الخارج والواقع سلبية أو بالعكس، وأما الإنشاء فله نسبة ذهنية ونسبة كلامية، والخلاف هل له نسبة خارجية أو لا؟.

قيل ليس له نسبة خارجية وهذا هو الفرق بينه وبين الخبر وقيل له نسبة خارجية، والفرق بينهما أن الخبر يقصد فيه مطابقة النسبة للخارج أو عدم مطابقتها له، والإنشاء لا يقصد فيه ذلك.

والخلاصة: أن الكلام إما أن تكون نسبته بحيث تحصل من اللفظ ويكون اللفظ موجدا لها من غير قصد إلى كونه دالا على نسبة حاصلة في الواقع بين الشيئين وهو الإنشاء، أو تكون له نسبة بحيث يقصد أن لها نسبة خارجية تطابقه أو لا تطابقه وهو الخبر؛ لأن النسبة المفهومة من الكلام الحاصلة في الذهن لا بد أن تكون بين الشيئين. ومع قطع النظر عن الذهن لا بد أن يكون بين هذين الشيئين في الواقع نسبة ثبوتية بأن يكون هذا ذاك، أو سلبية بأن لا يكون هذا ذاك: ألا ترى أنك إذا قلت زيد قائم فإن القيام حاصل لزيد قطعًا. وثبوت النسبة في الواقع بين الشيئين المذكورين مع قطع النظر عن الذهن هو معنى وجود النسبة الخارجية فمعنى وجودها تحققها في الواقع.

ج / 1 ص -57- الأول الخبر، والثاني الإنشاء. ثم الخبر لا بد له من إسناد ومسند إليه ومسند1. وأحوال هذه الثلاثة هي الأبواب الثلاثة الأولى. ثم المسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلًا أو متصلًا به أو في معناه كاسم الفاعل ونحوه 2، وهذا هو الباب الرابع. ثم الإسناد والتعلق كل واحد منهما يكون إما بقصر أو بغير قصر، وهذا هو الباب الخامس، والإنشاء هو الباب السادس. ثم الجملة إذا قرنت بأخرى فتكون الثانية إما معطوفة على الأولى أو غير معطوفة، وهذا هو الباب السابع. ولفظ الكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة3 أو غير زائد عليه، وهذا هو الباب الثامن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 والإنشاء كذلك أيضًا، وإنما اقتصر على الخبر لكونه أعظم شأنًا من الإنشاء، وأكثر اشتمالًا على اللطائف البلاغية المعتبرة.

2 كالمصدر واسم المفعول وما أشبه ذلك ولا داعي لتخصيص هذا الكلام بالخبر.

3 احترز بالفائدة عن التطويل فإنه الزيادة على أصل المراد لا لفائدة، على أنه لا حاجة إلى قيد الفائدة بعد تقييد الكلام بالبليغ.

هذا وقد أفردت هذه الأحوال المتعلقة بالجملة بأبواب مستقلة دون غيرها من الأحوال -كالتعريف والتنكير مثلًا- لصعوبة أمرها وكثرة تشعبها بكثرة مباحثها.

ج / 1 ص -58- .........................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تطبيق:

1- ميز الجمل الخبرية من الإنشائية وعين المسند والمسند إليه في كل جملة فيما يلي:

قال بعض البلغاء: لذت بعفوك، واستجرت بصفحك، فأذقني حلاوة الرضا، وأنسني مرارة السخط فيما مضى. وقال الشاعر:

ولا تصطنع إلا الكرام فإنهم يجازون بالنعماء من كل منعما

ومن يتخذ عند اللئام صنيعة تجده على آثارها متندما

وقال ابن المعتز:

ليس الكريم الذي يعطي عطيته عن الثناء وإن أغلى به الثمنا

بل الكريم الذي يعطي عطيته لغير شيء سوى استحسانه الحسنا

لا يستثيب ببذل العرف محمدة ولا بمن إذا ما قلد المننا

وقال شوقي:

قف دون رأيك في الحياة مجاهدا إن الحياة عقيدة وجهاد

وقال المتنبي:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم

وقال زهير:

ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله على قومه يستغن عنه ويذمم

وقال عنتره:

وأنا المنية في المواطن كلها والطعن مني سابق الآجال

وقال الشاعر:

أيها الرائد في صمت الرعاة عد إلى دنياك واهتف بالحياة

وقال حافظ:

ردوا على بياني بعد محمود أني عييت وأعيا الشعر مجهودي

وقال أبو العلاء:

تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يعاد له سبك

ج / 1 ص -59- تنبيه1:

اختلف الناس في انحصار الخبر في الصادق والكاذب، فذهب الجمهور إلى أنه منحصر فيهما ثم اختلفوا:

1- فقال الأكثر منهم: صدقه مطابقة حكمه للواقع 2- هذا هو المشهور وعليه التعويل.

3- وقال بعض الناس3: صدقه مطابقة حكمه لاعتقاد المخبر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هذا بحث عقلي لا صلة له بمباحث البلاغة إلا من ناحية أنه كالتفسير والشرح لتعريف الخبر والإنشاء، وقد أشار عبد القاهر إلى شيء من ذلك في دلائله -راجع ص407 إلى 410 من دلائل الإعجاز-، كما ذكره السكاكي في مفتاحه ص72 المفتاح، وجارى الخطيب شيخه السكاكي بالسير على هذا المنوال.

2 أي الخارج الذي يكون لنسبة الكلام الخبري، فصدق الخبر على ذلك هو مطابقة نسبته الكلامية للنسبة الخارجية، سواء طابقت الاعتقاد أو لا. وعلى هذا التعريف لا يخرج خبر الشاك عن الصادق والكاذب بخلافه على التفسير الثاني.. وتفصيل الأمر أن قولنا محمد قائم له ثلاث نسب: نسبة كلامية وهي ما يدل عليه الكلام، ونسبة ذهنية وهي ما يحصل في الذهن من النسبة الكلامية، ونسبة خارجية وهي النسبة التي بين الطرفين في الواقع، فمطابقة النسبة الكلامية للنسبة الخارجية بأن يكونا ثبوتيين أو سلبيين صدق، وعدم مطابقتها لها -بأن تكون احداهما ثبوتية والأخرى سلبية- كذب.

3 هو النظام الإمام المعتزلي المتوفى عام 235هـ: وعلى رأي النظام يكون قول القائل "السماء تحتنا" صدقا إذا كان يعتقد ذلك، ويكون قوله "السماء فوقنا" كذبا إذا لم يعتقد ذلك. والمراد بالاعتقاد الحكم الذهني الجازم أو الراجح فيعم العلم والظن. أما الشك فواسطة بين الكذب والصدق، إذ لا اعتقاد للشاك، وعلى هذا لا يتحقق انحصار الخبر في الصدق والكذب لوجود الواسطة وهي خبر الشاك، اللهم إلا أن يقال أنه كاذب؛ لأنه إذا انتفى الاعتقاد صدق عدم مطابقته للاعتقاد. هذا والكلام المشكوك فيه يرى البعض أنه ليس خبرًا؛ لأنه لا نسبة له في الاعتقاد فهو خارج عن المقسم وهو الخبر.

ج / 1 ص -60- صوابًا كان أو خطأ، وكذبه عدم مطابقة حكمه له. واحتج له بوجهين:

أحدهما: أن من اعتقد أمرًا فأخبر به ثم ظهر خبره بخلاف الواقع يقال: ما كذب ولكنه أخطأ، كما روى عن عائشة رضي الله عنها قالت فيمن شأنه كذلك: ما كذب ولكنه وهم.

ورد بأن المنفي تعمد الكذب لا الكذب، بدليل تكذيب الكافر كاليهودي إذا قال: "الإسلام باطل" وتصديقه إذا قال: الإسلام حق. فقولها1: "ما كذب" متأول بما كذب عمدًا.

الثاني: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}، كذبهم في قولهم "إنك لرسول الله" وإن كان مطابقًا للواقع؛ لأنهم لم يعتقدوه. وأجيب عنه بوجوه.

أحدها أن المعنى نشهد شهادة وأطأت فيها قلوبنا ألسنتنا، كما يترجم عنه أن والسلام وكون الجملة اسمية في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُوْلَ اللهِ...} فالتكذيب في قولهم: {نَشْهَدُ} وادعائهم فيها المواطأة، لا في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُوْلَ اللهِ}2.

وثانيهما: أن التكذيب في تسميتهم أخبارهم شهادة؛ لأن الأخبار

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي عائشة رضوان الله عليها.

2 وعلى هذا فالتكذيب في الشهادة لا في المشهود به، بخلاف الوجه الثالث فالتكذيب في المشهود به لكن لا في الواقع بل في زعمهم الفاسد؛ لأنهم يعتقدون أنه غير مطابق للواقع. فيكون كاذبًا باعتقادهم وإن كان صادقًا في نفس الأمر، فكأنه قبل أنهم يزعمون أنهم كاذبون في هذا الخبر الصادق، وحينئذ لا يكون الكذب إلا بمعنى عدم المطابقة للواقع.

ج / 1 ص -61- إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة.

وثالثها: أن المعنى لكاذبون في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُوْلَ اللهِ} عند أنفسهم، لاعتقادهم أنه خبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه.

وأنكر الجاحظ انحصار الخبر في القسمين1، وزعم أنه ثلاثة أقسام: صادق، وكاذب، وغير صادق ولا كاذب؛ لأن الحكم إما مطابق للواقع مع اعتقاد المخبر له أو عدمه، وإما غير مطابق مع الاعتقاد أو عدمه:

فالأول -أي المطابق مع الاعتقاد- هو الصادق2.

والثالث -أي غير المطابق مع الاعتقاد- هو الكاذب3.

والثاني والرابع -أي المطابق مع عدم الاعتقاد4، وغير المطابق مع عدم الاعتقاد5- كل منهما ليس بصادق ولا كاذب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي الصادق والكاذب.

2 وصدق الخبر على هذا هو مطابقة الخبر للواقع مع اعتقاد الخبر أنه مطابق له.

3 فكذب الخبر هو عدم مطابقته للواقع مع اعتقاد أنه غير مطابق له.

4 أي مع عدم الاعتقاد أصلًا أو مع الاعتقاد بأنه غير مطابق.

5 أي أصلًا أو مع اعتقاد المطابقة، فالذي ليس بصادق ولا كاذب أربعة:

1 المطابقة مع اعتقاد عدم المطابقة.

2 المطابقة بدون الاعتقاد أصلًا.

3 عدم المطابقة مع اعتقاد المطابقة.

4 عدم المطابقة بدون الاعتقاد أصلًا.

فكل من الصدق والكذب بتفسير الجاحظ أخص منه بالتفسيرين السابقين؛ لأنه اعتبر في الصدق مطابقة الواقع والاعتقاد جميعًا وفي الكذب عدم مطابقتهما جميعا، وقد اقتصر في التفسيرين السابقين على أحدهما، فالجمهور اقتصروا في تفسيرهم على اعتبار المطابقة للواقع والنظام على اعتبار المطابقة للاعتقاد.

ج / 1 ص -62- فالصدق عنده مطابقة الحكم للواقع مع اعتقاده -والكذب عدم مطابقته مع عدم اعتقاده.

وغيرهما ضربان: مطابقته مع عدم اعتقاده، وعدم مطابقته مع عدم اعتقاده.

واحتج بقوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8] 1؟"، فإنهم حصروا دعوى النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة في الافتراء والإخبار حال الجنون، بمعنى امتناع الخلو، وليس إخباره حال الجنون كذبًا لجعلهم الافتراء في مقابلته، ولا صدقًا؛ لأنهم لم يعتقدوا صدقه، فثبت أن من الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب2.. وأجيب عنه بأن الافتراء هو الكذب عن عمد، فهو نوع من الكذب فلا يمتنع أن يكون الإخبار حال الجنون كذبًا أيضًا لجواز أن يكون نوعًا آخر من الكذب وهو الكذب لا عن عمد، فيكون التقسيم للخبر مطلقًا، والمعنى "افترى أم لم يفتر؟"، وعبر عن الثاني بقوله: "أم به جنة"؛ لأن المجنون لا افتراء له.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 الافتراء: الكذب. الجنة: الجنون.

2 يلاحظ أن هذا الدليل وإن أثبت الواسطة ألا أنه إنما أثبت قسمًا واحدًا من أقسام الواسطة الأربعة. ألا أن مراد الجاحظ إبطال مذهب غيره وإثبات مذهبه في الجملة.

ج / 1 ص -63- تنبيه آخر:

وهو مما يجب أن يكون على ذكر الطالب لهذا العلم1.

قال السكاكي: ليس من الواجب في صناعة وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل أن يكون الدخيل فيها كالناشئ عليها، في استفادة الذوق منها، فكيف إذا كانت الصناعة مستندة إلى تحكمات وضعية واعتبارات ألفية؟ فلا على الدخيل في صناعة علم المعاني أن يقلد صاحبه في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك، إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق.

وكثيرًا ما يشير الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز إلى هذا، كما ذكر في موضع ما تلخيصه هذا: اعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعًا من السامع، ولا يجد لديه قبولًا، حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة، ومن تحدثه نفسه بأنه لما تومئ إليه من الحسن أصلًا. فيختلف الحال عليه عند تأمل الكلام، فيجد الأريحية تارة، ويعرى منها آخرى، وإذا عجبته تعجب، وإذا نبهته لموضوع المزية انتبه، فأما من كانت الحالات عنده على سواء، وكان لا يتفقد من أمر النظم إلا الصحة المطلقة، وإلا إعرابًا ظاهرًا، فليكن عندك بمنزلة من عدم الطبع الذي يدرك به وزن الشعر، ويميز به مزاحفة من سالمه في أنك لا تتصدى لتعريفه، لعلمك أنه قد عدم الأداة التي بها يعرف... واعلم أن هؤلاء وإن كانوا هم الآفة العظمى في هذا الباب، فإن من الآفة أيضًا من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلة في شيء مما تعرف المزية فيه، ولا يعلم إلا أن له موقعًا من النفس وحظًّا من القبول، فهذا بتوانيه في حكم القائل الأول.. واعلم أنه ليس إذا لم يمكن معرفة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي علم البلاغة.

ج / 1 ص -64- الكل وجب ترك النظر في الكل، ولأن تعرف العلة في بعض الصور فتجعله1 شاهدًا في غيره أحرى من أن تسد باب المعرفة على نفسك وتعودها الكسل والهوينا، قال الجاحظ: وكلام كثير جرى على ألسنة الناس، وله مضرة شديدة وثمرة مرة. فمن أضر ذلك قولهم: لم يدع الأول للآخر شيئًا2، فلو أن علماء كل عصر مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم، تركوا الاستنباط لما لم ينته إليهم عمن قبلهم، لرأيت العلم مختلًّا 3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي فتجعل علمك أو عرفانك بذلك.

2 وفي البيان والتبيين يقول الجاحظ: إذا سمعت الرجل يقول: "ما ترك الأول للآخر شيئًا فاعلم أنه ما يريد أن يفلح".

3 هذا هو نهاية تلخيص الخطيب لكلام عبد القاهر في الدلائل.

ج / 1 ص -65- القول في أحوال الإسناد الخبري1:

من المعلوم لكل عاقل أن قصد المخبر 2 بخبره إفادة المخاطب إما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 البحث هنا عن الأمور العارضة للإسناد الخبري: من التأكيد وعدمه وكونه حقيقة عقلية أو مجازًا. الإسناد ضم كلمة أو ما يجري مجراها - كالجملة الحالة محل مفرد نحو زيد قائم أبوه، ومثل المركبات الإضافية والتقييدية- إلى كلمة أخرى أو ما يجري مجراها بحيث يفيد الحكم بأن مفهومها أحداهما -وهي المحكوم به والمسند- ثابت لمفهوم الأخرى -وهي المسند إليه-.

2 أي من يكن بصدد الإخبار والإعلام، وإلا فالجملة الخبرية كثيًرا ما تأتي لأغراض أخر غير إفادة الحكم أو لازمة مثل:

التحسر والتخزن كما في قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} وقول الشاعر:

قومي هم قتلوا أميم أخي فإذا رميت يصيبني سهمي

وكإظهار الضعف كما في قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4] وكبيان التفاوت الغريب في المنزلة كما في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 94] الآية، وقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].

وكالاستعطاف والاعتذار كقول النابغة:

نبئت أن أبا قابوس أوعدني ولا قرار على زأر من الأسد

وكالتوبيخ كقولك: أنت تسيء إلى من أحسن إليك، وكإظهار الفرح كقولك: انتصرنا على العدو اللدود. إلى غير ذلك من الوجوه التي يفيدها الأسلوب. واستفادة التحسر وغيره من هذه الأساليب بطريق التلويح والإشارة فتكون هذه المعاني من مستتبعات التراكيب، وقيل أن استعمال الكلام في التحسر مثلًا مجاز مركب؛ لأن الهيئة في مثله موضوعة للأخبار، فإذا استعمل ذلك المركب في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة فاستعارة وإن كان لعلاقة غير المشابهة فمجاز مرسل.

ج / 1 ص -66- نفس الحكم1 كقولك زيد قائم لمن لا يعلم أنه قائم، ويسمى هذا فائدة الخبر. أما كون المخبر عالمًا2 بالحكم، كقولك لمن زيد عنده ولا يعلم أنك تعلم ذلك: زيد عندك، ويسمى هذا لازم فائدة الخبر3.

قال السكاكي4:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 يطلق الحكم على النسبة الكلامية وهو المتعارف بين أرباب العربية، ويطلق على المحكوم به، وعلى إذعان النسبة أي إدراك أنها واقعة أو ليست بواقعة أي تحققها في الخارج أو عدم تحققها وهذا هو المراد هنا.. والحكم أعم من أن يكون مدلولًا حقيقيًّا للخبر أو مجازيًّا أو كنائيًّا.

2 المراد بالعلم هنا التصديق بالنسبة جزمًا أو ظنًّا، لا مجرد الصور.

3 لأن كل خبر أفاد المخاطب الحكم أفاد أن المخبر عالم بذلك الحكم، وليس كل ما أفاد أنه عالم بالحكم أفاد نفس الحكم، لجواز أن يكون الحكم معلومًا قبل الأخبار. فيكون الخبر حينئذ قد أفاد لازم الفائدة ولم يفد الفائدة كما في قولنا لمن قرأ كتاب الإيضاح: أنت قد قرأت كتاب الإيضاح - وتسمية مثل هذا الحكم فائدة الخبر بناء على أنه من شأنه أن يقصد بالخبر ويستفاد منه فإن قيل أن المخاطب قد يلقي الخبر لإفادة الحكم ويغفل عن كون المتكلم عالمًا به. أو يجيز بالحكم وهو شاك أو جاهل فلم تكن إفادة أنه عالم بالحكم لازمة لإفادة نفس الحكم. والجواب أن المراد باللزوم في الجملة أي أن ذلك اللزوم بالنظر للغالب.

والمراد بالعلم هنا المعنى المصطلح عليه عند المناطقة، وهو الصورة الحاصلة في الذهن وافقت الواقع أولًا، وسواء كانت معتقدة للمتكلم اعتقادًا جازمًا أو غير جازم. لا الاعتقاد الجازم المطابق للواقع كما عليه المتكلمون.

4 هذا وتفسير الفائدة بالحكم الذي يقصد بالخبر إفادته ولازم الفائدة يكون المخبر عالمًا بالحكم رأي الجمهور ومنهم السكاكي كما ترى في المفتاح.. ورغم العلامة الشيرازي أن فائدة الخبر هي استفادة السامع من الخبر أن المخبر عالم بالحكم، وهو خلاف التحقيق.

ج / 1 ص -67- "والأولى بدون هذه تمتنع، وهذه بدون الأولى لا تمتنع، كما هو حكم اللازم المجهول المساواة1.

أي يمتنع أن لا يحصل العلم الثاني من الخبر نفسه عند حصول الأول منه2، لامتناع حصول الثاني قبل حصول الأول، مع أن سماع الخبر من المخبر كاف في حصول الثاني منه.

ولا يمتنع أن لا يحصل الأول3 من الخبر نفسه عند سماع الثاني منه، لجواز حصول الأول قبل حصول الثاني وامتناع حصول الحاصل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وهو اللازم الأعم مثل لزوم الحيوانية للإنسانية فلا يلزم من العلم بالحيوانية العلم بالإنسانية.

2 للزوم حصول لازم فائدة الخبر كلما حصلت الفائدة، فالعلم الثاني وهو علم المخاطب بأن المخبر عالم بهذا الحكم من الخبر نفسه يوجد عن حصول العلم الأول وهو علمه بذلك الحكم من الخبر نفسه، إذ لو لم يحصل العلم الثاني عند حصول الأول فإما؛ لأنه قد حصل قبل وإما؛ لأنه لم يحصل بعد، أما الأول -حصول العلم الثاني قبل الأول- فباطل؛ لأن العلم يكون المخبر عالمًا بالحكم لابد فيه من أن يكون هذا الحكم حاصلًا في ذهنه ضرورة. والثاني باطل أيضًا؛ لأن علة حصوله سماع الخبر من المخبر، إذ التقدير أن حصوله إنما هو نفس الخبر، فنبه الخطيب على الأول بقوله: "لامتناع حصول الثاني قبل حصول الأول"، ونبه على الثاني بقوله: مع أن سماع الخبر من المخبر كاف في حصول الثاني منه... فإن قيل لا نسلم أنه كلما أفاد الخبر أفاد أنه عالم به، لجواز أن يكون خبره مظنونًا أو مشكوكًا أو موهوبًا أو كذبًا محضًا، فالجواب أنه ليس المراد بالعلم هنا الاعتقاد الجازم المطابق بل حصول هذا الحكم في ذهنه وهذا ضرورى في كل عاقل تصدى للأخبار.

3 أي يمتنع حصول العلم الأول من الخبر نفسه عند حصول العلم الثاني، لجواز حصول الأول قبل حصول الثاني فلا يمكن حصوله لامتناع حصول الحاصل، كالعلم بكونه حافظًا للقرآن في قولك: أنت حفظت القرآن، وحينئذ يكون تسمية هذا الحكم فائدة الخبر على أن من شأنه أن يستفاد من الخبر.

ج / 1 ص -68- وقد ينزل العالم1 بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم، فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى الجاهل بأحدهما.. قال السكاكي:

وإن شئت فعليك بكلام رب العزة: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102]، كيف تجد صدره يصف أهل الكتاب بالعلم على سبيل التوكيد القسمي وآخره ينفيه عنهم حيث لم يعلموا بعلمهم. ونظيره في النفي والإثبات: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17]3، وقوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12].

هذا لفظه4.. وفيه إيهام أن الآية الأولى من أمثلة تنزيل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل بهما، وليست منها، بل هي من أمثلة تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل به لعدم جريه على موجب العلم، والفرق بينهما ظاهر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي المخاطب العالم بالفائدة ولازمها معًا. وكذلك العالم بأحدهما "الفائدة أو اللازم فقط. وذلك لعدم جريه على مقتضى علمه. فإنه لا يجري على مقتضى العلم هو والجاهل سواء. كما يقال للعالم التارك الصلاة الصلاة واجبة. وقولك لمن يسألك: ماذا أمامك؟ وهو يعلم أنه كتاب: أمامي كتاب.

2 اللام في لقد موطئة للقسم. أي واقعة في جواب قسم محذوف. واللام في "لمن" ابتدائية. وجملة "لمن اشتراه إلخ" سدت مسد مفعولي علموا لتعليقه بلام الابتداء. ومحل الشاهد قوله "لو كانوا يعلمون" فإن العلم الواقع بعد "لو" منفي بمقتضاها؛ لأنها حرف امتناع لامتناع. وقد أثبت ذلك العلم لهم في صدر الآية.. هذا وتنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل به لاعتبارات بلاغية كثيرة في الكلام.

3 الآية من تنزيل وجود الشيء منزلة عدمه -وقوله في "النفي والإثبات" أي في نفي شيء وإثباته.

4 أي نص كلام السكاكي.

ج / 1 ص -69- وإذا كان غرض المخبر بخبره إفادة المخاطب أحد الأمرين، فينبغي أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة:

1- فإن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم1 -بأحد طرفي الخبر على الآخر- والتردد فيه استغنى عن مؤكدات الحكم كقولك: جاء زيد، وعمرو ذاهب، فيتمكن في ذهنه، لمصادفته إياه خاليًا.

2- وإن كان متصورًا لطرفية2، مترددًا في إسناد أحدهما إلى الآخر، طالبًا له، حسن تقويته بمؤكد3، كقولك لزيد عارف أو أن زيدًا عارف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 المراد بالحكم كما سبق الاعتقاد ولو غير جازم: وخلو الذهن من لازم الحكم مثل خلوه من الحكم في ترك التأكيد. والضمير في قوله. "والتردد فيه" للحكم بمعنى وقوع النسبة أو لا وقوعها، ففي الكلام استخدام؛ لأن التردد ليس في الحكم بمعنى التصديق.. والمراد أن المخاطب ليس عالمًا بوقوع النسبة أو لا وقوعها وليس مترددًا في أن النسبة هل هي واقعة أو لا.

2 أي طرفي الحكم وهما المسند والمسند إليه.

3 أي بأداة تأكيد واحدة، ليزيل ذلك المؤكد تردده ويتمكن الحكم في نفسه.

هذا والمواد بالخالي من يخلو ذهنه، عن التصديق بالنسبة الحكمية فيما بين طرفي الجملة الخبرية وعن تصور تلك النسبة.. والمراد بالمتردد من تصور تلك النسبة الحكمية ولم يصدق بشيء من وقوعها وعدم وقوعها... وبالمنكر من صدق بما ينافي مضمون الجملة الملقاة إليه.

واعتبار هذه الأحوال في المخاطب وإيراد الكلام على الوجوه المذكورة بالقياس إلى فائدة الخبر أعني الحكم ظاهر، وأما بالقياس إلى لازمها فيمكن اعتبار الخلو وتجرد الجملة عن المؤكد، وأما اعتبار التردد والإنكار على الوجه المذكور فلا يجري في اللازم.

ج / 1 ص -70- 3- وإن كان حاكمًا بخلافه وجب توكيده1 بحسب الإنكار2، فتقول: "إني صادق" لمن ينكر صدقك ولا يبالغ في إنكاره، "وإني لصادق" لمن يبالغ في إنكاره. وعليه قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}. [يس: 13، 14، 15].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ومؤكدات الحكم هي: أن والقسم ونونا التوكيد ولام الابتداء واسمية الجملة وتكريرها ولو حكما وأما الشرطية وحروف التنبيه وحروف الزيادة وضمير الفصل وتقديم الفاعل المعنوي لتقوية الحكم، ومنها السين إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه؛ لأنها تفيد الوعد أو الوعيد وهذا مقتض لتوكيد الحكم، وقد التي للتحقيق، وكأن ولكن وإنما وليت ولعل وتكرير النفي، وبعضهم عد أن المفتوحة، وقيل: ليست منها؛ لأن ما بعدها في حكم المفرد.

والفرق بين التأكيد الواجب والمستحسن مع أن المستحسن عند البلغاء واجب هو أن ترك المستحسن يلام عليه لومًا أخف من اللوم على ترك الواجب.

وقال عبد القاهر في دلائل الإعجاز ص249: "أكثر مواقع أن بحكم الاستقراء هو الجواب"، لكن "يشترط فيه أن يكون للسائل ظن على خلاف ما أنت تجيبه به، فأما أن يجعل مجرد الجواب أصلًا فيها فلا؛ لأنه يؤدي إلى أن لا يستقيم لنا أن نقول: "صالح" في جواب كيف زيد؟ و"في الدار" في جواب: "أين زيد؟" حتى نقول: أنه صالح، وأنه في الدار، وهذا مما لا قائل به"، فهو يرى أنه إنما يحسن التأكيد إذا كان للمخاطب ظن على خلاف حكمك أي تأكيد الحكم بمؤكد فأكثر وقيل بأكثر من مؤكدة فرقًا بينه وبين التوكيد المستحسن.

2 أي بقدرة قوة وضعفًا، يعني يجب زيادة التأكيد بحسب ازدياد الإنكار.

ج / 1 ص -71- حيث قال في المرة الأولى: إنا إليكم مرسلون، وفي الثانية: إنا إليكم لمرسلون1.

ويؤيد ما ذكرناه جواب أبي العباس2 للكندي عن قوله: إني أجد في كلام العرب حشوًا، يقولون: عبد الله قائم، وإن عبد الله قائم، وإن عبد الله لقائم، والمعنى واحد. بأن قال، بل المعاني مختلفة، "فعبد الله قائم" إخبار عن قيامه، و"إن عبد الله قائم" جواب عن سؤال سائل، وإن عبد الله لقائم جواب عن إنكار منكر.

ويسمى النوع الأول من الخبر ابتدائيًّا3، والثاني طلبيًّا، والثالث إنكاريًّا، وإخراج الكلام على هذه الوجوه4 إخراجًا على مقتضى الظاهر5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 فأكد في الأول بأن واسمية الجملة، وفي الثانية بالقسم وإن واللام واسمية المجلة لمبالغة المخاطبين في الإنكار حيث قالوا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إن أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس: 15].

2 أبو العباس هو محمد بن يزيد المبرد الإمام في اللغة والنحو وصاحب الكامل توفي عام 285هـ. والكندي أبو يوسف يعقوب بن إسحاق فيلسوف العرب المشهور المتوفى نحو سنة 253هـ. وتجد الرواية كاملة في دلائل الإعجاز ص242 وفي المفتاح أيضًا ص74.

3 أي غير مسبوق بطلب ولا بإنكار.

4 وهي الخلو عن التأكيد في الأول والتقوية بمؤكد استحسانًا في الثاني ووجوب التأكيد بحسب الإنكار في الثالث.

5 أي مقتضى ظاهر الحال وهو أخص مطلقًا من مقتضى الحال، فكل مقتضى الظاهر مقتضى الحال، ولا عكس، كما في صور إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، فإنه يكون على مقتضى الحال ولا يكون على مقتضى الظاهر... هذا والحال هو الأمر الداعي إلى إيراد الكلام مكيفًا بكيفية مخصوصة سواء كان ذلك الأمر الداعي ثابتًا في الواقع أو كان ثبوته بالنظر لما عند المتكلم كصور التنزيل، أما ظاهر الحال فهو الأمر الداعي إلى إيراد الكلام مكيفا بكيفية مخصوصة بشرط أن يكون ذلك الأمر الداعي ثابتًا في الواقع فلذا كان أخص من الحال مطلقًا. ثم إن تلك الكيفية هي مقتضى للحال أو لظاهره، فكل كيفية اقتضاها ظاهر الحال اقتضاها الحال دون عكس، فعموم المقتضى يقتضي عموم المقتضى.

ج / 1 ص -72- وكثيرًا ما يخرج على خلافة1:

1 فينزل غير السائل منزلة السائل، إذا قدم إلى ما يلوح له بحكم الخبر، فيستشرف له استشراف المتردد الطالب2 كقوله تعالى:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي على خلاف مقتضى الظاهر. هذا وذكر بعضهم أن صور التخريج من باب الكناية؛ لأنه ذكر اللام -وهو مدلول الكلام المشتمل على الخصوصية وهو المقام الذي لا يناسبه بحسب الظاهر مع قرينة غير مانعة من إرادته- واستعمل اللفظ فيه وقصد منه ملزومه الذي هو تنزيل المقام الغير المناسب منزلة المناسب. وقيل أنه من قبيل الاستعارة المكنية... والحق أنه لا يقال فيه شيء من ذلك؛ لأن الكلام هنا لم يوضع لهذه المعاني؛ لأنها معان عرضية.

هذا والصور هي:

1 الخالي: -السائل- المنكر: بالنسبة لحال كل منهم.

2 العالم ينزل منزلة الخالي أو السائل أو المنكر.

3 الخالي ينزل منزلة السائل أو المنكر.

4 السائل ينزل منزلة الخالي أو المنكر.

5 المنكر ينزل منزلة الخالي أو السائل.

فحال المخاطب بالخبر منحصر في العلم بالحكم والخلو منه والسؤال له والإنكار له. والعالم لا يخرج معه الكلام على مقتضى الظاهر.

2 يلوح: يشير. استشرف فلان إلى الشيء إذا رفع رأسه لينظر إليه ويبسط كفه فوق الحاجب كالمستظل من الشمس.. وهذا والنكتة في التنزيل الذي ذكرها الخطيب هي أنه قد قدم للمخاطب غير السائل ما يلوح له بالخبر فيتطلع له تطلع السائل المتردد. وقد يكون تنزيل غير السائل لأغراض أخرى، كالاهتمام بشأن الخبر لكونه مستبعدًا والتنبيه على غفلة السامع إلى غير ذلك.

ج / 1 ص -73- {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37]1، وقوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إن النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، وقول بعض العرب:

فغنها وهي لك الفداء إن غناء الإبل الحداء2

وسلوك هذه الطريقة شبعة من البلاغة فيها دقة وغموض.

روى عن الأصمعي3 أنه قال:

كان أبو عمرو بن العلاء 4 وخلف الأحمر5 يأتيان بشارًا 6، فيسلمان عليه بغاية الإعظام، ثم يقولان: يا أبا معاذ ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما ويكتبان عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الزوال ثم ينصرفان، فأتياه يومًا فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي لا تدعني يا نوح في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك فهذا كلام يبوح بالخبر تلويحًا ما، ويشعر بأنه قد حق عليهم العذاب، فصار لمقام مقام أن يتردد المخاطب في أنهم هل صاروا محكومًا عليهم بالإغراق أم لا، مقيل "إنهم مغرقون" مؤكدًا، أي محكومًا عليهم بالإغراق.

2 الضمير في "فتغنها" للإبل والحداء من حدا الإبل أو بها: ساقها وغنى لها.

3 عبد الملك بن قريب الإمام في اللغة والأدب، توفي عام 214هـ، ونجد الرواية في الأغاني ص43 جـ3، وفي الدلائل ص210 وفي المفتاح ص75.

4 وفي الأغاني: خلف بن أبي عمرو بن العلاء. وأبو عمرو من أئمة اللغة توفي عام 154هـ وخلف ابنه توفي في أواخر القرن الثاني الهجري.

5 من أئمة اللغة والشعر والأدب توفي عام 180هـ.

6 أبو معاذ إمام الشعراء المحدثين توفي عام 167هـ.

ج / 1 ص -74- ابن قتيبة1 قال: هي التي بلغتكما، قالا بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب قال: نعم إن ابن قتيبة يتباصر بالغريب فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف، قالا: فأنشدناها يا أبا معاذ فأنشدهما:

بكرا صاحبي قبل الهجير إن ذاك النجاح في التبكير

حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان "إن ذاك النجاح": بكرا فالنجاح، كان أحسن، فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية فقلت "إن ذاك النجاح" كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت "بكرا فالنجاح" كان هذا من كلام المولدين، ولا يشبه ذلك الكلام ولا يدخل في معنى القصيدة، قال: فقام خلف فقبل بين عينيه.

فهل كان ما جرى بين خلف وبشار بمحضر من أبي عمرو بن العلاء -وهم من فحولة هذا الفن- إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟

2- وكذلك بنزل غير المنكر منزلة المنكر إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار2. كقوله3:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 قائد من كبار القواد المشهورين في بدء عهد الدولة العباسية.

2 وغير المنكر يشمل الخالي والسائل والعالم وإن كان المثال من تنزيل العالم منزلة المنكر.

3 البيت لحجل بن نضلة. شقيق: اسم رجل. عارضًا رمحه أي واضعًا له على العرض بأن جعله وهو راكب على فخذيه.. فهو لا ينكر أن في بني عمه رماحًا لكن مجيئة هكذا واضعًا الرمح على العرض من غير التفات وتهيؤ أمارة على أنه يعتقد أنه لا رماح فيهم بل كلهم عزل لا سلاح معهم فنزله منزلة المنكر فأكد له الكلام فقال: "أن بني عمك فيهم رماح". وفي البيت تهكم واستهزاء كأنه يرميه بالضعف والجبن وبأنه لو علم أن فيهم رماحًا لما حملت يده السلاح ولفر من خوف الكفاح. فهو على طريقة قوله:

فقتل لمحرز لما التقينا تنكب لا يقطرك الزحام

والتقطير: الإلفاء على الأرض على البطن أو على أحد الجانبين.. برمية بأنه لم يباشر الشدائد ولم يدفع إلى مضايق الحروب، كأنه يخاف عليه أن يداس بالقوائم كما يخاف على الصبيان والنساء لقلة غنائه.

ج / 1 ص -75- جاء شقيق عارضًا رمحه إن بني عمك فيهم رماح

فإن مجيئه هكذا مدلًّا بشجاعته قد وضع رمحه عرضًا لدليل على إعجاب شديد منه، واعتقاد أنه لا يقوم إليه من بني عمه أحد. كأنهم كلهم عزل ليس مع أحد منهم رمح.

3- وكذلك بنزل المنكر1 منزلة غير المنكر إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع عن الإنكار، كما يقال لمنكر الإسلام: الإسلام حق2. وعليه قوله تعالى في حق القرآن: {لَاْ رَيْبَ فِيْهِ}3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ومثله المتردد. وغير المنكر هنا وإن صدق بخالي الذهن والعالم بالحكم والمتردد فيه إلا أن المراد منه خصوص الأول. وقوله ما أن تأمله أي شيء من الدلائل والشواهد بحيث لو تأمل المنكر ذلك الشيء ارتدع عن إنكاره، ومعنى كونه معه، أن يكون معلومًا له ومشاهدًا عنده كالإسلام حق لمنكر ذلك؛ لأن مع ذلك المنكر دلائل على حقيقة الإسلام.

2 اسمية لجملة هنا ليست مؤكدًا؛ لأنها إنما تكون مؤكدًا إذا اعتبر تحويلها عن الفعلية أو إذا انضمت لغيرها من المؤكدات أو أن اسمية الجملة ليست مؤكدة إلا إذا ناسب ذلك المقام.

3 ظاهر هذا الكلام أنه مثال لجعل المنكر كغيره وترك التأكيد لذلك، وبيانه أن معنى "لاريب فيه" ليس القرآن بمظنة للريب ولا ينبغي أن يرتاب فيه، وهذا الحكم مما ينكر كثير من المخاطبين، لكن نزل إنكارهم منزلة عدمه أو على الأصح نزل المنكر منزلة غير المنكر، لما معه من الدلائل الدالة على أنه ليس مما ينبغي أن يرتاب فيه، من ظهور إعجازه وكون من أتى به صادقًا مصدوقًا بالمعجزات. والأحسن أن يقال أنه تنظير لتنزيل وجود الشيء منزلة عدمه -لا مثال للجعل- وذلك بناء على وجود ما يزيله، فإنه نزل ريب المرتابين منزلة عدمه تعويلًا على وجود ما يزيله، حتى صح نفي الريب على سبيل الاستغراق المفهوم من وقوع النكرة في سياق النفي المفيد للعموم الشمولي، فالمنفي هنا هو نفس الريب على سبيل الاستغراق. وفي الأول ليس المنفي الريب بل كون القرآن مظنة له خطابًا لمنكري ذلك. وهذا الوجه أحسن؛ لأنه لا يحتاج إلى التأويل الذي في الوجه الأول وما لا يحتاج إلى التأويل أولى مما يحتاج لتأويل.

ج / 1 ص -76- ومما يتفرع على هذين الاعتبارين قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 14-15]. أكد إثبات الموت تأكيدين وإن كان مما لا ينكر لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الموت لتماديهم في الغفلة والإعراض عن العمل لما بعده، ولهذا قيل "ميتون" دون "تموتون" كما سيأتي الفرق بينهما1. وأكد إثبات البعث تأكيدًا واحدًا وإن كان مما ينكر؛ لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرًا بأن لا ينكر، بل إما أن يعترف به أو يتردد فيه، فينزل المخاطبون منزلة المترددين، تنبيهًا لهم على ظهور أدلته، وحثًّا لهم على النظر فيها، ولهذا جاء تبعثون على الأصل.

هذا كله اعتبارات الإثبات وقس عليه اعتبارات النفي2، كقولك: ليس زيد أو ما زيد منطلقًا أو بمنطلق، ووالله ليس زيد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 من أن الجملة الاسمية لإفادة الثبوت والدوام، والفعلية لإفادة التجدد والحدوث.

2 أي أمثلة الاعتبارات الواقعة في الإسناد في الكلام المنفي من التجريد عن المؤكدات في الابتدائي وتقويته بمؤكد استحسانًا في الطلبي ووجوب التأكيد بحسب الإنكار في الإنكاري. وقد ينزل غير المنكر منزلة المنكر فيؤكد معه النفي، وينزل المنكر كغيره فيلقي إليه الكلام خلوًّا من التأكيد إلخ.

خاتمة في أغراض الخبر:

1 إفادة المخاطب الحكم "فائدة الخبر".

2 إفادة المخاطب أن المخبر عالم بالحكم "لازم الفائدة". =

ج / 1 ص -77- أو ما زيد منطلقًا أو بمنطلق، وما ينطلق أو ما أن ينطلق زيد، وما كان زيد ينطلق، وما كان زيد لينطلق، ولا ينطلق زيد، ولن ينطلق زيد، ووالله ما ينطلق أو ما إن ينطلق زيد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

3 الفخر والتمدح كقول المتنبي:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم

4 إ ظهار الفرح كقول الشاعر:

بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا

5 التنبيه والحث كقول الشاعر:

من راقب الناس مات غما وفاز باللذة الجسور

6 الإرشاد والوعظ كقول لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل

7 إظهار الضعف: {إِنِّيْ وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي}.

8 التحسر علي الفائت كقول الشاعر:

ذهب الصبا وتولت الأيام

9 التحذير كقولك: "مصير البخيل الهم والإملاق".

10 التذكير بالتفاوت:

وما يستوي من عاش للمجد سعيه ومن عاش في دنياه عيش البهائم

11 الاستعطاف:

فإن أك مظلومًا معد ظلمته وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب

12 التوبيخ:

ذل من يغبط الذليل بعيش رب عيش أخف منه الحمام

شواهد لمعرفة أغراض الخبر فيها ومقاصده:

قال إبراهيم بن المهدي:

أتيت جرمًا شنيعًا وأنت للعفو أهل

ج / 1 ص -78- ........................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال أبو فراس:

ومكارمي عدد النجوم ومنزلي مأوى الكرام وموئل الأضياف

ولمروان بن أبي حفصة يرثي معن بن زائدة:

مضى لسبيله معن وأبقى مكارم لن تبيد ولن تنالا

وقال أبو نواس:

ذهبت جدتي بطاعة نفسي وتكذرت طاعة الله نضوا

المتنبي:

إني أصاحب حلمي وهو بي كرم ولا أصاحب حلمي وهو بن جبن

وقال:

أقمت بأرض مصر فلا ورائي تخب بي الركاب ولا أمامي

وقال الشاعر:

قومي هم قتلوا -أميم- أخي فإذا رميت يصبني سهمي

وقال الشاعر:

ذهب الشباب فما له من عودة وأتى المشيب فأين عنه المهرب؟

وقال:

ظمئت وفي فمي الأدب المصفى وضعت وفي يدي الكنز الثمين

وقال المتنبي:

ذل من يغبط الذليل بعيش رب عيش أخف منه الحمام

شواهد على أضرب الخبر وأدوات التأكيد:

قال أبو الطيب:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم

وقال النابغة:

ولست بمستبق أخًا لا تلمه على شعث، أي الرجال المهذب؟!

ج / 1 ص -79- .........................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال أبو العتاهية:

إني رأيت عواقب الدنيا فتركت ما أهوى لما أخشى

أبو نواس:

ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم وأسمت سرح اللحظ حيث أساموا

وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه فإذا عصارة كل ذاك أثام

المعري:

إن الذي الوحشة في داره تؤنسه الرحمة في لحده

شاعر:

وليس أخي من ودني رأى عينه ولكن أخي من ودني وهو غائب

شواهد لخروج الخبر عن مقتضى الظاهر:

قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إن صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [الأنفال: 113] وقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1-2].. وقال أبو العتاهية:

إن الشباب والفر اغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة

وقال أبو الطيب:

ترفق إيها المولى عليهم فإن الرفق بالجاني عتاب

وتقول لمن ينكر فائدة التعليم: التعليم ينهض بالأمة ويرقى بالشعب.

ج / 1 ص -80- الحقيقة العقلية والمجاز العقلي:

فصل.

قال الخطيب: الإسناد: منه حقيقة عقلية، ومنه مجاز عقلي.

أما الحقيقة فهي إسناد1 الفعل أو معناه إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 معناه أي معنى الفعل يشمل المصدر واسمي الفاعل والمفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل والظرف. وأمثلة المبالغة تدخل في اسم الفاعل، والجار والمجرور يدخل في الظرف. ويدخل اسم الفعل والمنسوب إليه نحو أتميمي أبوك؟.

وقولنا "إلى ما هو له" أي إلى لفظ يكون الفعل أو ما في معناه له، أي لمعنى ذلك اللفظ: أي مدلول الفعل ومدلول اللفظ الدال عليه معنى الفعل ثابت لمدلول ذلك اللفظ.

معنى ذلك أن الحقيقة هي إسناد لفظ أي لفظ دل على معنى الفعل إلى لفظ له، فإذا قلنا "ضرب زيد" فقد أسندنا إلى الفاعل لفظ الفعل وهو ضرب الدال على المعنى الذي هو وصف الفاعل فيكون حقيقة، وكذا إذا قلنا "ضرب عمرو" فقد أسندنا إلى المفعول وهو "عمرو" لفظ الفعل الذي هو "ضرب" الدال على وصف المفعول فيكون حقيقة. فالشيء المسند إليه الذي ثبت له الفعل أو معناه منحصر في الفاعل فيما بني للفاعل، والمفعول به في فعل بني للمفعول، فإن الضاربية لزيد ثابتة له والمضروبية ثابتة لعمرو، بخلاف "نهاره صائم" فإن الصوم ليس ثابتًا للنهار بل للشخص، فلذا كان الإسناد فيه مجازًا، لكونه لغير من هو له.

ولا يدخل هنا المبتدأ عند المصنف، نحو إنما هي إقبال؛ لأن الإسناد إليه عنده وساطة بين الحقيقة والمجاز، أما عند عبد القاهر والسكاكي =

ج / 1 ص -81- والمراد بمعنى الفعل نحو المصدر واسم الفاعل. وقولنا "في الظاهر" ليشمل مالا يطابق اعتقاده مما يطابق الواقع وما لا يطابقه.

فهي أربعة أضرب:

أحدهما: ما يطابق الواقع واعتقاده، كقول المؤمن: "أنبت الله البقل" و"شفى الله المريض".

والثاني: ما يطابق الواقع دون اعتقاده، كقول المعتزلي لمن لا يعرف حاله وهو يخفيها منه: "خالق الأفعال كلها هو الله تعالى".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= فالمبتدأ كالفاعل والمفعول فيما أسند إليه. فالإسناد في "زيد قائم" ليس حقيقة ولا مجازًا عند الخطيب، وكذلك فيما كان الخبر فيه جامدًا مثل "هذا معدن"، وأما إسناد "قائم" إلى ضمير زيد فهو حقيقة.

ثم المراد يكون المسند للمسند إليه كونه وصفًا له وحقه أن ينسب إليه بالاتصاف. فمتى كونه له أن معناه قائم به وهو متصف به ومنتسب إليه. وقوله إلى ما هو له يشمل ما هو له في الواقع والاعتقاد معًا أو في الواقع فقط.

وقوله "عند المتكلم" أي لما هو له عند المتكلم لا في الواقع ونفس الأمر.. وبهذا دخل في تعريف الحقيقة: ما طابق الاعتقاد دون الواقع كقول الجاهل "أنبت الربيع البقل".

وقوله في "الظاهر" وعند المتكلم متعلقان بقوله "له". وفي الظاهر -أي في ظاهر حال المتكلم- يدخل ما لا يطابق الاعتقاد سواء طابق الواقع أم لا.

وبهذا صار التعريف متناولًا لأربعة أقسام: ما يطابق الواقع والاعتقاد وما لا يطابق شيئًا منهما. وما طابق الواقع دون الاعتقاد، وما طابق الاعتقاد دون الواقع. ولم يخرج عن التعريف إلا ما فيه إسناد لغير ما هو له عند المتكلم بحسب الظاهر. فالحقيقة العقلية أربعة أقسام كما ترى وكما سيذكر الخطيب... والمعنى أن الحقيقة هي إسناد الفعل أو معناه إلى ما يكون هو له عند المتكلم فيما يقيم من ظاهر حاله، وذلك الفهم بألا ينصب قرينة دالة على أنه غير ما هو له في اعتقاده.

ج / 1 ص -82- والثالث ما يطابق اعتقاده دون الواقع، كقول الجاهل: "شفى الطبيب المريض" معتقدًا شفاء المريض من الطبيب، ومنه قوله تعالى حكاية عن بعض الكفار: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}. ولا يجوز أن يكون مجازًا. والإنكار عليهم من جهة ظاهر اللفظ لما فيه من إيهام الخطأ، بدليل قوله تعالى عقيبه: {ومَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إن هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]، والمتجوز المخطئ في العبارة لا يوصف بالظن، وإنما الظان من يعتقد أن الأمر على ما قاله.

والرابع ما لا يطابق شيئًا منهما، كالأقوال الكاذبة التي يكون القائل عالمًا بحالها دون المخاطب.

وأما المجاز1 فهو إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس2 له غير

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 المجاز أصله مجوز من جاز المكان تعداه؛ لأن الإسناد تعدى مكانه الأصلى.. وعقلي نسبة للعقل؛ لأن التجوز والتصرف فيه في أمر معقول يدرك بالعقل وهو الإسناد، بخلاف المجاز اللغوي فإن التصرف فيه في أمر نقلي، وهو أن اللفظ لم يوضع لهذا المعنى.

ويسمى مجازًا حكميًّا أي منسوبًا للحكم بمعنى الإدراك، أو أنه نسبة للحكم بمعنى النسبة والإسناد لتعلقه بها. والمراد بالحكم المنسوب إليه والمتعلق به مطلق نسبة سواء كانت إسنادية أو إضافية أو إيقاعية، وحينئذ فهو من نسبة الخاص للعام أومن تعلق الخاص بالعام، فالمجاز كما يكون في الحكم وهو النسبة التامة، يكون في النسبة الإضافية كمكر الليل، والإيقاعية كنومت الليل أي أوقعت النوم عليه.. فالمراد بالحكم الذي تعلق به المجاز ليس خصوص النسبة التامة، بل مطلق نسبة. فالمجاز إذا كان في الإضافية أو الإيقاعية بصدق عليه أنه متعلق بالحكم بمعنى مطلق نسبة من تعلق الخاص بالعام.

ويسمى أيضًا مجازًا في الإثبات لحصوله في إثبات أحد الطرفين للآخر، والتقييد بالإثبات لأشرفيته، فمثل "فما ربحت تجارتهم": جعل من قبيل المجاز لكون إسناد الربح إلى التجارة إسنادًا إلى غير ما هو له، أو أن ما ربحت تجارتهم بمعنى خسرت، فالمجاز العقلي كما يكون في الإسناد المثبت. =

ج / 1 ص -83- ...........................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= يكون في المنفي أيضًا.. ويسمى أيضًا إسنادًا مجازيًّا نسبة إلى المجاز بمعنى المصدر؛ لأن الإسناد جاور به المتكلم حقيقته وأصله إلى غير ذلك. فإن قيل: المجاز العقلي لا يختص بالإسناد أي النسب التامة، بل يجري في الإضافية والإيقاعية، واقتصارهم على الإسناد يوجب الاختصاص، أجيب بأن اقتصارهم في التسمية على الإسناد لأشرفيته أو أن المراد بالإسناد مطلق النسبة من إطلاق الخاص وإرادة العام.

2 أي إلى شيء بينه وبين الفعل أو معناه ملابسة وارتباط وتعلق، فالضمير في قوله "له" راجع "للفعل أو معناه" ـ "وغيرما هو له" أي غير الملابس الذي هو أي الفعل أو معناه له أي لذلك الملابس، يعني غير الفاعل الحقيقي في المبني للفاعل، وغير المفعول به في المبني للمفعول به.

وفي تعريف المجاز العقلي إشارة إلى أنه لابد فيه من علاقة "ويدل على ذلك قولنا إلى ملابس له" وقرينة "ويدل عليها قولنا بتأول".

وقصارى القول: أن المجاز العقلي هو "إسناد الفعل أو معناه إلى غير ما هو له عند المتكلم في الظاهر لعلاقة مع قرينة صارفة عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له".

علاقة المجاز العقلي:

المجاز العقلي لا بد له من علاقة كما أن اللغوي كذلك. وظاهر كلام المصنف أن العلاقة المعتبرة هنا هي الملابسة فقط، وأنه لا بد منها في كل مجاز عقلي، قال الشيخ يسن: لكن يبقى هناك شيء، وهو أنه هل يكفي في جميع أفراد هذا المجاز كون العلاقة الملابسة، أو لابد أن تبين جهتها، بأن يقال العلاقة هي ملابسة الفعل لذلك الفاعل المجازي من جهة وقوعه عليه أو فيه أو به، كما قالوا في المجاز اللغوي: أنه لا يكفي أن يجعل اللزوم أو التعلق هو العلاقة بل فرد منها؛ لأن ذلك قدر مشترك بين جميع أفراده، فلا بد أن يبين أنه من أي وجه!؟

والمعتبر عند الزمخشري تلبس ما أسند إليه الفعل بفاعله الحقيقي؛ لأنه قال: المجاز العقلي هو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له، كتلبس التجارة بالمشترين في: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم}.. وقال الزمخشري قبل هذا الكلام: "وقد يسند إلى هذه الأشياء على طريق المجاز =

ج / 1 ص -84- ...........................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= المسمى استعارة، وذلك لمضاهاتها الفاعل في ملابسة الفعل، كما يضاهي الرجل الأسد في جرأته فيستعار له اسمه... وهذا هو رأي السكاكي أيضًا. فالملابسة في المجاز العقلي عنده هي بين الفاعل الحقيقي والفاعل المجازي. وفي كلام عبد القاهر إشارة إلى ذلك أيضًا "331 أسرار"، فالربيع عنده قد شبه بالقادر في تعلق وجود الإثبات به، فذلك عنده على العرف الجاري بين الناس، من أن يجعلوا الشيء إذا كان سببًا أو كالسبب في وجود الفعل كأنه فاعل.

فالحاصل أن العلاقة ليست هي الملابسة والتعلق والارتباط بين الفعل والمسند إليه المجازي كما هو ظاهر كلام المصنف، وكما هو المتبادر من التعريف من قوله "وله -أي للفعل- ملابسات شتى"، بل هي المشابهة بين المسند إليه الحقيقي والمسند إليه المجازي في الملابسة أي في تعلق الفعل بكل منهما وإن كانت جهة التعلق مختلفة، فالمسند إليه المجازي في "جرى النهر مثلًا" وهو النهر يشابه ما هو له، أي يشابه المسند إليه الحقيقي، فالماء في قولك جرى الماء، في ملابسة الفعل وهو الجري، فالجري يلابس الماء من جهة قيامه به، ويلابس النهر من جهة كونه واقعًا فيه.

والعلاقة المعتبرة في هذا المجاز هي المشابهة بين المسند إليه الحقيقي والمسند إليه المجازي في تعلق الفعل بكل في صحة إسناده لذلك المجازي، والعلاقة في الاستعارة المشابهة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي لأجل صحة نقل اللفظ من المعنى الحقيقي للمعنى المجازي.

فالعلاقة هي في المجاز العقلي على التحقيق المشابهة بين الفاعلين: المجازي والحقيقي، لا الملابسة بين الفعل والمسند إليه المجازي وإن كان ذلك كافيًا في إسناد الفعل إليه..؛ لأن ملاحظة المشابهة بين الفاعلين أتم وأدخل في صرف الإسناد إلى غير ما هو له، وإن كفى فيه مجرد الملابسة المذكورة.

وأنواع العلاقة في المجاز العقلي هي:

1 المفعولية: فيما بني للفاعل وأسند إلى المفعول به الحقيقي كقولهم، "عيشة راضية" إذ هي مرضية، فالإسناد في المثال مجازي، وأصله رضى المؤمن عيشته، فأقيمت عيشة مقام المؤمن في تعلق الفعل وهو الرضى بكل، فصار رضيت عيشته، فاشتق منه اسم الفاعل وأسند إلى =

ج / 1 ص -85- ............................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= ضمير المفعول وهو عيشة بعد تقديمه وجعله مبتدأ، ثم حذف المضاف إليه اكتفاء بالمبتدأ في مثل "عيشة زيد راضية"... وقال العدوي: أصله: عيشة رضيها صاحبها" فالرضا كان بحسب الأصل مسندًا للفاعل الحقيقي "الصاحب" ثم حذف الفاعل وأسند الرضا إلى ضمير العيشة، وقيل عيشة رضيت، لما بين الصاحب والعيشة من المشابهة في تعلق الرضا بكل، وإن اختلفت جهة التعلق، فصار ضمير العيشة فاعلًا نحويًّا، ثم اشتق من رضيت راضية، وأسند إلى المفعول... ومذهب الخليل والبصريين أنه لا مجاز في هذا التركيب، بل الراضية بمعنى ذات رضا حتى تكون بمعنى مرضية، فهو نظير لابن وتامر، قال الفنري ونقله عنه الدسوقي: وهو مشكل بدخول التاء؛ لأن هذا البناء يستوي فيه المذكر والمؤنث، ويمكن الجواب بجواز جعلها للمبالغة لا للتأنيث كعلامة... وقيل راضية بمعنى كاملة.. والشاهد في "عيشة راضية" إسناد راضية للضمير المستتر الذي هو للعيشة، وليس الشاهد في إسناد راضية للعيشة؛ لأن الإسناد إلى المبتدأ عند المصنف واسطة بين الحقيقة والمجاز، وكذا يقال فيما بعد هذا المثال من الأمثلة الآتية:

2 الفاعلية: ميما بني للمفعول وأسند للفاعل الحقيقي، كسيل مفعم؛ لأن السيل هو الذي يفعم أي يملأ، فأصله أفعم السيل الوادي أي ملأه ثم بنى أفعم للمفعول واشتق منه اسم المفعول وأسند لضمير الفاعل الحقيقي وهو السيل بعد تقديمه وجعله مبتدأ.

3 المصدر فيما بني للفاعل وأسند للمصدر مجازًا، مثل شعر شاعر، فقد أسند ما هو بمعنى الفعل "وهو شاعر" إلى ضمير المصدر، وحقه أن يسند للفاعل "أي الشخص"؛ لأن الفاعل الحقيقي، بحيث يقال شعر شاعر صاحبه، لكن لما كان الشعر شبيهًا بالفعل من جهة تعلق الفعل بكل منهما صح الإسناد إليه مجازًا، والأولى أن يمثل بنحو جد جده؛ لأن الجد مصدرًا أسند إليه فعل الفاعل، فحق الجد أن يسند للفاعل الحقيقي وهو الشخص لا إلى الجد نفسه الذي أسند إليه لمشابهته له في تعلق الفعل بكل منهما. وإنما كان ذلك أولى؛ لأن الشعر الذي هو مصدق الضمير في شاعر يحتمل أن يكون بمعنى المفعول أي المشعور به لا المصدر الذي هو نفس الشعر فيكون من باب عيشة راضية، أي يكون من باب ما بني للفاعل. =

ج / 1 ص -86- ما هو بتأول وللفعل ملابسات شتى1:

يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والسبب. فإسناده إلى الفاعل إذا كان مبنيًّا له حقيقة كما مر، وكذا إلى المفعول

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= وأسند للمفعول لا من باب ما بني للفاعل وأسند للمصدر الذي كلامنا فيه، بخلاف "جد جده" فإنه من ذلك القبيل. وإنما قلنا الأولى ولم نقل الصواب؛ لأن الشعر يحتمل أن يكون باقيًا على مصدريته بمعنى تأليف الكلام فيكون من ذلك القبيل.. فالحاصل أن "جد جده" من باب ما بني للفاعل وأسند للمصدر قطعًا، وأما "شعر شاعر" فيحتمل أن يكن منه أو من باب "عيشة راضية". وما لا احتمال فيه أولى مما فيه احتمال.

4 الزمانية فيما إلى للفاعل وأسند للزمان لمشابهته الفاعل الحقيقي في ملابسة الفعل لكل منهما مثل نهاره صائم.

5 المكانية: فيما بني للفاعل وأسند للمكان لمشابهته الفاعل الحقيقي في ملابسة الفعل لكل منهما مثل نهار جار؛ لأن الماء هو الجاري في النهر -أي الحفرة التي يكون الماء فيها-.

6 السببية فيما بني للفاعل وأسند للسبب مجازًا، مثل بني الأمير المدينة في السبب الآمر؛ لأن السبب نوعان: سبب آمر وسبب غائي أو مآلي، قال ابن يعقوب: السبب المآلي يسند إليه أيضًا مجازًا مثل يوم يقوم الحساب، فالقيام في الحقيقة لأهل الحساب لا لأجله، فكان الحساب علة غائية.

هذه هي علاقات المجاز العقلي، وذكر ابن السبكي أن جميع علاقات المجاز اللفظي ينبغي أن تأتي في العقلي.

1 لما ذكر في تعريف الحقيقة العقلية "الملابس الذي له"، وفي تعريف المجاز العقلي "الملابس الذي ليس هو له"، أخذ يبين التعريفين ببيان الملابس، فقال "وللفعل ملابسات شتى"... ويصح فتح "باء الملابسة" وكسرها؛ لأن الملابسة مفاعلة من الجانبين، فكل واحد من الفعل وما أسند إليه ملابس "بكسر الباء" وملابس "بفتحها". إلا أن المناسب لقوله "يلابس الفاعل" أن يقرأ بالفتح... وقول الخطيب: "وللفعل ملابسات شتى..." هو نص كلام الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7]، ومأخوذ منه.

ج / 1 ص -87- إذا كان مبنيًّا له، وقولنا "ما هو له" يشملهما. وإسناده إلى غيرهما لمضاهاته لما هو له في ملابسة الفعل مجاز. كقولهم في المفعول به: "عيشة راضية" و"ماء دافق"، وفي عكسه "سبيل مفعم" وفي المصدر "شعر شاعر1"، وفي الزمان "نهاره صائم" و"ليلة قائم"، وفي المكان "طريق سائر" و"نهار جار"، وفي السبب "بنى الأمير المدينة"، وقال:

"فلا تسأليني واسألي عن خليقتي" إذا رد عافي القدر من يستعيرها2

وقولنا بتأول يخرج نحو قول الجاهل: شفى الطبيب المريض، فإن إسناده الشفاء إلى الطبيب ليس بتأول. ولهذا لم يحمل نحو قول الشاعر الحماسي3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وجد جده. قال تأبط شرًّا.

إذا المرأ لم يحتل وقد جد جده أضاع وقاسى أمره وهو مدبر

2 البيت لعبيد بن الأبرص. وفي السبكي أنه لعوف بن الأحوص، وهو من قصيدة رواها صاحب المفضليات لعوف. ونسبه اللسان للمضرس الأسدي.. وعافى فاعل، والقدر مضاف إليه، ومن اسم موصول مفعول. وعافى القدر: المرق الذي يتأخر فيها، وبقاؤه فيه سبب في رد من يستعيرها، فأسند بذلك الرد إليه من إسناد الفعل إلى سببه.

3 هو الصلتان العبدي، وبعد البيت قرينة تدل على المجاز وإرادته وهو قول الشاعر:

فملتنا أننا مسلمون على دين صديقنا والنبي

فليس هناك فرق بين البيت وكلام أبي النجم الآتي:

ومثال البيت في ذلك قول أسقف نجران:

منع البقاء تصرف الشمس وطلوعها من حيث لا تمسي

وحاصل الكلام أنه لا بد في المجاز العقلي من التأول الذي حاصله نصب القرينة الصارفة عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له.

ج / 1 ص -88- أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي

على المجاز ما لم يعلم أو يظن أن قائله لم يرد ظاهره.. كما استدل على أن إسناد "ميز" إلى "جذب الليالي" في قول أبي النجم:

قد أصبحت "أم الخيار" تدعى على ذنبا كله لم أصنع

من أن رأت رأسي كرأس الأصلع ميز عنه قنزعا عن قنزع

جذب الليالي أبطئي أو أسرعي1

مجاز بقوله عقيبه:

أفناه قيل الله للشمس اطلعي حتى إذا واراك أفق فارجعي

وسمي الإسناد في هذين القسمين من الكلام عقليًّا لاستناده إلى العقل دون الوضع؛ لأن إسناد الكلمة إلى الكلمة شيء يحصل بقصد المتكلم دون واضع اللغة، فلا يصير ضرب خبًرا عن زيد بواضع اللغة بل بمن قصد إثبات الضرب فعلاً له، وإنما الذي يعود إلى واضع اللغة: أن ضرب لإثبات الضرب لا لإثبات الخروج، وأنه لإثباته في زمان ماض وليس لإثباته في زمان مستقل، فأما تعيين من ثبت له فإنما يتعلق بمن أراد ذلك من المخبرين... ولو كان لغويًّا لكان حكمنا أنه مجاز في مثل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 الجذب: الشد. القنزع: الشعر المجتمع في نواحي الرأس، عن بمعنى بعد. "أبطئي أو أسرعي" جملتان واقعتان حالًا من الليالي بتقدير القول أي مقولًا فيها ذلك.

ج / 1 ص -89- قولنا "خط أحسن مما وشى الربيع" من جهة أن الفعل لا يصح إلا من الحي القادر حكمًا بأن اللغة هي التي أوجبت أن يختص الفعل بالحي القادر دون الجماد، وذلك مما لا يشك في بطلانه.

تعريف السكاكي للحقيقة والمجاز العقليين:

وقال السكاكي:

الحقيقة العقلية: هي الكلام المفاد به ما عند المتكلم من الحكم فيه1.

وإنما قلت "ما عند المتكلم"، دون أن أقول "ما عند العقل" ليتناول كلام الجاهل إذا قال "شفي الطبيب المريض"، رائيًا شفاء المريض من الطبيب، حيث عد منه حقيقة مع أنه غير مفيد لما في العقل من الحكم فيه.. وفيه. نظر2:

1- لأنه غير مطرد3، لصدقة على ما لم يكن المسند فيه فعلًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هو لا يخرج عن كلام عبد القاهر في الحقيقة العقلية: "كل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد به على ما هو عليه في العقل وواقع موقعه فهي حقيقة.

2 أي في تعريف السكاكي للحقيقة العقلية.

3 التعريف المطرد أي المانع بمعنى أنه كلما صدق التعريف صدق المعرف فهو مانع من دخول غير أفراد المعرف فيه.

والتعريف المنعكس أي الجامع بمعنى أنه كلما انتفى التعريف انتفى المعرف فهو جامع لأفراد المعرف، ومثال عدم الجمع تعريف الحيان بأنه جسم مفكر، ومثال عدم المانع تعريفه بأنه جسم نام.

وسبب عدم الجمع كون التعريف أخص من المعرفة كالمثال، أو مباين له، كتعريف الإنسان بالملك.. وسبب عدم المنع هو كون التعريف أعم من المعرف مطلقًا، فإن كان أعم من وجه كان في التعريف عدم الجمع والمنع.

ج / 1 ص -90- ولا متصلًا به، كقولنا: الإنسان حيوان، مع أنه لا يسمى حقيقة ولا مجازًا.

2- ولا منعكس، لخروج ما يطابق الواقع دون اعتقاد المتكلم وما لا يطابق شيئًا منهما منه، مع كونهما حقيقتين عقليتين كما سبق.

وقال "السكاكي":

المجاز العقلي هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأويل، إفادة للخلاف لا بوساطه وضع، كقولك: أنبت الربيع البقل، وشفى الطبيب المريض، وكسا الخليفة الكعبة.

قال "السكاكي": وإنما قلت "خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه". دون أن أقول خلاف ما عند العقل:

1- لئلا يمتنع طرده بما إذا قال الدهري عن اعتقاد جهل أو جاهل غيره: أنبت الربيع البقل، رائيًا إنباته من الربيع، فإنه لا يسمى كلامه ذلك مجازًا، وإن كان بخلاف العقل في نفس الأمر، واحتج "السكاكي" ببيت الحماسة وقول أبي النجم على ما تقدم.

2- ثم قال السكاكي: ولئلا يمتنع عكسه بمثل: كسا الخليفة الكعبة وهزم الأمير الجند، فليس في العقل امتناع أن يكسو الخليفة نفسه الكعبة ولا أن يهزم الأمير وحده الجند، ولا يقدح ذلك في كونهما من المجاز العقلي.

وإنما قلت "لضرب من التأول" ليحترز به عن الكذب فإنه لا يسمى مجازًا مع كونه كلامًا مفيدًا خلاف ما عند المتكلم.

وإنما قلت "إفادة للخلاف لا بوساطة وضع" ليحترز به عن المجاز اللغوي في صورة، وهي إذا ادعى أن "أنبت" موضوع لاستعماله في القادر المختار أو وضع لذلك.

ج / 1 ص -91- وفيه نظر1:

1- لأنا لا نسلم بطلان طرده بما ذكر، لخروجه بقوله: لضرب من التأول.

2- ولا بطلان عكسه بما ذكر، إذ المراد بخلاف ما عند العقل خلاف ما في نفس الأمر، وفي كلام الشيخ عبد القاهر إشارة إلى ذلك، حيث عرف الحقيقة العقلية بقوله: "كل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل وواقع موقعه" فإن قوله "واقع موقعه" معناه في نفس الأمر وهو بيان لما قبله، وكذا في كلام الزمخشري، حيث عرف المجاز العقلي بقوله: "أن يسند الفعل إلى شيء يلتبس بالذي هو في الحقيقة له"، فإن قوله في الحقيقة معناه في نفس الأمر. ونحو كسا الخليفة الكعبة إذا كان الإسناد فيه مجازًا كذلك.

3- ثم القول بأن الفعل موضوع لاستعماله في القادر ضعيف، وهو معترف بضعفه، وقد رده في كتابه بوجوه، منها: أن وضع الفعل لاستعماله في القادر قيد لم ينقل عن واحد من رواة اللغة وترك القيد دليل في العرف على الإطلاق فقوله: "إفادة للخلاف لا بوساطة وضع" لا حاجة إليه، وأن ذكر فينبغي أن لا يذكر إلا بعد ذكر الحد على المذهب المختار، على أن تمثيله بقول الجاهل "أنبت الربيع البقل" ينافي هذا الاحتراز.

تنبيه:

قد تبين بما ذكرنا أن المسمى بالحقيقة العقلية والمجاز العقلي على ما ذكره السكاكي هو الكلام لا الإسناد، وهذا يوافق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي في تعريف السكاكي للمجاز العقلي.

ج / 1 ص -92- ظاهر كلام الشيخ عبد القاهر في مواضع من دلائل الإعجاز، وعلى ما ذكرناه هو الإسناد لا الكلام، وهذا ظاهر ما نقله الشيخ أبو عمرو بن الحاجب1 رحمه الله عن الشيخ عبد القاهر2، وهو قول الزمخشري في الكشاف، وقول وقول غيره، وإنما اخترناه؛ لأن نسبة المسمى حقيقة أو مجازًا إلى العقل على هذا لنفسه بلا وساطة شيء، وعلى الأول لاشتماله على ما ينتسب إلى العقل، أعني الإسناد.

أقسام المجاز العقلي باعتبار طرفيه: حقيقيتهما ومجازيتهما أو أحدهما:

قال الخطيب:

ثم المجاز العقلي باعتبار طرفيه -أعني المسند والمسند إليه- أربعة أقسام لا غير؛ لأنهما إما:

1- حقيقتان، كقولنا أنبت الربيع البقل، وعليه قوله:

فنام ليلي وتجلى همي

وقوله:

وشيب أيام الفراق مفارق "وأنشزن نفسي فوق حيث تكون"

وقوله:

"لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى" ونمت وما ليل المطي بنائم3

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 إمام في اللغة والنحو توفي عام 646هـ.

2 وهو ظاهر كلام عبد القاهر في الأسرار والدلائل كما فهمته أنا.

3 لجرير ومثل البيت قول النعمان بن بشير:

ألم تبتدركم يوم بدر سيوفنا وليلك عما ناب قومك نائم

وقول عمرو بن براق:

فلا تأمنن الدهر حرًّا ظلمته فما ليل مظلوم كريم بنائم

ومثله في المجاز، قول الشاعر:

نهاري بأشرف التلاع موكل وليلي -إذا ما جنني الليل- آرق

ج / 1 ص -93- 2- وأما مجازان كقولنا "أحيا الأرض شباب الزمان".

3- وأما مختلفان، كقولنا: "أنبت البقل شباب الزمان"، وكقولنا: "أحيا الأرض الربيع"، وعليه قول الرجل لصاحبه: "أحيتني رؤيتك"، أي آنستني وسرتني، فقد جعل الحاصل بالرؤية من الأنس والمسرة حياة ثم جعل الرؤية فاعلة له، ومثله قول أبي الطيب:

وتحيي له المال الصوارم والقنا ويقتل ما تحيي التبسم والجد1

جعل الزيادة والوفور حياة للمال، وتفريقه في العطاء قتلًا له، ثم أثبت الأحياء فعلًا للصوارم، والقتل فعلًا للتبسم، مع أن الفعل لا يصح منهما. ونحو قولهم: "أهلك الناس الدينار والدرهم": جعلت الفتنة إهلاكًا، ثم أثبت الإهلاك فعلًا للدينار والدرهم.

وهو في القرآن كثير2.

كقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}، نسبت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 الجدا: العطاء. وراجع تعليق عبد القاهر على البيت في الأسرار ص321 وقد نقل منه الخطيب.

2 رد به على مذهب الظاهرية الزاعمين عدم وقوع المجاز العقلي كاللغوي في القرآن لإيهام المجاز الكذب والقرآن منزه عنه. ووجه الرد أنه لا إيهام مع القرينة.

ج / 1 ص -94- الزيادة التي هي فعل الله إلى الآيات لكونها سببًا فيها. وكذا قوله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ}. ومن هذا الضرب قوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُم}، الفاعل غيره ونسب الفعل إليه لكونه الآمر به. وكقوله: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا}، نسب النزع الذي هو فعل الله تعالى إلى إبليس؛ لأن سببه أكل الشجرة، وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياها: أنه لهما لمن الناصحين. وكذا قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28]، نسب الإحلال الذي هو فعل الله إلى أكابرهم؛ لأن سببه كفرهم وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر. وكقوله تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17] نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه، كقولهم: "نهاره صائم". وكقوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا}. [الزلزلة: 2].

وهو غير مختص بالخبر، بل يجري في الإنشاء، كقوله تعالى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36]، وقوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} [القصص: 38].

وقوله: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}.

أنواع القرينة:

"قال الخطيب":

ولا بد له -أي للمجاز العقلي- من قرينة:

1- أما لفظية كما سبق في قول أبي النجم1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أفناه قيل الله للشمس اطلعي" إلخ.

ج / 1 ص -95- ب- أو غير لفظية "أي معنوية":

كاستحالة صدور المسند من المسند إليه المذكور أو قيامه به: عقلًا كقولك محبتك جاءت بي إليك، أو عادة كقولك هزم الأمير الجند وكسا الخليفة الكعبة وبنى الوزير القصر، "لاستحالة ذلك في العادة". وكصدور الكلام من الموحد في مثل قوله: "أشاب الصغير"، البيت1.

واعلم أنه ليس كل شيء يصلح لأن تتعاطى فيه المجاز بسهولة بل تجدك في كثير من الأمر تحتاج إلى أن تهيئ الشيء وتصلحه له بشيء تتوخاه في النظم، كقول من يصف جملًا:

تجوب له الظلماء عين كأنها زجاجه شرب غير ملأى ولا صفر

يريد أنه يهتدي بنور عينه في الظلماء ويمكنه بها أن يخرقها ويمضي فيها، ولولاها لكانت الظلماء كالسد الذي لا يجد السائر شيئًا يفرجه به ويجعل لنفسه فيه سبيلًا، فلولا أنه قال: تجوب له، فعلق له بتجوب لما تبين جهة التجوز في جعل الجوب فعلًا للعين كما ينبغي؛ لأنه لم يكن حينئذ في الكلام دليل على أن اهتداء صاحبها في الظلماء ومضيه فيها بنورها، وكذلك لو قال تجوب له الظلماء عينه لم يكن له هذا الموقع ولا نقطع السلك من حيث كان يعيبه حينئذ أن يصف العين بما وصفها به.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 القرينة إما لفظية أو غير لفظية وهي المعنوية وتنقسم إلى عادية وعقلية، وذلك مثل:

أ استحالة قيام المسند بالمسند إليه استحالة عادية.

ب أو استحالة قيامه به استحالة ضرورية. أي بدهية.

جـ صدور الكلام الذي فيه الإسناد من الموحد، وهذا القسم الثالث من المجاز العقلي هو الذي يحتاج إلى دليل وتأمل، أما القسم الأول والثاني فمن المجاز الضروري البدهي الذي لا يحتاج إلى دليل.

ج / 1 ص -96- واعلم: أن الفعل المبني للفاعل في المجاز العقلي واجب أن يكون له فاعل في التقدير إذا أسند إليه صار الإسناد حقيقة1 لما يشعر بذلك تعريفه كما سبق، وذلك قد يكون ظاهرًا كما في قوله تعالى:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هذا رأي الرازي والسكاكي والخطيب، وعبد القاهر على خلاف ذلك:

فيرى الخطيب أن الفعل في المجاز العقلي لا بد أن يكن له فاعل إذا أسند إليه يكون الإسناد حقيقة، ومعرفة ذلك أما ظاهرة كما في {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم} وإما خفية لا تظهر إلا بمزيد نظر وتأمل كما في "سرتني رؤيتك" لكثرة الإسناد إلى الفاعل المجازي وترك الإسناد إلى الفاعل الحقيقي.. وقد اشترك السعد والسيد في إبطال ما وجهه الرازي والسكاكي من الشبه في هذا البحث.

قال الدسوقي: وتحرير النزاع أن المجاز العقلي هل يشترط في تحققه أن يكون للفعل المسند فيه فاعل محقق في الخارج أسند له ذلك الفعل قبل المجاز إسنادًا حقيقيًّا معتدًّا به، بأن يقصد في العرف والاستعمال إسناد ذلك الفعل لذلك الفاعل، أو لا يشترط؟. فمذهب السكاكي والمصنف اشتراط ذلك لأجل أن ينقل الإسناد من ذلك الفاعل الحقيقي للفاعل المجازي، ومذهب عبد القاهر لا يجب ذلك إلا إذا كان الفعل موجودًا، فإن كان غير موجود بأن كان أمرًا اعتباريًّا فلا يصح أن يكون له فاعل حقيقي، بل يتوهم ويفرض له فاعل أسند إليه ونقل الإسناد منه للفاعل المجازي، فالفاعل ليس محققًا في الخارج بل متوهم مفروض ولا يعتد بالإسناد للمتوهم المفروض، فليس "لسرتنى" ولا "ليزيدك" فاعل في الاستعمال يكون الإسناد إليه حقيقة، لعدم وجود تلك الأفعال المتعدية في الاستعمال، أي أن المتكلم لم يقصد الإخبار بها بل استعملها في لازمها، فانتفاؤها بالنظر إلى قصد المتكلم وملاحظته لا بالنظر للواقع، وكذا "أقدمني"، فإن الإقدام ليس له فاعل حقيقي وإسناد الإقدام فيه للحق مجاز عقلي، فقد بولغ في كون الحق له مدخل في تحقق القدوم، ففرض إقدام صادر من فاعل متوهم ثم نقل عنه وأسند إلى الحق مبالغة في ملابسته للقدوم، كما ينقل إسناد الفعل من الفاعل الحقيقي إلى الفاعل المجازي مبالغة في ملابسة الفاعل المجازي للفاعل الحقيقي، فالمجاز في الإسناد، لا في الفعل، فالفاعل الحقيقي ليس موجودًا محققًا في الخارج بل متوهم مفروض، ولا يعتد بإسناد الفعل للفاعل المتوهم المفروض، وكذا يقال في سرتني رؤيتك ويزيدك وجهه حسنًا: أنه بولغ في كون الرؤية لها مدخل في السرور، والوجه له مدخل في زيادة العلم بالحسن، ففرض سرور وازدياد من فاعل متوهم، ثم نقلًا عنه وأسندا للفاعل المجازي وهو الوجه والرؤية المبالغة في ملابسة الفاعل المجازي للفعل. فقول الشيخ عبد القاهر: ليس لهذه الأفعال فاعل، أي محقق في الخارج يعتد بإسنادها إليه.. هذا وما ذكر من أن الإسناد في "أقدمني بلدك حق إلخ" من قبيل المجاز العقلي غير متعين، بل يجوز أن يراد بالإقدام الحمل على القدوم على جهة المجاز المرسل، فيكون المعنى "حملني على القدوم حق إلخ".

ج / 1 ص -97- {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم}، أي فما ربحوا في تجارتهم، وقد يكون خفيًّا لا يظهر إلا بعد نظر وتأمل، كما في قولك سرتني رؤيتك أي سرني الله وقت رؤيتك، كما تقول: أصل الحكم في أنبت الربيع البقل أنبت الله البقل وقت الربيع، وفي شفى الطبيب المريض: شفى الله المريض عند علاج الطبيب، وكما في قولك أقدمني بلدك حق لي على فلان أي أقدمتني نفسي بلدك لأجل حق لي على فلان أي قدمت لذلك، ونظيره محبتك جاءت بي إليك، أي جاءت بين نفسي إليك لمحبتك، أي جئت لمحبتك.. وإنما قلنا أن الحكم فيهما مجاز؛ لأن الفعلين فيهما مسندان إلى الداعي والداعي لا يكون فاعلًا، وكما في قول الشاعر1:

وصيرني هواك ربي لحيني يضرب المثل

أي وصيرني الله لهواك وحالي هذه، أي أهلكني الله ابتلاء بسبب هواك، وكما في قول الآخر وهو أبو نواس2:

يزيدك وجهه حسنًا إذا ما زدته نظرا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هو ابن البواب كما في الدلائل ص72، والكلام على البيت في ص229 من الدلائل.. وينسب البيت لمحمد اليزيدي.

2 في المطول لابن المعذل، وهو لأبي نواس كما في معاهد التنصيص، وتجد البيت في الدلائل ص229.

ج / 1 ص -98- أي يزيدك الله حسنًا في وجهه لما أودعه من دقائق الجمال متى تأملت.

وأنكر السكاكي وجود المجاز العقلي في الكلام، وقال: الذي عندي نظمه في سلك الاستعارة بالكناية، بجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي1 بواسطة المبالغة في التشبيه على ما عليه مبني الاستعارة كما سيأتي، وجعل نسبة الإنبات إليه قرينة للاستعارة2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وكان عبد القاهر يرد ذلك الرأي في كلامه في الأسرار "ص331".

2 تفصيل الكلام على رأي السكاكي في رد المجاز العقلي إلى الاستعارة المكنية أنه بعد أن عرض للمجاز العقلي قال:

"هذا كله تقرير الكلام في هذا الفصل بحسب رأي الأصحاب من تقسيم المجاز إلى لغوي وعقلي، وإلا فالذي عندي هو نظم هذا النوع في سلك الاستعارة بالكناية، يجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي- وهو القادر المختار أي الله تعالى- بواسطة المبالغة في التشبيه على ما عليه مبني الاستعارة كما عرفت، وجعل نسبة الإثبات إليه قرينة للاستعارة، ويجعل الأمير المدبر لأسباب هزيمة العدو استعارة بالكناية عن الجند الهازم، وجعل نسبة الهزم إليه قرينة للاستعارة، فالمجاز كله لغوي أي في الكلمة لا في الإسناد "راجع ص169 المفتاح".. والاستعارة بالكناية عنده أن تذكر المشبه وتريد المشبه به بواسطة قرينة، وهي أن تنسب إليه شيئًا من اللوازم العادية للمشبه به مثل أن تشبه المنية بالسبع ثم تفردها بالذكر وتضف إليها شيئًا من لوازم السبع فتقول مخالب المنية نشبت بفلان.

وما ذهب إليه السكاكي هو حاصل شبه أوردها عبد القاهر ورد عليها "331 من الأسرار"، قال عبد القاهر في أسلوب "صاغ الربيع الوشى": فإن قيل: أليس الكلام معقودًا على تشبيه الربيع بالقادر في تعلق وجود الصوغ والنسج به؟ فالجواب أن هذا التشبيه ليس هو الذي =

ج / 1 ص -99- ...........................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= يعقد في الكلام، إنما هو عبارة عن الجهة التي راعاها المتكلم حين أعطى الربيع حكم القادر في إسناد الفعل إليه، فقولنا في تشبيه منقول منطوق به، وقول المعترض في تشبيه معقول غير منطوق به إلخ.. وقد سار السكاكي على ضوء هذه الشبهة وقال: ليس في كلام العرب مجاز عقلي إلخ. والحامل للسكاكي على هذا الإنكار كما يقول هو للاستعارة بالكناية، ولكن يرد عليه أن ذلك ليس بأولى من العكس.. وقول السكاكي في الاستعارة المكنية "هي أن تذكر المشبه إلخ" أي هي ذكر المشبه أي هي المشبه المذكور.

وناقش الخطيب رأي السكاكي، ورده بوجوه منها:

1 أنه يستلزم أن يكون المراد: بعيشة في قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَة} صاحب العيشة لا العيشة، وبماء في قوله: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} فاعل الدفق، لما سيأتي من تفسير الاستعارة بالكناية على مذهب السكاكي، من أن حاصلها أن يشبه الفاعل المجازي المذكور بالفاعل الحقيقي في تعلق وجود الفعل به ثم يفرد الفاعل المجازي بالذكر، وينسب إلى شيء من لوازم الفاعل الحقيقي.. توضيح المقام: أنه لا بد في الإسناد من مستعار منه ومستعار له ومستعار، ففي أنشبت المنية أظفارها بفلان المستعار منه معنى السبع وهو الحيوان المفترس، والمستعار لفظ السبع، والمستعار له معنى المنية، ومعنى قولهم بالكناية أنك كنيت عن المستعار بشيء من لوازم معناه "أي الأظفار" ولم تصرح به، وهذا على طريق الجمهور، فيجعلون مدلول لفظ استعارة بالكناية المستعار أعني اللفظ الدال على المشبه به المضمر، والسكاكي يجعل مدلوله اللفظ الدال على المشبه فيقال عنده في تقريرها: شبهت: المنية بالسبع وادعينا أنها فرد من أفراده، ثم أوردنا اللفظ الدال على المشبه مرادًا منه المشبه به بواسطة قرينة دالة على ذلك "كلفظ الأظفار"، وأما على طريق المصنف فدلوله نفس التشبيه المضمر في النفس فتسمية التشبيه استعارة بالكناية... وقول السكاكي في "أنبت الربيع البقل": "أن الربيع استعارة بالكناية عن الفعل الحقيقي بواسطة المبالغة في التشبيه -أي بإدخال المشبه في جنس المشبه به وجعله فردًا من أفراده إدعاء. ونسبة الإثبات إلى الربيع قرينة الاستعارة- يرد عليه أن هذا مخالف لما اشتهر من أن قرينة الاستعارة بالكناية عند السكاكي هي إثبات الصورة الوهمية المسماه =

ج / 1 ص -100- .........................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= بالاستعارة التخييلية، فيجب أن يؤول على أن المراد "وجعل نسبة ما هو على الاستعارة بالكناية غير الكائنة في المجاز العقلي، وأما الواقعة فيه فنسبة شبيه بالإنبات إليه قرينة".. وأجيب: بأن ما اشتهر عنه محمول على الاستعارة بالكناية غير الكائنة في المجاز العقلي وأما الواقعة فيه فالقرينة فيه قد تكون أمرًا محققًا، فما اشتهر عنه غير كلي، ويدل على ذلك أنه نفسه صرح في بحث المجاز العقلي بأن القرينة قد تكون أمرًا محققًا كما في أنبت الربيع البقل. وقول السكاكي: المكنية "هي أن تذكر المشبه وتريد المشبه به بواسطة قرينة، وهي أن تنسب إليه شيئًا من اللوازم المساوية للمشبه به"، يريد "بالمساوية" التي تصدق حيث صدق وتكذب حيث كذب.

2 ويستلزم أن لا تصح الإضافة في نحو قولهم: فلان نهاره صائم وليله قائم، أي؛ لأن المراد بالنهار على هذا فلان نفسه، وإضافة الشيء إلى نفسه لا تصح، فكل تركيب أضيف فيه الفاعل المجازي إلى الفاعل الحقيقي كما في المثالين السابقين تكون -على هذا- الإضافة فيه غير صحيحة، لبطلان إضافة الشيء إلى نفسه اللازمة من كلامه؛ لأن المراد بالنهار حينئذ فلان نفسه، ولا شك في صحة هذه الإضافة ووقوعها قال تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم}، وقال الشاعر:

فنام ليلي وتجلى همي.

وهذان المثالان أظهر؛ لأن "نهاره صائم" يمكن المناقشة فيه بأن الاستعارة إنما هي في ضميره المستتر لا في "نهاره" على الاستخدام المعروف في علم البديع. لكن المناقشة في المثال ليست من أدب العلماء -قال الدسوقي في "نهاره صائم": إضافة الشيء إلى نفسه إنما توجد إذا كان المراد "بالنهار" وضمير "صائم" واحدًا، وأما إذا ارتكب الاستخدام وجعل الضمير في "صائم" راجعًا إلى النهار. لا بالمعنى الأول وهو الزمان، بل بمعنى الشخص، فلا يلزم إضافة الشيء إلى نفسه؛ لأن الاستعارة إنما هي في الضمير المستتر في صائم لا في نهاره.

3 وأن لا يكون الأمر بالإيقاد على الطين في إحدى الآيتين وبالبناء فيهما لهامان مع أن النداء له فيكون الأمر له أيضًا فلا يجوز تعدد المخاطب في كلام واحد أو جمعه أو عطفه.

قال الدسوقي: قيل إن هذا الإلزام إنما يتوجه على السكاكي إذا كان المسند مستعملًا في معناه الحقيقي، وله أن يمنع ذلك مدعيًا أن معنى "ابن" هو أمر بالبناء "وأوقد لي ياهامان" هو أمر بالإيقاد، فصح أن =

ج / 1 ص -101- .........................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= النداء له والخطاب معه.. وفيه أن هذا خروج عما نحن بصدده؛ لأنه حينئذ يكون المجاز في الظرف، فيخرج عن المجاز العقلي كما يقول المنصف وغيره عن الاستعارة بالكناية كما يقول السكاكي.

وقال ابن السبكي: إن إلزام الخطيب للسكاكي بنحو "ابن لي صرحًا" بأن لا يكون الأمر بالبناء لهامان مع أن النداء له، جوابه: أن المأمور بالبناء الباني بنفسه بعد اعتقاد دخول هامان نفسه في زمرة من يبني بنفسه مجازًا.

4 ويستلزم أن يتوقف جواز التركيب في نحو قولهم: أنبت الربيع البقل وسرتني رؤيتك على الإذن الشرعي؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية.

قال ابن يعقوب: أن ما ذهب إليه السكاكي يستلزم أيضًا أن يتوقف استعمال نحو "أنبت الربيع البقل" و"شفي الطبيب المريض" و"سرتني رؤيتك" و" يزيدك وجهه حسنًا" -وكل ما كان مثل هذا الاستعمال- على سماعه من الشارع؛ لأن أسماء الله توقيفية، فلا يطلق عليه تعالى اسم لا حقيقة ولا مجاز ما لم يرد إذن من الشارع كالرحمن فإنه مجاز بخلاف ما لم يسم به الله نفسه في الكتاب ولا في السنة سواء كان مجازًا أو حقيقة، ولم يرد إطلاق الربيع والطبيب والرؤية على الله تعالى. لكن توقف مثل هذا الاستعمال على السماع غير صحيح؛ لأنه شاع استعماله حتى كاد أن يكون إجماعًا سكوتيًّا، فشيوعه يدل على أن المراد بالربيع غير الله. ولا يجاب عن هذا الإلزام بأن مذهب السكاكي أن أسماءه تعالى غير توقيفية؛ لأن الرد عليه ليس باستعماله هو بل باستعمال غيره ممن يذهب إلى غير ذلك مع عدم إنكار غيره، فصار استعمالًا صحيحًا، ولو كان كما ذكر السكاكي لتركه من يراها توقيفية أو لأنكر عليه.

ملاحظة:

المجاز العقلي له معنيان: إسناد الفعل أو ما في معنى الفعل إلى ما ليس الإسناد له بعلاقة، مع قرينة -والمجاز الذي سببه التصرف في أمور عقلية أي غير لفظية كجعل الفرد الغير المتعارف من أفراد المعنى المتعارف للفظ مثل جعل الشجاع فردًا من أفراد الحيوان المفترس فتنقل اسمه إليه قائلًا: "رأيت أسدًا" أي رجلًا شجاعًا شبيهًا بالأسد. والمعنى الأول هو المراد هنا في هذا الباب.

ج / 1 ص -102- ويجعل الأمير المدبر لأسباب هزيمة العدو استعارة بالكناية عن الجند الهازم وجعل نسبة الهزم إليه قرينة للاستعارة.

وفيما ذهب إليه "السكاكي" نظر:

1- لأنه يستلزم أن يكون المراد بعيشة في قوله تعالى "فهو في عيشة راضية صاحب العيشة لا العيشة، وبماء في قوله: خلق من ماء دافق فاعل. فاعل الدفق لا المني، لما سيأتي من تفسيره للاستعارة بالكناية.

2- وأن لا تصح الإضافة في نحو قولهم: فلان نهاره صائم وليله قائم؛ لأن المراد بالنهار على هذا فلان نفسه وإضافة الشيء إلى نفسه لا تصح.

3- وأن لا يكون الأمر بالإيقاد على الطين في إحدى الآيتين وبالبناء فيهما لهامان، مع أن النداء له.

4- وأن يتوقف جواز التركيب في نحو قولهم: أنبت الربيع البقل، وسرتني رؤيتك على الإذن الشرعي؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية، وكل ذلك منتف ظاهر الانتفاء.

5- ثم ما ذكره منقوض بنحو قولهم: "فلان نهاره صائم" فإن الإسناد فيه مجاز، ولا يجوز أن يكون النهار استعارة بالكناية عن فلان؛ لأن ذكر طرفي التشبيه يمنع من حمل الكلام على الاستعارة ويوجب حمله على التشبيه، ولهذا عد نحو قولهم "رأيت بفلان أسدًا، ولقيني منه أسد" تشبيها لا استعارة، كما صرح السكاكي أيضًا بذلك في كتابه.

ج / 1 ص -103- تنبيه:

إنما لم نورد الكلام في الحقيقة والمجاز العقليين في علم البيان كما فعل السكاكي ومن تبعه، لدخوله في تعريف علم المعاني دون تعريف علم البيان.

ج / 1 ص -104- البحث البلاغي عن أسلوب المجاز العقلي وأطواره1:

سيبويه وهل أثبت المجاز العقلي؟.

قال صاحب الكتاب: مطر قومك الليل وبالنهار على الظرف، وإن شئت رفعته على سعة الكلام كما يقال صيد عليه الليل والنهار، كما قال جرير:

ونمت وما ليل المطي بنائم

فكأنه في كل هذا جعل الليل بعض الاسم، وكما قال الشاعر:

أما النهار ففي قيد وسلسلة والليل في قعر منحوت من الساج

فكأنه جعل النهار في قيد والليل في جوف منحوت "راجع 80/ 1 سيبويه في: باب من الفعل يبدل فيه الآخر من الأول ويجري الاسم كما يجري أجمعون على الاسم ينصب بالفعل؛ لأنه مفعول".

وقال: تقول سرقت الليلة أهل الدار فتجري الليلة في سعة الكلام، ومثل ما أجري مجرى هذا في سعة الكلام والاستخفاف: "بل مكر الليل والنهار" فالليل والنهار لا يمكران ولكن المكر فيهما "89/ 1 الكتاب لسيبويه".

وقال: باب استعمال الفعل في اللفظ لا في المعنى لاتساعهم في الكلام وللإيجاز والاختصار: فمن ذلك أن نقول: صيد عليه يومان أي صيد عليه الوحش في يومين ولكنه اتسع واختصر، ومما جاء على اتساع الكلام والاختصار. {وَاسْأَلِ القَرْيَةَ التِيْ كُنَّا فِيْهَا وَالْعِيْرَ التِيْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هذه البحوث بقلم محمد عبد المنعم خفاجي.

ج / 1 ص -105- أَقْبَلْنَا فِيْهَا}، إنما يريد أهل القرية فاختصر وعمل الفعل في القرية كما كان عاملًا في الأهل لو كان ها هنا، ومثله بل مكر الليل والنهار المعنى مكركم في الليل والنهار، وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله، أي بر من آمن بالله، وهذا أكثر من أن يحصى، وقال الجعدي:

وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب

"راجع 108-110/ 1 من الكتاب".

هذا بعض ما ذكره سيبويه في كتاب عن المجاز العقلي1. وهو يرشدنا إلى رأي شيخ العربية في مثل هذا الأسلوب.. وبالإمعان فيما نقلناه ها هنا عن سيبويه ندرك أنه يحمل هذه الأساليب وما شابهها -مما حمله المتأخرون على المجاز في الكلام أي على المجاز العقلي- يحملها على السعة في الكلام بالإيجاز والحذف والاختصار، وأصلها على تقدير المضاف، وبهذا التقدير تخرج هذه الأساليب عند سيبويه عن معنى المجاز الذي نفهمه من كلام المتأخرين... فالمجاز العقلي محمول عنده على السعة في الكلام وحذف مضاف.

وسيأتي نبسط رأي عبد القاهر في ذلك ودفاعه عن أسلوب المجاز العقلي ورده على من يرى أنه محمول على السعة والحذف من علماء العربية كسيبويه ومن نهج نهجه في فهم وتحليل هذا الأسلوب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وفي ص169 جـ1 من الكتاب يقول سيبويه:

وإن شئت رفعت "فقلت ولا أناعي" فجاز على سعة الكلام، من ذلك قول الخنساء:

ترتع ما رتعت حتى إذا ذكرت فإنما هي إقبال وإدبار

فجعلها الإقبال والإدبار فجاز على سعة الكلام كقولك: نهارك صائم وليلك قائم.. ولكنه جاز على السعة فاستخفوا واختصروا، والسيرافي والشنتمري يجعلانه على تقدير مضاف أو تأويل المصدر باسم الفاعل. وهذا بيان لمعنى السعة الذي يقصده صاحب الكتاب.

ج / 1 ص -106- المبرد وأسلوب المجاز العقلي:

وقال صاحب الكامل: "ليلة مزؤودة" أي ذات زؤد وهو الفزع وجعل الليلة ذات فزع؛ لأنها يفزع فيها، قال تعالى: {بَلْ مَكْرُ الَّلَيْلِ وَالنَّهَارِ} أي مكركم في الليل والنهار، وقال جرير:

ونمت وما ليل المطي بنائم.

وقال آخر:

فنام ليلى وتجلى همي.

"65/ 1 كامل النسخة القديمة".

وقال: العرب تقول نهارك صائم وليلك قائم أي أنت قائم وصائم، كما قال تعالى: {بَلْ مَكْرُ الَّلَيْلِ وَالنَّهَارِ} أي في الليل والنهار، وقال: ونمت وما ليل المطي بنائم "104/ 1 كامل المبرد".

وقال: "وأما خلة فثماني"، سماها بالمصدر مثل فإنما هي إقبال وإدبار، نعتها بالمصدر لكثرته منها، ويجوز أن يكون أراد ذات خلة، ومثله: ولكن البر من آمن بالله "137 جـ1 كامل المبرد الطبعة القديمة".

وقال: "ويمسي ليله غير نائم" أي في ليلة، جعل الفعل لليل على السعة مثل فإنما هي إقبال وإدبار، وفي القرآن بل مكر الليل والنهار "248 جـ2 كامل المبرد طبعة التجارية".

ذلك ما في كلام المبرد من كلام وتحليل لبعض الأساليب التي جعلها المتأخرون من أسلوب المجاز العقلي.

والمبرد في تحليل هذه الأساليب يجمع بين رأي سيبويه السابق ورأي أخر جديد هو المبالغة، والمبالغة من خصائص المجاز كما نعلم -فيقول في "فإنما هي إقبال وإدبار" نعتها بالمصدر لكثرته منها "137 جـ1 كامل"، فهو إذًا يجوز في أسلوب "فإنما هي إقبال وإدبار" -وما يشابهه مثله طبعًا- أن يكون على المبالغة كما يقول عبد القاهر أي على المجاز، أو على الحذف كما يقول سيبويه، وإذا هو

ج / 1 ص -107- لم يذهب إلى مذهب سيبويه وحده، وقد يكون المبرد قد أراد من المبالغة التشبيه البليغ، هي إقبال، أي شبيهة به. ولكن ذلك بعيد عن الأسلوب وعن مراد المبرد منه كما يخيل لي.

وفي رسالة أخرى للمبرد هي "ما اتفق لفظه واختلف معناه في القرآن" يقول المبرد:

وفي القرآن مختصرات، فإن مجاز كلام العرب يحذف كثيرًا من الكلام إذا كان فيما يبقى دليل على ما يلقى، فمن ذلك: واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها، لما كانت القرية والعير لا يسألان ولا يجيبان علم أن المطلوب غيرهما "ص36"، ولا يجوز على هذا جاء زيد وأنت تريد غلامه؛ لأن المجيء يكون له ولا دليل في مثل هذا على المحذوف. ومثل الأول: ولكن البر من آمن بالله، أي بر من آمن بالله؛ لأن البر لا يكون البار. ونظيره قول الجعدي: ".. أصبحت خلالته كأبي مرحب" أي كخلالة أبي مرحب "32 و33".

ومن المختصر في القرآن قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ} [البقرة: 171] تأويله مثلكم ومثلهم كمثل الناعق بما لا يسمع فاختصر وحذف، كقول النابغة: كأنك من جمال بني أقيش، أي جمل من جمال "35".. والمبرد في ذلك تابع لسيبويه ناقل عنه، ورأيه عندي صحيح.

ابن المدبر والمجاز العقلي:

يرى ابن المدبر أن أسلوب: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار} من الحذف والاتساع، وأن الكتاب ينبغي أن يتجنبوه. "راجع ص18 الرسالة العذراء لابن المدبر نشر الدكتور مبارك".

ج / 1 ص -108- نقد النثر والمجاز العقلي:

وكذلك كتاب "نقد النثر" ضئيل الصلة بالمجاز العقلي. قال:

ومن الاستعارة انطاق ما لا ينطق مثل: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} ومثل: امتلأ الحوض وقال قطني -وذكر أيضًا المثال: فللموت ما تلد الوالدة "66 نقد النثر".. ومن المعلوم أن كلامه في هذا قليل جدًّا من ناحية البحث البياني وهو متأثر بخطابه أرسطو، حامل لهذه المثل على الاستعارة، كما صنع عبد القاهر بعد.

الآمدي وأسلوب المجاز العقلي:

قال الآمدي في موازنته: المصادر قد تجعل أوصافًا في مكان أسماء الفاعلين وإنما تكون أوصافًا على وجه من الوجوه وطريقة من اللفظ، وهي قولهم إنما زيد دهره أكل ونوم وإنما عمرو أبدًا قيام وقعود، فتقيم المضاف إليه مقام المضاف؛ لأنه يدل عليه أو تجعل زيدًا نفسه الأكل والنوم وعمرًا القيام والقعود على المبالغة؛ لأن ذكل كثير منهما كما قالت: "فإنما هي إقبال وإدبار"، فجعلت الناقة هي الإقبال والإدبار؛ لأن ذلك كثير منها، وإن شئت كان المعنى ذات إقبال وإدبار فأقمت المضاف إليه مقام المضاف فهذه طريقة الوصف بالمصادر على ما ذكرته، فيقال هند الحسن كله ودعد الجمال أجمعه وزيد الهرم أقصاه وعبد الله التيه بعينه: إن شئت كان المعنى هند صاحبة الحسن كله ودعد ذات الجمال أجمعه وزيد أخو الهرم وعبد الله ذو التيه فأقمت المضاف إليه مقام المضاف مثل واسأل القرية، وإن شئت جعلت هندًا هي الحسن ودعد هي الجمال على المبالغة لما كانتا متناهيتين في هذين الوصفين "76 الموازنة طبعة صبيح".

ورأى صاحب الموازنة قد حلله أتم تحليل وإن كان لا يخرج عن رأي المبرد في كثير ولا قليل.. فإن هذه الأساليب كلها بعيدة عن

ج / 1 ص -109- المجاز العقلي إنما هي على الحذف والاختصار، أما ما ذكره في الكامل من الأساليب من مثل: نهارك صائم وليلك قائم فقد حملهما على المبالغة أو على الحذف كما سبق: وسيبويه يحملها كلها على الحذف.

ومن تتمة الفائدة: أن ننقل هذا النص عن المبرد وإن لم يكن وثيق الصلة بالمجاز العقلي، قال المبرد: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} مجاز مصيره على ذا كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] وهم لا يتلقطونه مقدرين فيه ذلك ولكن تقديره: فكان مصيره إلى عداواتهم وحزنهم، ومثله: ودورهم بخراب الموت نبنيها، أي إلى هذا تصير، ومثل قول ابن الزبعري فللموت ما تلد الوالدة، أي أن هذا مصيرهم "26-28 ما اتفق لفظه للمبرد".

خطابة أرسطو والمجاز العقلي:

وقد ترجمت في القرن الثالث الهجري ولم يتأثر بها أئمة البيان كثيرًا في فهم هذا الأسلوب، وإنما كان جل تأثرهم بآراء علماء العربية كسيبويه والمبرد وابن فارس، وليس فيها إلا كلام قريب الصلة بالمجاز العقلي: قال:

"ومن التغيرات الاستعارية اللذيذة أن ينسب الأمر إلى صفة الفاعل مثل الشيخوخة تفعل الخير بدل الشيخ".. وقال: ومن أنواع الاستعارة اللفظية أن تجعل أفعال الأشياء غير المتنفسة كأفعال ذوات الأنفس مثل الغضب لجوج "راجع باب العبارة في فن الخطابة في الشفاء لابن سينا".

فهو ها هنا يجعل هذه الأساليب استعارة فقط، لا حذفًا كما ذهب إليه سيبويه. وصنيع الخطابة في هذا هو صنيع عبد القاهر، فقد جعل ما شابه هذه الأساليب مجازًا عقليًّا ورد أن تكون من الحذف بسبيل.

ج / 1 ص -110- ابن فارس وأسلوب المجاز العقلي:

قال ابن فارس: ومن اللامات لام العاقبة: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} لم يلتقطوه لذلك ولكن صارت العاقبة ذلك "87 الصاحبي لابن فارس".

وقال: ومن سنن العرب الحذف والاختصار، ومنه "واسأل القرية" أراد أهلها، وبنو فلان يطؤهم الطريق أي أهله، ومنه نطأ السماء أي مطرها، وعلى خوف من فرعون: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} أي ضعف عذابها "175 الصاحبي".

وقال: ومن سنن العرب إضافة الفعل إلى ما ليس فاعلًا في الحقيقة مثل جدارًا يريد أن ينقض وهو في شعر العرب كثير "179 و180 الصاحبي".

وقال: باب المفعول يأتي بلفظ الفاعل، تقول سر كاتم أي مكتوم، وفي القرآن لا عاصم اليوم من أمر الله أي لا معصوم، ومن ماء دافق، وعيشة راضية أي مرضي بها، وحرمًا آمنًا أي مأمونًا فيه.. قيل ويأتي الفاعل بلفظ المفعول به كقوله: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا}. أي آتيا "187 و188 الصاحبي".

وقال: ومن سنن العرب وصف الشيء بما يقع أو يكون منه كقولهم يوم عاصف أي عاصف الريح؛ لأن عصوف ريحه يكون فيه، ومثله ليل نائم، وليل ساهر؛ لأنه ينام فيه ويسهر، قال أوس: خذلت على ليلة ساهرة، وقال عمرو بن براق: "وليلك من ليل الصعاليك نائم". ومثله، "وما ليل المطي بنائم". ويقولون: لا يرقد وسادة يريدون متوسد الوساد "188 الصاحبي".. وقال: ومن سنن العرب التوهم والإيهام وهو أن يتوهم أحدهم شيئًا ثم يجعله كالحق كمساءلة الرسوم "192".. وقال: ومن سنن العرب الإضمار:

ج / 1 ص -111- إضمار الأسماء، وإضمار الأفعال، وإضمار الحروف "196-198 الصباحي"- والعرب تضمر الفعل فيشتبه المعنى حتى يعتبر فيوقف على المراد مثل "فإني لا ألام على دخول" أي على ترك دخول، وقال الأعشى: أأزمعت من آل ليلى ابتكارا، أي من أجل آل ليلى "ص198 و199". وقال: باب إضافة الشيء إلى ما ليس له مثل سرج الفرس وثمرة الشجرة وغنم الراعي "ص205". وقال: باب اقتصارهم على ذكر بعض الشيء. وهم يرديون كله ومنه: ويبقى وجه ربك إلخ. "212 و213".

وبالتأمل فيما ذكره ابن فارس في الصاحبي نجده يفرق بين باب الحذف وباب المبالغة والمجاز، فيذكر مثل الحذف ويجعلها من الحذف، ويذكر مثل المبالغة كليل نائم ويجعلها من وصف الشيء بما يقع فيه أو يكون منه.

وابن فارس في هذا جد دقيق متحر للصواب فيما يرى ويقول.

ابن الأثير والمجاز العقلي:

كذلك لم يعرض ابن الأثير في المثل السائر للمجاز العقلي، وإنما جعل المجاز ثلاثة أقسام: توسع في الكلام وتشبيه واستعارة:

فالتوسع يكون العدول فيه عن الحقيقة إلى المجاز لغير مشاركة بين المنقول والمنقول إليه لطلب التوسع في الكلام، وهو ضربان:

1- ما يرد على وجه الإضافة واستعماله قبيح، لبعد ما بين المضاف والمضاف إليه، وذلك؛ لأنه يلتحق بالتشبيه المضمر الأداة، وإذا ورد التشبيه ولا مناسبة بين الطرفين، كان ذلك قبيحًا مثل بح صوت المال وماء الملام.

ج / 1 ص -112- 2- ما يرد على غير وجه الإضافة، وهو حسن لا عيب فيه مثل: قالتا أتينا طائعين، فنسبة القول إلى السماء من باب التوسع؛ لأنهما جماد لا ينطق، وعلى هذا ورد مخاطبة الطلول... وهذا النوع الثاني قريب من أسلوب المجاز العقلي، وابن الأثير يعده من التوسع الذي هو قسم من أقسام المجاز.

عبد القاهر والمجاز العقلي:

ليس عبد القاهر أول من تكلم على أسلوب المجاز العقلي، فقد تقدمه كثير من العلماء: كسيبويه والمبرد والآمدي وابن فارس.. وفي هذا ما يبطل الرأي القائل بأن المجاز الحكمي -العقلي- من ابتداع عبد القاهر وحده، وهو رأي ذهب إليه الدكتور طه حسين في مقدمته لكتاب نقد النثر.

وبلاغة المجاز العقلي كما فهمها عبد القاهر سبق إلى بيانها باختصار وفي خفية المبرد والآمدي.

وجملة ما ذكره عبد القاهر في كتابيه الأسرار والدلائل عن المجاز العقلي.. هي:

1- إثبات وجود المجاز العقلي وبيان سر الفروق بينه وبين المجاز في الكلمة.

2- بيان أن المجاز في الإثبات عقلي وفي الكلمة المثبتة لغوي.

3- بيان حد هذين النوعين من المجاز "المجاز الحكمي والمجاز في المفرد".

4- بيان القرينة على التجوز في المجاز العقلي والفرق بينه وبين الأحاديث الكاذبة.

ج / 1 ص -113- 5- الكلام على بلاغة المجاز العقلي ودرجاته في البلاغة -من العامية والخاصية- وأن تقدير الحقيقة في الإسناد المجازي قد لا يتأتى في الأسلوب، وتوضيح سر دقة الأساليب الخاصية في المجاز العقلي، وتأويل نظرية علماء النحو التي يذهبون فيها إلى أن أسلوب المجاز الحكمي على تقدير مضاف، والدفاع عن بلاغة المجاز الحكمي التي يهتضمها مثل هذا التقدير الحائف والتأويل البعيد.

وهذه الآراء مبسوطة في كتابي "عبد القاهر، والبلاغة العربية" بسطًا وافيًا، فليرجع إليها من أراد.

الراغب الأصفهاني والمجاز العقلي:

أكثر الأسباب التي يحتاج الفعل إليها في وجوده كما يقول الراغب عشرة: فاعل يصدر عنه كالنجار وعنصر يعمل فيه كالخشب وعمل كالنجر، وزمان ومكان يعمل فيهما، وآلة يعمل بها كالمنجر، وغرض قريب كاتخاذ النجار، وغرض بعيد كتحصين البيت به، ومثال يعمل عليه ويقتدي به، ومرشد يرشده.. وكل قد ينسب إليه الفعل فيقال أعطاني زيد إذا باشر الإعطاء وأعطاني الله لما كان هو الميسر له وربما جمع بين السببين: البعيد والقريب فيقال: أعطاني الله وزيد، قال الشاعر:

حبانا به جدنا والإله وضرب لنا أجذم صارم

فنسب إلى الأول وهو الله وإلى السبب المتأخر وهو الضرب وإلى المتوسط وهو الجد.. وقال: الله يتوفى الأنفس حين موتها، فأسند إلى الآمر به، قل يتوفاكم ملك الموت، فأسند إلى المباشر له، وقال الشاعر:

وألبسنيه الهالكي..

وقال:

كساهم محرق1

فنسب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 للحصين المري "راجع ص19 من المفضليات".

ج / 1 ص -114- الفعل إلى عاملها وفي الثاني إلى مستعملها، وقال في صفة نبال: كستها ريشها مضرحية، فنسب كسوتها إلى الطائر الذي أخذ ريشه فجعل لها: وقيل يداك أوكتا وفوك نفخ، فنسب الفعل إلى الآلة المتصلة.

ويقال سيف قاطع فنسب إلى الآلة المنفصلة. وقيل ضرب قاطع وطعن جائف فنسب إلى الحدث. وسر كاتم وعيشة راضية، فنسب إلى المفعول. وقال تعالى: حرمًا آمنا. فنسب إلى المكان. وقيل يوم صائم وليل ساهر، وما ليل المطي بنائم، فنسب إلى الزمان.. ولما كانت أفعالنا على ذلك صح في الفعل الواحد أن ينسب إلى أحد الأسباب مرة وينفي عنه مرة بنظرين مختلفين. وقال:

أعطيت من لم تعطه ولو انقضى حسن اللقاء حرمت من لم تحرم

فأثبت له الفعل ونفاه عنه بنظرين مختلفين.. وهذا فصل من تأمله لم يعتمد في تثبيت المعاني على مثلها من الألفاظ فينظر من اللفظ إلى المعنى، بل ينظر في مثل هذا من المعنى إلى اللفظ. ومن أجل هذا قال قوم من المحصلين لا فاعل في الحقيقة لأي شيء من الأفعال إلا الله تعالى فإن فعله يستغني عن الزمان والمكان والمادة، ومن عداه من الفاعلين فإن له من كل ذلك وبعضه، ولهذا لا يصح أن ينسب الإبداع إلى غيره تعالى لا حقيقة ولا مجازًا ويصح أن ينسب فعل الله تعالى إلى كل ما تقدم ذكره "180-182 الذريعة إلى مكارم الشريعة".

وبهذا نرى أن الراغب ينفي المجاز العقلي كافة، ولكن في نظري أنه إنما ينظر إلى المعاني كما قال في آخر كلمته، ويوجه الألفاظ في دلالتها إلى ما تقتضيه المعاني، ولا ينظر إلى النظم والأسلوب وكيفية أدائه للمعنى من حقيقة أو مجاز، فهو عن هذا في واد بعيد، وشغل شاغل.

ج / 1 ص -115- صاحب المصباح1 وأسلوب المجاز العقلي:

وقد تأثر بدر الدين في كتابه في بحث المجاز العقلي بالسكاكي:

قال: المجاز العقلي هو الكلام المزال إسناده عما هو له عند المتكلم إلى غيره بضرب من التأويل والمراد بما الإسناد له عند المتكلم ما يعتقد قيام الفعل به أو صدوره عنه، ولم أقل بغير العقل؛ لأنا لم نرهم يحملون نحو "أشاب الصغير البيت" على المجاز ما لم يعلموا أو يظنوا صدوره عن غير جهل، أوما ترى كيف استدلوا على أن إسناد "ميز" إلى الجذب في قوله:

ميز عنا قنزعا عن قنزع جذب الليالي أبطئي أو أسرعي

مجاز بأن أتبعه قوله: "أفناه قيل الله إلخ" الشاهد لنزاهته أنه يريد الظاهر، وقولي بضرب من التأويل مخرج للكذب. وسمي هذا الضرب مجازًا عقليًّا لتعدي الحكم فيه عن مكانه الأصلي من غير تغيير للوضع. ومن شرط هذا المجاز أن يكون للمسند إليه شبه بالمتروك في تعلقه بالعامل "69 و70 المصباح".

فهو يثبت المجاز العقلي ويفسره ويبين شروطه ويفرق بينه وبين الكذب.

"حسن التوسل في صناعة الترسل" والمجاز العقلي:

وهذا الكتاب متأثر في بحث أسلوب المجاز العقلي بعبد القاهر، قال: المجاز مفعل من جاز يجوز إذا تعداه. فإذا عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة وصف بأنه مجاز بمعنى أنهم قد جاوزوا به موضعه الأصلى أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولًا؛ لأنه ليس بموضع أصلي لهذا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هو بدر الدين ابن ابن ملك المتوفى عام 649هـ.

ج / 1 ص -116- اللفظ ولكنه مجازه ومتعداه يقع فيه كالواقف بمكان غيره ثم يتعداه إلى مكانه الأصلى1.. وحدهما -الحقيقة والمجاز- في المفرد: أن كل كلمة أريد بها ما وضعت له فهي حقيقة "117 المرجع المذكور" كالأسد للحيوان واليد للجارحة، وإن أريد بها غيره لمناسبة بينهما فهي مجاز كالأسد للشجاع واليد للنعمة أو القوة، وحدهما في الجملة: أن كل جملة كان الحكم الذي دلت عليه كما هو في العقل فهي حقيقة مثل خلق الله الخلق، وكل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه في العقل لضرب من التأويل فهي مجاز، كما إذا أضيف الفعل إلى شيء يضاهي الفاعل كالمفعول به في عيشة راضية. أو المصدر في شعر شاعر، أو الزمان في ليلة نائم، أو المكان في طريق سائر، أو المسبب في بنى الأمير المدينة، أو السبب في وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا، فمجاز المفرد لغوي ويسمى مجازًا في المثبت ومجاز الجملة عقلي ويسمى مجازًا في الإثبات، فالمجاز قد يكون في المثبت وحده مثل: فأحيينا به الأرض بعد موتها، وقد يكون في الإثبات وهو أن يضيف الفعل إلى غير الفاعل الحقيقي كما ذكرنا. وقد يكون فيهما جميعا كقولك آنستني رؤيتك أي سرتني فجعل المسرة حياة، وأسندها إلى الرؤية وهو مجاز في الإثبات "118 حسن التوسل".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ذلك مأخوذ عن عبد القاهر وقد سبق ابن فارس في كتابه "الصاحبي" إلى بيان ذلك قال: باب سنن العرب في حقائق الكلام والمجاز": الحقيقة من حق الشيء إذا وجب. وهي الكلام الموضوع موضعه ليس باستعارة ولا تمثيل ولا تقديم فيه ولا تأخير. كقول القائل "أحمد الله على نعمه وإحسانه" وهذا أكثر الكلام. وأما المجاز فمأخوذ من جاز يجوز إذا استن ماضيًا. نقول جاز بنا فلان وجاز علينا فارس. هذا هو الأصل. ثم نقول يجوز أن تفعل كذا أي تنفذ ولا يرد ولا يمنع، ونقول عندنا دراهم وضع وازنة وأخرى تجوز جواز وازنة. أي هي وإن لم تكن وازنة فهي تجوز مجازها وجوازها لقربها منها، فهذا تأويل قلونا مجاز. أي أن الكلام الحقيقي يمضي لسنته لا يعترض عليه أو قد يكون غيره يجوز جوازه لقربه منه إلا أن فيه من تشبيه واستعارة ما ليس في الأول، 167-169 الصاحبي".

ج / 1 ص -117- الزمخشري والمجاز العقلي:

قال في الكشاف في تفسير الآية الكريمة: {خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ} ما نصه: ويجوز أن يستعار الإسناد نفسه من غير الله لله فيكون الختم مسندًا إلى الله على سبيل المجاز وهو لغيره حقيقة، تفسير هذا أن للفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والمسبب له فإسناده إلى الفاعل حقيقة، وقد يسند إلا هذه الأشياء على طريق المجاز المسمى استعارة وذلك لمضاهاتها الفاعل في ملابسته الفعل1 كما يضاهي الرجل الأسد في جراءته فيستعار له اسمه، فيقال في المفعول به: عيشة راضية وماء دافق وفي عكسه: سيل مفعم وفي المصدر شعر شاعر وذيل ذائل وفي الزمان نهاره صائم وليله قائم، وفي المكان طريق سائر ونهر جار، وأهل مكة يقولون: صلى المقام، وفي المسبب بنى الأمير المدينة، وقال الشاعر:

إذا رد عافى القدر من يستعيرها.

فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أن الله لما أقدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب.

وقال في الأية الكريمة: {فَمَا رَبِحَتْ تَجَارَتُهُمْ} ما نصه: فإن قلت كيف أسند الخسران إلى التجارة وهو لأصحابها. قلت: هو من الإسناد المجازي وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له كما تلبست التجارة بالمشترين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 فالزمخشري يجعل هذا مجازًا في الإسناد على تشبيه الفاعل غير الحقيقي بالفاعل الحقيقي فهو عنده كالاستعارة في التشبيه والعلاقة.. فهو ينظر إلى المجاز في الإسناد من جهة الفاعل غير الحقيقي وأنه على تشبيهه بالفاعل الحقيقي.

ج / 1 ص -118- الشهاب الخفاجي وأسلوب المجاز العقلي:

جاء في طراز المجالس للشهاب الخفاجي م سنة 1069هـ ما نصه:

قال الأبهري في شرح العضد: الفاعل لا بد أن يكن سببًا قابليًّا لفعله ليصح الإسناد إليه لغة، فإذا أسند فعل إلى ما لا يكون سببًا قابليا له يجعل مجازًا عن فعل آخر مناسب1 له يكون الفاعل قابليًّا3 له، ويكفي في هذا التسبب أن يعد الفاعل سببًا قابليًّا له في عرف العرب وعادتهم ولا يجب أن يكون محلًّا له في الحقيقة، فإنهم لا ينظرون في الإسناد إلى ذلك، ويرون جهة الإسناد -في نحو: سرتني رؤيتك ومات زيد وضرب عمرو- واحدة من حيث أن الفاعل فيها سبب قابل لأفعاله عادة وإن كان موجدها هو الله حقيقة، فقول الشيخ عبد القاهر: "الإسناد في سرتني رؤيتك مجاز إذ فاعله في الحقيقة هو الله والمعنى سرني الله عند رؤيتك، وفي الآخرين حقيقة" بعيد؛ لأن موجد الضرب أيضًا هو الله لما ثبت من قاعدة خلق الأفعال، وكذا محدث الموت اتفاقًا لكن العرب لا يخطر ببالهم عند إسناد الضرب إلى عمرو والمسرة للرؤية أن فاعلها غير المذكور. قال الشهاب: وهذا كلام دقيق، ولكن فيه بحث من وجهين:

1- كيف يتم قوله: إذا أسند فعل إلى ما لا يكون سببًا قابليًّا له يجعل مجازًا عن فعل آخر مناسب له يكون الفاعل قابليًّا له، فإنه يقتضي أنه لو أسند إلى الموجد الحققي كخلق الله السموات والأرض يكون مجازًا، وهذا يأباه العقل والنقل، وكون هذا لا بد فيه من التجوز في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هو هنا يجعل الإسناد غير حقيقة، ويؤول المجاز فيجعله في الفعل، من حيث أول الزمخشري فجعله في الفاعل، وعبد القاهر والسكاكي والخطيب فجلعوه في الإسناد.

2 يرد عبد القاهر في الأسرار على نظرية أن المجاز في الفعل وحده ردا مفصلًّا.

ج / 1 ص -119- الفعل أيضًا لا وجه له لجواز التجوز في الإسناد، فما وجه الحصر؟.

2- كيف يشترط في الإسناد الحقيقي أن يكون الفاعل سببًا قابليًّا، دائمًا في اللغة. بناء على أن الفاعل اللغوي غير الفاعل الحقيقي، مع أن اللغة واستعمال العرب يشهد بخلافه في مواضع كثيرة: منها ما ذكر من الإسناد للموحد، ومنها أن الفعل يوضع للإعدام الصرفة كفقد وعدم وقد يسند للرجل حقيقة ما يقبله غيره ويقوم به مثل قطف، وهذا كله يقتضي أن الحقيقة والمجاز. يدوران على اعتبار اللغة وواضعها.

والذي تحرر عندي وهو ما رد به الأبهري: أن الفاعل الواقع في التخاطب لا سيما في اللسان العربي هو من تلبس بالفعل وقام به أو كان سببًا قابليًّا عاديًا في الإثبات، أو ما هو في حكمه، وليس هذا على الإطلاق بل إذا كان الشيء موجدًا وفاعلًا حقيقيًّا. وكان له أمر آخر قام به أو نسب له على الوجه المذكور فإنه يسند حقيقة إلى الثاني دون الأول، فإن لم يكن إلا الأول كخلق الله السموات يسند حقيقة إلى الموجد، وإنما الكلام ومحل النزاع هو الأول، ثم السبب القابل ليس المراد به ما هو كذلك حقيقة بل هو وما جرى مجراه، ولذا عول فيه على عادة العرب في عرف تخاطبهم، ومن كان له دراية وطالع أساس البلاغة للعلامة وفقه اللغة للثعالبي وقف على سر هذا "204-206 طراز المجالس".

ج / 1 ص -120- والخلاصة:

أن أسلوب المجاز العقلي قد اختلف فيه العلماء:

1- فسيبويه ومن تابعه يقولون: هو على تقدير محذوف -نقام ليلي أي نمت في ليلي.

2- وأناس يقولون: المجاز في الفعل وحده وهو "نام"... فهو فيه مجاز لغوي لا غير، ويرد عبد القاهر هذا الرأي ردًّا مطولًا في كتابه "الأسرار". ولكن الأبهري اتخذ ذلك مذهبًا في شرحه على العضد، ورد على ذلك الخفاجي في "طراز المجالس".

3- وأخرون يقولون: المجاز في الفاعل وحده وأنه على تشبيهه بالفاعل الحقيقي، وعبد القاهر يرد على ذلك، ولكن الزمخشري يلوح كلامه باعتقاده هذا الرأي، والسكاكي ذهب إليه وحده، وجعله مذهبًا له في التخلص من المجاز العقلي.

4- وعبد القاهر يرى أن المجاز في الإسناد، وأن تشبيه الفاعل غير الحقيقي بالفاعل الحقيقي إنما هو عبارة على العلاقة في هذا التجوز العقلي وأن تقدير المضاف في أسلوب المجاز العقلي صار كالشريعة المنسوخة، فهو غير منظور إليه الآن...

ولا شك أن رأي عبد القاهر هو أمثل هذه الآراء في فهم بلاغة هذا الأسلوب.

حول المجاز العقلي

1- الحقيقة العلمية والمجاز العقلي عند الخطيب من صفة الإسناد لا الكلام، حيث قال: "ثم الإسناد منه حقيقة عقلية ومجاز عقلي"؛ لأن المتصف بالحقيقة والمجاز في الواقع هو ما تسلط عليه التصرف

ج / 1 ص -121- العقلي وهو الإسناد، فاتصاف الكلام بهما بالتبع للأمر العقلي وهو الإسناد، واتصاف الإسناد بهما بطريق الأصالة، فجعل الإسناد معروضًا لهما. وذلك أولى -لكون ذلك بالأصالة- من جعل الكلام معروضًا لهما؛ لأن ذلك بالتبع، وكلام الزمخشري يؤيد الخطيب. أما السكاكي فجعلهما صفتين للكلام حيث قال: "المجاز العقلي هو الكلام المقاد به خلاف ما عند المتكلم إلخ"، والحقيقة العقلية هي الكلام المفاد به ما عند المتكلم إلخ".

أما كلام عبد القاهر من قوله: "مجاز واقع في الإثبات" وقوله "الإضافة في الاسم كالإسناد في الفعل"، فظاهره أن المتصف بذلك هو الإسناد. ولكن قوله في حد الحقيقة في الجملة: "كل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل وواقع موقعه فهو حقيقة"، وفي حد المجاز العقلي فيها: "فكل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه في العقل لضرب من التأويل فهو مجاز"، وقوله "لا يجوز الحكم على الجملة بأنها مجاز إلا بأحد الأمرين"، كل ذلك يوهم أنهما عنده صفتان للكلام لا للإسناد.

ولكن الحق أن عبد القاهر يجعلهما وصفًا للإسناد بالذات فإذا وصف بهما الكلام فباعتبار اشتماله على الإسناد. فرأيه مؤيد لما سبق عن الخطيب، وهذا ظاهر مما نقله ابن الحاجب في رأي الشيخ، عبد القاهر أيضًا من أنه يجعلهما وصفًا للإسناد، كما أن ذلك هو رأي جمهور علماء البلاغة، ولكن السعد يرى أن عبد القاهر يجعلهما وصفًا للكلام كصاحب المفتاح، والحق أن السعد في ذلك قد وهم بظاهر بعض كلام عبد القاهر، فالحق أن عبد القاهر يرى أنهما وصفان للإسناد. ثم قال السعد: "قال الخطيب: وإنما اخترنا أنهما صفة للإسناد؛ لأن نسبة الشيء الذي يسمى حقيقة أو مجازًا إلى العقل على هذا لنفسه بلا واسطة وعلى قولهما "عبد القاهر والسكاكي" لاشتماله على ما ينسب إلى العقل أعني الإسناد، يعني الخطيب أن

ج / 1 ص -122- تسمية الإسناد حقيقة عقلية إنما هي باعتبار أنه ثابت في محله ومجاز باعتبار أنه متجاوز إياه والحاكم بذلك هو العقل دون الوضع؛ لأن إسناد كلمة إلى كلمة شيء يحصل بقصد المتكلم دون واضع اللغة.

فإن ضرب مثلًا لا يصير خبرًا عن زيد بواضع اللغة بل بمن قصد إثبات الضرب فعلًا له وإنما الذي يعود إلى الواضع أنه لإثبات الضرب دون الخروج وفي الزمان الماضي دون المستقبل1 فالإسناد ينسب إلى العقل بلا واسطة والكلام ينسب إليه باعتبار أن إسناده منسوب إليه".. فالسعد يثبت هنا أمرين:

1- أن المجاز في الإسناد عقلي وكذلك الحقيقة في الإسناد عقلية.

2- أن المجاز والحقيقة العقليين راجعان إلى الإسناد.

فالخلاصة أنهما وصفان للإسناد إلا عند السكاكي على أن كلام السكاكي ربما أمكن تأويله، أفلا تراه يقول: المجاز العقلي هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأويل والحقيقة هي الكلام المفاد به ما عند المتكلم من الحكم فيه فيجعل مناطهما الحكم "وهو الإسناد"، ويسميه -تبعًا لعبد القاهر- أحيانًا مجازًا حكميًّا ومجازًا في الإثبات، أفلا يدل ذلك على أن السكاكي يعتبر التجوز إنما هو أولًا في الإسناد، فيكون على هذا وصفًا له، قال السبكي: بل لا يصح من جهة المعنى إلا ذلك.

الحق أن جمهور علماء البلاغة على أن المجاز والحقيقة العقليين إنما هما وصف للإسناد، وما يوهمه كلام السكاكي فمؤول، وتأويل ما يوهمه عبد القاهر في ذلك أظهر في باب التأويل إذ لا يحتاج في تأويله إلى دليل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 راجع 355 و356 أسرار.

ج / 1 ص -123- 2- ذكر الخطيب المجاز العقلي في علم المعاني وذكره السكاكي في علم البيان. أما حجة الخطيب فهي أن المجاز العقلي داخل في تعريف علم المعاني لا البيان فكأنه مبني على أنه من الأحوال المذكورة في تعريف المعاني كالتأكيد والتجريد عن المؤكدات، فهو من أحوال اللفظ -بواسطة أنه من أحوال الإسناد- التي بها يطابق اللفظ مقتضى الحال، قال السعد: "وفيه نظر؛ لأن علم المعاني إنما يبحث عن الأحوال المذكورة من حيث إنها يطابق بها اللفظ مقتضى الحال وظاهر أن البحث في الحقيقة والمجاز العقليين ليس من هذه الحيثية -وإلا لو كانا من الأحوال المعهودة لذكر المصنف الحال التي تقتضي الحقيقة والمجاز كما ذكر في غيره من المباحث الآتية- فلا يكون داخلًا في علم المعاني وإلا فالحقيقة والمجاز اللغويان أيضًا من أحوال المسند أو المسند إليه"، هذا اعتراض قوي من السعد، تخلص منه بعض العلماء بحجة واهية وهي أن الخطيب إنما ذكر المجاز والحقيقة العقليين هنا على طريق الاستطراد لا غير أي لا لمناسبة.

أما حجة السكاكي في ذكرهما في علم البيان فقوية، قالوا: لما كان علم البيان موضوعًا لبيان ما يعرف به كيفية إيراد المعنى الواحد بطريق مختلفة في وضوح الدلالة واختلاف الطرق يكون بالحقيقة والمجازية في الجملة، أوردهما في علم البيان، ولكن الخطيب -كما سبق- راعى أنهما من أحوال الكلام المفيد، باعتبار عروضهما لإسناده الذي به صار مفيدًا، والكلام المفيد تراعى فيه المعاني الزائدة على أصل المراد ليطابق بها الكلام مقتضى الحال، بخلاف الحقيقة والمجاز اللغويين فليسا من أحوال الكلام المفيد بل من أحوال أجزائه، والمفيد من حيث أنه مفيد بالإسناد هو المعروض للمعاني الزائدة على أصل المعنى المراد ليطابق بها مقتضى الحال كما تقدم.

قال ابن يعقوب: لكن يرد على هذا أنهما يكونان من علم المعاني أن ذكرا فيه من حيث المطابقة لمقتضى الحال، ولم يذكرا فيه

ج / 1 ص -124- من تلك الجهة والحيثية بل من حيث تفسيرهما وذكر أقسامهما، وقد يجاب عن هذا بأن تصور حقيقتهما يدرك معه بسهولة ما يذكر في علم المعاني من كيفية الاستعمال للمطابقة لمقتضى الحال؛ لأنه إذا علم أن المجاز يفيد تأكيد الملابسة علم أنه لا يعدل إليه عند اقتضاء المقام لذلك التأكيد مثلًا فكأنه ذكر ولم يصرح به لوضوحه.

الحق مع السكاكي في عدهما من علم البيان، وما قيل عن عدهما في المعاني تكلف محض، ولابن السبكي رأي غريب في توجيه حجة السكاكي في عدهما من البيان، قال: جعلهما السكاكي في علم البيان؛ لأنه كان ينكر هذه الحقيقة وهذا المجاز فلذلك ذكرهما ثم.

3- المجاز والحقيقة العقليان وصف للإسناد مطلقًا سواء كان خبريًّا أو إنشائيًّا ولهذا قال الخطيب "ثم الإسناد منه حقيقة عقلية إلخ" فأتي بالاسم الظاهر دون الضمير -وإن كان المحل للضمير حيث كان السياق أن يقول ثم منه- لئلا يتوهم عوده على الإسناد المقيد بالخبرى في قوله "أحوال الإسناد الخبري، وارتكاب الاستخدام في الكلام خلاف الأصل"، ولا يرد أن المعرفة إذا أعيدت بلفظ المعرفة كانت عين الأولى فما لزم على الإتيان بالضمير لازم على الإتيان بالاسم الظاهر؛ لأنا نقول ليس هذا كليا بل مقيد بما إذا خلا عن قرينة المغايرة. ومما يدل على أن المراد الإسناد مطلقًا الأمثلة الآتية من نحو: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا}. وليس المراد خصوص الخبري كما قد يتوهم من كون البحث في الإسناد الخبري.

والحقيقة والمجاز العقليان يقتضي ذكرهما في الإسناد الخبرى وجعلهما وصفًا للإسناد مطلقًا -إنشائيًّا كان أو خبريًّا- اختصاصهما بالإسناد التام؛ لأن الإنشاء والإخبار وصفان له. مع أنهما لا يختصان بالإسناد التام بل يكونان في الإسناد الناقص كما في إسناد المصدر للفاعل وللمفعول به مثل أعجبني ضرب زيد وجري النهر وأعجبني إنبات الله البقل أو إنبات الربيع البقل.

ج / 1 ص -125- وأجاب الحفيد بأن المراد بالإنشائي والإخباري الإسناد في الجملة الإنشائية والإخبارية سواء كان تامًّا أو ناقصًا فتناول ما ذكر، فالمراد بالإسناد مطلق النسبة مجازًا مرسلًا من إطلاق المقيد على المطلق فإن الإسناد هو النسبة التامة واستعمل في مطلق النسبة: تامة كالإسنادية أم غير تامة مثل الإضافية والإيقاعية. وأجاب المطول بأن المراد بالإسناد أعم من أن يكون صريحًا أو مستلزمًا.

قال الخطيب: والمجاز العقلي غير مختص بالخبر بل يجري في الإنشاء، كقوله تعالى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} وقوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} وقوله تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} وقد سبق إلى ذلك السكاكي "169 المفتاح".

وقال السعد نقلًا عن السكاكي: لما كان تقييده بالمجاز في الإثبات وإيراده في أحوال الإسناد الخبرى يوهم اختصاصه بالخبر؛ لأن الإثبات لا يتحقق في الإنشاء إذ الإثبات يقابل الانتزاع، وكل منهما حكم، ولا حكم في الإنشاء؛ لأنه من قبيل التصورات، قال الخطيب وهو غير مختص بالخبر بل يجري في الإنشاء كما في {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} أي قصرًا عاليًا.

فالمجاز العقلي يدخل في الخبر، ويدخل في الإنشاء ويظهر ذلك في دخوله في أنواع الإنشاء الآتية:

1- الأمر 2- النهي 3- الاستفهام عند ابن يعقوب لا السبكي 4- أما النداء فلا تقدر على دخول المجاز العقلي فيه كما قال السبكي 5- وأما غير الإنشاء الطلبي: فالقسم لا تكاد تقدر عليه كما ذكره السبكي، والعلاقة في المجاز العقلي في الإنشاء كما هي في الخبر، فقد تكون السببية مثل ابن لي صرحًا أو المكانية مثل ليت النهر جار أو الزمانية مثل ليصم ليلك أو الآلة مثل لتقطع السكين إلخ.

ج / 1 ص -126- 4- ومما سبق الإشارة إليه في الملاحظة السابقة نعلم أن المجاز العقلي أعم من أن يكون في النسبة الإسنادية أو غيرها، فكما أن إسناد الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه مجاز، فكذا إيقاعه على غير ما حقه أن يوقع عليه، وإضافة المضاف إلى غير ما حقه أن يضاف إليه؛ لأنه جاز موضعه الأصلي، فالمذكور في الخطيب إما تعريف للمجاز العقلي في الإسناد خاصة أو لمطلقه باعتبار أن يجعل الإسناد المذكور في التعريف أعم من أن يدل عليه الكلام بصريحه كما مر أو يكون مستلزمًا له كما في: {شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} فإنه جعل البين شقاقًا في الآية، وكما في {مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار} حيث جعل الليل والنهار ماكرين، وكما في يا سارق الليلة أهل الدار فإنه جعل الليل مسروقة، وكما في {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ}، حيث جعل الأمر مطاعًا... وكذا فيما جعل فيه الفاعل المجازي تمييزًا كقوله تعالى: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 34]؛ لأن التمييز في الأصل فاعل، قال السعد: واعلم أن المجاز العقلي قد يدل عليه صريحًا كم مر، وقد يكون كناية كما ذكروا في قولهم "سل الهموم" أنه من المجاز العقلي حيث جعل الهموم مخزونة بقرينة إضافة التسلية إليها، فافهم ولا تقصر المجاز العقلي على ما يفهم من ظاهر كلام السكاكي والخطيب، وقال الدسوقي: المجاز العقلي والحقيقة العقلية يجريان في الإضافة مثل أعجبني جري الماء في النهر وجري النهر، وفي الإيقاعية مثل نومت ابني في الليل ونومت الليل أي أوقعت النوم عليه، فلا تختص الحقيقة والمجاز بالنسبة الإسنادية كما يوهمه كلام الخطيب؛ لأنهما كما يجريان في الإسنادية يجريان في الإضافة وهي النسبة الواقعة بين المضاف والمضاف إليه، وفي الإيقاعية وهي نسبة الفعل للمفعول فإن الفعل المتعدي واقع على المفعول أي متعلق به -ولكن يلاحظ أن ظاهر هذا يقتضي أن الايقاعية غير تامة مع أن نسبة الفعل للمفعول إنما تعتبر بعد التمام فكان الأولى الاقتصار على الإضافية إلا أن يقال إنهم التفتوا إلى نسبة الفعل للمفعول في حد ذاته بقطع النظر عن نسبته

ج / 1 ص -127- للفاعل ولا شك أنها غير تامة.. فنحو أعجبني جري الأنهار من النسب الإضافية وهو مجاز عقلي وكذلك أعجبني إنبات الربيع البقل، فهما مجازان في النسبة الإضافية لكن هذا إذا جعلت الإضافة بمعنى اللام وأما لو جعلت بمعنى في فلا يكون مجازًا بل حقيقة، فلا بد من النظر لقصد المتكلم ونفس الأمر فإن كان ما قصده مناسبًا بحسب نفس الأمر فحقيقة وإلا فمجاز. ومجرد مناسبة نوع من الإضافة لا يقتضي أن تكون حقيقة ما لم يقصده.

5- حديث المجاز العقلي أنه تجوز في الإسناد كما قال الخطيب أو تجوز في النسبة أعم من أن تكون إسنادًا أو إضافة أو إيقاعًا مصرحًا بها أو مكنية عنها كما رأى السعد، فما الحكم إذا في:

أ- وصف الفاعل أو المفعول بالمصدر نحو رجل عدل، فإنما هي إقبال.

ب- وصف الشيء بوصف محدثه وصاحبه مثل الكتاب الحكيم والأسلوب الحكيم، فإن المبني للفاعل قد أسند إلى المفعول لكن لا إلى المفعول الذي يلابسه ذلك المسند بل فعل آخر من أفعاله مثل أنشأت الكتاب.. فإن كلامه ظاهر في أن المفعول الذي يكون الإسناد إليه مجازًا يجب أن يكون بما يلابسه ذلك المسند. وكذا ما أسند إلى المصدر الذي يلابسه فعل آخر من أفعال فاعله نحو الضلال البعيد فإن البعيد إنما هو الضال وكذا العذاب الأليم فالأليم هو المعذب فوصف به فعله مثل جد جده، كذا في الكشاف وظاهر أن هذا المصدر مما يلابسه ذلك المسند.

أما الجواب عن الأول فقد قالوا: أنه ليس بحقيقة ولا مجاز؛ لأنه إسناد إلى المبتدأ -والإسناد إليه ليس بحقيقة ولا مجاز عند الخطيب- هذا بعيد، والحق أنه مجاز، كما ذهب إليه عبد القاهر

ج / 1 ص -128- ومن سبقه، وكما يمليه الذوق السليم، قال عبد القاهر في الدلائل: "لم ترد بالإقبال والإدبار غير معناهما حتى يكون المجاز في الكلمة وإنما المجاز في أن جعلتها لكثرة ما تقبل وتدبر كأنها تجسمت من الإقبال والإدبار، فليس المراد تشبيهها بالإقبال حتى يكون تشبيها بليغًا، ولا المراد ذات إقبال ولو كان صحيح المعنى؛ لأن ذلك يفيت المبالغة المقصودة للشاعر وهي كونها لكثرة وقوع الإقبال والإدبار منها صارت نفس كل منهما".

وأما الجواب عن الثاني فهو أن الملابسة أعم من أن تكون بواسطة حرف أو بدونها، وهذه الصورة من قبيل الأول؛ لأن المعنى هو حكيم في أسلوبه وكتابه وبعيد في ضلاله وأليم في عذابه فيكون مما بني للفاعل وأسند إلى المفعول بواسطة، فهو داخل في المفعول ليكون إسناد ما للفاعل له مجازًا؛ لأنه لا يتوصل إليه ذلك المسند إلا بحرف فالمراد بالمفعول ما يتوصل إليه فعل الفاعل بنفسه أو بحرف، فهو مجاز عقلي علاقته المفعولية. فالخلاصة أن الإسناد في:

أ- الإنسان حيوان ليس بحقيقة ولا مجاز عند الخطيب.

ب- هي إقبال وإدبار مجاز عند عبد القاهر والسكاكي وعند السعد.

جـ- كتاب حكيم رده السعد إلى المجاز.

د- نام ليلي أو ليلي نائم الإسناد فيه مجاز قطعًا عند الجميع.

فالخطيب أخرج الإسناد الذي بين المبتدأ والخبر عن أن يكون حقيقة أو مجازًا، ولذلك قال ثم الإسناد منه حقيقة ومنه مجاز ولم يقل إما حقيقة وإما مجاز، وذلك؛ لأن المتبادر من هذه العبارة في تقاسيم الأشياء هو الانفصال الحقيقي "مانعة جمع وخلو معا" أو المانع من الخلو إذ بأحدهما تصير الأقسام مضبوطة، دون المانع.

ج / 1 ص -129- من الجمع إذ لا يعلم به عدة الأقسام قطعًا، فلو أوردت إما هنا لدلت على انحصار الإسناد في الحقيقة والمجاز والمصنف لا يقول به.

قال السبكي: قال الخطيب: إسناد ما ليس فعلًا ولا متصلًا به لا يسمى حقيقة ولا مجازًا مثل الإنسان جسم، وليس كما قال بل كل خبر ففيه الإسناد وما ذكر يؤدي إلى نفي الإسناد؛ لأن من أثبت الحقيقة والمجاز العقليين فتقسيمه الإسناد إليهما منفصلة حقيقية مانعة جمع وخلو فكل إسناد ليس حقيقة ولا مجازًا لا وجود له، ومن وقف على حدي الإسناد الحقيقي والمجازي عرف ذلك، ثم نقول: الإنسان جسم فيه معنى الفعل باعتبار رجوعه إلى الإسناد المعنوي كما قدروا في زيد أسد زيد جريء، وكذلك يقدر في الجميع.

هذا ويجعل ابن قتيبة مثل نبت البقل وطالت الشجرة من المجاز، ومثل قوله في الغرابة كلام صاحب الذريعة من أنه ينفي المجاز العقلي كافة، قال السبكي: وهما قولان غريبان آخذان بطرفي الإفراط والتفريط والحق بينهما.

وقال الدسوقي: الظاهرية يزعمون عدم وقوع المجاز العقلي في القرآن كاللغوي لا يهام المجاز الكذب والقرآن منزه عنه.. والرد عليهم أنه لا إيهام مع القرينة.

وقال ابن السبكي: في أنبت الربيع البقل إذا لم يكن من كافر ولا كذبًا أقوال:

أ- المجاز لغوي في أنبت وهو رأي ابن الحاجب.

ب- المجاز لغوي في الربيع وهو رأي السكاكي.

جـ- المجاز عقلي في الإسناد وهذا رأي عبد القاهر والمصنف.

د- أنه تمثيل فلا مجاز فيه لا في الإسناد ولا في الأفراد بل هو كلام أورد ليتصور معناه فينتقل الذهن فيه إلى إنبات الله تعالى وهو اختيار الإمام فخر الدين. انتهى كلام السبكي، ونضيف إليه رأيًا خامسًا وهو أنه حقيقة، وهو رأي صاحب الذريعة.

الإيضاح في علوم البلاغة

ج / 1 ص -130- نشأة البيان العربي:

1- كان للعرب في حياتهم الأولى ذوق وفيهم طبق، كانوا بهما في غنى عن الشرح والتحليل والتوجيه والتعليل لأحكام النقد ولأصول البيان العربي ومذاهبه، وكذلك كانت أصول البيان بعيدة عن البحث والدراسة والتقرير.

وفي ظلال الحياة الإسلامية اختلطت العناصر، وتمازجت الثقافات، فلقحت العقول، وأصابت الألسنة آثار من اللكنة واللحن، وأخذ أئمة العربية يعملون في صبر وعزيمة في وضع أصول النحو العربي، وجمع مواد اللغة العزيزة.. وصحب ذلك وتلاه دراسات أخرى تتناول البيان العربي وأصوله ومذاهبه بالبحث والتحليل، وأخذت تتكون من تلك الدراسات النواة الأولى للبيان العربي، وظل التقدم الفكري والنضوج الأدبي والعلمي يسير بهذه البحوث والدراسات نحو الكمال المنشود بخطوات كبيرة.. وكانت الثقافة البيانية تنمو حين ذاك بجهود ثلاث طبقات:

1- الأولي طبقة رواة وعلماء الأدب من البصريين والكوفيين والبغداديين، من أمثال: خلف والأصمعي وأبي زيد وأبي عبيدة ويحيى بن نجيم وعمرو بن كركرة، وأستاذهم أبو عمر بن العلاء أعلم الناس بالعرب والعربية1، ومن عامة الرواة الذين لا يقفون إلا على البليغ الساحر من الأساليب كما يقول الجاحظ دون النحويين واللغويين والإخباريين الذين لم يتجهوا هذا الإتجاه2.. وبجوار هؤلاء أئمة الشعراء3 وغيرهم من الخطباء ورجال الأدب الذين تثقفوا بالثقافة العربية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 209/ 1 البيان.

2 224/ 3 البيان.

3 54/ 1 البيان.

ج / 1 ص -131- ب- والثانية طبقة الكتاب الذين لم ير الجاحظ قومًا أمثل طريقة في البلاغة منهم والذين التمسوا من الألفاظ ما لم يكن وحشيًّا ولا سوقيًّا1، ورأى الجاحظ البصر بهذا الجوهر من الكلام فيهم أعم2، وحكم مذهبهم في النقد3، ومثلهم المعتزلة وفرق المتكلمين الذين رآهم الجاحظ فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء4 وكان بعضهم من عناصر عربية وتثقفوا بثقافة أجنبية، والآخرون من عناصر أجنبية تثقفت بالثقافة العربية، مما كان له أثره في فهم أصول البيان وفي توجيه دراسته وبحوثه وفي الدعوة إلى آراء في الأدب توائم ثقافتهم وعقليتهم، وكان بعضهم يلقن مذاهبه الأدبية العامة للتلاميذ وشداة الأدب، كما ترى في محاضرة بشر بن المعتمر المعتزلي م 210هـ في أصول البلاغة5، والتي يقول الجاحظ عنها أن بشرًا مر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة6 وهو يعلم الفتيان الخطابة فوقف بشر فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد فقال بشر: اضربوا عما قال صفحًا ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه في أصول البلاغة وعناصر البيان7، ومن رجال هذه الطبقة: أبو العلاء سالم مولى هشام وعبد الحميد الكاتب أو الأكبر كما يقول الجاحظ8 وابن المقفع وسهل ابن هرون9 والحسن والفضل10 ابنا سهل ويحيى البرمكي وأخوه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 105/ 1 البيان.

2 225/ 3 البيان.

3 240/ 1 البيان.

4 106/ 1 البيان.

5 104/ 1 وما بعدها البيان، 228 وما بعدها صناعتين.

6 يعده الجاحظ من الخطباء الشعراء 55/ 1 البيان.

7 ولبشر كتاب في نظم كليلة ودمنة. 8 151 جـ1 البيان.

9 كان سهل يقول: سياسة البلاغة أشد من البلاغة "144/ 1، البيان، 32/ 3 العقد".

10 ذكر الحصري كثيرًا من بلاغته "16-19 جـ2 زهر".

ج / 1 ص -132- جعفر1 وأيوب بن جعفر وأحمد بن يوسف وعمر بن مسعدة2 وابن الزيات وسواهم.

وكان لهذه الطبقة أثرها في بحث عناصر البيان وبلاغة الكلام. ونستطيع أن نعرف آثار هاتين الطبقتين في دراسات البيان بالرجوع إلى آرائهم المبثوثة في شتى أصول الأدب، والتي يمكننا أن نذكر لك هنا طرفًا منها، وإن شئت فاقرأ جواب صحار لمعاوية حين سأله عن البلاغة3، ويروى قبل هذا بكثير أن عامر بن الظرب سأل حممة بن رافع من أبلغ الناس؟. فقال، من حلى المعنى المزيز باللفظ الوجيز وطبق المفصل قبل التحزيز4 واقرأ تحديد المفضل الضبي للإيجاز5، وتفسير ابن المقفع للبلاغة6، وحوار الشمري لعمرو بن عبيد في البلاغة7، وتعريف الأصمعي للبليغ8، ورأي إبراهيم بن محمد في البلاغة9، وتعريف جعفر البرمكي للبيان10، وتعريف العتابي للبلاغة 11، وتفضيل الجاحظ لرأيه 12، ووصف الرشيد للبلاغة 13، ورأي شبيب بن شيبة في تفضيل بلاغة جودة القطع أو القافية على جودة الابتداء14، ووصف ابن المقفع كلام الأعراب 15، الذين أعجب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وصل الجاحظ بلاغته وأشاد به "85 و91/ 1 البيان، 81/ 2 زهر"، وكان يؤثر الإيجاز "81/ 1 البيان، 177/ 1 الكامل"، ونوه به سهل بن هارون "11/ 2 زهر". "2" نوه المأمون ببلاغته "264/ 3 زهر".

3 81/ 1 البيان، وراجع 18/ 2 الكامل.

4 216/ 1 العمدة، 280/ 2 الأمالي للقالي.

5 81/ 1 البيان.

6 91 البيان، 214/ 1 العمدة، 15-17 صناعتين.

7 90/ 1 البيان، 142/ 1 زهر، 47 الرسالة العذراء.

8 86/ 1 البيان، 220/ 1 العمدة. 9 75/ 1 البيان.

10 85/ 1 البيان، 42-47 صناعتين.

11 90/ 1، و157/ 1 البيان.

12 121/ 1 البيان.

13 264/ 3 زهر.

14 89/ 1 البيان.

15 118/ 2 زهر.

ج / 1 ص -133- الجاحظ ببلاغتهم1 ووصف الحسن بن وهب بلاغة أبي تمام2، وتعريف المأمون للبليغ بأنه من كان كلامه في مقدار حاجته ولا يجيل الفكرة في اختلاس ما صعب عليه من الألفاظ ولا يتعمد الغريب الوحشي ولا الساقط السوقي3، وقول خالد بن صفوان: أبلغ الكلام ما لا يحتاج إلى الكلام إلخ4، وتعريفه للبلاغة بأنها التقريب من المعنى البعيد أو التباعد عن خسيس الكلام والدلالة بالكبير على الكثير، وتعريف ابن عتبة لها: بأنها دنو المأخذ وقرع الحجة والاستغناء بالقليل عن الكثير، وعرفها الخليل: بأنها ما قرب طرفاه وبعد منتهاه، وعرفها إبراهيم الإمام: بأنها الجزالة والإصابة وعرفها ابن المقفع: بأنها قلة الحصر والجراءة على البشر، إلى غير ذلك من شتى هذه التحديدات5، ويقول أبو داود الإيادي: رأس الخطابة الطبع وعمودها الدربة وجناحاها رواية الكلام وحليها الإعراب6 إلخ، ويقول الخليل: كل ما أدى إلى قضاء الحاجة فهو بلاغة فإن استطعت أن يكون لفظ لمعناك طبقًا ولتلك الحال وفقًا وآخر كلامك لأوله مشابهًا وموارده لمصادره موازنة فافعل واحرص أن تكون لكلامك متهمًا وإن ظرف7، ووصية أبي تمام للبحتري تدخل في هذا الباب8، ويقول عبد الملك بن صالح 199هـ: البلاغة معرفة رتق الكلام وفتقه9، وقال ابن الرومي: البلاغة حسن الاقتضاب عند البداهة والغزارة عند الأصالة10، ويقول البحتري: خير الكلام ما قل وجل ودل ولم يمل11،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 110/ 1 البيان.

2 263/ 3 زهر.

3 423 صناعيتين.

4 35 و36 الرسالة العذراء.

5 راجع: 44-46 الرسالة العذراء، 75/ 1 البيان، 2 و3 و22 23/ 3 العقد، 140-150/ 1 زهر، 87-91/ 2 ديوان المعاني، 109، 202 إعجاز القرآن، 213-221/ 1 العمدة.

6 147/ 1 زهر، 51/ 1 البيان.

7 48 الرسالة العذراء.

8 151/ 1 زهر.

9 168/ 3 البيان.

10 41 الصناعتين.

11 36/ 1 المستطرف.

ج / 1 ص -134- ويقول الثعالبي بعد: خير الكلام ما قل وجل ولم يمل1، ويقول ابن الأعرابي: البلاغة التقرب من البغية ودلالة قليل على كثير2.

جـ- وأما الطبقة الثالثة فهي طبقة المفكرين والمثقفين الذين تثقفوا بثقافة أجنبية واسعة، وتأثروا كل التأثر بآداب الأمم الأخرى، وترجموا آراءهم في البيان ومناهجه إلى اللغة العربية، أو ألفوا كتبًا تبحث في هذه الاتجاهات، وهؤلاء قد عاشوا في البيئة الإسلامية وأثروا في النقد والأدب والبيان ودراساته وتطوره تأثيرًا واضحًا كبيرًا، يمكننا أن نذكر شيئًا عن مجهود هذه الطبقة في خدمة البيان.

أهم عمل علمي قامت به هذه الطبقة: هو ترجمة كتابي الخطابة والشعر لأرسطو إلى العربية، فأما الخطابة فهو أصل البلاغة ودراساتها، وقد "أصيب بنقل قديم ونقله إسحاق بن حنين م 298هـ وكذلك نقله إبراهيم بن عبد الله وفسره الفارابي 339هـ" 3، وأما كتاب الشعر فقد اختصره الكندي م 253هـ، ونقله يحيى بن عدي ومتى في القرن الرابع من السريانية إلى العربية4... وقد ألفوا في صناعة الشعر وللكندي رسالة في صناعة الشعر5، ولأبي زيد البلخي كتاب بعنوان "صناعة الشعر" أيضًا6، وكذلك لأبي هفان7.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 218/ 1 العمدة.

2 217/ 1 العمدة.

3 349 فهرست.

4 349 و350 فهرست، وتجد تحليلًا كاملًا للكتاب في "64-136 قواعد النقد الأدبي"، وهو لم يصل إلينا كاملًا وليس من شك في أن للكتاب جزءًا ثانيًا قد فقد "68 المرجع"، ونكاد نجزم أن أرسطو أراد بكتابه هذا أن يكون ردًّا على أفلاطون في رأيه الذي ذهب إليه وهو أن الشعر عمل غير جدير بمقام الذكاء البشري وأنه من أشد بواعث الفساد "71 المرجع"، ويقول أرسطو في أوله: "سأتكلم هنا عن فن الشعر وأنواعه المختلفة ووظائف كل نوع وفي البناء الصحيح للمنظومة وعدد أجزائها وخصائص كل منها" "79 المرجع"، وترجمة ابن سينا وابن رشد "24 وما بعدها مقدمة فقد النثر".

5 359 فهرست.

6 198 فهرست.

7 207 فهرست.

ج / 1 ص -135- وهناك آراء كثيرة مأثورة عن هذه الطريقة في البلاغة وعناصرها وهي متفرقة في شتى كتب الأدب ومصادره، وتجد في البيان والعمدة وسواهما أن صاحب اليونانيين عرف البلاغة بأنها تصحيح الأقسام واختيار الكلام، وعرفها الرومي بأنها وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة، وعرفها الفارسي بأنها معرفة الوصل من الفصل، وعرفها الهندي بأنها البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة إلخ، وعرفها أرسطو بأنها حسن الاستعارة، ويعرفها جالينوس بأنها إيضاح المفصل وفك المشكل، واقرأ البلاغة كما يراها حكيم الهند1، ويقول حكيم: البلاغة معرفة السليم من المعتل وفرق ما بين المضمن والمطلق وفصل ما بين المشترك والمفرد2، ويعرفها سقراط بأنها استشكاف الحقائق3، ويقسمها الكندي ثلاثة أنواع: فنوع لا تعرفه العامة ولا تتكلم به، ونوع بالعكس، ونوع تعرفه ولا تتكلم به وهو أحمدها4، ويقول: يجب للبليغ أن يكون قليل اللفظ كثير المعاني5، وذكر بزرجمهر فضائل الكلام ورذائله فقال: فضائله أن يكون صدقًا وأن يقع موقع الانتفاع به وأن يتكلم به في حينه وأن يحسن تأليفه وأن يستعمل منه مقدار الحاجة، ورذائله بالضد6 إلخ، وقال أبرويز لكاتبه: الكلام أربعة: سؤالك الشيء وسؤالك عن الشيء وأمرك بالشيء وخبرك عنه، فإذا طلبت فأسجع وإذا سألت فأوضح وإذا أمرت فأحكم وإذا أخبرت فحقق، وقال أيضًا: واجمع الكثر مما تريد في القليل7، ولعل ثعلبًا حين ذكر في صدر كتابه "قواعد الشعر" أقسام الشعر وأنها أمر ونهي وخبر واستخبار 8 قد تأثر بذلك الرأي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 78 و79/ 1 البيان، 20-38 صناعتين، 144/ 1 زهر.

2 88/ 2 البيان والتبيين.

3 أصول النقد الأدبي للشايب.

4 219/ 1 العمدة.

5 35/ 1 المستطرف.

6 183، الموازنة.

7 10 أدب الكاتب.

8 ص11 قواعد الشعر.

ج / 1 ص -136- وبعد فقد تعاونت هذه الطبقات في خدمة البيان، ولها جميعًا أثرها في نشأته وتطوره.

2- ومن الكتب الأولى التي ألفت في دراسات البيان وموضوعاته: مجاز القرآن لأبي عبيدة، وكتاب البيان لابن السكيت1 وكتاب الفصاحة للدينوري2، وكتاب التشبيه والتمثيل

للفضل بن نوبخت3، وصناعة الكلام للجاحظ4، وكتاب التمثيل له5، ونظم القرآن أيضًا6 وقواعد الشعر وكتاب البلاغة للمبرد7، وللحراني كتاب في البلاغة8، ولثعلب قوا عد الشعر، ولابن مقسم تلميذه كتاب المدخل إلى صناعة الشعر9، وللمروزي كتاب البلاغة والخطابة10 ولابن الحرون كتاب المطابق والمجانس 11، ولأبي سعيد الأصفهاني كتاب تهذيب الفصاحة12، وللباحث كتاب صنعة البلاغة 13 ولمحمد بن يزيد الواسطي المعتزلي م 306هـ كتاب إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه ولابن الأخشيد كتاب نظم القرآن14 وكذلك لابن أبي داود 316هـ 15 وللحسن بن جعفر كتاب في الرد على من نفى المجاز في القرآن16.

3- وبعد فقد كان البيان العربي في القرن الثالث مزيجًا من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 208/ 1 كشف الظنون. وقد يكون في هذا الكتاب عرض للأدب وألوانه كالبيان والتبيين.

2 116 فهرست.

3 383 فهرست. وهو فارسي خدم المنصور والمهدي.

4 28 الجاحظ لمردم.

5 41 المرجع، 79/ 6 معجم الأدباء.

6 40 الجاحظ لمردم.

7 88 فهرست، 144/ 7 معجم الأدباء.

8 178 فهرست.

9 26 بغية الوعاة.

10 215 فهرست.

11 212 فهرست.

12 197 فهرست.

13 57 و58 فهرست.

14 324 فهرست.

15 52 الفهرست.

16 فهرست أيضًا.

ج / 1 ص -137- ثقافات وآراء مختلفة عربية وغير عربية مؤلفة ومترجمة، ومن حيث كاد في القرن الثاني أن يكون عربيًّا خالصًا. وهنا سؤالان لابد من الجواب عليهما وهما: متى نشأ البيان العربي، وهل تأثر بثقافة أجنبية؟

أما نشأة البلاغة والبيان فالآراء فيها كثير ة. فالدكتور طه حسين يرى أن البلاغة نشأت في عهد متأخر والجاحظ في رأيه أول من اهتم بها وهو مؤسس البيان العربي حقًّا1، ويرى آخر أن نشأة البلاغة قديمة قد سبقت القرآن وتطورت بعده2 وأكثر الفنون الأدبية أخذت شواهدها من القرآن3 وينقد باحث هذا الرأي4.. ومن الضروري أن نفرق بين أمرين، نطق العرب في آثارهم الأدبية بأساليب لغتهم المختلفة من استعارة وتشبيه وكناية ومجاز وقصر وفصل ووصل وطباق وتجنيس إلخ، ومعرفتهم العلمية بأوضاع هذه الأساليب ونواحيها البلاغية، فالأول كان موجودًا عند العرب قبل القرآن وفي عصر القرآن وبعده، والثاني لم يوجد إلا في القرن الثالث الهجري كما ذهب إليه أكثر الباحثين، فقواعد البلاغة قد سنها الفكر أولًا ليجري عليها الأدب بل إن طبيعة الأدب موجودة من قبل سواء بحثت أو لم تبحث5، فالأدب وخواصه الأدبية موجودان من قديم وأما معرفة هذه الخصائص ودراستها وبحثها على أنها علم وأصول وقواعد فلم يوجد إلا بعد القرن الثاني الهجري، "فعلم البلاغة إسلامي لا عهد للجاهليين به"6، والبلاغة باعتبارها فنًّا مدروسًا أي التحليل العلمي للأساليب البلاغية ليست من علوم العصر الجاهلي إنما هي دراسة متأخرة في نشأتها على أنه لا شك كان هناك في العصر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 3 و30 و31 مقدمة نقد النثر. 2 48/ 1 النثر الفني، ومن قبل رأي الصاحبي أن النحو والعروض نشأ من قديم "8 وما بعدها الصاحبي".

3 56/ 1 النثر الفني.

4 16 وما بعدها تأريخ البلاغة العربية مخطوط بمكتبة كلية اللغة.

5 8 قواعد النقد الأدبي.

6 29 تأريخ البلاغة العربية.

ج / 1 ص -138- الجاهلي وصدر الإسلام بعض الخصائص والأساليب البلاغية المتعارف عليها1، وهذا كله مما لا سبيل إلى الشك فيه.

وأما الأمر الثاني وهو هل تأثرت البلاغة العربية في نشأتها الأولى ببلاغة الأمم الأخرى؟ فيمكننا بسط الحديث فيه:

يذكر ابن الأثير أن الشعر والخطابة في الأدب العربي لم يتأثرا بثقافة اليونانية البيانية "فهذا شيء لم يكن ولا علم أبو نواس شيئًا منه ولا مسلم ولا أبو تمام ولا البحتري ولا المتنبي ولا غيرهم وكذلك جرى الحكم في أهل الكتابة كعبد الحميد وابن العميد"، ثم ينفي أن يكون هو قد تأثر في رسائله ومكاتباته بما ذكره علماء اليونان في حصر المعاني ويذكر أنه اطلع على ما كتبه ابن سينا في الخطابة والشعر فلم يوافق ذوقه واستجهله ورأى أن ما ذكره لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئًا2، ويرى باحث محدث أنه كان للبلاغة اليونانية أثر في علم البلاغة العربي3، ويرى باحث آخر أن أرسطو المعلم الأول للمسلمين في علم البيان4، وأن الكتاب والمتكلمين الذين عاشوا في القرن الثاني وأثروا في البيان وتطوره جلهم من الأعاجم5 وأن متكلمي المعتزلة كانوا بتضلعهم في الفلسفة اليونانية من مؤسسي البيان العربي6 وأنه حتى منتصف القرن الثالث لم يوجد إلا بيان عربي واحد كان لا يزال في دور الطفولة وكان خصبًا جامعًا للروح العربي والفارسي واليوناني ثم وجد من ذلك الوقت بيانان: عربي بحت، ويوناني يجهر بالأخذ عن أرسطو، على أن البيان العربي الصرف قد تأثر باليونان7. وترجم كتاب الخطابة في النصف الثاني من القرن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ص4 و5 مجلة الأدب والفن نوفمبر 1945 من مقال للأستاذ جب.

2 20 المثل السائر.

3 177/ 1 ضحى الإسلام.

4 31 مقدمة نقد النثر.

5 ص6 المرجع نفسه.

6 نفس المرجع.

7 11 وما بعدها نفس المرجع.

ج / 1 ص -139- الثالث، وجاء قدامة فاستفاد من كتاب الخطابة وفهم منه كل ما يمكن أن ينتفع به وطبقة على الشعر العربي وكان يجهل كتاب الشعر1 وقد درس قدامة الفلسفة وخاصة المنطق2، على أن تشريع الفلسفة للأدب في رأي الدكتور يظهر أول مرة في "نقد الشعر"3 ثم في "نقد النثر" الذي هو مستمد من آراء أرسطو في الجدل والقياس والخطابة4.

على أننا قد بسطنا القول في ذلك فيما سبق ورأينا أن المشتغلين بالفلسفة قد اشتركوا مع الجماعات الأخرى في خدمة البيان العربي وإنشائه والتأليف فيه وكان اتجاههم الأول إلى البيان اليوناني فأخذوا يدأبون على الإفادة منه في بحوث البيان العربي ودراساته وتلقيحه بما يمكن أن يلقح به من عناصر ومناهج علمية سلكها ومهد سبيلها اليونان، فهم قد استعانوا بطرقهم في دراسة البيان على فهم وتحليل أصول البيان العربي والتأليف فيه.

4- ونحن الآن نعرض عليك خلاصة وافية لأهم الكتب التي تناولت بعض مسائل البلاغة بالبحث والتي ألفت فيها خاصة.

1- جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي: وفي مقدمتها نجد آراء متفرقة في البلاغة والبيان، فهو يعرف الالتفات ويشير إلى أن العرب تخاطب الشاهد مخاطبة الغائب5، ويعرف مجاز الحذف ويفيض في شرحه6.

ب- الجاحظ وكتابه "البيان والتبيين":

والجاحظ إمام الكتاب وشيخ البيان وعلم من أعلام الأدب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 17 المرجع.

2 16 المرجع.

3 16 وما بعدها مقدمة نقد النثر.

4 17 وما بعدها المرجع.

5 ص3 جمهرة أشعار العرب.

6 ص2 المرجع.

ج / 1 ص -140- والنقد، وهو من أئمة المعتزلة، تتلمذ على النظام وسواه من فحول عصره فخرج واسع الثقافة عميق التفكير كثير الإحاطة والإطلاع على شتى المؤلفات والتراجم المنقولة من جميع اللغات إلى العربي.

اتصل الجاحظ باليونان وثقافتهم من كتبهم المترجمة وعن طريق المتكلمين وبمجالسته لكثير من المثقفين باليونانية1، كما أنه حذق الثقافة الفارسية من كتب ابن المقفع وسواه، وتوسع في الثقافات كلها بما كان يقرؤه من الكتب2، وتأثر بخطابة أرسطو إلى حد بعيد ومن المشابهة بينه وبين أصحاب الخطابة في الأسلوب استعماله القياس المضمر وهو المذهب الكلامي عند البديعيين3، ونقد الجاحظ التراجم والمترجمين من اليونانية وخاصة كتاب المنطق بأنه في أسلوب سقيم، فالجاحظ ولاشك قد تأثر "بالخطابة" لأرسطو كثيًرا4، وأنكر باحث آخر أن يكون كتاب البيان متأثرًا بخطابة أرسطو أو صدى له؛ لأن الجاحظ لم يره5 ولم ما يؤيده الدكتور طه حسين6.

ومن البدهي أن الجاحظ ألم بالثقافة الفارسية المترجمة إلمامًا واسعًا، ويبدو لي أنه كان يعرف اللغة الفارسية، ففي البخلاء يحكي الجاحظ كلام بخيل من أهل مرو تجاهل رجلًا زاره من أهل العراق: لو خرجت من جلدك لم أعرفك، قال الجاحظ: وترجمة هذا الكلام بالفارسية "كراز بوستت بارون ببائي نشناسيم"7:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 401/ 1 ضحى الإسلام.

2 387/ 1 المرجع.

3 620 و621 الرسالة عدد 196 من محاضرة للأستاذ حمودة في أسبوع الجاحظ، وإذا كان الجاحظ ينكر أن يكون لليونانيين خطابة "15/ 3 البيان" فليس لك إلا في مقام الرد على الشعوببين وقد يكون الجاحظ لم يطلع على نصوص خطابية لليونان.

4 راجع 621 الرسالة العدد 196.

5 راجع 622 المرجع السابق.

6 ص3 مقدمة نقد النثر.

7 ص19 البخلاء.

ج / 1 ص -141- وأثر ثقافته الفارسية واضح في كتبه وفي مؤلفه "البيان"، أما أثر ثقافته اليونانية فواضح أيضًا في الحيوان وفي كتابه البيان1، قرأ الجاحظ من كتب أرسطو المترجمة كتاب الحيوان واستدل برأي لأرسطو فيه"2" وكان مصدرًا كبيًرا له في كتابه "الحيوان"، والجاحظ يذكر تعريف صاحب المنطق للإنسان كثيًرا3 ويذكر صاحب المنطق وأنه كان بكئ اللسان مع علمه بتمييز الكلام وتفضيله ومعانيه وبخصائصه، 4 ويذكر تعاريف البلاغة عند الأمم المختلفة ومنها اليونان5 ويذكر كتب اليونان في المنطق وأن الحكماء جعلتها معيارًا للتفكير6، ويذكر نوادر ريسموس اليوناني7 ويرى أن لليونان فلسفة وصناعة منطق وليس لفلاسفتهم في الخطابة ذكر8، وأقسام الدالة عند الجاحظ9 هي من تفكير أرسطو، ويذكر أن للفرس رسائلها وخطبها وألفاظها ومعانيها ولليونان رسائلها وخطبها وعللها وحكمها وكتبها في المنطق وللهند حكمها وسيرها وعللها ويرى أنها لا توازن بما للعرب من بيان وبلاغة وصناعة وخطابة10، وللجاحظ رسالة في نقد الكندي11.

ويذكر الجاحظ في البيان "صناعة الكلام" ويعني بها حينًا علم الكلام12، وحينًا آخر البيان13، ويذكر اصطلاحات أخرى كصناعة المنطق14 وصناعة الخطابة ويذكر أحيانًا "أصحاب الخطابة والبلاغة"15.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وذلك في مواضع كثيرة.

2 61/ 1 البيان.

3 69 و128/ البيان.

4 15/ 3 البيان.

5 75/ 1 البيان.

6 7/ 3 البيان.

7 165 جـ2 البيان.

8 15/ 3 البيان، الظاهر أن الجاحظ لم يطلع على شيء من خطابتهم.

9 69/ 1 البيان، وهي في40 الرسالة العذراء، 9 نقد النثر.

10 7/ 3 البيان.

11 42 الجاحظ لمردم.

12 69/ 1 البيان.

13 108/ 1 البيان. ويشيد الجاحظ بصناعة الكلام. "3 جـ4 زهر". 14 79/ 1 البيان.

15 183/ 1 البيان.

ج / 1 ص -142- ومهما يكن فالجاحظ فيما ذكره من أصول البلاغة العربية قريب من روح أرسطو، فدعوته إلى ترك الوحشي والسوقي1 له نظير عند أرسطو الذي دعا إلى "هجر الألفاظ الخسيسة التي لا يستعملها إلا العامة2 وقال "ينبغي ألا تكون الألفاظ سفسافة ولا مجاوزة الحد في المتانة مبلغ الأمر الذي يدل عليه فلا تبلغ درجة العامية ولا تحوج إلى الكلفة المنشوءة"، ودعوة الجاحظ إلى الوضوح3 لها نظير عند أرسطو حيث يذكر "حسن الدلالة ووضوح العبارة وأن الأغراب مستنكره وأنه يجب ألا تمعن في الإغرابات بل يجب أن تكون العبارة بحيث يفهمها الأماثل دون أسقاط الجمهور"، واللحن وخروجه عن حد البلاغة4 موجود في خطابة أرسطو حيث يوجب أن "يكون اللفظ فصيحًا لا لحن فيه"، ويذكر الجاحظ استعمال المبسوط في مواضعه والمقصور "المحذوف الموجز" في مواضعه5، والإيجاز والإطناب يوم الإطناب6، وأرسطو أول من أشار إلى ذلك كله فذكر الإيجاز والإسهاب وأشار إلى أن لكل منهما مقامًا، وعلى أي حال فمرجع هذا التشابه في الأفكار أرجح إن سببه نقل الجاحظ كثيرًا عن الذين ألموا بثقافة اليونان وكتب أرسطو في النقد وعلى الأخص الخطابة والشعر.

ومع ذلك فالجاحظ يجهل كثيرًا من النظريات التي شرحها أرسطو في كتابيه، فأنواع البيان والأساليب البلاغية الأنيقة التي ألم بها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 105 و110 و176 جـ1 البيان.

2 راجع الشفاء لابن سينا وكل المنصوص المنقولة هنا عن أرسطو فهي منقولة من الشفاء.

3 68 و110 و176/ 1 البيان. 4 121/ 1 البيان.

5 51/ 1 البيان، ويشير إلى ذلك في مواضع أخرى في كتابه 141 و147 و161 و180/ 1 البيان"...

6 120 رسائل الجاحظ، وتبعه ابن قتيبة فذكر أن للإيجاز مواضعه وللإطالة مواضعها "مقدمة أدب الكاتب".

ج / 1 ص -143- أرسطو1 لا يشير إليها الجاحظ في بيانه، وهو على العموم لم يطلع على كتابي أرسطو، ولا نشك في أنه أفاد من أستاذه النظام ومن علوم الفلسفة والمنطق التي شاعت في عصره كثيرًا، ونقل عمن اطلعوا على خطابه أرسطو، ويكفينا ذلك التحقيق في هذا المقام.

وبعد فللجاحظ في البيان العربي آثار كثيرة: كرسالته في تفضيل النطق على الصمت2، وكتابه البيان والتبيين.

والبيان "أول كتاب ظهر في الأدب جامعًا لفنون كثيرة من ضروبه3"، ويشيد به أبو هلال4، ويعده ابن خلدون من أركان الأدب5، والكتاب يبحث في فنون الأدب والبلاغة ويتناول النقد واللغة ويأتي على ذكر الخطباء والأدباء والشعراء والمنشئين وآثارهم الأدبية وهو من أجل وثائق الأدب في الجاهلية والإسلام6، ويذكر ابن رشيق أنه لا يبلغ جودة وفضلًا7، ويذكر أبو أحمد العسكري مثلًا من تصحيف الجاحظ فيه8، وينقد ابن شهيد الكتاب9 ورد عليه بعض المعاصرين10 والكتاب يجمع بين دفتيه ا لكثير من بلاغة العرب وسحرهم في البيان كما يجمع آراء كثيرة في أصول النقد الأدبي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كدراسته للاستعارة، وللرباطات "حروف العطف" وأنها تجعل الكلام الكثير كالواحد، وللجناس وسواه، ونظرية أرسطو في الوصل، وهي التي يفيض عبد القاهر في شرحها في الدلائل.. ونصيب في نقده في نقده للكميت في قوله "تكامل فيها الأنس والشنب"؛ لأنه باعد في القول "134/ 1 الأغاني، 355/ 1 الكامل" لا ينم ذلك عن معرفته بأسرار هذه الدراسات البيانية.

2 تجدها 8 148-154 رسائل الجاحظ.

3 80 العصر العباسي للأسكندري.

4 6 و7 الصناعتين.

5 553 مقدمة ابن خلدون.

6 35 الجاحظ لمردم.

7 227/ 1 العمدة.

8 53 و54 التصحيف والتحريف.

9 198/ 1 ذخيرة.

10 50/ 2 للنثر الفني.

ج / 1 ص -144- وقوانين البلاغة العربية وأنواعها وعناصرها ومذاهبها واتجاهاتها وأثرها، سواء كانت هذه الآراء من جمع الجاحظ وروايته أم من رأيه وتفكيره، وحسبك أن تقرأ فيه البلاغة كما تتحدث عنها صحيفة هندية مكتوبة1، أو كما يصورها بشر بن المعتمر2، أو كما يراها ابن المقفع3، ولهذه النصوص قيمة كبيرة، وقد عد بعض الباحثين الجاحظ مؤسس البيان العربي لما جمعه من النصوص التي توضح لنا كيف كان العرب إلى منتصف القرن الثالث يتصورون البيان العربي وتعطينا صورة مجملة لنشأته4.

وفي الكتاب كثير من بحوث البلاغة، فهو يعرف الاستعارة5، ويتكلم على السجع6، ويشير إلى التفصيل والتقسيم7، والاستطراد، والكناية8، والأمثال9، والاحتراس10 والقلب 11 والأسلوب الحكيم12، والجاحظ فوق ذلك هو أول من لقب المذهب الكلامي بهذا الاصطلاح13، ويرى الجاحظ أن البلاغة في النظم لا في المعاني قال: والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي وإنما الشأن في إقامة الوزن وتحيز اللفظ وسهولة المخرج وفي صحة الطبع وجودة السبك 14، وهو ما ذهب إليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 79/ 1 البيان.

2 104/ 1 وما بعدها البيان.

3 91/ 1 البيان.

4 3 مقدمة نقد النثر.

5 116/ 1 البيان.

6 194/ 1 البيان.

7 170/ 1 و91/ 2 البيان، وهو باب من أبواب البديع عند كثير من علماء البلاغة راجع 78 نقد الشعر، 332 صناعتين.

8 180/ 1 و29 و31 و85/ 3 البيان.

9 86 و88 و114 و183/ و224/ 2 البيان.

10 161/ 1 وما بعدها البيان.

11 180/ 1 البيان.

12 201 و202 جـ2 البيان، ويقرب من الأسلوب الحكيم ما يسميه الجاحظ "اللغز في الجواب" "116/ 2 البيان".

13 101 البديع 76/ 2 العمدة.

14 40/ 3 الحيوان.

ج / 1 ص -145- ابن خلدون1، ويقول شيلر، في الفن الشكل هو كل شيء والمعني ليس شيئًا مذكورًا.. وفي البيان نصوص كثيرة استغلها علماء البيان والبديع في اختيار شواهد أساليب البلاغة منها، مما لا داعي إلى ذكره هنا خوفًا من كثرة الإسهاب، والجاحظ يشيد بالإيجاز ويدعو إليه كثيرًا في بيانه2، وفي الحديث عن رسول الله: إذا قلت فأوجز وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف3، ويحث على ترك الوحشي والسوقي وعلى الإفهام والوضوح، وعلى ترك التعمق والتهذيب في صناعة الكلام، وعلى أي حال فالبيان والتبيين أثر أدبي وعلمي نفيس، والجاحظ يده على البيان العربي لا تجحد، ويعده ابن خلدون من السابقين في التأليف فيه4.

وبعد فالجاحظ أظهر من خص البيان بالتأليف وهو أعظم السابقين إلى جمع وتدوين آراء رجال البيان والبلاغة، وله مع ذلك آراء كثيرة وصل إليها بفكرة وذوقه وملكته البيانية الدقيقة الإحساس بالأساليب البلاغية ودقائقها، ولا يضير الجاحظ أن كانت دراساته في كتاب البيان موجزة مفرقة كما يقول أبو هلال5، فهي على كل حال ذات أثر كبير في نشأة البيان.

جـ- وقد كتب بعد الجاحظ كثير من العلماء في مسائل تتصل بالبلاغة والبيان: كالمبرد في كامله، وإبراهيم بن المدبر في الرسالة العذراء، وثعلب في قواعد الشعر، وابن عبد ربه في العقد، وسوى هؤلاء مما يطول الحديث لو فصلنا القول فيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 577 مقدمة ابن خلدون.

2 80 و86 و114 و152 و187 و198/ 2 البيان.

3 5/ 1 الكامل للمبرد.

4 552 مقدمة ابن خلدون.

5 6 الصناعتين.

ج / 1 ص -146- الجاحظ والبيان العربي:

1- كان الجاحظ أستاذ الثقافة الإسلامية في الصنف الأول من القرن الثالث، وكان مجده الأدبي الذائع يعصف بمجد كل أديب، ويدوي في كل أفق، ويرن صداه في سمع كل كاتب وشاعر وخطيب.

وعاش الناس في عصره وبعد عصره عيالًا عليه في البلاغة والفصاحة واللسن والعارضة كما يقول ابن العميد، وعدوا التلمذة عليه شرفًا لا يعدله شرف ومجدًا يدنيهم من بلاط الملوك وتعصب له كثير من رجالات الثقافة الإسلامية في شتى عصورها، فألفوا الكتب في الإشادة به -كما فعل أبو حيان التوحيدي في كتابه تقريظ الجاحظ-، وبالغوا في الإشادة به والثناء عليه حتى حسد ثابت بن قرة الأمة العربية عليه، وحتى كان الخلفاء يهشون عند ذكره ونهج كبار الكتاب نهجه في الثقافة والبيان، وكان فخر الرجل في أن يلقب بلقبه، وأقبلوا على كتبه وأدبه يتثقفون بثقافتها ويرونها تعلم العقل أولًا والأدب ثانيًا وبلغ من اهتمام خاصة رجال الفكر الإسلامي بها أن كانوا يسألون الناس عن المفقود منها في البيت الحرام وعرفات، وكان معاصروه يحذرون خصومته حتى لا يسمهم بميسم الخزي والهوان إلى الأبد، ومن ساء جده منهم فكان هدفًا لسخريته اللاذعة سار على الأجيال صورة مشوهة وإساءة لا يغفرها الزمن كما فعل الجاحظ مع أحمد بن عبد الوهاب بطل رسالته الساخرة المتهكمة "التربيع والتدوير".. وحسبك أن المأمون كان يقرأ تآليف الجاحظ ويثني عليها ويستجديها1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 211 جـ3 البيان نشر السندوبي ط1927.

ج / 1 ص -147- ومجد الجاحظ الأدبي مجد خالص من شوائب العصبية وتمويه السياسة وهو مجد بوأه صرحه الخالد: كفاءته الممتازة وثقافته النادرة وآثاره الفكرية والأدبية الممتعة، فقد عاش الجاحظ محرومًا من كل شيء إلا من مجد الأدب، وشهرة العلم، ولم تبوئه مواهبه مقاعد الوزارة التي كان التي كان يصعد إليها في عهده كثير من الكتاب، ولم تنله كفايته الأدبية منزلة في ديوان رسائل الدولة، ولما صدر فيه أيام المأمون لم يبق فيه غير ثلاثة أيام استقال بعدها منه، أو قل إنه حورب فيها من أجله حذرًا من أن يأفل به نجم الكتاب كما كان يرى سهل بن هارون، الإخفاق في الحياة العامة الذي منى به الجاحظ في عصره كان مما نعاه ابن شهيد عليه في رسالته "الزوابع والتوابع"، ومما جعله يخطئ من يذهب إلى تقديم الجاحظ على سهل بن هارون، وإن كان تحكيم التوفيق في الحياة في وزن الشخصيات وتقديرها ضلالًا وغبنًا.

ولكن ما سر هذا الإخفاق مع هذه الشهرة البعيدة والمجد الذائع؟ رأى ابن شهيد من قبل أن حرمان الجاحظ من شرف المنزلة بشرف الصنعة مع تقدم ابن الزيات وإبراهيم بن العباس إما؛ لأنه كان مقصرًا في الكتابة وجميع أدواتها أو؛ لأنه كأن ساقط الهمة أو؛ لأن دمامته وإفراط جحوظ عينيه قعد به عن الغايات المنشودة، ورأى أن نقص أدوات الكتابة عند الجاحظ شيء قد يكون غريبًا فذهب إلى أن أول أدوات الكتاب العقل وقد تجد عالماً غير عاقل.

أما أن الجاحظ ينقصه أداة -أيا كانت هذه الأداة- من أدوات الكتابة فذلك ما ترده الحقيقة المقررة، فعقل الجاحظ وفنه الأدبي وطبعه الموهوب أعظم من أن يتطرق إليه فيها شك وريب. وأما أن الجاحظ كان قريب الأمل غير بعيد الطموح، لا يتطلع إلى مجد ينشده أو جاه سلطان يناله، فذلك بعيد عن الجاحظ وحياته وروحه الوثاب الطموح. وأما أن دمامة الجاحظ كان لها أثر في هذا الإخفاق

ج / 1 ص -148- فذلك أحد ما نراه من أسبابه الكثيرة حتى أنه ذكر للمتوكل لتأديب بعض ولده فلما رآه واستبشع منظره صرفه وأمر له بعشرة آلاف درهم.

الحق أن الجاحظ كان عربيًّا في روحه ودمه وحياته. وكان يتعصب للعرب في كل شيء حتى في الثقافة والأدب في عصر كان النفوذ والسلطان في الدولة فيه للعناصر الأجنبية لا سيما الفرس، وكثيرًا ما كان ينسى أولو الثقافة والكفايات من العرب إلا من اتصل منهم بحبل وزير أو أمير، والجاحظ مع صداقته الوثيقة لمحمد بن عبد الملك الزيات الوزير م سنة 233هـ، والذي أهدى له كتابه "الحيوان" وكافأه عليه بخمسة آلاف دينار، كان يتخلل هذه الصداقة الشك والجفاء، ولم يستطع أو لم يتسن له، أن يستفيد شيئًا من وراء هذه الصداقة، وقتل محمد بن عبد الملك وجاء بعده عدوه اللدود أحمد بن أبي دؤاد الذي سيق إليه الجاحظ مغلولًا؛ لأنه كان من أصحاب محمد بن عبد الملك، ثم فك قيوده وطلب حديثه وبيانه وثوقًا منه بظرفه وأدبه لا بإخلاصه وولائه.

ثم لا ننس أن مواهب الجاحظ مواهب عالم وأديب لا مواهب رجل من رجال المجتمع والسياسة والحياة العامة، وقد رفعته مواهبه العقلية والعلمية والأدبية مكانًا عليًّا ما كان ينتظر أن ترفعه إليه السياسة مهما خلق في أجوائها، وكان إخلاص الجاحظ للفكر والثقافة أعظم من إخلاصه للحياة نفسها، وكان خوضه في معامع الثقافة والعلم يشغله عن الخوض في ميادين السياسة والاجتماع، وكانت لذته في الدراسة والبحث والتأليف أكثر من لذته في مجد السياسة وسلطانها، فالجاحظ أولًا وقبل كل شيء هو رجل الثقافة والأدب، وهو المعتزلي الذي تتلمذ على النظام ثم عاف تقليد غيره في العقيدة فكان صاحب مذهب ورئيس فرقة من فرق المعتزليين، وهو المتكلم الساحر والكاتب البليغ والخطيب المفوه والعالم الفذ والمؤلف النابه وشيخ العربية.

ج / 1 ص -149- الذي وعى الثقافة العربية وما خالطها من الثقافات في شتى علوم الدين والدنيا، وهضمها وعاصرها زهاء قرن "150-255هـ"، وكان له في صدر شبابه فخر التلمذة على شيوخها في اللغة والأدب وفي علوم الدين والكلام وفي التفكير والمنطق كما كان له فخر صداقة رجال الفكر والسياسة في الدولة، وقد استفاد من وراء هذا وذاك نضوجًا كبيرًا في عقليته وثقافته هيأه لأن يكون محور الثقافة الإسلامية في عصره لا بطلًا من أبطال السياسة والدولة والاجتماع.

ولا يضير الجاحظ أن يكون كما قال بديع الزمان الهمذاني فيه من أحد شقي البلاغة يقطف وفي الآخر يقف1، فقد يجيد الرجل في باب من أبواب الأدب دون باب، ولا يغض ذلك من إحسانه فيما أحسن فيه، ولكن البديع أراد الفخر بنفسه على حساب الجاحظ، وليته وقف عند هذا الحد فلم يرم الجاحظ بأنه كلامه يبعد الإشارات قليل الاستعارات قريب العبارات وأنه منقاد لعريان الكلام يستعمله نفور من معتاصه يهمله، وأنه ليس له لفظة مصنوعة وكلمة غير مسموعة2. وإنما أراد البديع أنه فوق الجاحظ أدبًا وبيانًا، وهيهات!

وثقافة الجاحظ ثقافة واسعة منوعة تحيط بسائر ألوان الثقافات التي مازجت الثقافة الإسلامية في عصره، فهو عالم من علماء الدين، ومتكلم من الطراز الأول للمتكلمين وعالم يحيط باللغة وبيانها وآدابها إحاطة لا تقف عند غاية، وقد خاض الجاحظ في جداول الثقافات الأخرى التي سرت في تيار الثقافة العربية منذ مشرق القرن الثاني الهجري، وعقلية الجاحظ البعيدة التفكير لا نشك أنها أفادت ذلك من أستاذه النظام ومن علوم الفلسفة والمنطق التي شاعت في البيئة الإسلامية في عصر الجاحظ. ولا شك أن عصر الجاحظ، وعقليته وشغفه بالدراسة والبحث، وعكوفه على القراءة، ونشأته بالبصرة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ص82 مقامات البديع -المقامة الجاحظية.

2 ص82 و83 المرجع.

ج / 1 ص -150- وتلقيه اللغة عن الأعراب في المربد والعلماء في حلقات البصرة ومجامعها العلمية، وتلمذته على كثير من أساتذة الثقافة في شتى مناحيها كأبي يوسف القاضي والنظام والأصمعي والأخفش وابن الأعرابي وأبي عبيدة. وأبي زيد الأنصاري، كان له أثره في ثقافة الجاحظ الواسعة الجوانب المتعددة الألوان.

وشخصية الجاحظ تطالعك في أدبه وكتبه من كل جانب وناحية، وهي شخصية رجل الفكر الواثق بشخصيته وعقليته وثقافته، والمؤمن بها، الحريص على كرامته، المعتز بنفسه.. يخاطب الوزراء والعظماء ويراسلهم، فلا يفني شخصيته في شخصياتهم، بل يراهم إخوانه، ويرى له عليهم حق الصداقة ودالة الأخوة، ولا يجبن عن توجيه العتاب واللوم إليهم، وأنت حين تقرأ في كتب الجاحظ ومؤلفاتة تغيب في جو بعيد تطل عليك فيه شخصية الرجل، بسعة ثقافتها وبعد مكانتها، وبتوجيهها الساحر لعقل القارئ وفكره وشعوره حتى ليكاد ينسى أمامها نفسه، ويشرع شعورًا صادقًا أنه قد نقلك من جوه هو إلى جو آخر تشيع فيه روح قوية ساحرة تملك عليك عقلك وعاطفتك، وتروعك بكثرة حفظها وروايتها، كما تروعك بروعة فكرها وجلال بيانها، وتتركك صريعًا في معارك فكرية ترى الجاحظ فارسها المعلم، وترى قلمه البليغ عصا الساحر المتحدى تسترعي السمع والبصر، وتنبهت الفكر والعقل، وتلهب العاطفة والشعور.

والعجيب أن سعة ثقافة الجاحظ وكثرة روايته في تأليفه جعلت كثيرًا ممن لا يفهمون الجاحظ يرونه كاتبًا لا شخصية له، تطمس شخصيات من يروى لهم وينقل عنهم كل أثر لشخصيته، فتقرأ الجاحظ وأنت تقرأ لسواه وتبدو أمام عينك صورة شتى لرجال لا ترى الجاحظ فيهم ولا تلمس آثاره بينهم.

ومنشأ ذلك أن الجاحظ رجل من الخاصة في فكره وفي كتابته وأسلوبه وفي بحثه وتأليفه، فإذا فكر فبعقل الخاصة، وإذا كتب

ج / 1 ص -151- أو ألف فبأسلوبهم ولمن يفكر في مجال تفكيرهم، وليس ذلك؛ لأن الجاحظ "يستمسك بفائدته ويضن بما عنده غيرة على العلم وشحا بثمرة الفهم ولذلك كان كتاب "البيان" موقوفًا على أهله ومن كرع في حوضه، أما الجهال والمبتدئ فلا نفع له من كتابه" كما يقول ابن شهيد، إنما ذلك؛ لأنه كما أرى لا يستطيع إلا أن يفكر تفكير الخاصة، ويكتب بعقلهم وأسلوبهم؛ ولأنه رجل يكتب لنفسه قبل كل شيء ويرضى بشهوته في تدوين عناصر الثقافة الأدبية والعلمية على طريقة كتابه الموسوعات. كما يرى بعض الباحثين المعاصرين1، وما دام الجاحظ كذلك فلن يستطيع أن يفهمه إلا رجل مثله في فكره واتجاهه وثقافته، ولن يتسنى لكثير أن يفهموا الجاحظ وأن يؤمنوا بشخصيته في كتبه ومؤلفاته ما داموا لا يستطيعون مجاراته في نواحي ثقافته العقلية والأدبية. وحسب الجاحظ مجدًا وخلود ذكر أن يكون له كتاب مثل كتاب البيان والتبيين.

2- ألف الجاحظ كتابه "الحيوان" وأهداه إلى صديقه محمد بن عبد الملك الزيات، فكافأه عليه بخمسة آلا دينار. ثم ألف بعده كتاب "البيان" وأهداه إلى أحمد بن أبي دؤاد فأعطاه عليه خمسة آلف دينار، والجاحظ يشير في مواضع متعددة من البيان إلى كتاب الحيوان، وكان لظهور "البيان والتبيين" ضجة كبيرة في الأدب والبيان حتى إنه حمل إلى الأندلس فيما حمل من نفائس المؤلفات.

وكتاب "البيان" ألفه الجاحظ على نمط طريف في التأليف، من كثرة الرواية التي قصد الجاحظ من ورائها أن ينال كتابه الشهرة والإعجاب كما يقول الجاحظ نفسه في كتابه، وينال كتابه الذكر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 49/ 2 النثر الفني.

ج / 1 ص -152- والذيوع، ومن كثرة الاستطراد الذي يستدر به الجاحظ نشاط القارئ وإعجابه كما يقول الجاحظ في تعليله له، والجاحظ حين يعلل عدم ترتيبه للخطباء الذين ذكرهم في كتابه ترتيبًا يتمشى مع التاريخ بعجزه عن تنسيق ذلك فإن ذلك يقابل بتحفظ كبير، فالجاحظ لو أراد لما أعجزه إنما هو مذهبه في الاستطراد والانتقال.

ويبدو من أسلوب الكتاب أن الجاحظ كان يكتب أصوله -أو كثيرًا منها- محاضرات يلقيها على تلاميذه وطلابه وقد يسبغ عليها أحيانًا روحًا توائم بين هذه المحاضرات وبين ما يجب لمن أهدى إليه كتابه من تقدير وإجلال، وأسلوب الكتاب الاستطرادي جعل الجاحظ يعدنا في كتابه بأنه سيذكر الشيء ثم لا يذكره ولا يفي بوعده، وهذا الأسلوب الاستطرادي أيضًا جعل الجاحظ ينقد نفسه في ترتيب فصول كتابه وجعله يرسم منهجه في أجزاء كتابه في آخر الجزء الأول منه، وجعله يضع في أماكن متعددة من كتابه عناوين مختلفة تقابل من القارئ بمزيد الابتسام. فهو يعنون فصولًا بباب البيان وأخرى يسميها باب الصمت وأخرى باب اللحن أو باب الزهد إلى آخر هذه الألقاب التي تعلم أن الجاحظ لم يرد شيئًا منها ولم يضعها إلا للتعزيز بالقارئ واكتساب نشاطه وامتحان ملكاته.

وكتاب "البيان" يجمع بين دفتيه الكثير من بلاغة العرب وسحرهم في البيان كما يجمع آراء كثيرة في أصول النقد الأدبي وقوانين البلاغة العربية، وقد نهج فيه الجاحظ منهجه الساحر، وكتبه بأسلوبه العميق المحكم، ورسم فيه صورًا صادقة لروح الأدب والبلاغة إلى عهده، والكتاب سجل للأدباء والشعراء والخطباء حتى عصر الجاحظ وهو ذو قيمة فذة في تاريخ الأدب والأدباء لا سيما المعاصرين للجاحظ ومن سبقوه بقليل، وقد عني فيه الجاحظ بتدوين المثل الساحرة من الأدب العربي: شعره ونثره، وقاده الاستطراد إلى الإلمام بكثير من مسائل الأدب والنقد والبيان.

ج / 1 ص -153- يبدأ الجاحظ كتابه بمقدمة يذكر فيها البيان وشرفه ويلم فيها بالكثير من عيوبه الفطرية وسواها في استطراد جميل، ثم يشرح البيان ويحلل عناصره، ويذكر البلاغة ومذاهب رجال البيان فيها، ويبين الصلة بين البليغ ومظهره، ذاكرًا بلاغة الخطيب وعناصرها وأدواتها، ملمًّا بالكثير من الخطباء، داعيًا إلى قوة الطبع وشرف المعنى وجمال اللفظ وإلى مراعاة شتى المقامات والأحوال، مبينًا أثر في هذه البلاغة في النفس والوجدان، ويتكلم على الحديث المردد ومن عابه ومن مدحه، وعلى الصمت: من أشاد به ومن ذمه داعيًا البليغ إلى أن لا يتمسك بحكمة الصمت حتى لا يورثه ذلك العي والحصر، ويدعو الأدباء الناشئين إلى أن يعرضوا انتاجهم الأدبي على أولي الذوق والبيان حتى يعرفوا قدر أنفسهم ومنزلتها في البيان، كما يتحدث عن السجع: مطبوعه ومتكلفة وعن منزلته الأدبية، محللًا عناصر الشعر نافيًا أن يكون ما في القرآن من كلمات موزونة شعرًا، ملما بطبقات الشعراء وألقابهم، وينعي على المتقعرين، ويسرد أحاديث النوكي والحمقى سردًا بليغًا، وبذلك ينتهي الجزء الأول من الكتاب الذي أودع فيه الجاحظ جل ما أورده من بلاغة البيان وعناصرها وألوانها ومذاهبها وأسبابها.

أما الجزء الثاني فتحدث فيه عن الخطابة وأقسامها وأثرها، وألم فيه بسحر بلاغة رسول الله في أحاديثه وخطبه، ويخطب كثير من جلة الصحابة والسلف الأولين، وتكلم عن الحوليات وطبقات الشعراء ومذاهب المطبوعين وأصحاب الصنعة، كما تكلم على اللحن واللحانين والنوكي والحمقى والمجانين.

وفي الجزء الثالث يرد على الشعوبية مطاعنها التي قدحت بها في العرب لا سيما ما نعوه عليهم من أخذ العصا والقوس عند الخطابة وفي مواقف الكلام، ورد الجاحظ على الشعوبية فيه كثير من حرارة الإيمان التي أذكت في دفاعه روح الجدل وقوة المناقشة وسعة التفكير. وينقل الجاحظ كثيرًا من حكم النساك ومواعظهم، وخطب الخوارج.

ج / 1 ص -154- وكلماتهم، وسياسة بني العباس ودهائهم، ويتحدث عن رواية الأدب واتجاهات الرواة وطبقاتهم، وعن كلام رسول الله وسحر إيجازه وبعده عن مذاهب العرب في شعرها، وعن أمية رسول الله مع بلاغته وعن مجد الشعر وأثره ومكانته إلى غير ذلك من شتى الآراء ويختم الجاحظ كتابه بهذه الكلمة الجامعة: "وهذا أبقاك آخر ما ألفناه من كتاب البيان والتبيين ونرجو أن نكون غير مقصرين فيما اخترناه من صنعته، وأردناه من تأليفه، فإن وقع على الحال التي أردنا والمنزلة التي أملنا فذلك بتوفيق الله، وإن وقع بخلافها فما قصرنا في الاجتهاد ولكن حرمنا التوفيق والله أعلم".

وبعد فكتاب البيان ثمرة من ثمرات الرجولة المكتملة التي أحاطت بالجاحظ بعد أن ودع شبابه واستقبل عهد المشيب، وهو لذلك آية من آيات الطبع المتمكن والذوق السليم والإحاطة التامة بالبيان وبلاغته. وليس ذلك بكثير على الجاحظ شيخ العربية الفذ وبطلها الكبير.

وأثر "البيان" وقيمته مما يعسر على الباحث تفصيله وإيفاؤه فيها حقه من التقدير والإنصاف ودقة الحكم:

فكتاب البيان أصل من أصول الأدب وهو في أسلوبه وفي نهجه وفي رواياته وفي آرائه الأدبية خير معين لطلاب العربية والمتخصصين في آدابها.

وقيمته في البيان العربي خطيرة لما أودع فيه من شتى البحوث والآراء في البلاغة وعناصرها واتجاهاتها ومذاهبها وألوانها وغاياتها وأثرها سواء كانت هذه الآراء من جمع الجاحظ وروايته وتدوينه أم من ابتكاره ورأيه الشخصي واتجاهه الأدبي المستقل، وفيما جمعه الجاحظ من ذلك الكثير مما لايزال محل إعجاب الباحثين وتقديرهم، وكفى أن تقرأ فيه: البلاغة كما تتحدث عنها صحيفة هندية مكتوبة، أو كما رآها ابن المقفع أو كما تحدث عنها بشر بن المعتمر في صحيفة من تحبيره

ج / 1 ص -155- وتنميقه إلى غير ذلك من شتى الآراء التي كتبها الجاحظ مستقلًّا بالتفكير فيها.

وإذا كان للجاحظ فخر التلمذة والرواية -في كتابه- عن شيوخ العربية وأدبائها كالأصمعي وأبي عبيدة وابن الأعرابي وابن سلام وأبي العاصي، وكإبراهيم بن السندي وعبدالكريم بن روح الغفاري ومحمد بن بشير الشاعر، وكثمامة والنظام، وسوى هؤلاء وهؤلاء، فيجب أن لا ننسى أنه قد كان لعلماء الأدب والبيان الذين جاءوا بعد عصر الجاحظ هذا الفخر نفسه بالتلمذة عليه وعلى كتابه "البيان".

فابن قتيبة المتوفى سنة 276 تبع في كتابه "الشعر والشعراء" الجاحظ في مذهبه الأدبي من إيثار الطبع والرونق والماء والبعد عن التكلف والاستكراه والتعقيد.

ومؤلف نقد النثر يبدو في كتابه أثر الجاحظ، وهو وإن كان نقد "بيان" الجاحظ في أول كتابه إلا أنه قد تأثر به إلى حد كبير، فكلامه على أنواع البيان ونظره إليه نظرة واسعة أعم من البيان بالعبارة هو صنيع الجاحظ في كتابه، ويتكلم على اختيار مواقع الكلام وأوقاته ومناسبته للسامعين ومطابقة الكلام للمقام1 وتلك آراء الجاحظ، ويرى أن اللحن يستحسن من الجواري وأن من الصواب معرفة أوقات الكلام والسكوت وأقدار الألفاظ والمعاني بأنه يلبس المعنى ما يليق به من اللفظ، كما يرى أن من أوصاف البلاغة أن يتساوى فيها المعنى واللفظ، فلا يكون اللفظ إلى القلب أسبق من المعنى ولا المعنى أسبق من اللفظ، وتلك كلها آراء الجاحظ، إلى غير ذلك من كثير من مظاهر التأثر والاحتذاء.

وكذلك دعا الآمدي إلى المذهب الأدبي الذي دعا إليه الجاحظ في كتابه البيان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 96 نقد النثر.

ج / 1 ص -156- ودعوة أبي الحسن الجرجاني في وساطته إلى ترك التكلف والاسترسال مع الطبع1، وإلى تقسيم الألفاظ على رتب المعاني هي دعوة الجاحظ في بيانه، وإن كانت مظاهر التأثر بالجاحظ تبدو معدومة في الوساطة.

وأبو هلال العسكري في "الصناعتين" متأثر بالجاحظ وكثير الإفادة منه ومن كتابه "البيان". وكتاب "الصناعتين" سير في السبيل الذي عبده الجاحظ وإتمام لما بدأ به، وكثير من آراء الجاحظ نجدها في الصناعتين وإن كان للصناعتين ميزة شرحها والتعليق عليها، وقد ينقلها نفسها، وقد يستدل بها، وينقل وصية بشر بن المعتمر ويشرحها، وعلى العموم فالجاحظ هو المرجع الأول لأبي هلال.

وكذلك ابن سنان الخفاجي ينقل في كتابه "سر الفصاحة" عن الجاحظ كثيًرا.

وعبد القاهر الجرجاني شديد التأثر بالجاحظ وكتابيه "الحيوان" "والبيان"، يأخذ عنه كثيًرا من آرائه بدون ذكر له، وقليلًا ما يشير إليه، فكلام عبد القاهر عن البيان يتجلى فيه روح الجاحظ ورأيه في أن فضيلة الكلام لنظمه لا للفظه ولا لمعناه هو روح كلام الجاحظ، وعبد القاهر ورأيه في السجع متأثر بالجاحظ، وبلاغة الألفاظ من أن تكون مألوفة ليست وحشية ولا سوقية دعا إليها الجاحظ قبل عبد القاهر، وتعريف عبد القاهر للبلاغة هو روح الجاحظ في بيانه، وإيثاره من الكلام ما كان معناه إلى قلبك أسرع من لفظه إلى سمعك مما سبقه إليه الجاحظ وينقل عبد القاهر عن الجاحظ كثيرًا، إلى غير ذلك من مظاهر التأثر الكثير.

ولكتاب البيان كذلك أثره في النقد الأدبي فهو سجل حافل للآراء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 30 من كتاب الوساطة.

ج / 1 ص -157- المختلفة في النقد مما لا يزال إلى الآن موضع البحث والإعجاب. والجاحظ الذي نقد مذاهب أصحاب الصنعة من الشعراء وأثره عليها مذهب المطبوعين كان يضع بذلك أساسًا كبيرًا لعلم النقد وتطوره الأدبي. وعصرنا الحديث يؤمن كل الإيمان برأي الجاحظ ويسير في تياره الفكري والأدبي كما يسير على ضوئه في البيان العربي وبلاغته.

-3-

كان للعرب في حياتهم الأولى ذوق وفيهم طبع، وكانوا بهذا الطبع وذلك الذوق وفي مثل بيئتهم البدوية في غنى عن الشرح والتحليل والتوجيه والتعليل لأحكام النقد الأدبي ولأصول البيان العربي ومذاهبه واتجاهاته. كانوا يسمعون النص الأدبي فيوحي إليهم طبعهم بكل شيء، ويرون من يسمع منهم ويأخذ عنهم في غنى بذوقه وطبعه عن كل شيء، ولذلك بقيت أصول النقد والبيان بعيدة عن البحث والدراسة والتقرير.

وفي ظلال الحياة الإسلامية اختلطت العناصر وتمازجت الثقافات وتجاورت الطباع والأذواق، فسرت العدوى في البيئة العربية الخالصة، وظهرت في مظهر من اللكنة المستهجنة ومن الخطأ المردود في اشتقاق بعض الكلمات العربية وتصريفها وفي إعرابها وأشكال الحرف الواجبة لها، فسرت بين علماء الدين والعربية روح من الجد والإقدام والعزيمة التي صممت على تلافي آثار هذه العدوى حتى لا تمس العربية في صميمها وفي كتابها المقدس الحكيم، وظهرت لذلك الدراسات النحوية ثم اللغوية بمظهر جاد لا وناة فيه. بيد أن ذلك لم يثن رجال الأدب عن غاياتهم، ولم يحل بينهم وبين اتجاهاتهم وطبائعهم، فكثر النقد الأدبي ودخلته روح جديدة من البحث والتوجيه والتعليل، وتكونت من ذلك أصول أدبية موجزة لها قيمتها في الأدب والنقد والبيان.

وبعد أن أشيع الفكر الإسلامي رغباته من البحث والدراسة

ج / 1 ص -158- في تقويم اللسان العربي وتصحيح الملكات العربية في النطق واللهجة، اتجه رجال العربية -مع مسايرتهم للدراسات العربية واللغوية- إلى الدراسات الأدبية والبيانية حرصًا على إرضاء ملكاتهم وأذواقهم وتمشيًا مع التطور الفكري والترف العقلي في دراسة العربية وآدابها، ومسايرة لروح البحث المتجلية في الثقافات الأخرى التي امتزجت بالثقافة الإسلامية، والتي كان لها الأثر والخطر في إثارة مشكلات الأدب والبيان، وفي بحث عناصر بلاغة الكلام، وفي توجيه أذهان الكتاب والأدباء إلى المجدي المقبول من الأساليب وطرق الأداء وفي التفكير والمعنى، وفي مراعاة شتى المقامات وسائر الأحوال التي يجب على الأديب والخطيب والكاتب والشاعر مراعاتها والإلمام بها. وكانت عناصر الثقافة البيانية والأدبية إذ ذاك تتجلى في طبقتين:

أ- طبقة رواة الأدب العربي من البصريين والكوفيين والبغداديين، الذين كانوا يرونه إشباعًا لنهم فطرتهم وأذواقهم الأدبية العربية الخالصة. ومن أمثال: خلف والأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد ويحيى بن نجيم وعمرو بن كركرة وابن سلام، وأستاذهم أبو عمرو بن العلاء أعلم الناس بالعرب والعربية1 ومن عامة رواة الأدب والبيان الذين لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيرة والمعاني المنتخبة، وعن الألفاظ العذبة والمخارج السهلة والديباجة الكريمة، وعلى الطبع الممكن والسبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى التي إذا صارت في الصدور عمرتها وفتحت للسان باب البلاغة -كما يقول الجاحظ- دون النحويين الذين ليس لهم غاية إلا كل شعر فيه إعراب، والإخباريين الذين لا يقفون إلا على كل شعر فيه الشاهد والمثل، واللغويين الذين لا يرون إلا كل شعر فيه غريب2. بجوار هذه الطبقة الشعراء الذين طارت شهرتهم في آفاق الأدب العربي أمثال ابن هرمة وبشار وصالح بن عبد القدوس وأبي نواس وأبي العتاهية والسيد الحميري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 206/ 1 البيان.

2 224/ 3 البيان.

ج / 1 ص -159- وأبان اللاحقي ومنصور النمري وسلم الخاسر وابن أبي عيينة ويحيى بن نوفل وخلف بن خليفة ومحمد بن بشير والعتابي ومسلم وأبي تمام1، وغيرهم من الخطباء، ورجال الأدب والبيان، من بيت بني هاشم وبني العباس ومن رجال الفرق الأدبية والسياسية والدينية لا سيما المعتزلة وفرق المتكلمين الذين رآهم الجاحظ فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء2.

ب- طبقة الكتاب الذين لم ير الجاحظ قومًا قط أمثل طريقة في البلاغة منهم، والذين التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرًا وحشيًّا ولا ساقطًا سوقيًّا3 ورأى الجاحظ البصر بهذا الجوهر من الكلام فيهم أعم4 وحكم مذهبهم في نقد5 البيان، وكان جلهم من عناصر أجنبية من الفرس والروم والسريان والقبط من الذين فهموا لغاتهم وبلاغتهم ثم قرءوا البيان والبلاغة العربية وآدابها وأخذوا يحدثون في اللغة العربية مذاهب جديدة في الكتابة والأدب والبيان ويدعون إلى آراء خطيرة تمس الذوق الأدبي وترضي اتجاهات الحضارة والترف العقلي والاجتماعي الذي داخل البيئة العربية منذ بدء القرن الثاني، كما أخذوا يلقنون مذاهبهم الأدبية العامة لتلاميذهم والمشايعين لهم من شداة الأدب كما ترى في محاضرة بشر بن المعتمر المعتزلي م سنة 210هـ في أصول البلاغة التي يقول الجاحظ عنها: إن بشرًا مر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة وهو يعلم الفتيان الخطابة فوقف بشر، فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد أو ليكون رجلًا من النظارة فقال بشر: اضربوا عما قال صفحًا واطووا عنه كشحًا، ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه في أصول البلاغة وعناصر البيان6، ومن رجالات هذه الطبقة أبو العلاء سالم مولى هشام بن عبد الملك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 54/ 1 البيان.

2 106/ 1.

3 105/ 1.

4 325/ 3.

5 240/ 1.

6 104/ 1.

ج / 1 ص -160- وعبد الحميد الكاتب أو الأكبر كما يقول الجاحظ1، وعبد الله بن المقفع وسهل بن هارون والحسن بن سهل والفضل بن سهل ويحيى بن خالد وجعفر بن يحيى وأيوب بن جعفر وأحمد بن يوسف ومحمد بن عبد الملك الزيات وعمرو بن مسعدة وسواهم من كتاب الدولة الذين صعدوا بفنهم وبلاغتهم إلى أرقى المناصب في الخلافة الإسلامية، وكان لهذه الطبقة أثرها في بحث عناصر البيان وبلاغة الكلام ورسم المذاهب الأدبية التي توائم ذوق بيئتهم وعصرهم مما نراه مبثوثًا في كتاب البيان والتي لا تخرج عن أحكام الذوق الأدبي السليم ولا يتعمد أصحابها فيها مذاهب العلماء في الشرح والتحليل.

وظهر الجاحظ والبلاغة العربية تفيض سحرًا وقوة وروعة، سواء في خطب الخطباء وشعر الشعراء ورسائل الكتاب ومحاضرات المحاضرين وجدل المجادلين. كما ظهر وعناصر البيان العربي تكاد تخطو في طفولتها نحو الغاية وتسير في هدى العلم والذوق إلى منزلتها من الوضوح والتمايز والاستقلال. فدخل الجاحظ المعمعة وتوسط الميدان وسار أنبه أبطاله المعلمين. أما الجاحظ في بلاغة بيانه وجلالة أسلوبه وحلاوة منطقه واستقلاله بمذهب خاص في الكتابة والبيان فهو في ذلك ليس له نظير ولا ينكره عليه أحد. وبحق ما وسم بشيخ الكتاب. وأما الجاحظ في وضع أسس البيان وعناصر البلاغة العربية فهذا ما نريد أن نعرف أثره فيه.

خدم الجاحظ البيان العربي خدمة لا تقدر. بالكتابة -في كتبه- في شتى بحوثه وجمع مختلف الآراء والمذاهب في عناصره وألوانه. ولم نعلم أن باحثًا أفرد البيان العربي بتأليف قبل الجاحظ، كما كان كل ما هناك آراء مبثوثة متفرقة لكثر من رجال البيان والأدب وكانت خسارة البيان في عدم تدوينها تكاد تكون فادحة بالغة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- 151/ 1.

ج / 1 ص -161- منتهاها، وما نجده في الكتاب لسيبويه ومجازات القرآن لأبي عبيدة والشعر والشعراء لابن سلام فإنما هو قليل من كثير إذا قيس بما جمعه الجاحظ في كتبه ومؤلفاته، نعم لا يمكن لأي باحث أن ينكر حقيقتين هامتين.

أولاهما أن الجاحظ أظهر من أفرد البيان بمعناه العام بالتأليف في كتابه الكبير "البيان والتبيين"، وثانيتهما أن له فضل جمع مختلف الآراء والمذاهب فيه، والجمع والإحصاء أول خطوات البحث والابتكار والتجديد، ومنزلة العالم في الجمع لا يمكن الغض منها أو الاستهانة بها، وإذا قرأت كتب الجاحظ لا سيما "الحيوان" و"البيان" عرفت منزلة الجاحظ في هذا السبيل. ومن الغريب أن ترى شخصية الجاحظ واضحة فيما يجمعه وضوحها فيما يبتكره من آراء ومذاهب بعكس كثير من العلماء والباحثين.

والجاحظ فوق أثره الكبير في جمع آراء رجال البيان والبلاغة في مذاهبهما وعناصرهما في كتابه "البيان" على الخصوص، له وراء ذلك فضل خاص وجهد مستقل فيه، فقد استقل ببحوث جديدة صبغها بشخصيته واستمدها من عقليته وثقافته وعرفت له وحده دون سواه من الباحثين في البيان العربي وقواعده، وقبل أن نفصل ذلك كله نتساءل: ما هو البيان الذي نريده ويعنيه الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين"؟

لاشك أن الجاحظ لم يعن بالبيان ذكر قواعد البلاغة العربية وأدائها في ألفاظها وأساليبها ومعانيها كما فهم مؤلف نقد النثر ونقد على ضوئه الجاحظ في كتابه البيان حيث يقول: "أما بعد فإنك ذكرت لي وقوفك على كتاب عمرو بن بحر الجاحظ الذي "سماه البيان والتبيين" وأنك إنما وجدته قد ذكر فيه أخبارًا منتخلة وخطبًا منتخبة ولم يأت فيه بوصف البيان ولا أتى على أقسامه في هذا اللسان،

ج / 1 ص -162- وكان عندما وقفت عليه غير مستحق لهذا الاسم الذي نسب1 إليه".

ولا شك أن أبا هلال العسكري كان أدنى إلى الإنصاف حينما نوه في كتابه الصناعتين بكتاب "البيان" وذكر خطورته كمؤلف من مؤلفات البيان العربي، وإن كانت أبحاثه في البيان موجزة مفرقة2، فهو بدون شك ومهما أردنا بكلمة البيان من معان مؤلف من مؤ لفات البيان، ولا يضيرنا بعد ذلك إن كانت بحوثه في البيان مجملة أو مفصلة مجموعة أو مفرقة، ونحن على كل حال في الرأي مع أبي هلال.

ولا شك أيضًا أن ابن شهيد حين ذهب إلى أن كتاب "البيان للجاحظ" لم يكشف فيه مؤلفه عن وجه تعليم البيان ليرى القارئ كيف يكون وضع الكلام وتنزيل البيان وكيف يكون التوصل إلى حسن الابتداء وتوصيل اللفظ بعد الانتهاء وأن الجاحظ استمسك بفائدته وضن بما عنده غيرة على العلم وشحا بثمرة الفهم3 قد ظلم الجاحظ وكتابه وحكم عليه حكمة متأثرًا باتجاهه هو في البيان الذي انتحى فيه ناحية تطبيقية حتى كان كما يقول يعلم الشحاذ الأساليب التي يستدر بها عطف الناس4. فابن شهيد حين أراد أن يكون كتاب "البيان" كتابًا يرسم فيه مؤلفه طرق الأداء ويعبد سبل التعبير عن مختلف الأغراض التي تؤثر في عقول الناس وعواطفهم، قد ظلم الجاحظ مرتين: ظلمه حين تناسى ما كتبه وما جمعه الجاحظ في رسم المذاهب الأدبية المختارة في الأداء والتعبير، وظلمه مرة أخرى حين حكم فيه اتجاهه هو ونقده على ضوئه وقاس كتابه بمقياسه.

وعلى كل فالجاحظ إنما أراد بالبيان ما كشف لك قناع المعنى وهتك الحجب دون الضمير حتى يفضي السامع إلى حقيقته5. وأراد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ص1 نقد النثر.

2 6 و7 الصناعتين.

3 الزوابع والتوابع، والذخيرة.

4 الذخيرة.

5 68/ 1 البيان.

ج / 1 ص -163- ما أراده جعفر بن يحيى من البيان، وهو أن يكون الاسم يحيط بمعناك ويجلي عن مغزاك وتخرجه من الشركة ولا تستعين عليه بالفكرة والذي لا بد منه أن يكون سليمًا عن التكلف بعيدًا من الصنعة بريئًا من التعقيد غنيًّا عن التأويل1، أراد به ساحر الأدب ورائعه من نثر ونظم وأسجاع ورسائل وخطب ومقالات وأحاديث وحجاج، وأراد به أمثل الأساليب وأقوم الألفاظ التي تقرب ما غمض من المعاني وتوضح ما خفي من الأفكار، ذاكرا معها أصحابها من أولى اللسن والخطابة والبلاغة في المنثور والمنظوم، ولذلك كان كتابه أخبارًا منتحلة وخطبًا منتخبة كما يقول مؤلف نقد النثر، والجاحظ لا يكتفي بذكر ذلك ذاك وحده بل يذكر المذاهب الأدبية العامة في عصره وقبل عصره في النقد والأدب والبيان كلما دعا إليها داع أو ألمت بها مناسبة، ويذكر في سياق ذلك آراءه الأدبية التي يؤثرها ويدعو إليها في شيء من الإجمال والإيجاز وفي مواضع متفرقة من كتابه كما يقول أبو هلال.

-4-

ارتاب بعض الباحثين المعاصرين في شخصية في كتابه البيان، ورأى أنها تكاد تكون معدومة فيه2. وهذا موضع مناقشة هذه الفكرة الجائرة.

إن من يمعن في كتاب "البيان" يؤمن معي إيمانًا جازمًا بمدى ما في هذا الرأي من جور على الجاحظ وغبينه لكتابه، فشخصية الجاحظ في كتابه البيان ليست معدومة ولا ضعيفة، بل نراها قوية مهيمنة ونلمسها في ثناياه في مظاهر منوعة:

فهي فيما يذكره الجاحظ من أدب ورواية، وفيما يسرده من آراء رجال البيان العربي في البلاغة وعناصرها ومذاهبها، ويكفي لظهورها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 85 و86/ البيان.

2 ص7 مقدمة نقد النشر.

ج / 1 ص -164- في هذا المظهر صبغ شخصية الجاحظ لهذه الروايات بصبغته، وهضم عقليته لها وإخراجها في أسلوبه الساحر، وفي استطراده الفاتن العجيب وفي سعة تامة وإحاطة كبيرة باللغة والأدب والبيان.

وهي في تعليقه على هذه الروايات والآراء، وفي نقده لها وحكمه عليها، ولن نحصي من ذلك نقده للآراء العامة في الأدب وما يتصل به، مما نراه في تعليقه على رأي الأهتم في الأحنف بن قيس1، وفي موافقته لرأي إياس في حمد إ عجاب الرجل بقوله2، وفي تعليقه على الحكمة القائلة: قيمة كل امرئ ما يحسنه3، وفي ثنائه على كلمة بليغة لمحمد بن علي4، وفي نقده لرأي في تعليل تهيب عمر في خطبة النكاح5، وفي مناقشته لكلمة عن ابن الزبير 6، وفي نقده لمن يستحمق المعلمين ورعاة الغنم7، وفي نقده لرأي من يضع الحبشة مع الأمم العريقة في الثقافة8، وفي نقده رواية خطبة رويت لمعاوية9 إلى آخر ما فيه من التعليق والنقد في هذا الباب. إنما نريد نقده لما يتصل بالبيان من آراء ومذاهب تمس صميم البلاغة العربية، ولا بأس أن نعد بعض هذه التعاليق والنقود.

أنشد خلف الأحمر الجاحظ:

وبعض قريض القوم أولاد علة يكد لسان الناطق المتحفظ

فعلق الجاحظ على هذا البيت تعليقًا جميلًا، فالشعر "إذا كان مستكرهًا وكانت ألفاظ البيت من الشعر لا يقع بعضها مماثلًا لبعض كان بينها من التنافر ما بين أولاد العلات... وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج، فيعلم بذلك أنه أفرد إفراغًا جيدًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 57 و58/ 1.

2 82/ 1.

3 73/ 1.

4 74/ 1.

5 92/ 1.

6 192/ 1.

7 174/ 1.

8 143/ 1.

9 57/ 2.

ج / 1 ص -165- وسبك سبكًا واحدًا، فهو يجري على اللسان كما يجري على الأذهان1" وذلك تقرير لبلاغة الألفاظ والنظم ولتنافر الحروف والكلمات سبق إليه الجاحظ عبد القاهر وشيعته والسكاكي ومدرسته بقرون.

ويرى بليغ أن بلاغة الكلام في أن يسابق معناه لفظه ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك، والجاحظ يثني على هذا الرأي ويجتبيه2.

ويرى ابن المقفع أنه يجب أن يكون في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته "91/ 1 بيان"، فيشرح ذلك الجاحظ ويدلي برأيه فيه 3، مقررًا بلاغة الاستهلال تقريرًا ليس بعده من غرابة.

والجاحظ جد معجب ببلاغة الكتاب، يتجلى ذلك في نقده لمذهبهم الأدبي في الكتابة والبيان4، وهو يرى أن حديث الأعراب الفصحاء بالغ الغاية في الامتاع، وليس أفتق للسان ولا أجود تقويمًا للبيان "5" منه، كما يعجب ببلاغة المتكلمين والنظارين ويراهم فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء6.

وذكر الجاحظ رأي إبراهيم بن محمد في البلاغة وأنه يكفي من حظها ألا يؤتي السامع من سوء إفهام الناطق ولا الناطق من سوء فهم السامع، ثم أشاد به وأثنى عليه "75/ 1".

واختلف علماء البيان في الخطابة وهل يستجاد فيها الإشارة والحركة؟ فذهب النظام إلى استجادتها، وجعلها رجل كأبي شمر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 62/ 1.

2 91/ 1.

3 92/ 1.

4 105/ 1 و225/ 3.

5 110/ 1.

6 106/ 1.

ج / 1 ص -166- عيبًا في الخطيب، والجاحظ يذكر ذلك ويميل إلى رأي أستاذه النظام محللًا رأي أبي شمر ويرجعه إلى صفاته الخلقية والنفسية من الوقار والتزمت "69 و77 و78/ 1".

و يختلفون كذلك في شيء آخر يمس الخطيب والبليغ، فهل السمت والجمال من تمام آلة البليغ أم لا؟ يورد الجاحظ ذلك ويذكر بتفصيل رأي سهل بن هرون في عدم عدهما من أدوات البلاغة "76/ 1"، ولا شك أن الجاحظ كان يدافع عن نفسه بما أورده وفصله في ذلك الموضوع.

وكثرة الكلام يراها بليغ كاياس خيرًا وبلاغة، ولكن الجاحظ يرد عليه؛ لأن للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية "82/ 1"... وكذلك إعادة الحديث من العلماء من ذمة ومنهم من حمده ومنهم من جعل لحمده مواضع وأسبابًا، والجاحظ يتكلم في ذلك ويدلي برأيه فيه ويجعله على قدر المستمعين له ودرجاتهم العقلية، ويعلل سر ما في الذكر الحكيم من إعادة وتكرير "84 و85/ 1".

والجاحظ يروي في وصف ثمامة بن أشرس لبلاغة جعفر بن يحيى "85/ 1"، ويصف هو بلاغة ثمامة "89/ 1"، ويصف بلاغة بليغ يحذر من سحر الكلام وأثره ويدعو إلى اجتناب السوقي والوحشي وإلى أن لا يجعل الأديب همه في تهذيب الألفاظ وشغله في التخلص إلى غرائب المعاني "176 و177/ 1" والجاحظ هو نفس هذا البليغ، وكثيرًا ما يتكلم فيخرج آراءه في معرض الرواية عن سواء لغرض سنعلمه بعد حين، وذلك كله يستحق الدراسة والإمعان؛ لأنه يمس عناصر البيان وبلاغته.

والخطبة يستحسن أن يكون فيها أي من القرآن أو بيت من الشعر أم لا؟ يذكر ذلك الجاحظ ويروي مذاهب البلغاء فيه "93/ 1" ويذكر أن منها الطوال ومنها القصار، وأن لكل مواضع تليق به "19/ 2".

ج / 1 ص -167- ويرى العتابي أن كل من أفهمك حاجته فهو بليغ، فيذكر الجاحظ ذلك ويحلله "121/ 1".. والصمت يحمده قوم ويذمه قوم "143-146، 183/ 1" والجاحظ يقف من هؤلاء وهؤلاء موقف الناقد الحصيف، فيناقش رأي من آثر الصمت "147، 148، 184، 185، 205 جـ1" ويدلي برأيه هو في قوة وروعة، داعيًا إلى ألا يتمسك البليغ بحكمة الصمت مادام يجد القوة والمقدرة والملكات البيانية المواتية "147/ 1".

والشاعر أو البليغ قد يستطيع فنا من فنون البيان ويجيد فيه دون فن آخر، ورأى بعض الشعراء حين سئلوا عن عدم إحسانهم في بعض أنواع الشعر وفنونه أن ذلك ليس مرجعه قصورًا في ملكاتهم أو عجزًا في مقدرتهم الأدبية، والجاحظ يناقشهم ويفيض معهم في الجدال ذاهبًا إلى أن الرجل قد يكون له طبع في فن من فنون الأدب دون فن وفي باب دون باب "51، 150، 151 جـ1، 259 جـ2".

وبلاغة المتقعرين من اللغويين والنحويين يستسمجها الجاحظ وينقدها ويرى أن نهجهم فيما ليس من أخلاق الكتاب ولا آدابهم "240/ 1".

وللشعوبيين رأي في العرب وبيانهم، والجاحظ لا يدعهم دون أن يحاسبهم ويناقشهم ويرد عليهم في قوة وحرارة دفاع، وفي كل ما أخذوه على العرب، لا سيما ما يمس البيان والبلاغة بوجه خاص "15 و16/ 3".

ويرى بعض الباحثين أن أداة الكتابة وقريض الشعر كانت في رسول الله "ص" معدومة، فيناقش الجاحظ رأيهم ذاهبًا إلى أنها كانت في رسول الله تامة، ولكنه "ص" صرف تلك القوى إلى ما هو أزكى بالنبوة، وأراد أن لا يكون للشاعر متعلق عما دعا إليه، وأنه "ص" لما طال هجرانه لقرض الشعر وروا يته صار لسانه

ج / 1 ص -168- لا ينطبق به، والعادة توأم الطبيعة "230 و231/ 3"، ونحن نستجيد رأي الجاحظ كل الاستجادة. وعلل الجاحظ أمية رسول الله وعدم قرضه الشعر في إفاضة وقوة بيان "228/ 2"، وأدلى برأيه في قوله صلى الله عليه وسلم: نحن معشر الأنبياء بكاء "276/ 3".

وأخيرًا فهذه هي شخصية الجاحظ في بعض ما ناقش فيه آراء رجال البيان وهي لعمري شخصية قوية مهيمنة لا تدعك حتى تؤمن بالجاحظ وثقافته ومذهبه واتجاهه في الأدب والبيان.

وللجاحظ فوق ذلك كله شخصية الباحث في أصول البيان العربي:

1- فالجاحظ أظهر من تكلم في البيان وحاجته إلى التمييز والسياسة والترتيب والرياضة وإلى تمام الآلة وإحكام الصنعة، وإلى سهولة المخرج وجهارة المنطق وتكميل الحروف وإقامة الوزن وأن حاجة الكلام إلى الحلاوة كحاجته إلى الجزالة. وأن ذلك من أكبر ما تستمال به القلوب وتزين به المعاني "30/ 1" ولذلك فقد تحدث عن عيوب المنطق وآفات اللسان "31 و33 و44-46 و58-62 و66 و67 جـ1"، وتكلم على تنافر الحروف والألفاظ "62-64 جـ1" ونادى بضرورة تجنب البليغ ألفاظ المتكلمين "106-108 جـ1" وبترك الوحشي والسوقي "110، 176 جـ1" وكراهة الهذر والتكلف والتعقيد والتقعير والإسهاب والفصول "21 و141 و239 جـ1"، ونفي الكلام الملحون عن أن يكون من البلاغة "121-124 جـ1" متحدثًا عن اللحن واللحانين "155-154 جـ2".. وذكر البيان وأن مداره على الإفهام "68/ 1"والوضوح مع شرف المعنى وبلاغة اللفظ وصحة الطبع والبعد عن الاستكراه والتكلف ومع قوة التأثير وسحر البيان "73 و75 و89 جـ1" وأن يكون الكلام موزونًا أصيب به مقدار الحاجة "161 و62 جـ1" مع العارضة واللسن "130، 163 جـ1" ومع ترك الإسراف في الصنعة والتهذيب "176/ 1" ومع استعمال

ج / 1 ص -169- المبسوط والمقصور في موضع البسط والقصر "281/ 2" ومع الطبع المتمكن والديباجة الكريمة والماء والرونق "224 و225 جـ3" ومتى شاكل اللفظ معناه وأعرب عن فحواه وكان لتلك الحال وفقًا، ولذلك القدر لفقًا، وخرج من سماجة الاستكراه وسلم من فساد التكلف والفضول والتعقيد، حبب إلى النفوس واتصل بالأذهان وهشت إليه الأسماع وخف على الألسن وشاع في الآفاق. وكثيرًا ما يكرر الجاحظ اصطلاحات أدبية خاصة مثل "صناعة الكلام" "69 و220 جـ1" وصناعة المنطق "48 و67و 209 و242 جـ1" وهو يعني بذلك هذا اللون الخاص من البيان البلاغي الذي يرسم مناهج الأداء.

وعني الجاحظ أكثر ما عني بالخطابة فأطال الكلام في أوصافها وعناصرها وأدواتها ومظاهرها وفي هيئة الخطيب وسمعته، وذكر عيوبها وآفاقها، ودعا الخطيب إلى مراعاة شتى المقامات والأحوال، وإلى أن يطيل حيث تجب الإطالة ويوجز حيث يجب الإيجاز، وذكر أكثر أعلامها ورجالها حتى عصره، كما تكلم على رسالة الخطيب وأثرها في نفسه، وأورد من الخطب القصار والطوال الكثير الرائع.

وتكلم على النثر والمحادثة والكتابة: بلاغتها وعناصرها ومذاهب الكتاب الأدبية فيها، وعلى سحر الحديث المعاد، والسجع مطبوعة ومتكلفة وبلاغة المطبوع منه، وعلى اللحن وبدء ظهوره واللحانين، وكثير من المثل في لحنهم، وذكر الحكم والمواعظ والزهد والدعوات السياسية والدينية وكثيرًا من مثلها، وتكلم على رواية الأدب وطبقات الرواة من نحويين ولغويين وإخباريين وأدباء واتجاهاتهم في الرواية.

كما ذكر الشعر وأثره وخطره وألوانه وطبقات الشعراء، وتحدث عن مذاهب المطبوعين وأصحاب الصنعة منهم، وعن الحوليات ورجالها، وذكر بعد كلام الله ورسوله عن الشعر ومكانة الشعر والشعراء في الجاهلية وكيف غلبته الخطابة أخيرًا بعد التكسب بالشعر وكثرة الشعراء، وحتم على الأدباء الناشئين عرض ثمراتهم الأولى على أولى

ج / 1 ص -170- العلم ورأى أن اجتماع الشعر والرجز والخطابة قليل، وقلما ينبه الإنسان في أكثر من فن واحد منها، وأن الشعر والغناء والنادرة مما يستجاد أطرافها دون أوساطها، وتكلم على استواء الشاعرية واختلافها. إلى غير ذلك مما يتصل بصميم البيان، ومما تراه متفرقًا في الأجزاء الثلاثة من كتاب البيان.

2- ودعوة الجاحظ في كتابه "البيان" -وفي مواضع متفرقة منه لا سيما الجزء الأول من كتابه الكبير- إلى مذهب أدبي جديد مستمد من عقليته وثقافته وبيئته: هي المظهر القوي من مظاهر شخصية الجاحظ الواضحة في كتابه البيان والتبيين. ويمكننا إرجاع هذا المذهب إلى عناصره الأولى من: سحر اللفظ وتلاؤم الحرف، ووضوح المعنى وترك التكلف والتعقيد والإغراب والوحشية والسوقية، ومراعاة المقام وإصابة الغاية مع الحذق والرفق والتخلص إلى حبات القلوب وإصابة عيون المعاني في سحر إيجاز، ومع البعد عما يكره من مظاهر مذمومة في البيان مما يتعلق بخلق البليغ وخلقه أو طبعه وزيه، ومع الحرص على صبغ ذلك ذلك كله بصبغة الرجل وأسلوبه وظهور شخصيته وأثره فيه. ومع مسايرة الأديب للحركة الفكرية العامة في بيئته، ومع الحرص على إيثار نشاط السامعين والقراء والاحتيال عليه. بالفكاهة الجميلة، والاستطراد الساحر، وبراعة الأسلوب وسحره وقوته، والرواية الكثيرة لأعلام الأدب والبيان التي تلقي في روع السامع والقارئ روح الهيبة والإعجاب بهم وبالمؤلف، وبمناقشة الآراء التي تستحق المناقشة والنقد مما تجعل السامع والقارئ متطلعًا مسايرًا للمؤلف في اتجاهاته الفكرية والأدبية، إلى غير ذلك من عناصر هذا المذهب الأدبي التي ترجع إلى المعنى والأسلوب دون حرص على ترف البيان أو طلب لشتى ألوان البديع إلا إذا طلبها الطبع واستدعاها المقام. ومن الجدير بالملاحظة أن كثرة الرواية في كتاب الجاحظ التي رآها بعض الباحثين المعاصرين من أسباب ضعف شخصيته إنما هو غرض قصد إليه الجاحظ وأراده، ليشعر القارئ بروحه ويؤمن

ج / 1 ص -171- بما يوجهه المؤلف إليه من آراء وأفكار، وليكتسب به رضاه وتقديره وإعجابه. ولا أحيلك في فهم مذهب الجاحظ ذلك على صفحة من كتابه، فاقرأ أي صفحة وعلى الأخص الجزء الأول من هذا الكتاب، فتؤمن معي بما ذكرت.

3- وقد ظهر الجاحظ في عصر شاع فيه اتجاهان أدبيان مختلفان: اتجاه يرمي إلى الظهور بمظهر البداوة التقليدي في الأداء والتعبير فيؤثر الغريب من الألفاظ والعنجهي من الأساليب متناسيًا روح العصر وذوقه، واتجاه آخر تأثر بالحياة السياسية والاجتماعية وبألوان الحضارة في العيش والتفكير، فمال إلى رقة الأسلوب وسهولته، مع حرص على إرضاء الطبع والذوق، وشاهد الجاحظ هذه التيارات الفكرية والأدبية المنوعة وعاصرها ولكنه مال بطبعه وذوقه إلى الاتجاه الأخير، وكتابه البيان كله دعوة إلى هذا الرأي، فهو حينًا يشيد بأدب الكتاب ومذهبهم في البيان "105/ 1"، وحينًا يكرر الدعوة إلى الوضوح والإفهام ومسايرة الذوق والطبع "73 جـ1 و20 جـ2 و225 جـ3"، وحينًا ينقد مذاهب الصنعة في الشعر "54، 150 جـ1 و21، 25 و26 جـ2" وحينًا يدعو إلى ترك التكليف والتعقيد والتقعير وإيثار الأساليب السمحة الكريمة الساحرة "110 جـ1 و20، 21 جـ2 و224 جـ3".

4- وتكلم الجاحظ عرضًا على ألوان كثيرة من البيان، وحال كثيرًا من أساليبه البيانية:

ذكر البديع، حينما ذكر بعض مثله وأساليبه، ورأى أنه مقصور على العرب، ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة، وذكر كثيرًا من الشعراء الذين أكثروا منه في شعرهم، "ورأى أنه لم يكن في المولدين أصوب بديعًا من بشار وابن هرمة "242 جـ3، 54 و55 و1".. وتكلم على ألوان من البيان من سجع ومزدوج وقصيد وإجازة "16 جـ3". فأما السجع فقد تكلم عليه الجاحظ بتفصيل وذكر آراء رجال البيان فيه

ج / 1 ص -172- وآثر المطبوع منه "194 و195 جـ1" وأما المزدوج من الكلام فقد ذكر له مثلًا في باب صغير عقده له "96 جـ2" ومن مثله التي ذكرها الحديث: "اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب". وقول مالك بن الأخطل في الشاعرين "الفرزدق وجرير" جرير يغرف من بحر والفرزدق ينحت من صخر.

وتكلم على الاستعارة وعرفها حين ساقه الكلام إلى ذكر مثل من مثلها ورآها تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه "115 و116 جـ1"، ويرجع بعض الأساليب إلى الإستعارة "راجع 192/ 1".. وذكر التفصيل والتقسيم حين مر بأسلوبين من أساليبهما "170/ 1، 91، 92/ 2".. وتكلم على الاستطراد وبلاغته وأثره في التأليف والكتابة "138/ 1، 105/ 3"... وذكر كثيرًا من مثل الكناية وحللها "180/ 1، 31 جـ3".. كما ذكر كثيرًا من الأمثال التي ضرب بها العرب المثل "86، 183 جـ1".. وتكلم على جودة الابتداء وجودة القطع والقافية -أي حسن خاتمة الكلام والشعر- "89 و155 جـ1".. وعقد الجاحظ بابا قال فيه: ويذكرون الكلام الموزون ويمدحون به ويفضلون إصابة المقدار، وذكر كثيرًا من مثله، وهذا هو باب الاحتراس الذي ذكره البيانيون.. وحلل الجاحظ كثيرًا من الأساليب البيانية البليغة "راجع 163، 166 جـ1 و201 جـ2" تحليلًا بيانيًّا احتذى حذوه فيه العلماء، وذكر مثلًا رائعة للتشبيه "229/ 2" وأشار إليه في الجزء الثالث ص243، وعقد الجاحظ فصلًا من فصول كتابه عنونه بباب اللغز في الجواب "216/ 2"، والمذهب الكلامي نوع من البديع كان الجاحظ أول من لقبه1 به، والجاحظ جد خبير بمذهب الايجاز وكثيرة الدعوة والإشارة إليه "81 جـ1 و198 جـ2" وأشار الجاحظ إلى أسلوب القلب "180 جـ1"، وإلى سواه من الأساليب التي يعني بها علماء البلاغة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 راجع البديع لابن المعتز نشر محمد خفاجي، 76/ 2 العمدة.

ج / 1 ص -173- وبعد: فتلك آراء الجاحظ البيانية الخاصة به، وهي وإن كانت دراسات موجزة مفرقة إلا أنها على كل حال ذات أثر كبير في خدمة البيان العربي.

أول صحيفة في البلاغة لبشر بن المعتمر:

عن البيان والتبيين للجاحظ.

مر بشر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة السكوني الخطيب وهو يعلم الفتيان الخطابة فوقف بشر، فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد أو ليكون رجلًا من النظارة، فقال بشر، اضربوا عما قال صفحًا واطووا عنه كشحًا.. ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه، وكان أول ذلك الكلام:

خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جواهر وأشرف حسبًا، وأحسن في الإسماع. وأحلى في الصدور وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وغرة، من لفظ شريف ومعنى بديع..

واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة وبالتكلف والمعاودة. ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكن مقبولًا قصدًا وخفيفًا على اللسان سهلًا، وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه.

وإياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد مستهلك معانيك ويشين ألفاظك، ومن أراغ معنى كريمًا فليتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف، اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالًا منك قبل أن تلتمس إظهارهما وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما.

ج / 1 ص -174- وكن في ثلاث منازل: فإن أولى الثلاث: أن يكون لفظك رشيقًا عذبًا وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا قريبًا معروفًا، إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف أن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال. وكذلك اللفظ العامي والخاص، فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك وبلاغة قلمك ولطف مداخلك واقتدراك على نفسك أن تفهم العامة معاني الخاصة وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام.

فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسمح لك عند أول نظرك وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها ولم تصر إلى قرارها وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها نافرة من موضعها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاط قرض الشعر والموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور، لم يعبك بترك ذلك أحد، وإن أنت تكلفتها ولم تكن حاذقًا مطبوعًا ولا محكمًا لسانك بصيرًا بما عليك أو مالك، عابك من أنت أقل عيبًا منه، ورأى من هو دونك أنه فوقك.. فإن ابتليت بأن تتعاطى الصنعة وتتكلف القول ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة وتعصي علبك بعد إجالة الفكرة فلا تعجل ولا تضجر ودع بياض يومك أو سواد ليلك وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة إن كانت هناك طبيعة أو جريت من الصناعة على عرق.

فإن تمنع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل عرض ومن غير طول إهمال، فالمنزلة الثالثة أن تتحول من هذه الصناعة على أشهى الصناعات إليك وأخفها عليك، فإنك لم تشتهه ولم تنازع إليه إلا وبينكما

ج / 1 ص -175- نسب، والشيء لا يحن إلا إلى ما يشاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات؛ لأن النفوس لا تجود بمكنونها ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة كما تجود مع المحبة والشهوة، فكذا هذا، قال بشر: فلما قرئت على إبراهيم قال لي، أنا أحوج إلى هذا من هؤلاء الفتيان.

مؤلفات متأخرة في البلاغة:

1- من شروح تلخيص المفتاح للخطيب: شرح للخلخالي م745هـ، وشرح للزوزني م 792، وشرح لابن عربشاه م 945، وقد شرح العباسي أبيات التلخيص في كتابه "معاهد التنصيص" ونظمه السيوطي في كتابه "عقود الجمان".. وقد شرح جمال الدين محمد بن محمد الأقصرائي م800هـ كتاب الإيضاح للخطيب القزويني في كتاب أسماه "إيضاح الإيضاح".. "2 و459" بلاغة -دار الكتب المصرية- مخطوطات".

2- وعلى المطول حواشي كثيرة: منها حاشية السيد م 816، وحاشية الفنري م 886، وحاشية ملا خسرو م885، وحاشية السيرامي المصري م833 وحاشية الحفيد م 906هـ، وحاشية الشيرازي م994هـ، وعز الدين بن جماعة م 819هـ، والبساطي م 842هـ، والسمرقندي م 880هـ، وعبد الحكيم السيلاكوتي 1061هـ.

3- ومن الكتب المتأخرة في البلاغة: الجوهر المكنون لعبد الرحمن الأخضري وقد شرحه ابن يعقوب، والشيخ أحمد الدمنهوري م 1192هـ.

ومنها: تحفة الأعواز في علاقات المجاز للسجاعي م 1197، وتحفة الإخوان في علم البيان للدردير م 1201هـ، والرسالة البيانية للصبان م 1026هـ، والتجريد للبنان م 1211هـ، وحسن الصنيع للشيخ البسيوني م 1313هـ، وزهر الربيع للحملاوي م 1352هـ،

ج / 1 ص -176- والبلاغة الواضحة للجارم المتوفى في 8 فبراير 1949، وكتاب "فن القول للأستاذ أمين الخولي، وهناك مذكرات قيمة مطبوعة في بحوث البلاغة للأستاذ سليمان نوار، وللأستاذ حامد عوني.. وللشيخ محمد عرفة عضو جماعة كبار العلماء كتاب قيم في البلاغة سينشره عما قريب، وله محاضراته البلاغية التي كان يلقيها في قسم الأستاذية بكلية اللغة العربية، والتي أفاد منها جمهور كبير من العلماء.

الإيضاح في علوم البلاغة

ج / 1 ص -177- تطبيقات -1-:

عين الأساليب الخبرية والإنشائية فيما يأتي:

1- {آمَنَ الرَسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌ آَمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}.

2- {يَمْحَقُ الله الرِّبَا وَيُرْبِي الصَدَقَاتِ، وَاللهُ لَا يُحِبُ كُلَ كَفَّارٍ أَثِيْمٍ}.

3- {يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوْا أَطِيْعُوْا اللهَ وَأَطِيْعُوا الرَسُوْلَ وَأُولِيْ الأَمْرِ مِنْكُم}.

4- قال صلى الله عليه وسلم: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود".

5- ومن وصية عبد الملك بن مروان لأولاده: يا بني، كفوا أذاكم، وابذلوا معروفكم، واعفوا إذا قدرتم، ولا تبخلوا إذا سئلتم، ولا تلحفوا إذا سألتم، فإن من ضيق ضيق الله عليه، ومن أعطى أخلف الله له.

6- قال أبو العلاء المعري:

لا تحلفن على صدق ولا كذب فما يفيدك الا المأثم الحلف

7- وقال:

لا تفرحن بما بلغت من العلا وإذا سبقت فعن قليل تسبق

وليحذر الدعوى اللبيب فإنها للفضل مهلكة وخطب موبق

ج / 1 ص -178- 8- وقال أبو العتاهية:

بكيت على الشباب بدمع عيني فلم يغن البكاء ولا النحيب

ألا ليت الشباب يعود يومًا فأخبره بما فعل المشيب

9- وقال:

يا صاحب الدنيا المحب لها أنت الذي لا ينقضي تعبه

10- وقال:

ما أحسن الدنيا وإقبالها إذا أطاع الله من نالها

من لم يؤاس الناس من فضلها عرض للإدبار إقبالها

11- وقال الشاعر:

أراك تؤمل حسن الثناء ولم يرزق الله ذاك البخيلا

وكيف يسود أخو فطنة يمن كثيرًا ويعطي قليلًا

12- وقال سعيد بن حميد:

وأراك تكلف بالعتاب وودنا صاف عليك من الوفاء دليل

ولعل أيام الحياة قصيرة فعلام يكثر عتبنا ويطول

ج / 1 ص -179- تطبيقات -2-:

بين أساليب الخبر وأدوات التوكيد في الأمثلة الآتية:

1- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنََّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَجَعَلْنَاُكُمْ شُعُوْبِاً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَ اللهَ عَلِيْمٌ خَبِيْر}.

2- {وَفِيْ السَمَاءِ رُزْقُكُمْ وَمَا تُوْعَدُوْنَ، فَوَرَبِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إَنَّهُ لَحَقٌ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ}.

3- وقال صلى الله عليه وسلم: "شر الناس الذين يكرمون اتقاء ألسنتم".

4- وقال علي كرم الله وجهه: "مارست كل شيء فغلبته، ومارسني الفقر فغلبني، إن سترته أهلكني، وإن أذعته فضحني".

5- وقال النبي عليه السلام يصف الأنصار: "إنكم لتقلون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع".

6- وقال بشار بن برد:

خليلي إن المال لسي بنافع إذا لم ينل منه أخ وصديق

7- وقال أبو العتاهية:

إن البخيل وإن أفاد غنى لترى عليه مخايل الفقر

ما فاتني خير امرئ وضعت عني يداه مئونة الشكر

8- وقال آخر:

وللحلم خير فاعلمن مغبة من الجهل إلا أن تشمس من ظلم

ج / 1 ص -180- 9- وقال حسان بن ثابت:

أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض في المال

أحتال للمال إن أودى فأكسبه ولست للعرض إن أودى بمحتال

10- وقال المقنع الكندي يعاتب قومه، ويصف وفاءه لهم:

وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدًّا

فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدًا

وإن زجروا طيرًا بنحس تمر بي زجرت لهم طيرًا تمر بهم سعدا

ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القول من يحمل الحقدا

لهم جل مالي إن تتابع لي غنى وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا

وإني لعبد الضيف ما دام نازلًا وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا

11- وقال رجل من فزارة يفخر بشرف خصاله وجوده:

ألا يكن عظمي طويلًا فإنني له بالخصال الصالحات وصول

ولا خير في حسن الجسوم وطولها إذا لم تزن حسن الجسوم عقول

إذا كنت في القوم الطوال علوتهم بعارفة حتى يقال طويل

وكم قد رأينا من فروع كثيرة تموت إذا لم تحيهن أصول

ولم أر كالمعروف، أما مذاقه فحلو، وأما وجهه فجميل

12- وقال سعيد بن سلم الباهلي: مدحني أعرابي فأبلغ، فقال:

ألا قل لساري الليل لا تخش ضلة سعيد بن سلم نور كل بلاد

ج / 1 ص -181- جواد حثا في وجه كل جواد لنا سيد أربى على كل سيد

قال سعيد: فتأخرت عنه قليلًا، فهجاني، فأبلغ، فقال:

أخي مدح ثواب علمته وليس لمدح الباهلي ثواب

مدحت سعيدًا والمديح مهزة فكان كصفوان عليه تراب

وفي هذا الشعر إشارة إلى قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا}.

13- وقال الشماخ يمدح عرابة بن أوس الأنصاري:

رأيت عرابة الأوسي يسمو إلى العلياء منقطع القرين

إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

14- وقال بشار بن برد في العتاب:

إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

فعش واحدًا أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة ومجانبه

إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه

15- وقال إبراهيم الصولي يعاتب محمد بن عبد الملك الزيات وقد تغير عليه بعد ما صار وزيرًا:

وكنت أخي بإخاء الزمان فلما نبا صرت حربًا عوانا

وكنت أذم إليك الزمان فأصبحت فيك أذم الزمانا

ج / 1 ص -182- وكنت أعدك للنائبات فأصبحت أطلب منك الأمانا

16- ومن الهجو قول جرير يهجو تيمًا:

ويقضي الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود

وإنك لو رأيت عبيد تيم وتيما قلت أيهم العبيد

17- وقال الحسين بن مطير يرثي معن بن زائدة:

ألما على معن وقولًا لقبره سقتك الغوادي مربعًا ثم مربعا

فيا قبر معن أنت أول حفرة من الأرض خطت للسماحة مضجعا

ويا قبر معن كيف واريت جوده وقد كان منه البر والبحر مترعا

بلى قد وسعت الجود والجود ميت ولو كان حيا ضقت حتى تصدعا

فتى عيش في معروفه بعد موته كما كان بعد السيل مجراه مرتعا

18- ولقطري بن الفجاءة في الحماسة يخاطب نفسه:

أقول لها وقد طارت شعاعًا من الأبطال ويحك لن تراعي

فإنك لو سألت بقاء يوم على الأجل الذي لك لم تطاعي

فصبرًا في مجال الموت صبرًا فما نيل الخلود بمستطاع

وما للمرء خير في حياة إذا ما عد من سقط المتاع

19- وقال الشاعر:

ولم أر كالمعروف أما مذاقه فحلو، وأما وجهه فجميل

ج / 1 ص -183- 20- وقال صردر:

تذل الرجال لأطماعها كذل العبيد لأربابها

وأعلم أن ثياب العفا ف أجمل زي لمجتابها

أي للابسها.

21- وقال آخر:

لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي إذا هو لم يجعل له الله واقيا

22- وقال سعيد بن حميد في العتاب:

أقلل عتابك فالبقاء قليل والدهر يعدل تارة ويميل

ولعل أحداث المنة والردى يومًا ستصدع بيننا وتحول

فلئن سبقت لتبكين بحسرة وليكثرن علي منك عويل

ولئن سبقت -ولاسبقت- ليمضين من لا يشاكله لدي خليل

وليذهبن بهاء كل مروءة وليفقدن جمالها المأهول

ج / 1 ص -184- تطبيقات -3-:

عين الأغراض المستفادة من الخبر في الأمثلة الآتية:

1- قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوامَافِي أَنْفُسِكُمْ أو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 283].

2- وقال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}.

3- قال صلى الله عليه وسلم: "عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة".

4- وقال: "إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه، فأدخل عليه الجور في عدله".

5- ومن خطبة له عليه السلام بمكة حين دعا قومه إلى الإسلام: "أن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس ما كذبتكم، وأغررت الناس ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة".

6- قال الشريف الرضي:

جار الزمان فلا جواد يرتجي للنائبات ولا صديق يشفق

وإذا الحليم رمي بسر صديقه عمدًا فأولى بالوداد الأحمق

ج / 1 ص -185- 7- وقال المعري:

عرفت سجايا الدهر، أما شروره فنقد، وأما خيره فوعود

8- وقال:

رأيت سكوتي متجرًا فلزمته إذالم يفد ربحًا فلست بخاسر

9- قال ابن حيوس مادحًا:

بني صالح أقصدتم من رميتم وأحييتم من أم معروفكم قصدا

وذللتم صعب الزمان لأهله فذل وقد كان الجماح له وكدا

مناقب لو أن الليالي توشحت بأذيالها لابيض منهن ما اسودا

10- وقال أبو فراس:

صبرت على الأواء صبر ابن حرة كثير العدا فيها قليل المساعد

منعت حمى قومي وسدت عشيرتي وقلدت أهلي غر هذي القلائد

11- وقال يخاطب سيف الدولة:

وكم لك عندي من إياد وأنعم رفعت بها قدري وأكثرت حسدي

وإنك للمولى الذي بك أقتدي وإنك للنجم الذي بك أهتدي

12- وقال:

ونحن أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر

تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر

ج / 1 ص -186- 13- وقال ابن الرومي في رجل اسمه عيسى:

يقتر عيسى على نفسه وليس بباق ولا خالد

ولو يستطيع لتقتيره تنفس من منخر واحد

14- وقال أبو العلاء:

بلوت أمور الناس من عهد آدم فلم أر إلا هالكًا إثر هالك

إذا كان هذا الترب يجمع بيننا فأهل الرزايا مثل أهل الممالك

15- وقال أعربي يرثي ولده:

بني لئن ضنت جفون بمائها لقد قرحت مني عليك جفون

دفنت بكفي بعض نفسي فأصبحت وللنفس منها دافن ودفين

16- قال زهير في قوم هرم بن سنان:

قوم أبوهم سنان حين تنسبهم طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا

ج / 1 ص -187- تطبيقات -4-:

عين المسند والمسند إليه، وبين الأساليب الخبرية والإنشائية. واذكر أغراض الخبر فيما يأتي:

1- قال تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بآاخِذِيهِ إلَّا أن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أن اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيأامُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}. [البقرة: 267: 269].

2- قال عليه السلام: "من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير كله، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم لحظه من الخير كله".

3- وقال: "لا يزال الرجل عالمًا ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل".

4- ومن خطبة لخالد بن عبد الله القسري: "نافسوا في المكارم، وسارعوا إلى المغانم، واشتروا الحمد بالجود.. واعلموا أن حوائج الناس إليكم، نعمة من الله عليكم، فلا تمروا النعم فتحولوها نقمًا".

5- ومن رسالة لابن زيدون: "قد يغص بالماء شاربه، ويقتل الدواء المستشفى به، ويؤتي الحذر من مأمنه، وتكون منية المتمني في أمنيته... وعلمك محيط بأن المعروف ثمرة النعمة، والشفاعة زكاة المروءة، وفضل الجاه تعود به صدقة:

ج / 1 ص -188- وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة من جاهه فكأنها من ماله

6- قال أبو العتاهية:

إذا ما مضى القرن الذي أنت منهم وخلفت في قرن فأنت غريب

وإن امرأ قد سار خمسين حجة إلى منهل من ورده لقريب

7- وقال أبو العلاء:

احذر سليلك فالنار التي خرجت من زندها إن أصابت عود احترقا

8- وقال الأخطل:

وان امرأ لا ينثني عن غواية إذا ما اشتهتها نفسه لجهول

9- وقال حسان بن ثابت:

وإن امرأ يمسي ويصبح سالمًا من الناس إلا ما جنى لسعيد

10- وقال المتنبي:

تلذ له المروءة وهي تؤذي ومن يعشق يلذ له الغرام

11- وقال الحسين بن مطير:

أحب مكارم الأخلاق جهدي وأكره أن أعيب وأن أعابا

وأصفح عن سباب الناس حلمًا وشر الناس من يهوى السبابا

ومن هاب الرجال تهيبوه ومن حقر الرجال فلن يهابا

ج / 1 ص -189- 12- قال رجل من طيئ:

ومن يفتقر في قومه يحمد الغنى وإن كان فيهم واسط العم مخولا

وبزري بعقل المرء قلة ماله وإن كان أسرى من رجال وأحولا

13- الشاعر:

إن الطبيب يموت بالداء الذي قد كان يشفي مثله فيما مضى

14- قال عروة بن الورد:

ذريني للغنى أسعى فإني رأيت الناس شرهم الفقير

يباعده القريب وتزدريه حليلته وينهره الصغير

وتلقى ذا الغنى وله جلال يكاد فؤاد صاحبه يطير

قليل ذنبه والذنب جم ولكن للغنى رب غفور

15- وقال قيس بن عاصم المنقري في قومه:

خطباء حين يقول قائلهم بيض الوجوه مصقع لسن

لا يفطنون لعيب جارهم وهم لحفظ جواره فطن

16- وقال وعلة بن الحارث:

قومي هموا قتلوا -أميم- أخي فإذا رميت يصيبني سهمي

17- وقال المتنبي:

رب عيش أخف منه الحمام ذل من يغبط الذليل بعيش

ج / 1 ص -190- فهرست الجزء الأول:

الصفحة الموضوع

3 الكلمة الاولى

4 مقدمات في تاريخ البلاغة العربية

14 ترجمة الخطيب

16 أول كتاب الإيضاح

17 معنى الفصاحة والبلاغة

21 الفصاحة

21 فصاحة المفرد

28 فصاحة الكلام

41 البلاغة

41 بلاغة الكلام

46 بلاغة المتكلم

52 الفن الأول - علم المعاني

59 الصدق والكذب

63 تنبيه - الذوق هو الحكم في أمور البلاغة

65 أحوال الإسناد الخبري

80 الحقيقة العقلية والمجاز العقلي

104 - 188 بحوث بلاغية ملحقة بالكتاب

104 أسلوب المجاز العقلي وتطور البحث البلاغي عنه

120 حول المجاز العقلي

130 نشأة البيان العربي

146 الجاحظ والبيان العربي

173 أول صحيفة في البلاغة

177 تطبيقات

الإيضاح في علوم البلاغة

ج / 2 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم.

المقدمة:

صدر الجزء الأول من شرحي على كتاب الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزويني "666-739هـ"، بحمد الله وتوفيقه وفضله.

وهذا هو الجزء الثاني من هذا الشرح.. وهو كسابقه في الشرح والتحليل والتفصيل والدقة، وتنظيم البحوث والموضوعات.

ولا أجد ما أقوله إلا أن أقدمه لجمهور العلماء، ورجال اللغة والأدب والنقد، وطلاب البحث والمعرفة، معتمدًا بعد فضل الله على حسن تقديرهم، وكريم ثقتهم.

وما توفيقي إلا بالله.

محمد عبد المنعم خفاجي.

ج / 2 ص -4- القول في أحوال المسند إليه1:

حذف المسند إليه2:

أما حذفه: فأما لمجرد الاختصار3 والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر4.

وأما لذلك مع ضيق المقام.

وأما لتخييل5 أن في تركة تعويلًا على شهادة العقل في ذكره

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 البحث هنا في أحوال المسند إليه أي الأمور العارضة له من حيث أنه مسند إليه، أي لا من غير هذه الجهة ككونه حقيقة أو مجازًا مثلًا فإنهما1 عارضان له من حيث الوضع. وقدم المسند إليه على المسند؛ لأنه الركن الأعظم في الكلام.

2 راجع ص76 من المفتاح ودلائل الإعجاز ص111-117.

3 الواقع بعد أما هو مقتضى الحال والواقع بعد لام التعليل هو الحال وهذا كالصريح في أن المقتضى هو الخصوصية. ثم المراد حذفه لقرينة معينة من غير إقامة شيء مقامه وحينئذ يكون لغرض معنوي لا لمجرد أمر لفظي

ويلاحظ أن الحذف يتوقف على أمرين: وجود القرينة ووجود المرجح للحذف على الذكر، والثاني هو المقصود هنا بالتفصيل. أما الأول فيعلم من النحو.

4 حال من العبث. والحذف هنا لدلالة القرينة عليه وقيل أن ذكره يكون عبثًا نظرًا إلى ظاهر القرينة وأما في الحقيقة فيجوز أن يتعلق به غرض مثل التبرك والاستلذاذ والتنبيه على غباوة السامع ونحو ذلك.

5 أي تخييل المتكلم للسامع أي أن يوقع المتكلم في خيال السامع وفي وهمه أنه عدل إلى أقوى الدليلين -دليل اللفظ ودليل العقل- وأقواهما هو دليل العقل لافتقار اللفظ إليه. وإنما قال تخييل؛ لأن الدال حقيقة عند الحذف أيضًا هو اللفظ المقدر المدلول عليه بالقرائن.

وفي الكامل للمبرد ما نصه: يحذف لعلم السامع بما يريد مثل "الهلال والله" أي هذا الهلال، والحذف فيه؛ لأن الذكر مع علم السامع بالمحذوف عبث.

ج / 2 ص -5- تعويلًا على شهادة اللفظ من حيث الظاهر، وكم بين الشهادتين؟

وإما لاختيار تتنبه السامع له عند القرينة أو مقدار تنبهه1.

وإما لإيهام أن في تركه تطهيرًا له عن لسانك، أو تطهيرًا فللسانك عنه.

وإما ليكون لك سبيل إلى الإنكار إن مست إليه حاجة2.

وإما؛ لأن الخبر لا يصلح إلا له حقيقة3 أو ادعاء.

وإما لاعتبار آخر مناسب لا يهدي إلى مثله إلا العقل السليم والطبع المستقيم4 كقول الشاعر:

قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل سهر دائم وحزن5 طويل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هل يتنبه بالقرائن الخفية أو لا. والقرائن عند الحذف قد تكون واضحة وقد تكون خفية.

2 كقولك فاسق فاجر عند قيام القرينة على أن المراد زيد ليتأتى لك أن تقول ما أردت زيدًا بل غيره.

3 مثل: خالق لما يشاء. وهذا نص كلام المفتاح ص76. ومثال ما لا يصلح الخبر إلا له ادعاء قولك: "وهاب الألوف" أي الأمير.

4 ومرد ذلك إلى ذوق البليغ، ومنه ضيق المقام عن إطالة الكلام بسبب ضجر أو سآمة أو فوات فرصة أو محافظة على وزن أو سجع أو قافية أو ما أشبه ذلك كقول الصياد: "غزال" فإن المقام لا يسع أن يقال: هذا غزال فاصطادوه. وكالإخفاء عن غير السامع من الحاضرين مثل "جاء". ومنه قولهم بعد أن يذكروا الممدوح: "فتى من شأنه كذا وكذا"، وبعد أن يذكروا الديار والمنازل "ربع كذا وكذا".

5 مثال للاحتراز عن العبث مع تخييل العدول إلى أقوى الدليلين والبيت سيأتي شاهدًا على شبه كمال الاتصال. وتجده في دلائل الإعجاز ص184.

ج / 2 ص -6- وقوله1:

سأشكر عمرًا إن تراخت منيتي أيادي لم تمنن وإن هي جلت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ولا مظهر الشكوى إذا للنعل زلت

وقوله:

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه

نجوم سماء كلما انقض كوكب بدا كوكب تأوي إليه كواكبه2

وقول بعض العرب3 في ابن عم له موسر، سأله فمنعه وقال: لو أعطيك مالي وأنت تنفقه فيما لا يعنيك؟ والله لا أعطيتك، فتركه حتى اجتمع القوم في ناديهم، وهو فيهم، فشكاه إلى القوم وذمه، فوثب إليه ابن عمه فلطمه فأنشأ يقول:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ينسبان في معجم الشعراء لمحمد بن سعيد الكاتب وهو عربي بغدادي وفي ابن السبكي أنهما لأبي الأسود الدؤلي في عمرو بن سعيد بن العاص. وفي شرح الحماسة نسبتهما لعمرو بن كميل في عمرو بن ذكوان. وينسبان لابراهيم بن العباس الصولي الكاتب، ولعبد الله بن الزبير أيضًا في مدح عمرو بن عثمان بن عفان. وهما شاهدان أيضًا على لزوم ما لا يلزم في التوافي، وهما في ص114 من الدلائل والشاهد حذف المسند إليه من صدر البيت الثاني أي "هو فتى" وذلك لتعيينه ادعاء، وبعدهما:

رأى خلتي من حيث يخفى مكانها فكانت قذى عينيه حتى تجلت

2 البيتان لأبي الطمحان القيني، ونسبهما ابن قتيبة للقيط بن زرارة ص272 معجم الشعراء، وهما في المفتاح ص77 والشاهد حذف المسند إليه من صدر البيت الثاني أي "هم نجوم سماء"، لصون المسند إليه عن لسان المادح أو لادعاء تعينه وهو الأول، والجزاع خرز فيه بياض وسواد تشبه به العيون.

3 هو الأقيشر.

ج / 2 ص -7- سريع إلى ابن العم يلطم وجهه وليس إلى داعي الندى بسريع

حريص على الدنيا مضيع لدينه وليس لما في بيته بمضيع1

وعليه قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْي} وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ، نَارٌ حَامِيَةٌ}. وقيام القرينة شرط في الجميع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 نسبهما الدسوقي للمغيرة بن عبد الله والصحيح أنهما للأقيشر وهو شاعر كان مغرمًا بالشراب وله شعر فيه، وتجد البيتين في الدلائل ص116 وفي المفتاح ص77، والشاهد فيهما حذف المسند إليه لما سبق ذكره.

ذكر المسند إليه:

وأما ذكره: فإما؛ لأنه الأصل1 ولا مقتضي للحذف.

وإما للاحتياط لضعف التعويل2 على القرينة.

وإما للتنبيه على غباوة السامع.

وإما لزيادة الإيضاح والتقرير3.

وإما لإظهار تعظيمه4، أو إهانته5، كما في بعض الأسماء المحمودة أو المذمومة.

وإما للتبرك بذكره6.

وإما لاستلذاذه 7.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي الكثير أو ما ينبني عليه غيره.

2 أي الاعتماد.

3 وعليه قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}.

4 لكون اسمه مما يدل على التعظيم نحو "أمير المؤمنين حاضر".

5 أي إهانة المسند إليه لكون اسمه مما يدل على الإهانة مثل السارق اللئيم حاضر.

6 مثل: النبي عليه السلام قائل هذا القول.

7 مثل: الحبيب الحاضر.

ج / 2 ص -8- وأما لبسط الكلام حيث الإصغاء مطلوب1، كقوله تعالى "حكاية عن موسى عليه السلام "هي عصاي"، ولهذا زاد على الجواب.

وإما لنحو ذلك2.

قال السكاكي: "وإما لكون الخبر عام النسبة إلي كل مسند إليه والمراد تخصيصه بمعنى كقولك "زيد جاء وعمرو ذهب وخالد في الدار".

وقوله:

الله أنجح ما طلبت به والبر خير حقيبة الرحل3

وقوله:

النفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع4

وفيه5 نظر؛ لأنه إن قامت قرينة تدل عليه إن حذف، فعموم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي في مقام يكون إصغاء السامع مطلوبًا للمتكلم لعظمة السامع وشرفه، ولهذا يطال الكلام مع الأحباء.

2 كالتهويل مثال أمير المؤمنين يأمرك بكذا، وكالتعجب مثل: صبي قاوم الأسد وكالإشهاد في قضية والتسجيل على السامع حتى لا يكون له سبيل إلى الإنكار.

والمدار على الذوق فما عده مقتضيًا لخصوصية عمل به، فنكات الذكر والحذف إلخ إنما مدارها على الذوق وإن لم يذكرها البلاغيون.

3 يوجد في شعر امرئ القيس زعيم الشعراء الجاهليين، والصحيح أنه لامرئ القيس بن عابس الكندي الصحابي.

4 هو لأبي ذؤيب الهذلي من مرثيته المشهورة لأبنائه.

5 أي في كلام السكاكي المذكور - راجع ص77 المفتاح.

ج / 2 ص -9- الخبر وإرادة تخصصه بمعين وحدهما لا يقتضيان ذكره1، وإلا فيكون ذكره واجبًا2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي بل لا بد أن ينضم إليهما أمر ثالث كالتبرك والاستلذاذ ونحو ذلك ليترجح الذكر على الحذف.

2 لانتفاء شروط الحذف لاقتضائه عموم النسبة وإرادة التخصيص. وجواب الاعتراض: أن عموم النسبة وإرادة التخصيص تفصيل لانتفاء قرينة الحذف وتحقيق له.

تعريف المسند إليه1:

وأما تعريفه: فلتكون الفائدة أتم؛ لأن احتمال تحقق الحكم متى كان أبعد كانت الفائدة في الأعلام2 به أقوى، ومتى كان أقرب كانت أضعف، وبعده3 بحسب تخصيص المسند إليه والمسند، كما ازدادا4 تخصيصًا ازداد الحكم بعدها وكلما ازداد عمومًا ازداد الحكم قربًا، وإن شئت فاعتبر حال الحكم في قولنا "شيء ما موجود" وفي قولنا "فلان بن فلان يحفظ الكتاب"، والتخصيص كماله بالتعريف5.. ثم التعريف مختلف:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي إيراد المسند إليه معرفة. وقدم هنا التعريف؛ لأنه الأصل -لأن المقصود الحكم على شيء معين عند السامع-، وفي المسند التنكير؛ لأن المقصود ثبوت مفهومه لشيء وأما التعريف فأمر زائد على المقصود يحتاج لداع.

2 أي في الإخبار به.

3 أي بعد تحقق الحكم.

4 أي المسند إليه والمسند.

5 أي فأفادته فائدة تقتضى أتم تخصيص وهو التعريف؛ لأنه كمال التخصيص، والنكرة وإن أمكن أن تخصص بالوصف بحيث لا يشاركها فيه غيره كقولك "أعبد إلهًا خلق السماء والأرض" و"لقيت رجلًا سلم عليك اليوم وحده قبل كل أحد" لكنه لا يكون في قوة تخصيص المعرفة؛ لأنه وضعي بخلاف تخصيص النكرة.

ج / 2 ص -10- فإن كان بالإضمار:

فإما؛ لأن المقام مقام التكلم، كقول بشار:

أنا المرعث لا أخفى على أحد ذرت بي الشمس للقاصي وللداني1

وإما؛ لأن المقام للخطاب، كقوله2 الحماسية:

وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني وأشمت بي من كان فيك يلوم

وإما؛ لأن المقام مقام الغيبة، لكون المسند إليه مذكور أو في حكم المذكور لقرينة كقوله3:

من البيض الوجوه، بني سنان لو أنك تستضيء بهم أضاءوا

هم حلوا من الشرف المعلى ومن حسب العشيرة حيث شاءوا

وقوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، أي العدل4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 المرعث: المقرط، وكان يلقب بذلك لرعثة كانت له في صغره، والرعثة القرط، ذرت: طلعت: كناية عن شهرته، ومثل البيت قول المتنبي:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم

وقول الكميت:

أنا الذي يجدوني في صدورهم لا أرتقي صدرًا منها ولا أرد

2 هي أمامة ترد على ابن الدمينة، وتجد البيت في المفتاح ص78.

3 البيتان لأبي البرج المري في زفر بن سنان، وبعدهما:

بناة مكارم وأساة كلم دماؤهم من الكلب الشفاء

والشاهد: تعريف المسند إليه بضمير الغيبة لتقدم ذكره لفظًا تحقيقًا.

ومثله زيد جاء وهو يضحك.

4 التعبير بالمسند إليه ضمير غيبة لتقدم ذكره:

لفظًا: حقيقة مثل حضر التلميذ وهو يبتسم، أو تقديرًا مثل: في داره زيد، وضرب غلامه زيد.

أو معنى: لدلالة لفظ عليه مثل: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، أو دلالة قرينة حال مثل "فلهن ثلثا ما ترك" أي الميت؛ لأن الكلام في الإرث.

أو حكمًا مثل ربه فتى.

ج / 2 ص -11- وقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}، أي ولأبوي الميت.

وأصل الخطاب أن يكون لمعين1، وقد يترك إلي غير معين2 كما تقول: "فلان لئيم: إن أكرمته أهانك وإن أحسنت إليه أساء إليك"، فلا تريد مخاطبًا بعينه، بل تريد إن أكرم أو أحسن إليه"، تخرجه في صورة الخطاب ليفيد العموم، أي سوء معاملته غير مختص بواحد دون واحد.

وهو في القرآن كثير، كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، أخرج في صورة الخطاب لما أريد العموم، للقصد إلى تفظيع حالهم وأنها تناهت في الظهور حتى امتنع خفاؤها، فلا تختص بها رؤية راء. بل كل يتأتى منه الرؤية داخل في هذا الخطاب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي واحدا كان أو أكثر؛ لأن وضع المعارف على أن تستعمل لمعين مع أن الخطاب هو توجيه الكلام إلى حاضر.

2 وذلك على طريق المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق، وقيل أن ترك الخطاب لذلك من الإخراج على خلاف مقتضى الظاهر، إذ هو على التحقيق من وضع المضمر موضع المظهر، فقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى} الظاهر فيه "ولو يرى كل أحد".

ج / 2 ص -12- وإن كان بالعلمية1:

فإما لإحضاره بعينه في ذهن السامع ابتداء باسم مختص2 به، كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} وقول الشاعر:

أبو مالك قاصر ففره على نفسه، ومشيع غناه3

وقوله:

الله يعلم أني ما تركت قتالهم حتى علوا فرسي بأشقر مزبد4

وإما لتعظيمه. أو لإهانته، كما في الكنى والألقاب المحمودة والمذمومة5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي تعريف المسند إليه بإيراده علمًا وهو ما وضع لشيء مع جميع مشخصاته، والعلم موضوع للشيء -وهو الذات مثلًا- ولمشخصاته فهي جزء من الموضوع له، والمراد بها العوارض اللازم للذات من حيث هي ذات وهي التي لا تقوم الذات بدونها.

2 أي لإحضار المسند إليه بعينه وشخصه بحيث يكون متميزًا عن جميع ما عداه، واحترز بهذا عن إحضاره باسم جنسه نحو رجل عالم جاءني، فقد أحضر باسم جنسه وهو "رجل" وإما "عالم: فقد جيء بها لصحة الابتداء بالنكرة وقوله ابتداء أي لأول مرة واحترز به عن نحو جاءني زيد وهو راكب، وقوله باسم مختص به أي بالمسند إليه بحيث لا يطلق باعتبار هذا الوضع على غيره وإن صح إطلاقه على غيره بوضع آخر كالأعلام المشتركة، واحترز به عن إحضاره بضمير المتكلم أو المخاطب والإشارة والموصول والمعرف بلام العهد الخارجي وبالإضافة. ومعنى الإحضار هنا الالتفات والتوجه... وهذه القيود لتحقيق العلمية وهي ثلاثة قيود: إحضاره بعينه وكونه ابتداء وكونه باسم مختص به. وإلا فالقيد الأخير مغن عما سبق؛ لأنه متى أحضر باسم مختص به كان ذلك الإحضار له بعينه ابتداء.

3 هو للمتنخل الهذلي.

4 هو للحارث بن هشام يعتذر به عن فراره يوم بدر.

5 مثل ركب على، وهرب معاوية، فالأول مأخوذ من العلو، والثاني من العو وهو صريخ الذئب.

ج / 2 ص -13- وأما للكناية حيث الاسم صالح لها، ومما ورد صالحًا للكناية من غير باب المسند إليه قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}، أي جهنمي1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي يؤتى بالمسند إليه علمًا للكناية عن معنى يصلح العلم له -أي لذلك المعنى بحسب معناه الأصلى قبل العلمية- نحو "أبو لهب فعل كذا" كناية عن كونه جهنميا، فأبو لهب بحسب الأصل مركب إضافي معناه ملابس اللهب أي النار ملابسة شديدة ومن لوازم ذلك كونه جهنميًّا فأطلق وأريد هذا اللازم فيكون انتقالًا من الملزوم إلى اللازم باعتبار الوضع الأول وهذا الانتقال من المعنى الموضوع له أولًا وإن لم يكن هو المستعمل فيه اللفظ إلى لازمه كاف في الكناية ولا يتوقف على إرادة لازم ما استعمل فيه اللفظ.. وقيل إن الكناية هنا كما يقال: حاتم ويراد به لازم معناه بأن يستعمل اللفظ ابتداء في ذلك اللازم الذي اشتهر اتصاف معناه به الجواد لا الشخص المسمى بحاتم، ويقال رأينا "أبا لهب" لينقل منه إلى الملزوم وهو الشخص الكافر المعلوم، فالكناية على هذا بالنظر للوضع الثانوي وهو العلمي.

فعلى القول الأول اللفظ مستعمل في معناه الأصلية لينتقل منه للازم معناه. وإما على القول الثاني فاللفظ لم يستعمل في المعنى الأصلي ولا في المعنى الثانوي وهو الذات المعينة وإنما استعمل في لازمهما ابتداء، فحاتم قد استعمل ابتداء في الجود اللازم للإنسان المعروف وهو الطائي لينتقل منه إلى كونه جوادًا.. ويرد على القول الثاني أنه لو كان كذلك يكون حيئنذ استعمل لا كناية؛ لأنه قد استعمل لفظ حاتم في غير ما وضع له وهو رجل آخر جواد للمشابهة، وإن كان لعلاقة غيرها كالإطلاق والتقييد كان مجازًا مرسلًا، كما يرد عليه أنه لو كان المراد ما ذكره لكان قولنا فعل هذا الرجل كذا مشيرًا إلى كافر -والقصد إن الفعل صدر من غيره- وقولنا: أبو جهل فعل كذا مشيرًا إلى كافر لا يمسي أبا جهل، كناية عن الجهنمي، ولم يقل به أحد، ومما يدل على فساد ذلك أيضًا أن صاحب المفتاح وغيره مثلوا لهذه الكناية بقوله تعالى: تبت يدا أبي لهب، ولا شك أن المراد به الشخص المسمى بأبي لهب لا كافر آخر، وحيث كان كذلك لم يكن كناية عن الجهنمي إلا على القول الأول، إذ على الثاني لا يكون كناية عنه إلا إذا كان المراد شخصًا غير المسمى بأبي لهب...

هذا والكناية هي عند المصنف استعمال اللفظ في معناه ابتداء لينتقل منه للازمه، وهي عند السكاكي استعمال اللفظ في لازم معناه لينتقل منه إلى الملزوم الذي هو معنى اللفظ الموضوع له.

ج / 2 ص -14- وإما لايهام استلذاذه أو التبرك به1.

وإما لاعتبار آخر مناسب2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 مثال الاستلذاذ:

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ليلاي منكن أم ليلى من البشر

ومثال التبرك به: الله الهادي ومحمد الشفيع.

2 كالتفاؤل مثل سعد عندي، والتطير مثل غراب في الدار، والتسجيل على السامع، أو التنبيه على غباوته إلى آخر تلك الاعتبارات.

وإن كان بالمصولية1:

فإما لعدم علم المخاطب بالأحوال المختصة به سوى الصلة، كقولك "الذي كان معنا أمس رجل عالم".

وإما لاستهجان التصريح بالاسم2.

وإما لزيادة التقرير3، نحو قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ التِيْ هُوَ فِيْ بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ}4 فإنه مسوق لتنزيه يوسف عليه السلام عن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي تعريف المسند إليه بإيراده اسمًا موصولًا.

2 مثل الذي يخرج من أحد السبيلين ناقض الوضوء.

3 أي تقرير الغرض المسوق له الكلام. وقيل تقرير المسند. وقيل تقرير المسند إليه.

4 راودته أي يوسف عليه السلام والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب، وكان المعنى خادعته عن نفسه وفعلت فعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، فيحتال عليه أن يغلبه ويأخذ منه. والمسند إليه هو قوله "التي هو في بيتها" متعلق براودته فالغرض المسوق له الكلام نزاهة يوسف وعفافه والمذكور أدل عليه من امرأة العزيز أو زليخا؛ لأنه إذا كان في بيتها وتمكن من نيل المراد منها ولم يفعل كان غاية في النزاهة.. وقيل هو تقرير للمسند وهو المراودة، لما فيه من فرط الاختلاط.. وقيل هو تقرير للمسند إليه لإمكان وقوع الإبهام والاشتراك في امرأة العزيز أو زليخا.

ج / 2 ص -15- الفحشاء والمذكور أدل عليه من امرأة العزيز وغيره.

وإما للتفخيم، كقوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ}1.

وقول الشاعر:

مضى بها ما مضى من عقل شاربها وفي الزجاجة باق يطلب الباقي2

ومنه في غير هذا الباب قوله تعالى: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى}، وبيت الحماسة:

صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه فلما علاه قال للباطل: ابعد3

وقول أبي نواس4:

ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم وأسمت سرح اللحظ حيث أساموا

وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه فإذا عصارة كل ذاك أثام

وإما لتنبيه المخاطب على خطأ5، كقول الآخر6:

إن الذين ترونهم إخوانكم يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 فإن في هذا الإيهام من التفخيم والتعظيم والتهويل ما لا يخفى.

2 البيت لأبي نواس. والضمير للخمر، ويطلب الباقي أي من عقله، وقوله "بها" أي معها.. وينسب لعبد الله من العباس الربيعي.

3 البيت لدريد بن الصمة، من أبيات يرثي بها أخاه عبد الله.

4 نهز بالدلو في البئر: ضرب بها في الماء لتمتلئ. أسام الماشية: أخرجها إلى المرعى، وإضافة سرح إلى اللحظ من إضافة الصفة إلى الموصوف يعني اللحظ السارح ويقال: سرحت الماشية إذا ذهبت ترعى. والبيتان في المثل السائر ص175.

5 سواء كان خطأ المخاطب أم خطأ غيره.

6 هو عبدة بن الطبيب، ويقول السبكي: نسبة ابن المعتز لجرير وأنشده:

إن الذين ترونهم خلانكم يشفي صداع رؤوسكم أن تصرعوا

ترونهم: تظنونهم. تصرعوا: تهلكوا وتصابوا بالحوادث. ففي البيت من التنبيه على خطئهم في هذا الظن ما ليس في قولك إن فلانًا وفلانًا.

ج / 2 ص -16- وإما للإيماء إلي وجه بناء الخبر1، نحو {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 2.

ثم إنه3 ربما جعل ذريعة إلى التعريض بالتعظيم لشأن الخبر، كقوله:

إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتًا دعائمه أعز وأطول4

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي الإشارة بصلة الموصول إلي نوع الخبر. يعني تأتي بالموصول والصلة للإشارة إلى أن بناء الخبر عليه من أي وجه وأي طريق من الثواب والعقاب والمدح والذم وغير ذلك.

2 أي صاغرين -ففي إيماء إلى أن الخبر المبني عليه أمر من جنس العقاب والإذلال وهو قوله: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين} هذا و"الوجه" في كلام المصنف بمعنى الطريقة، تقول عملت هذا العمل على وجه عملك أي على طريقته وقد فسر الخلخالي تبعًا للشيرازي الوجه بالعلة والسبب، وهو خطأ؛ لأن الإشارة إلى العلة لا تطرد في جميع الأمثلة، بل هو ظاهر في الآيتين ومشكل في البيتين، وقد يقال: ما ذكره الشارح "السعد" من خطأ التفسير المذكور إنما يتم لو كان هذا القائل رجع الضمير في قوله "ثم إنه ربما" إلى الايماء. وهو إنما رجعه إلى جعل المسند إليه موصولًا، وحينئذ فلا تخطئه.

3 أي الإيماء إلى وجه بناء الخبر أو جعل المسند إليه موصولًا كما سبق بيان احتمال ذلك. والصحيح أن الضمير يعود إلى الإيماء إلى وجه بناء الخبر.

4 هو الفرزدق. سمك: رفع. وهو يفتخر على جرير ببيته في تميم. وأراد بالبيت بيت الشرف والمجد. ففي قوله:

"إن الذي سمك السماء"

إيماء إلى أن الخبر المبني عليه أمر من جنس الرفعة والبناء عند من له ذوق سليم، ثم فيه تعريض بتعظيم بناء بيته لكونه فعل من رفع السماء التي لا بناء أعظم منها وأرفع.

ج / 2 ص -17- أو لشأن غيره1 نحو: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِين}.

قال السكاكي:

وربما جعل ذريعة إلى تحقيق الخبر2، كقوله:

إن التي ضربت بيتًا مهاجرة بكوفة الجند غالت ودها غول3

وربما جعل ذريعة إلى التنبيه للمخاطب على خطأ كقوله: إن الذين ترونهم -البيت.

وفيه نظر، إذ لا يظهر بين الإيماء إلى وجه بناء الخبر وتحقيق الخبر فرق، فكيف يجعل الأول ذريعة إلى الثاني؟، والمسند إليه في البيت الثاني4 ليس فيه إيماء إلى وجه بناء الخبر عليه بل لا يبعد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي لا يجعل ذريعة إلى تعظيم شأن غير الخبر. وفي الآية إيماء إلى أن الخبر المبني على الموصول مما ينبئ عن الخيبة والخسران، وتعظيم لشأن شعيب عليه السلام، وربما يجعل ذريعة إلى الإهانة لشأن الخبر نحو إن الذي لا يحسن معرفة الفقه قد ألف فيه، أو غيره نحو أن الذي يتبع الشيطان خاسر فالموصول فيه إيماء إلى نوع الخبر المبني عليه، وفي ذلك الإيماء تعريض بحقارة الشيطان.

2 أي يجعل الإيماء إلى وجه بناء الخبر ذريعة إلى تحقيق الخبر أي جعله محققًا ثابتًا، والمحقق له في الحقيقة إنما هو الصلة التي حصل بها الإيماء لا نفس الإيماء.

3 البيت لعبدة بن الطبيب.. فإن في ضرب البيت بكوفة الجند والمهاجرة إليها إيماء إلى أن طريق بناء الخبر مما ينبئ عن زوال المحبة وانقطاع المودة ثم إنه يحقق زوال المودة ويقرره حتى كأنه برهان عليه، وهذا معنى تحقيق الخبر وهو مفقود في مثل "إن الذي سمك السماء" إذ ليس في رفع الله السماء تحقيق وتثبيت لبنائه لهم بيتًا، فظهر الفرق بين الإيماء وتحقيق الخبر.

4 وهو "إن الذين ترونهم إلخ".

ج / 2 ص -18- أن يكون فيه إيماء إلى بناء نقيضه عليه1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 قال السعد في المطول: وجواب هذا الاعتراض أن العرف والذوق شاهدا صدق على أنك إذا قلت عند ذكر جماعة يعتقدهم المخاطبون إخوانًا خلصا "إن الذين تظنونهم إخوانكم" كان فيه إيماء إلى أن الخبر المبني عليه أمر ينافي الأخوة ويباين المحبة.

وإن كان بالإشارة:

فإما لتمييزه أكمل تمييز1 لصحة إحضاره في ذهن السامع بوساطة الإشارة حسًّا، كقوله:

هذا أبو الصقر فردًا في محاسنه "من نسل شيبان بن الضال والسلم"2

وقوله "أي الحطيئة":

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا إلينا وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا

وقوله3:

وإذا تأمل شخص ضيف مقبل متسربل سربال ليل أغبر

أومأ إلى الكوماء: هذا طارق نحرتني الأعداء إن لم تنحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي تعريف المسند إليه بإيراده اسم إشارة لتمييز المسند إليه أكمل تمييز لغرض من الأغراض كالمدح وغيره.

2 البيت لابن الرومي يمدح أبا الصقر وزير المعتمد. والضال: جمع ضالة وهو شجر السدر البري. والسلم جمع سلمة وهو شجر ذو شوك من شجر البادية. "وفردا" نصب على المدح أو الحال من الخبر، يعني أن قومه مقيمون بالبادية؛ لأن فقد العز في الحضر.

3 الكوماء: الناقة العظيمة الضخمة، وقيل أن الأبيات في مدح حاتم الطائي. وينسبان لابن المولى وهو شاعر من مخضرمي الدولتين.

ج / 2 ص -19- وقوله1:

ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلان عير الحي والوتد

هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشج فلا يرثي له أحد

وإما للقصد إلى أن السامع غبي لا يتميز الشيء عنده إلا بالحس كقول الفرزدق:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع

وإما لبيان حاله2 في القرب أو البعد أو التوسط، كقولك: هذا زيد وذاك عمرو وذاك بشر. وربما جعل القرب ذريعة إلى التحقير كقوله تعالى: {وإذَا رآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إن يَتَّخِذُونَكَ إلَّا هُزُوًا أهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ}، [الأنبياء: 36]، وقوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ}، [العنكبوت: 64]، وعليه من غير هذا الباب قوله تعالى: {مَاذَا أرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}؟، [البقرة: 26]، وقول عائشة -رضي الله عنها- لعبد الله بن عمرو بن العاص: يا عجبًا لابن عمرو هذا، وقول الشاعر3:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هما للمتلمس خال طرفة. وهما من شواهد التقسيم في باب البديع كما سيأتي. والعير بفتح العين: الحمار. الرمة: القطعة من الحبل البالي، يشج: يكسر. الضيم: المذلة والهوان.

2 أي حال المسند إليه. وأمثال هذه المباحث تنظر فيها اللغة من حيث إنها تبين أن هذا مثال للقريب وذاك للمتوسط وذلك للبعيد، ويبحث عنها علم المعاني من حيث إنه إذا أريد بيان قرب المسند إليه المذكور المعبر عنه بشيء يوجب تصوره على أي وجه كان.. ويقول عبد القاهر: علم البلاغة هو على الجملة بحيث ينتفي لك من علم الأعراب خالصة ولبه "ص34 من الدلائل".

3 هو للهذلول العنبري. ونسبة المبرد في كامله "22 جـ1" إلى أبي مسلم الشيباني رأت المشاعر امرأته وهو يطحن بالرحا لأضيافه فأنكرت عليه. والمتقاعس الذي يدخل ظهره ويخرج صدره ضد الأحدب.

ج / 2 ص -20- تقول ودقت نحرها بيمينها أبعلي هذا بالرحا المتقاعس؟

وربما جعل البعد ذريعة إلى التعظيم كقوله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1-2] ذهابًا إلى بعد درجته، ونحوه: {وَتِلْكَ الجَنَّةُ التِيْ أُوْرِثْتُمُوْهَا}، ولذا قالت: فذلكن الذي لمتنني فيه، لم تقل "فهذا" -وهو حاضر- رفعا لمنزلته في الحسن وتمهيدًا للعذر في الافتتان به. وقد يجعل1 ذريعة إلى التحقير كما يقال: ذلك اللعين فعل كذا.

وإما للتنبيه -إذا ذكر قبل المسند إليه مذكور وعقب بأوصاف- على أن ما يرد بعد اسم الإشارة فالمذكور جدير باكتسابه من أجل تلك الأوصاف، كقول حاتم الطائي2:

ولله صعلوك يساور همه ويمضي علي الأحداث والدهر مقدما

فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة ولا شبعه إن نالها عد مغنما

إذا ما رأى يومًا مكارم أعرضت تيمم كبراهن ثمت صمما

يرى رمحه ونبله ومجنه وذا شطب عضب الضريبة مخذما

وأحناء سرج قاتر ولجامه عتاد أخي هيجا وطرفا مسوما

فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه وإن عاش لم يقعد ضعيفًا مذمما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي البعد. هذا وقد بقي من الأقسام القسم الرابع وهو أن يقصد من القرب التعظيم بأن ينزل قربه من ساحة الحضور والخطاب منزلة قرب المسافة فيعبر عنه بهذا كقوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}.

2 الصعلوك: الفقير. يساور: يغالب. الهم. الحزن أو الأمل والغاية. الطلبات بكسر اللام جمع طلبة بالكسر أيضًا وهي ما يطلبه الإنسان. الخمص: الجوع. ترحة: شقاء. المغنم: الغنيمة. تيمم: قصد، ثمت أي ثم. التصميم: العزم على الأمر. المجن: الترس. والشطب في السيف: الخطوط في متنه. العضب: القاطع. الضريبة: حد السيف المخذم: القاطع. أحناء السرج جمع حنو بكسر الحاء وهو اسم لكل من قربوسيه المقدم والمؤخر. القاتر: السرج الجيد الواقع على الظهر، العتاد: ما تعده لأمر من الأمور. الهيجا: الحرب. الطرف بكسر الطاء: الجواد الكريم الأصل. المسوم: من سام الخيل أرسلها للرعي أو للإغارة.

ج / 2 ص -21- فعدد له كما ترى خصالًا فاضلة من المضاء على الأحداث مقدمًا، والصبر على ألم الجوع، والأنفة من أن يعد الشبعة مغنمًا، وينمم كبرى المكرمات، والتأهب للحرب بأدواتها، ثم عقب ذلك بقوله "فذلك" فأفاد أنه جدير بإنصافه بما ذكر بعده.

وكذا قوله تعالى: {أولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وأولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لقمان: 5]، أفاد اسم الإشارة زيادة الدلالة على المقصود من اختصاص المذكورين قبله باستحقاق الهدى من ربهم والفلاح1.

وإما لاعتبار آخر مناسب2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 فقد عقب المشار إليه وهو "الذين يؤمنون" بأوصاف متعددة من الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وغير ذلك ثم عرف المسند إليه بالإشارة تنبيهًا على أن المشار إليهم أحقاء بما يرد بعد "أولئك" وهو كونهم على الهدى عاجلًا والفوز بالفلاح آجلًا من أجل اتصافهم بالأوصاف المذكورة.

2 مثل تنزيل المعقول منزلة المحسوس نحو: {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا}، و"ذلك هو النبل والشرف". ومثل تنزيل الغائب منزلة الحاضر، ومثل الاعتبارات التي ستأتي في وضع اسم الإشارة المظهر موضع المضمر.

وإن كان باللام1:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي تعريف المسند إليه باللام، وقيل المعرف هو "ال".... هذا ولام التعريف على قسمين:

1- لام العهد الخارجي وتحتها أقسام ثلاثة: صريح بأن تقدم له ذكر صراحة -وكنائي بأن تقدم له ذكر كناية- وعلمي بأن لم يتقدم له ذكر أصلًا لكنه معلوم عند الخاطب سواء كان حاضرًا أو لا، ويسميها النحويون إذا كان مدخولها معلومًا حاضرًا لام العهد الحضوري، وإن كان غير حاضر لام العهد الذهني.

2- لام الحقيقة وتشمل أربعة أقسام: لام الحقيقة من حيث هي وتسمى بلام الجنس - ولام العهد الذهني - ولام الاستغراق الحقيقي - ولام الاستغراق العرفي.. فإن أشير بها للحقيقة من حيث هي فهي لام الحقيقة أو الجنس، وإن أشير بها إلى الحقيقة في ضمن فرد مبهم فهي لام العهد الذهني، وإن أشير بها إلى الحقيقة في ضمن جميع الأفراد فهي للاستغراق.

فأقسام اللام سبعة. وقيل لام الحقيقة أصل ولام العهد الخارجي أصل آخر، وقيل الأصل لام العهد الخارجي، وقيل لام الاستغراق، وقيل الجميع أصول.

ج / 2 ص -22- فإما للإشارة إلى معهود بينك وبين مخاطبك1، كما إذا قال لك قائل: جاءني رجل من قبيلة كذا، فتقول.. ما فعل الرجل؟، وعليه قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}، أي وليس الذكر الذي طلبت2 كالأنثى التي وهبت لها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي للإشارة إلى حصة من الحقيقة معهودة بين المتكلم والمخاطب واحدًا كان أو اثنين أو جماعة. يقال: عهدت فلانًا إذا أدركته ولقيته، وذلك لتقدم ذكره صريحًا أو كناية.. فهي للدلالة على معين في الخارج وإما الحقيقة فهي معينة في الذهن.

2 أي الذي طلبته امرأة عمران، فالأنثى إشارة إلى ما تقدم ذكره صريحًا في قوله تعالى: {قَالَتْ رِبِ إَنِّيْ وَضَعْتُهَا أُنْثَى} لكنه ليس بمسند إليه، والذكر إشارة إلى ما سبق ذكره كناية في قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} فإن لفظ "ما" وإن كان يعم الذكور والإناث لكن التحرير وهو أن يعتق الولد لخدمة بيت المقدس إنما كان للذكور دون الإناث وهو المسند إليه.

هذا وقد يستغنى عن ذكره صريحًا أو كناية، وذلك لتقدم علم المخاطب به بالقرينة سواء كان حاضرًا أم لا نحو خرج الأمير إذا لم يكن في البلد إلا أمير واحد. فالعهد الحضوري والعلمي من أقسام العهد الخارجي لتحقق المشار إليه باللام خارجًا.

ج / 2 ص -23- وإما لإرادة نفس الحقيقة1 كقولك: الرجل خير من المرأة، والدينار خير من الدرهم، ومنه قول أبي العلاء المعري:

والخل كا لماء: يبدي لي ضمائره مع الصفاء، ويخفيها مع الكدر

وعليه من غير هذا الباب قوله تعالي: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَي}، أي جعلنا مبدأ كل شيء حي هذا الجنس الذي هو الماء، روي أنه تعالى خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء والجن من نار خلقها منه، وآدم من تراب خلقه منه.. ونحوه: {أولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 89].

والمعرف باللام2 قد يأتي لواحد باعتبار عهديته في الذهن لمطابقته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ليس المراد من الحقيقة الماهية الموجودة في الخارج بل مفهوم المسمى من غير اعتبار لما صدق عليه ذلك المفهوم من الأفراد. ومن ذلك: اللام الداخلة على المعرفات نحو: الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد؛ لأن التعريف للماهية، واللام الداخلة على القضية الطبيعية نحو: الحيوان جنس.. وهنا نظر؛ لأن لام الاستغراق ولام العهد الذهني اعتبر فيهما الأفراد مع أنهما من أقسام لام الحقيقة واعتبار الأفراد ينافي عدم اعتبارها، وأجيب بعدم ملاحظة الأفراد فيها بالنظر لذات الكلام وقطع النظر عن القرائن، وذلك صادق بأن لا تعتبر الأفراد أصلًا كما في لام الحقيقة أو تعتبر بواسطة القرائن كالعهد الذهني والاستغراق.

2 أي لام الحقيقة كما في المطول لا اللام مطلقًا، يعني مطبق اسم الجنس المعرف بلام الحقيقة الذي هو موضوع للحقيقة المتحدة في الذهن على فرد ما مبهم موجود من الحقيقة لمطابقة ذلك الواحد للحقيقة باعتبار كونه معهودًا في الذهن وجزئيًّا من جزئيات تلك الحقيقة مطابقًا إياها، وذلك عند قيام قرينة دالة على أن ليس القصد إلى نفس الحقيقة، كما في لام الحقيقة - من حيث هي هي، بل من حيث الوجود، ولا من حيث وجودها في ضمن جميع الأفراد كما في الاستغراق بل بعض غير معين.

ج / 2 ص -24- الحقيقة كقولك: ادخل السوق وليس بينك وبين مخاطبك سوق معهود في الخارج1 وعليه قول الشاعر2:

ولقد أمر على اللئيم يسبني "فمضيت ثمت قلت لا يعنيني"

وهذا يقرب في المعنى من النكرة3، ولذلك يقدر يسبني وصفًا للئيم لا حالًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وإذا كان هناك عهد في الذهن فلو كان هناك عهد خارجي كانت أل للعهد الخارجي.. ومن أمثلة هذا النوع أيضًا: وأخاف أن يأكله الذئب.

2 هو عميرة بن جابر الحنفي. والبيت في شواهد الجملة الحالية.

3 أي المعرف بلام العهد الذهني في المعنى كالنكرة أي بعد اعتبار القرينة وأما قبل اعتبارها فليس كالنكرة إذا هو موضوع للحقيقة المعينة في الذهن.

وهو من جهة اللفظ يجري عليه أحكام المعارف من وقوعه مبتدأ وذا حال ووصفًا للمعرفة وموصوفًا بها وعطف بيان من المعرفة وعكسه واسم كان ومفعولًا أول لظن. وإنما قال "كالنكرة"، لما بينهما من تفاوت ما، وهو أن النكرة مثل: ادخل سوقًا، معناها بعض غير معين من جملة أفراد الحقيقة، والمعرف بلام العهد الذهني معناه نفس الحقيقة وإنما تستفاد البعضية من القرينة كالدخول والأكل فيما مر، فالمجرد من اللام نحو "سوق" وذو اللام نحو "السوق" بالنظر إلى القرينة سواء وبالنظر إلى نفسيهما مختلفان، وهذا الفرق بناء على أن النكرة موضوعة للفرد المنتشر أما إن كانت موضوعة للماهية فالفرق أن تعين الماهية وعهديتها معتبر في مدلول المعرف بلام العهد الذهني وغير معتبر في مدلول النكرة وإن كان حاصلًا، فالفرق بينهما كالفرق بين اسم الجنس المنكر كأسد وعلم الجنس كأسامة. واعلم أن النكرة سواء كانت موضوعة للفرد المنتشر أو للمفهوم فهي لا توجد إلا في الفرد المنتشر وإنما الخلاف فيما وضعت له.. هذا ولكون المعرف بلام العهد الذهني في المعنى كالنكرة قد يعامل معاملة النكرة ويوصف بالجملة كقوله:

"ولقد أمر على اللئيم يسبني".

ج / 2 ص -25- وقد يفيد الاستغراق، وذلك إذا امتنع حمله على غير الأفراد وعلى بعضها دون بعض كقوله تعالى: {إن الْانْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 1-2].

والاستغراق ضربان:

حقيقي1 كقوله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة} أي كل غيب وشهادة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أشير باللام إلى الحقيقة لكن لم يقصد بها الماهية من حيث هي هي، ولا من حيث تحققها في ضمن بعض الأفراد بل في ضمن الجميع بدليل صحة الاستثناء الذي شرطه دخول المستثنى في المستثنى منه لو سكت عن ذكره، ودخوله فرع العموم الذي يدل على الاستغراق، وما ذكر شرط بالنسبة للاستثناء المتصل لا مطلقًا.

فاللام التي لتعريف العهد الذهني، والتي للاستغراق، هي لام الحقيقة حملت على ما ذكرنا بحسب المقام والقرينة، ولهذا قلنا إن الضمير في قوله: "يأتي" "وقد يفيد" عائد إلى المعرف باللام المشار بها إلى الحقيقة، فالمنظور له في الكل الحقيقة دون بعض الأفراد أو كلها. وأما لام العهد الخارجي فهي قسم برأسها أصل لكل خارجي.. هذا ولا بد في لام الحقيقة من أن يقصد بها الإشارة إلى الماهية باعتبار حضورها في الذهن ليتميز اسم الجنس المعرف كالرجعي عن أسماء الأجناس النكرات كرجعي مثلًا، فالإشارة بها إلى الماهية لا باعتبار حضورها في الذهن وإن كانت حاضرة فيه ضرورة أنها موضوعة لها ولا يضع الواضع لفظًا لمعنى إلا إذا كان حاضرًا في ذهنه، وإذا اعتبر الحضور في الذهن فوجه الفرق بينها وبين المعرف بلام العهد الخارجي العلمي أن لام العهد إشارة إلى حصة معينة من الحقيقة واحدًا كان أو اثنين أو جماعة ولام الحقيقة إشارة إلى نفس الحقيقة من غير نظر إلى الأفراد هذا.. والفرق بين علم الجنس واسم الجنس المعرف أن الأول يدل على التعيين والحضور الذي هو جزء المسمى بجوهر اللفظ والثاني يدل على ذلك بالآلة.

1 وهو أن يراد كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب اللغة.

ج / 2 ص -26- وعرفي1 كقولنا "جمع الأمير الصاغة" إذا جمع صاغة بلده أو أطراف مملكته فحسب، لا صاغة الدنيا2.

واستغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع3، بدليل أنه لا يصدق "لا رجل في الدار" في نفس الجنس إذا كان فيها رجل أو رجلان، ويصدق "لا رجال في الدار4".

ولا تنافي بين الاستغراق وإفراد اسم الجنس5:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وهو أن يراد كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف.

2 قبل المثال مبني على مذهب المازني القائل أن "أل" الداخلة على اسم الفاعل واسم المفعول معرفة لا موصولة، وإلا فاللام في اسم الفاعل عند غيره موصولة.

وفي نظر؛ لأن الخلاف إنما هو في اسم الفاعل والمفعول بمعنى الحدوث دون غيره، نحو: المؤمن والكافر والعالم والجاهل؛ لأنهم قالوا هذه الصفة فعل في صورة الاسم -وأل لا تدخل على الفعل- فلا بد فيه من معنى الحدوث؛ لأنه معتبر في الفعل. ولو سلم جريان الخلاف في اسم الفاعل سواء كان بمعنى الحدوث أو الثبوت فالمراد تقسيم مطلق الاستغراق سواء كان بحرف التعريف أو غيره كالإضافة والموصول فإن الموصول أيضًا مما يأتي للاستغراق نحو "أكرم الذي يأتونك إلا زيدًا" و"اضرب القائمين إلا عمرًا".

3 وكذلك من استغراق المثنى بمعنى أنه يتناول كل واحد واحد من الأفراد والمثنى إنما يتناول كل اثنين اثنين والجمع إنما يتناول كل جماعة جماعة.

4 وهذا في النكرة المنفية مسلم، وأما في المعرف باللام فليس مسلمًا؛ لأن الجمع المعرف بلام الاستغراق يتناول كل واحد من الأفراد، فيكون الجمع المعرف باللام مساويًا في الاستغراق، ولا فرق إلا في المفرد المستغرق فلا يستثني منه إلا الواحد بخلاف الجمع المستغرق فيستثني منه الواحد والمثنى والجمع.

5 لما كان ههنا مظنة اعتراض هو أن أفراد الاسم يدل على وحدة معناه والاستغراق يدل على تعدده وهما متنافيان، قال الخطيب: "ولا تنافي"، وشرح عدم المنافاة.

ج / 2 ص -27- لأن الحرف إنما يدخل عليه مجردًا عن الدلالة على الواحدة والتعدد؛ ولأنه بمعنى كل الأفرادي لا كل المجموعي، أي معنى قولنا الرجل: "كل فرد من أفراد الرجال لا مجموع الرجال"1، ولهذا امتنع وصفه بنعت الجمع، وللمحافظة على التشاكل بين الصفة والموصوف أيضًا.

فالحاصل أن المراد باسم الجنس المعرف باللام:

إما نفس الحقيقة لا ما يصدق عليه من الأفراد وهو تعريف الجنس والحقيقة، ونحوه علم الجنس كأسامة.

وإما فرد معين وهو العهد الخارجي، ونحوه العلم الخاص كزبد.

وإما فرد غير معين وهو العهد الذهني ونحوه النكرة كرجل.

وإما كل الأفراد وهو الاستغراق، ونحوه لفظ كل مضافًا إلى النكرة كقولنا: كل رجل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 الجواب الأول بتسليم أن الوحدة تنافي التعدد والثاني يمنع تنافيهما.. وخلاصة الجواب الأول أن الحرف الدال على الاستغراق كحرف النفي ولام التعريف إنما يدخل على الاسم المفرد مجردًا عن الدلالة على معنى الوحدة والتعدد وامتناع وصفه بنعت الجمع للمحافظة على التشاكل اللفظي.

والجواب الثاني يرجع إلى أن المفرد الداخل عليه حرف الاستغراق بمعنى كل فرد لا مجموع الأفراد، ولأجل كونه بمعنى كل فرد امتنع وصفه بنعت الجمع وإن حكاه الأخفش في نحو "أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض" نظرًا لكون أل للجنس ومدخولها يصدق بالجمع لتحققه.

ج / 2 ص -28- وقد شكك السكاكي على تعريف الحقيقة والاستغراق بما خرج الجواب عنه مما ذكرنا1:

ثم اختار2-بناء على ما حكاه عن بعض أئمة أصول الفقه من كون اللام موضوعة لتعريف العهد لا غير- أن المراد بتعريف الحقيقة تنزيلها منزلة المعهودة بوجه من الوجوه الخطابية، إما لكون الشيء حاضرًا في الذهن لكونه محتاجًا إليه على طريق التحقيق أو التهكم، أو لأنه عظيم الخطر معقود به الهمم على أحد الطريقين3، وإما؛ لأنه لا يغيب عن الحس على أحد الطريقين لو كان معهودًا.

وقال4:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 قال السكاكي: "إن قصد به -أي بالمعرف بلام الحقيقة- الإشارة إلى الماهية من حيث هي هي لم تتميز من أسماء الأجناس التى ليست فيها دلالة على البعضية والكلية نحو رجعي وذكري والرجعي والذكري، وإن قصد به الإشارة إليها باعتبار حضورها في الذهن لم يتميز عن تعريف العهد" "ص93 من المفتاح"، وجوابه أنا لا نسلم عدم تميزه عن تعرف العهد على هذا التقدير؛ لأن النظر في العهد إلى فرد معين أو اثنين أو جماعة بخلاف الحقيقة فإن النظر فيها إلى نفس المساهمة والمفهوم باعتبار كونها حاضرة في الذهن وهذا المعنى غير معتبر في اسم الجنس النكرة، وعدم اعتبار الشيء ليس باعتبار لعدمه.. وقال السكاكي في تتمة كلامه: "وإن قصد بتعريف الحقيقة" الاستغراق لزم في اللام كونها موضوعة لغير التعريف ولزم مع ذلك أن يكون الجمع بينها وبين لفظ المفرد جمعًا بين المتنافين... وكل ذلك على ما يرى فاسد، والأقرب -بناء على قول بعض أئمة أصول الفقه أن اللام موضوعة لتعريف العهد غير- هو أن يقال: المراد بتعريف الحقيقة أحد قسمي التعريف وهو تنزيلها منزلة المعهود بوجه من الوجوه الخطابية إلخ.

2 أي السكاكي.

3 أي التحقيق أو التهكم.

4 أي السكاكي أي أن لام الاستغراق موضوعة في أصلها للحقيقة من حيث هي فتصلح من أصلها للاستغراق ولغيره بحسب اختلاف المقامات، وهذا جواب من السكاكي عن تشكيكه في الاستغراق بعد جوابه عن تشكيكه في تعريف الحقيقة، ومبناه على إدخال لام الاستغراق في لام العهد؛ لأن الاستغراق لا يجوز أن يكون معنى اللام.. ورأيي أن رأي السكاكي في اللام أقرب إلى البلاغة وأبعد عن اصطلاحات المنطق والنحو التي لا طائل تحتها.

ج / 2 ص -29- "الحقيقة من حيث هي هي لا واحدة ولا متعددة، لتحققها مع الوحدة تارة ومع التعدد أخرى، وإن كانت لا تنفك في الوجود عن أحدهما، فهي صالحة للتوحد والتكثر، فكون الحكم استغراقًا أو غير استغراق إلى1 مقتضى المقام: فإذا كان خطابيًّا2 مثل: "المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم" حمل المعرف باللام -مفردًا كان أو جمعًا- على الاستغراق، بعلة إيهام أن القصد إلى فرد دون آخر مع تحقق الحقيقة فيهما ترجيح لأحد المتساويين، وإذا كان استدلاليًّا حمل على أقل ما يحتمل وهو الواحد في المفرد والثلاثة في الجمع3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 خبر "فكون"، أي راجع إلى مقتضى المقام.

2 المقام الخطابي هو الذي يكتفي فيه بالظن، والاستدلالي هو الذي يطلب فيه اليقين.

3 مثل حصل الدرهم وحصل الدراهم، فيجعل الأول على درهم واحد والثاني على ثلاثة؛ لأن هذا هو المتيقن فيهما.

خلاصة للام التعريف وأقسامها:

اللام المعرفة تأتي: للعهد الخارجي، والحقيقة، والعهد الذهني، والاستغراق:

1 أما لام العهد الخارجي:

فهي التي يراد بمدخولها معين في الخارج فردا أو أكثر، ونوعين مدخولها أما: لتقدم ذكره صريحًا أو كناية، وأما لتقدم العلم به سواء كان حاضرًا أو غير حاضر.

فالذكر الصريح مثل: {فَأَرْسَلْنَا إِلَىْ فِرْعَوْنَ رَسُوْلَاً، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُوْل}، والكنائي مثل: {وَلَيْسَ الذَكَرُ كَالأُنْثَى} فإن الذكر لم يتقدم ذكره صريحًا بل كناية في قوله تعالى: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} فإن ما محتمل للذكر والأنثى ولكن بانضمام قيد التحرير إليه صار مرادًا به الذكر.. ومثال التقدم العلمي وهو مشاهد حاضر أغلق الباب لداخل

ج / 2 ص -30- ..........................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عليك، والعلمي الغير المشاهد: {إِذْ هُمَا فِيْ الغَارِ..} فالمعرف بلام العهد الخارجي نظير ضمير الغائب في وجوب تقدم مدخولها، وهو أيضًا نظير علم الشخص في الدلالة على فرد معين في الخارج. والفرق بينهما "علم الشخص والمعرف باللام هذه" أن التعيين في علم الشخص مستفاد من اللفظ وفيه من اللام.

2 ولام الحقيقة:

هي التي يراد بمدخولها الحقيقة من حيث هي، أي بقطع النظر عن الأفراد وتسمى لام الجنس والطبيعة نحو الرجل خير من المرأة والإنسان حيوان ناطق ولكلمة ما دل على معنى مفرد.. والمراد من الحقيقة هنا ما يفهم من اللفظ سواء كان له تحقق في الخارج بتحقق أفراده: كما قدمنا أو في الذهن فقط نحو: العنقاء والغول.

3 ولام العهد الذهني:

هي التي يراد بمدخولها الحقيقية لا من حيث هي بل باعتبار تحققها في فرد مبهم غير معين لا في الذهن ولا في الخارج، نحو أطعم المسكين صدقة الفطر فإنه ليس المراد بمدخولها الحقيقة من حيث هي؛ لأن الحقيقة لا تطعم، ولا فردًا معينًا؛ لأن الغرض أنه لا عهد ولا تعين له في الخارج ولا في الذهن، كما أنه ليس المراد الحقيقة باعتبارها في جميع الأفراد لاستحالته، بل المراد بعض من الأفراد غير معين فلفظ أطعم قرينة على إرادة الفرد المبهم. ومما ألفت نظرك إليه هنا أن المعرف باللام في هذا القسم بالنظر للقرينة مساو للنكرة في دلالة كل منهما على فرد مبهم وبالنظر إلى لفظه وقع النظر عن القرينة هو معرفة لفظًا ومعنى، أما لفظًا فلوجود اللام المعرفة وأما معنى؛ فلأنه حينئذ دال على الحقيقة في ضمن الفرد عند إرادته والحقيقة معينة، ومن ثم جاز معاملته عاملة النكرة نظرًا إلى القرينة ومعاملته معاملة المعرفة نظرًا للفظ والمعنى بقطع النظر عن القرينة، ولهذا تراهم يقولون في قول الشاعر:

ولقد أمر على اللئيم يسبني.

إلخ: إن جملة يسبني يجوز إعرابها حالًا نظرًا؛ لأن اللئيم معرفة، وصفة؛ لأنها نكرة نظرًا للقرينة.

4 ولام الاستغراق:

هي التي يراد بها الحقيقة من حيث وجودها في جميع الأفراد،

ج / 2 ص -31- ..........................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والاستغراق قسمان حقيقي وعرفي، فالحقيقي أن تراد الحقيقة في ضمن جميع الأفراد التي يتناولها اللفظ بحسب الوضع نحو: {إِنَ الأَبْرَارَ لَفِيْ نَعِيْمٍ}، والعرفي أن تراد الحقيقة في ضمن جميع الأفراد التي يتناولها اللفظ بحسب العرف نحو جمع الأمير الصاغة.

ولكن السكاكيش بعد أن ذكر هذه الأقسام في باب المسند إليه، قال في باب المسند: والقول بكون اللام لتعريف الحقيقة أو الاستغراق مشكل، فأورد اعتراضًا على كونها لتعريف الحقيقة واعتراضًا آخر على كونها للاستغراق، أما حاصل الاعتراض الأول فإنه قال إذا أريد بكونها لتعريف الحقيقة أنها لتعريف الحقيقة من حيث هي بقطع النظر عن حضورها في الذهن لزم أن تكون أسماء الأجناس المصادر المجردة من آل معارف نحو ذكرى ورجعى وضرب وقتل؛ لأنها موضوعة للحقيقة باتفاق، وإذالم يتميز اسم الجنس المجرد من أل عن المقترن بها يكون معرفة وكونه معرفة باطل بدليل أنه لا يصح في الاستعمال العربي وصفه بالمعرفة، فلا يقال رجع رجعي السريعة أو البطيئة، وإنما تعرضت لأسماء الأجناس المصادر دون غير المصادر نحو رجل؛ لأن الأمر هين في مثل رجل. فإنه قيل أنه وضع للفرد المنتشر بناء عليه فلا تعين في مدلوله.

فإن فرق بين اسم الجنس المعرف بلام الحقيقة والمجرد منها بأن الأول موضوع للماهية باعتبار حضورها في ذهن السامع وأن التعيين فيها مقصود ملحوظ بخلاف المجرد منها فإن التعيين فيه حاصل غير مقصود، والفرق واضح بين الحاصل المقصود والحاصل من غير قصد -إن فرق بينهما بذلك كان الفرق صحيحًا ولكن يشكل الأمر من ناحية أخرى. وهي أنه لا يكون هناك حينئذ فرق بين المعرف بلام الحقيقة والمعرف بلام العهد الخارجي العلمي، فإن كلا منهما أشير به إلى معهود في الذهن.. هذا هو إشكال السكاكي بإيضاح.

وقد أجاب عنه بعض الكاتبين في الفرق بين المعرف بلام الحقيقية والمعرف بلام العهد الخارجي العلمي بأن مدلول لام العهد الخارجي فرد معين في الخارج ومدلول لام الحقيقة الملحوظة ذهنًا، والفرق واضح بين المدلولين.

ولكن السكاكي سلك في حل هذا الإشكال مسلكًا آخر، وأجاب عن عن هذا الاعتراض الوارد على كون اللام لتعريف الحقيقة أن اللام لتعريف

ج / 2 ص -32- ........................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العهد مطلقًا وتعريف الحقيقة من قبيل التعريف العهدي وذلك؛ لأن تعريف العهد معناه الدلالة على ما هو حاضر في ذهن السامع معهود بين المتكلم والمخاطب عهدًا تحقيقيًّا أو تقديريا تنزيلًا، فالعهد التحقيقي أن يتقدم ذكر مدلولها صريحًا أو كناية أو يتقدم العلم به وتسمى اللام حينئذ لام العهد الخارجي، والعهد التقديري التنزيلي هو ألا يتقدم ذكر مدخولها لا صريحا ولا كناية ولا يتقدم العلم به ولكنه منزل منزلة المعهود في ذهن السامع لاعتبارات خطابية يأتي تفصيلها وهذا العهد يسمى التعريف فيه بتعريف لام الحقيقة سواء أريد بمدخولها الحقيقة من حيث هي أوفى ضمن فرد مبهم.

وتسمى اللام حينئذ لام العهد الذهني فلام الحقيقة والعهد الذهني تسميان بلام العهد الذهني على رأي السكاكي وهي لم يشر بها إلى تعيين مدخولها في ذهن السامع على سبيل التحقيق بل على سبيل تنزيله منزلة المعهود في ذهن السامع ولا عهد في الواقع. ولكي ينكشف لك مذهب السكاكي انكشافًا أكثر أذكر ما قاله الشيرازي: فالفرق بين اسم الجنس المنكر والمعرف أنك إذا قلت جاء رجل كنت قد أحدثت في ذهن السامع شيئًًًًًا ما كان حاضرًا فيه ولا مقدرًا حضوره بوجه من الوجوه الخطابية الآتية، وإذا قلت جاء الرجل أو جاء الحبيب مثلًا من غير أن يتقدم له ذكر ولا علم كنت قد أشرت إلى موجود في ذهنه حاضرًا على وجه الفرض والتقدير، فاسم الجنس المعرف تعريف الحقيقة زاد على مفهوم غير المعرف منه بهذا القدر من التعيين وهو فرض وجوده الخطابي، وبهذا القدر من التعيين استحق اسم التعريف.. والوجوه الخطابية التي تجعل مدخول لام الحقيقة حاضرًا في الذهن على وجه الفرض والتقدير ترجع لأمور كثيرة: منها أن يكون محتاجًا إليه على طريق التحقيق

أو التحكم نحو الدينار خير من الدرهم والمسلم حضر يريد غير معين تهكما به حيث لا يعمل بمقتضى الإسلام، أو أن يكون عظيم الخطر معقودًا به الهمم نحو والذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة، أو يكون حاضرًا لا يغيب عن الحس نحو جاء الحبيب.

هذا هو اعتراض السكاكي الذي أورده على كون اللام لتعريف الحقيقة وهذا هو جوابه عنه وجواب غيره.. أما اعتراضه على كون اللام للاستغراق فقد قال: إن القول بكون اللام للاستغراق يلزم عليه الجمع بين المتنافيين وذلك بأن اللام تدل حينئذ على التعدد والمفرد الداخلة عليه على الوحدة، والتعدد والوحدة متنافيان وقد أجاب عن هذا الاعتراض بأن الاستغراق ليس مستفادًا من المعرف باللام بطريق الوضع وإنما يفهم من المقام، فإن الحقيقة من حيث هي ليست متوحدة لتحققها مع التعدد ولا متعددة لتحققها مع الوحدة إذ كانت ليست للتعدد فقط ولا للتوحد فقط.

فكون الحكم المحكوم به على مدخول اللام مستغرقًا لجميع أفراده وغير مستغرق يرجع إلى مقتضى المقام فإذا كان المقام خطابيًّا يكتفي فيه بالظن حمل الحكم على الاستغراق وأن المراد بمدخولها العام سواء كان مدخولها مفردًا نحو المؤمن غر كريم أو جمعًا نحو المؤمنون هينون لينون فالمقام هنا خطابي؛ لأن هذه الأمثلة من القضايا المقبولة من جهة الشرع وهنا أريد بمدخولها الاستغراق والحكم ثابت لجميع الأفراد بسبب أن المتكلم يلقى في خيال السامع أن تخصيص الحكم ببعض المؤمنين دون بعض مع تحقق حقيقة الإيمان في كل منهما ترجيح لأحد المتساويين بلا مرجح، فوجب الحمل على الاستغراق من أجلها.

أما إذا كان المقام استدلاليًّا، فيحمل مدخول اللام على المتيقن وهو الواحد في المفرد والثلاثة في الجمع نحو حصل الدرهم، فيراد من الدرهم واحد فقط، وحصل الدراهم ويراد ثلاثة فقط.

وقد أجاب صاحب الإيضاح عن هذا الاعتراض الثاني بجوابين الأول بالمنع والثاني بالتسليم، أما جواب المنع فحاصله أن المراد بالعموم المدلول عليه بأداة الاستغراق الكل الأفرادي لا الكل المجموعي، والفرق بينهما أن يراد من مدخول اللام كل واحد بدلًا عن الأفراد لا كل واحد مجتمع مع الآخر، وهذا لا ينافي الوحدة في المدلول، وأما الكل المجموعي فيراد فيه الفرد مجتمعًا مع الآخر، وهذا الذي ينافي الوحدة في المدلول وهو غير المراد. وجواب التسليم: سلمنا فرضًا أن الوحدة هنا تتنافى مع التعدد، كأن أداة الاستغراق تدخل على المفرد مجردًا عن الوحدة والتعدد، فيصلح لأن يراد الحقيقة في ضمن الجميع.

ج / 2 ص -33- وإن كان بالإضافة1:

فأما؛ لأنه ليس للمتكلم إلى إحضاره في ذهن السامع طريق أخص منها كقوله2:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي تعريف المسند إليه بالإضافة إلى شيء من المعارف.

2 البيت لجعفر بن علبة الحارثي وهو من مخضرمي الدولتين، شاعر مقل غزل فارس مذكور في قومه.. اليمانين: جمع يمان؟. مصعد: مبعد ذاهب في الأرض. الجنيب: المجنوب. المستتبع الذي يتبعه قومه ويقدمونه أمامهم. الجثمان: الشخص الموثق: المقيد.

والشاهد في قوله "هواي" أي مهويي، فالإضافة أخصر من الذي أهواه ونحوه والاختصار مطلوب لضيق المقام وفرط السآمة لكونه في السجن وحبيبه على الرحل، ولفظ البيت خبر معناه التأسف والتحسر على بعد الحبيب.

ج / 2 ص -34- هواي مع الركب اليمانين مصعد جنيب، وجثماني بمكة موثق

وإما لإغنائها عن تفصيل متعذر أو مرجوح لجهة1، كقوله2:

بنو مطر يوم اللقاء كأنهم أسود لها في غيل خفان أشبل

وقوله3:

قومي هم قتلوا "أميم" أخي فإذا رميت يصيبني سهمي

وأما لتضمنها4 لشأن المضاف إليه كقولك: "عبدي حضر" فتعظم شأنك، أو لشأن المضاف كقولك: "عبد الخليفة ركب"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 المتعذر مثل اجتمع أهل الحق على كذا. والمرجوح أو المتعسر مثل أهل البلد في رفاهية.

2 البيت لمروان بن أبي حفصة الشاعر يمدح معن بن زائدة الشيباني، وبنو مطر قومه بطن من شيبان. خفان: مأسدة قرب الكوفة.. الأشبل جمع شبل وهو ولد الأسد. والشاهد في قوله: بنو مطر فالإضافة هنا تغني عن التفصيل وتعداد أسمائهم.

3 هو الحارث بن وعلة الجرمي، وهو شاعر جاهلي غير الحارث بن وعلة الشيباني. وأميم منادى وهي التي كانت تحضه على الأخذ بثأر أخيه من قومه. والشاهد في الإضافة هنا قوله "قومي"، لإغنائها عن تفصيل مرجوح.

4 أي الإضافة.

ج / 2 ص -35- فتعظم شأن العبد. أو لشأن غيرهما1 كقولك "عبد السلطان عند فلان"، فتعظم شأن فلان. أو تحقيرًا2 نحو ولد الحجام حضر.

وإما لاعتبار آخر مناسب3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي غير المضاف والمضاف إليه.

2 أي أو لتضمن الإضافة تحقيرًا: للمضاف كالمثال، أو للمضاف إليه نحو "ضارب زيد حاضر" أو لغيرهما نحو "ولد الحجام جليس زيد".

3 كتضمن الإضافة تحريضًا على إكرام أو إذلال أو نحوهما نحو صديقك أو عدوك بالباب، ومنه قوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُوْدٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} فإنه لما نهيت المرأة عن المضار أضيف الولد إليها استعطافًا لها عليه، وكذا الوالد. أول لتضمنها استهزاء أو تهكمًا نحو {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} إلي غير ذلك من الاعتبارات.. وبذلك ينتهي بحث تعريف المسند إليه.

تنكير المسند إليه:

وأما تنكيره1: فللإفراد2 كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى...} أي: فرد من أشخاص الرجال.

أو للنوعية3، كقوله تعالي: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة}، أي نوع من الأغطيه غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي الإتيان به نكرة سواء كان مفردًا أو مثنى أو جمعًا.

2 أي القصد إلى فرد مما يقع عليه اسم الجنس.. هذا ودلالة النكرة على المفرد ظاهرة إذا قلنا إنها موضوعة للفرد المنتشر، أما إذا قلنا أنها موضوعة للحقيقة من حيث هي فأفادتها الأفراد باعتبار الاستعمال الأصلي؛ لأن الحقيقة يكفي في تحققها فرد واحد.

3 أي القصد إلى نوع منه؛ لأن التنكير كما يدل على الوحدة شخصًا يدل عليها نوعًا.

ج / 2 ص -36- الله1.

ومن تنكير غير المسند إليه للأفراد قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29]2، وللنوعية قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96]، أي نوع من الحياة مخصوص، وهو الحياة الزائدة، كأنه قيل "ولتجدنهم أحرص الناس -وإن عاشوا ما عاشوا- على أن يزدادوا إلى حياتهم في الماضي والحاضر حياة في المستقبل، فإن الإنسان لا يوصف بالحرص على شيء إلا إذا لم يكن ذلك الشيء موجودًا له حال وصفه بالحرص عليه، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاء} يحتمل الأفراد والنوعية، أي خلق كل فرد من أفراد الدواب من نطفة معينة، أو كل نوع من أنواع الدواب من نوع من أنواع المياه3.

أو للتعظيم والتهويل. أو للتحقير4، أي ارتفاع شأنه أو انحطاطه إلى حد لا يمكن معه أن يعرف، كقول ابن أبي السمط5:

فتى لا يبالي المدلجون بنوره إلى بابه ألا تضيء الكواكب

له حاجب في كل أمر يشينه وليس له عن طالب العرف حاجب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وفي المفتاح أن التنكير للتعظيم أي غشاوة عظيمة تحجب أبصارهم بالكلية وتحول بينها وبين الإدراك.

2 الشاهد في تنكير "رجلًا" للأفراد، وغير مسند إليه، ومتشاكسون أي مختلفون متنازعون. "وسلمًا" أي خالصًا.

3 فتنكير: كل من "دابة" و"ماء" يحتمل الأفراد أو النوعية وكل منهما ليس مسندًا إليه.

4 أي تنكير المسند إليه قد يكون للتعظيم أو للتحقير.

5 في زهر الآداب أن البيت لأبي السمط بن أبي حفصه وجده مروان بن أبي حفصه الأكبر.

ومثله:

ولله مني جانب لا أضيعه وللهو مني والخلاعة جانبه

والحاجب: المانع. يشين: يعيب.

ج / 2 ص -37- أي له حاجب أي حاجب، وليس له حاجب ما.

أو للتكثير كقولهم "أن له لابلا" و"أن له لغنما"1، يريدون الكثرة. وحمل الزمخشري التنكير في قوله تعالي: {قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} عليه2.

أو للتقليل كقوله تعالي: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]، أي وشيء ما من رضوانه أكبر من ذلك كله؛ لأن رضا الله سبب كل سعادة وفلاح؛ ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم وإنما تهنأ له برضاه، كما إذا علم بسخطه تنغصت عليه ولم يجد لها لذة وإن عظمت.

وقد جاء التعظيم والتكثير جميعًا3، كقوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4]، أي رسل ذوو عدد كثير وآيات عظام. وأعمار طويلة ونحو ذلك.

والسكاكي لم يفرق بين التعظيم والتكثير ولا بين التحقيير والتقليل. ثم جعل التنكير في قولهم "شر أهر ذا ناب" للتعظيم، وفي قوله تعالى:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هذا من تنكير غير المسند إليه، إلا إذا نظرنا إلى أن اسم أن أصله المبتدأ.

2 أي على الكثير. هذا والفرق بين التكثير والتعظيم أن التكثير باعتبار الكميات والمقادير تحقيقًا كما في قوله: "إن لنا لإبلًا" أو تقديرًا كما في قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبر}، وأما التعظيم فبحسب ارتفاع الشأن وعلو الطبقة وكذا التحقير والتقليل.

3 وقد ينكر للتحقير والتقليل معا مثل "حصل لي منه شيء" أي شيء حقير قليل.

ج / 2 ص -38- {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} [الأنبياء: 46]. لخلافه1، وفي كليهما2 نظرًا أما الأول فلما سيأتي3، وأما الثاني فلأن خلاف التعظيم مستفاد من البناء للمرة ومن نفس الكلمة؛ لأنها إما من قولهم "نفحت" الريح إذا هبت أي هبة، أي من قولهم "نفح الطيب" إذ فاح أي موحة كما يقال شمة، واستعماله بهذا المعنى4 في الشر استعارة إذ أصله أن يستعمل في الخير، يقال "له نفحة طيبة" أي هبة من الخير5..

وذهب6 أيضًا إلى أن قول تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45] بالإضافة، أما للتهويل أو لخلافه7، والظاهر أنه لخلافة وإليه ميل الزمخشري، فإنه ذكر أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لم يخل هذا الكلام من حسن الأدب مع أبيه، حيث لم يصرح فيه أن العذاب لاحق له لاصق به، ولكنه قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45]، فذكر الخوف والمس ونكر العذاب.

وأما التنكير في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} فيحتمل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي للتحقير، راجع ص83 من المفتاح.. والمثل "شر أهر ذا ناب" يضرب في ظهور أمارات الشر ومخايله. وذا الناب: السبع والمراد به هنا كلب.

2 أي في كلا الجعلين.

3 أي في بحث تقديم المسند إليه.

4 وهو أن تكون "نفحة" من "نفح الطيب".

5 وجواب الاعتراض على كلام السكاكي في "نفحة" أنه إن أراد أن لبناء المرة مدخلًا في إفادة التحقيق فهذا لا ينافي كون التنكير للتحقير؛ لأنه مما يقبل الشدة والضعف، وإن أراد أن التحقير المستفاد من الآية مفهوم من بناء المرة ونفس الكلمة بحيث لامدخل للتنكير أصلًا فممنوع للفرق الظاهر بين التحقير في "نفحة من عذاب" وبينه في نفحة العذاب بالإضافة.

6 أي السكاكي.

7 أي للتحقير.

ج / 2 ص -39- النوعية والتعظيم، أي ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، لمنعه عما كانوا عليه من قتل جماعة بواحد متى اقتدروا، أو نوع من الحياة وهو الحاصل للمقتول والقاتل بالارتداع عن القتل للعلم بالاقتصاص، فإن الإنسان إذا هم بالقتل تذكر الاقتصاص فارتدع فسلم صاحبه من القتل وهو من القود، فتسبب لحياة نفسين.

ومن تنكير غير المسند إليه للنوعية {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا}، أي وأرسلنا عليهم نوعًا من المطر عجيبًا، يعني الحجارة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِين...} وللتحقير 1 {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًَّا}2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي ومن تنكير غير المسند إليه للتحقير.

2 أي ظنًّا حقيرًا ضعيفًا إذا الظن مما يقبل الشدة والضعف، فالمفعول المطلق ههنا للنوعية مع التأكيد لا للتأكيد المجرد وبهذا الاعتبار صنح وقوعه بعد الاستثناء مفرغًا مع امتناع "ما ضربته إلا ضربًا" على أن يكون المصدر للتأكيد؛ لأن مصدر ضربته لايحتمل غير الضرب والمستثنى منه يجب أن يكون متعددًا يحتمل المستثنى وغيره. هذا وكما أن التنكير الذي في معنى البعضية يفيد التعظيم فكذلك صريح لفظ البعض، مثل: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}، أراد محمدًا صلى الله عليه وسلم، ففي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى.

وصف المسند إليه1:

وأما وصفه: فلكون الوصف تفسيرًا له كاشفًا عن معناه كقولك "الجسم الطويل العريض العميق محتاج إلى فراغ يشغله2":

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 الوصف قد يطلق على نفس التابع المخصوص، وقد يطلق بمعنى المصدر وهو الأنسب ههنا، وأوفق بقوله "وأما بيانه" "وأما الإبدال منه". أي وأما ذكر النعت له.

2 فإن مجموع هذه الأوصاف مما يوضح الجسم ويقع تعريفًا له، وهي بحسب المعنى صفة واحدة.

ج / 2 ص -40- ونحوه في الكشف قول أوس1:

الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا

حكي أن "الأصمعي" سئل عن "الألمعي" فأنشده ولم يزد. وكذا قوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19-21]، قال الزمخشري: "الهلع: سرعة الجزع عند مس المكروه، وسرعة المنع عند مس الخير، من قولهم: ناقة هلوع": سريعة السير، وعن أحمد بن يحيى "ثعلب"2: قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر: ما الهلع؟ قلت: قد فسره الله تعالى.. انتهى كلام الزمخشري.

أو لكونه مخصصًا له3 نحو "زيد التاجر عندنا":

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هو أوس بن حجر يرثي فضالة بن كلدة.

هذا والبيت مثل المثال السابق في كون الوصف للكشف والإيضاح وإن لم يكن وصفًا للمسند إليه.. "وكأن" مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن والجملة حال من فاعل "يظن". "والألمعي" معناه الذكي المتوقد. والوصف بعده يكشف عن معناه ويوضحه، لكن ليس بمسند إليه؛ لأنه إما مرفوع على أنه خبر "إن" في البيت السابق: إن الذي جمع السماحة والنجدة والبر والتقى جمعا.

أي جميعًا، فهي توكيد للأربعة الأوصاف قبلها، أو منصوب على أنه صفة لاسم إن أو بتقدير "أعني". وخبر إن حينئذ في قوله بعد عدة أبيات:

أودى فلا تنفع الأشاحة من أمر لمرء يحاول البدعا

2 أحد أئمة اللغة والنحو توفي عام 291هـ.

3 أي لكون الوصف مخصصا للمسند إليه، أي مقللًّا لاشتراكه، أي إذا كان فكرة مثل رجل تاجر عندنا -أو رافعًا لاحتماله- أي الاحتمال الواقع فيه إذا كان معرفة – والمراد بالاحتمال الذي يقتضيه هو الاشتراك اللفظي. والمشترك اللفظي هو ما وضع لأكثر من معنى بأوضاع متعددة كزيد، أما الاشتراك المذكور قبل الاحتمال فالمراد به الاشتراك المعنوي، والمشترك المعنوي ما وضع لمعنى واحد مشترك بين أفراد. فالتخصيص يكون في المعارف والنكرات، وله فرادان: تقليل الاشتراك، ورفع الاحتمال. وعند النحويين التخصيص تقليل الاشتراك في النكرات فقط أما رفع الاحتمال في المعارف فيقال له توضيح لا تخصيص سواء كانت المعارف إعلامًا أو غيرها. ثم إن ما ذكر لا يتأتى في المعرف بلام الجنس؛ لأن مدلوله الجنس وفيه الاشتراك لصدقه على كثيرين فوصفه لا يوضحه بل يخصصه كالنكرات، ولايتأتى أيضًا في المعرف بلام العهد الذهني لصدقه على كثيرين على سبيل البدل فوصفه لا يوضحه أيضًا بل يخصصه، فلعل مرادهم بالمعارف ما عدا هذين.

ج / 2 ص -41- أو لكونه مدحًا له كقولنا "جاء زيد العالم"، حيث يتعين1 فيه "زيد" قبل ذكر العالم. ونحوه من غيره2 قوله تعالى: {بِسْمِ اْللهِ الرَحْمَنِ الْرَحِيْمِ}، وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}.

أو لكونه ذمًّا له، كقولنا: ذهب زيد الفاسق، حيث يتعين فيه زيد قبل ذكر الفاسق. ونحوه من غيره قوله تعالى: {فَإِذَاقَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98].

أو لكونه تأكيدًا له كقولك أمس الدابر كان يومًا عظيمًا3.

أو لكونه بيانًا له كقوله تعالى: {لاتَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل: 51]، قال الزمخشري: الاسم الحامل لمعنى الأفراد والتثنية دال على شيئين على الجنسية والعدد المخصوص، إذا أريدت الدلالة على أن المعنى به منهما والذي يساق له الحديث هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به، ألا ترى أنك لو قلت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي إذا كان يتعين، فهو قيد، وإلا كان الوصف مخصصًّا، أي أن الظاهر في ذلك عند عدم التعيين وإن صح أن يراد فيه المدح أو الذم.

2 أي غير المسند إليه.

3 فلفظ الأمس مما يدل على الدبور.

ج / 2 ص -42- إنما هو إله ولم تؤكده بـ"واحد" لم يحسن وخيل أنك تثبت الألهية لا الوحدانية1.

وأما قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] فقال السكاكي: شفع الدابة بـ"في الأرض" وطائرا بـ"يطير بجناحيه" لبيان أن القصد بهما إلى الجنسين، وقال الزمخشري: معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة كأنه قيل: وما من دابة في جميع الأرضين السبع وما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه2.

واعلم: أن الجملة قد تقع صفة للنكرة، وشر طها أن تكون خبرية؛ لأنها في المعنى حكم على صاحبها كالخبر، فلم يستقم أن تكون إنشائية مثله. وقال السكاكي: لأنه يجب أن يكون المتكلم يعلم تحقق الوصف للموصوف؛ لأن الوصف إنما يؤتى "به" ليميز به الموصوف مما عداه، وتمييز المتكلم شيئًا من شيء بما لا يعرفه له محال، فما لا يكون عنده محققًا للموصوف يمتنع أن يجعله وصفًا له، بحكم عكس النقيض، ومضمون الجمل الطلبية كذلك3؛ لأن الطلب يقتضي مطلوبًا غير متحقق، لامتناع طلب الحاصل، فيقع شيء منها صفة لشيء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 يقول لسعد في المطول: وليس في كلام السكاكي ما يدل على أنه عطف بيان صناعي لجواز أن يريد أنه من قبيل الإيضاح والتفسير وإن كان وصفًا صناعيا.

2 فكلام الزمخشري يؤكد كلام السكاكي في أن القصد إلى الجنس، فباعتبار أن الوصف لبيان أن القصد إلى الجنس أفاد هذا الوصف زيادة التعميم والإحاطة.

3 أي ليست متحققة لموصوفها ولا يعلم المتكلم تحققها له.

ج / 2 ص -43- والتعليل الأول1 أعم؛ لأن الجملة الإنشائية قد لا تكون طلبية كقولنا: نعم الرجل زيد، وبئس الصاحب عمرو، وربما يقوم بكر، وكم غلام ملكت، وعسى أن يجيء سشر، وما أحسن خالدًا، وصيغ العقود نحو بعت واشتريت، فإن هذه كلها إنشائية وليس شيء منها بطلبي ولامتناع وقوع الإنشائية صفة أو خبرًا قيل في قوله:

حتى إذا جن الظلام واختلط جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط2

تقديره جاءوا بمذق مقول عنده هذا القول، أي بمدق يحمل رائيه أن يقول لمن يريد وصفه له: هل رأيت الذئب قط، فهل مثله في اللون لإيراده في خيال الرائي لون الذئب لورقته. وفي مثل قولنا: زيد اضربه أولا تضربه تقديره مقول في حقه "اضربه أو لا تضربه".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وهو أن الجملة الواقعة صفة في المعنى حكم على صاحبها كالخبر فلم يستقم أن تكون إنشائية مثله، وهو تعليل الخطيب، وهو اسم من تعليل السكاكي.

2 البيت للعجاج الراجز يصف قومًا أضافوا وأطالوا عليه ثم أتوه بلبن مخلوط بالماء يشبه لون الذئب.

توكيد المسند إليه:

وأما توكيده: فالتقرير1 كما سيأتي في "باب تقديم الفعل وتأخيره".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي تقرير المسند إليه أي تحقيق مفهومه ومدلوله، أي جعله ثابتًا محققًا مستقرًّا بحيث لا يظن به غيره، نحو جاءني زيد زيد إذا ظن المتكلم غفلة السامع عن سماع لفظ المسند إليه أو عن حمله على معناه. وقيل: المراد تقرير الحكم نحو أنا عرفت، أو المحكوم عليه، نحو أنا سعيت في حاجتك وحدي أو لا غير، وفيه نظر؛ لأن المثال الأخير الذي هو لتقرير المحكوم عليه ليس من تأكيد المسند إليه في شيء؛ لأن وحدي حال، ولا غيري عطف على المسند إليه. فليسا من التأكيد الاصطلاحي كما هو المراد ولو سلم أن المراد بالتأكيد هنا ما هو أعم من الاصطلاحي فلا نسلم وجود تأكيد المسند إليه في المثالين بل فيهما تأكيد التخصيص، أما "أنا عرفت" وهو المثال الأول الذي هو لتقرير الحكم فليس أيضًا من تأكيد المسند إليه؛ لأن تأكيد المسند إليه لا يكون لتقرير الحكم فقط؛ لأن تقرير الحكم في "أنا عرفت" إنما هو من تقديم المسند إليه، وهذا الرد مبني على أن المراد بالتأكيد هنا أعم من المعنى الاصطلاحي.

ج / 2 ص -44- أو لدفع توهم التجوز1 أو السهو2، كقولك: عرفت أنا، وعرفت أنت، وعرف زيد زيد، أو عدم الشمول3 كقولك "عرفني الرجلان كلاهما أو الرجال كلهم".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي التكلم بالمجاز -والمجاز هنا مراد به ما هو أعم من العقلي واللغوي- نحو زارني الأمير الأمير أو نفسه أو عينه، لئلا يتوهم أن إسناد الزيارة إلى الأمير مجاز وأن الزائر رسوله مثلًا.

2 أي لدفع توهم السهو، قيل توهم التجوز خاص بالتأكيد المعنوي ودفع السهو خاص بالتأكيد اللفظي ورجح عبد الحكيم والسعد أن المعنوى يجيء لدفع توهم التجوز ولدفع توهم السهو، والصحيح أيضًا أن التوكيد اللفظي قد يكون لدفع توهم التجوز أو السهو المعنوي وبهذا يشعر كلام الخطيب والأمثلة التي آتي بالدفع توهم السهو لاشتمالها على التأكيد المعنوي واللفظي.

3 أي لدفع توهم عدم الشمول، لئلا يتوهم أن بعضهم لم يجئ إلا أنك لم تعتد بهم وأنك أطلقت القوم على المعتبر منهم من إطلاق الكل على البعض مجازًا لغويًّا مرسلًا، أو أنك جعلت الفعل الواقع من البعض كالواقع من الكل بناء على أنهم في حكم شخص واحد فيكون إسناد الفعل الواقع من البعض للكل مجازًا عقليًّا، كقولك: بنو فلان قتلوا زيدًا وإنما قتله واحد منهم.. هذا وقد اعترض السعد في المطول على ذكر "دفع توهم الشمول هنا؛ لأنه من قبيل دفع توهم التجوز؛ لأن كلهم مثلًا إنما يكون تأكيدًا إذا كان المتبوع دالًّا على الشمول ومحتملًا لعدم الشمول على سبيل التجوز وإلا لكان تأسيسًا، وقال: إن ذكر "عدم الشمول" هنا إنما هو زيادة توضيح لا غير، واستدل بكلام لعبد القاهر يؤيد ذلك. وقال السيد: هذا إنما يصح إذا أريد بالتجوز ما يتناول العقلي واللغوي، وإما إذا خص بالتجوز العقلي كما يشعر به كلام السكاكي فلا بد من التعرض لعدم الشمول. فإنه تجوز لغوي لم يندرج في التجوز المذكور على هذا التقدير.

ج / 2 ص -45- السكاكي: ومنه "كل رجل عارف"، وكل إنسان حيوان.

وفيه نظر: لأن كلمة كل: تارة تقع تأسيسًا -وذلك إذا أفادت الشمول من أصله، حتى لولا مكانها لما عقل- وتارة تقع تأكيدًا وذلك إذالم تفده من أصله، بل تمنع أن يكون اللفظ المقتضى له مستعملًا في غيره- أما الأول فهو أن تكون مضافة إلى نكرة، كقوله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا} وقوله: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُون}، وأما الثاني فما عدا ذلك، كقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُم}. وهي في قوله: كل رجل عارف وكل إنسان حيوان من الأول لا الثاني1؛ لأنها لو حذفت منهمالم يفهم الشمول أصلًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي للتأسيس لا للتأكيد.

بيان المسند إليه1:

وأما بيانه وتفسيره: فلا يضاحه باسم مختص به2 كقولك: "قدم صديقك خالد".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي تعقيب المسند إليه بعطف البيان.

2 المراد بالإيضاح رفع الاحتمال فيه سواء كان نكرة أم معرفة.

هذا ولا يلزم أن يكون الثاني أوضح من الأول كما يدل عليه كلام سيبويه لجواز أن يحصل الإيضاح من اجتماعهما. وقد يكون عطف البيان بغير اسم مختص به كقوله:

والمؤمن العائذات الطير يمسحها ركبان مكة بين الغيل والسند

فالواو للقسم، والمؤمن: هو الله تعالى من الأمان، والطير: عطف بيان للعائذات، والغيل والسند: موضعان في جانب الحرم، فيهما الماء، والعائذات مفعول "مؤمن" أو مضاف إليه. وجواب القسم في البيت التالي وهو "ما إن أتيت إلخ"، فالطير عطف بيان للعائذات مع أنه ليس اسمًا يختص بها. هذا وقد يجيء عطف البيان لغير الإيضاح كالمدح في قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ}، فالبيت الحرام عطف بيان للكعبة جيء به للمدح لا للإيضاح كما تجيء الصفة لذلك.

ج / 2 ص -46- الإبدال من المسند إليه:

وأما الإبدال منه: فلزيادة التقرير والإيضاح، نحو جاءني زيد أخوك، وجاء القوم أكثرهم، وسلب عمرو ثوبه، ومنه في غيره1 قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6-7].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي غير المسند إليه.

2 هذا وقوله لزيادة التقرير يومئ إلى أن الغرض من البدل هو أن يكون مقصودًا بالنسبة -والمبدل منه وصلة للبدل، فالبدل هو الذي تتم به فائدة الكلام فصار كأنه المقصود حقيقة لا أنه هو المقصود بالذات حتى يكون الأول مقررًا له بل هو المقرر للأول، والتقرير زيادة تحصل تبعًا وضمنًا بحسب أصل الكلام. أما التأكيد فالغرض منه نفس التقرير والتحقيق، ولذا عبر هنا "بزيادة التقرير" وفي التأكيد "بالتقرير" وقد مثل المصنف للبدل المطابق وبدل البعض وبدل الاشتمال. وبيان التقرير في هذه الأنواع الثلاثة أن التكرير في بدل الكل مفيد للتقرير، أما بدل البعض والاشتمال فالمتبوع فيهما يشتمل على التابع إجمالًا حتى كأنه مذكور: أما في البعض فظاهر، وأما في الاشتمال؛ فلأن معناه أن يشتمل المبدل منه على البدل لا اشتمال الظرف على المظروف بل من حيث كونه مشعرًا به إجمالًا ومتقاضيًا له بوجه ما بحيث تبقى النفس عند ذكر المبدل منه متشوقة إلى ذكره منتظرة له، وبالجملة يجب أن يكون المتبوع فيه بحيث يطلق ويراد به التابع نحو "أعجبني زيد" إذا أعجبك علمه بخلاف "ضربت زيدًا" إذا ضربت جواده مثلًا، ولهذا صرحوا بأن نحو جاءني زيد أخوه بدل غلط لا بدل اشتمال كما زعم ابن الحاجب. ثم بدل البعض والاشتمال بل بدل الكل أيضًا لا يخلو عن إيضاح وتفسير. ولم يتعرض لبدل الغلط؛ لأنه لايقع في فصيح الكلام.

ج / 2 ص -47- العطف على المسند إليه:

وأما العطف: فلتفصيل المسند إليه مع اختصار، نحو "جاء زيد وعمرو وخالد"1، أو لتفصيل المسند2 مع اختصار، نحو "جاء زيد فعمرو" أو "ثم عمرو"، أو "جاء القوم حتى خالد"3. ولابد في "حتى" من تدريج، كما ينبئ عنه قوله4:

وكنت فتى من جند إبليس فارتمى بي الحال حتى صار إبليس من جندي

أو لرد السامع عن الخطأ في الحكم إلى الصواب: كقولك "جاءني زيد لا عمرو5، لمن اعتقد أن عمرًا جاءك دون زيد، أو أنهما جاءاك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 فإن فيه تفصيلًا للفاعل بأنه زيد وعمرو من غير دلالة على تفصيل الفعل بأن المجيئين كانا معا أو مترتبين مع مهلة أو بلا مهلة. واحترز بقوله "مع اختصار" عن نحو "جاءني زيد وجاءني عمرو" ففيه تفصيل للمسند إليه مع أنه ليس من عطف المسند إليه وليس فيه اختصار.

2 أي بأنه قد حصل من أحد المذكورين أولًا ومن الآخر بعده مع مهلة أو بلا مهلة واحترز بقوله "مع اختصار" عن نحو "جاءني زيد وعمرو بعده بيوم أو سنة".

3 فالثلاثة تشترك في تفصيل المسند إلا أن الفاء تدل على التعقيب من غير تراخ، وثم على الترتيب والتراخي، وحتى على أن أجزاء ما قبلها مترتبة في الذهن من الأضعف إلى الأقوى أو بالعكس، فمعنى تفصيل المسند في حتى أن يعتبر تعلقه بالمتبوع أو لا وبالتابع نائبا من حيث أنه أقوى أجزاء المتبوع أو أضعفها ولا يشترط فيها الترتيب الخارجي، فإن قلت في هذه الثلاثة أيضًا تفصيل المسند إليه فلم لم يقل أو لتفصيلهما معا، فالجواب أنه فرق بين أن يكون الشيء حاصلًا من شيء وبين أن يكون الشيء مقصودًا منه، وتفصيل المسند إليه في هذا الثلاثة وإن كان حاصلًا لكنه غير مقصود.

4 البيت لأبي نواس.

5 لمن اعتقد أن عمرًا جاءك دون زيد فيكون قصر قلب، أو أنهما جاءاك جميعًا فيكون قصر أفراد. وخالف الشيخ عبد القاهر في الدلائل فذكر أن العطف بلا، إنما يستعمل في قصر القلب فقط. و"لكن" أيضًا للرد إلى الصواب إلاأنها لا تأتي لنفي الشركة فلا تكون قصر أفراد بل قصر قلب فقط، فنحو "ما جاني زيد لكن عمرو" إنما يقال لمن اعتقد أن زيدًا جاءك دون عمرو لا لمن اعتقد أنهما جاءاك جميعًا، وهي عند النحاة لقصر الأفراد فقط؛ لأنهم جعلوها للاستدراك الذي هو رفع ما يتوهم من الكلام السابق، أما عند البيانيين الذين يجعلونها للقلب فقط فلا استدراك فيها عندهم. ثم إن الخلاف بين البيانيين والنحويين إنما هو في النفي وأما كونها لقصر القلب أو الأفراد في الإثبات فلا قائل به؛ لأنه مفهوم كلام النحويين اختصاصها بالنفي.

ج / 2 ص -48- جميعًا: وقولك: ما جاءني زيد لكن عمرو لمن اعتقد أن زيدًا جاءك دون عمرو.

أو لصرف الحكم عن محكوم له إلى آخر، نحو "جاءني زيد بل عمرو"، وما جاءني زيد بل عمرو1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 قبل للإضراب عن المتبوع والإعراض عنه وصرف الحكم إلى التابع. ومعنى الإضراب عن المتبوع عند الجمهور أن يجعل في حكم المسكوت عنه، لا أن ينفي عنه الحكم قطعًا كما ذهب إليه ابن الحاجب حيث عنده كل من التابع والمتبوع مقصود بالنسبة وإن كان أحدهما بالإثبات والآخر بالنفي كما في العطف بلا ولكن. ومعنى صرف الحكم في العطف ببل في الكلام المثبت ظاهر؛ لأن المتبوع في الإثبات أما في حكم المسكوت عنه "كما يرى الجمهور" أو محقق النفي "كما يرى ابن الحاجب". أما في النفي فصرف الحكم معناه ظاهر أيضًا أن جعلناه بمعنى نفي الحكم عن التابع والمتبوع في حكم المسكوت عنه كما هو رأي المبرد، أو متحقق الحكم للمتبوع كما هو مذهب ابن الحاجب. حتى يكون معنى "ما جاءني زيد بل عمرو" أن "عمرا"لم يجئ وعدم مجيء زيد ومجيئه على الاحتمال كما هو مذهب المبرد. أو مجيئه متحقق كما هو مذهب ابن الحاجب، أما أن جعلناه بمعنى ثبوت الحكم للتابع حتى يكون معنى "ما جاءني زيد بل عمر" أن عمرًا جاءك كما هو مذهب الجمهور ففيه إشكال، فالحاصل أن

1 المبرد يرى أن الثاني صرف عنه الحكم ولابد، والأول يحتمل ثبوت الحكم ونفيه عنه.

2 وابن الحاجب يرى أن الثاني نفى عنه الحكم قطعًا والأول أثبت له الحكم قطعًا.

3 والجمهور يرون أن الثاني أثبت له الحكم تحقيقًا والأول يحتمل ثبوت الحكم وانتفاءه عنه.

فعلى الأولين "بل" نقلت حكم ما قبلها لما بعدها. وعلى الثالث نقلت ضد حكم ما قبلها لما بعدها وصيرت ما قبلها مسكوتًا عنه.

ج / 2 ص -49- أو للشك فيه، أو التشكيك، نحو جاءني زيد أو عمرو، أو أما زيد وأما عمرو، أو أما زيد أو عمرو.

أو للإبهام كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].

أو للإباحة أو التخيير، وهو أن يفيد ثبوت الحكم لأحد الشيئين أو الأشياء فحسب، مثلهما: قولك ليدخل الدار زيد أو عمرو، وأفرق بينهما واضح فإن الإباحة لا تمنع من الإتيان بهما أو بها جميعًا1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي بخلاف التخيير.

ملاحظة: عد السكاكي "أي" المفسرة من حروف العطف والجمهور على أن ما بعدها عطف بيان لما قبلها، ووقوعها تفسيرا للضمير المجرور من غير إعادة حرف الجر وللضمير المتصل المرفوع من غير تأكيد أو فصل يقوى مذهب الجمهور، ويقويه أن الأصل تغاير المعطوف والمعطوف عليه لقلة العطف على سبيل التفسير، وهذا خلاف لا طائل تحته.

تعقيب المسند إليه بضمير الفصل1:

وأما توسط الفصل بينه2 وبين المسند فلتخصيصه به3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 جعله من أحوال المسند إليه؛ لأنه يقترن به أولًا؛ ولأنه في المعنى عبارة عنه وفي اللفظ مطابق له.

2 الضمير يعود على المسند إليه.

3 أي لقصر المسند إليه فالمعنى في زيد هو المنطلق قصر الانطلاق على زيد. ومن الناس من زعم أن الفصل كما يكون لقصر المسند على المسند إليه يكون لقصر المسند إليه على المسند كما فهم البعض من كلام الكشاف في تفسير قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}، وقد رد السعد على فهمهم هذا ونقده، وقال: إن صاحب الكشاف إنما جعل هذا معنى التعريف "أي أل المعرفة في "المفلحون" لا معنى الفصل، بل صرح في هذه الآية بأن فائدة الفصل الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة. والتحقيق أن الفصل قد يكون للتخصيص أي لقصر المسند على المسند إليه نحو زيد هو الأسد وهو أفضل من عمرو، وقد يكون لمجرد التأكيد إذا كان التخصيص حاصلًا بدونه بأن يكون في الكلام ما يفيد قصر المسند على المسند إليه نحو: {إِنَ اْللهَ هُوَ الرَزَّاقُ} أي لا رزاق إلا هو، أو قصر المسند إليه على المسند نحو الكرم هو التقوَى والحسب هو المال أي لا كرم إلا التقوى ولا حسب إلا المال، قال أبو الطيب:

إذا كان الشباب السكر والشيب هما فالحياة هي الحمام

أي لا حياة إلا الحمام أي الموت.. هذا والباء بعد التخصيص داخلة على المقصور في الغالب عند السعد وعلى المقصور عليه في الغالب عند السيد.

ج / 2 ص -50- كقولك زيد هو المنطلق، أو هو أفضل من عمرو، أو خير منه، أو هو يذهب1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ليس الضمير هنا فصلًا؛ لأن ما بعد "هو" فعل مضارع، فقد وهم الخطيب في ذكر هذا المثال هنا.

تقديم المسند إليه:

وأما تقديمه فلكون ذكره أهم1:

أما؛ لأنه "2" الأصل ولا مقتضى للعدول عنه3.

وأما ليتمكن الخبر في ذهن السامع؛ لأن في المبتدأ تشويقًا إليه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لا يكفي في التقدم مجرد ذكر الاهتمام بل لا بد أن يبين جهة الاهتمام وسببه كما يقول عبد القاهر ص84 و85 من الدلائل. ولذلك فصل الكلام على أسباب الاهتمام.

2 أي تقديم المسند إليه، وقوله؛ لأنه الأصل أي؛ لأن المسند إليه هو المحكوم عليه ولا بد من تحققه قبل المحكوم فقصدوا أن يكون في الذكر أيضًا مقدمًا.

3 أي عن ذلك الأصل إذا لو كان أمرًا يقتضي العدول عنه فلا يقدم كما في الفاعل فإن مرتبة العامل التقدم على المعمول.

ج / 2 ص -51- كقوله1:

والذي حارت البرية فيه حيوان مستحدث من جماد2

وهذا3 أولى من جعله شاهدًا لكون المسند إليه موصولًا كما فعل السكاكي.

وأما لتعجيل المسرة أو المساءة، لكونه صالحًا للتفاؤل أو التطير، نحو "سعد في دارك" و"السفاح في دار صديقك".

وإما لايهام أنه لا يزول عن الخاطر4 أو أنه يستلذ فهو إلى الذكر أقرب.

وإما لنحو ذلك5... قال السكاكي: وإما؛ لأن كونه متصفًا بالخبر يكون هو المطلوب لا نفس الخبر6 كما إذا قيل لك: كيف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 البيت للمعري، وقد أورده السكاكي في إيراد المسند إليه اسم موصول للقصد بذلك كما يقول: إلى أن يتوجه ذهن السامع إلى ما ستخبر به عنه منتظرًا لوروده عليه حتى يأخذ منه مكانه إذا ورد.

2 قال السعد: معناه تحيرت الخلائق في المعاد الجسماني والنشور الذي ليس بنفساني وفي أن أبدان الأموات كيف تحييى من الرفات بدليل ما قبله:

بأن أمر الإله واختلف الناس فداع إلى ضلال وهاد

يعني: يعضهم يقول بالمعاد وبعضهم لا يقول به...

3 أي جعله مثالًا لتقديم المسند إليه.

4 كقول الشاعر:

وليلى هي الأحلام والأمل العذب.

5 كإظهار تعظيمه مثل: "محمد رسول الله"، أو تحقيره مثله:

والشر أخبث ما أوعيت من زاد".

6 أراد بالخبر الأول خبر المبتدأ. وبالخبر الثاني الأخبار، والمصنف لما فهم من الخبر الثاني أيضًا معنى خبر المبتدأ اعترض عليه بأن نفس الخبر تصور لا تصديق والمطلوب بالجملة الخبرية إنما يكون تصديقًا لا تصورًا وإن أراد بذلك وقوع الخبر مطلقًا -أي إثبات وقوع الشرب مثلًا- فلا يصح لما سيأتي في متعلقات الفعل من أنه لا يتعرض عند إثبات وقوع الفعل لذكر المسند إليه أصلًا بل يقال وقع الشرب مثلًا.

ج / 2 ص -52- الزاهد، فتقول: الزاهد يشرب ويطرب. وأما؛ لأنه يفيد زيادة تخصيص كقوله:

متى تهزز "بني قطن" تجدهم سيوفًا في عواتقهم سيوف

جلوس في مجالسهم رزان وإن ضيف ألم فهم خفوف

والمراد هم خفوف. وفيه نظر:

1- لأن قوله: لا نفس الخبر يشعر بتجويز أن يكون المطلوب بالجملة الخبرية نفس الخبر، وهو باطل؛ لأن نفس الخبر تصورًا لا تصديق والمطلوب بها إنما يكون تصديقًا، وإن أراد بذلك وقوع الخبر مطلقًا فغير صحيح أيضًا لما سيأتي أن العبارة عن مثله لا يتعرض فيها إلى ما هو مسند إليه كقولك وقع القيام1.

2- ثم في مطابقة الشاهد الذي أنشده2 للتخصيص نظر لما سيأتي أن ذلك مشروط بكون الخبر فعليًّا3. وقوله4: والمراد هم خفوف تفسير للشيء بإعادة لفظه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي يتكفي فيها بذكر الحديث وإثبات وجوده كقولك: وقع القيام على ما سبق.

2 وهما البيتان السابقان.

3 أي والخبر ههنا اسم فاعل؛ لأن "خفوف" جمع "خاف" بمعنى خفيف وأجيب عن هذا الاعتراض بمنع هذا الاشتراط لتصريح أئمة التفسير بالحصر في قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيز}، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيل}، {مَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا}، ونحو ذلك مما الخبر فيه صفة لا فعل، وفيه بحث لظهور أن الحصر في قولهم "فهم خفوف" غير مناسب للمقام. وأجيب أيضًا بأنه لا يريد بالتخصيص هنا الحصر بل التخصيص بالذكر، وهذا سديد، لكن في بيان كون التقديم مفيدًا لزيادة التخصيص نوع خفاء.

4 الضمير يعود على السكاكي.

ج / 2 ص -53- مذهب عبد القاهر في إفادة التقديم للتخصيص:

قال عبد القاهر. وقد يقدم المسند إليه ليفيد تخصيصه بالخبر الفعلي1، إن ولي حرف النفي2، كقولك: "ما أنا قلت هذا"، أي لم أقله مع أنه مقول، فأفاد نفي الفعل عنك وثبوته لغيرك، فلا تقول ذلك إلا في شيء ثبت أنه مفول وأنت تريد نفي كونك قائلًا له3، ومنه قول الشاعر4:

وما أنا أسقمت جسمي به ولا أنا أضرمت في القلب نارا

إذ المعنى أن هذا السقم الموجود والضرم الثابت ما أنا جالب لهما، فالقصد إلى نفي كونه فاعلًا لهما لا إلى نفيهما.

ولهذا لا يقال5 ما أنا قلت ولا أحد غيري. لمناقضة منطوق الثاني مفهوم الأول6، بل يقال: ما قلت أنا ولا أحد غيري.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي ليفيد التقديم قصر الخبر الفعلي عليه أي قصر المسند على المسند إليه، والخبر الفعلي هو ما أوله فعل وكان فاعله ضمير المسند إليه.

2 أي وقع بعده بلا فصل أو مع الفصل ببعض المعمولات.

3 والتخصيص هنا إضافي فهو بالنسبة إلى من توهم المخاطب اشتراكك معه في القول فيكون قصر أفراد أو انفرادك به دونه فيكون قصر قلب.

4 هو المتنبي.

5 أي لا يقال ذلك عند التخصيص. أما إذا قصد الإخبار بمجرد عموم النفي فيصح ذلك ويكون "لا غيري" قرينة على ذلك.

6 لأن مفهوم ما أنا قلت ثبوت قائلية هذا القول لغير المتكلم ومنطوق "لا غيري" نفيها عنه وهما متناقضان.

ج / 2 ص -54- ولا يقال "ما أنا رأيت أحدًا من الناس"1، ولا "ما أنا ضربت إلا زيدًا"2، بل يقال: ما رأيت- أو ما رأيت أنا أحدًا من الناس، وما ضربت أو ما ضربت أنا إلا زيدًا؛ لأن المنفي في الأول الرؤية الواقعة على كل واحد من الناس وفي الثاني الضرب الواقع على كل واحد منهم سوى زيد، وقد سبق أن ما يفيد التقديم ثبوته لغير المذكور هو ما نفي عن المذكور فيكون الأول مقتضيًا؛ لأن إنسانًا غير المتكلم قد رأى كل الناس، والثاني مقتضيًا؛ لأن إنسانًا غير المتكلم قد ضرب من عدا زيدًا منهم، وكلاهما محال، وعلل الشيخ عبد القاهر والسكاكي3، وامتناع الثاني4 بأن نقض النفي بألا يقتضي أن يكون القائل له قد ضرب زيدًا وإيلاء الضمير حرف النفي يقتضي أن لا يكون ضربه وذلك تناقض، وفيه نظر: لأنا لا نسلم أن إيلاء الضمير حرف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لأنه يقتضي أن يكون إنسان غير المتكلم قد رأى كل أحد من الناس؛ لأنه نفى عن المتكلم الرؤية على وجه العموم في المفعول فيجب أن تثبت لغيره على وجه العموم في المفعول ليحقق تخصيص المتكلم بهذا النفي، ولا شك أن ذلك باطل، فلا يصح هذا المثال بناء على ما يتبادر منه وهو الاستغراق الحقيقي، وإن أمكن تخصيصه بحمل النكرة الواقعة في سباق النفي على الاستغراق العرفي بحمل الأحد على الأحد الذي يمكن رؤيته فيصح المثال على ذلك الوجه.

2 لأنه يقتضى أن يكون إنسان غيرك قد ضرب كل أحد سوى زيد؛ لأن المستثنى منه مقدر عام وكل ما تنفيه عن المذكور على وجه الحصر يجب ثبوته لغيره تحقيقًا لمعنى الحصر: إن عامًا فعام، وإن خاصا فخاص.

3 ونص كلام عبد القاهر هو: "لأنه يقتضي المحال وهو أن يكون ههنا إنسان قد رأى كل أحد من الناس فنفيت أن تكونه "ص97 من الدلائل، وفي ص98 من الدلائل يعلل الشيخ عبد القاهر بالتعليل الذي ذكره السكاكي والخطيب. والتعليل الأول لعبد القاهر قد ذكره السكاكي أيضًا في المفتاح ص101. وهو ما أنا ضربت إلا زيدًا.

ج / 2 ص -55- النفي يقتضي ذلك1 فإن قيل الاستثناء الذي فيه مفرغ، وذلك يقتضى أن لا يكون ضرب أحدًا من الناس وذلك يستلزم أن لا يكون ضرب زيدًا، قلنا: إن لزم ذلك فليس للتقديم لجريانه في غير صورة التقديم أيضًا كقولنا "ما ضربت إلا زيدًا".

هذا إذا ولي المسند إليه حرف النفي... وإلا2:

فإن كان"3" معرفة كقولك "أنا فعلت" كان القصد إلى الفاعل وينقسم قسمين:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي أن لا يكون ضربه. قال السعد: وجواب هذا الاعتراض أن تقديم المسند إليه وإيلاءه حرف النفي إنما يكون إذا كان الفعل المذكور بعينه ثابتًا متحققا متفقًا بينهما وإنما المناظرة في فاعله فقط، ففي هذه الصورة يجب أن يكون المخاطب مصيبًا في اعتقاد وقوع ضرب على من عدا زيدا، مخطئًا في أن فاعله أنت، فتقصد رده إلى الصواب بقولك "ما أنا ضربت إلا زيدًا"؛ لأنه لنفي أن تكون أنت الفاعل لا لنفي الفعل. قال السعد: وعندي أن قولهم "نقض النفي بألا يقتضي أن تكون ضربت زيدًا" أجدر بأن يعترض عليه فيقال: إن النفي لم يتوجه إلى الفعل أصلًا بل إلى أن يكون فاعل الفعل المذكور هو المتكلم والفعل المذكور هو الضرب الذي اثتثنى منه زيد فالاستثناء إنما هو من الإثبات دون النفي فلا يكون من انتقاض النفي في شيء.. هذا وحاصل كلام عبد القاهر أن تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي:

1 يفيد التخصيص قطعًا إذا ولي المسند إليه المقدم حرف النفي سواء كان المسند إليه نكرة أم معرفة: ظاهرة أو مضمرة.

2 وتارة يكون للتخصيص أو للتقوي وذلك إذالم يل المسند إليه حرف النفي سواء كان المسند إليه نكرة أم معرفة: ظاهرة أو ضميرًا وسواء كان الخبر مثبتًا أو منفيًّا.

فمدار الأمر على تقديم حرف النفي على المسند إليه أو عدم تقدمه فإذا تقدم النفي أفاد تقديم المسند إليه التخصيص وإلا جاز أن يكون للتخصيص أو للتقوي والتأكيد.

2 إن لم يل المسند إليه حرف النفي بأن لا يكون في الكلام حرف النفي أو يكون حرف النفي متأخرًا عن المسند إليه.

3 أي المسند إليه.

ج / 2 ص -56- أحدهما: ما يفيد تخصيصه بالمسند، للرد على من زعم انفراد غيره به1 أو مشاركته فيه2، كقولك "أنا كتبت في معنى فلان" و"أنا سعيت في حاجته"، ولذلك إذا أردت التأكيد قلت للزاعم في الوجه الأول: أنا كتبت في معنى فلان لا غيري، ونحو ذلك، وفي الوجه الثاني: أنا كتبت في معنى فلان وحدي، فإن قلت: أنا فعلت كذا وحدي في قوة أنا فعلته لا غيري، فلم أختص كل منهما بوجه من التأكيد دون وجه؟ قلت: لأن جدوى التأكيد لما كانت إماطة شبهة خالجت قلب السامع، وكانت في الأول أن الفعل صدر من غيرك، وفي الثاني أنه صدر منك بشركة الغير، أكدت وأمطت الشبهة في الأول بقولك "لا غيري" وفي الثاني بقولك "وحدي"؛ لأنه محزه ولو عكست أحلت، ومن البين في ذلك المثل: "أتعلمني بضب أنا حرشته3؟". وعليه قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101]، أي لا يعلمهم إلا نحن ولا يطلع على أسرارهم غيرنا لابطانهم الكفر في سويداوات قلوبهم.

الثاني4: ما لا يفيد إلا تقوي الحكم وتقرره في ذهن السامع وتمكنه كقولك "هو يعطي الجزيل"، لا تريد أن غيره لا يعطي الجزيل، ولا أن تعرض بإنسان، ولكن تريد أن تقرر في ذهن السامع وتحقق أنه يفعل إعطاء الجزيل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي انفراد غير المسند إليه المذكور بالخبر الفعلي فيكون قصر قلب.

2 أي مشاركة الغير في الخبر الفعلي فيكون قصر أفراد.

3 "تعلمني" بتضعيف اللام من التعليم أو بتخفيفها من الإعلام. حرش الضب صيده أي صاده بطريقة مخصوصة. والمثل يضرب لمن يخبر بشيء أنت أعلم به منه.

4 وهذا الضرب يفيد التقوي والتأكيد لا التخصيص.

ج / 2 ص -57- وسبب تقويه هو أن المبتدأ يستدعي أن يستند إليه شيء، فإذا جاء بعده ما يصلح أن يستند إليه صرفه إلى نفسه. فينعقد، بينهما حكم، سواء كان خاليًا عن ضميره نحو "زيد غلامك" أو متضمنًا له نحو أنا عرفت، وأنت عرفت، وهو عرف، أو "زيد عرف" ثم إذا كان متضمنًا لضميره صرفه ذلك الضمير إليه ثانيًا فيكتسي الحكم قوة1.

ومما يد على أن التقديم يفيد التأكيد أن هذا الضرب من الكلام يجيء:

وفيما اعترض فيه شك نحو أن تقول للرجل: كأنك لا تعلم بالذي تقول"، فتقول أنت تعلم أن الأمر على ما أقول، وعليه قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78]؛ لأن الكاذب لاسيما في الدين لا يعترف بأنه كاذب فيمتنع أن يعترف بالعلم بأنه كاذب.

وفيما اعترض فيه شك نحو أن تقول للرجل: كأنك لا تعلم ما صنع فلان، فيقول: أنا أعلم.

وفي تكذيب مدع، كقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61]، فإن قولهم: "آمنا دعوى منهم أنهم لم يخرجوا به للكفر كما دخلوا به.

وفيما يقتضي الدليل أن لا يكون، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20].

فإن مقتضى الدليل أن لا يكون ما يتخذ إلهًا مخلوقًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ويعلل عبد القاهر سبب التقوي بأن تقديم ذكر المحدث عنه يفيد تنبيه السامع لقصده بالحديث قبل ذكر الحديث تحقيقًا للأمر وتأكيدًا له.

ج / 2 ص -58- وفيها يستغرب كقولك: ألا تعجب من فلان يدعي العظيم وهو يعيا باليسير؟.

وفي الوعد والضمان كقولك للرجل: أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر؛ لأن من شأن من تعده وتضمن له أن يعترضه الشك في إنجاز الوعد والوفاء بالضمان فهو من أحوج شيء إلى التأكيد.

وفي المدح والافتخار؛ لأن من شأن المادح أن يمنع السامعين من الشك فيما يمدح به ويبعدهم عن الشبهة وكذلك المفتخر، أما المدح فكقول الحماسي1:

هم يفرشون اللبد كل طمرة "وأجرد سباح يبذ المغاليا"

وقول الحماسية2:

هما يلبسان المجد أحسن لبسة "شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما"

وقول الحماسي3:

هم يضربون الكبش يبرق بيضه على وجه من الدماء سبائب

وأما الافتخار فكقول طرفة:

نحن في المشتأة ندعو الجفلى "لا ترى الآدب فينا ينتقر4"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هو المعذل الليثي. الطمرة: الفرس الكريمة. الأجرد الفرس القصير الشعر. السباح: اللين العدو. المغالي: السهم.

2 هي عمرة الخثعمية.

3 هو الأخنس بن شهاب التغلبي من قصيدة يمدح بها قومه. الكبش: الشجاع. البيض اللأمة. السبائب: الطرائق جمع سبية.. ومثل البيت في المعنى لحسان:

الضاربون الكبش يبرق بيضه ضربًا يطيح له بنان المفصل

4 الجفلى: الدعوة العامة. الآدب: الداعي. يفتقر: أي يدعو بعضا ويترك بعضا.

ج / 2 ص -59- ومما لا يستقيم المعنى فيه إلا على ما جاء عليه من بناء الفعل على الاسم قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] وقوله تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]، وقوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17]، فإنه لا يخفى على من له ذوق أنه لو جيء في ذلك بالفعل غير مبني على الاسم لوجد اللفظ قد نبا عن المعنى، والمعنى قد زال عن الحال التي ينبغي أن يكون عليها.

وكذا إذا كان الفعل منفيًّا1، كقولك "أنت لا تكذب" فإنه أشد لنفي الكذب عنه من قولك "لا تكذب"، وكذا من قولك "لا تكذب أنت"؛ لأنه لتأكيد المحكوم عليه لا الحكم، وعليه قوله تعالى: {وَالذِيْنَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرْكُوْنَ} فإنه يفيد من التأكيد في نفي الاشراك عنهم ما لا يفيده قولنا والذين لا يشركون بربهم ولا قولنا والذين بربهم لا يشركون، وكذا قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وقوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُون}، وقوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي بحرف نفي مؤخر عن المسند إليه، أي فقد يأتي التقديم للتخصيص وقد يكون للتقوي، فالأول كقولك "أنت ما سعيت في حاجتي" والثاني كالمثال الذي ذكره الخطيب. وابن السبكي يفهم من كلام الشيخ عبد القاهر أنه عنده للتقوي فقط. ويلاحظ أن "أنا ما قلت هذا" التقديم فيه يفيد التخصيص، فهو مثل قولك "ما أنا قلت هذا"، ولكنهما يفترقان في أن المثال الثاني إنما يلقي لمن اعتقد ثبوت القول وأصاب في ذلك لكنه أخطأ في نسبته للمتكلم أما انفرادا أو على سبيل المشاركة، وأما المثال الأول فيلقي لمن اعتقد عدم القول وأصاب لكنه اخطأ في نسبته لغير المتكلم.

ج / 2 ص -60- هذا كله إذا بني الفعل على معرف1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي سواء كانت المعرفة ظاهرة أم ضميًرا. وقوله. "هذا" أي الذي ذكر في قوله "وقد يقدم إلخ" كما ذكره المطول والدسوقي. أما ابن يعقوب فقد جعل "هذا" إشارة إلى ما ذكر من أن "مالم يتقدم فيه حرف النفي على المسند إليه تارة يفيد التقديم فيه التخصيص وتارة يفيد التقوي" وتكون النكرة بعد النفي مثله من باب أولى، وهذا فهم ابن السبكي أيضًا.

ويلاحظ أن "شر أهر ذا ناب" من قصر الخبر "الأهرار" على المبتدأ "شر" قصر صفة على موصوف و"الشر أهر ذا ناب" من قصر الشر –لأن ما فيه أل هو المقصور دائمًا تقدم أو تأخر– على الأهرار قصر موصوف على صفة قصرًا إضافيًّا.. كما أن "زيد جاءني" مثلًا تقديمه للتقوية الناشئة من إفادة التنبيه عند عبد القاهر وعند الجمهور لما فيه من تكرار الإسناد، ويرى السيد ألا خلاف بين الرأيين في الحقيقة، ولا مانع عندي من تعليل سبب التقوي بهما.

هذا والنكرة عند عبد القاهر إذا وليت النفي كان الكلام للتلخيص قطعًا. وإن لم تل النفي احتمل الكلام التخصيص أو التأكيد على حسب قصد المتكلم. ومثل النكرة في ذلك المعرفة: ظاهرة أو ضميرًا.

فمذهب الشيخ عبد القاهر التعويل على حرف النفي، فإن تقدم على المسند إليه أفاد التقديم التخصيص مطلقًا. وإن لم يتقدم حرف النفي أفاد التقديم التخصيص أو التقوي.

أما مذهب السكاكي فإن كان المسند إليه المقدم نكرة فهو للتخصيص إن لم يمنع منه مانع، وإن كان معرفة ظاهرة فلا يكون للتخصيص البتة بل للتقوي "وقال ابن السبكي: يجيء للتقوي أيضًا- كما في ص414/ 1 من شروح التلخيص حاشية ابن السبكي"، وإن كان ضميرًا، فإن قدر كونه في الأصل مؤخرًا على أنه فاعل في المعنى فقط لا اللفظ ثم قدم فهو للتخصيص وإلا فللتقوي. وهذا كله عند السكاكي سواء ولي المسند إليه حرف النفي أم لا.

فالسكاكي لا ينظر إلى حرف النفي ولكن إلى حالة المسند إليه من كونه معرفة ظاهرة أو ضميرًا، أو نكرة، بصرف النظر عن حرف النفي، وذلك إن إفادة التقديم للاختصاص مشروط عنده بشروط ثلاثة: =

ج / 2 ص -61- ..........................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= الأول: أن يجوز تقدير كون المسند إليه المقدم في الأصل مؤخرًا على أنه فاعل في المعنى - لا في اللفظ.

الثاني: أن يقدر كونه كذلك. والشرط الأول غير لازم للثاني لا العكس على التحقيق.

الثالث: أن لا يمنع من التخصيص مانع.. فالنكرة يتحقق فيها الشرطان بتأويل فتفيد الاختصاص بشرط أن لا يمنع منه مانع، والمعرفة لا يتحقق الأول فيها فلا تفيده، والضمير قد وقد.

والسر في الشروط التي اشترطها السكاكي أن الاسم "المسند إليه" إما أن يكون في موضعه فلا يفيد في هذه الحالة تخصيصًا لعدم وجود التقديم، وإما أن يكون مقدمًا من تأخير وفي هذه الحالة إما أن لا يلاحظ التقديم فلا يفيد الاختصاص وإما أن يلاحظ فلا بد أن يجوز تقدير كونه مقدمًا على أنه فاعل في المعنى فقط دون اللفظ "إذ لو كان فاعلًا في اللفظ لامتنع تقديمه للتخصيص، إذ تقديم الفاعل اللفظي لا يجوز" وأن يقدر بالفعل كذلك. وعلى ذلك فلا بد من ملاحظة هذه الشروط في إفادة التقديم التخصيص وإلا فلا يفيد إلا التقوي. فالسر في هذه الشروط عند السكاكي:

أن النكرة في "رجل قام" لا بد فيها من مسوغ للابتداء فلوحظ فيها تقديرها متأخرة على أنها فاعل معنى بالبدلية لتفيد التخصص عند التقديم ليكون مسوغًا للابتداء بها.

أما المعرفة الظاهرة في مثل "زيد قام" فلا حاجة فيه إلى هذا التقدير فلم نقدره وبقيت المعرفة على حالها فقلنا أن تقديمها للتقوي فقط. وأما الضمير في مثل "أنا قمت" فالسر في جواز إفادته للتخصيص أنه لو أخر لجاز العطف بالمشاركة وعند تقديم الضمير يمنع التقديم العطف المصحح للمشاركة، ونفي المشاركة تخصيص، فمتى تراعي هذه الاعتبارات في الضمير يكون تقديمه للتخصيص وإلا كان للتقوي فقط.

هذا وأما السر في الشرط الذي اشترطه عبد القاهر في إفادة التقديم للتخصيص فهو الذوق والاستعمال العربي الصحيح.

ويتجلى الفرق بين السكاكي وعبد القاهر في هذه الصور التسع، وهي: =

ج / 2 ص -63- ............................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= 2- اعتبار كونه في الأصل مؤخرًا على أنه فاعل معنى فقط فقدم لإفادة التخصيص.

3 ألا يمنع من التخصيص مانع.

فإذالم تتحقق هذه الشروط فلا يفيد التقديم إلا التقوي، وخرج بالشرط الأول المعرفة، لانتفاء جواز تقدير كونها مؤخرة على أنها فاعل معنى فقط، فتقديمها مطلقًا لا يفيد إلا التقوي عنده.. واستثنى السكاكي من هذا الشرط النكرة، فتقديمها عنده لإفادة التخصيص قطعًا مطلقًا إلا إذا منع من التخصيص مانع، هذا ورأيي أنا إن كلام عبد القاهر في الدلائل، وكما يدل على ظاهر كلام الخطيب أيضًا مشعر أنه إذا بني الفعل على منكر كان التقديم للتخصيص قطعًا، لا كما قيل من احتماله للتخصيص والتأكيد.. وأما الضمير فهو عند السكاكي يحتمل أن يكون تقديمه للتخصيص أو للتقوي، فإن لم يعتبر كونه مؤخرًا في الأصل على أنه فاعل معنى فقط فلا يفيد تقديمه إلا التقوي، وإن اعتبر ذلك كان تقديمه للتخصيص، أما الشرط الأول فموجود في الضمير ومتحقق فيه.

وخلاصة رأي السكاكي في النكرة هو أن تقديم النكرة التي خبرها فعلى "ومثلها عنده المشتق" للتخصيص مطلقًا بشرط أن لا يمنع من التخصيص مانع، فرجل جاءني أو ما رجل جاءني أو رجل ما جاءني كل هذه الصور الثلاث للتخصيص عنده.. "وشر أهر ذا ناب" للتقوي فقط عنده وذلك؛ لأن هذا المثال قام به مانع يمنع إفادته للاختصاص وذلك المانع هو انتقاء فائدة القصر. أما امتناع كون التخصيص فيه للجنس فلا متناع أن يراد أن المهر شر لا خير؛ لأنه لا يكون إلا شرًّا. وأما امتناع كون التخصيص فيه للواحد فلنبو تخصيص الواحد عن مواضع استعمال هذا الكلام؛ لأنه يقال في مقام الحث على شدة الحزم عند الشدائد والتحريض على قوة الاعتناء بدفع هذا الشر لعظمه فلا يقصد به أن المهر شر لا شران؛ لأن كون المهر شرًّا لا شرين مما يثبط العزائم.. فلا يقصد من التقديم هنا إلا التقوية والتعظيم. وقد علم مما تقدم أن عبد القاهر يرى أن التقديم فيه للتخصيص.

ويوفق الخطيب بين رأي الشيخ والسكاكي بأن السكاكي يمنع كونه لتخصيص الجنس أو الواحد والجمهور حيث يقولون: بأنه للتخصيص يريدون التخصيص النوعي بجعل التنكير في شر للتعظيم والتهويل، فلا منافاة لعدم توارد الإيجاب والنفي على موضع واحد، وفي مذهب السكاكي نظر لأن في "شر أهر ذا ناب" التخصيص قد يكون لمجرد التوكيد أو لتنزيله منزلة المجهول، وقد يجاب عن هذا بأن الأصل في التخصيص أن يكون فيما يمكن فيه الإنكار، واستعماله فيما ذكر على خلاف الأصل.

ج / 2 ص -64- فإن بني على منكر أفاد ذلك تخصيص الجنس أو الواحد بالفعل، كقولك: رجل جاءني أي لا امرأة أو لا رجلان، وذلك؛ لأن أصل النكرة أن تكون للواحد من الجنس. فيقع بها تارة إلى الجنس فقط كما إذا كان المخاطب بهذا الكلام قد عرف أن قد أتاك آت ولم يدر جنسه أرجل هو أو امرأة، أو اعتقد أنه امرأة، وتارة إلى الوحدة فقط، كما إذا عرف أن قد آتاك من هو من جنس الرجال ولم يدر أرجل هو أم رجلان، أو اعتقد أنه رجلان.

مذهب السكاكي في إفادة التقديم للتخصيص:

واشترك السكاكي في إفادة التقديم الاختصاص أمرين:

أحدهما: أن يجوز تقدير كونه في الأصل مؤخرًا، على أن يكون فاعلًا في المعنى فقط كقولك "أنا قمت"، فإنه يجوز أن تقدر أن أصله قمت أنا على أن أنا تأكيد للفاعل الذي هو التاء في قمت فقدم أنا وجعل مبتدأ.

وثانيهما: أن يقدر كونه كذلك1.

فإن انتفى الثاني دون الأصل كالمثال المذكور2 إذا أجري على الظاهر. وهو أن يقدر الكلام من الأصل مبنيًّا على المبتدأ والخبر،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي أن يعتبر ذلك أي يقدر بالفعل أنه كان في الأصل مؤخرًا.

2 وهو "أنا قمت".

ج / 2 ص -65- ولم يقدر تقديم وتأخير، أو انتفى الأول بأن يكون المبتدأ اسمًا1 ظاهرًا. فإنه لا يفيد إلا تقوي الحكم.

واستثني2 المنكر كما في نحو رجل جاءني، إن قدر أصله جاءني رجل، لا على أن "رجل" فاعل جاءني بل على أنه بدل من الفاعل الذي هو الضمير المستتر في جاءني، كما قيل في قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} إن الذين ظلموا بدل من الواو في أسروا، وفرق بينه وبين المعرف بأنه لو لم يقدر ذلك فيه انتفي تخصيصه، إذ لا سبب لتخصيصه سواه، ولو انتفي تخصيصه لم يقع مبتدأ بخلاف المعرف لوجود شرط الابتداء فيه وهو التعريف.

ثم قال: وشرطه أن لا يمنع من التخصيص مانع كقولنا: رجل جاءني، أي لا امرأة أو رجلان، دون قولهم: شر أهر ذا ناب، أما على التقدير الأول فلامتناع أن يراد المهر شر لا خير4 وأما على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي معرفة نحو: زيد قام، هذا ويلاحظ أن مثل "أنا قمت" على رأي السكاكي يفيد التقوي عند انتفاء الشرط الثاني ويفيد التخصيص عند وجود الشرط الثاني مع وجود الشرط الأول اللازم له.

2 أي السكاكي. هذا ومراد السكاكي بالمنكر الذي استثناه هو المنكر الذي لا يفيد الحكم عليه حال تنكيره وهو الخالي عن مسوغ الابتداء به؛ لأنه المحتاج إلى اعتبار التخصيص وإلا بأن كان المنكر يصح الكم عليه بدون اعتبار التقديم والتأخير نحو: كوكب انقض: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة} فلا حاجة لاعتبار التخصيص فيه بالتقديم والتأخير ولا بغيره.

3 أي السكاكي.

4 فيه نظرًا؛ لأن التخصيص قد يكون في المنزل منزلة المجهول وقد يكون لمجرد التوكيد، فاختصاص الشر بالهرير وإن كان معلومًا يجوز أن ينزل منزلة المجهول ويستعمل فيه القصر أو أنه استعمال فيه على سبيل التأكيد أو لجهل المخاطب عن أن المهر لا يكون إلا شرًّا.

ج / 2 ص -66- الثاني1 فلكونه نابيًا عن مكان استعماله2، وإذ قد صرح الأئمة بتخصيصه حيث تأولوه بما أهر ذا ناب إلا شر، فالوجه3 تفظيع شأن الشر بتنكيره كما سبق4.

هذا كلامه5، وهو مخالف لما ذكره الشيخ عبد القاهر:

1- لأن ظاهر كلام الشيخ فيما يلي حرف النفي، القطع بأنه يفيد التخصيص مضمرًا كان أو مظهرًا معرفًا أو منكرًا من غير شرط، لكنه لم يمثل إلا بالمضمر. وكلام السكاكي صريح في أنه لا يفيده إلا إذا كان مضمرًا، أو منكرًا بشرط تقدير التأخير في الأصل، فنحو: ما زيد قام، يفيد التخصيص على إطلاق قول الشيخ ولا يفيده على قول السكاكي ونحوه: "ما أنا قمت" يفيده على قول الشيخ مطلقًا وعلى قول السكاكي بشرط.

2- وظاهر كلام الشيخ أن المعرف إذالم يقع بعد النفي وخبره مثبت أو منفي قد يفيد الاختصاص مضمرًا كان أو مظهرًا لكنه لم يمثل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وهو أن يكون المراد شر لا شران والتقدير الأول أن يكون المراد شر لا خير فيه.

2 أن لنبو تخصيص الواحد عن مواضع استعمال هذا الكلام؛ لأنه لا يقصد به أن المهر شر لا شران.

3 أي فوجه الجمع بين قولهم بتخصيصه وقول السكاكي بالمانع من التخصيص أن الذي نفاه السكاكي هو تخصيص الجنس أو الواحد وما قاله النحاة تخصيص النوع وحاصل هذا الجمع أن التخصيص هنا نوعي فلا منافاة لعدم توارد النفي والإيجاب على شيء واحد.

4 أي جعل التنكير للتعظيم والتهويل ليكون المعنى هو شر عظيم فظيع أهر ذا ناب لا شر حقير، فيكون تخصيصا نوعيا، لكون المخصص نوعا من الشر، لا الجنس ولا الواحد، والمانع إنما كان من تخصيص الجنس أو الواحد.

5 أي كلام السكاكي.

ج / 2 ص -67- إلا بالمضمر وكلام السكاكي صريح في أنه لا يفيد إلا المضمر فنحو زيد قام، قد يفيد الاختصاص على إطلاق قول الشيخ ولا يفيده عند السكاكي.

ثم فيما احتج به1 لما ذهب إليه نظر:

1- إذ الفاعل وتأكيده2 سواء في امتناع التقديم ما دام الفاعل فاعلًا والتأكيد تأكيدًا، فتجويز تقديم التأكيد دون الفاعل تحكم ظاهر3.

2- ثم لا نسلم انتفاء التخصيص في صورة المنكر4 لولا تقدير أنه كان في الأصل مؤخرًا فقدم، جواز حصول التخصيص فيها بالتهويل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي السكاكي.

2 المراد أن الفاعل اللفظي والفاعل المعنوي -كالتأكيد والبدل- سواء في امتناع التقديم ما بقيا على حالهما أي ما دام الفاعل فاعلًا والتابع تابعًا بل امتناع تقديم التابع أولى من امتناع تقديم الفاعل اللفظي؛ لأن فيه تقديمه على المتبوع وعلى العامل، أما الفاعل اللفظي إذا قدم ففيه تقديمه على العامل فقط، وهذا رد لقول السكاكي: التقديم يفيد التخصيص إن جاز "إلخ" فإنه يفهم منه جواز تقديم الفاعل المعنوي دون اللفظي.

3 وكذلك تجويز الفسخ في التابع عن التابعية دون الفاعل تحكم بل كل منهما يجوز فيه الفسخ والتقديم. فامتناع تقديم الفاعل إنما هو عند كونه فاعلًا فقط وإلا فلا امتناع في أن يقال في نحو زيد قام أنه كان في الأصل قام زيد فقدم وجعل مبتدأ، وامتناع تقديم التابع على المتبوع والعامل -حال كونه تابعًا- مما أجمع عليه النحاة إلا في العطف في ضرورة الشعر مثل "عليك ورحمة الله السلام".

4 أي في مثل رجل جاءني.

وهذا رد لقول السكاكي "لئلا ينتفي التخصيص إذ لا سبب سواه".

ج / 2 ص -68- كما ذكر1- وغير التهويل2.

3- ثم لا نسلم امتناع أن يراد: المهر شر لا خير3، قال الشيخ عبد القاهر: إنما قدم شر؛ لأن المراد أن يعلم "أن" الذي أهر ذا ناب هو من جنس الشر لا من جنس الخير، فجرى مجرى أن تقول "رجل جاءني" تريد أنه رجل لا امرأة، وقول العلماء أنه إنما صلح؛ لأنه بمعنى "ما أهر ذا ناب إلا شر" بيان لذلك، وهذا صريح في خلاف ما ذكره4.

ثم قال السكاكي: ويقرب من قببيل "هو عرف" في اعتبار تقوي5 الحكم "زيد عارف". وإنما قلت "يقرب"، دون أن أقول "نظيره"؛ لأنه لمالم يتفاوت في التكلم والخطاب والغيبة في: "أنا عارف"، و"أنت عارف"، و"هو عارف" أشبه الخالي عن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي السكاكي في شر أهر ذا ناب من التهويل وغيره كالتحقير والتكثير والتقليل وغير ذلك مما يستفاد من التنكير، فهو وإن لم يصرح بأن لا سبب للتخصيص سواه لكن استلزم كلامه ذلك حيث قال "إنما يرتكب ذلك الوجه البعيد عند المنكر لفوات شرط المبتدأ".

2 وقد يجاب بأن مراد السكاكي تخصيص مخصوص هو الجنس أو الواحد مما لا يحصل بدون اعتبار التقديم.

3 إذ لا دليل عليه من العقل أو النقل.

4 أي السكاكي.

5 أي في إفادة التقوي فقط على ما فهم الخطيب. وقال ابن السبكي أن مراد السكاكي أنه يقرب منه في إفادة التقوية التي هي أعم من التخصيص. ولو فهم ذلك المصنف لما اعترض على السكاكي في تقريره الاختصاص في "وما أنت علينا بعزيز". والخطيب يفهم أن مراد السكاكي، في التقوي فقط، لا في التخصيص لفقد شرطه عنده في مثل هذا من جواز تقدير كونه في الأصل مؤخرًا. والتقوي راجع لتضمن المشتق وهو هنا "عارف" للضمير مثل "عرف" فيحصل للحكم تقو بسبب بتكرر الإسناد.

ج / 2 ص -69- الضمير. ولذلك لم يحكم على "عارف" بأنه جملة ولا عومل معاملتها في البناء1 حيث عرب في نحو: "رجل عارف"، "رجلًا عارفًا"، "رجل عارف"، وأتبعه في حكم الأفراد نحو "زيد عارف أبوه"، يعني أتبع "عارف" "عرف" في الأفراد إذا أسند إلى الظاهر: مفردًا كان أو مثنى أو مجموعًا2.

ثم قال: ومما يفيد التخصيص ما يحكيه -علت كلمته- عن قوم شعيب عليه السلام: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}، [هود: 91]، أي العزيز علينا يا شعيب رهطك لا أنت، لكونهم من أهل ديننا، ولذلك قال عليه السلام في جوابهم: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} [هود: 92]، أي من نبي الله، ولو كان معناه ما عززت علينالم يكن مطابقًا.. وفيه نظر: لأن قوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيْز} من باب "أنا عارف"، لا من باب "أنا عرفت"3، والتمسك بالجواب4 ليس شيء، لجواز أن يكون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 المراد به عدم ظهور إعراب متبوعها عليها، بل إنه ثبت ظهور إعراب المتبوع على التابع المفرد دون الجملة فلم يثبت لها ذلك.

2 وقال صاحب المطول: معناه أتبع "عارف" المسند إلى الظاهر "عارف" المسند للضمير وجعل كلام المصنف سهوًا لا حاصل له.

والخلاصة أن قوله "ويقرب" يشمل أمرين: أحدهما المقاربة في التقوي، والثاني عدم كمال التقوي. فالأول لتضمنه الضمير، والثاني لشبهه بالخالي عن الضمير. والحاصل أنه لما كان متضمنًا للضمير ومشابهًا للخالي عنه روعيت فيه الجهتان: أما الأولى فبأن جعل قريبًا من "هو عرف" في التقوي، وأما الثاني فبأن لم يجعل جملة ولا عومل معاملتها في البناء. وقوله "وأتبعه" معطوف على قوله "لم يحكم على عارف بأنه جملة".. هذا واسم الفاعل الرافع الظاهر كالفعل في أن كلا منهما لا يتفاوت عند الإسناد للظاهر، وإنما وجه الحكم على "عارف" مع فاعله الظاهر بالأفراد هو الحمل على المسند للضمير في "هو عارف" فاسم الفاعل مع فاعله المضمر أو المظهر مفرد.. وفي "يسن" أن صلة آل شبه جملة لا جملة.

3 أي فلا يفيد تخصيصًا بل يكون للتقوي فقط.

4 هو قول شعيب: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ}.

ج / 2 ص -70- عليه السلام فهم كون رهطه أعز عليهم، من قولهم: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ}.

وقال الزمخشري1: دل إيلاء ضميره حرف النفي على أن الكلام في الفاعل لا في الفعل، كأنه قيل: "وما أنت علينا بعزيز، بل رهطك هم الأعز علينا".. وفيه نظر: لأنا لا نسلم أن إيلاء الضمير حرف النفي إذالم يكن الخبر فعليا يفيد الحصر. فإن قيل: الكلام واقع فيه، وأنهم الأعزة عليهم دونه، فكيف صح قوله: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّه} قلنا: قال السكاكي معناه "من نبي الله" فهو على حذف المضاف، وأجود منه ما قاله الزمخشري: "وهو أن تهاونهم به وهو نبي الله تهاون بالله، فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله ألا ترى إلى قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 81]، ويجوز أن يقال: لا شك أن همزة الاستفهام هنا ليست على بابها بل هي للإنكار للتوبيخ، فيكون معنى قوله: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّه} إنكار أن يكون مانعهم من رجمه رهطه، لانتسابه إليهم، دون الله تعالي، مع انتسابه إليه أيضًا، أي أرهطي أعز عليكم من الله حتى كان امتناعكم من رجمي بسبب انتسابي إليهم بأنهم رهطي، ولم يكن بسبب انتسابي إلى الله تعالى بأني رسول، والله أعلم.

موضع آخر من مواضع تقديم المسند إليه:

ومما يرى تقديمه كالملازم2 لفظ مثل إذا استعمل كناية من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كلام الزمخشري تأييد لرأي السكاكي في إفادة الآية للتخصيص.

2 أي من المسند إليه الذي يرى تقديمه على المسند حال كون ذلك التقديم مماثلًا للتقديم اللازم في القياس كتقديم لازم الصدارة، فتقديم هذا ليس بلازم في القياس بل في الاستعمال، وإنما يرى التقديم هنا كاللازم لكون التقديم أعون على المراد بهذا التركيب؛ لأن الغرض منه إثبات الحكم وهو الجود وانتفاء البخل عن المخاطب بطريق الكناية التي هي أبلغ من التصريح، والتقديم لإفادته التقوي أعون على ذلك.

ج / 2 ص -71- غير تعريض1 كما في قولنا مثلك "لا يبخل" ونحوه، مما لا يراد بلفظ مثل غير ما أضيف إليه ولكن أريد من كان على الصفة التي هو عليها كان من مقتضى القياس وموجب العرف أن يفعل ما ذكر أو أن لا يفعل2، ولكون المعنى هذا قال الشاعر3:

ولم أقل مثلك أعني سواك يا فردا بلا مشبه

وعليه قوله:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هذا من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم ففي "مثلك لا يبخل" أطلق الملزوم وهو نفي البخل عن المماثل وأريد اللازم وهو نفيه عن المخاطب، والمسوغ للابتداء بمثل تخصيصها بالإضافة، وإن لم تتعرف بها لتوغلها في الإبهام.

والمراد من التعريض هنا التعريض اللغوي وهو الإشارة على وجه الإجمال والإيهام وعدم التصريح. وبهذا يندفع ما يقال من أن التعريض من قبيل الكناية فيلزم أن يكون الكلام كناية وغير كناية وهو باطل، فالجواب أن التعريض لا يلزم أن يكون نوعا من الكناية بل هو أعم من ذلك إذ قد يكون كناية ومجازًا وحقيقة.. هذا ولو أريد هنا التعريض لم يكن التقديم كاللازم؛ لأن التقديم إنما كان كاللازم عند إرتكاب الكناية لكونه على إثبات الحكم بالطريق الأبلغ وهو الكناية، وإذا أريد التعريض فلا كناية، وذلك بأن يراد "بمثل" وكذلك "غير" إنسان آخر معين مماثل للمخاطب "في مثل" أو غير مماثل له "في غير"؛ لأنه لا يلزم من نفي البخل مثلًا عن واحد معين نفيه عن المخاطب.

2 فالمراد نفي البخل عن المخاطب على طريق الكناية؛ لأنه إذا نفي عمن كان على صفته من غير قصد إلى مماثل لزم نفيه عنه وإثبات الجود له بنفيه عن غيره "إذا قلت غيرك لا يجود" مع اقتضائه محلًّا يقوم به. هذا وليس معنى أن التقديم هنا كاللازم أنه قد يقدم وقد لا يقدم بل المراد أنه كان مقتضى القياس أن يجوز التأخير لكن لم يرد الاستعمال إلا على التقديم كما في دلائل الإعجاز.

3 هو المتنبي.

ج / 2 ص -72- مثلك يثني المزن عن صوبه ويسترد الدمع من غربه1

وكذا قول القبعثري للحجاج لما توعده بقوله "لأحملنك على الأدهم": مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب أي من كان على هذه الصفة من السلطان وبسطة اليد ولم يقصد أن يجعل أحدًا مثله2:

وكذلك حكم غير إذا سلك به هذا المسلك3، فقيل "غيري يفعل ذاك" على معنى أني لا أفعله فقط من غير إرادة التعريض بإنسان.. وعليه قوله:4.

غير بأكثر هذا الناس ينخدع "إن قاتلوا جبنوا أو حدثوا شجعوا".

فإنه معلوم أنه لم يرد أن يعرض بواحد هناك فيصفه بأنه ينخدع بل أراد أنه ليس ممن ينخدع. وكذلك قول أبي تمام:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هو للمتنبي أيضًا. وهو والبيت السابق من قصيدة واحدة: والمزن: السحاب. الغرب: عرق في العين يجري منه الدمع. يصفه أولا بالكرم وثانيًا بالشجاعة.

2 الحجاج الثقفي من ولاة بني أمية المشهورين. والقبعثري: من رؤساء العرب وفصحائهم وكان من الخوارج. وهذا من الأسلوب الحكيم وسيأتي. والأدهم: القيد كما أراد الحجاج وهو في كلام القبعثري الفرس الأدهم الذي غلب سواده حتى ذهب البياض الذي فيه. والأشهب: الفرس الذي غلب بياضه حتى ذهب سواده. ومراد الحجج إنما هو القيد فنبه القبعثري على أن الحمل على الفرس الأدهم هو أولى بأن يقصده الأمير.

3 يعني مسلك مثل، يرد به سوى ما أضيف إليه فلفظ غير هنا كناية عن ثبوت الفعل لمن أضيف إليه لفظ غير في النفي وعن سلبه عنه في الإيجاب؛ لأنه إذا نفي الجود عن غير المخاطب مثلًا وقيل غيرك لا يجود يثبت للمخاطب؛ لأن الجود ثابت ولا بد له من محل يقوم به.

4 هو للمتنبي.

ج / 2 ص -73- وغيري يأكل المعروف سحتًا وتشحب عنده بيض الأيادي1

فإنه لم يرد أن يعرض بشاعر سواه فيزعم أن الذي قرف2 به عند الممدوح من أنه هجاه كان من ذلك الشاعر لا منه، بل أراد أن ينفي عن نفسه أن يكون ممن يكفر النعمة ويلؤم لا غير.

واستعمال "مثل" و"غير" هكذا مركوز في الطباع، وإذا تصفحت الكلام وحدتهما يقدمان أبدًا على الفعل إذا نحى بهما نحو ما ذكرناه، ولا يستقيم المعنى فيهما إذالم يقدما.

والسر في ذلك أن تقديمهما يفيد تقوي الحكم به كما سبق تقريره، وسيأتي3 أن المطلوب بالكناية في قولنا "مثلك لا يبخل" و"غيرك لا يجود" هو الحكم وأن الكناية أبلغ من التصريح فيما قصد بها، فكان تقديمها أعون للمعنى الذي جلبًا لأجله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 السحت الحرام. يشحب من الشحوب وهو تغير اللون. الأيادي النعم.

2 أي اتهم.

3 أي في باب الكناية.

موضع آخر من مواضع تقديم المسند إليه:

قيل وقد يقدم؛ لأنه دال على العموم، كما تقول كل إنسان لم يقم1، فيقدم ليفيد نفي القيام عن كل واحد من الناس؛ لأن2

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي يقدم المسند إليه المسور بكل على المسند المقرون بحرف النفي.

2 هذا تعليل بدر الدين بن بن مالك في كتابة المصباح في علوم البلاغة ص13. هذا ولا بد من أن يكون المسند إليه مسورًا بكل والمسند مقرونًا بحرف النفي، وبقي شرط آخر وهو أن يكون المسند إليه بحيث لو أخر كان فاعلًا، بخلاف قولك كل إنسان لم يقم أبوه فلا يجب فيه تقديم. هذا والتقديم في هذا الموضع أي في مثل قولنا كل إنسان لم يقم يدل على عموم النفي وشموله أي على نفي الحكم عن كل فرد من أفراد ما أضيف إليه لفظ كل، يعني أن المسند إليه إذا استوفى الشروط المذكورة وكان القصد في تلك الحالة إلى إفادة العموم فيقدم المسند إليه لإفادة ما قصده إذ لو أخر لم يطابق مقصوده لعدم إفادته للعموم حينئذ؛ لأنه يدل حينئذ على نفي الحكم عن جملة الأفراد "أي الأفراد المجملة التي لم تعين بكونها كلا أو بعضًا بل أبقيت على شمولها للأمرين" لا عن كل فرد. فالتقدم يفيد عموم السلب، والتأخير يفيد سلب العموم.

ج / 2 ص -74- الموجبة المعدولة المهملة1 في قوة السالبة الجزئية المستلزمة نفي الحكم عن جملة الأفراد دون كل واحد منها، فإذا سورت بـ"كل" وجب أن تكون لإفادة العموم لا لتأكيد نفي الحكم عن جملة الأفراد؛ لأن التأسيس خير من التأكيد.

ولو لم تقدم فقلت: "لم يقم كل إنسان" كان نفيًا للقيام عن جملة الأفراد دون كل واحد منها؛ لأن السالبة المهملة2 في قوة السالبة الكلية المقتضية سلب الحكم عن كل فرد لورود موضوعها3 في سياق النفي4. فإذا سورت5 بكل وجب أن تكون لإفادة نفي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وهي "إنسان لم يقم". فهي موجبة؛ لأن النفي لم يسلط عليها، ومعدوله؛ لأن حرف النفي فيها جزء من المسند، ومهملة؛ لأنهالم تسور بكل ولا ببعض ولا بما ماثلهما. فهي في قوة القضية السالبة الجزئية مثل قولك "لم يقم بعض الإنسان"، فكل منهما لا يفيد نفي الحكم عن كل فرد فرد من الأفراد.

2 وهي "لم يقم إنسان" فهي قضية سالبة؛ لأن النفي مسلط عليها، ومهملة؛ لأنهالم تسور بكل ولا ببعض. فهي في قوة السالبة الكلية مثل لا شيء من الإنسان بقائم.

3 أي موضوع المهملة الغير المصدرة بلفظ كل.

4 وكل نكرة كذلك مفيدة لعموم النفي.

5 أي القضية السالبة المهملة "لم يقم إنسان" والحاصل أن التقديم قبل كل لسلب العموم. فيجب أن يكون بعد كل لعموم السلب. لتكون لفظه كل للتأسيس. وذلك؛ لأن لفظة كل لا تخلو عن إفادة أحد هذين المعنيين. فعند انتفاء أحدهما يثبت الآخر ضرورة، والتأكيد أن تكون لفظة كل لتقرير المعنى الحاصل قبله، والتأسيس أن تكون لإفادة معنى جديد، والتأسيس أرجح؛ لأن الإفادة خير من الإعادة.. هذا والنظر فيهما "عموم السلب وسلب العموم" إنما هو للأفراد لا للجملة "الهيئة الاجتماعية". وإنما الفرق بينهما من جهة كون كل فرد متعلقًا للنفي في الأول أو متعلقًا للمنفي في الثاني. ثم إن سلب العموم يتحقق بعدم حصوله من بعض دون بعض وبعدم حصوله من كل واحد؛ لأنه رفع للايجاب الكلي فيصدق بكل من السلب الجزئي والكلي، وأيا ما كان يتحقق السلب الكلي ولذا نراهم يقولون إن سلب العموم من قبيل السلب الجزئي؛ لأنه هو المحقق. وسلب العموم لا يستلزم عموم السلب وهذا لا ينافي ما ذكر سابقًا من أن سلب العموم صادق بصورتين.. وهذا البحث مكانه علم المنطق لا البلاغة.

ج / 2 ص -75- الحكم عن جملة الأفراد، لئلا يلزم تجريح التأكيد على التأسيس. وفيه نظر1:

1- لأن النفي عن جملة الأفراد في الصورة الأولى -أعني الموجبة المعدولة المهملة كقولنا إنسان لم يقم- وعن كل فرد في الصورة الثانية -أعني السالبة المهملة كقولنا لم يقم إنسان- إنما أفاده الإسناد إلى إنسان، فإذا أضيف كل إلى إنسان وحول الإسناد إليه، فأفاد في الصورة الأولى نفي الحكم عن جملة الأفراد وفي الثانية نفيه عن كل فرد منها، كان كل تأسيسًا لا تأكيدًا3؛ لأن التأكيد لفظ يفيد تقوية ما يفيده لفظ آخر4 وما نحن فيه ليس كذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي في هذا التعليل الذي علل به صاحب المصباح.

2 أي كما كان مستفادًا قبل دخول "كل" فيهما".

3 اعترض بأن هذا الرد لا يناسب قواعد المنطقيين.

4 في تركيب واحد وإسناد واحد. وحاصل هذا الكلام أنا لا نسلم أنه لو حمل الكلام بعد دخول كل على المعنى الذي حمل عليه قبل كل كان كل للتأكيد. ولا يخفى أن هذا المنع إنما يصح على تقدير أن يراد به التأكيد الاصطلاحي أما لو أريد بالتوكيد أن يكون كل لإفادة معنى كان حاصلًا بدونه أي سواء كان الإسناد واحدًا، أو متعددًا فاندفاع المنع ظاهر، وحينئذ فقط يتوجه الاعتراض الثاني.

ج / 2 ص -76- 2- ولئن سلمنا أنه يسمى تأكيدًا "فقولنا لم يقم إنسان" إذا كان مفيدًا للنفي عن كل فرد كان مفيدًا للنفي عن جملة الأفراد لا محالة فيكون "كل" في "لم يقم كل إنسان" إذا جعل مفيدًا للنفي عن جملة الأفراد تأكيدًا لا تأسيسًا 1 كما قال في "كل إنسان لم يقم" فلا يلزم من جعله للنفي عن كل فرد ترجيح التأكيد على التأسيس2.

3- ثم جعله قولنا "لم يقم إنسان" سالبة مهملة في قوة سالبة كلية مع القول بعموم موضوعها لوروده نكرة في سياق النفي خطأ؛ لأن النكرة في سياق النفي إذا كانت للعموم كانت القضية التي جعلت هي موضوعًا لها سالبة كلية، فكيف تكون سالبة مهملة3؟ ولو قال: لو لم يكن الكلام المشتمل على كلمة كل مفيدًا لخلاف ما يفيده الخالي عنها لم يكن في الاتيان بها فائدة، لثبت مطلوبه في الصورة الثانية دون الأولى، لجواز أن يقال فائدته فيها الدلالة على نفي الحكم عن جملة الأفراد بالمطابقة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لأن هذا المعنى كان حاصلًا بدونه وحينئذ فلو جعلنا "لم يقم كل إنسان" لعموم السلب مثل "لم يقم إنسان" لم يلزم ترجيح التأكيد على التأسيس إذ لا تأسيس أصلًا؛ لأن لفظ كل للتأكيد على كل حال بل إنما يلزم ترجيح أحد التأكيدين "وهما تأكيد النفي عن كل فرد وتأكيد النفي عن الجملة والمراد هنا بأحد التأكيدين هو الأول، والمراد بالآخر هو الثاني" على الآخر.

2 والحاصل أن "لم يقم إنسان" لما كان مفيدًا للنفي عن كل فرد ويلزمه النفي عن الجملة أيضًا فكلا المعنيين حاصل قبل "كل" فعلى أيهما حملت يكون تأكيدًا لا تأسيسًا فلا يصح قول المستدل أنه يجب أن يحمل على النفي عن الجملة لئلا يلزم ترجيح التأكيد على التأسيس.

3 بدر الدين بن مالك يسير على اصطلاح المناطقة والخطيب يسير على اصطلاح أهل العربية فبينهما بون بعيد.

4 لأن قولنا "إنسان لم يقم" معناه المطابقي نفي الحكم عن الأفراد أو بعضها ولا يحتمل المجموع إلا بدلالة الالتزام بخلاف "كل إنسان لم يقم" فإن دلالته على نفي الحكم عن المجموع بالمطابقة.

ج / 2 ص -77- واعلم أن ما ذكره هذا القائل1 -من كون كل في النفي مفيدة للعموم تارة وغير مفيدة للعموم أخرى- مشهور. وقد تعرض له الشيخ عبد القاهر2 وغيره.. قال الشيخ "عبد القاهر": كلمة كل في النفي إن أدخلت في حيزه، بأن قدم عليها: لفظًا، كقول أبي الطيب:

ما كل ما يتمنى المرء يدركه "تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن"

وقول الآخر: ما كل رأي الفتى يدعو إلى رشد3.

وقولنا "ما جاء القوم كلهم" وما جاء كل القوم، "ولم آخذ الدراهم كلها"، ولم آخذ كل الدراهم. أو تقديرًا، بأن قدمت4 على الفعل المنفي وأعمل فيها؛ لأن العامل رتبته التقدم على المعمول كقولك كل الدراهم لم آخذ، توجه النفي إلى الشمول خاصة دون أصل الفعل، وأفاد الكلام ثبوته لبعض أو تعلقه5 ببعض.. وإن أخرجت6 من حيزه بأن قدمت عليه لفظًا ولم تكن معمولة للفعل المنفي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وهو بدر الدين بن بن مالك.

2 عبد القاهر يحكم الذوق والأسلوب العربي الفصيح، دون تحكمات المنطق والمناطقة.

3 عجزه: إذا بدا لك رأي مشكل فقف -وهو لأبي العتاهية.

4 أي لفظة "كل".. هذا ويلاحظ أن كلام عبد القاهر يؤيد كلام صاحب المصباح وإن اختلفا في التعليل، إذ أن كلام صاحب المصباح حق وتعليله باطل، فأورد الخطيب رأي عبد القاهر ليشير إلى التعليل الصحيح.. وما ذكره عبد القاهر يخالف أيضًا رأي صاحب المصباح إذ أن "لم يقم كل إنسان" صادق عند صاحب المصباح بصورتين "هما نفي الحكم عن كل فرد ونفيه عن بعض دون بعض" وعند عبد القاهر لا يصدق إلا على الصور ة الثانية.

5 أي تعلق الفعل: هذا والشاهد على ذلك الذوق. والحق أن هذا الحكم أكثري لا كلي بدليل قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور} وما شابهه من الآيات.

6 أي لفظة كل.

ج / 2 ص -78- توجه النفي إلى أصل الفعل وعم ما أضيف إليه1 كل كقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله: "كل ذلك لم يكن"، أي لم يكن واحد منهما، لا القصر ولا النسيان وقول أبي النجم:

قد أصبحت أم الخيار تدعى على ذنبا كله لم أصنع

ثم قال2: وعلة ذلك أنك إذا بدأت بكل كنت قد بنيت النفي عليه وسلطت الكلية على النفي وأعملتها فيه، وإعمال معنى الكلية في النفي يقتضي أن لا يشذ شيء عن النفي، فأعرفه. هذا لفظه3. وفيه نظر4.

وقيل5 إنما كان التقديم مفيدًا للعموم دون التأخير؛ لأن صورة التقديم تفهم سلب "لحقوق" المحمول للموضوع وصورة التأخير تفهم سلب الحكم من غير تعرض للمحمول بسلب أو لثبات.. وفيه نظر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 فالمسند إليه المسور بكل إذا أخر عن أداة السلب يفيد سلب العموم، وعلى مذهب عبد القاهر يفيد النفي عن بقاء الكل مع أصل الفعل.

2 أي عبد القاهر.

3 أي لفظ عبد القاهر.

4 قال صاحب المطول: لأنا نجده حيث لا يصلح أن يتعلق الفعل ببعض كقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيم}، {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ}، فالحق أن هذا الحكم أكثري لا كلي. هذا ومن البدهي أنه قد سبق تعليلان لهذه المسألة تعليل صاحب المصباح وتعليل عبد القاهر... ولابن السبكي تعليل آخر ارتضاه، وهو أن "لم يقم كل إنسان" سالبة محصلة معناها نقيض لمعنى الموجبة المحصلة وهي "قام كل إنسان" حكمًا على كل فرد بالقيام فيكون المحكوم به في السالبة المحصلة نقيض قيام كل فرد ونقيض الكلي جزئي فيكون مدلوله سلب القيام عن بعضهم.

5 هذا تعليل آخر للمسألة التي نحن بصددها.

ج / 2 ص -79- أيضًا: لاقتضائه أن لا تكون ليس في نحو قولنا ليس كل إنسان كاتبًا مفيدة لنفي كاتب، هذا إن حمل كلامه على ظاهره وإن تؤول بأن مراده أن التقديم يفيد سلب الحقوق المحمول عن كل فرد، والتأخير يفيد سلب لحقوقه لكل فرد اندفع هذا الاعتراض، لكن كان مصادرة 1 على المطلوب.

واعلم أن2 المعتمد في المطلوب الحديث وشعر أبي النجم، وما نقلناه عن الشيخ عبد القاهر وغيره لبيان السبب وثبوت المطلوب لا يتوقف عليه. والاحتجاج بالخبر3 من وجهين: أحدهما أن السؤال بأم عن أحد الأمرين لطلب التعيين بعد ثبوت أحدهما عند المتكلم على الإبهام، فجوابه إما بالتعيين أو بنفي كل واحد منهما4، وثانيهما ما روي أنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل ذلك لم يكن" قال له ذو اليدين: بعض ذلك قد كان، والإيجاب الجزئي نقيضه السلب الكلي، وبقول5 أبي النجم ما أشار إليه الشيخ عبد القاهر وهو أن الشاعر فصيح، والفصيح الشائع في مثل قوله نصب كل وليس فيه ما يكسر له وزنًا، وسياق كلامه أنه لم يأت بشيء مما ادعت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لأن الدعوى عين الدليل.

2 هذا هو توجيه المصنف للمسألة بعد أن ناقش الآراء وعرضها.

3 وهو الحديث.

4 قال المطول بعد أن ذكر ذلك: ردا على المستفهم وتخطئة له في اعتقاد ثبوت أحدهما، لا ينفي الجمع بينهما؛ لأنه لم يعتقد ثبوتهما جميعًا، فيجب أن يكون قوله: "كل ذلك لم يكن" نفيًا لكل منهما.

5 أي والاحتجاج بقول أبي النجم وهو:

قد أصبحت أم الخيار تدعي على ذنبا كله لم أصنع

برفع "كله" على أنه مبتدأ والجملة بعده خبر والضمير العائد محذوف أي "لم أصنعه". وقال سيبويه بعد أن أنشد البيت بالرفع: "فهذا ضعيف وهو بمنزلته في غير الشعر؛ لأن النصب لا يكسر البيت ولا يخل به ترك الهاء فكأنه قال غير مصنوع".

ج / 2 ص -80- عليه هذه المرأة، فلو كان النصب مفيدًا لذلك والرفع غير مفيد لم يعدل عن النصب إلى الرفع من غير ضرورة.

تنبيه:

ومما يجب التنبيه له في فصل التقديم أصل، وهو أن تقديم الشيء على الشيء ضربان: تقديم على نية التأخير وذلك في شيء أقر مع التقديم على حكمه الذي كان عليه كتقديم الخبر على المبتدأ، والمفعول على الفاعل كقولك قائم زيد وضرب عمرًا زيد فإن قائم وعمرًا لم يخرجا بالتقديم عما كان عليه من كون هذا مسندًا ومرفوعًا بذلك وكون هذا مفعولًا ومنصوبًا من أجله.. وتقديم لا على نية التأخير ولكن أن ينقل الشيء عن حكم إلى حكم ويجعل له إعراب غير إعرابه كما في اسمين يحتمل كل منهما أن يجعل مبتدأ والآخر خبرًا له فيقدم تارة هذا على هذا، وأخرى هذا على هذا، كقولنا "زيد المنطلق" و"المنطلق زيد"، فإن المنطلق لم يقدم على أن يكون متروكًا على حكمه الذي كان عليه مع التأخير فيكون خبر مبتدأ كما كان، بل على أن ينقل عن كونه خبًرا إلى كونه مبتدأ، وكذا القول في تأخير زيد.

تأخير المسند إليه:

وأما تأخيره: فلاقتضاء المقام تقديم المسند1.

خروج المسند إليه على خلاف الظاهر:

هذا كله2 مقتضى الظاهر:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وسيجيء بيان ذلك في أحوال المسند.

2 أي ما سبق من أحوال المسند إليه، هو مقتضى ظاهر الحال.

والحال هو الأمر الداعي لإيراد الكلام مكيفًا بكيفية مخصوصة سواء كان ذلك الأمر الداعي ثابتًا في الواقع أم كان ثبوته بالنظر إلى ما عند المتكلم. أما ظاهر الحال فهو الأمر الداعي بشرط أن يكون ذلك الأمر ثابتًا في الواقع فقط. فظاهر الحال أخص من الحال، فيكون مقتضى ظاهر الحال أخص من مقتضى الحال، فإذا خرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر كان سائرًا على مقتضى الحال.

ج / 2 ص -81- وقد يخرج المسند إليه على خلافه1:

1- فيوضع المضمر موضع المظهر:

كقولهم ابتداء من غير جري ذكر لفظًا، أو قرينة حال: "نعم رجلًا زيد2، وبئس رجلًا عمرو، مكان: "نعم الرجال"، و"بئس الرجل". على "3" قول من لا يرى الأصل "زيد نعم رجلًا".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وذلك لاقتضاء الحال إياه.

2 أي مكان نعم الرجل زيد فإن مقتضى الظاهر في هذا المقام هو الإظهار دون الإضمار، لعدم تقدم ذكر المسند إليه وعدم قرينة تدل عليه. وهذا الضمير عائد إلى شيء معقول معهود في الذهن، وهذا أحد قولين في الضمير، والقول الثاني أنه للجنس، والقولان يأتيان في "أل" من قولنا "نعم الرجل زيد"، فقد قيل أنها للعهد وقيل أنها للجنس -هذا وقد التزم تفسير الضمير بنكرة ليعلم جنس المتعقل.

3 أي وإنما يكون هذا من وضع المضمر موضع المظهر في أحد القولين أي في قول من يجعل المخصوص خبر مبتدأ محذوف وأما من يجعله مبتدأ و"نعم رجلًا" خبره:

1 فيحتمل عنده أن يكون الضمير عائدًا إلى المخصوص وهو مقدم تقديرًا ويكون التزام أفراد الضمير حيث لم يقل: "نعما" و"نعموا" من خواص هذا الباب لكونه من الأفعال الجامدة المشابهة للأسماء الجامدة فهي ضعيفة فلا تتحمل بارزًا لئلا يثقلها. وعلى القول الثاني لا يكون من وضع المضمر موضع المظهر.

2 ويحتمل أن يكون الضمير عائدًا على المتعقل الذهني لا على زيد المبتدأ وعليه فيكون من هذا الباب والرابط العموم الذي في الضمير

ج / 2 ص -82- و"عمرو بئس رجلًا"، وقولهم: "هو زيد عالم" وهي عمرو1 شجاع، مكان: الشأن زيد عالم، والقصة عمرو شجاع.

ليتمكن في ذهن السامع ما يعقبه2 فإن السامع متى لم يفهم من الضمير معنى بقي منتظرًا لعقبى الكلام: كيف تكون، فيتمكن المسموع بعده في ذهنه فضل تمكن3، وهو السر في التزام تقديم الشأن أو القصة، قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد}، وقال: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُون}، وقال: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَار}.

2- وقد يعكس فيوضع المظهر موضع المضمر:

1- فإن كان المظهر اسم إشارة.

فذلك إما لكمال العناية بتمييزه لاختصاصه بحكم بديع4 كقوله5:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ضمير الشأن إنما يؤنث إذا كان الكلام مؤنثًا غير فضله، والمثال مجرد قياس على قولهم هي هند مليحة بجامع أن الضمير في كل عائد للقصة.

فهو لم يرد به الاستعمال والسماع فالمثال غير صحيح.

2 هذا تعليل لوضع المضر موضع المظهر في البابين وقوله "ما يعقبه" أي يعقب الضمير أي يجيء على عقبه.

3 لا يخفى أن هذا التعليل لا يحسن في باب نعم وكذا في ضمير الشأن المستتر نحو كان زيد قائم؛ لأن السامع ما لم يسمع المفسر لم يعلم أن فيه ضميرًا فلا يتحقق فيه التشوق والانتظار؛ لأنه يجوز أن الفاعل اسم ظاهر يأتي به المتكلم بعد ذلك فإذا سمع التمييز علم جنس الضمير فلا يحصل له تشوق؛ لأنه حصلت له معرفة جنس الضمير ابتداء.

4 الضمير في "تمييزه" وفي "لاختصاصه" للمسند إليه.

5 هو لابن الرواندي م 245هـ. عاقل وكذلك جاهل الثانية صفة الأولى. أعيت مذاهبه أي أعيته وأعجزته طرق معاشه. الأوهام: العقول. النحرير: المتقن للأمور من نحر الأمور علما أتقنها. الزنديق: الكافر بالله. فقوله "هذا" إشارة إلى حكم سابق غير محسوس وهو كون العاقل محرومًا والجاهل مرزوقًا فكان المقام مقام المضمر لكنه لما اختص بحكم بديع عجيب الشأن وهو جعل الأوهام حائرة والعالم التحرير زنديقًا كملت عناية المتكلم بتمييزه فأبرزه في معرض المحسوس.. وقد يقال أن الحكم البديع هو كون العاقل محرومًا والجاهل مرزوقًا، ومعنى كونه بديعًا أنه ضد ما كان ينبغي: فمعنى اختصاص المسند إليه بحكم بديع أنه عبارة عنه مع كونه ضد ما كان ينبغي. وهو فهم ضعيف خلاف الظاهر.

ج / 2 ص -83- كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقا

وإما للتهكم بالسامع، كما إذا كان فاقد البصر، أولم يكن ثم مشار إليه أصلًا.

وإما للنداء على كمال بلادته بأنه لا يدرك غير المحسوس بالبصر، أو على كمال فطانته بأن غير المحسوس بالبصر عنده كالمحسوس عند غيره.

وإما لادعاء أنه كمل ظهوره حتى كأنه محسوس بالبصر. ومنه1 في غير باب المسند إليه قوله:

تعاللت كي أشجي وما بك علة تريدين قتلي، قد ظفرت بذلك2

وإما لنحو ذلك..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي من وضع اسم الإشارة موضع المضمر لادعاء كمال الظهور.

2 هو لابن الدمينة. وفي الأمالي نسبته لمرة السعدي الشاعر الأموي. ونسب صاحب العقد الفريد البيت لعلية بنت المهدي.

تعالل: ادعى العلة والمرض. أشجي: أحزن من جشي بالكسر يشجى بالفتح، وقوله بذلك أي بقتلي، ولم يقل به لادعاء أن قتله قد ظهر ظهور المحسوس بالبصر الذي يشار إليه باسم الإشارة.

ج / 2 ص -84- ب- وإن كان المظهر غير اسم إشارة:

فالعدول إليه عن المضمر إما لزيادة التمكين1، كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَد، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1-2] ونظيره3 من غيره4 قوله: {وَبِالْحَقِّ أنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 5] وقوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فأنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة: 59]، وقول الشاعر6:

إن تسألوا الحق نعط الحق سائله "والدرع محقبة والسيف مقروب"

بدل نعطكم إياه.

وإما لادخال الروع في ضمير السامع وتربية المهابة. وإما لتقوية المأمور، مثالهما قول الخلفاء: أمير المؤمنين يأمرك بكذا. وعليه من غيره7 {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ}.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي جعل المسند إليه متمكنًا عند السامع؛ لأن في الإظهار من التفخيم والتعظيم ما ليس في الضمير، والمقام الذي يقتضي التمكن هو كون الغرض من الخطاب تعظيم المسند إليه.

2 أي الذي يصمد إليه ويقصد في الحوائج، لم يقل هو الصمد لزيادة التمكن.

3 أي نظيره: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1-2]. في وضع المظهر موضع المضمر لزيادة التمكن.

4 أي من غير باب المسند إليه.

5 الضمير في أنزلناه للقرآن. فأعاد ذكر الحق مظهرًا دون أن يقول: وبه نزل.

6 هو عبد الله بن عنمة الضبي. وسيأتي شرح البيت قريبًا.

7 أي على وضع المظهر موضع المضمر لتقوية داعي الأامور من غير باب المسند إليه.

ج / 2 ص -85- وإما للاستعطاف كقوله:

إلهي عبدك العاصي أتاكا "مقرا بالذنوب وقد دعاكا"1

وإما لنحو ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 قال "عبدك العاصي" ولم يقل "أنا" لما في لفظ "عبدك العاصي" من الخضوع واستحقاق الرحمة وترقب الشفقة.

3- الالتفات:

قال السكاكي: "هذا1 غير مختص بالمسند إليه، ولا بهذا القدر2، بل التكلم والخطاب والغيبة مطلقًا3 ينقل كل واحد منها إلى الآخر4، ويسمى هذا النقل التفاتًا5 عند علماء المعاني،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 قوله "هذا" أعني نقل الكلام عن الحكاية إلى الغيبة غير مختص بالمسند إليه أي بل يكون في المسند إليه مثل "إلهي" وفي غيره مثل: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه} وهذا محل اتفاق.

2 أي ولا النقل من الحكاية إلى الغيبة. ولا شك أن العبارة على هذا تكون واهية، ولذلك قدر السعد مطلقًا، أي ولا النقل حال كونه مطلقًا من التقييد بكونه من التكلم إلى الغيبة مختص بهذا القدر -أعني النقل من التكلم إلى الغيبة، أي بل يكون في غيره ككونه من الخطاب إلى التكلم أو الغيبة أو من الغيبة إلى التكلم أو الخطاب، أو من التكلم إلى الخطاب.

3 أي سواء كان في المسند إليه أو غيره وسواء كان كل منها واردًا في الكلام أو كان مقتضى الظاهر إيراده.

4 فتصير الأقسام عند السكاكي ستة حاصلة من ضرب الثلاثة في الاثنين. هذا ولفظ "مطلقًا" ليس -كما قلنا- من عبارة السكاكي بل قدره السعد؛ لأنه مراده بحسب ما علم من مذهبه في الالتفات بالنظر إلى الأمثلة.

5 مأخوذ من التفات الإنسان من يمينه إلى شماله أو العكس. هذا والالتفات من حيث إنه يشتمل على نكتة هي خاصية التركيب من علم المعاني، ومن حيث إنه يحسن الكلام ويزينه من علم البديع. والسكاكي أورده في علم المعاني والبديع. هذا وللالتفات معنى آخر عند المتقدمين سيأتي ذكره وراجعه في ص87 من نقد الشعر، 383 من الصناعتين.

ج / 2 ص -86- كقول ربيعة بن مقروم1:

بانت سعاد فأمسى القلب معمودا وأخلفتك ابنة الحر المواعيدا

فالتفت كما ترى، حيث لم يقل "وأخلفتني2"، وقوله3:

تذكرت -والذكرى تهيجك- زينبا وأصبح باقي وصلها قد تقضبا

وحل بفلح فالأباتر أهلنا وشطت فحلت غمرة فمثقبا

فالتفت في البيتين4.

والمشهور عند الجمهور5 أن الالتفات هو التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه6 بطريق آخر منها7.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 شاعر إسلامي شهد القادسية. معمودًا: حزينًا. وابنة الحر هي سعاد وهو من وضع المظهر موضع المضمر.

2 ففيه التفات من التكلم إلى الخطاب. ويجوز أن يكون الخطاب في "وأخلفتك" من التجريد لا من الالتفات بناء على أن بينهما فرقًا هو أن مبنى التجريد على المغايرة ومبنى الالتفات على اتحاد المعنى، وقيل لا منافاة بينهما.

3 ربيعة بن مقروم أيضًا، تقضب: تقطع. فلج والأباتر وغمرة ومثقبًا أسماء أمكنة، شطت بعدت.

4 في قوله تذكرت بتاء الخطاب، وقوله تهيجك بكاف الخطاب.

5 هذا هو مقابل رأي السكاكي في معنى الالتفات.

6 أي عن ذلك المعنى وهذا صريح في أنه لا بد من اتجاد معنى الطريقين في الما صدق.

7 أي بشرط أن يكون التعبير الثاني على خلاف ما يقتضيه الظاهر ويترقبه السامع ولا بد من هذا القيد ليخرج: مثل قولنا "أنا زيد" وأنت عمرو" و"نحن الذين صبحوا الصباحا" ومثل قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين}، و{اهْدِنَا}. و{أَنْعَمْتَ}، فإن الالتفات إنما هو في إياك نعبد، والباقي جار على أسلوب إياك نعبد فلما التفت للخطاب صار الأسلوب له. ومن زعم أن مثل: يا أيها الذين آمنوا -التفاتا- لأن الذين هو المنادى في الحقيقة. فهو المخاطب والمناسب له "آمنتم"- فقد سها على ما تشهد به كتب النحو من أن عائد الموصول قياسه أن يكون بلفظ الغيبة؛ لأن الموصول اسم ظاهر فهو من قبيل الغيبة وأن عرض له الخطاب بسبب بالنداء.

ج / 2 ص -87- وهذا1 أخص من تفسير السكاكي؛ لأنه أراد بالنقل2 أن يعبر بطريق من هذه الطرق عما عبر عنه بغيره أو كان مقتضى الظاهر أن يعبر عنه بغيره منها3، فكل التفات عندهم التفات عنده من غير عكس.

مثال الالتفات من التكلم إلى الخطاب قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لا أعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22]4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي الالتفات بتفسير الجمهور.

2 المسمى التفاتًا.

3 فيتحقق الالتفات عند السكاكي بتغيير واحد، فهو لا يشترط تقدم التعبير والجمهور يشترطونه، فكل التفات عندهم التفات عنده ولا عكس.. فالسكاكي يوافق الجمهور في تسمية ما تقدم التعبير عنه بطريق آخر من الطرق الثلاثة التفاتًا، ويخالفهم في جعل ما لم يتقدم التعبير عنه بطريق آخر مما كان مقتضى الظاهر أن يعبر عنه بغيرها منها من باب الالتفات.

4 قال السكاكي في المفتاح ص106 "ولولا التعريض لكان المناسب وإليه أرجع". فقوله "ترجعون" مكان أرجع التفات عند الجمهور والسكاكي معًا. هذا والتحقيق أن المراد "ما لكم لا تعبدون" لكن لما عبر عنهم بطريق التكلم كان مقتضى ظاهر سياق الكلام إجراء باقي الكلام على ذلك الطريق فعدل عنه إلى طريق الخطاب فهو التفات على المذهبين.. هذا وحاصل القول الثاني المذكور في التحقيق أن الضميرين للمخاطب فكان مقتضى الظاهر أن يقال "وما لكم لا تعبدون" فعدل عن ذلك وأوقع ضمير التكلم موقع ضمير الخطاب ثم عبر عن ضمير التكلم بضمير الخطاب فقد اتحد المعبر عنه واختلف العبارة، فعبر أولًا بطريق التكلم ثم عبر ثانيًا بطريق الخطاب وهذا التفات، وهذا هو التحقيق؛ لأن قوله: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُد} تعريض بالمخاطبين لزجرهم على عدم الإيمان؛ لأنهم المقصودون بالذات من ذلك أيضًا، إذ سبق الخطاب في قوله: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِين}، وإما على خلاف التحقيق فهو التفات واحد في "ترجعون".. ويرى عبد الحكيم أن التعبير بقوله تعالى "ومالي" تعريض لا التفات.

ج / 2 ص -88- ومن التكلم إلى الغيبة قوله تعالى: {إنَّا أعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 1-2]1.

ومن الخطاب إلى التكلم قول علقمة بن عبدة2:

طحابك قلب في الحسان طروب بعيد الشباب عصر حان مشيب

تكلفني ليلى وقد شط وليها وعادت عواد بيننا وخطوب

ومن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى: {حَتَّى إذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22]3.

ومن الغيبة إلى التكلم قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ} [فاطر: 8]4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ومقتضى الظاهر "فصل لنا".

2 طحا: ذهب. وقوله في الحسان طروب أي أن له طربًا في طلب الحسان ونشاطًا في مراودتهن. بعيد تصغير "بعد" للقرب، أي حين ولي الشباب وكاد ينصرم. "عصر" ظرف زمان مضاف إلى الجمة الفعلية بعده. حان: قرب. شط: بعد. وليها: أي قربها "عادت" يجوز أن تكون من "عادى معاداة"؟ كان الخطوب والصوارف صارت تعاديه، أو أن تكون من عاد يعود أي عادت عواد وعوائق كانت تحول بيننا إلى ما كانت عليه قبل.. وقوله يكلفني بالياء وفيه التفات من الخطاب في "بك" إلى التكلم، ومقتضى الظاهر "يكلفك" وفاعل "يكلفني" ضمير القلب وليلى مفعوله الثاني، والمعنى: يطالبني القلب بوصل ليلى. ويروى تكلفني بالتاء على أنه مسند إلى ليلى والمفعول محذوف أي شدائد فراقها أو على أنه خطاب للقلب فيكون التفاتًا آخر من الغيبة إلى الخطاب و"بك" فيها التفات على مذهب السكاكي لا على مذهب الجمهور. ولذلك قال السكاكي "التفت في البيتين":

3 الشاهد في قوله "بهم" مكان "بكم".

4 أي مكان ساقه.

ج / 2 ص -89- ومن الغيبة إلى الخطاب قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 4-5]1.

وقوله عبد الله بن2 عمة:

ما3 أن ترى السيد زيدًا في نفوسهم كما يراه بنو كوز ومرهوب

أن تسألوا الحق نعط الحق سائله والدرع محقبة والسيف مقروب

وأما قول امرئ القيس4:

تطاول ليلك بالأثمد ونام الخلي ولم ترقد

وبات وباتت له ليلة كليلة ذي العائر الأرمد

وذلك من نبأ جاءني وخبرته عن أبي الأسود

فقال الزمخشري: فيه ثلاث التفاتات5، وهذا ظاهر على تفسير السكاكي6؛ لأن على تفسيره في كل بيت التفاتة، لا يقال الالتفات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 مكان إياه نعبد.

2 شاعر مخضرم. والسيد وزيد وكوز ومرهوب أحياء من ضبة.

3 المعنى أن بني السيد لا يوجبون لبني زيد في نفوسهم من الحرمة والنصرة ما يوجبه لهم بنو كوز وبنو مرهوب. والضمير في "تسألوا" لبني زيد والالتفات فيه. محقبة: مشدود في الحقيبة. مقروب: موضوع في قرابه.

4 الأثمد: اسم موضع. العائر: قذى العين. وقوله "وبانت له ليلة" من الإسناد المجازي كصام نهاره. وأبو الأسود هو أبو حجر. وقوله "وبات" الأولى تامة بمعنى أقام ليلًا ونزل به نام أو لم ينم. "وبات" الثانية يجوز أن تكون تامة أو ناقصة.

5 أي "في ليلك" وفي "بات" وفي "جاءني".

6 قال السكاكي: "التفت في الأبيات الثلاثة" فمذهب السكاكي موافق لرأي الزمشخري.

ج / 2 ص -90- عنده1 من خلاف مقتضى الظاهر، فلا يكون في البيت الثالث التفات لوروده على مقتضى الظاهر؛ لأنا نمنع انحصار الالتفات عنده في خلاف المقتضى لما تقدم. وأما على المشهور2 فلا التفات في البيت الأول3، وفي الثاني التفاتة واحدة4، فيتعين أن يكون في الثالث التفاتتان5، فقيل هما في قوله جاءني، إحداهما باعتبار الانتقال من الخطاب في البيت الأول، والأخرى باعتبار الانتقال من الغيبة في الثاني، وفيه نظر؛ لأن الانتقال إنما يكون من شيء حاصل ملتبس به وإذ قد حصل الانتقال من الخطاب في البيت الأول إلى الغيبة في الثاني لم يبق الخطاب حاصلًا ملتبسًا به فيكون الانتقال إلى التكلم في الثالث من الغيبة وحدها لا منها ومن الخطاب جميعًا فلم يكن في البيت الثالث إلا التفاتة واحدة، وقيل احداهما في قوله وذلك؛ لأنه التفات من الغيبة6 إلى الخطاب والثانية في قوله جاءني؛ لأنه التفات من الخطاب7 إلى التكلم وهذا أقرب8.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي عند السكاكي.

2 أي على رأي الجمهور.

3 أي في قوله "ليلك"، وذلك؛ لأنه لم يتقدم التعبير عنها بطريق غير طريق الخطاب، وهي عند السكاكي فيها التفات؛ لأنه لا يشترط ذلك ولذلك صرح بأن في قوله "ليلك" التفاتًا؛ لأنه خطاب لنفسه ومقتضى الظاهر "ليلى" بالتكلم.

4 أي في قوله "وبات".

5 أي على رأي الزمخشري من أن في الأبيات الثلاثة ثلاث التفاتات.

6 أي في قوله "وبات" في البيت الثاني.

7 أي في قوله "وذلك" في البيت "الثالث".

8 قال الدسوقي: في هذه الأبيات التفاتان باتفاق، في "بات" لعدوله إلى الغيبه بعد الخطاب، وفي "جاءني" لعدوله بعدها إلى التكلم. وأما قوله "ليلك" فالسكاكي يجعله التفاتًا من التكلم إلى الخطاب إن لم يكن تجريدًا، وأما الجمهور فيتعين عندهم أن يكون تجريدًا.

ج / 2 ص -91- واعلم أن الالتفات من محاسن الكلام، ووجه حسنه على ما ذكر الزمخشري هو أن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية1 لنشاط السامع، وأكثر إيقاظًا للإصغاء إليه2 من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختص مواقعه بلطائف: كما في سورة الفاتحة، فإن العبد إذا افتتح حمد مولاه الحقيقي بالحمد عن قلب حاضر ونفس ذاكرة لما هو فيه، بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الدال على اختصاصه بالحمد وإنه حقيق به، وجد من نفسه لا محالة محركًا للإقبال عليه، فإذا انتقل على نحو الافتتاح إلى قوله: {رَبِّ الْعَالَمِيْنَ} الدال على أنه مالك للعالمين لا يخرج منهم شيء عن ملكوته وربوبيته، قوى ذلك المحرك، ثم إذا انتقل إلى قوله: {الْرَحْمَنِ الْرَحِيْمِ} الدال على أنه منعم بأنواع النعم جلائلها ودقائقها، تضاعفت قوة المحرك، ثم إذا انتقل إلى خاتمة هذه الصفات العظام وهي قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الْدِّيْنَ} الدال على أنه مالك للأمر كل يوم الجزاء تناهت قوته وأوجب الإقبال عليه وخطابه بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات3، وكما في قوله تعالى: {وَلَوْ أنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي تجديدًا وإحداثًا من "طريت الثوب"..

2 أي إلى ذلك الكلام؛ لأن لكل جديد لذة. وهذا وجه حسن الالتفات على الإطلاق. وهذا هو كلام السكاكي أيضًا.

3 وهذا في معنى كلام السكاكي أيضًا "87 من المفتاح".

هذا وبين التجريد والالتفات عموم وخصوص من وجه: يجتمعان في: {فَصِلِّ لِرَبِّكَ}، وينفرد الالتفات دون التجريد في "تكلفني ليلى"، وينفرد التجريد دون الالتفات في "رأيت منه أسدًا" ومثل "تطاول ليلك" عند الجمهور. ولا يوجد واحد منهما كما في غالب القرآن. وقالوا لا يكون الالتفات إلا في جملتين أي كلامين مستقلين. واعترض على هذا السبكي.

والتجريد إخلاص الخطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك لا المخاطب نفسه. وفائدته طلب التوسع في الكلام وتمكن المخاطب من إجراء الأوصاف المقصودة من مدح أو غيره على نفسه إذ يكون مخاطبًا بها غيره ليكون أعذر وأبرأ من العهدة فيما يقوله غير محجور عليه. فالتجريد قسمان: =

ج / 2 ص -92- 92

جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء: 64]، لم يقل "واستغفرت لهم"، وعدل عنه إلى طريق الالتفات تفخيمًا لشأن رسول الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= 1 محض، مثل. لا خيل عندك تهديها ولا مال.

2 غير المحض:

أقول لها وقد جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي

وقال أبو علي الفارسي: العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامنًا فيه كأنه حقيقته ومحصوله فتخرج ذلك المعنى إلى ألفاظها مجردًا من الإنسان كأنه غيره، وهو هو بعينه نحو قولهم: لئن لقيت فلانًا لتلقين به الأسد، وهو عينه الأسد. لا أن هناك شيئًا منفصلًا عنه أو متميزًا منه.. ثم قال: وعلى هذا النمط كون الإنسان يخاطب نفسه، حتى كأنه يقاول غيره كقول الأعشى: وهل تطيق وداعًا أيها الرجل.. هذا وابن الأثير يرى الأول تشبيها مضمرة الأداة والثاني تجريدًا.

والالتفات عند قدامة والعسكري على ضربين:

أحدهما: أن يفرغ المتكلم عن المعنى فإذا ظننت أنه يريد أن يجاوزه يلتفت إليه فيذكره بغير ما تقدم ذكره قال محمد بن يحيى الصولي قال الأصمعي: أتعرف التفاتات جرير؟ قلت: لا، قال:

أتنسى إذ تودعنا سليمى يعود بشامة سقي البشام.

ألا تراه مقبلًا على شعره ثم التفت إلى البشام فدعا له وقوله:

طرب الحمام بذي الأراك فشاقني لا زلت في علل وأيك ناضر

فالتفت إلى الحمام فدعا له.

والثاني: أن يكون الشاعر آخذًا في معنى وكأنه يعترضه شك، أو ظن أن رادا يرد قوله أو سائلًا يسأله عن سببه فيقول راجعًا إلى ما قدمه فإما أن يؤكده أو ينكر سببه أو يزيل الشك عنه مثل قول عبد الله بن معاوية:

وأجمل إذا ما كنت لا بد مانعا وقد يمنع الشيء الفتى وهو مجمل

"383 صناعتين، و87 نقد الشعر".

والالتفات عند السكاكي: التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة "التكلم والخطاب والغيبة" سواء عبر عن معنى بغيره قبله أو كان مقتضى الظاهر أن يعبر عنه بغيره. وعند الجمهور هو التعبير عن المعنى بطريق من الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه بغيره. ورأى المبرد في الالتفات يوافق رأي الجمهور راجع ص39 جـ2 الكامل.

ج / 2 ص -93- صلى الله عليه وسلم، وتعظيمًا لاستغفاره، وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان.

وذكر السكاكي لالتفاتات امرئ القيس في الأبيات الثلاثة على تفسيره وجوها:

1- أحدهما أن يكون قصد تهويل الخطب واستفظاعه. فنبه في التفاته الأول على أن نفسه وقت ورود ذلك النبأ عليها ولهت وله الثكلى، فأقامها مقام المصاب الذي لا يتسلى بعض التسلي إلا بتفجع الملوك له وتحزنهم عليه، وخاطبها1 بـ"تطاول ليلك" تسلية، أو على أنها لفظاعة شأن النبأ أبدت قلقًا شديدًا ولم تتصبر فعل الملوك، فشك في أنها نفسه فأقامها مقام مكروب وخاطبها بذلك تسلية، وفي الثاني على أنه صادق في التخزن خاطب أولًا، وفي الثالث على أنه يريد نفسه.

2- أو نبه في الأول على أن النبأ لشدته تركه حائرًا فما فطن معه لمقتضى الحال فجرى على لسانه ما كان ألفه من الخطاب الدائر في مجاري أموره الكبار: أمرًا ونهيا، وفي الثاني على أنه بعد الصدمة الأولى أفاق شيئًا فلم يجد النفس معه فبنى الكلام على الغيبة. وفي الثالث على ما سبق.

3- أو نبه في الأول على أنها حين لم تثبت ولم تتبصر غاظة ذلك، فأقامها مقام المستحق للعتاب، فخاطبها على سبيل التوبيخ والتعبير بذلك، وفي الثاني على أن الحامل على الخطاب والعتاب لما كان هو الغيظ والغضب وسكت عنه الغضب بالعتاب الأول ولي عنها الوجه وهو يدمم قائلًا "وبات وباتت له"، وفي الثالث على سبق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 فالكاف في قوله "ليلك" مكسورة، ويصح الفتح نظرًا لكون النفس يراد بها الشخص.

ج / 2 ص -94- هذا كلامه1 ولا يخفى على المنصف ما فيه من التعسف2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي كلام السكاكي.

2 لأنه فهم بعيد ليس فيه أثر للذوق بل فيه تحميل لكلام الشاعر أكثر مما أراد به منه.

4- الأسلوب الحكيم1:

ومن خلاف المقتضى2 ما سماه السكاكي الأسلوب الحكيم، وهو تلقي المخاطب3 بغير ما يترقب4 بحمل كلامه على خلاف مراده5 تنبيها على أنه الأولى بالقصد، أو السائل6بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله أو المهم له:

أما الأول فكقول القبعثري للحجاج لما قال له متوعدًا بالقيد: لأحملنك على الأدهم "مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب"، فإنه أبرز وعيده في معرض الوعد، وأراه بألطف وجه أن من كان على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 راجع 140 من المفتاح. ويدخل فيه الضرب الثاني من القول بالموجب ويدخل فيه بعض مثل المشاكلة كما يرى السبكي.

2 أي من خلاف مقتضى الظاهر وإن لم تكن من مباحث المسند إليه.

3 من إضافة المصدر للمفعول أي تلقي المتكلم للمخاطب أي تلقي المتكلم بالكلام الثاني للمخاطب به "وهو المتكلم بالكلام الأول"، والتلقي المواجهة.

4 أي المخاطب. والباء في بغيره للتعدية، وفي "بحمل كلامه" للسببية.

5 أي يحمل الكلام الصادر عن المخاطب على خلاف مراد المخاطب.

6 عطف على المخاطب أي تلقي السائل. والفرق بينه وبين تلقي المخاطب. أن هذا مبني على السؤال بعكس ذلك. والأول قريب من أسلوب تجاهل العارف ومن أسلوب القول بالموجب.

ج / 2 ص -95- صفته في السلطان وبسطه اليد فجدير أن يصفد لا أن يصفد1، وكذا قوله له لما قال له في الثانية "إنه حديد"، لأن يكون حديدًا خير من أن يكون بليدًا، وعن سلوك هذه الطريفة في جواب بالمخاطب عبر من قال مفتخراً.

أنت تشتكي عندي مزاولة القرى وقد رأت الضيفان ينحون منزلي

فقلت كأني ما سمعت كلامها:

هم الضيف جدي في قراهم وعجلي2

وسماه الشيخ عبد القاهر مغالطة:

وأما الثاني فكقوله تعالى: {يَسْألونَكَ عَنِ الْأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 188] قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقًا مثل الخيط ثم يتزايد قليلًا قليلًا حتي يمتلئ ويستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ؟3 وكقوله تعالى: {يَسْألونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 214]، سألوا عن بيان ما ينفقون فأجيبوا ببيان المصرف4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي جدير به أن يعطي لا أن يقيد. أصفد: أعطى. وصفد: أوثق.

2 البيتان لحاتم، القرى: إطعام الضيف. ينو: يقصد.

3 سألوا عن السبب في اختلاف القمر في زيادة ضوئه ونقصانه فأجيبوا ببيان الحكمة من ذلك.

4 رواية سبب النزول أنهم سألوا عنه وعن المصرف فلا تكون الآية على هذا من تلقى السائل بغير ما يتطلب.

وسأل رجل بلالًا -وقد أقبل من الحلبة فقال له: من سبق؟ قال: سبق المقربون، قال: إنما أسألك عن الخيل قال: وأنا أجيبك عن الخير- فترك بلال جوابه بلفظه إلى خير هو به أنفع له كما يقول الجاحظ "201/ 2 بيان". واستقبل عامر بن عبد القيس رجل في يوم حلبة فقال: من سبق يا شيخ؟ قال: المقربون "94/ 3 بيان".

ج / 2 ص -96- 5- التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي:

ومنه التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي، تنبيهًا على تحقق وقوعه. وأن ما هو للوقوع كالواقع، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْارْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87]، وقوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْارْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أحَدًا} [الكهف: 47] وقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّار}، وقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَاف} جعل المتوقع الذي لا بد من وقوعه بمنزلة الواقع1.. وعن حسان2 أن ابنه عبد الرحمن لسعه زنبور وهو طفل فجاء إليه يبكي. فقال له: يا بني مالك قال: لسعتي طوير3 كأنه ملتف في بردي حبرة، فضمه إلى صدره، وقال: يا بني قد قلت الشعر4.

ومثل التعبير عنه5 باسم الفاعل كقوله تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِع}، وكذا اسم المفعول كقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وفي السيد على المطول ص375 جعل ذلك من باب الاستعارة. هذا من الخروج على مقتضى الظاهر أيضًا التعبير عن الماضي بلفظ المستقبل إحضارًا للصورة العجيبة كقوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [فاطر: 9] والبابان يحملان على المجاز المرسل وتكون العلاقة ما بين الماضي والمضارع من التضاد، والأولى أن يكونا من مجاز التشبيه وهو أبلغ.

2 راجع القصة في167 من أسرار البلاغة.

3 تصغير طائر -ويستشهد بقول حسان على أن الشعر هو الكلام الذي فيه خيال وتصوير جميل وإن لم يكن موزونًا، وعليه فلا يكون هذا شاهدًا على ما ذكره.

4 والشاهد "قد قلت الشعر" أي ستقول الشعر، أي أدوات الشعر قد تجمعت فيك وستقوله.

5 أي عن المستقبل.

ج / 2 ص -97- النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103]1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 قوله تعالى: {لَوَاقِع} أي يقع. وقوله تعالى: {مَجْمُوْعٌ} أي يجمع.. وهنا بحث وهو أن كلا من اسمي الفاعل والمفعول قد يكون بمعنى الاستقبال وإن لم يكن ذلك بحسب أصل الوضع فيكون كل منهما ههنا واقعًا في موقعه واردًا على حسب مقتضى الظاهر.. والجواب عنه أن كلا منهما حقيقة فيما تحقق فيه وقوع الوصف وقد استعمل ههنا فيما لم يتحقق مجازًا، تنبيهًا على تحقق وقوعه.

6- القلب1:

ومنه القلب2، كقول العرب "عرضت الناقة على الحوض"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 قال سيبويه: قوله "أدخل فوه الحجر" هذا جرى على سعة الكلام، والجيد: أدخل فاه الحجر ص92 جـ1 الكتاب.

والقلب جعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر، والآخر مكانه، على وجه يثبت حكم كل منهما للآخر، والظاهر أنه من الحقيقة وربما يدعي أنه من المجاز العقلي، وهو من مباحث المعاني والبديع باعتبارين. والقلب نوعان: لفظي فقط مثل "قطع الثوب المسمار" تعني أن الثوب مفعول وترفعه والمسمار فاعل وتنصب وكل منهما باق على ما هو له من فاعلية أو مفعولية، ومعنوي ومثاله: "قطع الثوب المسمار" تريد أن الثوب لمبادرته بالتقطيع هو كأنه قطع المسمار، فهذا قلب معنوي.. هذا والقلب اللفظي يتعلق بالنحو لا بالبيان، والظاهر أنه حينئذ ضرورة لا ينبغي حكاية خلاف فيه، وما من محل يدعي فيه ذلك إلا جاز أن يكون القلب فيه معنويًّا. أما القلب المعنوي فينبغي القطع بجوازه ولا شبهة لمنعه، ومن يمنع المجاز مع العلاقة الواضحة إلا من شذ؟. وكلام النحاة جريان قولين فيه: المنع مطلقًا والجواز مطلقًا والقول الثالث جواز المعنوي لا اللفظي.

2 أي من خلاف مقتضى الظاهر القلب.

3 أي مكان "عرضت الحوض على الناقة" أي أظهرته عليها لتشرب، ويرى ابن السكيت أن "عرضت الناقة على الحوض" هو الأصل وأن المقلوب "عرضت الحوض على الناقة" فكأنه لاحظ أن المعروض عليه يكون أمرًا مستقرًّا.

ج / 2 ص -98- ورده مطلقًا1 قوم، وقبله مطلقًا قوم منهم السكاكي2، والحق أنه إن تضمن اعتبارًا لطيفًا قبل وإلا رد.. أما الأول3 فكقول رؤبة:

"ومهمة مغيرة أرجاؤه" كأن لون أرضه سماؤه4

أي كأن لون سمائه لغبرتها لون أرضه فعكس التشبيه للمبالغة، ونحوه قول أبي تمام يصف قلم الممدوح:

لعاب الأفاعي القاتلات لعابه وأرى الجنى اشتارته أيد عواسل5

وأما الثاني6 فكقول القطامي7:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي سواء تضمن اعتبار لطيفًا أم لا. وذلك؛ لأنه عكس المطلوب ونقيض المقصود.

2 لأنه مما يورث الكلام لطافة وملاحة.

3 أي ما تضمن اعتبارًا لطيفًا.

4 المهمة: المفازة. مغبرة: مملوءة بالغبرة. الأرجاء: الأطراف والأرجاء جمع الرجال مقصورًا. وسماؤه أي لون سمائه.

والشاهد المصراع الأخير فإنه من باب القلب. والاعتبار اللطيف هنا المبالغة في وصف لون السماء بالغبرة حتى كأنه صار بحيث يشبه لون الأرض في ذلك مع أن الأرض أصل فيه. هذا ونجد البيت في96 الموازنة و91 المفتاح.

5 الأفاعي: الحيات. أرى الجنى: العسل. اشتار: جنى. أيد عواسل: أي عارفة بجنيه. أي هذا القلم على الأعداء سم زعاف وعلى الأصدقاء شهد شهي. والشاهد في البيت الشطر الأول فهو من القلب، والأصل: لعابه لعاب الأفاعي القاتلات. والاعتبار اللطيف هنا المبالغة يعكس التشبيه.

6 وهو ما لم يتضمن اعتبارًا لطيفًا هو على المذهب الحق مردود غير مقبول.

7 من قصيدة يمدح به زفر بن حارث الكلابي. وروايته "بطنت" بدل طينت. الفدن بالتحريك: القصر. السياع: الطين بالتبن. والمعنى: كما طينت الفدن بالسياع، يقال: طينت السطح والبيت. ولقائل أن يقول أنه يتضمن من المبالغة في وصف الناقة بالسمن ما لا يتضمنه قوله: "كما طينت الفدن بالسباع" لايهامه أن السياع بلغ مبلغًا من العظم والكثرة إلى أن صارت بمنزلة الأصل والفدن بالنسبة إليه كالسياع بالنسبة إلى الفدن.. والحق أنه تكلف محض.

ج / 2 ص -99- "فلما أن جرى سمن عليها" كما طينت بالفدن السباعا

وقول حسان:

"كأن سبيئة من بيت رأس" يكون مزاجها عسل وماء1

وقول عروة بن الورد:

فديت بنفسه نفسي ومالي "وما آلوك إلا ما أطيق"2""

وقول الآخر3:

"قفي قبل التفرق يا ضباعا" ولا يك موقف منك الوداعا

وقد ظهر من هذا أن قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} ليس واردًا على القلب، إذ ليس في تقدير القلب فيه اعتبار لطيف. وكذا قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} وكذا قوله تعالى: {اذْهَبْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 السبيئة: الخمر. بيت رأس: موضع بالشام.. وبعد البيت:

على أنيابها أو طعم غض من التفاح عصره اجتناء

يشبه ريق محبوبته بخمر مزجت بعسل وماء أو بماء تفاح طري في وقت اجتنائه ونضجه. ويروى برفع "مزاج" مبتدأ وما بعده خبر له والجملة خبر يكون واسمها ضمير الشأن. والبيت من قصيدة لحسان.

2 لا آلوك أي لم أقصر فيك.

3 هو القطامي الشاعر: ويقول خداش بن زهير:

فإنك لا تبالي بعد حولي أظبي كان أمك أم حمار

ج / 2 ص -100- بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}1.

فأصل الأول أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا أي إهلاكنا، وأصل الثاني ثم أراد الدنو من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى فتعلق عليه في الهواء، ومعنى الثالث تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه بمسمع منك فانظر ماذا يرجعون فيقال أنه دخل عليها من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 في كتاب "ما اتفق لفظه واختلف معناه" ذكر لآية: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة} وأسلوب القلب فيها حيث سماه "التحويل".. وفي الكامل للمبرد، قال المبرد: والكلام إذالم يدخله لبس جاز القلب للاختصار. هذا وفي 96، 97 من الموازنة كلام على أسلوب القلب خلاصته أن الآمدي:

1 لا يرخص للمتأخر في القلب إنما جاء في كلام العرب على السهو، والمتأخر وإن احتذى بهم على أمثلتهم فلا ينبغي له أن يتبعهم فيما سهوا فيه.

2 ما ورد في القرآن من القلب: مثل: {دَنَا فَتَدَلَّى} وإنما هو تدلى فدنا، ومثل: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة}، وإنما العصبة تنوء بالمفاتيح أي تنهض بثقلها، ومثل: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيد}، أي وإن حبه للخير لشديد، فليس كله بقلب وإنما هو صحيح مستقيم لا قلب فيه، والمعنى أن تدليه كان عند دنوه واقترابه، وأراد الله بما أن مفاتحه لتنوء بالعصبة أي تميلها من ثقلها، وقوله: إنه لحب الخير لشديد: أي إنه لحب المال لشديد أي بخيل، وكأن

الآمدي ينفي عن تلك المثل القلب بمعنى أنها لا غلط فيها وأنها على تشبيهها بالأصل المقلوبة عنه، لا أنها لا قلب فيها مطلقًا.

3 ما ورد في الشعر من القلب قسمان:

سائغ مقبول مثل "كأن لون أرضه سماؤه" وقبيح غير حسن لا يجوز في الشعر ولا في القرآن. وهو ما جاء في كلامهم على سبيل الغلط مثل "كما كان الزنا فريضة الرجم"، و"تشقى الرماح بالضياطرة الحمر".

4 المبرد أيضًا يقصر استعمال أسلوب القلب على المتقدمين دون المتأخرين ولكنه يجعل فائدة القلب الاختصار.

5 يرى الآمدي أنه قد يكون لإصلاح الوزن أو للضرورة أو للسهو.

ج / 2 ص -101- كوة فألقى الكتاب إليها وتوارى في الكوة1.. وأما قول خداش:

"وتركب خيلا لا هوادة بينها" وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر2

فقد ذكر له سوى القلب وجهان:

أحدهما: أن يجعل شقاء الرماح بهم استعارة عن كسرها بطعنهم بها.

والثاني: أن يجعل نفس طعنهم شقاء لها تحقيرًا لشأنهم وأنهم ليسوا أهلا؛ لأن يطعنوا بهاكما يقال شقى الخز بجسم فلان إذا لم يكن أهلًا للبسه. وقيل في قول قطري بن الفجاءة:

ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب جذع البصيرة قارح الأقدام3

أنه من باب القلب، على أن لم أصب بمعنى لم أجرح، أي قارح

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 حمل السكاكي كل هذه الآيات على القلب ص91 المفتاح.

2 الضياطرة جمع ضيطر وهو العظيم أو الضخم اللئيم العظيم الأست، الحمر جمع أحمر اللون وقيل هو الذي لا سلاح معه.. هذا والشاهد في الشطر الثاني وكأن أصل الكلام: وتشقى الضياطرة الحمر بالرماح. وعلى أنه لا قلب فيه يكون قوله "وتشقى" استعارة جعل كسر الرماح في حربهم شقاء لها، أو يكون جعل نفس الطعن شقاء لها وتحقيرا لشأنهم وإنهم ليسوا أهلًا لأن يطعنوا بها. وقال السكاكي:

في البيت قلب أراد تشقى الضياطرة بالرماح، ولك ألا تحمله على القلب بواسطة استعارة الشقاء لكسرها بالطعان.

3 راجع البيت في صفحة119 من أسرار البلاغة.. وجملة "وقد أصبت ولم أصب" اعتراضية أي جرحت ولم أجرح. "وأصبت" بالبناء للفاعل. "وأصب" بالبناء للمفعول. وفلان جذع أي حديث السن، وقارح أي كبيرة، وجذع البصيرة أي غير مجرب للأمور، وقارح الأقدام أي له أقدام أهل العقول والسن القديم. وهذا عكس المراد؛ لأن المقصود وصفه بأنه قارح البصيرة أي مجرب قتل الأمور علما وأنه جذع الأقدام أي شجاع قوي شديد. فالأصل أن يقول: ثم انصرفت قارح البصيرة جذع الأقدام، ولكنه قلب فأوهم خلاف المراد.

ج / 2 ص -102- البصرة جذع الأقدام، كما يقال "أقدام غر ورأي مجرب" وأجيب عنه بأن لم أصب بمعنى لم ألف أي لم ألف بهذه الصفة بل وجدت بخلافها جذع الأقدام قارح البصيرة على أن قوله: "جذع البصيرة قارح الأقدام" حال من الضمير المستتر في لم أصب فيكون متعلقًا بأقرب مذكور، ويؤيد هذا الوجه1 قوله قبله:

لا يركنن أحد إلى الإحجام يوم الوغى متخوفًا لحمام

فلقد أراني للرماح دريئة من عن يميني مرة وأمامي

حتى خضبت بما تحدر من دمي أكناف سرجي أو عنان لجامي

فإن الخضاب بما تحدر من دمه دليل على أنه جرح، وأيضًا فحوى كلامه أن مراده أن يدل على أنه جرح ولم يمت، إعلامًا أن الأقدام غير علة الحمام، وحثًّا على الشجاعة وبغض الفرار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وهو أن "لم أصب" بمعنى "لم ألف".

الإيضاح في علوم البلاغة

ج / 2 ص -103- القول في أحوال المسند:

حذف المسند:

أما تركه1: فلنحو ما سبق في باب المسند إليه من تخييل العدول إلى أقوى الدليلين، ومن اختبار تنبه السامع عند قيام القرينة، أو مقدار تنبه، ومن الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر.

1- أما مع ضيق المقام كقوله:

"ومن يك أمسى بالمدينة رحله" فإني وقيار بها لغريب2

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 عبر هنا بالترك وفي المسند إليه بالحذف إشعارًا بأن المسند إليه ركن لا يستغني عنه في الكلام والاحتياج إليه دون الاحتياج إلى المسند بخلاف المسند فإنه ليس بهذه المثابة في الاحتياج ويجوز أن يترك ولا يؤتي به لغرض.

2 البيت لضابئ بن الحارث البرجمي، ومع أبيات في الكامل للمبرد "188: 1" وروايته "وقيارا"، وتجده في 38 جـ1 من الكتاب لسيبويه.. الرحل: المنزل. قيار: اسم فرس أو جمل للشاعر. ولفظ البيت خبر ومعناه التحسر والتوجع. فالمسند إلى "قيار" محذوف لقصد الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر مع ضيق المقام بسبب التوجع والمحافظة على الوزن ولا يجوز أن يكون "قيار" عطفًا على محل اسم أن و"غريب" خبر عنهما، لامتناع العطف على محل اسم إن قبل مضى الخبر لفظًا أو تقديرًا، وذلك لما يلزم عليه من توجه العاملين -المبتدأ، وأن- إلى معمول واحد هو الخبر. وأما إذا قدرنا "لقيار" خبًار محذوفًا فيجوز أن يكون هو عطفًا على محل اسم أن؛ لأن الخبر مقدم تقديرًا فلا يكون مثل "إن زيدًا وعمرًا ذاهبان" بل مثل "إن زيدًا وعمرو لذاهب" وهو جائز. ويجوز أن يكون مبتدأ والمحذوف خبره والجملة بأسرها عطف على جملة أن مع اسمها وخبرها.

ج / 2 ص -104- أي وقيار كذلك، وكقوله1:

نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف

أي نحن بما عندنا راضون2.. وكقول أبي الطيب:

قالت وقد رأى إصفراري من به؟ وتنهدت، فأجبتها: المتنهد

أي المتنهد هو المطالب3 به، دون المطالب به هو المتنهد، إن فسر بمن المطالب به؛ لأن مطلوب السائلة على هذا الحكم على شخص معين بأنه المطالب به ليتعين عندها، لا الحكم على المطالب به بالتعيين، وقيل معناه "من فعل به"، فيكون التقدير: فعل به المتنهد.

2- وأما بدون الضيق، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أحَقُّ أن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] على وجه، أي والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، ويجوز أن يكون جملة واحدة، وتوحيد الضمير؛ لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله، فكانا في حكم مرضي واحد، كقولنا: إحسان زيد وإجماله تعشني وجبر مني، وكقولك "زيد منطلق وعمرو"، أي عمرو كذلك4، وعليه قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إن ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]، أي واللائي لم يحضن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 هو لقيس بن الخطيم أو عمرو بن امرئ القيس الأنصاري الخزرجي، ونسبه الجاحظ لعمرو، وهو جد عبد الله بن رواحة، وكان شاعرًا فحلًا من حكام العرب وقضاتهم، وهو يخاطب بهذا البيت مالك بن العجلان حين رد قضاءه في واقعة من وقائع الأوس والخزرج. وقبله:

يا مال والسيد المعمم قد يبطره بعد رأيه السرف

2 نحن مبتدأ محذوف الخبر لما ذكرنا أي نحن بما عندنا راضون فالمحذوف ههنا هو خبر الأول بقرينة الثاني وفي البيت السابق بالعكس.

3 فيكون من حذف المسند لا من حذف المسند إليه.

4 فيكون من حذف المسند للاحتراز عن العبث من غير ضيق المقام.

ج / 2 ص -105- مثلهن، وقولك: خرجت فإذا زيد1. وقولك لمن قال هل لك أحد، إن الناس ألب عليك: إن زيدًا وإن عمرًا، أي إن لي زيدًا وإن لي عمرًا، وعليه قوله2: إن محلًّا وإن مرتحلًا. أي إن لنا محلًّا في الدنيا وإن لنا مرتحلًا عنها إلى الاخرة. وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ أنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} [الإسراء: 100] تقديره لو تملكون تملكون مكررًا لفائدة التوكيد، فأضمر "تملك" الأول إضمارًا على شريطة التفسير، وأبدل من الضمير المتصل الذي هو الواو ضمير منفصل وهو أنتم لسقوط ما يتصل به من اللفظ، فأنتم فاعل الفعل المضمر وتملكون تفسيره3 قال الزمخشري: هذا ما يقتضيه علم الأعراب، فأما ما يقتضيه علم البيان فهو أن "أنتم تملكون" فيه دلالة على الاختصاص، وأن الناس هم المختصون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي موجود أو حاضر أو واقف أو بالباب أو ما أشبه ذلك، فحذف للاحتراز عن العبث من غير ضيق المقام مع اتباع الاستعمال؛ لأن إذا المفاجأة تدل على مطلق الوجود، وقد ينضم إليها قرائن تدل على نوع خصوصية كلفظ الخروج المشعر بأن المراد فإذا زيد بالباب أو حاضر أو نحو ذلك. والفاء قيل أنها للسببية المجردة عن العطف وقيل أنها للعطف على المعنى، وأما إذا فظرف زمان وقيل ظرف مكان وقيل حرف دال على المفاجأة.

2 أي قول الأعشى وبيته:

إن محلا وإن مرتحلا وإن في السفر إذ مضوا مهلًا

وهو في صفحة247 دلائل الإعجاز، وراجع نقد ابن عبد ربه للبيت في العقد الفريد ص14 جـ4.. والشاهد في البيت حذف المسند الذي هو ظرف قطعًا لقصد الاختصار والعدول إلى أقوى الدليلين أعني العقل ولضيق المقام أعني المحافظة على الشعر ولاتباع الاستعمال لاطراد الحذف في مثل "إن مالًا وإن ولدًا" وقد وضع سيبويه في كتابه لهذا بابًا فقال "هذا باب إن مالا وإن ولدًا".

3 فقوله: أنتم ليس بمبتدأ؛ لأن لو أنما تدخل على الفعل بل هو فاعل فعل محذوف، والأصل "لو تملكون" فحذف الفعل الأول احترازًا عن العبث لوجود المفسر ثم عوض من الضمير المتصل ضمير منفصل على القاعدة عند حذف الفاعل. فالمسند المحذوف ههنا فعل وفيما سبق اسم أو جملة.

ج / 2 ص -106- بالشح المتبالغ. ونحوه قول حاتم "لو ذات سوار لطمتني"، وقول المتلمس:

ولو غير إخواني أرادوا نقيصتي "جعلت لهم فوق العرانين ميسمًا1"

وذلك؛ لأن الفعل لما سقط لأجل المفسر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر، وكقوله تعالى: {أفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرآاهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]، أي كمن لم يزين له سوء عمله، المعنى أفمن زين له سوء عمله من الفريقين اللذين تقدم ذكرهما -الذين كفروا والذين آمنوا- كمن لم يزين له سوء عمله؟ ثم كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قيل له ذلك قال: لا، فقيل: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات}، وقيل المعنى: أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرات؟ فحذف الجواب لدلالة: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات} أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله؟ فحذف لدلالة: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. وأما قوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أنْفُسُكُمْ أمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}، [يوسف: 18]، وقوله تعالى: {سورة أنزلناها}، وقوله: {وأاقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمَانِهِمْ لَئِنْ أمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور: 53] فكل منها يحتمل الأمرين: حذف المسند إليه وحذف المسند، أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أجمل، وهذه سورة أنزلناها أو فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها، وأمركم أو الذي يطلب منك طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا يرتاب كطاعة الخلص من المؤمنين، الذين طابق باطن أمرهم ظاهره، لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها، أو طاعتكم طاعة معروفة أي بأنها بالقول دون الفعل. أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 العرانين جمع عرنين وهو الأنف كله أو ما صلب منه. الميسم: العلامة.

ج / 2 ص -107- ومما يحتمل الوجهين1 قوله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ}، قيل التقدير "ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة"، ورد بأنه تقرير لثبوت آلهة؛ لأن النفي إنما يكون للمعنى المستفاد من الخبر دون معنى المبتدأ، كما تقول: ليس أمراؤنا ثلاثة فإنك تنفي به أن تكون عدة الأمراء ثلاثة دون أن تكون لكم أمراء، وذلك إشراك، مع أن قوله تعالى بعده: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِد} يناقضه، والوجه أن "ثلاثة" صفة مبتدأ محذوف، أو يكون مبتدأ محذوفًا مميزه، لا خبر مبتدأ، والتقدير: ولا تقولوا لنا أو في الوجود آلهة ثلاثة أو ثلاثة آلهة، ثم حذف الخبر كما حذف الخبر من: {لَا إِلَهَ إَلَّا الْلَّهُ} {وَمَا مِنْ إَلَهٍ إَلَّا اللهُ}، ثم حذف الموصوف أو المميز كما يحذفان في غير هذا الموضع، فيكون النهي عن إثبات الوجود لآلهة، وهذا ليس فيه تقرير لثبوت إلهين مع أن ما بعده أعني قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِد} ينفي ذلك، فيحصل: النهي عن الاشراك، والتوحيد من غير تناقض، ولهذا يصح أن يتبع نفي الاثنين فيقال: ولا تقولوا لنا: آلهة ولا إلهان؛ لأنه كقولنا "ليس لنا آلهة ثلاثة ولا الهان"، وهذا صحيح. ولا يصلح أن يقال على التقدير الأول ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ولا اثنان؛ لأنه كقولنا: ليست آلهتنا ثلاثة ولا اثنين وهذا فاسد، ويجوز أن يقدر ولا تقولوا الله المسيح وأمه2 ثلاثة: أي لا تعبدوهما كما تعبدونه لقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إن اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73]، فيكون المعنى: ثلاثة مستوون في الصفة والرتبة، فإنه قد استقر في العرف أنه إذا أريد الحاق اثنين بواحد في وصف وأنهما شبيهان له أن يقال "هم ثلاثة"، كما يقال إذا أريد الحاق واحد بآخر وجعله في معناه "هما اثنان".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 راجع ص290-294 من دلائل الإعجاز.

2 وعلى هذا يكون من حذف المسند إليه. والمعنى صحيح بخلاف الوجه الأول.

ج / 2 ص -108- واعلم أن الحذف لا بد له من قرينة كوقوع الكلام جوابًا عن سؤال:

1- أما محقق: كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 63].

2- وأما مقدار نحو:

لبيك يزيد ضارع لخصومه "ومختبط مما تطيح الطوائح1"

وقراءة من قرأ "يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ،2 رِجَالٌ"، وقوله: {كَذَلِكَ يُوحِي إلَيْكَ وإالَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 3]، ببناء الفعل للمفعول. وفضل هذا التركيب على خلافه، أعني لبيك يزيد ضارع، ببناء3 الفعل للفاعل ونصب يزيد من وجوه: أحدها أن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 البيت لنهشل بن حرى بن ضمرة ويروى للبيد، ونسبه الزمخشري لمزرد أخي الشماخ وفي ابن السبكي أنه لمرة بن عمرو النهشلي في يزيد بن نهشل، وقيل للحارث بن ضرار النهشلي، وفي ابن يعقوب لضرار بن نهشل في أخيه يزيد. هذا ونهشل بن حرى شاعر إسلامي. وفي الكتاب لسيبويه أن البيت للحارث بن نهيك.. ويزيد هو يزيد بن نهشل. الضارع: الذليل. المختبط: الذي يأتي إليك للمعروف من غير وسيلة. الإطاحة: الإذهاب والإهلاك، الطوائح: جمع مطيحة على غير قياس وجمعها القياسي مطاوح أو مطيحات.. هذا "ولبيك" بالبناء للمفعول كأنه قيل "من يبكيه؟" فقال: يبكيه "ضارع" ثم حذف الفعل وهو المسند. فهنا حذف المسند بقرينة وقوعه في جواب سؤال مقدر. ومعنى البيت: ليبكه ذليل في الخصومة؛ لأنه كان ملجأ للأذلاء وعونًا للضعفاء وليبكه طالب للمعروف من أجل أذهاب الأحداث لما له ونشبه؛ لأنه كان عون الفقراء والمحتاجين.

2 والآية شاهد في باب الفصل أيضًا.

3 هذا تفسير لقوله "خلافه".

ج / 2 ص -109- هذا التركيب1 يفيد إسناد الفعل إلى الفاعل مرتين إجمالًا ثم تفصيلًا2، والثاني أن نحو "زيد" فيه ركن الجملة3 لا فضلة، الثالث أن أوله غير مطمع للسامع في ذكر الفاعل، فيكون عند ورود ذكره كمن تيسرت له غنيمة من حيث لا يحتسب، وخلافه بخلاف ذلك.

ومن ذلك الباب، أعني الحذف الذي قرينته وقوع الكلام جوابًا عن سؤال مقدر: قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِن} على وجه، فإن "لله شركاء" إن جعلا مفعولين لجعلوا، فالجن يحتمل وجهين: أحدهما: ما ذكره الشيخ4 عبد القاهر، من أن يكون منصوبًا بمحذوف دل عليه سؤال مقدر، كأنه قيل من جعلوا لله شركاء؟ فقيل الجن، فيفيد الكلام إنكار الشرك مطلقًا فيدخل اتخاذ الشريك من غير الجن في الإنكار، دخول اتخاذه من الجن، والثاني: ما ذكره الزمخشري، وهو أن ينتصب "الجن" بدلًا من شركاء فيفيد إنكار الشريك مطلقًا أيضًا كما مر، وإن جعل لله "لغوا" كان "شركاء الجن" مفعولين قدم ثانيهما على الأول، وفائدة التقديم استعظام أن يتخذ "لله" شريك: ملكًا كان أو جنيا أو غيرهما ولذلك قدم اسم "الله" على الشركاء، ولو لم يبين الكلام على التقديم وقيل: "وجعلوا الجن شركاء لله، لم يفد إلا إنكار جعل الجن شركاء، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وهو قولنا "لبيك يزيد ضارع" ببناء الفعل للمفعول.

2 أما التفصيل فظاهر، وأما الإجمال؛ فلأنه لما قيل "لبيك" علم أن هناك باكيًا يسند إليه هذا البكاء؛ لأن المسند إلى المفعول لابد له من فاعل محذوف أقيم المفعول مقامه ولا شك أن المكرر أوكد وأقوى وأن الإجمال ثم التفصيل أوقع في النفس.

3 لكونه المسند إليه لا مفعولًا.

5 راجع 222 من الدلائل، ص99 من المفتاح.

ج / 2 ص -110- ومنه ارتفاع المخصوص في باب نعم وبئس على أحد القولين1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي ومن حذف المسند بقرينة وقوع الكلام جوابًا عن السؤال المقدر ارتفاع المخصوص في باب نعم وبئس مثل "نعم رجلًا زيد"، و"بئس رجلًا عمرو"، على أحد القولين في ذلك، وهو أن يكون المخصوص مبتدأ محذوف الخبر فيكون السؤال المقدر "من هو الممدوح؟" فقيل" زيد" أي "زيد الممدوح".

ذكر المسند:

وأما ذكره: فإما لنحو ما مر في باب المسند إليه: من زيادة التقرير، والتعريض بغباوة السامع، والاستلذاذ، والتعظيم، والإهانة، وبسط الكلام1 وإما ليتعين كونه: اسمًا فيستفاد منه الثبوت2، أو كونه فعلًا فيستفاد منه التجدد3، أو كونه ظرفًا فيورث احتمال الثبوت والتجدد، وإما لنحو ذلك.

قال السكاكي: وإما للتعجب من المسند إليه بذكره، كما إذا قلت زيد يقاوم الأسد مع دلالة قرائن الأحوال، وفيه نظر4: لحصول التعجب بدون الذكر إذا قامت القرينة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ومن كون الذكر هو الأصل ولا مقتضى للحذف مثل زيد قائم، ومن الاحتياط لضعف التعويل على القرينة مثل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيم}، والتعريض بغباوة السامع مثاله "محمد نبينا" في جواب من قال: من نبيكم.

2 أي حصول المسند للمسند إليه من غير دلالة على تقييده بالزمان، ويفيد مع الثبوت الدوام بالقرينة، أو من حيث العدول عن الفعل إليه.

3 أي تجدد الحدث أي وجوده بعد أن لم يكن. وإفادة الفعل ذلك بالوضع لتضمنه الزمان الموصوف بالتجدد وعدم الاستقرار. ويفيد مع التجدد الحدوث أي حدوثه شيئًا بعد شيء على وجه الاستمرار.

4 أي في كلام السكاكي -من إفادة ذكر المسند للتعجب- نظر واعتراض، ورد صاحب المطول على هذا النظر بأن حصول التعجب بدون الذكر ممنوع؛ لأن القرينة تدل على نفس المسند. وأما تعجيب المتكلم للسامع فبالذكر المستغني عنه في الظاهر.

ج / 2 ص -111- إفراد المسند1:

وأما إفراده: فلكونه غير سببي2 مع عدم إفادة تقوي3 الحكم، كقولك: زيد منطلق، وقام عمرو. والمراد بالسبببي نحو "زيد أبوه منطلق". قال السكاكي: وأما الحال المقتضية لإفراده فهي إذا كان فعليًّا ولم يكن المقصود من نفس التركيب تقوي الحكم، وأعني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي جعل المسند غير جملة.

2 السبببي هنا جملة أخبر بها عن مبتدأ بعائد ليس مسندا له في تلك الجملة والسببي نسبة إلى السبب الذي هو الضمير الذي يقع الربط به.

3 إذ لو كان سببيًّا نحو "زيد قام أبوه" أو مفيدًا للتقوي نحو "زيد قام" فهو جملة قطعًا. وأما نحو "زيد قائم" فليس بمفيد للتقوي بل هو قريب من "زيد قام" في ذلك، وقوله مع عدم إفادة التقوي معناه مع عدم إفادة نفس التركيب تقوي الحكم فيخرج ما يفيد التقوي بحسب التكرير نحو "عرفت عرفت" أو بحرف التأكيد نحو "إن زيدًا عارف"، أو نقول: أن تقوي الحكم في الاصطلاح هو تأكيده بالطريق المخصوج / 2 ص -وهو تكرير الإسناد مع وحدة المسند إليه- مثل زيد قام.. فإن قيل: المسند قد يكون غير سببي ولا مفيد للتقوي ومع هذا لا يكون مفردًا كقولنا "أنا سعيت في حاجتك" و"رجل جاءني" و"ما أنا فعلت"، هذا عند قصد التخصيص. قلت: سلمنا أن ليس القصد في هذه الصور إلى التقوي لكن لا نسلم أنها لا تفيد التقوي ضرورة حصول تكرار الإسناد الموجب للتقوي، ولو سلم فالمراد أن إفراد المسند يكون لأجل هذا المعنى ولا يلزم منه تحقق الإفراد في جميع صور تحقق هذا المعنى. ثم السببي والفعلي من اصطلاحات صاحب المفتاح حيث سمي في قسم النحو الوصف بحال الشيء نحو "رجل كريم" وصفا فعليا، والوصف بحال ما هو من سببه نحو "رجل كريم أبوه"، وصفًا سببيًّا، وسمي في علم المعاني المسند في نحو "زيد قام أبوه" مسندًا سببيًّا، وفسرهما بما لا يخلو من صعوبة وانغلاق فلهذا اكتفى المصنف في بيان المسند السببي بالمثال. وهذا الاصطلاح غير موجود لأحد قبل السكاكي.. والمسند السببي عند السكاكي أربعة أقسام: جملة اسمية خبرها فعل مثل "زيد أبوه ينطلق"، أو اسم فاعل مثل "زيد أبوه منطلق"، أو اسم جامد مثل "زيد أخوه عمرو" أو جملة فعلية الفاعل فيها مظهر مثل "زيد انطلق أبوه".

ج / 2 ص -112- بالمسند الفعلي ما يكون مفهومه محكومًا به بالثبوت للمسند إليه أو بالانتفاء عنه كقولك: أبو زيد منطلق، والكر من البر بستين1، وضرب أخو عمرو. ويشكرك بكر أن تعطه، وفي الدار خالد، إذ تقديره استقر أو حصل في الدار على أقوى الاحتمالين2، لتمام الصلة بالظرف كقولك: الذي في الدار3 أخوك... وفيه نظر من وجهين.

أحدهما: أن ما ذكره في تفسير المسند الفعلي يجب أن يكون تفسيرًا للمسند مطلقًا4، والظاهر أنه إنما قصد به الاحتراز عن المسند السببي، إذ فسر المسند السببي بعد هذا بما يقابل تفسير المسند الفعلي، ومثله بقولنا "زيد أبوه منطلق"، أو "انطلق"، "والبر الكر منه بستين"، فجعل كما ترى أمثلة السببي مقابلة لأمثلة الفعلي مع الاشتراك في أصل المعنى.

والثاني: أن الظرف الواقع خبرًا إذ كان مقدرًا بجملة كما اختاره كان قولنا: "الكر من البر بستين"، تقديره الكر من البر استقر بستين فيكون المسند جملة ويحصل تقوي الحكم كما مر، وكذا إذا كان "في الدار خالد" تقديره "استقر في الدار خالد" كان المسند جملة أيضًا، لكون استقر مسندًا إلى ضمير خالد لا إلى خالد5 على الأصح لعدم اعتماد الظرف على شيء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 الكر بضم الكاف: مكيال قيل أنه أربعون أردبا.

2 وهو تقدير المتعلق فعلًا لا اسمًا.

3 فإن تقديره الذي استقر أو حصل في الدار أخوك ولا يصح تقدير "حاصل" أو "مستقر"؛ لأن الصلة لا تتم به.

4 لأن كل مسند فهو محكوم بالثبوت للمسند إليه أو بالانتفاء عنه ضرورة أن الاسناد حكم بثبوت الشيء للشيء أو بنفيه عنه.

5 أجيب عن هذا بأن المثال الأول مبني على أن الظرف مقدر باسم الفاعل لا بالفعل، والثاني مبني على مذهب الأخفش والكوفيين حيث لم يشترطوا في عمل الظرف الاعتماد على شيء، فيكون "خالد" فاعلًا واستقر فارغ من الضمير وهو المسند العامل في خالد.

ج / 2 ص -113- فعلية المسند واسميته:

وأما كونه فعلاً فللتقييد بأحد الأزمنة الثلاثة1 على أخصر ما يمكن مع إفادة التجدد2.

وأما كونه اسمًا: فلإفادة عدم التقييد والتجدد3. ومن البين فيهما قول الشاعر4:

لا يألف الدرهم المضروب صرتنا لكن يمر عليها وهو منطلق

وقوله5:

أو كلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إلى عريفهم يتوسم

إذا معنى الأول على انطلاق ثابت للدرهم مطلقًا من غير اعتبار تجدده وحدوثه، ومعنى الثاني على توسم وتأمل ونظر يتجدد من العريف هناك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 الماضي والحال والمستقبل.

2 للتجدد معنيان: أحدهما الحصول بعد أن لم يكن، والثاني الحصول شيئًا فشيئًا على وجه الاستمرار. والمعتبر في مفهوم الفعل التجدد بالمعنى الأول واللازم للزمان التجدد بالمعنى الثاني.

3 أي لإفادة الثبوت والدوام لأغراض تتعلق بذلك.

4 هو جؤبة بن النضر، والبيت في الدلائل ص134، والصرة ما يجمع فيه الدراهم.

5 هو طريف بن تميم أحد بني عمرو بن جندب، والبيت في الدلائل ص135، وعكاظ: سوق مشهورة للعرب. عريف القوم: القيم بأمرهم الذي شهر وعرف بذلك. يتوسم: أي يصدر عنه تفرس الوجوه وتأملها شيئًا فشيئًا.

ج / 2 ص -114- تقييد الفعل وعدمه:

وأما تقييد الفعل1 بمفعول2 ونحوه:

فلتربية الفائدة3: كقولك: ضربت ضربًا شديدًا، وضربت زيدًا، وضربت يوم الجمعة، وضربت أمامك، وضربت تأديبًا، وضربت بالسوط، وجلست والسارية، وجاء زيد راكبًا، وطاب زيد نفسًا، وما ضرب إلا زيد، وما ضربت إلا زيدًا.

والمقيد في نحو: كان زيد قائمًا هو قائمًا لا كان4:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي وما أشبهه من اسم الفاعل والمفعول وغيرهما.

2 أي مطلق أو به أو فيه أو له أو معه. ونحوه الحال والتمييز والاستثناء.

3 لأن الحكم كلما زاد خصوصًا زاد غربة وكلما زاد غرابة زاد إفادة.

4 لأن "قائمًا" هو نفس المسند وكان قيد له للدلالة على زمان النسبة.

هذا والكلام إما جملة اسمية وإما جملة فعلية: فالجملة الإسمية تفيد بأصل وضعها الثبوت أي حصول المسند للمسند إليه من غير دلالة على تقييده بالزمان، وقد تفيد الدوام بالقرينة، ومن حيث العدول عن الفعل إليها. فالقرينة كما في مقام المدح أو الذم أو ما أشبه ذلك مما يناسبه الدوام والثبوت، فالاسم كعالم يدل على ثبوت العلم للذي يدل به عليه وليس فيه تعرض لحدوثه أصلًا سواء كان على سبيل التجدد والتقضي أو لا، وأما الدوام فإنما يستفاد من مقام المدح والمبالغة لا من جوهر اللفظ. والجملة الفعلية تفيد الحدوث -أي حدوثه شيئًا بعد شيء على وجه الاستمرار- والتجدد - أي تجدد الحدوث وعدم الاستقرار.

هذا ودلالة الفعل على الاستمرار التجددي بالقرائن مثل قول المتنبي:

تدير شرق الأرض والغرب كفه وليس لها يومًا عن المجد شاغل

فإن المدح قرينة دالة على أن التدبير أمر مستمر متجدد آنا بعد آن والجملة هي ما تركب من مسند "محكوم به" ومسند إليه "محكوم عليه"، أو ما كانت مستقلة بالفهم. ولها ركنان: محكوم عليه ومحكوم به ويسمى الأول مسندًا إليه والثاني مسندًا، فالمسند إليه هو الفاعل ونائبه والمبتدأ الذي له خبر وما أصله المبتدأ كاسم كان وأخواتها، ومواضع المسند هي الفعل التام والمبتدأ المكتفي بمرفوعه وخبر المبتدأ وما أصله خبر المبتدأ كخبر كان وأخواتها، واسم الفعل والمصدر النائب عن الفعل الأمر. وما زاد على المسند إليه والمسند فهو قسمان.

ج / 2 ص -115- وأما ترك تقييده: فلمانع من تربية الفائدة1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 قيود وهي معمولات المسند كالمفعول ونحوه من المتعلقات كالحال والتمييز والاستثناء، وفعل الشرط كذلك مقيد للجواب، وكذلك الأفعال الناقصة "ككان وأخواتها" قيود للأخبار أو الوصف.

2 مخصصات وهي الإضافة والوصف والصلة إلخ حيث قالوا: "وأما تخصيص المسند بالإضافة" وقالوا: "وأما تقييده بمفعول ونحوه".

قال السعد: وهذا -أي جعل معمولات المسند كالحال ونحوه من المتعلقات، والإضافة والوصف من المخصصات- مجرد اصطلاح. وقيل؛ لأن التخصيص عبارة عن نقص الشيوع أي العموم، ولا شيوع للفعل؛ لأنه إنما يدل على مجرد المفهوم -أي على الماهية والحدث، والمطلق لا يكون فيه تخصيص بل تقييد- والحال تقيده، والوصف يجيء في الاسم الذي فيه الشيوع فيخصصه.

فالخلاصة أن القيود هي أدوات الشرط والنفي والمفاعيل والحال والتمييز والتوابع والنواسخ.. هذا وتنقسم الجملة عند علماء المعاني إلى:

1- جملة رئيسية وهي المستقلة التي لم تكن قيدًا في غيرها.

2- جملة غير رئيسية وهي ما كانت قيدًا في غيرها وليست مستقلة بنفسها.

1 مثل خوف انقضاء الفرصة، أو إرادة أن لا يطلع الحاضرون على زمان الفعل أو مكانه أو مفعوله، أو عدم العلم بالمقيدات، أو نحو ذلك.

ج / 2 ص -116- تقييد الفعل بالشرط:

وأما تقييده بالشرط1: فلاعتبارات2 لا تعرفه إلا بمعرفة ما بين أدواته من التفصيل وقد بين ذلك في علم النحو، ولكن لا بد من النظر ههنا في "أن" و"إذا" و"لو".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 راجع 104 من المفتاح. والشرط يطلق على فعل الشرط وعلى الأداة وعلى التعليق - راجع شروح التلخيص في باب الإنشاء عند قوله وهذه الأربعة يجوز تقدير الشرط بعدها"، والمراد هنا بالشرط جملة الشرط. والمراد بالفعل الفعل الواقع مسندًا في جملة الجزاء.

2 وتلك الاعتبارات هي تعليق حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى: في الماضي كلو، أو في الاستقبال أما مع الجزم كما في إذا، أو مع الشك كما في أن، أو في جميع الزمان كما في مهما، أو المكان كما في أين.

والشرط في عرف أهل العربية قيد لحكم الجزاء مثل المفعول ونحوه فقولك: "إن جئتني أكرمك" بمنزلة قولك أكرمك وقت مجيئك إياي، ولا يخرج الكلام الخبري سواء كان الجزاء في الأصل خبرًا أو إنشاء -هو مجموع خبرًا فالجملة الشرطية خبرية نحو إن جئتني أكرمك، وإن كان إنشائيا فإنشائية نحو إن جاءك زيد فأكرمه، وأما نفس الشرط فقد أخرجته الأداة عن الخبرية واحتمال الصدق والكذب. وما يقال من أن كلا من الشرط والجزاء خارج عن الخبرية واحتمال الصدق والكذب وإنما الخرز -أي للكلام الخبري سواء كان الجزاء في الأصل خبرًا أو إنشاء- هو مجموع الشرط والجزاء المحكوم فيه بلزوم الثاني للأول فإنما هو اعتبار المنطقيين، فمفهوم قولنا كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود باعتبار أهل العربية الحكم بوجود النهار في كل وقت من أوقات طلوع الشمس فالمحكوم عليه هو النهار والمحكوم به هو موجود.

وباعتبار النقطتين بلزوم وجود النهار لطلوع الشمس، فالمحكوم عليه طلوع الشمس والمحكوم به وجود النهار.. وينقل السيد هذا الرأي موفقًا بين رأيي أهل العربية والمنطقيين-راجع ص152 شرح السيد على المطول.

ج / 2 ص -117- أن وإذا الشرطيتان:

أما: أن، وإذا، فهما للشرط في الاستقبال1 لكنهما يفترقان في شيء، وهو أن الأصل في أن ألا يكون الشرط فيها مقطوعًا بوقوعه2 كما تقول لصاحبك: "إن تكرمني أكرمك"، وأنت لا تقطع بأنه يكرمك، والأصل في إذا أن يكون الشرط فيها مقطوعًا بوقوعه3، كما تقول إذا زالت الشمس آتيك، ولذلك كان الحكم النادر موقعًا؛ لأن النادر غير مقطوع به في غالب الأمر، وغلب لفظ الماضي مع إذا لكونه أقرب إلى القطع بالوقوع نظرًا إلى اللفظ قال الله تعالى: {فَإذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131]، أتى في جانب الحسنة بلفظ إذا؛ لأن المراد بالحسنة الحسنة المطلقة التي حصولها مقطوع به، ولذلك عرفت تعريف الجنس4، وجوز السكاكي أن يكون تعريفها للعهد5، وقال: وهذا أقضى لحق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي أن فعل الشرط فيهما لا بد أن يكون مستقبل المعنى سواء كان ماضي اللفظ أو مضارعه. ويلزم من حصول مضمون الشرط في الاستقبال حصول مضمون الجزاء فيه.

2 أي بوقوعه في الاستقبال، وعدم القطع -أي عدم الجزم- يشمل الشك في الوقوع وتوهم الوقوع.. ولذلك لا تقع أن في كلام الله تعالى على الأصل إلا حكاية أو على ضرب من التأويل. هذا وسائر أدوات الشرط كان في حكمها المذكور. ويقول عبد القاهر "يجاء بأن فيما يترجح بين أن يكون وألا يكون، وبإذا فيما علم أنه كائن "64 من الدلائل".

3 أي بالجزم بوقوعه وكذلك يظن وقوعه فإن وإذا يشتركان في الاستقبال بخلاف لو. ويفترقان بالجزم بالوقوع وعدم الجزم به. كما يشتركان أيضًا في عدم الدخول على المستحيل وهو المجزوم بعدم وقوعه إلا لنكته، فيشترط في مدخولهما أن يكون غير مجزوم بعدم وقوعه، فالضابط أن الراجح الوقوع موقع لاذا والمتساوي الطرفين وموقع لأن، وأما الذي رجح عدم وقوعه فليس موقعًا لشيء منهما إلا بتأويل.

4 أي الحقيقة في ضمن فرد غير معين فأل في الحسنة للعهد الذهني.

5 أي أن يكون للجنس - راجع 105 من المفتاح.

ج / 2 ص -118- البلاغة، وفيه نظر1، وأتى في جاذب السيئة بلفظ أن؛ لأن السيئة نادرة بالنسبة إلى الحسنة المطلقة ولذلك نكرت. ومنه قوله تعالى: {وإذَا أذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ إذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36]، أتى باذا في جانب الرحمة.. وأما تنكيرها فجعله السكاكي للنوعية نظرًا إلى لفظ الإذاقة، وجعله للتقليل نظرًا إلى لفظ الإذاقة كما قال أقرب. وأما قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُر} بلفظ إذا مع الضر، فللنظر إلى لفظ المس وإلى تنكير الضر المفيد في المقام التوبيخي القصد إلى اليسير من الضر وإلى الناس المستحقين أن يلحقهم كل ضر، وللتنبيه على أن مساس قدر يسير من الضر لأمثال هؤلاء حقه أن يكون في حكم المقطوع به. وأما قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيض}، بعد قوله عز وجل: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِه}، أي أعرض عن شكر الله وذهب بنفسه وتكبر وتعظم، فالذي تقتضيه البلاغة أن يكون الضمير في مسه للمعرض المتكبر، ويكون لفظ إذا للتنبيه على أن مثله يحق أن يكون ابتلاؤه بالشر مقطوعًا به.

قال الزمخشري: وللجهل بموقع إن وإذا يزيغ كثير من الخاصة عن الصواب فيغلطون ألا ترى إلى عبد الرحمن بن حسان كيف أخطا بهما الموقع في قوله يخاطب بعض الولاة وقد سأله حاجة فلم يقضها ثم شفع له فيها فقضاها:

ذممت ولم تجمد وأدركت حاجتي تولى سواكم أجرها واصطناعها

أبى لك كسب الحمد رأي مقصر ونفس أضاق الله بالخير باعها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لأنه إن أراد العهد على مذهب الجمهور فغير صحيح لعدم تقدم ذكر الحسنة لا تحقيقًا ولا تقديرًا، وإن أراد العهد على مذهبه بناء على أن الحسنة المطلقة نزلت منزلة المعهود الحاضر في الذهن فهذا بعينه تعريف الجنس على مذهبه.

ج / 2 ص -119- إذا هي حثته على الخير مرة عصاها وإن همت بشر أطاعها1

فلو عكس لأصاب.

وقد تستعمل2 إن في مقام القطع بوقوع الشرط لنكتة:

كالتجاهل لاستدعاء المقام3 إياه. وكعدم جزم المخاطب4 كقولك لمن يكذبك5 فيما تخبر: إن صدقت فقل لي ماذا تفعل. وكتنزيله منزلة الجاهل6 لعدم جريه على موجب العلم كما تقول لمن يؤذي أباه: إن كان أباك فلا تؤذه. وكالتوبيخ على الشرط وتصوير أن المقام لاشتماله على ما يقلعه7 عن أصله لا يصلح إلا لفرضه كما يفرض المحال لغرض، كقوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} فيمن قرأ أن بالكسر لقصد التوبيخ والتجهيل في ارتكاب الإسراف وتصوير أن الإسراف من العاقل في هذا المقام واجب الانتفاء حقيق أن لا يكون ثبوته له إلا على مجرد الفرض، وكتغليب غير المتصف بالشرط على المتصف8 به، ومجيء قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 في البيان ص113 جـ3: أتى سعيد بن عبد الرحمن بن حسان أبا بكر بن محمد عامل سليمان بن عبد الملك فسأله أن يكلم سليمان في حاجة له فوعده أن يقضيها له فلم يفعل، وأتى عمر بن عبد العزيز فكلمه فقضى حاجته فقال سعيد: "الأبيات". فهي إذا لسعيد بن عبد الرحمن، لا لعبد الرحمن. وفي الأمالي الأبيات منسوبة إلى عبد الرحمن وكذلك في العقد الفريد.

2 راجع 105 من المفتاح. كما أن "إذا" قد تستعمل أيضًا في مقام الجزم بعدم وقوع الشرط على خلاف الأصل.

3 كما إذا سئل العبد عن سيده هل هو في الدار، وهو يعلم أنه فيها فيقول إن كان فيها أخبرك يتجاهل خوفًا من سيده.

4 أي بوقوع الشرط فيجري الكلام على سنن اعتقاده.

5 أي لا يعتقد صدقك بأن شك في صدقك وتردد فيه.

6 أي تنزيل المخاطب العالم بوقوع الشرط.

6 أي تنزيل المخاطب العامل بوقوع الشرط.

7 الضمير للشرط.

8 كما إذا كان القيام قطعي الحصول لزيد غير قطعي الحصول لعمرو فتقول: "أن قمتما كان كذا".

ج / 2 ص -120- مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} بأن يحتمل أن يكون للتوبيخ على الريبة لاشتمال المقام على ما يقلعها عن أصلها ويحتمل أن يكون لتغليب غير المرتابين من المخاطبين على المرتابين منهم فإنه كان فيهم من يعرف الحق وإنما ينكر عنادًا، وكذلك قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْث1}.

والتغليب2 باب واسع يجري في فنون كثيرة كقوله تعالى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 188]، أدخل شعيب عليه السلام في لتعودن في ملتنا بحكم التغليب، إذ لم يكن شعيب في ملتهم أصلًا، ومثله قوله تعالى: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم} وكقوله تعالى: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِين} عدت الأنثى من الذكور بحكم التغليب وكقوله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيس} عد إبليس من الملائكة بحكم التغليب وكقوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون} بتاء الخطاب غلب جانب أنتم على جانب قوم، ومثله {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون}.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وههنا بحث، وهو أنه إذا جعل الجميع بمنزلة غير المرتابين كان الشرط قطعي اللا وقوع، فلا يصح استعمال أن فيه، كما إذا كان قطعي الوقوع؛ لأنها إنما تستعمل في المعاني المحتملة المشكوكة، وليس المعنى ههنا على حدوث الارتياب في المستقبل، ولهذا زعم الكوفيون أن "أن" ههنا بمعنى إذا. ونص المبرد والزجاج على أن أن لا تقلب كان إلى معنى الاستقبال، لقوة دلالته على المضي، فمجرد التغلب لا يصحح استعمال أن ههنا. بل لا بد من أن يقال لما غلب صار الجميع بمنزل غير المرتابين فصار الشرط قطعي الانتفاء، فاستعمل فيه أن على سبيل الفرض والتقدير للتبكيت والإلزام، كقوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا}، {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}.

2 قال صاحب البيان: هو ترجيح أحد المعلومين على الآخر في إطلاق لفظه عليهما، والقيد الأخير لإخراج المشاكلة: وهو عند صاحب المطول من باب المجاز المرسل الذي ترجع علاقته إلى المجاورة، أو من قبيل عموم المجاز، وقال غيره إنه: "إعطاء أحد المتصاحبين أو المتشابهين حكم الآخر بأن يجعل الآخر موافقًا له في الهيئة أو المادة. هذا والتغليب ليس بحقيقة ولا مجاز كما في الدسوقي، وإن صرح البعض بأنه من باب المجاز.

ج / 2 ص -121- فيمن قرأ بالتاء وكذا قوله تعالى: {يَا أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] غلب المخاطبون في قوله لعلكم تتقون على الغائبين في اللفظ، والمعنى على إرادتهما جميعًا؛ لأن لعل متعلقة بخلقكم لا باعبدوا، وهذا من غوامض التغليب. وكقوله تعالى: {وجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أزْوَاجًا وَمِنَ الأانْعَامِ أزْوَاجًا يَذْرَؤكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11]، فإن الخطاب فيه شامل للعقلاء والأنعام، فغلب فيه المخاطبون على الغيب والعقلاء على الأنعام، وقوله تعالى: {يَذْرَؤكُمْ فِيهِ} أي يبثكم ويكثركم في هذا التدبير وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجًا حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل فجعل هذا التدبير كالمتبع والمعدن للبث والتكثير ولذلك قيل يذرؤكم فيه ولم يقل به كما في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة}.

واعلم أنه لما كانت هاتان الكلمتان1 لتعليق أمر2 بغيره، أعي الجزاء بالشرط، في الاستقبال3، امتنع في كل واحدة من جملتيهما الثبوت4 وفي أفعالهما المضي، أعني أن يكون كلتا الجملتين أو إحداهما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي "أن" و"إذا"، وراجع في ذلك 106 من المفتاح، 214 الدلائل.

2 هو حصول مضمون الجزاء، بغيره يعني بحصول مضمون الشرط.

3 متعلق بغيره على معنى أنه يجعل حصول الجزاء مترتبًا ومتعلقًا على حصول الشرط في الاستقبال. ولا يجوز أن يتعلق بتعليق أمر؛ لأن التعليق إنما هو في زمان التكلم لا في الاستقبال، ألا ترى أنك إذا قلت "إن دخلت الدار فأنت حر" فقد علقت في هذه الحال قرينة على دخول الدار في الاستقبال.

4 فامتنع أن تكونا اسميتين.

ج / 2 ص -122- اسمية أو كلا الفعلين أو إحدهما ماضيًا1، ولا يخالف ذلك لفظًا2 -نحو أن أكرمتني أكرمتك وإن أكرمتني أكرمك وإن تكرمني أكرمتك وإن تكرمني فأنت مكرم وإن أكرمتني الآن فقد أكرمتك أمس- إلا لنكتة ما مثل إبراز غير الحاصل في صورة الحاصل: إما لقوة الأسباب المتآخذة في وقوعه كقولك إن اشترينا كذا حال انعقاد الأسباب في ذلك وإما لأن ما هو للوقوع كالواقع كقولك إن مت كان كذا وكذا كما سبق. وإما للتفاؤل، وإما لإظهار الرغبة في وقوعه نحو إن ظفرت بحسن العاقبة فهو المرام، فإن الطالب إذا تبالغت رغبته في حصول أمر يكثر تصوره إياه، فربما يخيل إليه حاصلًا. وعليه قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}3. وقد يقوي هذا التخيل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أما الشرط؛ فلأنه مفروض الحصول في الاستقبال فيمتنع ثبوته ومضيه، وأما الجزاء؛ فلأن حصوله معلق على حصول الشرط في الاستقبال ويمتنع تعليق حصول الحاصل الثابت على حصول ما يحصل في المستقبل.

2 قوله لفظًا، إشارة إلى أن الجملتين وإن جعلت كلتاهما أو إحداهما اسمية أو فعلية ماضوية فالمعنى على الاستقبال حتى إن قولنا إن أكرمتني الآن فقد أكرمتك أمس معناه أن تعتد بإكرامك إياي الآن فاعتد بإكرامي إياك أمس وقد تستعمل إن في غير الاستقبال قياسًا مطردًا مع كان نحو وإن كنتم في ريب كما مر وكذا إذا جيء بها في مقام التأكيد بعد واو الحال لمجرد الوصل والربط دون الشرط نحو "زيد وإن كثر ماله بخيل" و"عمرو وإن أعطى جاهلًا لئيم"، وفي غير ذلك قليلًا كقول المعري:

فيا وطني إن فاتني بك سابق من الدهر فلينعم لساكنك البال

فقد دخلت إن على غير كان وهو ماض على وجه القلة.

3 حيث لم يقل إن يردن. فإن قيل تعليق النهي عن الإكراه بإرادتهن التحصن يشعر بجواز الإكراه عند انتفائها على ما هو مقتضى التعليق بالشرط، أجيب بأن القائلين بأن التقييد بالشرط يدل على نفي الحكم عند انتفائه إنما يقولون به إذا لم يظهر للشرط فائدة أخرى ويجوز أن يكون فائدته في الآية المبالغة في النهي عن الإكراه يعني أنهن إذا أردن العفة فالولي أحق بإرادتها.

ج / 2 ص -123- عند الطالب حتى إذا وجد حكم الحس بخلاف حكمه غلطه تارة واستخرج له محملًا أخرى وعليه قول أبي العلاء المعري:

ما سرت إلا وطيف منك يصحبني سري أمامي وتأوييا على أثرى1

يقول: لكثرة ما ناجيت نفسي بك انتقشت في خيالي فأعدك بين يدي مغلطًا للبصر بعلة الظلام إذا لم يدركك ليلًا أمامي، وأعدك خلفي إذا لم يتيسر لي تغليطه حين لا يدركك بين يدي نهارًا. وإما لنحو ذلك، قال السكاكي: أو للتعريض: كما في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}، وقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إنَّكَ إذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}، [البقرة: 145]، وقوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَات}، ونظيره في التعريض2 قوله: {وَمَا لِيَ لا أعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22]، المراد وما لكم لا تعبدون الذي فطركم، والمنبه عليه ترجعون، وقوله تعالى: {أأتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُون، إنِّي إذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس: 23-24]، إذ المراد أتتخذون من دونه آلهة إن يردكم الرحمن بضر لا تغن عنكم شفاعتهم شيئًا ولا ينقذونكم إنكم إذا لفي ضلال مبين، ولذلك قيل: {آمَنْتُ بِرَبِّكُم} دون بربي، واتبعه: {فَاسْمَعُوْنِ}. ووجه حسنه3 تطلب أسماع المخاطبين الذين هم أعداء المسمع الحق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 السري: سير الليل. التأويب: سير النهار كله.

2 جعله فيما سبق من الالتفات وهنا جعله من التعريض. ويقول السكاكي "ولولا التعريض لكان المناسب وإليه أرجع 106 من المفتاح. وإذا كان المثل تعريضًا لم يكون التفاتًا بل يكون عبر في الأول بياء المتكلم عن المخاطبين. والجواب أن التعريض ليس من شرطه أن يراد به غير ظاهر اللفظ بل يراد ظاهره لا لقصده بل يكون المقصود بالكلام غيره، والآية المراد بها المتكلم ولكنه إذا أراد ذلك لنفسه لم يرد لهم إلا ما أراده لها.

3 أي حسن هذا التعريض.

ج / 2 ص -124- على وجه لا يورثهم مزيد غضب وهو ترك التصريح بنسبتهم إلى الباطل ومواجهتهم بذلك، ويعين على قبوله لكونه أدخل في أمحاض النصح لهم، حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه. ومن هذا القبيل قوله تعالى: {قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُون}، فإن حق النسق من حيث الظاهر: "قل لا تسألون عما عملنا ولا نسأل عما تجرمون"، وكذا ما قبله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}. قال السكاكي رحمه الله: وهذا النوع من الكلام يسمى المنصف، ومما يتصل بما ذكرناه أن الزمخشري قدر قوله تعالى: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُون} عطفًا على جواب الشرط في قوله تعالى: {إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ وألْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2]، وقال: "الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الأعراب فإن فيه نكتة، كأنه قيل: وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعًا من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض وردكم كفارًا، وردكم كفارًا أسبق المضار عندهم وأولها، لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم؛ لأنكم يذالون لها دونه، والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه" هذا كلامه، وهو حسن دقيق، لكن في جعل: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُون} عطفًا على جواب الشرط نظر؛ لأن ودادتهم أن يرتدوا كفارًا حاصلة وإن لم يظفروا بهم، فلا يكون في تقييدها بالشرط فائدة، فالأولى أن يجعل قوله: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُون} عطفًا على الجملة الشرطية كقوله تعالى: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُون}.

ج / 2 ص -125- لو الشرطية:

وأما لو1 فهي للشرط في الماضي مع القطع بانتفاء الشرط2 فيلزم انتفاء الجزاء3 كانتفاء الإكرام في قولك: لو جئتني لأكرمتك،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لو كما يقول المبرد: "تدل على وقوع الشيء لوقوع غيره". ومعنى كون لو للشرط أنها لتعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشرط فرضًا.

2 أي في الواقع.

3 أي يلزم بالنظر لعرف أهل اللغة انتفاء الجزاء من حيث ترتبه على ذلك الشرط، كما تقول: "لو جئتني أكرمتك"، معلقًا الإكرام بالمجيء، مع القطع بانتفائه، فيلزم انتفاء الإكرام.. فهي لامتناع الثاني أعني الجزاء لامتناع الأول أعني الشرط، يعني أن الجزاء منتف بسبب انتفاء الشرط. هذا هو المشهور بين الجمهور، واعترض عليه ابن الحاجب بأن الأول سبب والثاني مسبب وانتفاء السبب لا يدل على انتفاء المسبب لجواز أن يكون للشيء أسباب متعددة بل الأمر بالعكس؛ لأن انتفاء المسبب على انتفاء أسبابه، فهي لامتناع الأول لامتناع الثاني، ألا ترى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} إنما سيق ليستدل بامتناع الفساد على امتناع تعدد الآلهة دون العكس، واستحسن المتأخرون رأي ابن الحاجب حتى كادوا أن يجمعوا على أنها لامتناع الأول لامتناع الثاني، إما لما ذكره، وإما؛ لأن الأول ملزوم والثاني لازم، وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم من غير عكس لجواز أن يكون اللازم أعم.

وأقول: منشأ هذا الاعتراض قلة التأمل؛ لأنه ليس معنى قولهم: "لو لامتناع الثاني لامتناع الأول" أنه يستدل بامتناع الأول على امتناع الثاني، حتى يرد عليه أن انتفاء السبب أو الملزوم لا يوجب انتفاء المسبب أو اللازم، بل معناه أنها للدلالة على أن انتفاء الثاني في الخارج إنما هو بسبب انتفاء الأول، فمعنى "ولو شاء لهداكم" أن انتفاء الهداية إنما هو بسبب انتفاء المشيئة يعني أنها تستعمل للدلالة على أن علة انتفاء مضمون الجزاء في الخارج هي انتفاء مضمون الشرط من غير التفات إلى أن علة العلم بانتفاء الجزاء ما هي، ألا ترى أن قولهم لولا لامتناع الثاني لوجود الأول نحو "لولا علي لهلك عمر" معناه أن وجود علي سبب لعدم هلاك عمر لا أن وجوده دليل على أن عمر لم يهلك، ولهذا صح مثل قولنا "لو جئتني =

ج / 2 ص -126- ولذلك قيل هي لامتناع الشيء لامتناع غيره، ويلزم كون جملتيها فعليتين وكون الفعل ماضيًا، فدخولها على المضارع في نحو قوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّم}، لقصد استمرار الفعل فيا مضى وقتًا فوقتا كما في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِم} بعد قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون} وفي قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]، ودخولها عليه1 في نحو قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12]، وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [سبأ: 31]، لتنزيله منزلة الماضي لصدوره عمن لا خلاف في إخباره كما نزل "يود" منزلة "ود" في قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا2}، ويجوز أن يرد الغرض.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= لأكرمتك لكنك لم تجئ" أعني عدم الإكرام بسبب عدم المجيء، قال الحماسي:

"ولو طار ذو حافر قبلها لطارت ولكنه لم يطر"

يعني أن عدم طيران تلك الفرس بسب أنه لم يطر ذو حافر قبلها، وقال أبو العلاء المعري:

"ولو دامت الدولات كانوا كغيرهم رعايا ولكن ما لهن دوام

وأما المنطقيون فقد جعلوا "أن" "ولو" أداة للزوم وإنما يستعملونها في القياسات لحصول العلم بالنتائج فهي عندهم للدلالة على أن المعلم بانتفاء الثاني علة للعلم بانتفاء الأول ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللام من غير التفات إلى أن علة انتفاء الجزاء في الخارج ما هي؟ وقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وأرد على هذه القاعدة، لكن الاستعمال على قاعدة اللغة هو الشائع المستفيض.

1 أي على المضارع.

2 وإنما كان الأصل ههنا الماضي؛ لأنه قد التزم ابن السراج وأبو علي في الإيضاح أن الفعل الواقع بعد رب المكفوفة بما يجب أن يكون ماضيًا؛ لأنها للتقليل في الماضي ومعنى التقليل ههنا أنه يدهشهم أهوال القيامة فيبهتون فإن وجدت منهم إفاقة ما تمنوا ذلك، وقيل هي مستعارة أي منقولة للتكثير أو للتحقيق ومفعول يود محذوف لدلالة لو كانوا مسلمين عليه ولو للتمني حكاية لودادتهم. وإما على رأي من جعل لو التي للتمني حرفًا مصدريًّا، فمفعول "يود" هو قوله "لو كانوا مسلمين".

ج / 2 ص -127- من لفظ ترى ويود إلى استحضار صورة رؤية المجرمين ناكسي الرؤوس قائلين لما يقولون وصرة رؤية الظالمين موقوفين عند ربهم متقاولين بتلك المقالات وصورة ودادة الكافرين لو أسلموا، كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9] إذ قال فتثير سحابًا استحضارًا لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة من آثارة السحاب مسخرًا بين السماء والأرض تبدو في الأول كأنها قطع قطن مندوف ثم تتضام متقابلة بين أطوار حتى يعدن ركامًا، وكقول تأبط شرًّا1:

ألا من مبلغ فتيان فهم بما لاقيت عند رحا بطان

بأني قد لقيت الغول تهوي بسهب كالصحيفة صحصحان

فقلت لها: كلانا نضو أرض أخو سفر فخلي لي مكاني

فشدت شدة نحوي فأهوت لها كفي بمقصول يماني

فأضربها بلادهش فخرت صريعا لليدين وللجران

إذ قال: فأضربها ليصور لقومه الحالة التي تشجع فيها على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها ويتطلب منهم مشاهدتها تعجيبًا من جراءته على كل هول وثباته عند كل شدة. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، دون كن فكان. وكذا قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وتنسب لأبي الغول الطهوي. فهو قبيلة تأبَّط شرًّا، رحا بطان: موضع بالبادية. تهوي: تسرع. السهب. المستوى من الأرض في سهولة، وكذلك الصحصحان. النضو: المهزول من كل شيء. الصريع يستوي فيه المذكر والمؤنث. الجران في الأصل: مقدم عنق البعير من مذبحة إلى منحره.

ج / 2 ص -128- تنكير المسند:

وأما تنكيره: فإما لإرادة عدم الحصر والعهد، كقولك: زيد كاتب وعمرو شاعر.

وإما للتنبيه على ارتفاع شأنه أو انحطاطه1 على ما مر في المسند إليه كقوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِين}، أي هدى لا يكتنه كنهة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وفي شرح السعد: أو للتفخيم نحو هدى للمتقين -بناء على أنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر ذلك الكتاب- أو للتحقير نحو ما زيد شيئًا، وما هنا وما في السعد عبارتان متقاربتان.

تخصيص المسند وعدمه:

وأما تخصيصه بالإضافة1 أو الوصف2: فلتكون الفائدة أتم كما مر3.

وأما ترك تخصيصه بهما فظاهر مما سبق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 مثل محمد صاحب مروءة.

2 مثل زيد رجل عالم.

3 أي في باب المسند إليه من أن زيادة الخصوص توجب أتمية الفائدة. وجعل معمولات المسند كالحال ونحوه من المقيدات وجعل الإضافة والوصف من المخصصات إنما هو مجرد اصطلاح، وقيل؛ لأن التخصيص عبارة عن نقص الشيوع والعموم ولا شيوع في الفعل؛ لأنه إنما يدل على مجرد المفهوم. أي على الماهية المطلقة وهو الحدث والمطلق لا يكون فيه تخصيص بل تقييد، والحال تقيده، والوصف يجيء في الاسم الذي فيه الشيوع فيخصصه، واعترض على ذلك باعتراض ذكره المطول وحاصله أنه إن أريد بالشيوع العموم الشمولي فهو منتف في النكرة الموجبة فلا يكون وصفها مخصصًا. وإن أراد به العموم البدلي فهو موجود في الفعل. وأجيب باختيار الأول وأن الاسم لما كان يوجد فيه العموم الشمولي في الجملة ناسبه التخصيص الذي هو نقص العموم الشمولي بخلاف الفعل فلا يوجد فيه باعتبار ذاته عموم فناسبه التقييد.

ج / 2 ص -129- تعريف المسند:

وأماتعريفه1 فلإفادة السامع: إما حكمًا على أمر معلوم له بطريق من طرق التعريف بأمر آخر معلوم له كذلك2، وأما لازم حكم بين أمرين كذلك3. تفسير هذا أنه قد يكون للشيء صفتان من صفات التعريف4 ويكون السامع عالمًا باتصافه بإحداهما دون الأخرى5، فإذا أردت أن تخبره بأنه متصف بالأخرى تعمد إلى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 راجع ص92 من المفتاح، وص136-153 من دلائل الإعجاز.

2 يعني أنه يجب عند تعريف المسند تعريف المسند إليه، إذ ليس في كلامهم مسند إليه نكرة ومسند معرفة في الجملة الخبرية وقوله بأمر آخر إشارة إلى أنه يجب مغايرة المسند إليه والمسند بحسب المفهوم ليكون الكلام مفيدًا، فنحو "شعري شعري" مؤول بحذف مضاف اعتباري في الحالين أي شعري الآن مثل شعري فيماكان أي المعروف المشهور بالبلاغة والسحر.

3 يعني لازم حكم على أمر معلوم بأمر آخر معلوم. ويعني بهذا ما سبق سماه لازم فائدة الخبر، وهذا غير علم المخاطب بالحكم، كأن تقول للذي مدحك بقصيدة أنشدها إياك: أنت المادح لي بهذه القصيدة الرائعة.

4 ككونه مسمى بزيد وكونه أخا لعمرو.

5 أي مع كونه عالمًا بكل منهما في ذاته كما هو أصل المسألة من كون السامع عالمًا بكل من المسند إليه والمسند. وقوله بإحداهما دون الأخرى أي كان عرف المخاطب هذه الذات بكونها مسماة بزيد ولا يعرفها بكونها أخا له.

وظاهر لفظ متسن التلخيص في قوله "بآخر مثله" أن نحو "زيد أخوك" إنما يقال لمن يعرف أن له أخا، والمذكور هنا في الإيضاح أنه يقال لمن يعرف زيدًا بعينه سواء عرف أن له أخا أم لم يعرف، ووجه التوفيق ما ذكره بعض المحققين من النحاة أن أصل وضع تعريف الإضافة على اعتبار العهد وإلالم يبق فرق بين غلام يد وغلام لزيد فلم يكن أحدهما معرفة والآخر نكرة، لكن كثيرًا ما يقال جاءني غلام زيد من غير إشارة إلى معين كالمعرف باللام وهو خلاف وضع الإضافة فما في المتن بالنظر إلى أصل الوضع وما هنا إلى خلافه.

ج / 2 ص -130- اللفظ الدال على الأولى وتجعله مبتدأ وتعمد إلى اللفظ الدال على الثانية وتجعله خبًرا، فتفيد السامع ما كان يجهله من اتصافه بالثانية، كما إذا كان للسامع أخ يسمى زيدًا وهو يعرفه بعينه واسمه ولكن لا يعرف أنه أخوه، وأردت أن تعرفه أنه أخوه، فتقول: له زيد أخوك، سواء عرف أن له أخًا ولم يعرف أن زيدًا أخوه أو لم يعرف أن له أخًا أصلًا. وإن عرف أن له أخًا في الجملة وأردت أن تعينه عنده قلت "أخوك زيد: أما إذالم يعرف أن له أخًا أصلًا فلا يقال ذلك لامتناع الحكم بالتعيين على من لا يعرفه المخاطب أصلًا، فظهر الفرق بين قولنا: زيد أخوك وقولنا أخوك زيد، وكذا إذا عرف السامع إنسانًا يسمى زيدًا بعينه واسمه، وعرف أنه كان من إنسان انطلاق ولم يعرف أنه كان من زيد أو غيره فأردت أن تعرفه أن زيدًا هو ذلك المنطلق فتقول: زيد المنطلق، وإن أردت أن تعرفه أن ذلك المنطلق هو زيد قلت المنطلق1 زيد، وكذا إذا عرف السامع إنسانًا يسمى زيدًا بعينه واسمه، وهو يعرف معنى جنس المنطلق وأردت أن تعرفه أن زيدًا متصف به فتقول: زيد المنطلق، وإن أردت أن تعين عنده جنس المنطلق قلت: المنطلق1 زيد، لا يقال: زيد دال على الذات فهو متعين للابتداء تقدم أو تأخر، والمنطلق دال على أمر نسبي فهو متعين للخبرية تقدم أن تأخر؛ لأنا نقول: المنطلق لا يجعل مبتدأ إلا بمعنى الشخص الذي له الانطلاق وأنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون خبرًا وزيد لا يجعل خبرًا إلا بمعنى صاحب اسم زيد وأنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون مبتدأ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 والتعريف هنا للعهد الخارجي.

2 والتعريف هنا للجنس أي للحقيقة. والمقصور هنا ما فيه اللام. فإن دخلت أل على المبتدأ والخبر احتمل كل منهما أن يكون هو المقصور، وقيل المبتدأ هو المقصور، وقيل المقصور هو الأعم مطلقًا.

ج / 2 ص -131- ثم1 التعريف بلام الجنس قد لا يفيد قصر المعرف على ما حكم عليه به، كقول الخنساء2:

إذا قبح البكاء على قتيل رأيت بكاءك الحسن الجميلا

وقد يفيد قصره: إما تحقيقًا3 كقولك: زيد الأمير، إذالم يكن أمير سواه، وإما مبالغة لكمال معناه في المحكوم عليه كقولك: "عمرو الشجاع" أي الكامل في الشجاعة4 فتخرج الكلام في صورة توهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 راجع ص140 من الدلائل. هذا وأما التعريف بلام العهد فلا يفيد القصر؛ لأنه إنما يتصور في ما يكون فيه عموم كالجنس، فيحصر في بعض الأفراد، وأما المعهود الخارجي فلا عموم فيه فلا حصر، ولكن هذا في قصر الأفراد، أما قصر القلب فيتأتى في المعهود أيضًا.

2 البيت في الدلائل ص140، والبيت لا يفهم القصر والمعنى ليس عليه؛ لأن البيت للرد على من يتوهم قبح البكاء على هذا المرثي كغيره وليس الكلام واردًا في مقام من يسلم حسن البكاء عليه إلا أنه يدعي أن بكاء غيره حسن أيضًا حتى يكون المعنى على الحصر إذ لا يلائمه الشطر الأول من البيت.

3 أي قصرًا حقيقيًّا.

4 كأنه لا اعتداد بشجاعة غيره، وكذا إذا جعل المعرف بلام الجنس مبتدأ نحو الأمير زيد والشجاع عمرو فيفيد قصر جنس معنى المبتدأ على الخبر تحقيقًا أو مبالغة، ولا تفاوت بينهما وبين ما تقدم في إفادة قصر الإمارة على زيد والشجاعة على عمرو، وعدم التفاوت إنما هو على مذهب السعد أما على ما ذهب إليه السيد -من أنه لا يكون محمولًا وأن قولنا المنطلق زيد مؤول بقولنا المنطلق المسمى بزيد- فلا بد من التفاوت، فالمقصور عليه الإمارة على الأول الذات المشخصة المعبر عنها بزيد وعلى الثاني هو المفهوم الكلي المسمى بزيد.

والحاصل أن المعرف بلام الجنس أن جعل مبتدأ فهو مقصور على الخبر سواء كان الخبر معرفة أو نكرة، وإن جعل خبرًا فهو مقصور على المبتدأ، والجنس قد يبقى على إطلاقه كما مر وقد يقيد بوصف أو حال أو ظرف أو مفعول أو نحو ذلك على ما ذكره الخطيب نحو هو الرجل الكريم وهو السائر راكباً وهو الأمير في البلد وهو الواهب ألف قنطار، وجميع ذلك معلوم بالاستقراء وتصفح تراكيب البلغاء.

هذا ومعاني الخبر المعرف بأل عن عبد القاهر: القصر مبالغة -القصر حقيقة- الأعلام بأن هذا منه كان الشيء الذي يعلمه أنه كان كزيد هو المنطلق -إظهار كمال الأمر مثل رأيت بكاءك الحسن الجميلا- إعلام المخاطب بأن هذا الرجل هو الرجل المنشود مثل هو البطل المحامي.

ج / 2 ص -132- أن الشجاعة لم توجد إلا فيه لعدم الاعتداد بشجاعة غيره لقصورها عن رتبة الكمال.

ثم المقصور قد يكون نفس الجنس مطلقًا أي من غير اعتبار تقييده بشيء كما مر، وقد يكون الجنس باعتبار تقييده بظرف أو غيره، كقولك: "هو الوفي حين لا تظن نفس بنفس خيرًا"، فإن المقصور هو الوفاء في هذا الوقت لا الوفاء مطلقًا، وكقول الأعشى1:

هو الواهب المائة المصطفاة أما مخاضًا وإما عشارًا

فإنه قصر هبة المائة من الإبل في إحدى الحالتين، لاهبتها مطلقًا. ولا الهبة مطلقًا. وهذه الوجوه الثلاثة: أعني العهد، والجنس للقصر تحقيقًا، والجنس للقصر مبالغة، تمنع جواز العطف بالفاء ونحوها على ما حكم عليه بالمعرف، بخلاف المنكر فلا يقال: زيد المنطلق وعمرو، ولا زيد الأمير وعمرو، ولا زيد الشجاع وعمرو.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 راجع البيت في الدلائل ص139 والمخاض: الحوامل من النوق لا واحد له من لفظه. العشار جمع عشراء كنفساء، وهي من النوق كالنفساء من النساء أو التي مضى على حملها عشرة أشهر.

ج / 2 ص -133- جملية المسند:

وأما كونه جملة فإما لإرادة تقوي الحكم بنفس التراكيب كما سبق1، وإما لكونه سببًا2 وقد تقدم بيان ذلك3. وفعليتها لإفادة التجدد. واسميتها لإفادة الثبوت، فإن من شأن الفعلية أن تدل على التجدد، ومن شأن الاسمية أن تدل على الثبوت، وعليهما قول رب العزة: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14]، وقوله تعالى: {قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ}، إذ أصل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 نحو زيد قام. وقوله للتقوي أي بنفس التركيب.

2 نحو زيد أبوه قائم.

3 حيث ذكر أن أفراد المسند يكون لكونه غير سببي مع عدم إفادة التقوي.. وسبب التقوي في مثل زيد قام على ما ذكره صاحب المفتاح هو أن المبتدأ لكونه مبتدأ يستدعي أن يسند إليه شيء، فإذا جاء بعده ما يصلح أن يسند إلى ذلك المبتدأ صرفه ذلك المبتدأ إلى نفسه سواء كان خاليًا عن الضمير أو متضمنًا له فينعقد بينهما حكم، ثم إذا كان متضمنًا لضميره المعتد به بأن لا يكون مشابهًا للخالي عن الضمير كما في زيد قائم، صرفه ذلك الضمير إلى المبتدأ ثانيًا فيكتسي الحكم قوة، فعلى هذا يختص التقوي بما يكون مسندًا إلى ضمير المبتدأ، ويخرج عنه نحو "زيد ضربته" ويجب أن يجعل سببيًّا. وأما على ما ذكره الشيخ في "دلائل الإعجاز" وهو أن الاسم لا يؤتى به معرى عن العوامل اللفظية إلا لحديث قد نوى إسناده إليه، فإذا قلت "زيد" فقد أشعرت قلب السامع بأنك تريد الإخبار عنه، فهذا توطئة له وتقدمه للإعلام به، فإذا قلت "قام" دخل في قلبه دخول المأنوس وهذا أشد للثبوت وأمنع من الشبهة والشك، وبالجملة ليس الإعلام بالشيء بغتة مثل الإعلام به بعد التنبيه عليه والتقدمة. فإن ذلك يجري مجرى تأكيد الإعلام في التقوي والإحكام، فيدخل فيه نحو زيد ضربته وزيد مررت به. ومما يكون المسند فيه جملة لا للسببية أو التقوي خبر ضمان الشأن ولم يتعرض له لشهرة أمره وكونه معلومًا مما سبق.

وأما صورة التخصيص نحو أنا سعيت في حاجتك ورجل جاءني فهي داخلة في التقوي على ما مر.

ج / 2 ص -134- الأول نسلم عليك سلامًا وتقدير الثاني سلام عليكم، كأن إبراهيم عليه السلام قصد أ ن يحييهم بأحسن مما حيوه به أخذًا بأدب الله تعالى في قوله تعالى: {وَإِذَاحُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء: 86]. وقد ذكر له وجه آخر فيه دقة غير أنه بأصول الفلاسفة أشبه وهو أن التسليم دعاء للمسلم عليه بالسلامة من كل نقص ولهذا أطلق، وكمال الملائكة لا يتصور فيه التجديد؛ لأن حصوله بالفعل مقارن لوجودهم، فناسب أن يحيوا بما يدل على الثبوت دون التجدد، وكمال الإنسان متجدد؛ لأنه بالقوة وخروجه إلى الفعل بالتدرج فناسب أن يحيا بما يدل على التجدد دون الثبوت. وفيه نظر. وقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُون}، أي أحدثتم دعاءهم أم استمر صمتكم عنه فإنه كانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعائهم، ففيه لم يفترق الحال بين أحداثكم دعاءهم وما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم. وقوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِين} أي أحدثت عندنا تعاطي الحق فيما نسمعه منك أم اللعب، أي أحوال الصبا بعد مستمرة عليك، وأما قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِين}، في جواب: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر} فلإخراج ذواتهم من جنس المؤمنين مبالغة في تكذيبهم، ولهذا أطلق قوله "مؤمنين" وأكد نفيه بالباء، ونحوه: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا}.

وشرطيتها: لما مر1، وظرفيتها لاختصار الفعلية، إذ هي مقدرة بالفعل على الأصح2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 يعني للاعتبارات المختلفة الحاصلة من أدوات الشرط.

2 لأن الفعل هو الأصل في العمل، وقيل باسم الفاعل؛ لأن الأصل في الخبر أن يكون مفردًا، ورجح الأول بوقوع الظرف صلة للموصول نحو "الذي في الدار أخوك" وأجيب بأن الصلة من مظان الجملة بخلاف الخبر، ولو قال: "إذ الظرف مقدر بالفعل على الأصح" لكان أصوب؛ لأن ظاهر عبارته يقتضي أن الجملة الظرفية مقدرة باسم الفاعل على القول الغير الأصح ولا يخفى فساده.

ج / 2 ص -135- تأخير المسند:

وأما تأخيره: فلأن ذكر المسند إليه أهم كما سبق.

ج / 2 ص -136- وإما للتنبيه من أول الأمر على أنه1 خبر لا نعت2 كقوله3:

له همم لا منتهى لكبارها وهمته الصغرى أجل من الدهر

وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف: 24].

وإما للتفاؤل4.

وإما للتشويق إلى ذكر المسند5 إليه كقوله6:

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر.

وقوله:

وكالنار الحياة فمن رماد أواخرها وأولها دخان

قال السكاكي رحمه الله: وحق هذا الاعتبار تطويل الكلام في المسند وإلا لم يحسن ذلك الحسن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أي المسند.

2 إذ النعت لا يتقدم على المنعوت وإنما قال من أول الأمر؛ لأنه ربما يعلم أنه خبر لا نعت بالتأمل في المعنى والنظر إلى أنه لم يرد للكلام خبر للمبتدأ.

3 ينسب لحسان في مدح الرسول. والصحيح أنه ليس له بل هو لبكر بن النطاح في أبي دلف وهو في الدلائل ص117. والشاهد فيه تقديم المسند في قوله: "له همم".

4 مثل: سعدت بغرة وجهك الأيام.

5 بأن يكون في المسند المتقدم طول يشوق النفس إلى ذكر المسند إليه فيكون له وقع في النفس ومحل من القبول؛ لأن الحاصل بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب كما يقولون.

6 هو لمحمد بن وهيب في المعتصم الخليفة والشاهد في البيت تقديم "ثلاثة" وهو المسند، والمسند إليه المتأخر هو "شمس الضحى إلخ" وسيأتي البيت في الإيضاح أيضًا في الجامع وفي "الجمع" في فن البديع.

ج / 2 ص -137- تنبيه:

كثير مما في الباب1 والذي قبله2 غير مختص بالمسند إليه والمسند، كالذكر والحذف وغيرهما3 مما تقدمت أمثلته، والفطن إذا أتقن اعتبار ذلك فيهما4 لا يخفى عليه اعتباره في غيرهما5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 يعني باب المسند.

2 يعني باب المسند إليه.

3 من التعريف والتنكير والتقديم والتأخير والإطلاق والتقييد وغير ذلك.

4 أي في البابين.

5 من المفاعيل والملحقات بها والمضاف إليه، وإنما قال: "كثير مما في هذا الباب إلخ"ولم يقل: "كل ما في هذا الباب"؛ لأن بعضها مختص بالبابين كضمير الفصل المختص بما بين المسند إليه والمسند وككون المسند مفردًا فعلا فإنه مختص بالمسند إذ كل فعل مسند دائمًا، وقيل هو إشارة إلى أن جميعها لا يجري في غير البابين كالتعريف فإنه لا يجري في الحال والتمييز وكالتقديم فإنه لا يجري في المضاف إليه، وفيه نظر؛ لأن قولنا: "جميع ما في هذا الباب والذي قبله غير مختص بهما" لا يقضي أن يجري شيء من المذكورات في كل واحد من الأمور التي هي غير المسند إليه والمسند فضلًا عن أن يجري كل منها فيه إذ يكفي لعدم الاختصاص بالبابين ثبوته في شيء مما يغايرهما.==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الجنة دار الأبرار والطريق الموصل اليها

  ➌ الجنة ومتاعها والنار وسوء جحيمها عياذا بالله الواحد. {{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِ...