ج6. وج 5.ارشاد الفحول في علم الأصول للشوكاني
* في "أ": العالم.
** في "أ": وورد.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "285".
المسألة الثانية: "العموم من عوارض الألفاظ"
ذهب الجمهور إلى أن العموم من عوارض الألفاظ فإذا قيل:
هذا لفظ عام، صدق على سبيل الحقيقة.
وقال القاضي أبو بكر: إن العموم والخصوص يرجعان إلى
الكلام، ثم الكلام الحقيقي هو
ج / 1 ص -288- المعنى القائم بالنفس "وهو الذي يعم
ويخص، والصيغ والعبارات دالة عليه، ولا يسمى بالعموم والخصوص إلا تجوزًا، كما أن
الأمر والنهي يرجعان إلى المعنى العام بالنفس"* دون الصيغ. انتهى.
واختلف الأولون في اتصاف المعاني بالعموم، بعد اتفاقهم
على أنه حقيقة في الألفاظ. فقال بعضهم: إنها تتصف به حقيقة كما تتصف به الألفاظ.
وقال بعضهم: إنها تتصف به مجازًا.
وقال بعضهم: إنها لا تتصف به لا حقيقة ولا مجازًا.
احتج القائلون بأنه حقيقة فيهما: بأن العموم حقيقة في
شمول أمر لمتعدد، فكما صح في الألفاظ باعتبار شمول لفظ لمعانٍ متعددة بحسب الوضع،
صح في المعاني باعتبار شمول "معنى"** لمعانٍ متعددة "لأنه"***
لا يتصور شمول أمر معنوي لأمور متعددة، كعموم المطر والخصب "والقحط للبلاد،
وكذلك يقال: عم المطر وعم الخصب"**** ونحوهما، وكذلك ما يتصوره الإنسان من
المعاني الكلية فإنها شاملة لجزئياتها المتعددة الداخلة تحتها. ولذلك يقول
المنطقيون: العام ما لا يمنع تصوره، وقوع الشركة فيه والخاص بخلافه.
وأجيب: بأن العام شمول أمر لمتعدد، وشمول المطر والخصب
ونحوهما ليس كذلك؛ إذ لموجود في مكان غير الموجود في المكان الآخر، وإنما هو أفراد
من المطر والخصب.
وأيضا ما ذكروه عن المنطقيين غير صحيح، فإنهم
"إنما"***** يطلقون ذلك على الكلي لا على العام.
ورد بمنع كونه يعتبر في معنى العموم لغة هذا القيد، بل
يكفي الشمول، سواء كان هناك أمر واحد أو لم يكن.
ومنشأ الخلاف هذا، هو ما وقع من الخلاف في معنى العموم،
فمن قال معناه شمول أمر لمتعدد "واعتبروا وحدة الأمر وحدة شخصية"******
منع من إطلاقه حقيقة على المعاني، فلا يقال هذا المعنى عام؛ لأن الواحد بالشخص لا
شمول له، ولا يتصف بالشمول لمتعدد إلا الموجود
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": لفظ.
*** في "أ": بحسب.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** ما بين قوسين ساقط من "أ".
****** ما بين قوسين ساقط من "أ": ومكانها إلا
الموجود الذهني شخصيته...إلخ.
ج / 1 ص -289- الذهني، ووحدته ليست بشخصية، فيكون عنده
إطلاق العموم على المعاني مجازًا لا حقيقة كما صرح به الرازي.
ومن فهم من اللغة أن الأمر الواحد الذي أضيف إليه الشمول
في معنى العموم أعم من الشخصي ومن النوعي أجاز إطلاق العام على المعاني حقيقة.
وقيل:
إن محل النزاع إنما هو من صحة تخصيص المعنى العام، كما
يصح تخصيص اللفظ العام لا في اتصاف المعاني بالعموم، وفيه بعد، فإن نصوص هؤلاء
المختلفين مصرحة بأن خلافهم في اتصاف المعاني بالعموم.
المسألة الثالثة: "تصور العموم في الأحكام"
هل يتصور العموم في الأحكام حتى يقال حكم قطع السارق
عام؟
أنكره القاضي، وأثبته الجويني وابن القشيري.
وقال المازري: الحق بناء هذه المسألة على أن الحكم يرجع
إلى قول أو إلى وصف يرجع إلى الذات فإن قلنا بالثاني لم يتصور العموم لما تقدم1 في
الأفعال، وإن قلنا يرجع إلى قول فقوله سبحانه: {وَالسَّارِق}2 يشمل كل سارق فنفس
القطع فعل، والأفعال لا عموم لها، قال القاضي أبو عبد الله الصيمري3 الحنفي في
كتابه "مسائل الخلاف في أصول الفقه"4: دعوى العموم في الأفعال لا تصح
عند أصحابنا، ودليلنا: أن العموم ما اشتمل على أشياء متغايرة، والفعل لا يقع إلا
على درجة واحدة.
وقال الشيخ أبو إسحاق: لا يصح العموم إلا في الألفاظ،
وأما في الأفعال فلا يصح؛ لأنها تقع على صفة واحدة، فإن عرفت اختص الحكم بها، وإلا
صار مجملا، فما عرفت صفته مثل قول الراوي: "جمع بين الصلاتين في السفر"5
فهذا مقصور على السفر، ومن الثاني قوله في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "287".
2 جزء من الآية "38" من سورة المائدة.
3 هو الحسين بن علي بن محمد، القاضي العلامة، أبو عبد
الله، الصيمري، الحنفي، كان من الفقهاء المناظرين، صدوقًا، وافر العقل، توفي سنة
ست وثلاثين وأربع مائة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 615"، شذرات
الذهب "3/ 256"، الأعلام "2/
245".
4 ذكره الزركلي عند ترجمة الصيمري، باسم: "مسائل
الخلاف في أصول الفرق". ا. هـ. الأعلام "2/ 245".
5 أخرجه مسلم من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم "جمع في سفرة سافرها..." في كتاب صلاة
المسافرين باب الجمع بين الصلاتين في السفر "706". والنسائي في المواقيت
باب الوقت الذي يجمع فيه المسافر بين الظهر والعصر "586" 1/ 285. وأبو
داود في الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين "1206". وابن خزيمة في صحيحه
"966". وابن حبان في صحيحه "1591".
وابن ماجه في إقامة الصلاة باب الجمع بين الصلاتين في
السفر "1070".
ج / 1 ص -290- السفر "فلا يدري أنه كان طويلًا أو
قصيرًا"1 فيجب التوقف فيه، ولا يدعى فيه العموم.
وقال ابن القشيري: أطلق الأصوليون أن العموم والخصوص لا
"يتصوران"* إلا في الأقوال ولا يدخل في الأفعال، أعني في ذواتها، فأما
في أسمائها فقد يتحقق، ولهذا لا يتحقق ادعاء العموم في أفعال النبي صلى الله عليه
وسلم.
قال شمس الأئمة السرخسي: ذكر أبو بكر الجصاص أن العموم
حقيقة في المعاني والأحكام، كما هو في الأسماء والألفاظ، وهو غلط، فإن المذهب
عندنا أنه لا يدخل المعاني حقيقة، وإن كان يوصف به مجازا.
قال القاضي عبد الوهاب في "الإفادة"2: الجمهور على أنه
لا يوصف بالعموم إلا القول فقط، وذهب قوم من أهل العراق: إلى أنه يصح ادعاؤه في
المعاني والأحكام، ومرادهم بذلك: حمل الكلام على عموم الخطاب وإن لم يكن هناك صيغة
"تعم"** كقوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}3 فإنه لما لم يصح
تناول التحريم لها عمها بتحريم جميع التصرفات من الأكل، والبيع واللمس وسائر أنواع
الانتفاع وإن لم يكن للأحكام ذكر في التحريم بعموم ولا خصوص، وكذلك قوله:
"إنما الأعمال بالنيات"4 عام في الإجزاء والكمال "قال"***:
والذي يقوله أكثر الأصوليين والفقهاء: اختصاصه بالقول وإن وصفهم بالجور والعدل
بأنه عام مجاز. انتهى.
فعرفت بما ذكرناه وقوع الخلاف في اتصاف الأحكام بالعموم
كما وقع الخلاف في اتصاف المعاني به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": يتصور.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم أعثر على هذه الرواية فيما بين يدي من كتب الحديث.
2 هو "الإفادة في أصول الفقه"، انظر شجرة
النور الزكية لمحمد مخلوف، ترجمة رقم "266".
3 جزء من الآية "3" من سورة المائدة.
4 تقدم تخريجه في الصفحة "156".
المسألة الرابعة: "الفرق بين العام والمطلق"
اعلم: أن العام عمومه شمولي، وعموم المطلق بدلي، وبهذا
يصح الفرق بينهما، فمن أطلق على المطلق اسم العموم، فهو باعتبار أن موارده غير
منحصرة، فصح إطلاق اسم العموم عليه
ج / 1 ص -291- "من هذه"* الحيثية.
والفرق بين عموم الشمول وعموم البدل، أن عموم الشمول كلي
يحكم فيه على كل فرد، وعموم البدل كلي من حيث إنه لا يمنع تصور مفهومه من وقوع
الشركة فيه، ولكن لا يحكم فيه على كل فرد فرد، بل على فرد شائع في أفراده يتناولها
على سبيل البدل، ولا يتناول أكثر من واحد منها دفعة.
قال في "المحصول": اللفظ الدال على الحقيقة من
حيث هي هي من غير أن يكون فيها دلالة على شيء من قيود تلك الحقيقة، سلبًا كان ذلك
القيد أو إيجابًا فهو المطلق، وأما اللفظ الدال على تلك الحقيقة مع قيد الكثرة فإن
كانت الكثرة كثرة معينة بحيث لا تتناول ما يدل عليها فهو اسم العدد، وإن لم تكن
الكثرة كثرة معينة فهو العام، وبهذا ظهر خطأ من قال المطلق هو الدال على واحد لا
بعينه فإن كونه واحدًا وغير معين قيدان زائدان على الماهية. انتهى.
فيجعل في كلامه هذا معنى المطلق عن التقييد، فلا يصدق
إلا على الحقيقة من حيث هي هي، وهو غير ما عليه الاصطلاح عند أهل هذا الفن وغيرهم
كما عرفت مما قدمنا.
وقد تعرض بعض أهل العلم للفرق بين العموم والعام، فقال:
العام هو اللفظ المتناول، والعموم تناول اللفظ لما يصلح له، فالعموم مصدر، والعام،
فاعل مشتق من هذا المصدر وهما متغايران؛ لأن المصدر والفعل غير الفاعل. قال الزركشي
في "البحر": ومن هذا يظهر الإنكار على عبد الجبار وابن برهان وغيرهما في
قولهم: العموم اللفظ المستغرق، فإن قيل: أرادوا بالمصدر اسم الفاعل، قلنا:
استعماله فيه مجاز، ولا ضرورة لارتكابه مع إمكان الحقيقة.
وفرق القرافي بين الأعم والعام، بأن الأعم إنما يستعمل
في المعنى والعام في اللفظ، فإذا قيل هذا أعم تبادر الذهن للمعنى، وإذا قيل هذا
عام تبادر الذهن للفظ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": باعبتار.
المسألة الخامسة: "صيغ العموم"
ذهب الجمهور إلى العموم له صيغة موضوعة له حقيقة، وهي أسماء
الشرط، والاستفهام والموصولات، والجموع المعرفة تعريف الجنس، والمضافة، واسم الجنس،
والنكرة المنفية، والمفردة المحلي باللام، ولفظ كل، وجميع ونحوها، وسنذكر إن شاء
الله الاستدلال على عموم هذه الصيغ ونحوه ذكرًا مفصلًا.
ج / 1
ص -292- قالوا: لأن الحاجة ماسة إلى الألفاظ العامة
لتعذر جمع الآحاد على المتكلم، فوجب أن يكون لها ألفاظ موضوعة حقيقة؛ لأن الغرض من
وضع اللغة الإعلام والإفهام.
واحتجوا أيضًا بأن السيد إذا قال لعبده لا تضرب أحدًا،
فهم منه العموم حتى لو ضرب واحدًا عد مخالفًا، والتبادر دليل الحقيقة والنكرة في النفي
للعموم حقيقة فللعموم صيغة، وأيضًا لم يزل العلماء يستدلون بمثل {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا}1 و{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}2، وقد كان
الصحابة يحتجون عند حدوث الحادثة "بمثل"* عند الصيغ المذكورة على
العموم، ومنه ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الحمر الأهلية، فقال:
"لم ينزل علي في شأنها إلا هذه الآية الجامعة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}"3
وما ثابت أيضًا من احتجاج عمرو بن العاص لما أنكر عليه ترك الغسل من الجنابة،
والعدول إلى التيمم مع شدة البرد. فقال سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُم}4 فقرر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم5؛ وكم يعد العاد من مثل هذه المواد.
وما أجيب به عن ذلك: بأنه إنما فهم بالقرائن جواب ساقط
لا يلتفت إليه ولا يعول عليه.
وقال محمد بن المنتاب6 من المالكية، ومحمد بن شجاع
البلخي7 من الحنفية: إنه ليس للعموم صيغة تخصه، وأن ما ذكروه من الصيغ موضوع في
الخصوص، وهو أقل الجمع أما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": عند.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "38" من سورة المائدة.
2 جزء من الآية "2" من سورة النور.
3 الآيتان هما "7-8" من سورة الزلزلة. والحديث
أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب الشرب والمساقاة، باب شرب
الناس وسقي الدواب من الأنهار "1/ 2371". مسلم، كتاب الزكاة، باب إثم
مانع الزكاة "987".النسائي في السنن، كتاب الخيل "3565"
"6/ 216". مالك في الموطأ، كتاب الجهاد، باب الترغيب في الجهاد "2/
444". والبيهقي في السنن، كتاب الزكاة، باب من رأى في الخيل صدقة "4/
119". ابن حبان في صحيحه "4672".
4 جزء من الآية "29" من سورة النساء.
5 أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة باب إذ خاف الجنب
البرد أيتيمم "334"، والحاكم في
المستدرك في الطهارة "1/ 177". والبيهقي في السنن في الطهارة باب التيمم
في السفر إذا خاف الموت أو العلة من شدة البرد 1/ 226. وعبد الرزاق في المصنف
"878". وابن حبان في صحيحه "1315".
6 لم أجد ترجمته فيما بين يدي من المصادر.
7 الثلجي، ويقال ابن الثلجي، أبو عبد الله البغدادي
الحنفي، فقيه، أهل العراق في وقته والمقدم في الفقه والحديث وقراءة القرآن مع ورع
وعبادة، توفي سنة ست وستين ومائتين، من آثاره: "المضاربة" "تصحيح
الآثار" "الرد على المشبهة". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/
379"، الجواهر المضية "3/ 173".
ج / 1 ص -293- اثنان، أو ثلاثة، على الخلاف في أقل
الجمع، ولا يقتضي العموم إلا بقرينة.
قال القاضي في "التقريب"، والإمام في
"البرهان": يزعمون أن الصيغ الموضوعة للجمع نصوص في الجمع محتملات فيما
عداه إذا لم تثبت قرينة تقتضي تعديها على أقل المراتب. انتهى.
ولا يخفاك أن قولهم موضوع للخصوص مجرد دعوى ليس عليها
دليل، والحجة قائمة عليهم لغة وشرعًا وعرفًا، وكل من يفهم لغة العرب واستعمالات
الشرع لا يخفى عليه هذا.
وقال جماعة من المرجئة1: أن شيئًا من الصيغ لا يقتضي
العموم بذاته، ولا مع القرائن، بل إنما يكون العموم عند إرادة المتكلم، ونسب هذا
إلى أبي الحسن الأشعري.
قال في "البرهان": نقل مصنفوا المقامات عن أبي الحسن الأشعري
والواقفية2 أنهم لا يثبتون لمعنى العموم صيغة لفظية، وهذا النقل على الإطلاق زلل، فإن
أحدًا لا ينكر إمكان التعبير عن معنى الجمع بترديد ألفاظ تشعر به، كقول القائل: رأيت القوم
واحدًا واحدًا، لم يفتني منهم أحد، وإنما كرر هذه الألفاظ لقطع توهم من يحسبه
خصوصًا إلى غير ذلك، وإنما أنكر الواقفية لفظة واحدة مشعرة بمعنى الجمع. انتهى.
ولا يخفاك: أن هذا المذهب مدفوع بمثل ما دفع به الذي
قبله، وبزيادة على ذلك وهو أن إهمال القرائن المقتضية لكونه عامًّا شاملًا عناد
ومكابرة.
وقال قوم بالوقف، ونقله القاضي في "التقريب"
عن أبي الحسن الأشعري ومعظم المحققين وذهب إليه.
واحتجوا بأنهم سبروا اللغة ووضعها، فلم يجدوا في وضع
اللغة صيغة دالة على العموم، "سواء وردت مطلقة أو مقيدة"* بالقرائن
فإنها لا تشعر بالجمع، بل تبقى على التردد، هذا وإن صح النقل فيه فهو مخصوص عندي
بالتوابع المؤكدة لمعنى الجمع، كقول القائل: رأيت القوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": زيادة وهي: مقيدة بضروب من التأكد
قال في البرهان ومما زال فيه الناقلون عن أبي الحسن ومتبعيه أن الصيغة وإن تقيدت
بالقرائن فإنها...إلخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهم القائلون لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع
الكفر طاعة، وهم فرق متعددة، وأول من قال بالإرجاء هو: غيلان الدمشقي، والإرجاء:
هو تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما في الدنيا، من كونه
من أهل الجنة أو من أهل النار. ا. هـ. الملل والنحل "1/ 139".
2 هم أصحاب مذهب الوقف القائل بعدم الحكم بشيء مما قيل
في الحقيقة: في العموم والخصوص أو الاشتراك. "انظر الإحكام في أصول
الأحكام" للآمدي 2/ 222".
ج / 1 ص -294- أجمعين أكتعين أبصعين1، فلا يظن بذي عقل
أن يتوقف فيها. انتهى.
وقد اختلف الواقفية في محل الوقف على تسعة أقوال:
الأول:
وهو المشهور من مذهب أئمتهم: القول به على الإطلاق من
غير تفصيل.
الثاني:
أن الوقف إنما هو في الوعد والوعيد، دون الأمر والنهي،
حكاه أبو بكر الرازي عن الكرخي. قال: وربما ظن مذهب أبي حنيفة؛ لأنه كان لا يقطع
بوعيد أهل الكبائر من المسلمين، ويجوز أن يغفر الله لهم في الآخرة.
الثالث:
القول بصيغ العموم في الوعد والوعيد، والتوقف فيما عدا
ذلك وهو قول جمهور المرجئة.
الرابع: الوقف في الوعيد بالنسبة إلى عصاة هذه الأمة دون
غيرها.
الخامس:
الوقف في الوعيد دون الوعد، قال القاضي: وفرقوا بينهما
بما يليق بالشطح، والترهات2 دون الحقائق.
السادس:
الفرق بين أن لا يسمع قبل اتصالها به شيئًا من أدلة
السمع وكانت وعدًا أو وعيدًا، فيعلم أن المراد بها للعموم، وإن كان قد سمع قبل
اتصالها به أدلة الشرع، وعلم انقسامها إلى العموم والخصوص، فلا يعلم حينئذ العموم
في الأخبار التي اتصلت به، حكاه القاضي في "مختصر التقريب".
السابع:
الوقف في حق من لم يسمع خطاب الشرع "منه"* صلى
الله عليه وسلم، وأما من سمع منه وعرف تصرفاته فلا وقف فيه، كذا حكاه المازري.
الثامن:
التفصيل بين أن يتقيد بضرب من التأكيد فيكون للعموم، دون
ما إذا لم يتقيد.
التاسع:
أن لفظة المؤمن والكافر حيثما وقعت في الشرع أفادت
العموم دون غيرها، حكاه المازري عن بعض المتأخرين.
وقد علمت اندفاع مذهب الوقف على الإطلاق بعدم توازن
الأدلة التي تمسك بها المختلفون في العموم، بل ليس بيد غير أهل المذهب الأول شيء
مما يصح إطلاق اسم الدليل عليه، فلا وجه للتوقف ولا مقتضى له.
والحاصل: أن كون المذهب الأول هو الحق الذي لا سترة به
ولا شبهة فيه، ظاهر لكل من يفهم فهمًا صحيحًا، ويعقل الحجة، ويعرف مقدارها في
نفسها ومقدار ما يخالفها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي من ألفاظ التوكيد، وقال الحضري في حاشيته: إنه
يؤتى بعد أجمع بأكتع ثم بأبصع، وزاد الكوفيون: ثم بأبقع، وكذا بعد أجمعون وأخواته،
ولا يجوز تقديم بعضها على بعض. ا. هـ. حاشية الخضري على ابن عقيل "2/ 75".
2 مفردها "الترهة": وهي القول الخالي من نفع.
ا. هـ. المعجم الموسيط مادة تره وشطح: الشطح في الفعل أو القول: التباعد
والاسترسال. ا. هـ. المعجم الوسيط مادة شطح.
ج / 1 ص -295- المسألة السادسة: في الاستدلال على أن كل
صيغة من تلك الصيغ للعموم وفيه فروع
الفرع الأول في:
من، وما، وأين، ومتى، للاستفهاز؟
فهذه الصيغ إما أن تكون للعموم فقط، أو للخصوص فقط أو
لهما على سبيل الاشتراك، أو لا لواحد منهما؛ والكل باطل إلا الأول.
أما أنه لا يجوز أن يقال: إنها موضوعة للخصوص فقط فلأنه
لو كان كذلك لما حسن من المجيب أن يجيب بذكر كل العقلاء؛ لأن الجواب يجب أن يكون
مطابقًا للسؤال، لكن لا نزاع في حسن ذلك.
وأما أنه لا يجوز أن يقال بالاشتراك، فلأنه لو كان كذلك
لما حسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة.
مثلًا إذا قال: من عندك؟ فلا بد أن تقول: سألتني عن
الرجال أو النساء، فإذا قال: عن الرجال، فلا بد أن تقول: سألتني عن العرب أو
العجم، فإذا قال: عن العرب، فلا بد أن تقول: عن ربيعة أو مضر، وهكذا إلى أن تأتي
على جميع "التقسيمات"* الممكنة، وذلك لأن اللفظ إما أن يقال إنه
مشترك بين الاستغراق وبين مرتبة معينة في الخصوص، أو بين الاستغراق وبين جميع
المراتب الممكنة في الخصوص، والأول باطل؛ لأن أحدًا لم يقل به، والثاني يقتضي أن
لا يحسن من المجيب ذكر الجواب إلا بعد الاستفهام عن كل تلك الأقسام؛ لأن الجواب لا
بد أن يكون مطابقًا للسؤال، فإذا كان السؤال محتملًا لأمور كثيرة فلو أجاب قبل أن
يعرف ما عنه وقع السؤال لاحتمل أن لا يكون الجواب مطابقًا للسؤال، وذلك غير جائز،
فثبت أن لو صح الاشتراك لوجبت هذه الاستفهامات، لكنها غير واجبة.
أما أولًا: فلأنه لا عام إلا وتحته عام آخر، وإذا كان
كذلك كانت التقسيمات الممكنة غير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الأقسام.
ج / 1 ص -296- متناهية، والسؤال عنها على سبيل التفصيل
محال.
وأما ثانيًا: فإنا نعلم بالضرورة من عادة أهل اللسان
أنهم يستقبحون مثل هذه الاستفهامات.
وأما أنه لا يجوز أن تكون هذه الصيغة غير موضوعة للعموم
والخصوص، فمتفق عليه، فبطلت هذه الثلاثة ولم يبق إلا القسم الأول.
الفرع الثاني:
في صيغة من وما في المجازاة فإنها للعموم، ويدل عليه أن
قول القائل: من دخل داري فأكرمه؛ لو كان مشتركًا بين العموم والخصوص لما حسن من
المخاطب أن يجري على موجب الأمر إلا عند الاستفهام عن جميع الأقسام، لكنه قد حسن
ذلك بدون استفهام فدل على عدم الاشتراك كما سبق في الفرع الذي قبل هذا.
وأيضًا لو قال من دخل داري فأكرمه، حسن منه استثناء كل
واحد من العقلاء من هذا الكلام، وحسن ذلك معلوم من عادة أهل اللغة ضرورة،
والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه، وذلك أنه لا نزاع أن المستثنى
من الجنس "لا بد أن"* يصح دخوله تحت المستثنى منه، فإما أن لا يعتبر
مع الصحة الوجوب أو يعتبر، والأول باطل، وإلا لم يبق فرق بين الاستثناء من الجمع
المنكر كقولك: جاءني فقهاء إلا زيدًا، وبين الاستثناء من الجمع المعرف، كقولك: جاءني الفقهاء إلا
زيدًا، والفرق بينهما معلوم بالضرورة من عادة العرب، فعلمنا أن الاستثناء من الجمع
المعرف يقتضي إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ وهو المطلوب.
الفرع الثالث:
في أن صيغة كل وجميع يفيدان الاستغراق، ويدل على ذلك أنك
إذا قلت: جاءني كل عالم في البلد أو جميع علماء البلد، فإنه يناقضه قولك: ما جاءني
كل عالم في البلد، وما جاءني جميع علماء البلد، ولذلك يستعمل كل واحد من هذين
الكلامين في تكذيب الآخر، والتناقض لا يتحقق إلا إذا أفاد الكل الاستغراق؛ لأن
النفي عن الكل لا يناقض الثبوت في البعض، وأيضًا صيغة الكل والجميع مقابلة لصيغة
البعض، ولولا أن صيغتهما غير محتملة للبعض، لم تكن مقابلة، وأيضًا إذا قال القائل: ضربت كل من في
الدار أو ضربت جميع من في الدار سبق إلى الفهم الاستغراق، ولو كانت صيغة الكل أو
الجمع مشتركة بين الكل والبعض لما كان كذلك؛ لأن اللفظ المشترك لما كان بالنسبة
إلى المفهومين على السوية امتنع أن تكون مبادرة الفهم إلى أحدهما أقوى منها إلى
الآخر."وأيضًا إذا"** قال السيد لعبده: اضرب كل من دخل داري، أو جميع من
دخل داري، فضرب كل واحد ممن دخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه بضرب جميعهم، وله أن يعترض
عليه إذا ترك البعض منهم، ومثله لو قال رجل لرجل: أعتق كل عبيدي، أو جميع عبيدي ثم
مات لم يحصل الامتثال إلا بعتق كل عبد له، ولا يحصل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": وإذا.
ج / 1 ص -297- امتثاله بعتق البعض، وأيضًا لا يشك عارف
بلغة العرب أن بين قول القائل: جاءني رجال، وجاءني كل الرجال، وجميع الرجال، فرقًا
ظاهرًا، وهو دلالة الثاني على الاستغراق دون الأول، وإلا لم يكن بينهما فرق،
ومعلوم أن أهل اللغة إذا أرادوا التعبير عن الاستغراق جاءوا بلفظ كل، وجميع، وما يفيد
مفادهما، ولو لم يكونا للاستغراق لكان استعمالهم لهما عند إرادتهم للاستغراق عبثًا.
قال القاضي عبد الوهاب: ليس بعد كل في كلام العرب كلمة
أعم منها، ولا فرق بين أن تقع مبتدأ بها أو تابعة، تقول: كل امرأة أتزوجها فهي
طالق، وجاءني القوم كلهم، فيفيد أن المؤكد به عام وهي تشمل العقلاء، وغيرهم
والمذكر والمؤنث، والمفرد والمثنى والمجموع فلذلك كانت أقوى صيغ العموم، وتكون في
الجميع بلفظ واحد، تقول كل النساء، وكل القوم، وكل رجل، وكل امرأة.
قال سيبويه: معنى قولهم: كل رجل: كل رجال، فأقاموا رجلًا
مقام رجال؛ لأن رجلًا شائع في الجنس، والرجال الجنس، ولا يؤكد بها المثنى استغناء
عنه بكل، ولا يؤكد بها إلا ذو أجزاء، ولا يقال: جاء زيد كله. انتهى.
وقد ذكر علماء النحو والبيان الفرق بين أن يتقدم النفي
على كل، وبين أن تتقدم هي عليه، فإذا تقدمت على حرف النفي نحو: كل القوم لم يقم أفادت
التنصيص على انتفاء قيام كل فرد فرد، وإن تقدم النفي عليها مثل: لم يقم كل القوم
لم تدل إلا على نفي المجموع، وذلك بصدق بانتفاء القيام عن بعضهم، ويسمى الأول عموم
السلب والثاني سلب العموم، من جهة أن الأول يحكم فيه بالسلب عن كل فرد، والثاني لم
يفد العموم في حق كل أحد إنما أفاد نفي الحكم عن بعضهم.
قال "القرافي"*: وهذا شيء اختصت به كل من بين
سائر صيغ العموم، قال: وهذه القاعدة متفق عليها عند أرباب البيان، وأصلها قوله صلى
الله عليه وسلم: "كل ذلك لم يكن" لما قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم
نسيت1. انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الفراء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، كتاب الأذان، باب هل
يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس "714". مسلم، كتاب المساجد ومواضع
الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له "573". والنسائي في السنن، كتاب
السهو، باب ما يفعل من سلم في ركعتين ناسيًا وتكلم "1225" "3/
22". الترمذي، كتاب الصلاة باب ما جاء في الرجل يسلم في الركعتين من الظهر
والعصر "399". مالك في الموطأ، كتاب الصلاة، باب ما يفعل من سلم من
ركعتين ساهيًا "1/ 93". أبو داود، كتاب الصلاة، باب السهو في السجدتين
"1008"، وابن حبان في الصحيح "2249".
ج / 1
ص -298- وإذا عرفت هذا في معنى كل فقد تقرر أن لفظ جميع
هو بمعنى كل الأفرادي، وهو معنى قولهم: إنها للعموم الإحاطي، وقيل: يفترقان من جهة
كون دلالة على كل فرد بطريق النصوصية بخلاف جميع.
وفرقت الحنفية بينهما بأن كل تعم الأشياء على سبيل
الانفراد، وجميع تعمها على سبيل الاجتماع، وقد روي أن الزجاج1 حكى هذا الفرق عن
المبرد2.
الفرع الرابع:
لفظ أي فإنها من جملة صيغ العموم، إذا كانت شريطة أو
استفهامية، كقوله تعالى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنى}3 وقوله
تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا}4؛ وقد ذكرها في صيغ العموم الأستاذ أبو
منصور البغدادي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وإمام الحرمين الجويني، وابن الصباغ،
وسليم الرازي، والقاضيان أبو بكر وعبد الوهاب والرازي والآمدي والصفي الهندي
وغيرهم، قالوا: وتصلح للعاقل وغيره.
قال القاضي عبد الوهاب في "التخليص"5: إلا
أنها تتناول على جهة الانفراد دون الاستغراق، ولهذا إذا قلت: أي الرجلين عندك، لم
يجب إلا بذكر واحد. قال ابن السمعاني في "القواطع"6: وأما كلمة أي فقيل:
كالنكرة لأنها تصحبها لفظًا ومعنى، تقول: أي رجل فعل هذا وأي دار دخل؟ قال الله
تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} وهي في المعنى نكرة لأن المراد بها
واحد منهم. انتهى.
قال الزركشي في "البحر": وحاصل كلامهم: أنها
للاستغراق البدلي لا الشمولي، لكن ظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق أنها للعموم
والشمولي، وتوسع القرافي فعدى عمومها إلى الموصولة والموصوفة في النداء، ومنهم من
لم يعده كالغزالي وابن القشيري لأجل قول النحاة: إنها بمعنى بعض إذا أضيفت إلى
معرفة، وقول الفقهاء أي وقت دخلت الدار فأنت طالق لا يتكرر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو إبراهيم بن السيري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج، عالم
بالنحو واللغة كان في فتوته يخرط الزجاج، مال إلى النحو فعلمه المبرد، توفي سنة
إحدى عشرة وثلاثمائة، من آثاره: "معاني القرآن" "الاشتقاق"
"الأمالي" في الأدب واللغة. ا. هـ. الأعلام "1/ 40"، سير
أعلام النبلاء "14/ 360"، معجم المؤلفين "1/ 33"، شذرات الذهب
"2/ 259".
2 هو محمد بن يزيد، أبو العباس، إمام النحو، البصري،
النحوي، الأخباري، أخذ عن المازني والسجستاني، من آثاره: "الكامل في
الأدب"، توفي سنة ست وثمانين ومائتين. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/
576"، شذرات الذهب "2/ 190".
3 جزء من الآية "110" من سورة الإسراء.
4 جزء من الآية "38" من سورة النمل.
5 هو "التخليص في أصول الفقه"، انظر شجرة
النور الزكية لمحمد مخلوف، ترجمة رقم "266".
6 واسمه: "القواطع في اصول الفقه"، لأبي المظفر،
منصور بن محمد، السمعاني، المتوفى سنة تسع وثمانين وأربعمائة. ا. هـ. كشف الظنون
"2/ 1357".
ج / 1 ص -299- الطلاق بتكرار الدخول كما في كلما.
والحق: أن عدم التكرار لا ينافي العموم، وكون مدلولها
أحد الشيئين قدر مشترك بينهما وبين بقية الصيغ في الاستفهام.
وقال صاحب "اللباب"1 من الحنفية، وأبو زيد في
"التقويم": كلمة أي نكرة لا تقتضي العموم بنفسها إلا بقرينة، ألا ترى
إلى قوله: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} ولم يقل يأتوني، لو قال لغيره: أي
عبيدي ضربته فهو حر فضربهم لم يعتق إلا واحد، فإن وصفها بصفة عامة كانت للعموم
بقوله: أي عبيدي ضربك فهو حر، فضربوه جميعًا عتقوا، لعموم فعل الضرب، وصرح إلكيا
الطبري بأنها ليست من صيغ العموم فقال: وأما أي فهي اسم مفرد يتناول جزءًا من
الجملة المضافة، قال الله سبحانه وتعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} فجاء
به واحد وقال: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}2، وصرح القاضي حسين، والشاشي أنه لا
فرق بين الصورتين المذكورتين، وأن العبيد يعتقون جميعًا فيهما وجزم ابن الهمام في
"التحرير"3 بأنها في الشرط والاستفهام ككل مع النكرة، وكالبعض مع
المعرفة وهو المناسب لما "قرره"* النحاة فيها فإن الفرق بين قول القائل:
أي رجل تضرب اضرب، وبين أي "الرجلين"** تضرب اضرب ظاهر لا يخفى.
الفرع الخامس:
النكرة في النفي فإنها تعم وذلك لوجهين:
الأول: أن الأنسان إذا قال: أكلت اليوم شيئا، فمن أراد
تكذيبه قال: ما أكلت اليوم شيئا، فذكرهم هذا النفي عن تكذيب ذلك الإثبات يدل على
اتفاقهم على كونه مناقضًا له فلو كان قوله: ما أكلت اليوم شيئًا لا يقتضي العموم لما
تناقضا؛ لأن السلب الجزئي لا يناقض الإيجاب الجزئي.
الوجه الثاني:
أنها لو لم تكن النكرة في النفي للعموم لما كان قولنا:
لا إله إلا الله نفيًا لجميع الآلهة سوى الله سبحانه وتعالى، فتقرر بهذا أن النكرة
المنفية بما أو لن أو لم أو ليس أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": جوزه.
** في "أ": الرجل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الإمام، جلال الدين مطهر بن الحسن، ويقال المطهر بن
الحسن اليزدي، أبو سعد، المتوفى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة هـ، وله شرح على مختصر
القدوري "الكتاب" سماه "اللباب"، وهو في مجلدين، ا. هـ.
كشف الظنون "2/ 1632". وهو مطبوع.
2 جزء من الآية "7" من سورة الكهف.
3 واسمه "التحرير" في أصول "الفقه"
للعلامة كمال الدين الشهير بابن الهمام، المتوفى سنة إحدى وستين وثمانمائة هـ، وهو
مجلد، رتب على مقدمة وثلاث مقالات، جمع فيه علمًا جمًّا وله شروح كثيرة. ا. هـ.
كشف الظنون "1/ 358".
ج / 1 ص -300- لا مفيدة للعموم، وسواء دخل حرف النفي على
فعل نحو: ما رأيت رجلًا، أو على الاسم نحو: لا رجل في الدار، ونحو ما أحد قائمًا
وما قام أحد.
وقال القاضي عبد الوهاب في "الإفادة": قد فرق
أهل اللغة بين النفي في قوله: ما جاءني أحد، وما جاءني من أحد، وبين دخوله على
النكرة من أسماء الجنس، فيما جاءني رجل، وما جاءني من رجل، فرأوا تساوي اللفظين في
الأول، وأن من زائدة فيه، وافتراق المعنى في الثاني؛ لأن قوله: ما جاءني رجل يصلح
أن يراد به الكل، وأن يراد به رجل واحد، فإذا دخلت من أخلصت النفي للاستغراق.
وقال إمام الحرمين الجويني: هي للعموم ظاهرًا عند تقدير
من، فإن دخلت من كانت نصًّا، والمشهور في علم النحو الخلاف بين سيبويه والمبرد،
فسيبويه قال: إن العموم مستفاد من النفي قبل دخول من، والمبرد قال: إنه مستفاد من
لفظ من؛ والحق ما قاله سيبويه، وكون من تفيد النصوصية بدخولها، لا ينافي الظهور الكائن
قبل دخولها.
قال أبو حيان1: مذهب سيبويه أن ما جاءني من أحد، وما
جاءني من رجل؛ من في الموضعين لتأكيد استغراق الجنس، وهذا هو الصحيح. انتهى.
ولو لم تكن من صيغ العموم قبل دخول من لما كان نحو قوله
تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة}2 و{لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}3
مقتضيًا للعموم، وقد فرق بعضهم بين حروف النفي الداخلة على النكرة بفرق لا طائل
تحته فلا نطول بذكره.
واعلم: أن حكم النكرة الواقعة في سياق النهي حكم النكرة
الواقعة في سياق النفي، وما خرج عن ذلك من الصور فهو لنقل العرف له عن الوضع
اللغوي.
الفرع السادس:
لفظ معشر ومعاشر وعامة، وكافة وقاطبة، وسائر من صيغ
العموم في مثل قوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن يوسف بن علي، الغرناطي، الأندلسي، أثير
الدين، أبو حيان، من كبار العلماء بالعربية والتفسير والحديث والتراجم واللغات،
ولد سنة أربع وخمسين وستمائة هـ، وتوفي سنة خمس وأربعين وسبعمائة هـ في القاهرة،
بعد أن كف بصره، من آثاره: "البحر المحيط - طبقات نحاة الأندلس". ا. هـ.
شذرات الذهب "6/ 145" إيضاح المكنون "1/ 24". ذيل تذكرة
الحفاظ "23" معجم المؤلفين "12/ 130".
2 جزء من الآية "3" من سورة سبأ.
3 جزء من الآية "48" من سورة البقرة.
ج / 1 ص -301- {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْس}1
و"نحن معاشر الأنبياء لا نورث"2 وجاءني القوم عامة، {وَقَاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّة} و"ارتدت العرب قاطبة"4 وجاءني سائر الناس إن كانت
مأخوذة من سور البلد وهو المحيط بها كما قاله الجوهري5، وإن كانت من أسأر بمعنى
أبقى فلا تعم.
وقد حكى الأزهري6 الاتفاق على أنها مأخوذة من المعنى
الثاني، وغلطوا الجوهري.
وأجيب عن الأزهري بأنه قد وافق الجوهري على ذلك السيرافي
في "شرح كتاب سيبويه"7 وأبو منصور الجواليقي في شرح أدب الكاتب"8
وابن بري وغيرهم والظاهر أنها للعموم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "33" من سورة الرحمن.
2 أخرجه البخاري من حديث عائشة في فضائل الصحابة، باب
مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم "3711". ومسلم، كتاب
الاجتهاد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث، ما تركنا فهو
صدقة" "1759". وأبو داود، كتاب الخراج والإمارة، باب صفايا رسول
الله صلى الله عليه وسلم "2969".
والبيهقي، كتاب قسم الفيء والغنيمة "6/ 300".
وأحمد في والإمارة "1/ 9".
وابن حبان في صحيحه "4823".
3 جزء من الآية "36" من سورة التوبة.
4 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب
الإيمان باب كفر المرتدين بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم
"32". والبخاري في الزكاة باب وجوب الزكاة "1399"، وأبو داود
في الزكاة باب وجوبها "1556".
والترمذي في الإيمان باب ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا لا إله إلا الله "2607". والنسائي في الزكاة باب مانع الزكاة
"2442" "5/ 14".
5 هو إسماعيل بن حماد، أبو نصر بن حماد التركي،
الأتراري، أحد من يضرب به المثل في ضبط اللغة، وهو أول من حاول الطيران ومات في
سبيله، سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، من آثاره: "الصحاح". ا. هـ. سير
أعلام النبلاء "17/ 80"
الأعلام "1/ 313"، شذرات الذهب "3/ 142".
6 هو محمد بن أحمد بن الأزهر بن طلحة، الأزهري، أبو
منصور، العلامة اللغوي، الشافعي، كان رأسًا في اللغة والفقه، ثقة، ثبتًا، دينًا،
من آثاره: "تهذيب اللغة" "التفسير" "تفسير ألفاظ
المزني" "علل القراءات"، توفي سنة سبعين وثلاثمائة، ا. هـ. سير
أعلام النبلاء "16/ 315"، هدية العارفين "2/ 49"، شذرات الذهب
"3/ 72".
7 هو الحسن بن عبد الله بن المرزبان، أبو سعيد، العلامة،
إمام النحو، صاحب التصانيف، من آثاره: "ألفات القطع والوصل"
"الإقناع" "أخبار النحاة".
وله كتاب يسمى: "شرح كتاب سيبويه"، وهو شرح
أعجب المعاصرين له، حتى حسده الفارسي لظهور مزاياه على تعليقته التي علقها عليه.
ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 247"، كشف الظنون "2/ 1427"،
شذرات الذهب "3/ 65".
8 هو موهوب بن أحمد بن محمد، الإمام العلامة، اللغوي
النحوي أبو منصور، إمام الخليفة المقتفى، ولد سنة ست وستين وأربعمائة هـ، من
آثاره: "المعرب" و"التكملة في لحن العامة"، توفي سنة أربعين وخمسمائة
هـ.
وله كتاب:
"شرح أدب الكاتب"، طبع بمصر سنة
"1350" هـ مصدرًا بمقدمة بليغة وافية لشيخ الأدب مصطفى صادق الرافعي،
وأدب الكاتب لأبي محمد عبد الله بن مسلم، المعروف، بابن قتيبة النحوي، المتوفى سنة
سبعين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "20/ 89" هدية العارفين
"2/ 483"، كشف الظنون "1/ 48".
9 هو عبد الله بن بري بن عبد الجبار بن بري، المقدسي، ثم
البصري، النحوي، الشافعي، أبو محمد، ولد سنة تسع وتسعين وأربعمائة هـ، من آثاره:
"جواب المسائل العشر" "حواش على الصحاح" توفي سنة اثنتين
وثمانيين وخمسمائة هـ.ا. هـ. سير أعلام النبلاء "21/ 137" الكامل لابن الأثير
"9/ 175".
ج / 1 ص -302-
وإن كانت بمعنى الباقي؛ لأن المراد بها شمول ما
"دلت"* عليه سواء كانت بمعنى الجميع أو الباقي كما نقول: اللهم اغفر لي
ولسائر المسلمين، وخالف في ذلك القرافي والقاضي عبد الوهاب.
الفرع السابع:
الألف واللام الحرفية لا الاسمية، تفيد العموم إذا دخلت
على الجمع، سواء كان سالمًا أو مكسرًا، وسواء كان من جموع القلة أو الكثرة، وكذا
إذا دخلت على اسم الجمع كركب وصحب، وقوم ورهط، وكذا إذا دخلت على اسم الجنس
وقد اختلف في اقتضائها للعموم إذا دخلت على هذه
المذكورات على مذاهب ثلاثة:
الأول: أنه إذا كان هناك معهود حمل على العهد، فإن لم
يكن حملت على الاستغراق، واليه ذهب جمهور أهل العلم.
الثاني: أنها تحمل على الاستغراق إلا أن يقوم دليل على
العهد.
الثالث: أنها تحمل عند فقد العهد على الجنس من غير
استغراق، وحكاه صاحب "الميزان"1، عن أبي علي الفارسي وأبي هاشم.
والراجح المذهب الأول. وقال ابن الصباغ هو إجماع الصحابة.
قال في "المحصول" مستدلًّا على هذا المذهب:
لنا وجوه.
الأول: أن الأنصار لما طلبوا الإمامة احتج عليهم أبو بكر
بقوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش"2، والأنصار سلموا تلك
الحجة، ولو لم يدل الجمع المعرف بلام الجنس على الاستغراق لما صحت تلك الدلالة؛
لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش"، لو كان معناه بعض
الأئمة من قريش لوجب أن لا ينافي وجود إمام من قوم آخرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": دخلت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صاحب "ميزان الأصول في نتائج العقول" في
أصول الفقه، هو الشيخ الإمام علاء الدين، شمس النظر، أبو بكر محمد بن أحمد
السمرقندي، الحنفي، الأصولي، المتوفى سنة ثلاثة وخمسين وخمسمائة. ا. هـ. كشف
الظنون "2/ 1916".
2 أخرجه البيهقي من حديث أنس بن مالك، كتاب قتال أهل
البغي، باب الأئمة من قريش "8/ 144". وأحمد في مسنده "3/
183". والحاكم في المستدرك "4/ 75"، وسكت عنه الذهبي. وأبو يعلى في مسنده "3644".
والطبراني في الأوسط "6606".
ج / 1 ص -303- فال: الوجه الثاني: أن هذا الجمع يؤكد بما
يقتضي الاستغراق، فوجب أن يفيد في أصله الاستغراق، أما أنه يؤكد فكقوله تعالى:
{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون}1 وأما أنه بعد التأكيد يقتضي الاستغراق
فبالإجماع.
"الوجه الثالث"*: الألف واللام إذا دخلا في
الاسم صار "بهما"** معرفة كما نقل عن أهل اللغة فيجب صرفه إلى ما به
تحصل المعرفة، وإنما تحصل المعرفة عند إطلاقه بالصرف إلى الكل معلوم للمخاطب، فأما
الصرف إلى ما دون فإنه لا يفيد المعرفة؛ لأن بعض المجموع ليس أولى من بعض فكان
مجهولًا.
قال: الوجه الرابع: أنه يصح استثناء أي واحد كان منه
"ذلك"***.
وذلك يفيد العموم على ما تقدم. وممن حكى إجماع الصحابة
على إفادة هذا التعريف للعموم ابن الهمام في "التحرير"، وحكى أيضًا
إجماع أهل اللغة على صحة الاستثناء.
قال الزركشي في "البحر": وظاهر كلام الأصوليين
أنها تحمل على الاستغراق لعموم فائدته ولدلالة اللفظ عليه، ونقله ابن القشيري عن المعظم،
وصاحب "الميزان" عن أبي بكر السراج النحوي2، فقال: إذا تعارض جهة العهد
والجنس يصرف إلى الجنس، وهذا هو الذي أورده الماوردي والروياني في أول كتاب البيع
قالا لأن الجنس يدخل تحته العهد، والعهد لا يدخل تحت الجنس، وروي عن إمام الحرمين
الجويني أنه مجمل؛ لأن عمومه ليس من صيغته، بل من قرينة نفي المعهود فتعين الجنس؛
لأنه لا يخرج عنها وهو قول ابن القشيري.
قال إلكيا الهراس3: إنه الصحيح؛ لأن الألف واللام
للتعريف وليست إحدى جهتي التعريف بأولى من الثانية، فيكتسب اللفظ جهة الإجمال
لاستوائه بالنسبة إليهما. انتهى.
والكلام في هذا البحث يطول جدًّا فقد تكلم فيه أهل الأصول،
وأهل النحو، وأهل البيان، بما هو معروف، وليس المراد هنا إلا بيان ما هو الحق
وتعيين الراجح من المرجوح، ومن أمعن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما قوسين ساقط من "أ". ومكانها: أما أنه بعد
التأكيد وهو تكرار.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الآية "30" من سورة الحجر و"73"
من سورة ص.
2 هو: محمد بن السري، البغدادي، النحوي، أبو بكر، صاحب
المبرد، انتهى إليه علم اللسان، من آثاره: "أصول العربية" "شرح
سيبويه" "احتجاج القراء"
وغيرها، توفي سنة ست عشرة وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير
أعلام النبلاء "14/
483"،
شذرات الذهب "2/ 273".
3 هو إليكا الطبري المتقدم ترجمته في الصفحة "98".
ج / 1 ص -304- النظر وجود التأمل علم أن الحق الحمل على
الاستغراق، إلا أن يوجد هناك ما يقتضي العهد، وهو ظاهر في تعريف الجنس.
وأما تعريف الجمع مطلقًا واسم الجمع فكذلك أيضًا؛ لأن
التعريف يهدم الجمعية ويصيرها للجنس، وهذا يدفع ما قيل من أن استغراق المفرد أشمل.
الفرع الثامن:
تعريف الإضافة: وهو من مقتضيات العموم، كالألف واللام،
من غير فرق بين كون المضاف جمعًا نحو عبيد زيد أو اسم جمع، نحو جاءني ركب المدينة،
أو اسم جنس نحو {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}1، ومنعت العراق
درهمها ودينارها، ومنعت الشام قفيزها، وصاعها، وقد صرح الرازي: بأن المفرد المضاف
يعم مع اختياره بأن المعرف بالألف واللام لا يعم.
قال الصفي الهندي في "النهاية"2: وكون المفرد
المضاف للعموم وإن لم يكن منصوصًا "لهم"*، لكن نفيه التسوية بين الإضافة ولام التعريف يقتضي
العموم.
والحق: أن عموم الإضافة أقوى، ولهذا لو حلف لا يشرب
الماء حنث بشرب القليل منه، لعدم تناهي أفراده، ولو حلف لا يشرب ماء البحر لا يحنث
إلا بكله. انتهى.
وفي هذا الفرق نظر، ولا ينافي إفادة إضافة اسم الجنس
للعموم ما وقع من الخلاف فيمن قال: زوجتي طالق، وله أربع زوجات، فإن من قال: إنها
لا تطلق إلا واحدة استدل بأن العرف قد خص هذه الصورة وأمثالها عن الموضوع اللغوي،
على أنه قد حكى الروياني في "البحر" عن ابن عباس وأحمد بن حنبل أنها
تطلق الأربع جميعًا، بخلاف ما عدا هذه الصورة وأمثالها، فإنه يحمل على العموم، كما
لو قال: مالي صدقة، ومن هذا قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُم}3 وقوله صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه
الحل ميتته"4.
الفرع التاسع:
الأسماء الموصولة، كالذي، والتي، والذين، واللات، وذو
الطائية5،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "34" من سورة إبراهيم.
2 واسمه: "نهاية الوصول إلى علم الأصول"، لصفي
الدين محمد بن عبد الرحيم الهندي، وهو كتاب حسن جدًّا، ذكره السبكي، ا. هـ. كشف
الظنون "2/ 1991".
3 جزء من الآية "187" من سورة البقرة.
4 تقدم تخريجه في الصفحة "155".
5 وهي خاصة ببني طيئ، والمشهور بناؤها، وقد تعرب، كقوله:
فحسبي من ذي عندهم ما كفانيا. ا. هـ. أوضح المسالك "1/ 159".
ج / 1 ص -305- وجمعها، وقد صرح القرافي والقاضي عبد
الوهاب بأنها من صيغ العموم.
وقال ابن السمعاني: جميع الأسماء المبهمة تقتضي العموم.
وقال أصحاب الأشعري: إنها تجري في بابها مجرى اسم منكور
"كقولنا: رجل، ويمكن أن يكون زيدًا أو عمرًا، فلا يصار إلى أحدهما إلا بدليل،
والإبهام لا يقتضى الاستغراق، بل يحتاج إلى قرينة، والحق أنها من صيغ
العموم"* كقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ
وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك}1 {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنى}2، {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا}3، وما
خرج من ذلك فلقرينة تخصصه عن موضوعه اللغوي.
الفرع العاشر:
نفي المساواة بين الشيئين كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي
أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّة}4، فذهب جمهور الشافعية وطوائف من
الأصوليين والفقهاء إلى أنه يقتضي العموم.
وذهبت الحنفية والمعتزلة و الغزالي والرازي إلى أنه ليس
بعام.
استدل الأولون بأنه نكرة في سياق النفي؛ لأن الجملة نكرة
باتفاق النحاة، وكذلك توصف بها النكرات دون المعارف.
واستدل الرازي في "المحصول" للآخرين بوجهين:
الأول: أن نفي الاستواء مطلقًا -أي: في الجملة- أعم من
نفي الاستواء من كل الوجوه، أو من بعضها والدال على القدر المشترك بين الأمرين لا
أشعار فيه بهما فلا يلزم من نفيه نفيهما.
الثاني: أنه إما أن يكفي في إطلاق لفظ المساواة الاستواء
من بعض الوجوه، أو لا بد فيه من الاستواء من كل الوجوه، والأول باطل، وإلا لوجوب
إطلاق لفظ المساواة على جميع الأشياء؛ لأن كل شيئين لا بد أن يستويا في بعض
الأمور، من كونهما معلومين، وموجودين، ومذكورين، وفي سلب ما عداهما عنهما، ومتى
صدق عليه المساوي وجب أن يكذب عليه غير المساوي؛ لأنهما في العرف كالمتناقضين، فإن
من قال: هذا يساوي ذاك، فمن أراد تكذيبه قال: لا يساويه، والمناقضان لا يصدقان
معًا فوجب أن لا يصدق على شيئين ألبتة؛ لأنهما متساويان، وغير متساويين، ولما كان
ذلك باطلًا علمنا أنه يعتبر في المساواة المساواة من كل الوجوه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "4" من سورة البقرة.
2 جزء من الآية "101" من سورة الأنبياء.
3 جزء من الآية "10" من سورة النساء.
4 جزء من الآية "20" من سورة الحشر.
ج / 1 ص -306- وحينئذ يكفي في نفي المساواة نفي الاستواء
من بعض الوجوه؛ لأن نقيض الكلي هو الجزئي، فإذا قلنا لا يستويان لا يفيد نفي
الاستواء من جميع الوجوه.
وأجيب عن الدليل الأول: بأن عدم إشعار الأعم بالأخص إنما
هو في طريق الإثبات لا في طريق النفي، فإن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، ولولا ذلك
لجاز مثله في كل نفي، فلا يعم نفي أبدًا إذ يقال في لا رجل: رجل أعم من الرجل
بصيغة العموم، فلا يشعر به وهو خلاف ما ثبت بالدليل.
وأجيب عن الدليل الثاني: بأنه إذا قيل: لا مساواة فإنما
يراد نفي مساواة يصح انتفاؤها وإن كان ظاهرًا في العموم، وهو من قبيل ما يخصصه
العقل نحو قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء}1 أي خالق كل شيء يخلق.
والحاصل: أن مرجع الخلاف إلى أن المساواة في الإثبات هل
مدلولها لغة المشاركة في كل الوجوه حتى يكون اللفظ شاملًا أو مدلولها المساواة في
بعض الوجوه، حتى يصدق بأي وجه، فإن قلنا بالأول لم يكن النفي للعموم؛ لأن نقيض الكلي
الموجب جزئي سالب، وإن قلنا بالثاني كان للعموم؛ لأن نقيض الجزئي الموجب كلي سالب.
وخلاصة هذا أن صيغة "لا يستوي"* الاستواء إما
لعموم سلب التسوية، أو لسلب عموم التسوية، فعلى الأول يمتنع ثبوت شيء من أفرادها، وعلى
الثاني ثبوت البعض، وهذا يقتضى ترجيح المذهب الثاني؛ لأن حرف النفي سابق وهو يفيد
سلب العموم لا عموم ا لسلب، وأما الآية التى وقع المثال بها فقد صرح فيها بما يدل
على أن النفي باعتبار بعض الأمور وذلك قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ
الْفَائِزُونَ}2 فإن ذلك يفيد أنهما لا يستويان في الفوز بالجنة، وقد رجح الصفي
الهندي بأن نفي الاستواء من باب المجمل من المتواطئ لا من باب العام، وتقدمه إلى
ترجيح ا لإجمال إليكا الطبري.
الفرع الحادي عشر:
إذا وقع الفعل في سياق النفي أو الشرط، فإن كان غير متعد
فهل يكون النفي له نفيًا لمصدره، وهو نكرة فيقتضي العموم أم لا؟ حكى القرافي عن
الشافعية والمالكية أنه يعم، وقال: إن القاضي عبد الوهاب في "الإفادة"
نص على ذلك، وإن كان متعديًا ولم يصرح بمفعوله نحو: لا أكلت، وإن أكلت، ولا كان له
دلالة على مفعول معين، فذهبت الشافعية والمالكية وأبو يوسف وغيرهم إلى أنه يعم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الاستواء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "62" من سورة الزمر.
2 جزء من الآية "20" من سورة الحشر.
ج / 1 ص -307- وقال أبو حنيفة: لا يعم واختاره القرطبي
من المالكية، والرازي من الشافعية، وجعله القرطبي من باب الأفعال اللازمة نحو:
يعطي ويمنع فلا يدل على مفعول لا بالخصوص ولا بالعموم.
قال الأصفهاني: لا فرق بين المتعدي واللازم، والخلاف
فيهما على السواء.
وظاهر كلام إمام الحرمين الجويني، والغزالي، والآمدي
والصفي الهندي، أن الخلاف إنما هو في الفعل المتعدي إذا وقع في سياق النفي، أو
الشرط هل يعم مفاعيله أم لا، لا في الفعل اللازم فإنه لا يعم.
والذي ينبغي التعويل عليه أنه لا فرق بينهما في نفس
مصدريهما، فيكون النفي لهما نفيًا لهما، ولا فرق بينهما وبين وقوع النكرة في سياق
النفي، وأما فيما عدا المصدر فالفعل المتعدي لا بد له من مفعول به فحذفه مشعر
بالتعميم كما تقرر في علم المعاني.
وذكر القرطبي أن القائلين بتعميمه قالوا لا يدل على جميع
ما يمكن أن يكون مفعولًا على جهة الجمع، بل على جهة البدل. قال: وهؤلاء أخذوا الماهية
مقيدة، ولا ينبغي لأبي حنيفة أن ينازع في ذلك.
الفرع الثاني عشر:
الأمر للجميع بصيغة الجمع كقوله: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكَاة}1 عمومه وخصوصه يكون باعتبار ما يرجع إليه، "والدليل على
ذلك"* أن السيد إذا أشار إلى جماعة من غلمانه وقال: قوموا، فمن تخلف عن القيام منهم
استحق الذم، وذلك يدل على أن اللفظ للشمول، فلا يجوز أن يضاف ذلك إلى القرينة.
قال في "المحصول": لأن تلك القرينة إن كانت من
لوازم هذه الصيغة فقد حصل مرادنا، وإلا فلنفرض هذه الصيغة مجردة عنها ويعود الكلام. انتهى.
وممن صرح أن عموم صيغة الجمع في الأمر وخصوصها يكون
باعتبار مرجعها الإمام الرازي في "المحصول"، والصفي الهندي في
"النهاية"، وذكر القاضي عبد الجبار عن الشيخ أبي عبد الله البصري، أن قول
القائل افعلوا يحمل على الاستغراق، وقال أبو الحسين البصري: الأولى أن يصرف إلى المخاطبين،
سواء كانوا ثلاثة أو أكثر، وأطلق سليم الرازي في "التقريب"2 أن المطلقات
لا عموم فيها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": يدل عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "110" من سورة البقرة.
2 واسمه "التقريب في الفروع"، للإمام أبي
الفتح، سليم بن أيوب الرازي، الذي تقدمت ترجمته "110" ا. هـ. كشف الظنون
"1/ 446".
ج / 1 ص -308- فائدة: قال إمام الحرمين الجويني و ابن
القشيري: إن أعلى صيغ العموم أسماء الشرط، والنكرة في النفي، وادعيا القطع بوضع
ذلك للعموم، وصرح الرازي في "المحصول" أن أعلاها أسماء الشرط،
والاستفهام ثم النكرة المنفية لدلالتها بالقرينة لا بالوضع، وعكس الصفي الهندي
فقدم النكرة المنفية على الكل، وقال ابن السمعاني: أبين وجوه العموم، وألفاظ
"الجموع"* ثم اسم الجنس المعرف باللام، وظاهره أن الإضافة دون ذلك في
المرتبة، وعكس الإمام الرازي في "تفسيره"1 فقال: الإضافة أدل على العموم
من الألف واللام، والنكرة المنفية أدل على العموم منها إذا كانت في سياق النفي
والتي بمن أدل من المجردة عنها قال أبو علي الفارسي: إن مجيء أسماء الأجناس معرفة بالألف
واللام أكثر من مجيئها مضافة.
وقال إلكيا الطبري في "التلويح"2: ألفاظ
العموم أربعة:
أحدها: عام بصيغته ومعناه كالرجال والنساء.
والثاني: عام بمعناه لا بصيغته كالرهط ونحوه من أسماء الأجناس،
قال: وهذا لا خلاف فيه.
والثالث: ألفاظ مبهمة نحو ما ومن، وهذا يعم كل أحد.
والرابع: النكرة في سياق النفي نحو لم أر رجلا، وذلك يعم
لضرورة صحة الكلام، وتحقيق غرض المتكلم من الإفهام إلا أنه لا يتناول الجميع
بصيغته.
فالعموم فيه من القرينة فلهذا لم يختلفوا فيه، وقد
قدمنا3 في الفرع الثالث ما يفيد أن لفظ كل أقوى صيغ العموم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الجمع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه: "مفاتيح الغيب" للإمام فخر الدين
الرازي، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "19"، وهو المعروف "بالتفسير
الكبير"، قال ابن خلكان: جمع فيه كل غريب، وهو كبير جدًّا، لكنه لم يكمله. ا.
هـ. كشف الظنون "2/ 1756".
2 لم نجد أحدًا ممن ترجم لإلكيا الهراس ذكر له هذا
الكتاب.
2 انظر صفحة "296".
المسألة السابعة: في عموم الجمع المنكر للقلة أو للكثرة
قال جمهور أهل الأصول: إن جمع القلة المنكر ليس بعام
لظهوره في العشرة، فما دونها؛ وأما "جموع"* الكثرة المنكرة، فذهب جمهور
المحققين إلى أنه ليس بعام، وخالف في ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": جمع.
ج / 1 ص -309- الجبائي، وبعض الحنفية، و ابن حزم، وحكاه
ابن برهان عن المعتزلة، واختاره البزدوي وابن الساعاتي1 وهو أحد وجهي الشافعي، كما
حكاه الشيخ أبو حامد الإسفراييني والشيخ أبو إسحاق الشيرازي "وسليم الرازي"*.
احتج الجمهور: بأن الجمع المنكر لا يتبادر منه عند
إطلاقه عن قرينة العموم، نحو رأيت رجالًا، استغراق الرجال، كما أن رجلًا عند
الإطلاق لا يتبادر منه الاستغراق لإفراد مفهومه، ولو كان للعموم لتبادر منه ذلك
فليس الجمع المنكر عامًّا كما أن رجلًا "كذلك"**.
قال في "المحصول" لنا أن لفظ رجال يمكن نعته
بأي جمع شئنا، فيقال: رجال ثلاثة وأربعة وخمسة، فمفهوم قولك: رجال يمكن أن يجعل
مورد التقسيم لهذه الأقسام، والمورد للتقسيم بالأقسام يكون مغايرًا لكل واحد من
تلك الأقسام "وغير مستلزم لها، فاللفظ الدال على ذلك المراد لا يكون له إشعار
بتلك الأقسام"*** فلا يكون دالًّا عليها، وأما الثلاثة فهي مما لا بد فيه
فثبت أنه يفيد الثلاث فقط.
احتج القائلون أنه يفيد العموم بأنه قد ثبت إطلاقه على
كل مرتبة من مراتب الجموع، فإذا حملناه على الجميع فقد حملناه على جميع حقائقه،
فكان أولى.
وأجيب بمنع إطلاقه على كل مرتبة حقيقة، بل هو القدر
المشترك بينها كما تقدم2، ولا دلالة له على الخصوص أصلا.
واحتجوا ثانيًا: بأنه لو لم يكن للعموم لكان مخصصًا
بالبعض، واللازم منتفٍ لعدم المخصص وامتناع التخصيص بلا "مخصص"****.
وأجيب بالنقض برجل ونحوه، مما ليس للعموم ولا مختصًّا
بالبعض، بل شائع يصلح للجمع، ولا يخفاك ضعف ما استدل به هؤلاء القائلون بأنه
للعموم، فإن دعوى عموم رجال لكل رجل مكابرة لما هو معلوم من اللغة، ومعاندة لما "يفهمه"*****
كل عارف بها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": كذا.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": بلا خصوص.
***** في "أ": يعرفه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أحمد بن علي بن ثعلب، الحنفي، المعروف بابن
الساعاتي، أبو العباس، مظفر الدين، فقيه، أصولي، أديب، ولد في بعلبك، وتوفي سنة
أربع وتسعين وستمائة هـ، من آثاره: "بديع النظام الجامع بين كتابي البزدوي
والأحكام". ا. هـ. كشف الظنون "1/ 235"، الفوائد البهية
"27"، معجم المؤلفين "2/ 4".
2 انظر صفحة: "305".
ج / 1 ص -310- المسألة الثامنة: في أقل الجمع
اختلفوا في أقل الجمع، وليس النزاع في لفظ الجمع المركب
من الجيم والميم والعين، كما ذكر ذلك إمام الحرمين الجويني، وإلكيا الهراس، وسليم
الرازي، فإن "ج، م، ع" موضوعها يقتضي ضم شيء إلى شيء، وذلك حاصل في
الاثنين والثلاثة وما زاد على ذلك بلا خلاف.
قال سليم الرازي: بل قد يقع على الواحد كما يقال: جمعت
الثوب بعضه إلى بعض.
قال الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني: لفظ الجمع في اللغة له
معنيان، الجمع من حيث الفعل المشتق منه الذي هو مصدر جمع يجمع جمعًا، والجمع الذي
هو اللقب، وهو اسم العدد قال: وبعض من لم يهتد إلى الفرق خلط الباب، فظن أن الجمع الذي
هو بمعنى اللقب من جملة الجمع الذي هو بمعنى الفعل، فقال: إذا كان الجمع بمعنى
الضم، فالواحد إذا أضيف إلى الواحد فقد جمع بينهما، فوجب أن يكون جمعًا، وثبت أن
الاثنين أقل الجمع، وخالف بهذا القول جميع أهل اللغة وسائر أهل العلم.
وذكر إمام الحرمين الجويني أن الخلاف ليس في مدلول مثل
قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}1، وقول القائل: ضربت رءوس الرجلين، وقطعت
بطونهما، بل الخلاف في الصيغ الموضوعة للجمع، سواء كان للسلامة أو التكسير، وذكر
مثل هذا الأستاذ أبو منصور والغزالي.
إذا عرفت هذا ففي أقل الجمع مذاهب:
الأول: أن أقله اثنان، وهو المروي عن عمر، وزيد بن ثابت،
وحكاه عبد الوهاب عن الأشعري وابن الماجشون2.
قال الباجي: وهو قول القاضي أبي بكر بن العربي، وحكاه
ابن خوازمنداد، عن مالك، واختاره الباجي ونقله صاحب "المصادر"3 عن
القاضي أبي يوسف، وحكاه الأستاذ أبو منصور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "4" من سورة التحريم.
2 هو عبد الملك بن الإمام عبد العزيز بن الماجشون،
التيمي، المدني، المالكي، تلميذ الإمام مالك، أبو مروان، قال ابن عبد البر: كان
فقيهًا فصيحًا، دارت عليه الفتيا في زمانه، وعلى أبيه قبله، توفي سنة ثلاث عشرة ومائتين
هـ، وقيل: أربع عشرة ومائتين هـ. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 359"، تهذيب التهذيب "6/ 408"،
الجرح والتعديل "5/
358".
3 هو محمود بن علي بن محمود الحمصي المعروف بتاج الرازي
الحكيم الشيعي المتوفى سنة خمسين وثلاثين وسبعمائة هـ. من آثاره: "الأمالي
العراقية" و"المصادر" ا. هـ. هدية العارفين "2/ 408"،
إيضاح المكنون "2/ 491".
ج / 1 ص -311- عن أهل الظاهر، وحكاه ابن الدهان1 النحوي
عن محمد بن داود2 وأبي يوسف، والخليل3 ونفطويه4.
قال: وسأل سيبويه الخليل فقال: الاثنان جمع.
وعن ثعلب أن التثنية جمع عند أهل اللغة، واختاره الغزالي.
واستدلوا بقوله سبحانه: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ
لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}5 لأنهم طلبوا إلهًا مع الله، ثم قالوا:
{كَمَا لَهُمْ آلِهَة} فدل على أنه إذا صار لهم إلهان صاروا بمنزلة الآلهة.
واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ
إِخْوَة}6 فأطلق الأخوة والمراد أخوان فما فوقهما إجماعا.
وأجيب: بأنه قد ورد للاثنين مجازًا كما يدل على ذلك ما
روى عن ابن عباس أنه قال لعثمان: "ليس الأخوان أخوة في لسان قومك"، فقال
عثمان: "لا أنقض أمرًا كان قبلي وتوارثه الناس"7، أخرجه ابن خزيمة،
والحاكم، وصححه، وابن عبد البر والبيهقي، فلم ينكر ذلك عثمان، بل عدل إلى التأويل،
وهو الحمل على خلاف الظاهر بالإجماع.
وبمثل هذا يجاب عما استدلوا به من قوله تعالى: {إِنَّا
مَعَكُمْ مُسْتَمِعُون}8، والمراد موسى وهارون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو سعيد بن المبارك بن علي، أبو محمد الأنصاري،
المعروف بابن الدهان، النحوي، المولود سنة أربع وتسعين وأبعمائة هـ، كان من أعيان
النحاة وأفاضل اللغويين، قال العماد الكاتب: هو سيبويه عصره، ووحيد دهره، توفي سنة
تسع وستين وخمسمائة هـ، من آثاره: "تفسير القرآن وشرح الإيضاح والفصول في النحو".
ا. هـ. سير أعلام النبلاء "20/ 581" معجم الأدباء "11/ 219"،
هدية العارفين "1/ 391".
2 هو ابن داود الظاهري، تقدمت ترجمته في الصفحة
"135".
3 هو الخليل بن أحمد بن عمر، أبو عبد الرحمن، الفراهيدي،
البصري المولود سنة مائة هـ، وكان رأسًا في لسان العرب، دينًا، ورعًا، وهو منشئ
علم العروض، توفي سنة ستين ومائة هـ، وقيل سبعين ومائة هـ، من آثاره: "كتاب العين
والإيقاع والجمل" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 429" معجم الأدباء "11/ 72" الجرح والتعديل "3/ 380".
4 هو إبراهيم بن محمد بن عرفة، الأزدي، الواسطي، أبو عبد
الله، المشهور بنفطويه، المولود سنة أربع وأربعين ومائتين هـ، كان عالمًا بالعربية
واللغة والحديث، وكان فقيها عالما بمذهب داود الأصبهاني، توفي سنة ثلاثة وعشرين
وثلاثمائة هـ، من آثاره: "غريب القرآن وكتاب البارع" ا. هـ. سير أعلام
النبلاء "15/ 75"، معجم الأدباء "1/ 254"، شذرات الذهب "2/ 298".
5 جزء من الآية "138" من سورة الأعراف.
6 جزء من الآية "11" من سورة النساء.
7 أخرجه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض باب فرض الأم
"6/ 227". والحاكم في المستدرك "4/ 335" وقال: هذا حديث صحيح
الإسناد ولم يخرجاه. ولم أهتد إلى حديث في صحيح ابن خزيمة.
8 جزء من الآية "15" من سورة الشعراء.
ج / 1 ص -312- وهكذا رواه أشهب1 عن مالك، ورواه العباس
بن الوليد2 عن الأوزاعي، ورواه أبو سليمان الجوزجاني3 عن محمد بن الحسن4.
وحكاه أبو ثور5 عن أئمة الحديث.
قال أبو بكر الصيرفي: ولا يخرج عن الإجماع من كان من أهل
العلم، وإن اختلفت بهم الأهواء كمن قال بالقدر، ومن رأى الإرجاء، وغير ذلك من
اختلاف آراء أهل الكوفة، والبصرة6، إذا كان من أهل الفقه.
فإذا قيل: قالت الخطابية7، والرافضة: كذا، لم يلتفت إلى
هؤلاء في الفقه؛ أنهم ليسوا من أهله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو ابن عبد العزيز القيسي، أبو عمرو، الفقيه المصري،
قيل اسمه مسكين، وأشهب لقبه كان صاحب الإمام مالك، ولد سنة خمس وأربعين ومائة هـ،
وتوفي سنة أربع ومائتين. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 500" شذرات الذهب
"2/ 12"، تهذيب التهذيب
"1/ 359.
2 هو الإمام الحجة، المقرئ، الحافظ، أبو الفضل، العذري،
البيروتي، ولد سنة تسع وستين ومائة هـ، حدث عنه أبو داود، والنسائي، وجماعة، وسمع
من أبيه وتفقه به، وذكر أحاديث عن أبيه عن الأوزعي، توفي سنة سبعين ومائتين هـ، ا.
هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 471"، شذرات الذهب "2/ 160"،
تهذيب التهذيب "5/ 131".
3 هو موسى بن سليمان، أبو سليمان، الإمام العلامة،
الحنفي البغدادي، صاحب أبي يوسف ومحمد، من آثاره: "السير الصغير"
"الصلاة" "الرهن" "نوادر الفتاوى"، عرض المأمون
القضاء عليه فاعتذر، توفي سنة مائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/
194" معجم المؤلفين "13/ 38"، هدية العارفين "2/ 477"،
الفوائد البهية "216".
4 هو ابن فرقد الشيباني بالولاء، أبو عبد الله، الحنفي،
العلامة، فقيه العراق صاحب أبي حنيفة، ولي القضاء للرشد بعد أبي يوسف، أصله من
قرية حرسته في غوطة، من آثاره: "المبسوط" "الزيادات"
"الآثار" وغيرها، توفي سنة تسع وثمانين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام
النبلاء "9/ 134"، معجم المؤلفين "9/ 207"، شذرات الذهب "1/ 322".
5 هو إبراهيم بن خالد البغدادي، يكنى بأبي ثور، وأبي عبد
الله الفقيه، صاحب الإمام الشافعي، قال ابن حبان: كان أحد أئمة الدنيا فقهًا،
وعلمًا، وورعًا، وفضلًا، صنف الكتب، وفرع السنن، وذب عنها، توفي ببغداد سنة أربعين
ومائتين هـ، ا. هـ. تذكرة الحفاظ "2/ 512"، سير أعلام النبلاء "12/ 72"، شذرات الذهب "2/ 93".
6 أهل الكوفة: هم أصحاب أبي حنيفة، وأهل البصرة: هم أهل
الاعتزال.
7 هم أصحاب أبي الخطاب، محمد بن أبي زينب الأسدي، الذي
عزا نفسه إلى جعفر بن محمد الصادق، فلما وقف الصادق على غلوه الباطل في حقه تبرأ
منه، ولعنه، وأمر أصحابه بالبراءة منه، فلما اعتزل عنه ادعى الإمامة لنفسه، زعم أن
الأئمة أنبياء ثم آلهة، وقال بإلهية جعفر بن محمد، وإلهيه آبائه رضي الله عنهم. ا.
هـ. الملل والنحل "1/ 179".
ج / 1 ص -313- الشاشي في كتابه في "الأصول"1 بعد ذكر الأدلة: وقد
يستوي حكم التثنية وما دونها بديل كالمخاطب للواحد بلفظ الجمع، في قوله: {قَالَ
رَبِّ ارْجِعُون}2 و{إِنَّا لَهُ لَحَافِظُون}3، وقد تقول العرب للواحد: افعلا،
افعلوا، وهو ظاهر في أن ذلك مجاز، وظاهر كلام الغزالي أنه مجاز بالاتفاق، وذكر
المازري أن القاضي أبا بكر حكى الاتفاق على أنه مجاز، ولم يأت من ذهب إلى أنه
حقيقة بشيء يعتد به أصلًا، بل جاء باستعمالات وقعت في الكتاب العزيز وفي كلام
العرب خارجة على طريقة المجاز كما تقدم، وليس النزاع في جواز التجوز بلفظ الجمع عن
الواحد أو الاثنين، بل النزاع في كون ذلك معناه حقيقة.
المذهب الرابع: الوقف، حكاه الأصفهاني في "شرح
المحصول"4 عن الآمدي، قال الزركشي: وفي ثبوته نظر، وإنما أشعر به كلام الآمدي
فإنه قال في آخر المسألة: وإذا عرف مأخذ الجمع من الجانبين فعلى الناظر الاجتهاد
في الترجيح، وإلا فالوقف لازم، هذا كلامه، ومجرد هذا لا يكفي في حكايته مذهبًا.
انتهى.
ولا يخفاك أن هذا الموطن ليس من مواطن الوقف، فإن موطنه
إذا توازنت الأدلة موازنة يصعب الترجيح بينها، وأما مثل هذه المسألة فلم يأت من
خالف الجمهور بشيء يصدق عليه اسم الدليل، فضلًا عن أن يكون صالحًا لموازنة ما
يخالفه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الإمام أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي، وهو
كتاب في أصول الشافعية. ا. هـ. سير أعلام البنلاء "16/ 284".
2 جزء من الآية "99" من سورة المؤمنون.
3 جزء من الآية "9" من سورة الحجر.
4 هو عبارة عن شرح على كتاب "المحصول" في أصول
الفقه" وهو شرح حافل، للإمام شمس الدين، محمد بن محمود الأصفهاني،
"الأصبهاني" المتوفى سنة ثمانٍ وسبعين وستمائة هـ، وعلق عليه بعض
العلماء. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1615".
المسألة التاسعة: "الخلاف في عموم الفعل المثبت"
الفعل المثبت إذا كان له جهات فليس بعام في أقسامه؛ لأنه
يقع على صفة وحدة فإن عرف تعين وإلا كان مجملًا يتوقف فيه، مثل قول الراوي:
"صلى بعد غيبوبة الشفق"1 فلا يحمل على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم من حديث بريدة، كتاب المساجد باب أوقات
الصلوات الخمس "613" والترمذي كتاب الصلاة باب "115" منه "أي مواقيت
الصلاة" "152" بنحوه وقال: حسن غريب صحيح، وابن ماجه، كتاب الصلاة
باب مواقيت الصلاة "667". والنسائي، كتاب المواقيت، باب أول وقت المغرب
"518" 1/ 258. والبيهقي في السنن، كتاب الصلاة. باب من قال للمغرب وقتان
"1/ 370". وابن حبان في صحيحه "1492" وابن الجارود في المنتقي
"151".
ج / 1 ص -314- الأحمر والأبيض، وكذلك "صلى في
الكعبة"1 فلا يعم الفرض والنفل، هكذا قال القاضي "أبو بكر"*، والقفال الشاشي، والأستاذ أبو منصور،
والشيخ أبو حامد الإسفراييني، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وسليم الرازي وابن
السمعاني، وإمام الحرمين الجويني، وابن القشيري. والإمام فخر الدين الرازي
واستدلوا على ذلك بأنه إخبار عن فعل، ومعلوم أن الفاعل لم يفعل كل ما اشتمل عليه
تسمية ذلك الفعل مما لا يمكن استيعاب فعله فلا معنى للعموم في ذلك.
قال الغزالي: وكما لا عموم له بالنسبة إلى أحوال الفعل،
فلا عموم له بالنسبة إلى الأشخاص، بل يكون خاصًّا في حقه صلى الله عليه وسلم إلا
أن يدل دليل من خارج لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني
أصلي"2، وهذا غير مسلم، فإن دليل التأسي به صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}3
وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوني}4 ونحو ذلك يدل
على أن ما فعله صلى الله عليه وسلم، فسائر أمته مثله، إلا أن يدل دليل على أنه خاص
به.
وأطلق ابن الحاجب أن الفعل المثبت ليس بعام في أقسامه،
ثم اختار في نحو قوله: "نهى عن بيع الغرر"5 "وقضى بالشفعة للجار"6 أنه
يعم الغرر والجار مطلقا، وقد تقدمه إلى ذلك شيخه الأبياري، والآمدي وهو الحق؛ لأن
مثل هذا ليس بحكاية للفعل الذي فعله، بل حكاية لصدور النهي منه عن بيع الغرر،
والحكم منه بثبوت الشفعة للجار؛ لأن عبارة الصحابي يجب أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم من حديث ابن عمر، كتاب الحج، باب استحباب
دخول الكعبة للحاج وغيره "1329". وأبو داود، كتاب المناسك، باب الصلاة
في الكعبة "2032". وابن ماجة كتاب المناسك، باب دخول الكعبة
"3063". والنسائي، كتاب المساجد، باب الصلاة في الكعبة "691"
2/ 33. وابن حبان في صحيحه "3202".
2 تقدم تخريجه في الصفحة "105".
3 جزء من الآية "7" من سورة الحشر.
4 جزء من الآية "31" من سورة آل عمران.
5 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، كتاب البيوع، باب بطلان
بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر "1513". وأبو داود، كتاب البيوع، باب
بيع الغرر "3376". والنسائي كتاب البيوع، باب بيع الحصاة "4530"
"7/ 262". والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الغرر
"1230" وقال: حسن صحيح. وابن ماجه، كتبا التجارات، باب النهي عن بيع
الحصاة وعن بيع الغرر "2194". وابن حبان في صحيحه "4951".
6 أخرجه البخاري في البيوع باب بيع الأرض والدور والعروض
مشاعًا غير مقسوم "2214" وأحمد في مسنده "3/ 339" وابن ماجه
في الشفعة باب إذا وقعت الحدود فلا شفعة "2497"، وأبو داود في البيوع والإجارات،
باب في الشفعة "3515". ومالك في الموطأ في الشفعة باب ما تقع فيه الشفعة
"2/ 713". والنسائي في البيوع باب ذكر الشفعة وأحكامها "7/ 321". وابن
حبان في صحيحه برقم "5185".
ج / 1 ص -315- تكون مطابقة للمقول لمعرفته باللغة
وعدالته، ووجوب مطابقة الرواية لمسموع.
وبهذا تعرف ضعف ما قاله في "المحصول" من أن
قول الصحابي نهى عن بيع الغرر والحكم منه ثبوت الشفعة لا يفيد العموم؛ لأن الحجة
في المحكي، لا في الحكاية، والذي رآه الصحابي حتى روى النهي يحتمل أن يكون خاصًّا
بصورة، واحدة وأن يكون عاما، ومع الاحتمال لا يجوز القطع بالعموم.
قال: وأيضًا قول الصحابي "قضى رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالشاهد واليمين"1 لا يفيد العموم، وكذا "إذا قال"* سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قضيت بالشفعة" لاحتمال كونه حكاية
عن قضاء لجار معروف ويكون الألف واللام للتعريف، وقوله: قضيت، حكاية عن فعل معين
ماضٍ، فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "قضيت بالشفعة" وقول الراوي:
أنه قضى بالشفعة للجار، فالاحتمال فيهما قائم، ولكن جانب العموم راجح "انتهى.
ولا يخفاك أن جانب العموم راجح"** في الصورتين كليهما. أما في قوله:
"نهى عن بيع الغرر" "وقضى بالشاهد واليمين" فرجحان عمومه وضعف
دعوى احتمال كونه خاصًّا في غاية الوضوح لما قدمنا، وقد نقل الآمدي عن الأكثرين
مثل ما ذكره صاحب "المحصول"
وهو خلاف الصواب، وإن قال به الأكثرون؛ لأن الحجة في
الحكاية لثقة الحاكي ومعرفته.
وحكي عن بعض أهل الأصول التفصيل بين أن يقترن الفعل بحرف
أن فيكون للعموم، كقوله: "قضى أن الخراج بالضمان"2 وبين أن لا يقترن
فيكون خاصًّا نحو "قضى بالشفعة للجار"، وقد حكى هذا القول القاضي في
"التقريب"، والأستاذ أبو
منصور، والشيخ أبو إسحاق، والقاضي عبد الوهاب، وصححه، وحكاه عن أبي بكر القفال،
وجعل بعض المتأخرين النزاع لفظيًّا من جهة أن المانع للعموم ينفي عموم الصيغة
المذكورة، نحو أمر وقضى، والمثبت للعموم فيها هو باعتبار دليل خارجي. انتهى.
وأما نحو قول الصحابي: كان النبي صلى الله عليه وسلم
يفعل كذا فلا يجري فيه الخلاف المتقدم؛ لأن لفظ كان هو الذي دل على التكرار لا لفظ
الفعل الذي بعدها نحو كان يجمع، وإنما الخلاف في قول الراوي "جمع"***
ونحوه، وهذا إذا دلت قرينة على عدم الخصوص كوقوعه بعد إجمال أو إطلاق أو عموم
"صيغة أو صفة" فيفهم أنه بيان فنتبعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": قول.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم من حديث ابن عباس، كتاب الأقضية، باب وجوب
الحكم بشاهد ويمين "1712"، وأبو داود، كتاب
الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد "3608"، وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين
"2370". والبيهقي في السنن، كتاب الشهادات، باب القضاء باليمين مع
الشاهد "10/ 167". والإمام أحمد في المسند "1/ 248"
"2224".
2 تقدم تخريجه في الصفحة "156".
ج / 1 ص -316- المسألة العاشرة: في عموم نحو قوله تعالى:
خذ من أمولهم صدقة
ذهب الجمهور إلى أن قوله تعالى: {خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة}1 يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع من أنواع المال إلا أن يخص
بدليل.
قال الشافعي: مخرج هذه الآية عام في الأموال، وكان يحتمل
أن يكون بعض الأموال دون بعض الأموال دون بعض، فدلت السنة على أن الزكاة في بعض
المال دون بعض.
قال في موضع آخر: ولولا دلالة السنة لكان ظاهر القرآن أن
الأموال كلها سواء، وأن الزكاة في جميعها لا في بعضها دون بعض.
واستدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بأن هذه الصيغة من صيغ
العموم؛ لأنها جمع مضاف، وقد تقدم أن ذلك من صيغ العموم، فيكون المعنى: خذ من كل
واحد واحد من أموالهم صدقة؛ إذ معنى العموم ذلك، وهو المطلوب.
وأجيب عن هذا: بمنع كون معنى العموم ذلك.
وذهب الكرخي من الحنفية وبعض أهل الأصول، ورجحه ابن
الحاجب إلى أنه لا يعم، بل إذا أخذ من جميع أموالهم صدقة واحدة فقد أخذ من أموالهم
صدقة، وإلا لزم أخذ الصدقة من كل درهم ودينار ونحوهما، واللازم باطل بالإجماع فالملزوم
مثله.
وأجيب: بأن الجمع لتضعيف المفرد، والمفرد خصوصًا مثل المال
والعلم، والمال قد يراد به المفرد فيكون معنى الجمع المعرف باللام أو الإضافة جميع
الأفراد وقد يراد به الجنس فيكون معناه جميع الأنواع بالأموال والعلوم والتعويل
على القرائن، وقد دل العرف وانعقد الإجماع على أن المراد في مثل {خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ} الأنواع لا الأفراد، وأما ما يتوهم من أن معنى الجمع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "103" من سورة التوبة.
ج / 1 ص -317- العام هو المجموع، من حيث هو مجموع، أو كل
واحد من الجموع لا من الآحاد، حتى بنوا عليه أن استغراق المفرد أشمل من استغراق
الجمع، فمدفوع بأن اللام والإضافة يهدمان الجمع ويصيرانه للجنس.
وذهب الآمدي إلى الوقف فقال: وبالجملة فالمسألة محتملة
ومأخذ الكرخي دقيق. انتهى.
وقد اختلف النقل عن الكرخي، فنقل عنه ابن برهان ما تقدم،
ونقل عنه أبو بكر الرازي أنه ذهب إلى أنه يقتضي عموم وجوب "الحق"* في
سائر أصناف الأموال.
ومن جملة ما احتج به القائلون بعدم العموم أن لفظ من
الداخلة على الأموال تمنع من العموم.
وأجاب عن ذلك القرافي بأن مِن لا بد من تعلقها بمحذوف،
وهو صفة للصدقة، والتقدير كائنة أو مأخوذة من أموالهم، وهذا لا ينافي العموم لأن
معنى كائنة أو مأخوذة من أموالهم أن لا يبقى نوع من المال إلا ويؤخذ منه الصدقة.
وقال بعضهم: الجار والمجرور الذي هو {مِنْ أَمْوَالِهِم}
إن كان متعلقًا بقوله {خُذ} فالمتجه "قول"** الكرخي؛ لأن التعلق مطلق،
والصدقة نكرة في سياق الإثبات فيحصل الامتثال بصدقة واحدة من نوع واحد، وإن كان
متعلقًا بقوله {صَدَقَة} "فالأقوى"*** قول الجمهور؛ لأن الصدقة إنما
تكون من أموالهم. إذا كانت من كل نوع من أموالهم.
قال الزركشي: وفيه نظر؛ لأنه إذا كان المعتبر دلالة
العموم الكائنة في أموالهم، فإنها كلية، فالواجب حينئذ أخذها من كل نوع من أنواع
الأموال، عملًا بمقتضى العموم ولا نظر إلى تنكير صدقة "لأنها مضافة للأموال،
سواء قيل إنها متعلقة بخذ وإن اعتبر لفظ صدقة"**** وأنه نكرة في سياق الإثبات
فلا عموم له على الوجهين أيضًا.
انتهى.
ولا يخفاك أن دخول مِن ههنا على الاموال لا ينافي ما
قاله الجمهور، بل هو عين مرادهم؛ لأنها لو حذفت لكانت الآية دالة على أخذ جميع أنواع
الأموال، فلما دخلت أفاد ذلك أنه يؤخذ من كل "نوع"***** بعضه، وذلك البعض
هو ما ورد تقديره في السنة المطهرة من العشر في بعض، ونصف العشر في بعض آخر، وربع
العشر في بعض آخر، ونحو هذه المقادير الثابتة بالشريعة كزكاة المواشي، ثم هذا
العموم المستفاد من هذه الآية قد جاءت السنة المطهرة بما يفيد تخصيصه ببعض الأنواع
دون بعض، فوجب بناء العام على الخاص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الأخذ.
** في "أ": ما قال الكرخي.
*** في "أ": فالقول.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ج / 1 ص -318- المسألة الحادية عشرة: "الألفاظ
الدالة على الجمع"
الألفاظ الدالة على الجمع بالنسبة إلى دلالتها على
المذكر والمؤنث على أقسام:
الأول: ما يختص به أحدهما ولا يطلق على الآخر بحال،
كرجال للمذكر ونساء للمؤنث، فلا يدخل أحدهما في الآخر بالإجماع إلا بدليل خارج من
قياس أو غيره.
الثاني: ما يعم الفريقين بوضعه، وليس لعلامة التذكير
والتأنيث فيه مدخل كالناس، والأنس، والبشر فيدخل فيه كل منهما بالإجماع.
الثالث: ما يشملهما بأصل وضعه، ولا يختص بأحدهما إلا
ببيان، وذلك نحو "ما، ومن" فقيل: إنه لا يدخل فيه النساء إلا بدليل، ولا
وجه لذلك، بل الظاهر أنه مثل الناس والبشر ونحوهما، كما في قوله سبحانه وتعالى:
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}1 فلولا عمومه لهما
لم يحسن التقسيم من بعد ذلك، وممن حكى الخلاف في هذه الصورة من الأصوليين أبو
الحسين في المعتمد وإلكيا الهراس في "التلويح" وحكاه غيرهما عن بعض الحنفية،
وأنهم لأجل ذلك قالوا: إن المرتدة لا تقتل لعدم دخولها في قوله صلى الله عليه
وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"2، لكن الموجود في كتبهم أنها تعم الجميع،
وصرح به البزدوي، وشراح كتابه3، وابن الساعاتي وغيرهم؛ إذ نقل الرازي في "المحصول"
الإجماع على أنه لو قال: من دخل داري من أرقائي فهو حر، دخل فيه الإماء، وكذلك لو
علق بهذا اللفظ وصية، أو توكيلًا، أو إذنًا في أمر، لم يختص بالذكور، وأما إمام
الحرمين الجويني فخص الخلاف بما إذا كانت شرطية.
قال الصفي الهندي: والظاهر أنه لا فرق بينهما وبين من
الموصولة والاستفهامية، وأن الخلاف جار في الجميع. انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "124": من سورة النساء.
2 أخرجه البخاري من حديث ابن عباس، كتاب الجهاد، باب لا
يعذب بعذاب الله "3017".
والترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء في المرتد
"1458". وأبو داود، كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد "4351".
والنسائي، كتاب التحريم، باب الحكم في المرتد "4072" "7/
104". وابن ماجه، كتاب الحدود، باب المرتد عن دينه "2535". وابن
حبان في صحيحه "4475".
3 واسمه: "أصول الإمام فخر الإسلام علي بن محمد
البزدوي"، واشتهر باسم "كشف الأسرار"، وهو كتاب عظيم الشأن، جليل
البرهان، محتوٍ على لطائف الاعتبار بأوجز العبارات، تأبى على الطلبة مرامه،
واستعصى على العلماء زمامه، فشرحه جمع من الفحول، منهم: أكمل الدين البابرتي. ا.
هـ. كشف الظنون "1/ 112".
ج / 1 ص -319- ولا يخفاك أن دعوى اختصاص من بالذكور لا
ينبغي أن ينسب "إلى من يعرف لغة العرب، بل لا ينبغي أن ينسب"* إلى من له
أدنى فهم.
الرابع: ما يستعمل بعلامة التأنيث في المؤنث، وبحذفها في
المذكر، وذلك الجمع السالم نحو مسلمين للذكور ومسلمات للإناث، ونحو فعلوا وفعلن،
فذهب الجمهور إلى أنه لا يدخل النساء فيما هو للذكور إلا بدليل كما لا يدخل الرجال
فيما هو النساء إلا بدليل.
قال القفال: وأصل هذا أن الأسماء وضعت للدلالة على
المسمى فحصل كل نوع بما يميزه فالألف والتاء جعلتا علمًا لجمع الإناث، والواو
والياء والنون لجمع الذكور والمؤمنات غير المؤمنين، وقاتلوا خلاف قاتلن، ثم قد تقوم
قرائن تقتضي استواءهما فيعلم بذلك دخول الإناث في الذكور، وقد لا تقوم قرائن
فيلحقن بالذكور بالاعتبار والدلائل، كما يلحق المسكوت عنه بالمذكور بدليل.
ومما يدل على هذا إجماع أهل اللغة على أنه إذا اجتمع المذكر
والمؤنث غلب المذكر، فلولا أن التسمية للمذكر لم يكن هو الغالب، ولم يكن حظه فيها
كحظ المؤنث، ولكن معناه أنهما إذا اجتمعا "استقل"** إفراد كل منهما بوصف
فغلب المذكر وجعل الحكم له، فدل على أن المقصود هو الرجال والنساء توابع. انتهى.
قال الأستاذ أبو المنصور وسليم الرازي: وهذا قول أصحابنا،
واختاره القاضي أبو الطيب، وابن السمعاني، وإلكيا الهراس، ونصره ابن برهان والشيخ
أبو إسحاق الشيرازي، ونقله عن معظم الفقهاء، ونقله ابن القشيري عن معظم أهل اللغة،
وذهبت الحنفية كما حكاه عنهم سليم الرازي وابن السمعاني وابن الساعاتي إلى أنه
يتناول الذكور والإناث، وحكاه القاضي أبو الطيب عن أبي حنيفة، وحكاه الباجي عن ابن
خوازمنداد وروى نحوه عن الحنابلة والظاهرية.
والحق: ما ذهب إليه الجمهور من عدم التناول إلا على
طريقة التغليب عند قيام المقتضى لذلك لاختصاص الصيغة لغة ووقوع التصريح بما يختص بالنساء
مع ما يختص بالرجال في نحو {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات}1، وقد ثبت في
سبب نزول هذه الآية أن أم سلمة قالت: يا رسول الله إن النساء قلن: ما نرى الله
سبحانه ذكر إلا الرجال... فنزلت2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": استثقل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "35" من سورة الأحزاب.
2 أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث أم سلمة "6/
301، 305". والنسائي في الكبرى "11404". انظر تحفة الأشراف للمزي
"13/ 1819"، وابن جرير الطبري في تفسيره "12/ 10".
ج / 1 ص -320- قال الأبياري: لا خلاف بين الأصوليين، والنحاة
أن جمع المذكر لا يتناول المؤنث بحال، وإنما ذهب بعض الأصوليين إلى تناوله الجنسين
لأنه لما كثر اشتراك الذكور والإناث في الأحكام لم تقصر الأحكام على الذكور.
قال الزركشي في "البحر": وحاصلة الإجماع على
عدم الدخول حقيقة، وإنما النزاع في ظهوره لاشتهاره عرفا.
قال الصفي الهندي: وكلام إمام الحرمين يشعر بتخصيص
الخلاف بالخطابات الواردة من الشرع لقرينة عليه وهي المشاركات في الأحكام الشرعية.
قال: واتفق
الكل أن المذكر لا يدخل تحته وإن ورد مقترنًا بعلامة التأنيث.
ومن أقوى ما احتج به القائلون بالتعميم: إجماع أهل اللغة
على أنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر، وعلى هذا ورد قوله تعالى: {قُلْنَا
اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا}1 في خطاب آدم وحواء وإبليس.
ويجاب على هذا: بأنه لم يكن ذلك بأصل الوضع، ولا بمقتضى
اللغة، بل بطريق التغليب، لقيام الدليل عليه، وذلك خارج عن محل النزاع، ولا يلزم
من صحة إرادة الشيء من الشيء إرادته منه. إذا ورد مطلقًا بغير قرينة، ولم يذكر أحد
من أهل اللغة ولا من علماء العربية أن صيغة الذكور عند إطلاقها موضوعة لتناول
الجميع، وهذا ظاهر واضح لا ينبغي الخلاف في مثله، ولم يأت القائلون بالتناول بدليل
يدل على ما قالوه لا من جهة اللغة، ولا من جهة الشرع، ولا من جهة العقل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "38" من سورة البقرة.
المسألة الثانية عشرة: في عموم الخطاب بمثل "يا
أيها الناس..."
ذهب الجمهور إلى أن الخطاب بمثل يا أيها الناس، ونحوها
من الصيغ يشمل العبيد والإماء.
وذهب جماعة إلى أنه لا يعمهم شرعًا.
وقال أبو بكر الرازي من الحنفية: إن كان الخطاب في حقوق
الله تعالى فإنه يعمهم دون حقوق الآدميين فلا يعمهم.
والحق ما ذهب إليه الأولون، ولا ينافي ذلك خروجهم في بعض
الأمور الشرعية، فإن ذلك إنما كان "لدليل يدل على رفع"* الخطاب عنهم
بها، قال الأستاذ أبو منصور، والقاضي أبو الطيب، وإلكيا الطبري: إن الذي عليه
اتباع الأئمة الأربعة، وهو الصحيح من مذهب الشافعي أنهم يدخلون إتباعًا لموجب
الصيغة، ولا يخرجون إلا بدليل ولم يأت القائلون بخلاف ما ذهب إليه الجمهور بدليل يدل
على ما ذهبوا إليه، فإن ما زعموه من إجماع أهل العلم على عدم وجوب بعض الأمور
الشرعية عليهم لا يصلح للاستدلال على محل النزاع؛ لأن عدم وجوب ذلك عليهم لدليل
خارجي اقتضى ذلك فكان كالمخصص لعموم الصيغة الشاملة لهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "ب": لدليل على رفع.
ج / 1 ص -321- المسألة الثالثة عشرة: "دخول الكافر
في الخطاب الصالح له وللمسلمين"
ذهب الجمهور إلى دخول الكافر في الخطاب الصالح له
وللمسلمين نحو: {يَا أَيُّهَا النَّاس} إذا ورد مطلقًا.
وذهب بعض الشافعية إلى اختصاصه بالمسلمين، وقيل: يدخلون
في حقوق الله تعالى، لا في حقوق الآدميين.
قال الصفي الهندي: والقائلون بعدم دخول العبيد والكفار
إن زعموا أنه لا يتناولهم من حيث اللغة فهو مكابرة، وإن زعموا التناول لكن الكفر
والرق في الشرع خصصهم، فهو باطل، للإجماع على أنهما مكلفان في الجملة، وأما الخطاب
الخاص بالمسلمين أو المؤمنين فحكى ابن السمعاني عن بعض الحنفية أنه لا يشمل غيرهم
من الكفار، ثم اختار التعميم لهم ولغيرهم لعموم التكليف بهذه الأمور، وأن المؤمنين
والمسلمين "إنما"* خصصوا "بالذكر"** من باب خطاب التشريف لا
خطاب التخصيص بدليل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا}1، وقد ثبت تحريم الربا في حق أهل الذمة، قال
الزركشي: وفيه نظر؛ لأن الكلام في التناول بالصيغة لا بأمر خارج.
وقال بعضهم: لا يتناولهم لفظًا وإن قلنا إنهم مخاطبون
إلا بدليل منفصل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "278" من سورة البقرة.
ج / 1 ص -322- المسألة الرابعة عشرة: "الخطاب
الشفاهي"
الخطاب الوارد شفاهًا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم
نحو: {يَا أَيُّهَا النَّاس}1 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}2، ويسمى خطاب
المواجهة، قال الزركشي: لا خلاف في شموله من بعدهم من المعدومين حال صدوره، لكن هل
باللفظ أو بدليل آخر من إجماع أو قياس.
فذهب جماعة من الحنفية والحنابلة إلى أنه يشملهم باللفظ،
وذهب الأكثرون إلى أنه لا يشملهم باللفظ لما عرف بالضرورة من دين الإسلام أن كل
حكم تعلق بأهل زمانه صلى الله عليه وسلم فهو شامل لجميع الأمة إلى يوم القيامة،
كما في قوله سبحانه: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}3، وقوله صلى الله عليه
وسلم: "بعثت إلى الناس كافة"4، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا}5 منهم إلى قوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا
بِهِم}6، قال ابن دقيق العيد في "شرح العنوان": الخلاف في أن خطاب
المشافهة هل يشمل غير المخاطبين قليل الفائدة ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف عند
التحقيق لأنه إما أن ينظر إلى مدلول اللفظ لغة، ولا شك أنه لا يتناول غير المخاطبين،
وإما أن يقال إن المحكم يقصر على المخاطبين إلا أن يدل دليل على العموم في تلك
المسألة بعينها، وهذا باطل لما علم قطعًا من الشريعة أن الأحكام عامة إلا حيث يرد التخصيص.
انتهى.
وبالجملة فلا فائدة لنقل ما احتج بها المختلفون في هذه المسألة
لأنا نقطع بأن الخطاب الشفاهي إنما يتوجه إلى الموجودين "باعتبار اللفظ لا
إلى المعدومين، ونقطع بأن غير الموجودين"* وإن لم يتناولهم الخطاب، فلهم حكم
الموجودين في التكليف بتلك الأحكام، حيث كان الخطاب مطلقًا، ولم يرد ما يدل على
تخصيصهم بالموجودين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "21" من سورة البقرة.
2 جزء من الآية "153" من سورة البقرة وفي
غيرها كثير.
3 جزء من الآية "19" من سورة الأنعام.
4 أخرج مسلم نحوه من حديث جابر، كتاب المساجد
"521". والبخاري في التيمم، باب التيمم "335". والنسائي في
الغسل، باب التيمم بالصعيد "1/ 210" "430". والبيهقي في السنن، كتاب
الطهارة، باب التيمم بالصعيد الطيب "1/ 212". وابن حبان في صحيحه
"6398".
5 جزء من الآية "2" من سورة الجمعة.
6 جزء من الآية "3" من سورة الجمعة.
ج / 1 ص -323- المسألة الخامسة عشرة: "الخطاب الخاص
بالأمة"
الخطاب الخاص بالأمة نحو: يا أيها الأمة، لا يشمل الرسول
صلى الله عليه وسلم، قال الصفي الهندي: بلا خلاف، وكذا قال القاضي عبد الوهاب في
كتاب "الإفادة": وأما إذا كان الخطاب بلفظ يشمل الرسول نحو: {يَا أَيُّهَا النَّاس}1
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}2 {يَا عِبَادِي}3 فذهب الأكثرون إلى أنه يشمله،
وقال جماعة لا يشمله، "وقال أبو بكر الصيرفي والحليمي: إن كان يتناوله بالقول
نحو قل فلا يشمله"* وإن لم يكن كذلك كان شاملا، له واستنكر هذا التفصيل إمام
الحرمين الجويني؛ لأن القول فيهما جميعًا مسند إلى الله سبحانه، والرسول مبلغ
خطابه إلينا فلا معنى للتفرقة.
وفصل بعض أهل الأصول بتفصيل آخر فقال: إن كان الخطاب من
الكتاب فهو مبلغ عن الله سبحانه، والمبلغ مندرج تحت عموم الخطاب، وإن كان من السنة
فإما أن يكون مجتهدًا أو لا، فإن قلنا مجتهد فيرجع إلى أن المخاطب هل يدخل تحت الخطاب
أم لا، وإن لم يكن مجتهدًا فهو مبلغ والمبلغ "إذن"** داخل تحت الخطاب.
والحق: أن الخطاب بالصيغة التي تشمله يتناوله بمتقضى
اللغة العربية لا شك في ذلك، ولا شبهة حيث كان الخطاب من جهة الله سبحانه تعالى. وإن كان الخطاب
من جهته صلى الله عليه وسلم، فعلى الخلاف الآتي في دخول المخاطب في خطابه.
وما قيل: من أنه لا فائدة في الخلاف في هذه المسألة مدفوع
بظهور الفائدة في الخطابات العامة "إذا"*** فعل صلى الله عليه وسلم ما
يخالفها، فإن قلنا: إنه داخل في العموم كان فعله تخصيصًا، وإن قلنا: ليس بداخل لم
يكن فعله مخصصًا لذلك العموم، بل يبقى على عمومه. وأما الخطاب المختص بالرسول صلى
الله عليه وسلم نحو {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}4 {يَا أَيُّهَا النَّبِي}5 فذهب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": وإذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "21" من سورة البقرة.
2 جزء من الآية "153" من سورة البقرة.
3 جزء من الآية "53" من سورة الزمر.
4 جزء من الآية "40" من سورة المائدة.
5 جزء من الآية "1" من سورة الطلاق، والآية
"1" من سورة التحريم.
ج / 1 ص -324- الجمهور إلى أنه لا يدخل تحته الأمة إلا
بدليل من خارج، وقيل إه يشمل الأمة؛ روى ذلك عن أبي حنيفة وأحمد، واختاره إمام
الحرمين، وابن السمعاني.
قال في "المحصول": وهؤلاء إن زعموا أن ذلك
مستفاد من اللفظ فهو جهالة، وإن زعموا أنه مستفاد من دليل آخر، وهو قوله: {وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}1 وما يجري مجرى ذلك فهو
"خرج"* عن هذه المسألة؛ لأن الحكم عندنا إنما أوجب على الأمة لا بمجرد الخطاب
المتناول للنبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل بالدليل الآخر. انتهى.
قال الزركشي: وما قالوه بعيد إلا أن يحمل على التعبير
بالكبير عن اتباعه فيكون مجازًا لا حقيقة.
وحكى "عن"** إمام الحرمين أنه قال: إما أن ترد
الصيغة في التخصيص أو لا، فإن وردت فهو خاص، وإلا فهو عام لأنا لم نجد دليلًا
قاطعًا على التخصيص، ولا على التعميم. انتهى.
ولا يخفاك ضعف هذا التفصيل وركاكة مأخذه؛ لأن النزاع
إنما هو في نفس الصيغة، وهي خاصة بلا شك فورودها، في محل التخصيص لا يزيدها
تخصيصًا باعتبار اللفظ، ورودها في محل التعميم لا يوجب من حيث اللفظ أن تكون عامة،
فإن كان ذلك في حكم الدليل "الدال على التعميم"*** فهو غير محل النزاع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": خارج.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "7" من سورة الحشر.
المسألة السادسة عشرة: حكم الخطاب الخاص بواحد من الأمة
الخطاب الخاص بواحد من الأمة أن صرح بالاختصاص به كما في
قوله صلى الله عليه وسلم: "تجزئك ولا تجزئ أحدًا بعدك"1 فلا شك في
اختصاصه بذلك المخاطب؛ وإن لم يصرح فيه بالاختصاص بذلك المخاطب، فذهب الجمهور إلى
أنه مختص بذلك المخاطب، ولا يتناول غيره إلا بدليل من خارج.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقدم تخريجه في الصفحة "160".
ج / 1 ص -325- وقال بعض الحنابلة وبعض الشافعية: إنه يعم
بدليل ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: "حكمي على الواحد كحكمي على
الجماعة"1، وما روى عنه صلى الله عليه وسلم: "إنما قولي لامرأة واحدة
كقولي لمائة امرأة"2، ونحو ذلك؛ ولا يخفاك أن الاستدلال بهذا خارج عن محل
النزاع، فإنه لا خلاف أنه إذا دل دليل من خارج على أن حكم غير ذلك المخاطب كحكمه،
كان له حكمه بذلك الدليل، وإنما النزاع في نفس تلك الصيغة الخاصة، هل تعم بمجردها
أم لا؟
فمن قال: إنها تعمها بلفظها فقد جاء بما لا تفيده لغة
العرب، ولا تقتضيه بوجه من الوجوه.
قال القاضي أبو بكر: هو عام بالشرع لا "بوضع
اللغة"* للقطع باختصاصه به لغة.
قال إمام الحرمين الجويني: لا ينبغي أن يكون في هذه
المسألة خلاف؛ إذ لا شك أن الخطاب خاص لغة بذلك الواحد، ولا خلاف أنه عام بحسب
العرف الشرعي، وقيل: بل الخلاف معنوي لا لفظي، لأنا نقول: الأصل ما هو؟ هل هو مورد
الشرعي أو مقتضى اللغة؟
قال الصفي الهندي: لا نسلم أن الخطاب عام في العرف
الشرعي.
قال الزركشي: والحق أن التعميم منتفٍ لغة ثابت شرعًا،
والخلاف في أن للعادة هل تقتضي بالاشتراك بحيث يتبادر فهم أهل العرب إليها أولًا، فأصحابنا
-يعنى الشافعية- يقولون: لا قضاء للعادة في ذلك، كما لا قضاء للغة والخصم يقول
إنها تقتضي بذلك. انتهى.
والحاصل في هذه المسألة على ما يقتضيه الحق. ويوجبه
الإنصاف عدم التناول لغير المخاطب من حيث الصيغة، بل بالدليل الخارجي، وقد ثبت عن
الصحابة فمن بعدهم الاستدلال بأقضيته صلى الله عليه وسلم الخاصة بالواحد، أو
الجماعة المخصوصة على ثبوت مثل ذلك لسائر الأمة فكان هذا مع الأدلة الدالة على
عموم الرسالة، وعلى استواء أقدام هذه الأمة في الأحكام الشرعية مفيدًا لإلحاق غير
ذلك المخاطب به في ذلك الحكم عند الإطلاق "إلا"** إلى أن يقوم الدليل
الدال على اختصاصه بذلك.
فعرفت بهذا أن الراجح التعميم حتى يقوم دليل التخصيص، لا
كما قيل: إن الراجح التخصيص حتى يقوم دليل التعميم؛ لأنه قد قام كما ذكرناه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": بالوضعي للقطع.
** في "أ": إلى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره في كشف الخفاء قال: ليس له أصل بهذا اللفظ كما
قال العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي. ا. هـ. كشف الخفاء "1/ 364".
2 أخرجه الترمذي من حديث أميمة بنت رقيقة في السير باب
ما جاء في بيعة النساء "1597" وقال: حسن صحيح. والنسائي في البيعة، باب
بيعة النساء "4192"
"7/ 149". ومالك في الموطأ كتاب البيعة باب ما
جاء في البيعة "2/ 982".
والإمام أحمد في المسند "6/ 357". والحميدي في
مسنده "341".
ج / 1 ص -326- المسألة السابعة عشرة: حكم دخول المخاطِب
تحت عموم خطابه
اختلفو ا في المخاطِب -بكسر الطاء- هل يدخل في عموم
خطابه، فذهب الجمهور إلى أنه يدخل ولا يخرج عنه إلا بدليل "يخصصه. وقال أكثر
أصحاب الشافعي إنه لا يدخل إلا بدليل"*.
قال الأستاذ أبو منصور: وهو الصحيح من مذهب الشافعي، قال
الأستاذ أبو منصور: وفائدة الخلاف فيما إذا ورد منه صلى الله عليه وسلم لفظ عام في
إيجاب "حكم"** حكمه أو حظره، أو إباحته، هل يدل ذلك على دخوله فيه أم
لا؟ قال ابن برهان في "الأوسط"1: ذهب معظم العلماء إلى أن الآمر لا يدخل
تحت الخطاب، ونقل عبد الجبار وغيره من المعتزلة دخوله. انتهى.
ونقله لهذا القول عن معظم العلماء يخالف نقل الأستاذ أبي
منصور، والرازي في "المحصول" وابن الحاجب في "مختصر المنتهى"2
وغيرهم فإنهم جعلوا دخول المخاطب في خطابه مذهب الأكثرين.
وقال إمام الحرمين الجويني: أن خطابه يتناوله بنفسه،
ولكنه خارج عنه عادة؛ فذهب إلى التفصيل، وتابعه على هذا التفصيل إلكيا الهراس. قال
الصفي الهندي: هذه المسألة قد تعرض في الأمر مرة، وفي النهي مرة، وفي الخبر مرة،
والجمهور على دخوله. انتهى.
والذي ينبغي اعتماده أن يقال: إن كان مراد القائل بدخوله
في خطابه أن ما وضع للمخاطب يشمل المتكلم وضعًا، فليس كذلك وإن كان المراد أنه
يشمله حكمًا فمسلم إذا دل عليه دليل أو كان الوضع شاملًا له كألفاظ العموم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": حكمه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه: "الأوسط في أصول الفقه"، للشهاب أحمد
بن علي، المعروف بابن برهان، الشافعي، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "98"،
ا. هـ. كشف الظنون "1/
201".
2 وهو مختصر لكتابه المسمى "منتهى السهول والأمل في
علمي الأصول والجدل" لابن الحاجب المالكي، وهو المشهور: "بمختصر
المنتهى، ومختصر ابن الحاجب"، وهو غريب في صنعه، بديع في فنه، لغاية إيجازه
يضاهي الألغاز، وبحسن إيراده يحاكي الإعجاز، اعتنى بشأنه الفضلاء فشرحوه. ا. هـ.
كشف الظنون "2/ 1853".
ج / 1 ص -327- المسألة الثامنة عشرة: عموم المقتضى
اختلفوا في المقتضي هل هو عام أم لا؟ ولا بد من تحرير
تصويره قبل نصب الخلاف فيه، فنقول: المقتضِي بكسر الضاد، هو اللفظ الطالب للإضمار،
بمعنى أن اللفظ لا يستقيم إلا بإضمار شيء، وهناك مضمرات متعددة فهل تقدر جميعها، أو
يكتفي بواحد منها، وذلك التقدير هو المقتضَى بفتح الضاد.
وقد ذكروا لذلك أمثلة، مثل قوله تعالى: {الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}1 و"قدره بعضهم: وقت إحرام الحج أشهر معلومات، وبعضهم
قدره: وقت أفعال الحج أشهر معلومات"*، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم:
"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"2 فإن هذا الكلام لا يستقيم بلا تقدير،
لوقوعهما من الأمة، فقدروا في ذلك تقديرات مختلفة، كالعقوبة، والحساب، والضمان،
ونحو ذلك، ونحو قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"3
وأمثال ذلك كثيرة، فذهب بعض أهل العلم إلى أنه يحمل على العموم في كل ما يحتمله؛
لأنه أعم فائدة، وذهب بعضهم إلى أنه يحمل على الحكم المختلف فيه لأن ما سواه معلوم
بالإجماع.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: وهذا كله خطأ لأن الحمل على
الجميع لا يجوز، وليس هناك لفظ يقتضي العموم، ولا يحمل على موضع الخلاف؛ لأنه
ترجيح بلا مرجح انتهى.
وذهب الجمهور إلى أنه لا عموم له، بل يقدر منها ما دل الدليل
على إرادته فإن لم يدل دليل على إرادته، واحد منها بعينه كان مجملًا بينها وبتقدير
الواحد منها الذي قام الدليل على أنه المراد يحصل المقصود، وتندفع الحاجة فكان ذكر
ما عداه مستغنى عنه.
وأيضًا قد تقرر أنه يجب التوقف فيما تقتضيه الضرورة على
قدر الحاجة، وهذا هو الحق، وقد اختاره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والغزالي، وابن
السمعاني وفخر الدين الرازي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "197" من سورة البقرة.
2 أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس، كتاب الطلاق، باب طلاق
المكره والناسي "2045".
والحاكم في المستدرك، كتاب الطلاق، "2/ 198"
وقال: حديث صحيح. والدارقطني في السنن، كتاب النذور "4/ 170".
والبيهقي في السنن، كتاب الخلع والطلاق، باب ما جاء في طلاق المكره "7/
356" وقال: جود إسناده بشر بن بكر وهو من الثقات. وابن حبان في صحيحه
"7219". وفي الباب عن عبد الله بن عمر، وعقبة بن عامر، وأبي ذر، وأبي
الدرداء، وغيرهم.
3 تقدم تخريجه في الصفحة "156".
ج / 1 ص -328- والآمدي، وابن الحاجب.
قال الرازي في "المحصول" مستدلًّا للقائلين
بعموم المقتضى: بأن إضمار أحد الحكمين ليس بأولى من إضمار الآخر، فإما أن لا يضمر
حكم أصلًا وهو غير جائز؛ لأنه تعطيل لدلالة اللفظ، أو يضمر الكل وهو المطلوب.
هكذا استدل لهم ولم يجب عن ذلك.
وأجاب الآمدي عنه: بأن قولهم ليس إضمار البعض أولى من
البعض إنما يلزم أن لو قلنا بإضمار حكم معين، وليس كذلك، بل إضمار حكم ما،
والتعيين إلى "الدليل"*؛ ثم أورد عليه بأنه يلزم الإجمال.
وأجاب: بأن إضمار الكل يلزم منه تكثير مخالفة
"الدليل"** وكل منهما، يعني: الإجمال، وإضمار الكل خلاف الأصل.
قال ابن برهان: وإذا قلنا ليس بمجمل فقيل: يصرف إطلاقه
في كل عين إلى المقصود واللائق به، وقيل: يضمر الموضع المختلف فيه؛ لأن المجمع
عليه مستغنٍ عن الدليل، حكى ذلك الشيخ أبو إسحاق الشيرازي.
قال الأصفهاني في "شرح المحصول": إن قلنا
المقتضى له عموم أضمر الكل، وإن قلنا لا عموم له فهل يضمر ما يفهم من اللفظ بعرف
الاستعمال قبل الشرع، أو يضمر حكم من غير تعيين وتعيينه إلى المجتهد، والأول
اختيار الغزالي، والثاني اختيار الآمدي، والثالث التوقف. انتهى.
وهذا الخلاف في هذه المسألة إنما هو فيما إذا لم يفهم
بدليل يدل على تعيين أحد الأمور الصالحة لتقديرها، أما إذا قام الدليل على ذلك فلا
خلاف في أنه يتعين للتقدير ما قام الدليل على تقديره كقوله سبحانه: {حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}1 {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم}2 فإنه قد قام
الدليل على أن المراد في الآية الأولى تحريم الأكل وفي الثانية الوطء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الشارح.
** في "أ": الأصل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "3" من سورة المائدة.
2 جزء من الآية "23" من سورة النساء.
ج / 1 ص -329- المسألة التاسعة عشرة: عموم المفهوم
اختلفوا في المفهوم هل له عموم أم لا؟ فذهب الجمهور إلى
أن له عمومًا، وذهب القاضي أبو بكر الغزالي، وجماعة من الشافعية إلى أنه لا عموم
له.
قال الغزالي: من يقول بالمفهوم قد يظن أن له عمومًا
ويتمسك به، ثم رده بأن العموم من عوارض الألفاظ، والمفهوم ليست دلالته لفظية فإذا
قال "في سائمة الغنم الزكاة"1، فنفى الزكاة عن المعلوفة ليس بلفظ حتى
يعم أو يخص.
ورد ذلك صاحب "المحصول" فقال: إن كنت لا تسميه
عمومًا لأنك لا تطلق لفظ العام إلا على الإلفاظ، فالنزاع لفظي وإن كنت تعني به أنه
لا يعرف منه انتفاء الحكم عن جميع ما عداه فهو باطل؛ لأن البحث على أن المفهوم هل
له عموم أم لا "فرع على أن المفهوم حجة أم لا؟"*، ومتى ثبت كون المفهوم
حجة لزم القطع بانتفائه عما عداه؛ لأنه لو ثبت الحكم في غير المذكور لم يكن
لتخصيصه بالذكر فائدة. انتهى.
قال القرافي: والظاهر من حال الغزالي أنه إنما خالف في
التسمية؛ لأن لفظ العموم إنما وضع للفظ لا للمعنى.
قال ابن الحاجب: إنما أراد الغزالي أن العموم لم يثبت
بالمنطوق به فقط، بل بواسطته، وهذا مما لا خلاف فيه، وقال: الخلاف لا يتحقق في هذه
المسألة.
قال الأبياري في "شرح البرهان"2: إن القائل
بأن للمفهوم عمومًا مستنده أنه إذا قيل له "في سائمة الغنم الزكاة" فقد
تضمن ذلك قولًا آخر، وهو لا زكاة في المعلوفة، وهو ولو صرح بذلك لكان عامًّا في
المقصود، أما إذا وجدنا صورة من صور المفهوم موافقة للمنطوق به، فهل نقول بطل
المفهوم بالكلية حتى لا يتمسك به في غير تلك الصورة، أو نقول يتمسك به فيما وراء
ذلك، هذا موضع نظر.
قال: والأشبه بناء ذلك على أن مستند المفهوم ماذا؟ هل هو
البحث عن فوائد التخصيص؛ كما هو اختيار الشافعي، فلا يصح أن يكون له عموم، وإن
قلنا استناده إلى عرف لغوي فصحيح،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي تخريجه في الصفحة "393".
2 وهو للإمام علي بن إسماعيل بن حسن، الأبياري، شرح فيه
كتاب "البرهان" للشيخ أبي المعالي الجويني، إمام الحرمين. ا. هـ. معجم
المؤلفين "7/ 37".
ج / 1 ص -330- وخرج من كلامه وكلام الشيخ أن الخلاف
معنوي، وليس الخلاف لفظيًّا كما زعموا. انتهى.
قال العضد1 في "شرحه لمختصر المنتهى": وإذا
حرر محل النزاع لم يتحقق خلاف؛ لأنه إن فرض النزاع في أن مفهومي المرافقة
والمخالفة يثبت بهما الحكم في جميع ما سوى المنطوق من الصور أول، فالحق
"الإثبات، وهو مراد الأكثر والغزالي لا يخالفهم فيه، وإن فرض أن ثبوت الحكم
فيهما بالمنطوق أو لا، فالحق"* النفي وهو مراد الغزالي، وهم لا يخالفونه فيه،
ولا ثالث ههنا يمكن فرضه محل النزاع.
والحاصل: أنه نزاع لفظي يعود إلى تفسير العام بأنه ما
يستغرق في محل النطق أو ما يستغرق في الجملة. انتهى.
قال الزركشي: ما ذكروه من عموم المفهوم حتى يعمل به فيما
عدا المنطوق، يجب تأويله على أن المراد ما إذا كان المنطوق جزئيًّا، وبيانه أن
الإجماع على أن الثابت بالمفهوم إنما هو نقيض المنطوق، والإجماع على أن نقيض الكلي
المثبت جزئي سالب ونقيض الجزئي المثبت كلي سالب، ومن هاتين المقدمتين يعلم أن ما
كان منطوقه كليًّا سالبًا كان مفهومه جزئيًّا سالبًا، فيجب تأويل قولهم إن المفهوم
عام على ما إذا كان المنطوق به خالصًا ليجتمع أطراف الكلام. انتهى.
وقد تقدم في مسألة الخلاف في كون العموم من عوارض الألفاظ
فقط أم من عوارض الألفاظ والمعاني، وكذلك سيأتي2 إن شاء الله تعالى في بحث المفهوم
ما إذا تأملته زادك بصيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد الرحمن بن ركن الدين، أحمد بن عبد الغفار،
البكري، القاضي، عضد الدين الإيجي، الحنفي، ولد سنة سبعمائة هـ، وتوفي سنة ست
وخمسين وسبعمائة هـ، من آثاره: "جواهر الكلام في مختصر المواقف"
"الرسالة العضدية في الوضع"
وله "شرح مختصر منتهى السول والأمل في علمي الأصول
والجدل" لابن الحاجب، وهو اعتنى بتصنيفه، وأفرغه في قالب الكمال وألبسه حلة
الجمال، وعليه حواش ا. هـ, العارفين "1/ 527"، كشف الظنون "2/
1853"، معجم المؤلفين "5/ 119".
المسألة الموفية للعشرين: الاستفصال
قال الإمام الشافعي: ترك الاستفصال، في حكاية الحال، مع
قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقام.
قال في "المحصول": مثاله أن ابن غيلان1 أسلم
على عشْر نسوة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمسك أربعًا منهن وفارق
سائرهن"2 ولم يسأل عن كيفية ورود عقده عليهن، في الجمع والترتيب، فكان إطلاقه
القول دالًّا على أنه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معًا أو على الترتيب.
وهذا فيه نظر، لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم عرف
"خصوص الحال"* فأجاب بناء على معرفته ولم يستفصل. انتهى.
ويجاب عنه بأن هذا الاحتمال إنما يصار إليه إذا كان
راجحًا وليس بمساوٍ فضلًا عن أن يكون راجحًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في الأصل: "ابن غيلان"، ولكن صاحب
القصة هو غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي، أسلم بعد فتح الطائف، روى ابن عباس شيئًا
من شعره، وهو ممن وفد على كسرى، كان له معه خبر طريف وظريف، توفي سنة ثلاث وعشرين
للهجرة، ا. هـ. الإصابة "3/ 186"، الكامل لابن الأثير "3/ 41".
2 أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، كتاب النكاح، باب ما
جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة "1128".
وابن ماجه، كتاب النكاح، كتاب النكاح، باب الرجل يسلم
وعنده أكثر من أربع نسوة "1953". والحاكم في المستدرك، كتاب النكاح
"2/ 193". والبيهقي في السنن، كتاب النكاح، باب عدد ما يحل من الحرائر
والإماء "7/ 149". وابن حبان في صحيحه "4156".
ج / 1 ص -331- المسألة الحادية والعشرين: حذف المتعلق
ذكر علماء البيان أن حذف المتعلق يشعر بالتعميم، نحو
زيد: يعطي ويمنع، ونحو قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلام}1،
فينبغي أن يكون ذلك من أقسام العموم، وإن لم يذكره أهل الأصول.
قال الزركشي: وفيه بحث فإن ذلك مما أخذ من القرائن،
وحينئذ فإن دلت القرينة على أن المقدر يجب أن يكون عامًّا فالتعميم من عموم المقدر
سواء ذكر أو حذف وإلا فلا دلالة على التعميم فالظاهر أن العموم فيما ذكر إنما هو
لدلالة القرينة على أن المقدر عام، والحذف إنما هو لمجرد الاختصار لا للتعميم.
انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "25" من سورة يونس.
المسألة الثانية والعشرين: حكم الكلام الوارد في جهة
المدح أو الذم
الكلام العام في طريقه المدح أو الذم نحو: {إِنَّ
الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيم}1، ونحو
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون}2، ذهب الجمهور إلى أنه عام ولا يخرج
عن كونه عامًّا حسبما تقضيه الصيغة كونه مدحًا أو ذمًّا، وذهب الشافعي وبعض أصحابه
إلى أنه لا يقتضي العموم، وحكى أبو الحسين بن القطان، والأستاذ أبو منصور، وسليم
الرازي وابن السمعاني وجهين في ذلك لأصحاب الشافعي وروى القول بعدم عمومه عن
القاساني والكرخي، نقله عن الأول أبو بكر الرازي وعن الثاني ابن برهان.
وقال إلكيا الهراس: إنه الصحيح، وبه جزم القفال الشاشي،
وقال: لا يحتج بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة}3 على
وجوب الزكاة في قليل الذهب والفضة وكثيرهما، بل مقصود الآية الوعيد لتارك الزكاة،
وكذا لا يحتج بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا
عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}4 على ما يحل منها وما لا
يحل، وكان فيها بيان أن الفرج لا يجب حفظه عنهما ثم إذا احتيج إلى تفصيل ما يحل
بالنكاح أو بملك اليمين صير فيه إلى ما قصد تفصيله، مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُم}5. انتهى.
والراجح ما ذهب إليه الجمهور لعدم التنافي بين قصد
العموم والمدح أو الذم، ومع عدم التنافي يجب التمسك بما يفيده اللفظ من العموم،
ولم يأت من منع من عمومه عند قصد المدح أو الذم بما تقوم به الحجة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الآيتين "13/ 14" من سورة الانفطار.
2 الآية "5" من سورة المؤمنون.
3 جزء من الآية "34" من سورة التوبة.
4 جزء من الآيتين "5/ 6" من سورة المؤمنون.
5 جزء من الآية "23" من سورة النساء.
ج / 1 ص -332- المسألة الثالثة والعشرون: حكم العام
الوارد على سبب خاص
ورود العام على سبب خاص: وقد أطلق جماعة من أهل الأصول
أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وحكوا ذلك إجماعًا كما رواه الزركشي في
"البحر".
قال: ولا بد في ذلك من تفصيل، وهو أن الخطاب إما أن يكون
جوابًا لسؤال سائل أو لا، فإن كان جوابًا فإما أن يستقل بنفسه أو لا، فإن لم يستقل
بحيث لا يحصل الابتداء به فلا خلاف في أنه تابع للسؤال في عمومه وخصوصه، حتى كأن السؤال
معاد فيه، فإن كان السؤال عامًّا فعام، وإن كان خاصًّا فخاص.
ج / 1
ص -333- مثال خصوص السؤال قوله تعالى: {فَهَلْ
وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَم}1، وقوله في الحديث:
"أينقص الرطب إذا جف"
قالوا: نعم. قال: "فلا إذا"2، وكقول القائل:
وطأت في نهار رمضان عامدًا فيقول: عليك الكفارة؛ فيجب قصر الحكم على السائل ولا
يعم غيره إلا بدليل من خارج يدل على أنه عام في المكلفين، أو في كل من كان بصفته.
ومثال عمومه ما لو سئل عمن جامع امرأته في نهار رمضان
فقال: يعتق رقبة، فهذا عام في كل واطئ في نهار رمضان، وقوله: يعتق وإن كان خاصًّا
بالواحد، لكنه لما كان جوابًا عمن جامع امرأته بلفظ يعم كل من جامع، كان الجواب
كذلك وصار السؤال معادًا في الجواب.
قال الغزالي: وهذا يشترط فيه أن يكون حال غير المحكوم
عليه كحاله في كل وصف مؤثر للحكم3.
وجعل القاضي في "التقريب" من هذا الضرب قوله:
أنتوضأ بماء البحر، فقال:
"هو الطهور ماؤه"4 قال: لأن الضمير لا بد له
من أن يتعلق بما قبله ولا يحسن أن يبتدأ به.
قال الزركشي: وفي هذا نظر؛ لأن هذا ضمير شأن، ومن شأنه
صدر الكلام وإن لم يتعلق بما قبله.
قال: وقد رجع القاضي في موضع آخر فجعله من القسم الثاني،
وهو الصواب، وبه صرح ابن برهان وغيره.
وإن استقل الجواب بنفسه، بحيث لو ورد مبتدأ لكان كلامًا
تامًّا مفيدًا للعموم، فهو على ثلاثة أقسام؛ لأنه إما أن يكون أخصَّ أو مساويًا أو
أعمَّ.
الأول: أن يكون الجواب مساويًا له، يزيد عليه ولا ينقص،
كما لو سئل عن ماء البحر.
فقال ماء البحر لا ينجسه شيء، فيجب حمله على ظاهره بلا
خلاف، وكذلك قال ابن فورك، والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وابن القشيري وغيرهم.
الثاني: أن يكون الجواب أخص من السؤال، مثل أن يسأل عن
أحكام المياه فيقول: ماء البحر طهور فيختص ذلك بماء البحر ولا يعم بلا خلاف كما
حكاه الأستاذ أبو منصور وابن القشيري وغيرهما.
الثالث: أن يكون الجواب أعم من السؤال وهما قسمان:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "44" من سورة الأعراف.
2 تقدم تخريجه في الصفحة "155".
3 انظر التبصرة "144": والمستصفى "2/ 60".
4 تقدم تخريجه في الصفحة: "155" مختصرًا.
ج / 1 ص -334- أحدهما: أن يكون أعم منه في حكم آخر غير
ما سئل عنه، كسؤالهم عن التوضؤ بماء البحر، وجوابه صلى الله عليه وسلم بقوله:
"هو الطهور ماؤه والحل ميتته"1 فلا خلاف أنه عام لا يختص بالسائل، ولا
بمحل السؤال من ضرورتهم إلى الماء وعطشهم، بل يعم حال الضرورة والاختيار، كذا قال
ابن فورك، وصاحبا "المعتمد" و"* "المحصول" وغيرهما،
وظاهر كلام القاضي أبي الطيب، وابن برهان أنه يجري في هذا الخلاف الآتي في القسم
الثاني، وليس بصواب كما لا يخفى.
القسم الثاني: أن يكون الجواب أعم من السؤال في ذلك
الحكم الذي وقع السؤال عنه، كقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ماء بئر بضاعة:
"الماء طهور لا ينجسه شيء"2، وكقوله لما سئل عمن اشترى عبدًا فاستعمله
ثم وجد فيه عيبًا: "الخراج بالضمان"3، وهذا القسم محل الخلاف، وفيه
مذاهب:
المذهب الأول: الأول أنه يجب قصره على ما خرج عليه
السؤال، وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي، وحكاه الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، وابن
الصباغ، وسليم الرازي، وابن برهان، وابن السمعاني، عن المزني4، وأبي ثور القفال،
والدقاق، وحكاه أيضًا الشيخ أبو منصور عن أبي الحسن الأشعري، وحكاه أيضًا بعض
المتأخرين عن الشافعي، وحكاه القاضي عبد الوهاب، والباجي عن أبي الفرج من أصحابهم
وحكاه الجويني في البرهان عن أبي حنيفة، وقال إنه الذي صح عندنا من مذهب الشافعي،
وكذا قال الغزالي في المنخول، وتبعه فخر الدين الرازي في "المحصول". قال
الزركشي: والذي في كتب الحنفية، وصح عن الشافعي خلافه ونقل هذا المذهب القاضي أبي
الطيب والماوردي وابن برهان وابن السمعاني عن مالك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في الصفحة: "155".
2 أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري، كتاب
الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة "67". والنسائي، كتاب المياه، باب ذكر
بئر بضاعة "325" "1/ 174". والترمذي، كتاب الطهارة، باب ما
جاء أن الماء لا ينجسه شيء "66" وقال: هذا حديث حسن. وأخرجه الدارقطني،
كتاب الطهارة باب الماء المتغير "10/ 31". والبيهقي في السنن، كتاب
الطهارة، باب الماء الكثير لا ينجس بنجاسة تحدث فيه ما لم يتغير "1/
257". ونقل ابن حجر في التلخيص الحبير "1/ 31" أن الإمام أحمد بين
حنبل ويحيى بن معين وأبا محمد بن ترم صححوه.
3 تقدم تخريجه في الصفحة: "156".
4 هو إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل، الإمام العلامة، فقيه
الملة، علم الزهاد، تلميذ الإمام الشافعي، ولد سنة خمس وسبعين ومائة، من آثاره: "المختصر"
في الفقه، توفي سنة أربع وستين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/
492" الجرح والتعديل "2/ 204".
ج / 1 ص -335- المذهب الثاني: أنه يجب حمله على العموم؛
لأن عدول المجيب عن الخاص المسئول عنه إلى العام دليل على إرادة العموم، ولأن
الحجة قائمة بما يفيده اللفظ، وهو يقتضي العموم، ووروده على السبب لا يصلح
معارضًا، وإلى هذا ذهب الجمهور.
قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، والماوردي، وابن
برهان: وهو مذهب الشافعي. واختاره أبو بكر الصيرفي، وابن القطان.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن القشيري، وإلكيا
الطبري، والغزالي: إنه الصحيح، وبه جزم القفال الشاشي. قال: والأصل أن العموم له
حكمه إلا أن يخصه دليل، والدليل قد اختلف فإن كان في الحال دلالة يعقل بها المخاطب
أن جوابه العام يقتصر به على ما أجيب عنه، أو على جنسه فذاك، وإلا فهو عام في جميع
ما يقع عليه عمومه، وحكا هذا المذهب ابن كج، عن أبي حنيفة، والشافعي، وحكاه
الأستاذ أبو منصور عن أكثر الشافعية والحنفية، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن
الحنفية، وأكثر الشافعية والمالكية، وحكاه الباجي عن أكثر المالكية والعراقيين.
قال القاضي في "التقريب": وهو الصحيح؛ لأن
الحكم معلق بلفظ الرسول، دون ما وقع عليه السؤال، ولو قال ابتداء وجب حمله على العموم،
فكذلك إذا صدر جوابًا. انتهى.
وهذا المذهب هو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة؛ لأن
التعبد للعباد إنما هو باللفظ الوارد عن الشارع، وهو عام ووروده على سؤال خاص لا
يصلح قرينة لقصره على ذلك السبب، ومن ادعى أنه يصلح لذلك فليأت بدليل تقوم به
الحجة، ولم يأت أحد من القائلين بالقصر على السبب بشيء يصلح لذلك، وإذا ورد في بعض
المواطن ما يقتضي قصر ذلك العام الوارد فيه على سببه لم يجاوز به محله، بل يقصر
عليه، ولا جامع بين الذي ورد فيه بدليل يخصه وبين سائر العمومات الواردة على أسباب
خاصة حتى يكون ذلك الدليل في ذلك الموطن شاملًا لها.
المذهب الثالث: الوقف، حكاه القاضي في
"التقريب"، ولا وجه له؛ لأن الأدلة هنا لم تتوازن حتى يقتضي ذلك التوقف.
المذهب الرابع: التفصيل بين أن يكون السبب هو سؤال سائل
فيختص به، وبين أن يكون السبب مجرد وقوع حادثة كان وذلك القوم العام واردًا عند
حدوثها فلا يختص بها كذا حكاه عبد العزيز في "شرح البزدوي"1.
المذهب الخامس: أنه إن عارض هذا العام الوارد على سبب
عموم آخر خرج ابتداء بلا سبب، فإنه يقصر على سببه وإن لم يعارضه فالعبرة بعمومه.
قال الأستاذ أبو منصور: هذا هو الصحيح. انتهى.
وهذا لا يصلح أن يكون مذهبًا مستقلًّا، فإن هذا العام
الخارج ابتداء من غير سبب إذا صلح للدلالة فهو دليل خارج يوجب القصر، ولا خلاف في
ذلك على المذاهب كلها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه "كشف الأسرار"، للشيخ الإمام، علاء
الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري الحنفي، وهو شرح من أعظم الشروح، وأكثرها إفاده
وبيانًا. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 112".
ج / 1 ص -336- المسألة الرابعة والعشرون: خلاف العلماء
فيما إذا ذكر بعض أفراد العام الموافق له في الحكم
ذكر بعض أفراد العام الموافق له في الحكم لا يقتضي
التخصيص عند الجمهور، والحاصل: أنه إذا وافق الخاص العام في الحكم فإن كان بمفهومه
ينفي الحكم عن غيره، فمن أخذ بمثل ذلك المفهوم خصص به على الخلاف الآتي1 في مسألة التخصيص
بالمفهوم.
وأما إذا لم يكن له مفهوم فلا يخصص به.
ومثال ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب
دبغ فقد طهر"2 مع قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر في شاة ميمونة:
"دباغها طهورها"3 فالتنصيص على الشاة في الحديث الآخر لا يقتضي تخصيص
عموم أيما إهاب دبغ فقد طهر؛ لأنه تنصيص على بعض إفراد العام بلفظ لا مفهوم له إلا
مجرد مفهوم اللقب، فمن أخذ به خصص به، ومن لم يأخذ به لم يخصص به، ولا متمسك لمن
قال بالأخذ به كما سيأتي4.
ومن أمثلة المسألة قوله: صلى الله عليه وسلم: "جعلت
لي الأرض مسجدًا وطهورًا"5 وفي لفظ آخر "وتربتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "393".
2 أخرجه مسلم من حديث ابن عباس بلفظ: "إذا دبغ
الإهاب فقد طهر"، كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ "366،
ومالك في الموطأ، كتاب الصيد، باب ما جاء في جلود الميتة "2/ 498".
وأخرجه أبو داود: كتاب اللباس، في أهب الميتة "4123". كتاب الفرع، باب
جلود الميتة "4252" "7/ 173". عن ابن عباس بلفظ "أيما
إهاب دبغ فقد طهر". والترمذي بهذا اللفظ، كتاب اللباس، باب ما جاء في جلود
الميتة إذا دبغت "1728" وقال: حسن صحيح. وابن ماجه، كتاب اللباس، باب
لبس جلود الميتة إذا دبغت "3609". وابن حبان في صحيحه "1288".
3 أخرجه أبو داود من حديث ميمونة بلفظ "يطهرها
الماء والقرظ" "4126".
والنسائي، كتاب الفروع والعتيرة "7/ 174".
والبيهقي في سننه "1/ 19". أحمد في مسنده "6/ 334". والطحاوي
"1/ 471". والدارقطني "1/ 45".
4 انظر صفحة: "393".
5 جزء من حديث تقدم تخريجه في الصفحة: "322".
ج / 1 ص -337- ظهورًا"1 وقوله: "الطعام
بالطعام"2 مع قوله في حديث آخر "البر بالبر"3 إلخ، وقد احتج الجمهور على عدم التخصيص
بالمواقف للعام "بأن المخصص لا بد أن يكون منافيا للعام"* وذكر الحكم
على بعض الأفراد التي شملها العام ليس بمنافٍ فلا يكون ذكره مخصصًا، وقد أنكر بعض
أهل العلم وقوع الخلاف في هذه المسألة. وقال لما كان أبو ثور ممن يقول بمفهوم
اللقب ظن أنه يقول بالتخصيص وليس كذلك.
قال الزركشي: فإن قلت: فعلى قول الجمهور ما فائدة هذا
الخاص مع دخوله في العام؟
قلت: يجوز أن تكون فائدته عدم جواز تخصيصه أو التفخيم له
أو إثبات المزيد له على غيره من الأفراد، قال ابن دقيق العيد: إن كان أبو ثور نص
على هذه القاعدة فذاك، وإن كان أخذها له بطريق الاستنباط من مذهبه في مفهوم اللقب فلا
يدل على ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري من حديث جابر، باب التيمم
"335"، ومسلم، كتاب المساجد، "521". والنسائي في الغسل، باب
التيمم بالصعيد "1/ 209". وابن حبان في صحيحه "6398". وأحمد
في مسنده "3/ 304" وابن أبي شيبة "11/ 432". والدارمي "1/ 322". والبيهقي في السنن "1/ 212".
2 أخرجه مسلم من حديث معمر بن عبد الله، كتاب المساقاة،
باب الربا "1592". والطبراني في الكبير "2/ 447"، "1094". والبيهقي في السنن،
كتاب البيوع، باب جواز التفاضل بالجنسين "5/ 283". والإمام أحمد في المسند
"6/ 401". وابن حبان في صحيحه "5011".
3 أخرجه البخاري من حديث عمر، كتاب البيوع، باب ما يذكر
في بيع الطعام "2134".
ومسلم كتاب المساقاة باب الربا "1586". وابن
ماجه، كتاب التجارات، باب الصرف وما لا يجوز متفاضلًا يدًا بيد "2253".
والنسائي، في السنن كتاب البيوع، باب بيع التمر بالتمر متفاضلًا "4572"
"7/ 233". وأبو داود، كتاب البيوع، باب في الصرف "3348". وابن
حبان في صحيحه "5013".
المسألة الخامسة والعشرون: في عموم العلة المعلقة بالحكم
إذا علق الشارع حكمًا على علة هل تعم تلك العلة حتى يوجد
الحكم بوجودها في كل صورة، فقال الجمهور بالعموم في جميع صور وجود العلة، وقال
القاضي أبو بكر: لا يعم، ثم اختلف القائلون بالعموم هل العموم باللغة أو بالشرع، والظاهر
أن ذلك العموم بالشرع لا باللغة فإنه لم يكن في الصيغة ما يقتضي ذلك، بل اقتضى ذلك
القياس، وقد ثبت التعبد به كما سيأتي1.
واحتج من قال بعدم العموم، بأنه يحتمل أن يكون المذكور
جزء علة والجزء الآخر خصوصية المحل.
وأجيب عنه: بأن مجرد الاحتمال لا ينتهض للاستدلال، فلا
يترك به ما هو الظاهر، ولكنه ينبغي تقييد هذه المسألة بأن يكون القياس الذي اقتضته
العلة من الأقيسة التي ثبتت بدليل نقل أو عقل، لا بمجرد محض الرأي والخيال المختل،
وسيأتي2 بمعونة الله إيضاح ذلك مستوفى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "91جـ2".
2 انظر صفحة: "105 جـ2".
ج / 1 ص -338- المسألة السادسة والعشرون: العام المخصوص
هل هو حقيقة في الباقي أم مجاز
اختلفوا في العام إذا خص هل يكون حقيقة في الباقي أم
مجازًا، فذهب الأكثرون إلى أنه مجاز في الباقي مطلقا، سواء كان ذلك التخصيص بمتصل
أو منفصل، وسواء كان بلفظ أو بغيره واختاره البيضاوي، وابن الحاجب، والصفي الهندي.
قال ابن برهان في "الأوسط": وهو المذهب
الصحيح، ونسبه إلكيا الطبري إلى المحققين ووجهه أنه موضوع للمجموع، فإذا أريد به
البعض فقد أريد به غير ما وضع له، وذلك هو المجاز.
وأيضًا لو كان حقيقة في البعض كما كان حقيقة في الكل لزم
أن يكون مشتركًا فيكون حقيقة في معنيين مختلفين، والمفروض أنه حقيقة في معنى واحد.
وأيضًا قد تقرر أن المجاز خير من الاشتراك كما تقدم1،
فيكون مقدمًا عليه.
وذهب جماعة عن أهل العلم إلى أنه حقيقة فيما بقي مطلقًا،
قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: وهذا مذهب الشافعي وأصحابه، وهو قول مالك وجماعة
من أصحاب أبي حنيفة، ونقله ابن برهان عن أكثر الشافعية.
وقال إمام الحرمين: هو مذهب جماعة الفقهاء وحكاه ابن
الحاجب عن الحنابلة.
قالوا: ووجه ذلك أن اللفظ إذا كان متناولًا حقيقة باتفاق
فالتناول باقٍ على ما كان عليه، ولا يضره طرد عدم تناول الغير.
وأجيب: بأنه كان يتناوله مع غيره، والآن يتناوله وحده
وهما متغايران.
وقالوا أيضًا: إنه يسبق إلى الفهم من غير قرينة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "241".
ج / 1 ص -339- وأجيب: بأنه إنما يسبق إلى الفهم مع القرينة؛
إذ السابق مع عدمها هو العموم، وهذا دليل المجاز.
قال العضد: وقد يقال إرادة الباقي معلومة دون القرينة،
إنما المحتاج إلى القرينة عدم إرادة الإخراج. انتهى.
ويجاب عنه: بأن إرادة الباقي وحده دون غيره يحتاج إلى
قرينة.
وذهب جماعة: إلى أنه إن خص بمتصل لفظي كالاستثناء
فحقيقة، وإن خص بمنفصل فمجاز، حكاه الشيخ أبو حامد، وابن برهان وعبد الوهاب عن
الكرخي وغيره من الحنفية، قال عبد الوهاب: هو قول أكثرهم. قال ابن برهان: وإليه
مال القاضي، ونقله عنه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "اللمع".
واحتجوا بأنه مع التخصيص بمتصل كلام واحد.
ويجاب: بأن ذلك المخصص المتصل هو القرينة التي كانت سببا
لفهم ارادة الباقي من لفظ العموم وهو معنى المجاز، ولا فرق بين قرينة قريبة أو
بعيدة متصلة أو منفصلة.
وذهب عبد الجبار إلى عكس هذا القول، حكى ذلك عنه ابن برهان
في "الأوسط" ولا وجه له، وحكى الآمدي أنه إن خص بدليل لفظي كان حقيقة في
الباقي، سواء كان ذلك المخصص اللفظ متصلًا أو منفصلًا، وإن خص بدليل غير لفظي كان
مجازًا، ولا وجه لهذا أيضًا؛ لأن القرينة قد تكون لفظية وقد تكون غير لفظية، وحكى
أبو الحسين في "المعتمد" عن عبد الجبار أنه: إن خص بالشرط والصفة فهو حقيقة،
وإلا فهو مجاز، ولا وجه له أيضًا، وقد استدل له بما لا يصلح للاحتجاج به على محل
النزاع.
وقال أبو الحسين البصري: إن كان المخصص مستقلًّا فهو
مجاز، سواء كان عقليًّا أو لفظيًّا، وذلك كقول المتكلم بالعام أردت به البعض
الباقي بعد الإخراج، وإن لم يكن مستقلًا فهو حقيقة، كالاستثناء والشرط، والصفة.
واختار هذا فخر الدين الرازي، فإنه قال في
"المحصول": والمختار قول أبي الحسين، وهو أن القرينة المخصصة إن استقلت
بنفسها صار مجازًا وإلا فلا، وتقريره أن القرينة المخصصة المستقلة ضربان: عقلية
ولفظية، أما العقلية فكالدلالة الدالة على أن غير القادر غير مراد بالخطاب
بالعبادات، وأما اللفظية فيجوز أن يقول المتكلم بالعام أردت به البعض الفلاني، وفي
هذين القسمين يكون العام مجازا، والدليل عليه أن اللفظ موضوع في اللغة للاستغراق،
فإذا استعمل هو بعينه في البعض فقد صار اللفظ مستعملًا في غير مسماه لقرينة مخصصة،
وذلك هو المجاز.
فإن قلت: لِمَ لا يجوز أن يقال لفظ العموم وحده حقيقة في
الاستغراق، ومع القرينة
ج / 1 ص -340- المخصصة حقيقة في الخصوص.
قلت: فتح هذا الباب يفضي إلى أن لا يوجد في الدنيا
مجازًا أصلًا؛ لأنه لا لفظ إلا ويمكن أن يقال إنه وحده حقيقة في كذا، ومع القرينة
حقيقة في المعنى الذي جعل مجازًا عنه، والكلام في أن العام المخصوص بقرينة مستقلة
بنفسها هل هو مجاز أم لا. انتهى.
ويجاب عنه بمنع كونه يفضي إلى ذلك، ومجرد إمكان أن يقال
لا اعتبار به، بل الاعتبار بالدلالة الكائنة في نفس الدال مع عدم فتح باب الإمكان
المفضي إلى سد باب الدلالة مطلقًا، فضلًا عن سد باب مجرد المجاز.
وحكى الآمدي عن أبي بكر الرازي أنه إن بقي بعد التخصيص جمع
فهو حقيقة، وإلا فهو مجاز، واختاره الباجي من المالكية، وهذا لا ينبغي أن يعد
مذهبًا مستقلًّا لأنه لا بد "من"* أن يبقى أقل الجمع، وهو محل الخلاف،
ولهذا قال القاضي أبو بكر الباقلاني، والغزالي: إن محل الخلاف فيما إذا كان الباقي
أقل الجمع، فأما إذا بقي واحد أو اثنان، كما لو قال لو تكلم الناس، ثم قال أردت
زيدًا خاصة، فإنه يصير مجازًا بل خلاف؛ لأنه اسم جمع، والواحد والاثنان ليسا بجمع.
انتهى.
وهكذا لا ينبغي أن يعد مذهبًا مستقلًّا ما اختاره إمام
الحرمين، من أنه يكون حقيقة فيما بقي ومجازًا فيما أخرج؛ لأن محل النزاع هو فيما
بقي فقط، هل يكون العام فيه حقيقة أم لا؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
المسألة السابعة والعشرون: حجية العام بعد التخصيص
اختلفوا في العام بعد تخصيصه هل يكون حجة أم لا، ومحل
الخلاف فيما إذا خص بمبين، أما إذا خص بمبهم كما لو قال تعالى: "اقتلوا
المشركين إلا بعضهم"1، فلا يحتج به على شيء من الإفراد، بلا خلاف؛ إذ ما من
فرد إلا ويجوز أن يكون هو المخرج، وأيضًا إخراج المجهول من المعلوم يصيره مجهولًا،
وقد نقل الإجماع على هذا جماعة منهم القاضي أبو بكر، وابن السمعاني، والأصفهاني.
قال الزركشي في "البحر": وما نقلوه من الاتفاق
فليس بصحيح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إشارة إلى الآية "5" من سورة التوبة
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم} التي جاءت عامة المشركين بدون
استثناء أو تخصيص.
ج / 1 ص -341- وقد حكى ابن برهان في "الوجيز"
الخلاف في هذه الحالة، وبالغ فصحح العمل به مع "الإبهام"*، واعتل بأنا
إذا نظرنا إلى فرد شككنا فيه هل هو من المخرج والأصل عدمه، فيبقى على الأصل، ونعمل
به إلى أن "نعلم"** بالقرينة بأن الدليل المخصص معارض للفظ العام، وإنما
يكون معارضًا عند العلم به.
قال الزركشي: وهو صريح في الإضراب عن المخصص، والعمل
بالعام في جميع أفراده، وهو بعيد، وقد رد الهندي هذا البحث بأن المسألة مفروضة في
الاحتجاج به في الكل المخصوص وغيره ولا قائل به. انتهى.
وقال بعض الشافعية بإحالة هذا محتجًّا بأن البيان لا
يتأخر، وهذا يؤدي إلى تأخره.
وأما إذا كان التخصيص بمبين، فقد اختلفوا في ذلك على
أقوال:
الأول: أنه حجة في الباقي، وإليه ذهب الجمهور، واختاره
الآمدي، وابن الحاجب، وغيرهما من محققي المتأخرين، وهو الحق الذي لا شك فيه ولا
شبهة؛ لأن اللفظ العام كان متناولًا للكل فيكون حجة في كل واحد من أقسام ذلك الكل،
ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على السوية فإخراج البعض منها
بمخصص لا يقتضي إهمال دلالة اللفظ على ما بقي، ولا يرفع التعبد به، ولو توقف كونه
حجة في البعض على كونه حجة في الكل للزم الدور، وهو محال.
وأيضًا المقتضى للعمل به فيما بقي موجود، وهو دلالة
اللفظ عليه، والمعارض مفقود فوجد المقتضى وعدم المانع، فوجب ثبوت الحكم. وأيضًا قد
ثبت عن سلف هذه الأمة ومن بعدهم الاستدلال بالعمومات المخصوصة، وشاع ذلك وذاع.
وأيضًا قد قيل: إنه ما من عموم إلا وقد خص، وأن لا يوجد
عام غير مخصص، فلو قلنا إنه غير حجة فما بقي للزم إبطال كل عموم، ونحن نعلم أن غالب
هذه الشريعة المطهرة إنما ثبتت بعمومات.
القول الثاني: أنه ليس بحجة فيما بقي، وإليه ذهب عيسى بن
أبان وأبو ثور، كما حكاه عنهما صاحب "المحصول"، وحكاه القفال الشاشي عن أهل العراق وحكاه الغزالي عن القدرية،
قال: ثم منهم من قال: يبقى أقل الجمع؛ لأنه المتيقن.
قال إمام الحرمين: ذهب كثير من الفقهاء الشافعية،
والمالكية، والحنفية، والجبائي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الإبهام.
** في "أ": نعمل.
ج / 1 ص -342- وابنه1 إلى أن الصيغة الموضوعة للعموم إذا
خصت صارت مجملة، ولا يجوز الاستدلال بها في بقية المسميات إلا بدليل، كسائر
المجازات، وإليه مال عيسى بن أبان. انتهى.
واستدلوا بأن معنى العموم حقيقة غير مراد مع تخصيص
البعض، وسائر ما تحته من المراتب مجازات، وإذا كانت الحقيقة غير مرادة، وتعددت
المجازات، كان اللفظ مجملًا فيها، فلا يحمل على شيء منها "والباقي أحد المجازات فلا يحمل على
شيء منها"*.
وأجيب: بأن ذلك إنما يكون إذا كانت المجازات متساوية،
ولا دليل على تعين أحدها، وما قدمنا من الأدلة فقد دلت على حمله على الباقي فيصار
إليه.
القول الثالث: أنه إن خص بمتصل كالشرط
و"الاستثناء"** والصفة فهو حجة فيما بقي، وإن خص بمنفصل فلا، بل يصير
مجملًا، حكاه الأستاذ أبو منصور، عن الكرخي، ومحمد بن شجاع الثلجي، بالمثلثة
والجيم.
قال أبو بكر الرازي: كان شيخنا أبو الحسن الكرخي يقول:
في العام إذا ثبت خصوصه سقط الاستدلال باللفظ، وصار حكمه موقوفًا على دلالة أخرى
من غيره، فيكون بمنزلة اللفظ، وكان يفرق بين الاستثناء المتصل باللفظ وبين الدلالة
من غير اللفظ، فيقول: إن الاستثناء غير مانع بقاء اللفظ فيما عدا المستثنى. انتهى.
ولا يخفاك أن قوله سقط الاستدلال باللفظ مجرد دعوى، ليس
عليها دليل، وقوله: وصار حكمه...إلخ ضم دعوى إلى دعوى، والأصل بقاء الدلالة،
والظاهر يقتضي ذلك، فمن قال برفعها أو بعدم ظهورها لم يقبل منه ذلك إلا بدليل، ولا
دليل أصلًا.
القول الرابع: إن التخصيص إن لم يمنع استفادة الحكم
بالاسم وتعلقه بظاهره جاز التعلق به، كما في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ}2؛ لأن القيام الدلالة على المنع من قتل أهل الذمة لا يمنع من تعلق
الحكم وهو القتل باسم المشركين، وإن كان يمنع من تعلق الحكم بالاسم العام، ويوجب
تعلقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعلق به، كما في قوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}3؛ لأن قيام الدلالة على
اعتبار النصاب والحرز، وكون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب، الجبائي، أبو
الهاشم، تقدمت ترجمته ص"141".
2 جزء من الآية "5" من سورة التوبة.
3 جزء من الآية "38" من سورة المائدة.
ج / 1 ص -343- المسروق لا شبهة للسارق فيه يمنع من تعلق
الحكم، وهو القطع بعموم اسم السارق، ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه ظاهر اللفظ،
وإليه ذهب أبو عبد الله البصري تلميذ الكرخي.
ويجاب عنه: بأن محل النزاع دلالة اللفظ العام على ما بقي
بعد التخصيص، وهي كائنة في الموضعين، والاختلاف بكون الدلالة في البعض الآخر
باعتبار أمر خارج لا يقتضي ما ذكره من التفرقة المفضية إلى سقوط دلالة الدال أصلًا
وظاهرًا.
القول الخامس:
إن كان لا يتوقف على البيان قبل التخصيص، ولا يحتاج إليه
كـ{اقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} فهو حجة؛ لأن مراده بين قبل إخراج الذمي، وإن كان
يتوقف على البيان، ويحتاج إليه قبل التخصيص فليس بحجة كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاة}1
فإنه يحتاج إلى البيان قبل إخراج الحائض ونحوها، وإليه ذهب عبد الجبار، وليس هو
بشيء ولم يدل عليه دليل من عقل ولا نقل.
القول السادس:
أنه يجوز التمسك به في أقل الجمع؛ لأنه المتعين، ولا
يجوز فيما زاد عليه، هكذا حكى هذا المذهب القاضي أبو بكر، والغزالي، وابن القشيري،
وقال إنه تحكم، وقال الصفي الهندي: لعله قول من لا يجوِّز "التخصيص ألبته"*.
وقد استدل لهذا القائل: بأن أقل الجمع هو المتيقن،
والباقي مشكوك فيه، ورد بمنع كون الباقي مشكوكًا فيه لما تقدم من الأدلة.
القول السابع:
أنه يتمسك به في واحد فقط، حكاه في "المنخول"
عن أبي هاشم، وهو أشد تحكمًا مما قبله.
القول الثامن:
الوقف، فلا يعمل به إلا بدليل، حكاه أبو الحسين بن
القطان، وجعله مغايرًا لقول عيسى بن أبان ومن معه، وهو مدفوع بأن الوقف إنما يحسن
عند توازن الحجج وتعارض الأدلة، وليس هناك شيء من ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": تخصيص التثنية وهو خطأ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "110" من سورة البقرة.
المسألة الثامنة والعشرون: عطف بعض أفراد العام عليه
إذا ذكر العام وعطف عليه بعض أفراده مما حق العموم أن
يتناوله، كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}1،
فهل يدل ذكر الخاص على أنه غير مراد باللفظ العام أم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "238" من سورة البقرة.
ج / 1 ص -344- لا؟ وقد حكى الروياني في
"البحر" عن والده في "كتاب الوصية" أنه حكى اختلاف العلماء في هذه
المسألة فقال بعضهم: هذا المخصوص "بالذكر"* لا يدخل تحت العام؛ لأنا لو
جعلناه داخلًا تحته لم يكن لإفراده بالذكر فائدة.
قال الزركشي في "البحر": وعلى هذا جرى أبو علي
الفارسي، وتلميذه ابن جني، وظاهر كلام الشافعي يدل عليه، فإنه قال في حديث عائشة
في الصلاة الوسطى، وصلاة العصر1 إنه يدل على أن الصلاة الوسطى ليست العصر لأن
العطف يقتضي المغايرة.
قال الروياني أيضًا: وقال بعضهم هذا المخصوص بالذكر هو داخل
تحت العموم، وفائدته التأكيد، وكأنه ذكر مرة بالعموم، ومرة بالخصوص وهذا هو
الظاهر، وقد أوضحنا هذا المقام بما لا مزيد عليه في "شرحنا للمنتقى".
وإذا كان المعطوف خاصًّا فاختلفوا: هل يقتضي تخصيص
المعطوف عليه أم لا؟
فذهب الجمهور إلى أنه لا يوجبه، وقالت الحنفية يوجبه،
وقيل بالوقف.
ومثال هذه المسألة صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل
مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده"2 فقال الأولون: لا يقتل المسلم بالذمي،
لقوله: "لا يقتل مؤمن بكافر"، وهو عام في الحربي والذمي؛ لأنه نكرة في
سياق النفي.
وقالت الحنفية بل هو خاص، والمراد به الكافر الحربي،
بقرينة عطف الخاص عليه، وهو قوله: "ولا ذو عهد في عهده" فيكون التقدير:
ولا ذو عهد في عهده بكافر قالوا: والكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي فقط
بالإجماع؛ لأن المعاهد يقتل بالمعاهد، فيجب أن يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم
هو الحربي تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه.
قال الأولون: وهذا التقدير ضعيف لوجوه:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم كتاب المساجد، باب دليل من قال الصلاة هي
الصلاة الوسطى هي صلاة العصر "269". ومالك في الموطأ. كتاب صلاة
الجماعة، باب الصلاة الوسطى "1/
138". وأبو داود، كتاب الصلاة، باب في وقت صلاة
العصر "410". والنسائي، كتاب الصلاة، باب المحافظة على صلاة العصر
"471" "1/ 236". والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة
البقرة "2982". وقال: حسن صحيح. والإمام أحمد في المسند "6/ 72".
2 أخرج بنحوه أبو داود، كتاب الديات، باب أيقاد المسلم
بالكافر من حديث علي "4530" والنسائي، كتاب القسامة، باب القود بين الأحرار
والمماليك في النفس "4748" "8/ 19". وابن حبان عن أبن عمر، في
صحيحه "5996".
ج / 1 ص -345- أحدها: أن العطف لا يقتضي الاشتراك بين
المتعاطفين من كل وجه.
الثاني: أن قوله: "ولا ذو عهد في عهده" كلام
تام، فلا يحتاج إلى إضمار قوله بكافر لأن الإضمار خلاف الأصل، والمراد حينئذ أن
العهد عاصم من القتل، وقد صرح أبو عبيد في "غريب الحديث"1 بذلك، فقال:
إن قوله: "ولا ذو عهد"
جملة مستأنفة وإنما قيده بقوله: "في عهده"
لأنه لو اقتصر على قوله: "ولا ذو عهد" لتوهم أن من وجد منه العهد ثم خرج
منه لا يقتل، فلما قال: "في عهده"
علمنا اختصاص النهي بحالة العهد.
الثالث: أن حمل الكافر المذكور على الحرب لا يحسن؛ لأن
إهدار دمه معلوم من الدين بالضرورة، فلا يتوهم أحد قتل مسلم به.
وقد أطال أهل الأصول الكلام في هذه المسألة، وليس هناك
ما يقتضي التطويل.
وقد قيل -على ما ذهب إليه الأولون-: ما وجه الارتباط بين
الجملتين؟ إذ لا يظهر مناسبة لقوله: "ولا ذو عهد في عهده" مطلقًا مع
قوله: "لا يقتل مسلم بكافر".
وأجاب عن ذلك الشيخ أبو إسحاق المروزي2: بأن عداوة
الصحابة رضي الله عنهم للكفار كانت شديدة جدًّا فلما قال عليه الصلاة والسلام:
"لا يقتل مسلم بكافر" "خشي"* أن ينجرد هذا الكلام فتحملهم
العداوة الشديدة بينهم على قتل كل كافر من معاهد وغيره، فعقبه بقوله:
"ولا ذو عهد في عهده".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": حتى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه "الغريب المصنف"، للإمام أبي عبيد
القاسم بن سلام، وهو مجلدان، ألفه في نحو أربعين سنة، وهو أول من صنف في هذا الفن.
ا. هـ. الأعلام "5/
176"،
كشف الظنون "2/ 1204".
2 وهو إبراهيم بن أحمد المروزي: الإمام الكبير، شيخ
الشافعية، فقيه بغداد من آثاره: "كتاب في السنة" و"شرح مختصر المزني"،
توفي سنة أربعين وثلاثمائة هـ، ودفن عند ضريح الإمام الشافعي، ا. هـ. سير أعلام
النبلاء "15/ 429"، شذرات الذهب "2/ 355"، الأعلام "1/
28".
المسألة التاسعة والعشرون: هل يجوز العمل بالعام قبل
البحث عن المخصص؟
نقل الغزالي، والآمدي، وابن الحاجب الإجماع على منع
العمل بالعام قبل البحث على المخصص.
واختلفوا في قدر البحث، والأكثرون قالوا إلى أن يغلب
الظن بعدمه، وقال القاضي أبو بكر
ج / 1 ص -346- الباقلاني إلى القطع به، وهو ضعيف؛ إذ
القطع لا سبيل إليه واشتراطه يفضي إلى عدم العمل بكل عموم.
واعلم: أن في حكاية الإجماع نظرًا، فقد قال في "المحصول":
قال ابن سريج لا يجوز التمسك بالعام ما لم يستقص في طلب المخصص، فإذا لم يوجد بعد
ذلك المخصص فحينئذ يجوز التمسك به في إثبات الحكم.
وقال الصيرفي: يجوز التمسك به ابتداء، ما لم يظهر دلالة
مخصصة.
واحتج الصيرفي بأمرين:
أحدهما: لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص، لم
يجز التمسك بالحقيقة إلا بعد البحث هل يوجد ما يقتضي صرف اللفظ عن الحقيقة إلى
المجاز، وهذا باطل فذاك مثله.
بيان الملازمة: أنه لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب
المخص، لكان ذلك لأجل الاحتراز عن الخطأ المحتمل، وهذا المعنى قائم في التمسك بحقيقة
اللفظ فيجب اشتراكهما في الحكم، وبيان أن التمسك بالحقيقة لا يتوقف على طلب ما
يوجب العدول إلى المجاز، هو أن ذلك غير واجب في العرف، بدليل أنهم يحملون الألفاظ
على ظاهرها من غير بحث عن أنه هل وجد ما يوجب العدول أم لا؟، وإذا وجب ذلك في
العرف، وجب أيضًا في الشرع، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المسلمون
حسنًا فهو عند الله حسن"1.
والأمر الثاني: أن الأصل عدم التخصيص، وهذا يوجب ظن عدم
التخصيص، فيكفي في إثبات ظن الحكم.
واحتج ابن سريج أن بتقدير قيام المخصص لا يكون العموم
حجة في صورة التخصيص، فقبل البحث عن وجود المخصص يجوز أن يكون العموم حجة، وأن لا
يكون، والأصل أن لا يكون حجة إبقاء للشيء على حكم الأصل.
الجواب: أن ظن كونه حجة أقوى من ظن كونه غير حجة؛ لأن
إجراءه على العموم أولى من حمله على التخصيص.
ولما ظهر هذا القدر من التفاوت كفى ذلك في ثبوت. انتهى
كلام "المحصول".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو موقوف على ابن مسعود. أما مرفوعًا فلا يصح.
والموقوف رواه الحاكم في المستدرك، كتاب معرفة الصحابة
"3/ 78" وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. والطبراني في
الكبير 9/ 113 "8583".
والإمام أحمد في المسند "1/ 379". والبغوي في
شرح السنة "105". وانظر المقاصد الحسنة للسخاوي "959" فإنه
قال: موقوف حسن وأخرجه البزار والطيالسي.
ج / 1 ص -347- وما ذكره من أن ما وجب في العرف وجب في
الشرع ممنوع.
وما استدل به زاعمًا أنه من قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم باطل، فإن ذلك ليس من قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يثبت من وجه
معتبر، ولا شك أن الأصل عدم التخصيص، فيجوز التمسك بالدليل العام لمن كان من أهل الاجتهاد
الممارسين لأدلة الكتاب والسنة العارفين بها، فإن عدم وجود المخصص لمن كان كذلك
يسوغ له التمسك بالعام، بل هو فرضه الذي تعبده الله به، ولا ينافي ذلك تقدير وجود
المخصص فإن مجرد هذا التقدير لا يسقط قيام الحجة بالعام، ولا يعارض أصالة عدم
الوجود وظهوره.
المسألة الموفية ثلاثين: في الفرق بين العام المخصوص
والعام الذي أريد به الخصوص
قال الشيخ أبو حامد في "تعليقه"1 في كتاب
البيع: والفرق بينهما أن الذي أريد به الخصوص ما كان المراد أقل، وما ليس بمراد هو
الأكثر، وقال أبو علي بن أبي هريرة: العام المخصوص المراد به هو الأكثر، وما ليس
بمراد هو الأقل. قال: ويفترقان أن العام الذي أريد به الخصوص "لا يصح
الاحتجاج بظاهره، والعام المخصوص يصح الاحتجاج بظاهره اعتبارًا بالأكثر. وقال
المرودي في "الحاوي"2: الفرق بينهما في وجهين:
أحدهما: أن العام المخصوص ما يكون المراد باللفظ أكثره،
وما ليس المراد باللفظ أقل، والعام الذي أريد به الخصوص"*. ما يكون المراد
باللفظ أقل، وما ليس بمراد باللفظ أكثر.
والثاني: أن المراد فيما أريد به الخصوص متقدم على
اللفظ، وفيما أريد به العموم متأخر عن اللفظ أو مقترن به.
وقال ابن دقيق العيد في "شرح العنوان"3: يجب
أن يتنبه للفرق بين قولنا: هذا عام أريد به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمها: "التعليقة الكبرى في الفروع"، لأبي
حامد، محمد بن أحمد، الغزالي، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة: "33". ا.
هـ. كشف الظنون "424".
2 واسمه: "الحاوي في الفروع"، للقاضي أبي
الحسن، علي بن محمد الماوردي، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة: "135".
3 "عنوان الوصول في الأصول" وشرحه للشيخ تقي
الدين، ابن دقيق العيد. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1176".
ج / 1 ص -348- الخصوص، وبين قولنا: هذا عام مخصوص، فإن
الثاني أعم من الأول، ألا ترى أن المتكلم إذا أراد باللفظ أولا ما دل عليه ظاهر
العموم، ثم أخرج بعد ذلك بعض ما دل عليه اللفظ، كان عامًّا مخصوصًا، ولم يكن
عامًّا أريد به الخصوص،ثم ويقال: إنه منسوخ بالنسبة إلى البعض الذي أخرج، وهذا متوجه
إذا قصد العموم، بخلاف ما إذا نطق بالعام مريدًا به بعض ما يتناوله.
قال الزركشي: وفرق بعض الحنابلة بينهما بوجهين آخرين:
أحدهما: أن المتكلم إذا أطلق اللفظ العام فإن أراد به
بعضًا معينًا، فهو العام الذي أريد به الخصوص، وإن إراد سلب الحكم عن بعض منه فهو
العام المخصوص.
مثاله: قام الناس، فإذا أردت به إثبات القيام لزيد مثلًا
لا غير، فهو عام أريد به الخصوص، وإن أردت به سلب القيام عن زيد فهو عام مخصوص.
والثاني: أن العام الذي أريد به الخصوص إنما يحتاج إلى
دليل معنوي يمنع إرادة الجميع، فيتعين له البعض، والعام المخصوص يحتاج إلى تخصيص اللفظ
غالبًا، كالشرط والاستثناء والغاية.
قال: وفرق بعض المتأخرين بأن العام الذي أريد به الخصوص:
هو أن يطلق العام ويراد به بعض ما يتناوله، وهو مجاز قطعًا؛ لأنه استعمال اللفظ في
بعض مدلوله، وبعض الشيء غيره، قال:
وشرط الإرادة في هذا أن تكون مقارنة لأول اللفظ ولا يكفي
طردها في أثنائه؛ لأن المقصود منها نقل اللفظ من معناه إلى غيره، واستعماله في غير
موضعه، وليست الإرادة فيه إخراجًا لبعض المدلول، بل إرادة استعمال اللفظ في شيء آخر
غير موضعه، كما يراد باللفظ مجازه.
وأما العام المخصوص، فهو العام الذي أريد به معناه
مخرجًا منه بعض أفراده فلا يشترط مقارنتها لأول اللفظ، ولا تأخرها عنه بل يكفي
كونها في أثنائه كالمشيئة في الطلاق.
وهذا موضع خلافهم في أن العام المخصوص مجاز أو حقيقة.
ومنشأ التردد: أن إرادة إخراج بعض المدلول هل يصير اللفظ
مرادًا به الباقي أو لا؟ وهو يقوي كونه حقيقة، لكن الجمهور على المجاز، والنية فيه
مؤثرة في نقل اللفظ عن معناه إلى غيره.
وقال علي بن عيسى1 النحوي: إذا أتى بصورة العموم والمراد
به الخصوص، فهو مجاز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الرماني، النحوي، المعتزلي، العلامة، أبو الحسن، له
نحو مائة مصنف، منها: "شرح كتاب سيبويه، الجمل، صنعة الاستدلال، المعلوم
والمجهول"، توفي سنة أربع وثمانين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء
"16/ 533" شذرات الذهب.
ج / 1 ص -349- إلا في بعض المواضع، إذا صار الأظهر
الخصوص، كقولهم: غسلت ثيابي وصرمت1 نخلي، وجاءت بنو تميم، وجاءت الأزد2. انتهى.
قال الزركشي: وظن بعضهم أن الكلام في الفرق بينهما مما
أثاره المتأخرون، وليس وكذلك، فقد وقعت التفرقة بينهما في كلام الشافعي، وجماعة من
أصحابنا، في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْع}3 هل هو عام مخصوص، أو عام أريد
به الخصوص. انتهى.
ولا يخفاك أن العام الذي أريد الخصوص هو ما كان مصحوبًا
بالقرينة عند التكلم به على إرادة المتكلم به بعض ما يتناوله بعمومه، وهذا لا شك
في كونه مجازًا لا حقيقة لأنه استعمال اللفظ في بعض ما وضع له سواء كان المراد منه
أكثره أو أقله، فإنه لا مدخل للتفرقة بما قيل من إرادة الأقل في العام الذي أريد
به الخصوص، وإرادة الأكثر في العام المخصوص.
وبهذا يظهر لك أن العام الذي أريد به الخصوص مجاز على كل
تقدير، وأما العام المخصوص، فهو الذي لا تقوم قرينة عند تكلم المتكلم به على أنه
أراد بعض أفراده، فيبقى متناولًا لأفراده على العموم، وهو عند هذا التناول حقيقة
فإذا جاء المتكلم بما يدل على إخراج البعض منه، كان على الخلاف المتقدم هل هو
حقيقة في الباقي أم مجاز؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الصرم: القطع البائن، قال الجوهري: صرمت الشيء صرما:
قطعته ا. هـ. لسان العرب مادة صرم.
2 لغة في الأسد، وهي أيضًا تجمع قبائل وعمائر كثيرة في
اليمن. ا. هـ. لسان العرب مادة أزد.
3 جزء من الآية "275" من سورة البقرة.
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
ج / 1 ص -350- الباب الرابع: في الخاص والتخصيص والخصوص
وفيه ثلاثون مسألة
المسألة الأولى: في حده
فقيل: الخاص هو اللفظ الدال على مسمى واحد.
ويعترض عليه بأن تقييده بالوحدة غير صحيح، فإن تخصيص
العام قد يكون بإخراج أفراد كثيرة من أفراد العام، وقد يكون بإخراج نوع من أنواعه،
أو صِنف من أصنافه، إلا أن يراد بالمسمى الواحد ما هو أعم من أن يكون فردًا أو
نَوعًا أو صِنفًا، لكنه يشكل عليه إخراج أفراد متعددة، نحو: أكرم القوم إلا زيدًا،
وعمرًا، وبكرًا.
ثم يرد على هذا الحد أيضًا أنه يصدق على كل دال على مسمى
واحد، سواء كان مخرجًا "من عموم"* أو لا.
وقيل في حده: هو ما دل على كثرة مخصوصة.
ويعترض عليه: بأن التخصيص قد يكون بفرد من الأفراد نحو:
أكرم القوم إلا زيدًا، وليس زيد وحده بكثرة.
وأيضًا يعترض عليه: بأنه يصدق على كل لفظ يدل على كثرة،
سواء كان مخرجًا من عموم أم لا، إلا أن يراد بهذين الحدين تحديد الخاص من حيث هو
خاص "من غير اعتبار كونه مخرجًا من عموم، ولكنه يأبى ذلك كون المقام مقام
تحديد الخاص المخرج من العام، لا تحديد الخاص من حيث هو خاص"**.
وأما التخصيص وهو المقصود بالذكر هنا، فهو في اللغة:
الإفراد، ومنه الخاصة.
وفي الاصطلاح: تمييز بعض الجملة بالحكم. كذا قال ابن
السمعاني.
ويرد عليه: العام الذي أريد به الخصوص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ج / 1 ص -351- وقيل: بيان ما لم يرد بلفظ العام.
ويرد عليه أيضًا: بيان ما لم يرد بالعام الذي أريد به
الخصوص، وليس من التخصيص.
وقال العبادي1: التخصيص بيان المراد بالعام ويعترض عليه:
بأن التخصيص هو بيان ما لم يرد بالعام، لا بيان ما أريد به.
وأيضًا: يدخل فيه العام الذي أريد به الخصوص.
وقال ابن الحاجب: التخصيص: قصر العام على بعض مسمياته.
واعترض عليه: بأن لفظ القصر يحتمل القصر في التناول أو
الدلالة، أو الحمل، أو الاستعمال.
وقال أبو الحسين: هو إخراج بعض ما يتناوله الخطاب عنه.
واعترض عليه: بأن ما أخرج فالخطاب لم يتناوله.
وأجيب: بأن المراد ما يتناوله الخطاب بتقدير عدم المخصص.
وقيل: هو تعريف أن العموم للخصوص.
وأورد عليه: أنه تعريف التخصيص بالخصوص، وفيه دور.
وأجيب: بأن المراد بالتخصيص المحدود، التخصيص في
الاصطلاح، وبالخصوص المذكور في الحد هو الخصوص في اللغة فتغايرا فلا دور.
قال القفال الشاشي: إذا ثبت تخصيص العام ببعض ما اشتمل
عليه علم أنه غير مقصود بالخطاب، وأن المراد ما عداه، ولا نقول إنه داخل في الخطاب
فخرج منه بدليل وإلا لكان نسخًا ولم يكن تخصيصًا، فإن الفارق بينهما أن النسخ رفع الحكم
بعد ثبوته، والتخصيص بيان ما قصد "له اللفظ"* العام.
قال إلكيا الطبري، والقاضي عبد الوهاب: معنى قولنا إن
العموم مخصوص، أن المتكلم به قدر أراد بعض ما وضع له دون بعض وذلك مجاز؛ لأنه شبيه
بالمخصوص الذي يوضع في الأصل للخصوص، وإرادة البعض لا تصيره موضوعًا في الأصل
لذلك، ولو كان حقيقة لكان العام خاص وهو متنافٍ وإنما يصير خاصًّا بالقصد، كالأمر
يصير أمرًا بالطلب والاستدعاء، وقد ذكر مثل هذا القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": باللفظ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن أحمد بن محمد بن عباد، العبادي، الهروي،
الشافعي، القاضي أبو عاصم، من آثاره: "المسبوط، الهادي، أدب القاضي، طبقات
الفقهاء"، توفي سنة ثمانٍ وخمسين وأربعمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء
"18/ 180" هدية العارفين "2/ 71"، شذرات الذهب "3/ 306".
ج / 1 ص -352- وأما الخصوص: فقيل هو كون اللفظ متناولًا
لبعض ما يصلح له لا لجميعه.
ويعترض عليه: بالعام الذي أريد به الخصوص.
وقيل: هو كون اللفظ متناولًا للواحد المعين، الذي لا يصلح
إلا له.
ويعترض على تقييده بالوحدة مثل ما تقدم.
قال العسكري: الفرق بين الخاص والخصوص، بأن الخاص هو ما
يراد به بعض ما ينطوي عليه لفظه بالوضع، والخصوص ما اختص بالوضع لا بالإرادة.
وقيل: الخاص ما يتناول أمرًا واحدًا بنفس الوضع، والخصوص
أن يتناول شيئًا دون غيره، وكان يصح أن يتناوله ذلك الغير.
وأما المخصص: فيطلق على معانٍ مختلفة، فيوصف المتكلم
بكونه مخصصًا للعام، بمعنى أنه أراد به بعض ما تناوله، ويوصف الناصب لدلالة
التخصيص بأنه مخصص، ويوصف الدليل بأنه مخصص، كما يقال: السنة تخصص الكتاب، ويوصف
المعتقد لذلك بأنه مخصص.
وإذا عرفت أن المقصود في هذا الباب ذكر حد التخصيص دون الخاص
والخصوص، فالأولى في حده أن يقال هو إخراج بعض ما كان داخلًا تحت العموم، على
تقدير عدم المخصص.
المسألة الثانية: في الفرق بين النسخ والتخصيص
اعلم: أنه لما كان التخصيص شديد الشبه بالنسخ لاشتراكهما
في اختصاص الحكم بعض ما يتناوله اللفظ، احتاج أئمة الأصول إلى بيان الفرق بينهما
من وجوه:
الأول: أن التخصيص ترك بعض الأعيان، والنسخ ترك
"بعض الأزمان"*، كذا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني.
الثاني: أن التخصيص يتناول الأزمان، والأعيان، والأحوال
بخلاف النسخ فإنه لا يتناول إلا الأزمان.
قال الغزالي: وهذا ليس بصحيح، فإن الأعيان والأزمان ليسا
من أفعال المكلفين، والنسخ يرد على الفعل في بعض الأزمان، والتخصيص يرد على الفعل
في بعض الأحوال. انتهى.
وهذا الذي ذكره هو فرق مستقل، فينبغي أن يكون هو الوجه
الثالث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ترك الأعيان.
ج / 1 ص -353- الرابع: أن التخصيص لا يكون إلا لبعض
الأفراد، بخلاف النسخ فإنه يكون لكل الأفراد ذكره البيضاوي.
الخامس: أن النسخ تخصيص الحكم بزمان معين، بطريق خاص
بخلاف التخصيص، قاله أيضًا الأستاذ، واختاره البيضاوي. واعترض عليه إمام الحرمين.
السادس: أن التخصيص تقليل، والنسخ تبديل، حكاه القاضي
أبو الطيب عن بعض أصحاب الشافعي، واعترض بأنه قليل الفائدة.
السابع: أن النسخ يتطرق إلى كل حكم، سواء كان ثابتًا في
حق شخص واحد، أو أشخاص كثيرة، والتخصيص لا يتطرق إلا إلى الأول، ومنهم من عبر عن
هذا بعبارة أخرى فقال: التخصيص لا يدخل في الأمر بمأمور، واحد والنسخ يدخل فيه.
الثامن: أن التخصيص يبقي دلالة اللفظ على ما بقي تحته،
حقيقةً كان أو مجازًا، على الخلاف السابق، والنسخ يبطل دلالة حقيقة المنسوخ في
مستقبل الزمان بالكلية.
الوجه التاسع: أنه يجوز تأخير النسخ عن وقت العمل
بالمنسوخ، ولا يجوز تأخير التخصيص عن وقت العمل بالمخصوص.
العاشر: أنه يجوز نسخ شريعة بشريعة أخرى، ولا يجوز
التخصيص.
قال القرافي: وهذا الإطلاق وقع في كتب العلماء كثيرًا
"وهو غير مسلم"*."والمراد"** أن الشريعة المتأخرة قد تنسخ بعض
أحكام الشريعة المتقدمة، أما كلها فلا؛ لأن قواعد العقائد لم تنسخ "وكذلك حفظ
الكليات الخمس"***.
الحادي عشر: أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته بخلاف
التخصيص، فإنه بيان المراد باللفظ العام، ذكره القفال الشاشي، والعبادي في "زياداته"1.
الثاني عشر: أن التخصيص بيان ما أريد بالعموم، والنسخ
بيان ما لم يرد بالمنسوخ؛ ذكره الماوردي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* وفي العبارة ولعله: "وهو غير مسلم"، كما تدل
عليه عبارة القرافي في شرح التنقيح. كما في هامش النسخة "أ".
** في "أ": أو المراد.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو في فروع الشافعية، لأبي عاصم، محمد بن أحمد
العبادي، وله: "زيادة الزيادات على زيادة الزيادات" وأصله في مجلد لطيف،
يعبر عنه الرافعي بفتاوى العبادي ا. هـ. كشف الظنون "2/ 974".
ج / 1 ص -354- الثالث عشر:
أن التخصيص يجوز أن يكون مقترنًا بالعام، أو متقدمًا
عليه، أو متأخرًا عنه، ولا يجوز أن يكون الناسخ متقدمًا على المنسوخ، ولا مقترنًا
به، بل يجب أن يتأخر عنه.
الرابع عشر:
أن النسخ لا يكون إلا بقول وخطاب، والتخصيص قد يكون
بأدلة العقل، والقرائن وسائر أدلة السمع.
الخامس عشر:
أن التخصيص يجوز أن يكون بالإجماع، والنسخ لا يجوز أن
يكون بالإجماع.
السادس عشر:
أن التخصيص يجوز أن يكون في الأخبار والأحكام، والنسخ
يختص بأحكام الشرع.
السابع عشر:
أن التخصيص على الفور، والنسخ على التراخي، ذكره
الماوردي، قال الزركشي: وفيه نظر.
الثامن عشر:
أن تخصيص المقطوع بالمظنون واقع، ونسخه به غير واقع،
وهذا فيه ما سيأتي1 من الخلاف.
التاسع عشر:
أن التخصيص لا يدخل في غير العام، بخلاف النسخ، فإنه
يرفع حكم العام والخاص.
الموفي عشرين:
أن التخصيص يؤذن بـأن المراد بالعموم عند الخطاب ما
عداه، والنسخ يحقق أن كل ما يتناوله اللفظ مراد في الحال، وإن كان غير مراد فيما
بعده، هذا جملة ما ذكروه من الفروق. وغير خافٍ عليك أن بعضها غير مسلم، وبعضها
يمكن دخوله في البعض الآخر منها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "355".
المسألة الثالثة: تخصيص العمومات وجوازه
اتفق أهل العلم، سلفًا وخلفًا، على أن التخصيص للعمومات
جائز، ولم يخالف في ذلك أحد ممن يعتد به، وهو معلوم من هذه الشريعة المطهرة، لا
يخفى على من له أدنى تمسك بها، حتى قيل: إنه لا عام إلا وهو مخصوص، إلا قوله تعالى: {وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم}1، قال الشيخ علم الدين العراقي2: ليس في القرآن عام غير
مخصوص إلا أربعة مواضع:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "16" من سورة الحجرات.
2 هو عبد الكريم بن علي بن عمر، الأنصاري، العراقي،
الشافعي، الضرير، علم الدين، فقيه، أصولي، مفسر، أديب، ولد سنة ثلاثٍ وعشرين
وستمائة هـ، وتوفي سنة أربعٍ وسبعمائة هـ، من آثاره: "شرح التنبيه
للشيرازي" "الانتصار للزمخشري من ابن المنير". ا. هـ. معجم
المؤلفين "5/ 319"، هدية العارفين "1/ 610"، كشف الظنون "2/ 1477"، الأعلام "4/ 53".
ج / 1 ص -355-
أحدها: قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم}1 فكل
ما سميت أمًّا من نسب أو رضاع "أو أمَّ أمٍّ"* وإن علت فهي حرام.
ثانيها: قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان}2 {كُلُّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت}3.
ثالثها: قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم}4.
رابعها: قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}5
واعترض على هذا: بأن القدرة لا تتعلق بالمستحيلات، وهي أشياء، وقد ألحق بهذه
المواضع الأربعة قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ
رِزْقُهَا}6.
وقد استدل من لا يعتد به بما لا يعتد به، فقال: إن التخصيص
يستلزم الكذب، كما قال من قال بنفس المجاز: إنه ينفي فيصدق في نفيه، ورد ذلك بأن
صدق النفي إنما يكون بقيد العموم، وصدق الإثبات بقيد الخصوص، فلم يتوارد النفي
والإثبات على محل واحد.
وما قالوه: من أنه يلزم البداء مردود بأن ذلك إنما يلزم
لو أريد العموم الشامل لما خصص، لكنه لم يرد ابتداء، وإنما أريد الباقي بعد
التخصيص، وقد قيد بعض المتأخرين خلاف من خالف في جواز التخصيص، ممن لا يعتد به
بالأخبار لا بغيرها من الإنشاءات، ومن جملة من قيده بذلك الآمدي.
وعلى كل حال، فهو قول باطل، ومذهب عن حلية التحقيق والحق
عاطل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو جزء من الآية "23" من سورة النساء.
2 الآية "26" من سورة الرحمن.
3 جزء من الآية "185" من سورة آل عمران.
4 جزء من الآية "16" من سورة الحجرات.
5 جزء من الآية "189" من سورة آل عمران.
6 جزء من الآية "6" من سورة هود.
المسألة الرابعة: قولهم في المقدار الذي لا بد من بقائه
بعد التخصيص
اختلفوا في المقدر الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص على
مذاهب:
المذهب الأول:
أنه لا بد من بقاء جمع يقرب من مدلول العام، وإليه ذهب
الأكثر، وحكاه الآمدي
ج / 1 ص -356- عن أكثر أصحاب الشافعي.
قال: وإليه مال إمام الحرمين ونقله الرازي عن أبي الحسين
البصري، ونقله ابن برهان عن المعتزلة.
قال الأصفهاني: ما نسبه الآمدي إلى الجمهور ليس بجيد،
نعم اختاره الغزالي والرازي.
المذهب الثاني:
أن العام إن كان مفردًا كمن، والألف واللام، نحو اقتل من
في الدار، واقطع السارق، جاز التخصيص إلى أقل المراتب وهو واحد؛ لأن الاسم يصلح
لهما جميعًا وإن كان بلفظ الجمع كالمسلمين جاز إلى أقل الجمع وذلك إما ثلاثة أو
اثنان على الخلاف، قاله القفال الشاشي وابن الصباغ.
قال الشيخ: أبو إسحاق الإسفراييني: لا خلاف في جواز
التخصيص إلى واحد، فيما إذا لم تكن الصيغة جمعًا، كمن والألف واللام.
المذهب الثالث:
التفصيل بين أن يكون التخصيص بالاستثناء، والبدل، فيجوز
إلى الواحد، وإلا فلا يجوز، قال الزركشي: حكاه ابن المطهر1، وهذا المذهب داخل في
المذهب السادس كما سيأتي2.
المذهب الرابع:
أنه يجوز إلى أقل الجمع مطلقًا، على حسب اختلافهم في أقل
الجمع، حكاه ابن برهان وغيره.
المذهب الخامس:
أنه يجوز إلى الواحد في جميع ألفاظ العموم، حكاه إمام
الحرمين في "التلخيص"3 عن معظم أصحاب الشافعي، قال: وهو الذي اختاره
الشافعي. ونقله ابن السمعاني في "القواطع"4 عن سائر أصحاب الشافعي، ما
عدا القفال. وحكاه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في "أصوله"5 عن إجماع
الشافعية، وحكاه ابن الصباغ في "العدة"6 عن أكثر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله الحسين بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي، المعروف
بالعلامة الحلي، جمال الدين، أبو منصور، عالم مشارك في الفقه والأصول والكلام،
وغير ذلك، ولد بالحلة، وتوفي سنة ست وعشرين وسبعمائة هـ، من آثاره: "منتهى
المطلب في الفقه". ا. هـ. كشف الظنون "1/ 346"، إيضاح المكنون
"1/ 10"، معجم المؤلفين "3/
303".
2 انظر صفحة: "357".
3 لعل المراد "تلخيص نهاية المطلب في دراية
المذهب" ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1990".
4 واسمه "القواطع في أصول الفقه"، لمنصور بن
محمد السمعاني، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "109" ا. هـ. كشف الظنون
"2/ 1357".
5 لعل المراد به هو: "الجامع الجلي والخفي في أصول
الدين والرد على الملحدين" انظر كشف الظنون "1/ 539".
6 واسمه: "عدة العالم والطريق السالم" في أصول
الفقه، لابن الصباغ، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "109". ا. هـ. كشف
الظنون "2/ 1129".
ج / 1 ص -357- الشافعية، وصححه القاضي أبو الطيب، والشيخ
أبو إسحاق، ونسبه القاضي عبد الوهاب في الإفادة إلى الجمهور.
المذهب السادس: إن كان التخصيص بمتصل، فإن كان بالاستثناء
أو البدل جاز إلى الواحد نحو: أكرم الناس إلا الجهال، وأكرم الناس إلا تميمًا، وإن
كان بالصفة أو الشرط فيجوز إلى اثنين، نحو: أكرم القوم الفضلاء، أو إذا كانوا فضلاء.
وإن كان التخصيص بمنفصل، وكان في العام المحصور القليل
كقولك: قتلت كل زنديق، وكانوا ثلاثة أو أربعة، ولم تقتل سوى اثنين جاز إلى اثنين وإن
كان العام غير محصور، أو كان محصورًا كثيرًا جاز بشرط كون الباقي قريبًا من مدلول
العام، هكذا ذكره ابن الحاجب واختاره.
قال الأصفهاني في "شرح المحصول": ولا نعرفه
لغيره.
احتج الأولون بأنه لو قال قائل: قتلت كل من في المدينة،
ولم يقتل إلا ثلاثة عد لاغيًا مخطئًا في كلامه، وهكذا لو قال: أكرمت كل العلماء،
ولم يكرم إلا ثلاثة أو قتلت جميع بني تميم، ولم يقتل إلا ثلاثة.
واحتج القائلون بجواز التخصيص إلى اثنين، أو ثلاثة، بأن
ذلك أقل الجمع، على الخلاف المتقدم.
ويجاب: بأن ذلك خارج عن محل النزاع، فإن الكلام إنما هو
في العام والجمع ليس بعام ولا تلازم بينهما.
واستدل القائلون بجواز التخصيص إلى واحد، بأنه يجوز أن
يقول: أكرم الناس إلا الجهال، وإن كان العالم واحدًا.
ويجاب عنه: بأن محل النزاع هو أن يكون مدلول العام
موجودًا في الخارج، ومثل هذه الصورة اتفاقية، ولا يعتبر بها فالناس ههنا ليس بعام،
بل هو للمعهود كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاس}1 فإن المراد بالناس
المعهود، وهو نعيم بن مسعود، والمعهود ليس بعام.
استدلوا أيضًا بأنه يجوز أن يقول القائل: أكلت الخبز،
وشربت الماء، والمراد الشيء اليسير مما يتناوله الماء والخبز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "173" من سورة آل عمران. وسبب
نزولها قيل: إنها نزلت في نعيم ين مسعود عندما قال هذا الكلام مرفوعًا من أبي
سفيان ليثبط عزيمة المسلمين عن الحزوة إلى بدر الصفرى لميعاد أبي سفيان.
وقيل: نزلت في وفد عبد القيس حين مروا بأبي سفيان فدسهم
إلى المسلمين ليثبطوا عزيمتهم.
وقيل: الناس هنا المنافقون. ا. هـ. تفسير القرطبي
"4/ 279".
ج / 1 ص -358- وأجيب عن ذلك بأنه غير محل النزاع، فإن كل
واحد من الخبز والماء في المثالين ليس بعام، بل هو للبعض الخارجي المطابق للمعهود والذهني،
وهو الخبز والماء المقرر في الذهني أنه يؤكل ويشرب، وهو مقدار معلوم.
والذي ينبغي اعتماده في مثل هذا المقام، أنه لا بد أن
يبقى بعد التخصيص ما يصح أن يكون مدلولًا للعام، ولو في بعض الحالات، وعلى بعض التقادير،
كما تشهد لذلك الاستعمالات القرآنية، والكلمات العربية، ولا وجه لتقييد الباقي
بكونه أكثر مما قد خصص، أو بكونه أقرب إلى مدلول العام، فإنه هذه الأكثرية
والأقربية لا تقتضيان كون ذلك الأكثر الأقرب هما مدلولا العام على التمام، فإنه
بمجرد إخراج فرد من أفراد العام يصير العام غير شامل لأفراده، كما يصير غير شامل
لها عند إخراج أكثرها، ولا يصح أن يقال ههنا: إن الأكثر في حكم الكل؛ لأن النزاع
في مدلول اللفظ، ولهذا يأتي الخلاف السابق في كون دلالة العام على ما بقي بعد
التخصيص من باب الحقيقة، أو المجاز، ولو كان المخرج فردًا واحدًا.
وإذا عرفت أنه لا وجه للتقييد يكون الباقي بعد التخصيص
أكثر أو أقرب إلى مدلول العام، عرفت أيضًا أنه لا وجه للتقييد بكونه جمعًا؛ لأن
النزاع في معنى العموم لا في معنى الجمع، ولا وجه لقول من قال بالفرق بين كون
الصيغة مفردة لفظًا كمن وما والمعرف باللام، وبين كونها غير مفردة، فإن هذه الصيغ
التي ألفاظها مفردة لا خلاف في كون معانيها متعددة، والاعتبار إنما هو بالمعاني لا
بمجرد الألفاظ
المسألة الخامسة: المخصص
اختلفوا في المخصص على قولين حكاهما القاضي عبد الوهاب
في "الملخص" وابن برهان في "الوجيز".
أحدهما:
أنه إرادة المتكلم، والدليل كاشف عن تلك الإرادة.
وثانيهما:
أنه الدليل الذي وقع به التخصيص، واختار الأول ابن
برهان، وفخر الدين الرازي في "محصوله" فإنه قال: المخصص في الحقيقة هو
إرادة المتكلم، لأنها المؤثرة، ويطلق على الدال على الإرادة مجازًا.
وقال أبو الحسين في "المتعمد": العام يصير
عندنا خاصًّا بالأدلة، ويصير خاصًّا في نفس الأمر بإرادة المتكلم.
والحق: أن المخصص حقيقة هو المتكلم، لكن لما كان المتكلم
يخصص بالإرادة أسند
ج / 1 ص -359- التخصيص إلى إرادته، فجعلت الإرادة مخصصة.
ثم جعل ما دل على إرادته، وهو الدليل اللفظي أو غيره مخصصًا في الاصطلاح، والمراد
هنا إنما هو الدليل، فنقول: المخصص للعام إما أن يستقل بنفسه، فهو المنفصل، وإما
أن لا يستقل، بل يتعلق معناه باللفظ إلى قبله فهو المتصل. فالمنفصل سيأتي1 إن شاء
الله.
وأما المتصل: فقد جعله الجمهور أربعة أقسام: الاستثناء المتصل،
والشرط والصفة، والغاية. وزاد القرافي، وابن الحاجب: بدل البعض من الكل،
"ونازع"* الأصفهاني في ذلك قائلًا: إنه في نية طرح ما قبله.
قال القرافي: وقد وجدتها بالاستقراء اثني عشر، هذه
الخمسة وسبعة أخرى، وهي: الحال، وظرف الزمان، وظرف المكان، والمجرور مع الجار،
والتمييز، والمفعول معه، والمفعول لأجله، فهذه اثنا عشر ليس فيها واحد يستقل بنفسه.
ومتى اتصل بما يستقل بنفسه عمومًا كان أو غيره صار غير
مستقل بنفسه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": تابع.
المسألة السادسة: حكم الاستثناء من الجنس
لا خلاف في جواز الاستثناء من الجنس، كقام القوم إلا
زيدًا، وهو المتصل، ولا تخصيص إلا به.
وأما المنقطع: فلا يخصص به نحو: جاءني القوم إلا حمارًا،
فالمتصل ما كان اللفظ الأول منه يتناول الثاني "والمنقطع ما كان اللفظ الأول
منه لا يتناول الثاني"*، وفي معنى هذا ما قيل: إن المتصل ما كان الثاني جزءًا
من الأول، والمنقطع ما لا يكون الثاني جزءًا من الأول.
قال ابن السراج1: ولا بد في المنقطع من أن يكون الكلام
الذي قبل إلا قد دل على ما يستثنى منه.
قال ابن مالك2: لا بد فيه من تقدير الدخول في الأول،
كقولك: قام القوم إلا حمارًا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبو بكر السراج، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة:
"303".
2 هو محمد بن عبد الله، بن مالك، الطائي، نزيل دمشق، أبو
عبد الله، جمال الدين، الولود سنة ستمائة هـ، كان إمامًا في القراءات واللغة
والنحو. وغير ذلك، توفي سنة اثنتين وسبعين وستمائة هـ، من آثاره: "تسهيل
الفوائد في النحو وسبك المنظوم وفك المختوم".ا. هـ. شذرات الذهب "5/
339"، معجم المؤلفين "10/ 234"، كشف الظنون "1/ 82".
ج / 1 ص -360- فإنه لما ذكر القوم تبادر الذهن إلى
أتباعهم المألوفة، فذكر الحمار في الاستثناء لذلك، هو فمستثنى تقديرًا.
قال أبو بكر الصيرفي: يجوز الاستثناء من غير الجنس، ولكن
بشترط أن يتوهم دخوله في المستثنى منه بوجه ما، وإلا لم يجز كقوله:
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس1
فاليعافير قد تؤانس، فكأنه قال: ليس بها من يؤانس به إلا
هذا النوع.
وقد اختلف في الاستثناء المنقطع، هل وقع في اللغة أم لا،
فقال الزركشي: من أهل اللغة من أنكره، وأوله تأويلًا رده به إلى الجنس، وحينئذ فلا
خلاف في المعنى.
وقال العضد في شرحه لـ"مختصر المنتهى": لا
نعرف خلافًا في صحته لغة.
واختلفوا أيضًا: هل وقع في القرآن أم لا، فأنكر بعضهم
وقوعه فيه.
وقال ابن عطية2: لا ينكر وقوعه في القرآن إلا أعجمي.
واختلفوا أيضًا: هل هو حقيقة أم مجاز على مذاهب:
المذهب الأول:
أنه حقيقة واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني، ونقله ابن
الخباز3 عن ابن جني.
قال الإمام الرازي: وهو ظاهر كلام النحويين، وعلى هذا
فإطلاق لفظ الاستثناء على المستثنى "المتصل"* المنقطع هو بالاشتراك
اللفظي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو من بحر الرجز، وهو لجران العود واسمه عامر بن
الحارث، شاعر جاهلي أدرك الإسلام. ا. هـ. شرح المفصل "2/ 80". وديوان
جران العود "53" وأوضح المسالك "2/ 230".
2 هو عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي،
أبو محمد الغرناطي، مفسر، فقيه، عارف بالأحكام والحديث، له "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب
العزيز" وغيره، توفي سنة اثنين وأربعين وخمسمائة هـ: انظر ترجمته ومراجعها في
الأعلام "3/ 282".
3 هو أحمد بن الحسين بن أحمد الإربلي، الموصلي، الضرير،
المعروف بابن الخباز، شمس الدين، عالم في النحو، واللغة، والفقه، والعرض،
والفرائض، توفي سنة تسع وثلاثين وستمائة هـ، من آثاره: "شرح ميزان
العربية" و"شرح اللمع" لابن جني. ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 202"، كشف
الظنون "1/ 155" معجم المؤلفين "1/ 200".
ج / 1 ص -361- المذهب الثاني:
أنه مجاز، وبه قال الجمهور، قالوا لأنه ليس فيه معنى
الاستثناء، وليس في اللغة ما يدل على تسميته بذلك.
المذهب الثالث:
أنه لا يسمى استثناء، لا حقيقة ولا مجازا، حكاه القاضي
في "التقريب" والماوردي، وقال الخلاف لفظي.
قال الزركشي: بل هو معنوي، فإن من جعله حقيقة جوز
التخصيص به، وإلا فلا.
ثم بعد الاختلاف في كونه حقيقة أو مجازا، اختلفوا في حده
ولا يتعلق بذلك كبير فائدة، فقد عرفت أنه لا يخصص به، وبحثنا إنما هو في التخصيص،
ولا يخصص إلا بالمتصل فلنقتصر على الكلام المتعلق به.
المسألة السابعة: إقامة الحجة على من أنكر الاستثناء
قد قال قائل: إن الاستثناء في لغة العرب متعذر لأنه إذا
قيل: قام القوم إلا زيدًا فلا يخلو إما أن يكون داخلًا في العموم، أو غير داخل قال: والقسمان باطلان:
أما الأول: فلأن الفعل لما نسب إليه مع القوم امتنع
إخراجه من النسبة، وإلا لزام توارد الإثبات والنفي على محل واحد، وهو محال.
وأما الثاني: فلأن ما لا يدخل لا يصح إخراجه.
وأجاب الجمهور عن هذا بأنه إنما يلزم توارد النفي
والإثبات على محل واحد، لو لم يكن الحكم بالنسبة بعد تقدير الإخراج، أما إذا كان
كذلك فلا توارد، فإن المراد بقول القائل: جاءني عشرة إلا ثلاثة، إنما هو سبعة،
وإلا ثلاثة قرينة إرادة السبعة من العشرة، إرادة الجزء باسم الكل، كما في سائر المخصصات
للعموم.
ورده ابن الحاجب بالإجماع على أن الاستثناء المتصل إخراج،
والعشرة نص في مدلولها، والنص لا يتطرق إليه تخصيص، وإنما التخصيص في الظاهر.
قال الزركشي: وما قاله من الإجماع مردود، فإن مذهب
الكوفيين أن الاستثناء لا يخرج شيئًا فإذا قلت: قام القوم إلا زيدًا، فإنك أخبرت بالقيام
عن القوم، الذين ليس فيهم زيد وزيد، مسكوت عنه، لم يحكم عليه بالقيام ولا بنفيه.
قال بعض المحققين: وهذا الجواب الذي أجاب به الجمهور لا
يستقيم غيره؛ لأن الله سبحانه قال: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا
خَمْسِينَ عَامًا}1، فلو أراد الألف من لفظ الألف لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "14" من سورة العنكبوت.
ج / 1 ص -362- تخلف مراده عن إرادته فعلم أنه ما أراد،
إلا تسعمائة وخمسين من لفظ الألف.
وأجاب القاضي أبو بكر الباقلاني: بأن قول القائل جاءني
عشرة إلا ثلاثة، بمنزلة سبعة من غير إخراج، وأنهما كاسمين وضعا لمسمى واحد أحدهما
مفرد، والآخر مركب وجرى صاحب "المحصول" على هذا، واختاره إمام الحرمين
واستنكر قول الجمهور، وقال إنه محال لا يعتقده لبيب.
قال ابن الحاجب: وهذا المذهب خارج عن قانون اللغة؛ إذ لم
يعهد فيها لفظ مركب من ثلاثة ألفاظ، وضع لمعنى واحد، لأنا نقطع بأن دلالة
الاستثناء بطريق الإخراج.
وأجاب آخرون: بأن المستثنى منه مراد بتمامه، ثم أخرج
المستثنى، ثم حكم بالإسناد بعده تقديرا، وإن كان قبله ذكرًا، فالمراد بقولك عشرة
إلا ثلاثة: عشرة باعتبار الأفراد، ثم أخرجت ثلاثة، ثم أسند إلى الباقي تقديرًا،
فالمراد بالإسناد ما يبقى بعد الإخراج.
قال ابن الحاجب: وهو الصحيح، ورجحه الصفي الهندي، وجماعة
من أهل الأصول.
والفرق بين هذا الجواب، والجواب الذي قبله، بأن الأفراد
في غير هذا مرادة بكمالها، وفي الجواب الذي قبله هي مرادة بكمالها، والاستثناء
إنما هو لتفسير النسبة لا للدلالة على عدم المراد.
وأيضًا الفرق بين هذه الثلاثة الأجوبة، أن جواب الجمهور
يدل على أن الثلاثة تخصيص، وعلى الجواب الثاني ليست بتخصيص، وعلى الثالث محتملة.
فقيل الأظهر أنها تخصيص، وقيل ليست بتخصيص.
قال "المازري"*: أصل هذه الخلاف في الاسثناء
من العدد هل يكون الاستثناء فيه كقرينة غيرت وضع الصيغة أو لم تغيره، وإنما كشفت
عن المراد بها، فمن جعل أسماء العدد كالنصوص التي لا تحتمل سوى ما يفهم منها، قال
بالأول، وينزل المستثنى والمستثنى منه كالكلمة الواحدة الدالة على عدد ما، ويكون
المستثنى كجزء من أجزاء هذه الكلمة لمجموع هو الدال على العدد المنفى، ومن لم يجعل
أسماء العدد كالنصوص فإن العشرة استعملت في عشرة ناقصة جعل الاستثناء قرينة لفظية
دلت على المراد بالمستثنى منه كما دل قوله: "لا تقتلوا الرهبان" على
المراد بقوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِين}1.
قال: فالحاصل أن مذهب الأكثرين أنك استعملت العشرة في
سبعة مجازًا، دل عليه قوله:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الماوردي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "5" من سورة التوبة.
ج / 1 ص -363- إلا ثلاثة، والقاضي وإمام الحرمين عندهما
أن المجموع يستعمل في السبعة، وابن الحاجب عنده أنك تصورت ماهية العشرة، ثم حذفت
منها ثلاثة، ثم حكمت بالسبعة، فكأنه قال: له علي الباقي من عشرة، أخرج منها ثلاثة،
أو عشرة إلا ثلاثة له عندي، وكل من أراد أن يحكم على شيء بدأ باستحضاره في ذهنه،
فهذا القائل بدأ باستحضار العشرة في ذهنه، ثم أخرج الثلاثة، ثم حكم، كما أنك تخرج
عشرة دراهم من الكيس، ثم ترد منها إليه ثلاثة ثم تهب الباقي، وهي السبعة. انتهى.
والظاهر: ما ذهب إليه الجمهور لأن الإسناد إنما يتبين
معناه بجميع أجزاء الكلام.
وعلى كل حال: فالمسألة قليلة الفائدة؛ لأن الاستثناء قد
تقرر وقوعه في لغة العرب، تقررًا مقطوعًا به، لا يتيسر لمنكر أن ينكره، وتقرر أن
ما بعد آلة الاستثناء خارج عن الحكم لما قبلها بلا خلاف، وليس النزاع إلا في صحة
توجيه ما تقرر وقوعه وثبت استعماله.
وما ذكرنا في المقام يكفي في ذلك، ويندفع به تشكيك من شك
في هذا الأمر المقطوع به، فلا نطول باستيفاء ما قيل في أدلة تلك الأجوبة وما قيل
عليها.
المسألة الثامنة: شروط صحة الاستثناء
يشترط في صحة الاستثناء شروط.
الأول:
الاتصال بالمستثنى منه لفظًا: بأن يكون الكلام واحدًا
غير منقطع، ويلحق به ما هو في حكم الاتصال، وذلك بأن يقطعه لعذر كسعال أو عطاس أو
نحوهما، مما لا يعد فاصلًا بين أجزاء الكلام، فإن انفصل لا على هذا الوجه كان
لغوًا ولم يثبت حكمه.
قال في "المحصول": الاستثناء إخراج بعض الجملة
عن الجملة بلفظ إلا أو أقيم مقامه.
والدليل على هذا التعريف: أن الذي يخرج بعض الجملة عنها،
إما أن يكون معنويًّا، كدلالة العقل، والقياس، وهذا خارج عن هذا التعريف. وإما أن
يكون لفظيًّا، وهو إما أن يكون منفصلًا، فيكون مستقلًّا بالدلالة، وإلا كان لغوًا،
وهذا أيضًا خارج عن الحد، أو متصلًا، وهو إما للتقييد بالصفة أو الشرط أو الغاية،
أو الاستثناء.
أما التقييد بالصفة، فالذي خرج لم يتناوله لفظ التقييد
بالصفة، لأنك إذا قلت أكرمني بنو تميم الطوال خرج منهم القصار، ولفظ الطوال لا
يتناول القصار، بخلاف قولنا أكرم بني تميم إلا زيدًا، فإن الخارج وهو زيد تتناوله
صيغة الاستثناء، وهذا هو الاحتراز عن التقييد بالشرط. وأما التقييد بالغاية،
فالغاية قد تكون داخلة كما في قوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِق}1 بخلاف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "6" من سورة المائدة.
ج / 1 ص -364- الاستثناء، فثبت أن التعريف المذكور
للاستثناء منطبق عليه. انتهى.
وقد ذهب إلى اشتراط الاتصال جمهور أهل العلم.
وروي عن ابن عباس: أنه يصح الاستثناء وإن طال الزمان، ثم
اختلف عنه فقيل: إلى شهر، وقيل: إلى سنة، وقيل: أبدًا.
وقد رد بعض أهل العلم وقالوا: لم يصح عن ابن عباس ومنهم
إمام الحرمين والغزالي، لما يلزم من ارتفاع الثقة بالعهود والمواثيق لإمكان تراخي الاستثناء.
وقال القرافي: المنقول عن ابن عباس إنما هو في التعليق
على مشيئة الله تعالى خاصة، كمن حلف وقال: إن شاء الله، وليس هو في الإخراج بإلا
وأخواتها.
قال: ونقل العلماء أن مدركه في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ
رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}1
قال: المعنى إذا نسيت قول إن شاء الله فقل بعد، ذلك، ولم
يخصص. انتهى.
ومن قال: بأن هذه المقالة لم تصح عن ابن عباس لعله لم
يعلم بأنها ثابتة في "مستدرك الحاكم"2 وقال: صحيح على شرط الشيخين بلفظ:
"إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلى سنة"3.
وقد روى عنه هذا غير الحاكم من طرق كما ذكره أبو موسى
المديني4 وغيره.
وقال سعيد بن منصور5:...حدثنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآيتين "23-24" من سورة الكهف.
2 واسمه: "المستدرك على الصحيحين"، للإمام
المعروف بالحاكم النيسابوري، تقدمت ترجمته في الصفحة "180" اعتنى فيه في
عدد الحديث على ما في الصحيحين مما رأه على شرط الشيخين، أو على شرط واحد منهما،
وما أداه اجتهاده إلى تصحيحه، وإن لم يكن على شرط واحد منهما. ا. هـ. كشف الظنون
"2/ 1672".
3 أخرج الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس موقوفًا
عليه بنحوه في الأيمان والنذور "4/ 303" والطبراني في المعجم الكبير
"11069". والطبري في تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا
نَسِيتَ} "9/ 229". والبيهقي في السنن في الإيمان باب الحالف يسكت بين
يمينه واستثنائه "10/ 48".
4 هو محمد بن عمر بن أحمد بن أبي عيسى المديني،
الأصبهاني، الشافعي، أبو موسى، الحافظ، الثقة، شيخ المحدثين، المولود سنة إحدى
وخمسمائة هـ، قال الذهبي عنه: كان حافظ المشرق في زمانه، توفي سنة إحدى وثمانين
وخمسمائة هـ، من آثاره: "كتاب الترغيب والترهيب، وتتمة الغرييين". ا.
هـ. سير أعلام النبلاء "21/
152"،
شذرات الذهب "4/ 273"، هدية العارفين "2/ 100".
5 هو ابن شعبة، أبو عثمان الخراساني، المروزي، المحدث،
المفسر، سكن مكة وتوفي فيها سنة سبع وعشرين ومائتين هـ، من آثاره: "كتاب
السنن، وتفسير القرآن الكريم".
ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 586"، شذرات
الذهب "2/ 62"، معجم المؤلفين "4/ 232".
ج / 1 ص -365- أبو معاوية1 قال: حدثنا الأعمش2 عن مجاهد3
عن ابن عباس أنه كان يرى الاستثناء بعد سنة، ورجال هذا الإسناد كلهم أئمة ثقات،
فالرواية عن ابن عباس قد صحت، ولكن الصواب خلاف ما قاله.
ويدفعه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "مَن حلف على شيء فرأى غيره خيرًا منه فليأت الذي هو خير
وليكفر عن يمينه"4 ولو كان الاستثناء جائزًا على التراخي لم يوجب التكفير على
التعيين، ولقال: فليستثن أو يكفر.
وأيضًا: هو قول يستلزم بطلان جميع الإقرارات والإنشاءات
لأن من وقع ذلك منه يمكن أن يقول من بعد: قد استثنيت فيبطل حكم ما وقع منه، وهو خلاف
الإجماع.
وأيضًا يستلزم أنه لا يصح صدق ولا كذب لجواز أن يرد على
ذلك الاستثناء فيصرفه عن ظاهره.
وقد احتج لما قاله ابن عباس بما أخرجه أبو داود5 وغيره،
أنه صلى الله عليه وسلم قال: "والله لأغزون قريشًا" ثم سكت ثم قال:
"إن شاء الله"6 وليس في هذا ما تقوم به الحجة؛ لأن ذلك السكوت يمكن أن
يكون بعارض يعرض يمنع عن الكلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن حازم، مولى بني سعد، أبو معاوية السعدي،
الكوفي، الضرير، المولود سنة ثلاث عشرة ومائة هـ، وعمي وهو ابن أربع سنين، كان
حافظًا، حجة، محدث الكوفة، توفي، سنة خمس وتسعين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام
النبلاء "9/ 73"، تذكرة الحفاظ
"1/ 294"، الجرح والتعديل "7/ 246".
2 هو سليمان بن مهران، الأسدي، أبو محمد، أصله من بلاد
الري، منشأه ووفاته بالكوفة، تابعي جليل، كان عالمًا بالقرآن والحديث والفرائض،
قال الذهبي عنه: رأسًا في العلم النافع والعمل الصالح. توفي سنة ثمانٍ وأربعين
ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 226"، تهذيب التهذيب "4/
222"، الأعلام "3/ 135".
3 هو مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المكي، الأسود، شيخ
القراء، والمفسرين، أخذ القرآن والتفسير والفقه عن ابن عباس وأبي هريرة وعائشة
وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، توفي سنة أربع ومائة هـ، وهو ساجد. ا. هـ. شذرات
الذهب "1/ 125"، سير أعلام
النبلاء "4/ 449"، تهذيب التهذيب "10/ 42".
4 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، كتاب الأيمان، باب من
حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها "1650" بلفظ: "من حلف على يمين
فرأى..." الترمذي في النذور والإيمان، باب ما جاء في الكفارة قبل الحنث
"1530". الإمام أحمد في المسند "2/ 361". البيهقي في السنن، كتاب الإيمان،
باب الكفارة قبل الحنث "10/ 53". ابن حبان في صحيحه "4349".
5 هو سليمان بن الأشعث بن شداد السجستاني، شيخ السنة،
مقدم الحفاظ، محدث البصرة، المولود سنة اثنتين ومائتين هـ، ألف عدة كتب أشهرها
"السنن" الذي يعتبر أحد الكتب الستة. قال الصاغاني: فيه لين لأبي داود
السجستاني الحديث كما لين لداود عليه السلام الحديد. توفي سنة خمس وسبعين ومائتين
هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 203"، شذرات الذهب "2/ 167"، تذكرة الحفاظ "2/ 591".
6 أخرجه أبو يعلى في مسنده من حديث ابن عباس "2675".
ابن حبان في صحيحه "4343". والطبراني في الكبير "11742". وأبو داود،
كتاب الأيمان والنذور، باب الاستثناء في اليمين بعد السكوت "3286" والبيهقي في السنن،
كتاب الأيمان "10/ 47-48". وقال ابن أبي حاتم، كما في العلل "1/
440" الفقرة "1322": وأن المرسل أشبه بالصواب.
ج / 1 ص -366-
وأيضًا غاية ما فيه أنه يجوز له أن يستثني في اليمين بعد
سكوته وقتًا يسيرًا، ولا دليل على الزيادة على ذلك، وقول ابن عباس "هو ما
عرفت من جوازه بعد سنة. قال ابن القيم في "مدرج السالكين"1: إن مراد ابن
عباس"* أنه إذا قال شيئًا ولم يستثن، فله أن يستثني عند الذكر قال: وقد غلط عليه من
لم يفهم كلامه. انتهى.
وهذا التأويل يدفعه ما تقدم عنه.
وروي عن سعيد بن جبير أنه يجوز الاستثناء ولو بعد يوم أو
أسبوع أو سنة.
وعن طاوس2: يجوز ما دام في المجلس. وعن عطاء3: يجوز له
أن يستثني على مقدار حلب ناقة غزيرة.
وروي عن مجاهد أنه يجوز إلى سنتين.
واعلم: أن الاسثناء بعد الفصل اليسير وعند التذكر قد دلت
عليه الأدلة الصحيحة، منها حديث: "لأغزون قريشًا" المتقدم.
ومنها: ما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم:
"ولا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها" فقال العباس: إلا الإذخر، فإن لقينهم
وبيوتهم فقال صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف بابن قيم
الجوزية، الإمام شمس الدين، أبو عبد الله الدمشقي، الحنبلي، المولود سنة إحدى
وتسعين وستمائة هـ، فقيه، أصولي، مجتهد، مفسر، متكلم، مشارك في غير ذلك أيضًا لازم
ابن تميمة، وسجن معه في قلعة دمشق، وتوفي سنة إحدى وخمسين وسبعمائة هـ، من آثاره:
"زاد المعاد، إغاثة اللهفان، الجواب الكافي، بدئع الفرائد"، وله "مدارج
السالكين" شرح فيه منازل السائرين إلى الحق المبين، وهو كتاب في أحوال
السلوك. ا. هـ. هدية العارفين "2/ 158" كشف الظنون "2/ 1828"،
معجم المؤلفين "9/ 106".
2 هو طاوس بن كيسان، أبو عبد الرحمن الفارسي، ثم اليمني،
الفقيه القدوة، الحافظ، عالم اليمن، سمع من زيد بن ثابت، وعائشة وأبي هريرة،
وغيرهم رضي الله عنهم، توفي سنة ست ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/
38"، شذرات الذهب "1/ 133"، الجرح والتعديل "4/ 500".
3 هو عطاء بن أبي رباح بن أسلم، أبو محمد القرشي، ولد
أثناء خلافة عثمان رضي الله عنه، حدث عن عائشة وأم سلمة وعثمان بن عفان وغيرهم،
كان ثقة، فقيهًا، عالمًا، كثير الحديث، أدرك مائتين من الصحابة، توفي سنة خمس عشرة
ومائة هـ، ا. هـ. تهذيب التهذيب "7/ 199" سير أعلام النبلاء "5/ 78".
4 أخرجه مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه، في كتاب
الحج باب تحريم مكة، وتحريم صيدها "1353"، والنسائي في كتاب مناسك الحج
باب حرمة مكة "2874" 5/ 203".
والبخاري مرسلًا في المغازي باب رقم "53"
الحديث "4313" وأخرجه أيضًا متصلًا من حديث ابن عباس برقم
"1834" وأبو داود: في كتاب المناسك باب تحريم مكة "2018".
وابن الجارود في المنتقى "509". وابن جبان في صحيحه برقم "3720".
ج / 1 ص -367- ومنها ما ثبت في الصحيح -أيضًا في حديث
سليمان- عليه السلام لما قال: "لأطوفن الليلة"1.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية:
"إلا سهيل بن بيضاء"2.
الشرط الثاني:
أن يكون الاستثناء غير مستغرق، فإن كان مستغرقًا فهو
باطل بالإجماع، كما حكاه جماعة من المحققين، منهم الرازي في "المحصول"
فقال: أجمعوا على فساد الاستثناء المستغرق، ومنهم ابن الحاجب فقال في "مختصر
المنتهى": الاستثناء المستغرق باطل بالاتفاق.
واتفقوا أيضًا على جواز الاستثناء إذا كان المستثنى أقل
مما بقي من المستثنى منه "أي: يكون قليلًا من كثير"* واختلفوا "فيما إذا كان
المستثنى أكثر مما بقي من المستثى منه"** فمنع ذلك قوم من النحاة: منهم
الزجاج، وقال لم ترد به اللغة، ولأن الشيء إذا نقص يسيرًا لم يزل عنه اسم ذلك
الشيء، فلو استثنى أكثر لزال الاسم.
قال ابن جني: لو قال له عندي مائة إلا تسعة وتسعين، ما
كان متكلمًا بالعربية، وكان عبثًا من القول.
وقال ابن قتيبة في كتاب "المسائل"3: إن ذلك،
يعني استثناء الأكثر لا يجوز في اللغة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": اختلفوا إذا كان أكثر مما بقي منه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في الأيمان، باب الاستثناء في اليمين
وغيرها "1654". البخاري في النكاح، باب قول: الرجل: لأطوفن الليلة على
نسائي "55242". والنسائي في الأيمان والنذور، باب إذا حلف فقال له رجل:
إن شاء الله هل له استثناء "3840"
7/ 26. والبيهقي في السنن، كتاب الأيمان، باب من قال
وايم الله "10/ 44". وأحمد في مسنده "2/ 229". وابن حبان في صحيحه
"4337".
2 أخرجه الترمذي: من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله
عنه في كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة الأنفال "3084". في الحديث عن
أسارى بدر وهو الصواب لأن استثناء سهيل بن بيضاء حصل منهم ولم يكن ذلك في صلح
الحديبية ولعله سبق قلم من المؤلف. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده "3632"
"1/ 383".
3 هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة، الدينوري، أبو محمد، من
أئمة الأدب ومن المصنفين الذين بعد صيتهم ولد ببغداد وسكن الكوفة وتوفي ببغداد سنة
ست ومائتين هـ، من آثاره: "المعارف، عيون الأخبار، المشبه في الحديث والقرآن،
والمسائل والأجوبة". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 296". شذرات
الذهب "2/ 169"، الأعلام "4/
137".
ج / 1 ص -368- لأن تأسيس الاستثناء على تدارك قليل من
كثير، أغفلته أو نسيته لقلته، ثم تداركته بالاستثناء، ثم ذكر مثل كلام الزجاج.
قال الشيخ أبو حامد: إنه مذهب البصريين من النحاة،
وأجازه أكثر أهل الكوفة منهم، وأجازه أكثر الأصوليين: نحو: عندي له عشرة إلا تسعة،
فيلزمه درهم، وهو قول السيرافي وأبي عبيدة من النحاة محتجين بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي
لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِين}1
والمتبعون له هم الأكثر بدليل قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور}2
وقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين}3.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث أبي بكر رضي الله عنه
من رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الرب عز وجل: "يا عبادي كلكم جائع إلا
من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني
أكسكم"4 وقد أطعم سبحانه وكسا الأكثر من عباده بلا شك.
وقد أجيب عن هذا الدليل: بأنه استثناء منقطع ولا وجه
لذلك.
ومن جملة المانعين من استثناء الأكثر أحمد بن حنبل وأبو
الحسن الأشعري، وابن درستويه5 من النحاة، وهو أحد قولي الشافعي.
والحق: أنه لا وجه للمنع، لا من جهة اللغة، ولا من جهة
الشرع، ولا من جهة العقل.
وأما جواز استثناء المساوي فبالأولى، وإليه ذهب الجمهور،
وهو واقع في اللغة، وفي الكتاب العزيز نحو قوله سبحانه: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا،
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}6.
وقد نقل القاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق
الشيرازي، والمازري، والآمدي عن الحنابلة أنه لا يصح استثناء المساوي ولا وجه لذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "42" من سورة الحجر.
2 جزء من الآية "13" من سورة سبأ.
3 جزء من الآية "103" من سورة يوسف.
4 حديث قدسي أخرجه مسلم من حديث أبي ذر ولم أهتد إلى
رواية بكر مطولًا في كتاب البر والصلة باب تحريم الظلم "2577". وابن
ماجه: في كتاب الزهد باب ذكر التوبة "4257" والترمذي في صفة القيامة
بباب رقمه "48"، رقم الحديث "2495".
والحاكم في المستدرك كتاب، التوبة والإنابة، "4/
241". وعبد الرزاق في المصنف "20272". وابن حبان في صحيحه
"619".
5 هو عبد الله بن جعفر درستويه، أبو محمد الفارسي،
النحوي، تلميذ المبرد، المولود سن ثمانٍ وخمسين ومائتين هـ، برع في العربية، ورزق
الإسناد العالي، وكان ثقة، توفي سنة سبع وأربعين وثلاثمائة هـ، من آثاره:
"كتاب الإرشاد في النحو، شرح الفصيح وغريب الحديث". ا. هـ. سير أعلام
النبلاء "15/ 531". شذرات الذهب "2/ 375".
6 الآيتان "2-3" من سورة المزمل.
ج / 1 ص -369- ومن المانعين استثناء المساوي ابن قتيبة
فإنه قال: القليل الذي يجوز استثناؤه هو الثلث فما دونه.
الشرط الثالث:
أن يلي الكلام بلا عاطف، فأما إذا وليه حرف العطف، نحو:
عندي له عشرة دراهم، وإلا درهمًا، أو فإلا درهما كان لغوا، قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني:
بالاتفاق.
الشرط الرابع:
أن لا يكون الاستثناء من شيء معين مشار إليه كما لو أشار
إلى عشرة دراهم، فقال: هذه الدراهم لفلان إلا هذا وهذا، فقال: إمام الحرمين في
"النهاية": إن ذلك لا يصح لأنه إذا أضاف الإقرار إلى معين اقتضى الإقرار
الملك المطلق فيها، فإذا أراد الاستثناء في البعض كان رجوعا عن الإقرار. انتهى.
والحق جوازه، ولا مانع منه ومجرد الإقرار في ابتداء
الكلام موقوف على انتهائه، من غير فرق بين مشار إليه وغير مشار إليه.
المسألة التاسعة: الاستثناء من النفي والخلاف فيه
اتفقوا على أن الاستثناء من الإثبات نفي.
وأما الاستثناء من النفي فذهب الجمهور إلى أنه إثبات،
وذهبت الحنفية إلى أن الاستثناء لا يكون إثباتا وجعلوا بين الحكم بالإثبات والحكم
بالنفي واسطة وهي عدم الحكم، قالوا: فمقتضى الاستثناء بقاء المستثنى غير محكوم عليه،
لا بالنفي ولا بالإثبات.
واختلف كلام فخر الدين الرازي، فوافق الجمهور في
"المحصول" واختار مذهب الحنفية في "تفسيره".
والحق ما ذهب إليه الجمهور، ودعوى الواسطة مردودة، على
أنها لو كان لها وجه لكان مثل ذلك لازمًا في الاستثناء من الإثبات، واللازم باطل
بالإجماع فالملزوم مثله.
وأيضًا نقل الأئمة عن اللغة يخالف ما قالوه ويرد عليه، ولو
كان ما ذهبوا إليه صحيحًا لم تكن كلمة التوحيد توحيدًا، فإن قولنا: لا إله إلا
الله، هو استثناء من نفي؛ وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمرت أن
أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه، في كتاب
الصلاة باب فضل استقبال القبلة "392". وأبو داود في كتاب الجهاد باب على
ما يقاتل المشركون "2641".
والترمذي في كتاب الإيمان باب ما جاء في قول النبي صلى
الله عليه وسلم: "أمرت بقتالهم حتى يقولوا..." "2608". وقال: حسن
صحيح، والبيهقي في السنن كتاب الصلاة، باب في فرض القبلة وفضل استقبالها "2/
3". والنسائي في تحريم الدم "3976" "7/ 75"، وابن حبان
في صحيحه "5895".
ج / 1 ص -370-
وقد استدلت الحنفية بأن الاستثناء هو مأخوذ من قولك:
ثنيت الشيء إذا صرفته عن وجهه: فإذا قلت: لا عالم إلا زيد فههنا أمران:
أحدهما:
هذا الحكم.
والثاني:
نفس العلم.
فقولك: إلا زيد، يحتمل أن يكون عائدًا إلى الأول، وحينئذ
لا يلزم تحقق الثبوت؛ إذ الاستثناء إنما يزيل الحكم بالعلم، فيبقى المستثنى
مسكوتًا عنه غير محكوم عليه بنفي ولا إثبات، ويحتمل أن يكون عائدًا إلى الثاني،
وحينئذ يلزم تحقق الثبوت؛ لأن ارتفاع العدم يحصل الوجود لا محالة؛ لكون عود الاستثناء
إلى الأول أولى؛ إذ الألفاظ وضعت دالة على الأحكام الذهنية لا على الأعيان
الخارجية، فثبت أن عود الاستثناء إلى الأول أولى.
وحكى عنهم الرازي في "المحصول" أنهم احتجوا
بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي"1 و"لا صلاة إلا
بطهور"2 ولم يلزم منه تحقق النكاح عند حضور الولي، ولا تحقق الصلاة عند حضور
الوضوء، بل يدل على عدم صحتها عند عدم هذين الشرطين.
هكذا حكى عنهم في "المحصول" ولم يتعرض للرد
عليهم.
ويجاب عن الأول: بمنع ما قالوه، ولو سلم أنه لا يستفاد
الإثبات من الوضع اللغوي، لكان مستفادًا من الوضع الشرعي.
وعن الثاني: بأنه إن كان النزاع فيما يفيد ذلك باعتبار
الوضع الشرعي فلا بد من اعتبار تمام ما اشترط الشرع في النكاح والصلاة، وإن كان
النزاع فيما يفيد ذلك باعتبار الوضع اللغوي، فدخول الباء في المستثنى قد أفاد معنى
غير المعنى الذي مع عدمها، فإن دخولها ليس بمخرج مما قبله؛ لأنا لم نقل لا نكاح إلا
الولي، ولا صلاة إلا الطهور، بل قلنا: "إلا بولي" و"إلا
بطهور" فلا بد من تقدير متعلق هو المستثنى منه فيكون التقدير: لا نكاح يثبت
بوجه إلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه برقم "4076" والبيهقي في سننه في كتاب النكاح، لا نكاح إلا بشاهدين عدلين
"7/ 125" وابن عدي في الكامل "6/ 358".
وورد أيضًا من حديث عدة من الصحابة منهم ابن عباس أخرجه
ابن ماجه من طريقه من كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي "1880"، والدارقطني 3/ 221. والإمام أحمد في مسنده 1/ 250. وابن حبان
أيضًا من حديث أبي موسى الأشعري برقم "4077".
2 أخرجه مسلم من حديث ابن عمر بلفظ $"لا تقبل صلاة
بغير طهور"، كتاب الطهارة باب وجوب الطهارة للصلاة "224". والترمذي، كتاب
الطهارة، باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور "1". وابن ماجه "8". وابن
ماجه في سننه، كتاب الطهارة وسننها، باب لا يقبل الله صلاة بغير طهور
"271". وابن الجارود في المنتقي "65".
ج / 1 ص -371- مقترنًا بولي، أو نحو ذلك من التقديرات.
قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام": وكل هذا
عندي تشغيب. ومراوغات جدلية والشرع خاطب الناس بهذه الكلمة، يعني كلمة الشهادة،
وأمرهم بها لإثبات مقصود التوحيد وحصل الفهم منهم بذلك والقبول له من غير زيادة
ولا احتياج إلى أمر آخر، ولو كان وضع اللفظ لا يفيد التوحيد لكان أهم المهمات
تعليم اللفظ الذي يقتضيه؛ لأنه المقصود الأعظم.
المسألة العاشرة: اختلاف العلماء في الاستثناء الوارد
بعد جمل متعاطفة، هل يعود إلى الجميع أم لا
اختلفوا في الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة، هل يعود
إلى الجميع، أو إلى الأخيرة كقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ}
إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ}1.
فذهب الشافعي وأصحابه، إلى أنه يعود إلى جميعها، ما لم
يخصه دليل.
وقد نسب ابن القصار2 هذا المذهب إلى مالك.
قال الزركشي: وهو الظاهر من مذاهب أصحاب مالك.
ونسبه صاحب "المصادر" إلى القاضي عبد الجبار،
وحكاه القاضي أبو بكر عن الحنابلة قال: ونقلوه عن نص أحمد فإنه قال: في قوله صلى
الله عليه وسلم: "لا يُؤَمَّنَّ الرجل في سلطانه ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه"3
قال: أرجو أن يكون الاستثناء على كله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الآيات "68-69-70" من سورة الفرقان.
2 هو علي بن عمر بن أحمد، البغدادي، المعروف بابن
القصار، أبو الحسن، شيخ المالكية، فقيه أصولي، ولي قضاء بغداد، كان ثقة، قليل الحديث،
توفي سنة سبع وتسعين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "كتاب في مسائل الخلاف وعيون
الأدلة". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 107"، شذرات الذهب
"3/ 149"، معجم المؤلفين "7/ 12".
3 أخرجه مسلم من حديث أبي مسعود البدري عقبة بن عمرو رضي
الله عنه، في كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة "673". وأبو داود: في
كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "582". والترمذي في كتاب الصلاة، باب
ما جاء في من أحق بالإمامة "235": وقال: حسن صحيح. وابن ماجه: في كتاب
إقامة الصلاة، باب من أحق بالإمامة "980" والنسائي في كتاب الإمامة، باب
من أحق بالإمامة "779" "2/ 72" والحميدي في مسنده "457".
ج / 1 ص -372- وذهب أبو حنيفة، وجمهور أصحابه "أنه
يعود"* إلى الجملة الأخيرة، إلا أن يقوم دليل على التعميم، واختاره الفخر
الرازي.
وقال الأصفهاني في "القواعد"1: إنه الأشبه،
ونقله صاحب "المعتمد" عن الظاهرية.
وحكى عن أبي عبد الله البصري، وأبي الحسن الكرخي، وإليه
ذهب أبو علي الفارسي، كما حكاه عنه إلكيا الطبري، وابن برهان.
وذهب جماعة إلى الوقف، حكاه صاحب "المحصول" عن
القاضي أبي بكر، والمرتضى من الشيعة.
قال سليم الرازي في "التقريب": وهو مذهب الأشعرية،
واختاره إمام الحرمين الجويني، والغزالي، وفخر الدين الرازي.
قال في "المحصول" بعد حكاية الوقف عن أبي بكر،
والمرتضى: إلا أن المرتضى توقف للاشتراك، والقاضي لم يقطع بذلك.
ومنهم من فصل القول فيه، وذكروا وجوها.
وأدخلها في التحقيق: ما قيل إن الجملتين من الكلام إما
أن يكونا من نوع واحد، أو من نوعين، فإن كان الأول، فإما أن تكون إحدى الجملتين
متعلقة بالأخرى، أو لا تكون كذلك، فإن كان الثاني، فإما أن تكونا مختلفتي الاسم والحكم،
أو متفقتي الاسم مختلفتي الحكم، أو مخنلفتي الاسم متفقتي الحكم.
فالأول: كقولك: أطعم ربيعة، واخلع على مضر، إلى الطوال،
والأظهر ههنا اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة؛ لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن
الجملة المستقلة بنفسها "إلى جملة أخرى مستقلة بنفسها"** إلا وقد تم
غرضه من الأولى، فلو كان الاستثناء راجعًا إلى جميع الجمل، لم يكن قد تم غرضه ومقصوده
من الجملة الأول.
والثاني: كقولنا أطعم ربيعة واخلع على ربيعة إلا الطوال.
والثالث: كقولنا أطعم ربيعة، وأطعم مضر، إلا الطوال،
والحكم أيضًا ههنا كما ذكرنا؛ لأن كل واحدة من الجملتين مستقلة، فالظاهر أنه لم
ينتقل إلى أخراهما إلا وقد تم غرضه من الأولى بالكلية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": عوده.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه: "القواعد في الجدل والمنطق والأصلين"
للشيخ شمس الدين الأصفهاني وتقدمت ترجمته في الصفحة: "46" وهو من أحسن
تصانيفه. ا. هـ. كشف الظنون "2/
1359".
ج / 1 ص -373- وأما إن كانت إحدى الجملتين متعلقة
بالأخرى، فإما أن يكون حكم الأولى مضمرًا في الثانية كقوله: أكرم ربيعة ومضر، إلا الطوال،
أو اسم الأولى مضمرًا في الثانية، كقوله: أكرم ربيعة واخلع عليهم، إلا الطوال
فالاستثناء راجع إلى الجملتين؛ لأن الثانية لا "تستقل إلا"* مع الأولى،
فوجب رجوع حكم الاستثناء إليهما.
وأما إن كانت الجملتان نوعين من الكلام، فإما أن تكون
القصة واحدة أو مختلفة، فإن كانت مختلفة فهو كقولنا: أكرم ربيعة، والعلماء هم
المتكلمون، إلا أهل البلدة الفلانية، فالاستثناء راجع إلى ما يليه، لاستقلال كل
واحدة من تلك الجملتين بنفسها.
وأما إن كانت القصة واحدة فكقوله تعالى: {وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَات} الآية1، فالقصة واحدة، وأنواع الكلام مختلفة، فالجملة الأولى
أمر، والثانية نهي، والثالثة خبر، فالاستثناء فيها يرجع إلى الجملة الأخيرة؛
لاستقلال كل واحدة من تلك الجملتين بنفسها، "والإنصاف أن هذا التقسيم"**
حق، لكنا إذا أردنا المناظرة اخترنا التوقف، لا بمعنى "دعوى"*** الاشتراك،
بل بمعنى أنا لا نعلم حكمه في اللغة ماذا، وهذا هو اختيار القاضي. انتهى.
قال ابن فارس في كتاب "فقه العربية": إن دل
الدليل على عوده إلى الجميع عاد كآية المحاربة2، وإن دل على منعه امتنع كآية
القذف3، انتهى.
ولا يخفاك أن هذا خارج عن محل النزاع، فإنه لا خلاف أنه
إذا دل الدليل كان المعتمد ما دل عليه، وإنما الخلاف حيث لم يدل الدليل على أحد الأمرين.
واستدل أهل المذهب الأول: بأن الجمل إذا تعاطفت صارت
كالجملة الواحدة، قالوا بدليل الشرط، والاستثناء، بالمشيئة، فإنهما يرجعان إلى ما تقدم
إجماعا.
وأجيب: بأن ذلك مسلم في المفردات، وأما في الجمل فممنوع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": لا تستقل كلامًا إلا.
** ما بين قوسين ساقط من "أ": ومكانه: تكرار
لقوله: وأما إذا كانت القصة واحدة.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتمامها {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ
لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا
لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ
تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} النور
"4-5".
2 وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ
يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ
خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} "33" من سورة المائدة.
3 أي الآيتين "4-5" من سورة النور. انظر
الحاشية "1".
ج / 1 ص -374- وأجيب أيضًا عن القياس على الشرط بالفرق
بينهما، وذلك بأن الشرط قد يتقدم كما يتأخر.
ويجاب عن الأول: بأن الجمل المتعاطفة لها حكم المفردات،
ودعوى اختصاص ذلك بالمفردات لا دليل عليها.
وعن الثاني: بأنه يمنع مثل هذا الفرق. لأن الاستثناء
يفيد مفاد الشرط في المعنى.
واستدل أهل المذهب الثاني: بأن رجوع الاستثناء إلى ما
يليه من الجمل هو الظاهر فلا يعدل عنه إلا بدليل، ويجاب عنه بمنع دعوى الظهور،
والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن القيد الواقع بعد جمل إذا لم يمنع مانع من عوده
إلى جميعها لا من نفس اللفظ، ولا من خارج عنه فهو عائد إلى جميعها، وإن منع مانع
فله حكمه، ولا يخالف هذا ما حكوه عن عبد الجبار، وجعلوه مذهبًا رابعًا من أن الجمل
إن كانت كلها مسوقة لمقصود واحد انصرف إلى الجميع، وإن سيقت لأغراض مختلفة اختص
بالأخيرة، فإن كونها مسوقة لأغراض مختلفة هو مانع من الرجوع إلى الجميع.
وكذا لا ينافي هذا ما جعلوه مذهبًا خامسًا، وهو أنه إن
ظهر أن الواو للابتداء كقوله: أكرم بني تميم، والنحاة البصريين إلا البغاددة فإنه
يختص بالأخيرة لأن كون الواو للابتداء هو مانع من الرجوع إلى الجميع.
وكذلك لا ينافي هذا ما حكوه مذهبًا سادسًا، من كون
الجملة الثانية إن كانت إعراضًا وإضرابًا عن الأولى اختص بالأخيرة لأن الإعراض والإضراب
مانع من الرجوع إلى الجميع، وقد أطال أهل الأصول الكلام في هذه المسألة وساقوا من
أدلة المذاهب ما لا طائل تحته فإن بعضها احتجاج بقصة خاصة في الكتاب أو السنة قد
قام الدليل على اختصاصها بما اختصت به، وبعضها يستلزم القياس في اللغة وهو ممنوع.
المسألة الحادية عشرة: حكم الوصف الوارد بعد المستثنى
إذا وقع بعد المستثنى والمستثنى منه جملة تصلح أن تكون
صفة لكل واحد منهما، فعند الشافعية أن تلك الجملة ترجع إلى المستثنى منه، وعند
الحنفية إلى المستثنى فإذا قال: عندي له ألف درهم إلا مائة، قضيت ذلك فعند
الشافعية أنه يكون هذا الوصف راجعًا إلى المستثنى منه فيكون مقرًّا بتسعمائة
مدعيًا لقضائها فإن برهن على دعواه فذلك وإلا فعليه ما أقر به، وعند الحنفية يرجع الوصف
إلى المستثنى فيكون مقرًّا بألف مدعيًا لقضاء مائة منه.
وهكذا إذا جاء بعد الجمل ضمير يصلح لكل واحدة منها، نحو:
أكرم بني هاشم، وأكرم بني المطلب وجالسهم.
أما إذا كان الضمير أو الوصف لا يصلح إلا لبعض الجمل دون
بعض، كان للتي يصلح لها دون غيرها: نحو: أكرم القوم، وأكرم زيدًا العالم، وأكرم
القوم، وأكرم زيدًا وعظمه.
ج / 1 ص -375- المسألة الثانية عشرة: التخصيص بالشرط
وحقيقته في اللغة العلامة، كذا قيل.
واعترض عليه: بما في "الصحاح"1 وغيره من كتب
اللغة، بأن الذي بمعنى العلامة هو الشرط بالتحريك، وجمعه أشراط، ومنه أشراط
الساعة، أي: علاماتها.
وأما الشرط، بالسكون: فجمعه شروط، هذا جمع الكثرة فيه،
ويقال في جمع القلة منه أشرط كفلوس وأفلس.
وأما حقيقته في الاصطلاح: فقال الغزالي: الشرط ما لا
يوجد المشروط دونه، ولا يلزم أن يوجد عنده.
واعترض عليه: بأنه يستلزم الدور؛ لأنه عرف الشرط
بالمشروط، وهو مشتق منه فيتوقف "تعقله"* على تعلقه، وبأنه غير مطرد لأن
جزء السبب كذلك، فإنه لا يوجد المسبب بدونه، ولا يلزم أن يوجد عنده وليس بشرط.
وأجيب عن الأول: بأن ذلك بمثابة قولنا: شرط الشيء ما لا
يوجد ذلك الشيء بدونه، وظاهر أن تصور حقيقة المشروط غير محتاج إليه في تعقل ذلك.
وعن الثاني: بأن جزء السبب قد يوجب المسبب بدونه إذا وجد
سبب آخر.
وقال في "المحصول": إن الشرط هو الذي يتوقف
عليه المؤثر في تأثيره، لا في ذاته.
وقال: ولا ترد عليه العلة، لأنها نفس المؤثر، والشيء لا
يتوقف على نفسه، ولا جزء العلة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه: "الصحاح في اللغة" لأبي نصر الجوهري،
وتقدمت ترجمته في الصفحة "301"، قال في مقدمته:
قد أودعت فيه ما صح عندي من هذه اللغة التي شرف الله تعالى مراتبها على ترتيب لم
أسبق إليه، وتهذيب لم أغلب عليه، بعد تحصيلها رواية ودراية. ا. هـ. كشف الظنون
"2/ 1071".
ج / 1 ص -376- ولا شرط العلة؛ لأن العلة تتوقف عليه في
ذاتها. انتهى.
واعترض عليه: بأنه غير منعكس؛ لأن الحياة شرط في العلم
القديم، ولا يتصور ههنا تأثير ومؤثر "إذا"* إذ المحوج إلى المؤثر هو
الحدوث. وقيل: الشرط ما يستلزم نفيه نفي أمر آخر، لا على جهة السببية، فيخرج السبب
وجزؤه.
ورد بأن الفرق بين السبب والشرط يتوقف على فهم المعنى
المميز بينهما، ففيه تعريف الشيء بمثله في الخفاء.
وقيل: هو ما استلزم عدمه عدم أمر مغاير، وهو كالذي قبله.
وأحسن ما قيل في حده: أنه ما يتوقف عليه الوجود، ولا دخل
له في التأثير والإفضاء، فيخرج جزء السبب؛ لأنه وإن توقف عليه السبب، لكن له دخل
في الإفضاء إليه ويخرج سبب الشيء بالنسبة إليه بالطريق الأولى، وتخرج العلة لأنها
وإن توقف عليها الوجود فهي مع ذلك مؤثرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "ب": إذا.
أقسام الشرط:
والشرط ينقسم إلى أربعة أقسام: عقلي، وشرعي، ولغوي، وعادي.
فالعقلي: كالحياة للعلم، فإن العقل هو الذي يحكم بأن
العلم لا يوجد إلا بحياة، فقد توقف وجوده على وجودها عقلًا.
والشرعي: كالطهارة للصلاة، فإن الشرع هو الحاكم بأن
الصلاة لا توجد إلا بطهارة، فقط توقف وجود الصلاة على وجود الطهارة شرعًا.
واللغوي: كالتعليقات، نحو إن قمت قمت، ونحو أنت طالق إن
دخلت الدار، فإن أهل اللغة وضعوا هذا التركيب ليدل على أن ما دخلت عليه أداة الشرط
هو الشرط، والمعلق عليه هو الجزاء، ويستعمل الشرط اللغوي في السبب الجعلي، كما يقال:
إن دخلت الدار فأنت طالق، والمراد: أن الدخول سبب الطلاق، يستلزم وجوده وجوده، لا
مجرد كون عدمه مستلزمًا لعدمه، من غير سببيته، وبهذا صرح الغزالي، والقرافي، وابن
الحاجب، وشراح "كتابه"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو "مختصر منتهى السول والأمل في علمي الأصول
والجدل" وتقدم الكلام عليه في الصفحة "326" وممن شرحه سعد الدين
التفتازاني، وأكمل الدين البابرتي.
ج / 1 ص -377- ويدل على هذا قول النحاة في الشرط
والجزاء: بأن الأول سبب، والثاني مسبب.
والشرط العادي: كالسلم لصعود السطح، فإن العادة قاضية
بأن لا يوجد الصعود إلا بوجود السلم أو نحوه، مما يقوم مقامه.
ثم الشرط قد يتحد، وقد يتعدد ومع التعدد قد يكون كل واحد
شرطًا "على الجمع، فيتوقف المشروط على حصولها جميعًا، وقد يكون لكل واحد
شرطًا"* مستقلًّا فيحصل المشروط بحصول أي واحد منها، فإذا قال: إن دخلت الدار
وأكلت وشربت فأنت طالق، لم تطلق إلا بالدخول والأكل، والشرب، وإن قال: إن دخلت الدار
أو أكلت أو شربت فأنت طالق، طلقت بواحدة منها.
واعلم: أن الشرط كالاستثناء في اشتراط الاتصال، وفي
تعقبه لجمل متعددة.
قال الرازي في "المحصول" اختلفوا في أن الشرط
الداخل على الجمل، هل يرجع حكمه إليها بالكلية؟
فاتفق الإمامان: أبو حنيفة، والشافعي، على رجوعه إلى
الكل.
وذهب بعض الأدباء إلى أنه يختص بالجملة التي تليه، حتى
إنه إذا كان متأخرًا اختص بالجملة الأخيرة، وإن كان متقدمًا اختص بالجملة الأولى.
والمختار التوقف كما تقدم1 في مسألة الاستثناء.
ثم قال: اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام، ودليله ما
مر في الاستثناء، واتفقوا على أنه "يحسن"** التقييد بشرط يكون الخارج به
أكثر من الباقي، وإن اختلفوا فيه على الاستثناء. انتهى.
فقد حكي الاتفاق في هاتين الصورتين كما نراه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "1".
** في "أ": يجوز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "372".
المسألة الثالثة عشرة: التخصيص بالصفة
وهي كالاستثناء إذا وقعت بعد متعدد، والمراد بالصفة هنا
هي المعنوية على ما حققه علماء البيان، لا مجرد النعت المذكور في علم النحو.
ج / 1 ص -378- قال إمام الحرمين الجويني في
"النهاية": الوصف عند أهل اللغة معناه التخصيص، فإذا قلت: رجل شاع هذا
في الرجال، فإذا قلت: طويل اقتضى ذلك تخصيصًا، فلا تزال تزيد وصفًا، فيزداد
الموصوف اختصاصًا، وكلما كثر الوصف قل الموصوف.
قال المازري: ولا خلاف في اتصال التوابع، وهي النعت
والتوكيد، والعطف والبدل، وإنما الخلاف في الاستثناء.
وقال الرازي في "المحصول": الصفة إما أن تكون
مذكورة عقيب شيء واحد، كقولنا: رقبة مؤمنة، ولا شك في عودها إليها أو عقيب شيئين،
وههنا فإما أن يكون أحدهما متعلقا بالآخر، كقولك: أكرم العرب والعجم المؤمنين،
فههنا الصفة تكون عائدة إليهما، وإما أن لا يكون كذلك، كقولك: أكرم العلماء وجالس الفقهاء
الزهاد، فههنا الصفة عائدة إلى الجملة الأخيرة، وإن كان للبحث فيه مجال كما في
الاستثناء والشرط. انتهى.
قال الصفي الهندي: إن كانت الصفات كثيرة، وذكرت على
"الجمع"* عقب جملة تقيدت بها، أو على البدل، فلواحدة غير معينة منها،
وإن ذكرت "عقب"** جمل، ففي العود إلى كلها أو إلى الأخيرة خلاف. انتهى.
وأما إذا توسطت الصفة بين جمل، ففي عودها إلى الأخيرة
خلاف، كذا قيل، ولا وجه للخلاف في ذلك، فإن الصفة تكون لما قبلها لا لما بعدها
لعدم جواز تقدم الصفة على الموصوف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الجميع.
** في "أ": عقيب.
المسألة الرابعة عشرة: التخصيص بالغاية
وهي نهاية الشيء المقتضية لثبوت الحكم قبلها، وانتفائه
بعدها ولها لفظان، وهما: حتى وإلى كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
يَطْهُرْنَ}1 وقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق}2.
قال الرازي في "المحصول": التقييد بالغاية
يقتضي أن يكون الحكم فيما وراء الغاية بالخلاف؛ لأن الحكم لو بقي فيما وراء الغاية
لم تكن الغاية مقطعا، فلم تكن الغاية غاية، قال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "222" من سورة البقرة.
2 جزء من الآية "6" من سورة المائدة.
ج / 1 ص -379- ويجوز اجتماع الغايتين، كما لو قيل: لا
تقربوهن حتى يطهرن وحتى يغتسلن، فههنا الغاية في الحقيقة هي الأخيرة، عبر عن
الأولى بالغاية مجازا لقربها منها واتصالها بها.
قال الزركشي: ونوزع بأن هاتين الغايتين لشيئين؛ لأن
التحريم الناشئ عن دم الحيض غاية انقطاع الدم، فإذا انقطع حدث تحريم آخر، ناشئ عن
عدم الغسل، والغاية الثانية غاية هذا التحريم.
وقد أطلق الأصوليون كون الغاية من المخصصات، ولم يقيدوا
ذلك، وقيد ذلك بعض المتأخرين بالغاية التي تقدمها لفظ يشملها، لو لم يؤت بها كقوله
تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة}1 فإن هذه الغاية لو لم يؤت بها لقاتلنا
المشركين، أعطوا الجزية أو لم يعطوها.
واختلفوا في الغاية نفسها، هل تدخل في المغيا، كقولك:
أكلت حتى قمت، هل يكون القيام محلا للأكل أم لا، وفي ذلك مذاهب:
الأول:
أنها تدخل فيما قبلها.
والثاني:
لا تدخل، وبه قال الجمهور كما حكاه في "البرهان".
والثالث:
إن كانت من جنسه دخلت وإلا فلا، حكاه أبو إسحاق المروزي
عن المبرد.
والرابع:
إن تميزت عما قبلها بالحس، نحو {أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إِلَى اللَّيْل}2 لم تدخل، وإن لم تتميز بالحس مثل {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِق}3 دخلت الغاية وهي المرافق، ورجح هذا الفخر الرازي.
والخامس:
إن اقترنت بـ: من لم يدخل نحو: بعتك من هذه الشجرة إلى
هذه الشجرة لم تدخل، وإن لم تقترن جاز أن تكون تحديدًا وأن تكون بمعنى مع، وحكاه
إمام الحرمين في "البرهان" عن سيبويه وأنكره عليه ابن خروف، وقال لم يذكر
سيبويه "منها حرفًا"* منهما ولا هو مذهبه.
والسادس:
الوقف، واختاره الآمدي.
وهذه المذاهب في غاية الانتهاء.
وأما في غاية الابتداء ففيها مذهبان: الدخول وعدمه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": حرفًا منهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "29" من سورة التوبة.
2 جزء من الآية "187" من سورة البقرة.
3 جزء من الآية "6" من سورة المائدة.
ج / 1 ص -380- وجعل الأصفهاني الخلاف في الغايتين، غاية
الابتداء وغاية الانتهاء على السواء، فقال: وفيها مذاهب تدخلان، ولا تدخلان، وتدخل
غاية الابتداء دون الانتهاء، وتدخلان إن اتحد الجنس لا أن اختلف وتدخلان إن لم يتميز
ما بعدهما عما قبلهما بالحس، وإلا لم تدخلا فيما قبلهما، "وفيما قاله"*
نظر، بل الظاهر أن الأقوال المتقدمة هي في غاية الانتهاء، لا في غاية الابتداء.
وأظهر الأقوال وأوضحها عدم الدخول إلا بدليل، من غير فرق
بين غاية الابتداء والانتهاء.
والكلام في الغاية الواقعة بعد متعدد كما تقدم1 في
الاستثناء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": وفيه: نظر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "363".
المسألة الخامسة عشرة: التخصيص بالبدل
أعني: بدل البعض من الكل، نحو: أكلت الرغيف ثلثه، وأكرم
القوم علماءهم، ومنه قوله سبحانه: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ}1؛
وقد جعله من المخصصات جماعة من أهل الأصول منهم ابن الحاجب وشراح "كتابه".
قال السبكي: ولم يذكره الأكثرون؛ لأن المبدل منه في نية
الطرح، فلا تحقق فيه لمحل يخرج منه، فلا تخصيص به.
وفيه نظر؛ لأن الذي عليه المحققون كالزمخشري، أن المبدل
منه في غير بدل الغلط ليس في حكم المهدر، بل هو للتمهيد والتوطئة، وليفاد بمجموعها
فضل تأكيد وتبيين لا يكون "إلا"* في الإفراد.
قال السيرافي: زعم النحويون أنه في حكم تنحية الأول، وهو
المبدل منه، ولا يريدون إلغاءه، وإنما مرادهم: أن البدل قائم بنفسه، وليس تبيينه
الأول كتبيين النعت الذي هو من تمام المنعوت، وهو معه كالشيء الواحد. انتهى.
ولا يشترط فيه ما يشترط في الاستثناء، من بقاء الأكثر
عند من اعتبر ذلك، بل يجوز إخراج الأكثر وفاقًا نحو: أكلت الرغيف ثلثه أو نصفه، أو
ثلثيه.
ويلحق ببدل البعض بدل الاشتمال؛ لأن كل واحد منهما فيه
بيان وتخصيص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "71" من سورة المائدة.
ج / 1 ص -381- المسألة السادسة عشرة: التخصيص بالحال
وهو في المعنى كالصفة؛ لأن قولك: أكرم من جاءك راكبًا،
يفيد تخصيص الإكرام بمن ثبتت له صفة الركوب، وإذا جاء بعد جمل فإنه يكون للجميع
قال البيضاوي بالاتفاق، نحو: أكرم بني تميم، وأعط بني هاشم نازلين بك.
وفي دعوى الاتفاق نظر، فإنه ذكر الفخر الرازي في
"المحصول" أنه يختص بالجملة الأخيرة، على قول أبي حنيفة، أو بالكل، على
قول الشافعي.
المسألة السابعة عشرة: التخصيص بالظرف والجار والمجرور
نحو: أكرم زيدًا اليوم، أو في مكان كذا، وإذا تعقب
أحدهما جملًا، كان عائدًا إلى الجميع.
وقد ادعى البيضاوي الاتفاق على ذلك، كما ادعاه في الحال.
ويعترض عليه بما في "المحصول" فإنه قال في الظرف والجار والمجرور: إنهما
يختصان بالجملة الأخيرة، على قول أبي حنيفة، أو بالكل على قول الشافعي، كما قال في
الحال، صرح بذلك في مسألة الاستثناء المذكور عقب جمل.
ويؤيد ما قاله البيضاوي ما قاله أبو البركات ابن تيمية1،
فإنه قال: فأما الجار والمجرور، فإنه ينبغي أن يتعلق بالجميع قولًا واحدًا.
وأما لو توسط، فقد ذكر ابن الحاجب في مسألة، لا يقتل
مسلم بكافر، أن قولنا: ضربت زيدًا يوم الجمعة، وعَمرًا يقتضي أن الحنفية يقيدونه
بالثاني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد السلام بن عبد الله بن الخضر، الحراني، ابن
تيمية، أبو البركات، مجد الدين، شيخ الحنابلة، فقيه العصر، المولود سنة تسعين
وخمسمائة هـ، كان بارعًا في الحديث، وله اليد الطولى في معرفة القراءات والتفسير، توفي
سنة اثنتي وخمسين وستمائة هـ، من آثاره: "الأحكام الكبرى، المحرر في
الفقه". ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 257"، سير أعلام النبلاء
"23/ 291".
المسألة الثامنة عشرة: التخصيص بالتمييز
التخصيص بالتمييز نحو: عندي له رطل ذهبًا، وعندي له
عشرون درهمًا، فإن الإقرار يتقيد بما وقع به التمييز من الأجناس، أو الأنواع، وإذا
جاء بعد جمل نحو: عندي له ملء هذا أو عندي له رطل فإنه يعود إلى الجميع، وظاهر
كلام البيضاوي عوده إلى الجميع بالاتفاق.
ج / 1 ص -382- المسألة التاسعة عشرة:
"التخصيص"* بالمفعول له والمفعول معه
فإن كل واحد منهما يقيد الفعل بما تضمنه من المعنى، فإن
المفعول له معناه التصريح بالعلة التي لأجلها وقع الفعل، نحو ضربته تأديبًا، فيفيد
تخصيص ذلك الفعل بتلك العلة، والمفعول معه معناه تقييد الفعل بتلك المعية نحو
ضربته وزيدًا، فيفيد أن ذلك الضرب الواقع على المفعول به مختص بتلك الحالة التي هي
المصاحبة بين ضربه وضرب زيد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
المسألة الموفية عشرين: التخصيص بالعقل
فقد فرغنا بمعونة الله من ذكر المخصصات المتصلة، وهذا
شروع في المخصصات المنفصلة.
وقد حصروها في ثلاثة أقسام: العقل، والحس، والدليل
السمعي.
قال القرافي: والحصر غير ثابت، فقد يقع التخصيص بالعوائد
كقولك: رأيت الناس، فما رأيت أفضل من زيد، فإن العادة تقضي أنك لم تر كل الناس،
وكذا التخصيص بقرائن الأحوال، كقولك لغلامك: ائتني بمن يخدمني، فإن المراد الإتيان
بمن يصلح لذلك، ولعل القائل بانحصار المخصصات المنفصلة في الثلاثة المذكورة يجعل
التخصيص بالقياس مندرجًا تحت الدليل السمعي.
وقد اختلف في جواز التخصيص بالعقل:
فذهب الجمهور إلى التخصيص به.
وذهب شذوذ من أهل العلم إلى عدم جواز التخصيص به.
قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: ولا خلاف بين أهل العلم
في جواز التخصيص بالعقل، ولعله لم يعتبر بخلاف من "شذ"*.
قال الفخر الرازي في "المحصول": إن التخصيص
بالعقل قد يكون بضرورته كقوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": شك وهو تحريف.
ج / 1 ص -383- {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}1 فإنا
نعلم بالضرورة أنه ليس خالقًا لنفسه، وبنظره كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}2 فإن تخصيص الصبي
والمجنون، لعدم الفهم في حقهما، ومنهم من نازع في تخصيص العموم بدليل العقل.
والأشبه عندي: أنه لا خلاف في المعنى، بل في اللفظ، أما
أنه لا خلاف في المعنى، فلأن اللفظ، لما دل على ثبوت الحكم في جميع الصور، والعقل
منع من ثبوته في بعض الصور، فإما أن يحكم بصحة مقتضى العقل والنقل، فيلزم من ذلك صدق
النقيضين وهو محال، أو يرجح النقل على العقل وهو محال؛ لأن العقل أصل للنقل،
فالقدح في العقل قدح في أصل النقل والقدح في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح فيهما
معًا، وإما أن يرجح حكم العقل على مقتضى العموم، وهذا هو مرادنا من تخصيص العموم
بالعقل.
وأما البحث اللفظي: فهو أن العقل هل يسمى مخصصًا أم لا؟
فنقول: إن أردنا بالمخصص: الأمر الذي يؤثر في اختصاص
اللفظ العام ببعض مسمياته، فالعقل غير مخصص؛ لأن المقتضى لذلك الاختصاص هو الإرادة
القائمة بالمتكلم "والعقل"* يكون دليلًا على تحقق تلك الإرادة، فالعقل
يكون دليل المخصص، لا نفس المخصص، ولكن على هذا التفسير وجب أن لا يكون الكتاب
مخصصًا للكتاب، ولا السنة مخصصة للسنة؛ لأن المؤثر في ذلك التخصيص هو الإرادة لا تلك
الألفاظ. انتهى.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني: وصورة المسألة أن صيغة
العام إذا وردت، واقتضى العقل عدم تعميمها فيعلم من جهة العقل أن المراد بها خصوص
ما لا يحيله العقل، وليس المراد أن للعقل صلة لصيغة نازلة بمنزلة المتصل بالكلام،
ولكن المراد به ما قدمناه أنا نعلم بالعقل أن مطلق الصيغة لم يرد تعميمها.
وفصل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "اللمع" بين
ما يجوز ورود الشرع بخلافه، وهو ما يقتضيه العقل من براءة الذمة فيمتنع التخصيص به
فإن ذلك إنما يستدل به لعدم الشرع، فإذا ورد الشرع سقط الاستدلال به، وصار الحكم
للشرع، فأما ما لا يجوز ورود الشرع بخلافه كالذي دل العقل على نفيه فيجوز التخصيص
به نحو: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء}
فقلنا: المراد ما خلا الصفات، لدلالة العقل على ذلك.
انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": والنقل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "16" من سورة الرعد والآية
"62" من سورة الزمر.
2 جزء من الآية "97" من سورة آل عمران.
ج / 1 ص -384- ولا يخفاك أن هذا التفصيل لا طائل تحته،
فإنه لم يرد بتخصيص العقل إلا الصورة الثانية، أما الصورة الأولى: فلا خلاف أن
الشرع ناقل عما يقتضيه العقل من البراءة.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني، وإمام الحرمين الجويني،
وابن القشيري، والغزالي وإلكيا الطبري، وغيرهم: إن النزاع لفظي؛ إذ مقتضى ما يدل
عليه العقل ثابت إجماعًا، لكن الخلاف في تسميته تخصيصًا، فالخصم لا يسميه؛ لأن
المخصص هو المؤثر في التخصيص، وهو الإرادة لا العقل، وكذا قال الأستاذ أبو منصور:
إنهم "أجمعوا"* على صحة دلالة العقل على خروج شيء عن حكم العموم،
واختلفوا في تسميته تخصيصًا.
وقيل:
الخلاف راجع إلى مسألة التحسين والتقبيح العقليين، فمن
منع من تخصيص العقل، فهو رجوع منه إلى أن العقل لا يحسن ولا يقبح، وأن الشرع يرد
بما لا يقتضيه العقل.
وقد أنكر هذا الأصفهاني، وهو حقيق بأن يكون منكرًا
فالكلام في تلك المسألة، غير الكلام في هذه المسألة كما سبق تقريره.
وقد جاء المانعون من تخصيص العقل بشبه مدفوعة كلها راجعة
إلى اللفظ، لا إلى المعنى، وقد عرفت أن الخلاف لفظي فلا نطيل بذكرها. قال الرازي
في "المحصول": فإن قيل: لو جاز التخصيص بالعقل، فهل يجوز النسخ به، قلنا
نعم؛ لأن من سقطت رجلاه عنه سقط عنه فرض غسل الرجلين، وذلك إنما عرف بالعقل. انتهى.
وأجاب غيره: بأن النسخ إما بيان مدة الحكم، وإما رفع
الحكم على التفسيرين، وكلاهما محجوب عن نظر العقل، بخلاف التخصيص، فإن خروج البعض
عن الخطاب قد يدركه العقل فلا ملازمة.
وليس التخصيص بالعقل من الترجيح لدليل على دليل الشرع،
بل من الجمع بينهما لعدم إمكان استعمال الدليل الشرعي على عمومه المانع قطعي، وهو
دليل العقل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": احتجوا.
ج / 1 ص -385- المسألة الحادية والعشرون: التخصيص بالحس
فإذا ورد الشرع بعموم يشهد الحس باختصاصه ببعض ما اشتمل
عليه العموم، كان ذلك مخصصًا للعموم، قالوا: ومنه قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْء}1 مع أنها لم تؤت بعض الأشياء، التي من جملتها ما كان في يد سليمان، كذلك
قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}2 وقوله: {يُجْبَى إِلَيْهِ
ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}3.
قال الزركشي: وفي عد هذا نظر؛ لأنه من العام الذي أريد
به الخصوص وهو خصوص، ما أوتيته هذه ودمرته الريح لا من العام المخصوص.
قال: ولم يحكوا الخلاف السابق في التخصيص بالعقل، وينبغي
طرده.
ونازع العبدري في تفريقهم بين دليل الحس ودليل العقل؛
لأن أصل العلوم كلها الحس.
ولا يخفاك أن ما ذكره الزركشي في دليل الحس يلزمه مثله
في دليل العقل، فيقال له: إن قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء}4 وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت}5 من العام الذي أريد به الخصوص، لا من العام المخصوص،
وإلا فما الفرق بين شهادة العقل وشهادة الحس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "23" من سورة النمل.
2 جزء من الآية "25" من سورة الأحقاف.
3 جزء من الآية "57" من سورة القصص.
4 جزء من الآية "62" من سورة الزمر.
المسألة الثانية والعشرون: التخصيص بالكتاب العزيز
وبالسنة المطهرة والتخصيص لهما
ذهب الجمهور إلى جواز تخصيص الكتاب بالكتاب.
وذهب بعض الظاهرية إلى عدم جوازه، وتمسكوا بأن التخصيص
بيان للمراد باللفظ، ولا يكون إلا بالسنة، لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ
مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}1.
ويجاب عنه: بأن كونه صلى الله عليه وسلم مبينًا لا
يستلزم أن لا يحصل بيان الكتاب بالكتاب، وقد وقع ذلك، والوقوع دليل الجواز، فإن
قوله سبحانه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ}2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "44" من سورة النحل.
2 جزء من الآية "228" من سورة البقرة.
ج / 1 ص -386- يعم الحوامل وغيرهن فخص أولات الأحمال
بقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ}1 وخص منه أيضًا المطلقة قبل الدخول بقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ
عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}2 وهكذا قد خصص عموم قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}3 بقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ
أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن}4 ومثل هذا كثير في الكتاب العزيز. وأيضًا ذلك الدليل
الذي ذكروه معارض بما هو أوضح منه دلالة، وهو قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ
الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء}5، وقد جعل ابن الحاجب في "مختصر
المنتهى" الخلاف في هذه المسألة لأبي حنيفة، والقاضي أبي بكر الباقلاني،
وإمام الحرمين الجويني، وحكى عنهم أن الخاص إن كان متأخرًا وإلا فالعام ناسخ، وهذه
مسألة أخرى سيأتي6 الكلام فيها، ولا اختصاص لها بتخصيص الكتاب بالكتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "4" من سورة الطلاق.
2 جزء من الآية "49" من سورة الأحزاب.
3 جزء من الآية "234" من سورة البقرة.
4 جزء من الآية "4" من سورة الطلاق.
5 جزء من الآية "89" من سورة النحل.
6 انظر صفحة: "388".
جواز تخصيص السنة بالكتاب:
وكما يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب، فكذلك يجوز تخصيص السنة
المتواترة بالكتاب، عند جمهور أهل العلم، وعن أحمد بن حنبل روايتان، وعن بعض أصحاب
الشافعي المنع.
قال ابن برهان: وهو قول بعض المتكلمين.
قال مكحول1 ويحيى بن كثير2: السنة تقضي على الكتاب،
والكتاب لا يقضي على السنة، ولا وجه للمنع، فإن استدلوا بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم}3 فقد عرفت عدم دلالته على المطلوب، مع كونه
معارضًا بما هو أوضح دلالة منه كما تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله محكول الشامي، أبو عبد الله، وقيل أبو مسلم،
الدمشقي، الفقيه، الحافظ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عدة من الصحابة
مرسلا، وروى عن طائفة من قدماء التابعين، وحدث عنه الزهري وربيعة الرأي، وعداده من
أواسط التابعين، توفي بعد سنة اثنتي عشرة ومائة هـ، سير أعلام النبلاء "5/ 155"، تهذيب التهذيب "10/ 289"،
الجرح والتعديل "8/ 407".
2 لعله يحيى بن كثير بن درهم، أبو غسان العنبري، الحافظ،
الثقة، ذكره ابن حبان في الثقات، توفي سنة ست ومائتين هـ، ا.هـ، سير أعلام النبلاء
"9/ 538"، تهذيب التهذيب "11/ 226".
ملاحظة: اعلم: أن الإمام الشوكاني رحمه الله ذكر هذا
القول في كتابه مرتين، ففي المرة الأولى نسبه ليحيى بن أبي كثير، ولعلها الصواب
والله اعلم؛ لأنه كان على درجة عالية في الحديث، حتى قدمه بعضهم على الزهري، وفي
المرة الثانية نسبة ليحيى بن كثير والله أعلم بالصواب، انظر "97 جـ1".
3 جزء من الآية "44" من سورة النحل.
ج / 1 ص -387- جواز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة:
ويجوز تخصيص عموم الكتاب بالسنة المتواترة إجماعًا، كذا
قال الأستاذ أبو منصور، وقال الآمدي: لا أعرف فيه خلافا، وقال الشيخ أبو حامد
الإسفراييني: لا خلاف في ذلك إلا ما يحكى عن داود في إحدى الروايتين.
قال ابن كج: لا شك في الجواز؛ لأن الخبر المتواتر يوجب
العلم، كما أن ظاهر الكتاب يوجبه.
وألحق الأستاذ أبو منصور بالمتواتر الأخبار التي يقطع
بصحتها.
جواز تخصيص السنة المتواترة بالمتواترة:
ويجوز تخصيص السنة المتواترة بالسنة المتواترة، وهو مجمع
عليه، إلا أنه حكى الشيخ أبو حامد الإسفراييني عن داود أنهما يتعارضان، ولا يُبنى
أحدهما على الآخر، ولا وجه لذلك.
جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد:
واختلفوا في جواز تخصيص الكتاب العزيز بخبر الواحد.
فذهب الجمهور إلى جوازه مطلقا، وذهب بعض الحنابلة إلى
المنع مطلقا، وحكاه الغزالي في "المنخول" عن المعتزلة، ونقله ابن برهان
عن طائفة من المتكلمين والفقهاء، ونقله أبو الحسين بن القطان عن طائفة من أهل
العراق.
وذهب عيسى بن أبان إلى الجواز إذا كان العام قد خص من
قبل بدليل قطعي، متصلًا كان أو منفصلًا كذا حكاه صاحب "المحصول" وابن
الحاجب في مختصر "المنتهى"
عنه.
وقد سبق إلى حكاية ذلك عنه إمام الحرمين الجويني في
"التلخيص"، وحكى غير هؤلاء
عنه أنه يجوز تخصيص العام بالخبر الأحادي إذا كان قد دخله التخصيص من غير تقييد
لذلك يكون المخصص الأول قطعيا.
وذهب الكرخي إلى الجواز إذا كان العام قد خص من قبل
بدليل منفصل، سواء كان قطعيًّا أو ظنيًّا، وإن خص بدليل متصل أو لم يخص أصلًا لم
يجز وذهب القاضي أبو بكر إلى الوقف
ج / 1 ص -388- وحكي عنه أنه قال: يجوز التعبد بوروده،
ويجوز أن يرد لكنه لم يقع.
وحكي عنه أيضًا أنه لم يرد، بل ورد المنع، ولكن الذي
اختاره لنفسه هو الوقف، كما حكى ذلك عنه الرازي في "المحصول".
واستدل في "المحصول" على ما ذهب إليه الجمهور:
بأن العموم وخبر الواحد دليلان متعارضان، وخبر الواحد أخص من العموم، فوجب تقديمه
على العموم.
واحتج ابن السمعاني على الجواز بإجماع الصحابة، فإنهم
خصوا قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُم}1 بقوله صلى الله عليه
وسلم: "إنا معشر الأنبياء لا نورث"2، وخصوا التوارث بالمسلمين عملًا
بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر"3. وخصوا قوله:
{اقْتُلُوا الْمُشْرِكِين}4 بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس5 وغير ذلك كثير.
وأيضًا يدل على جواز التخصيص، دلالة بينة واضحة ما وقع
من أوامر الله عز وجل باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، من غير تقييد، فإذا جاء عنه
الدليل كان اتباعه واجبًا، وإذا عارضه عموم قرآني كان سلوك طريقة الجمع ببناء العام
على الخاص متحتمًا، ودلالة العام على أفراده ظنية لا قطعية فلا وجه لمنع تخصيصه
بالأخبار الصحيحة الآحادية.
وقد استدل المانعون مطلقًا بما ثبت عن عمر رضي الله عنه
في قصة فاطمة بنت قيس حيث لم يجعل لها سكنى ولا نفقة كما في حديثها الصحيح فقال
عمر: "كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة"6 يعني قوله: {أَسْكِنُوهُن}7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "11" من سورة النساء.
2 تقدم تخريجه بلفظ "نحن معاشر الأنبياء..."
في الصفحة "301".
3 أخرجه البخاري في الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر
ولا الكافر المسلم "6764".
ومسلم في الفرائض في أوله "1614". وأبو داود
في الفرائض باب هل يرث المسلم الكافر؟ "3909". والترمذي في الفرائض: باب
ما جاء في إبطال الميراث بين المسلم والكافر "2107". والنسائي في الكبرى
في الفرائض كما في التحفة "1/
56". وعبد الرزاق في المصنف "9852"
والإمام أحمد في مسنده "5/ 208"
وابن الجارود في المنتقى "954".
4 جزء من الآية "5" من سورة التوبة.
5 والخبر هو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر المجوس
فقال:" ما أدري كيف أصنع في أمرهم. فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد أني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب".
أخرجه مالك في الموطأ "1/ 278" وأخرج البخاري بنحو هذه
الرواية في كتاب الجزية باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب "3156-3157".
والترمذي في السير باب ما جاء في أخذ الجزية من المجوس "1586".
6 أخرجه مسلم في الطلاق باب المطلقة البائن لا نفقة لها
"1480". والبيهقي في سننه كتاب النفقات باب من قال: لها النفقة "7/ 475". والدارقطني
في سننه كتاب الطلاق والخلع والإيلاء "4/ 27" رقم "73".
7 جزء من الآية "6" من سورة الطلاق.
ج / 1 ص -389- وأجيب عن ذلك: بأنه إنما قال هذه المقالة
لتردده في صحة الحديث، لا لرده تخصيص عموم الكتاب بالسنة الآحادية، فإنه لم يقل
كيف نخصص عموم كتاب ربنا بخبر آحادي بل قال: "كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة".
ويؤيد ذلك ما في صحيح مسلم وغيره بلفظ: "قال عمر:
لا نترك كتاب الله وسنة نبينا قول امرأة لعلها حفظت أو نسيت"1.
فأفاد هذا أن عمر رضي الله عنه إنما تردد في كونها حفظت
أو نسيت، ولو علم بأنها حفظت ذلك وأدته كما سمعته لم يتردد في العمل بما روته.
قال ابن السمعاني: إن محل الخلاف في أخبار الآحاد التي
لم تجمع الأمة على العمل بها.
أما ما أجمعوا عليه كقوله: "لا ميراث لقاتل"2
و"لا وصية لوارث"3 فيجوز تخصيص العموم به قطعًا، ويصير ذلك كالتخصيص
بالمتواتر، لانعقاد الإجماع على حكمها ولا يضر عدم انعقاده على روايتها.
وكما يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد، كذلك يجوز
"تخصيص العموم المتواتر من السنة بأخبار الآحاد، ويجري فيه الخلاف السابق في
تخصيص عموم القرآن السابق كما صرح القاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني
وغيرهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الحاشية رقم "6" في الصفحة السابقة.
2 أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. في
كتاب الديات، باب القاتل لا يرث "2645" بلفظ "القاتل لا يرث".
والترمذي في الفرائض، باب ما جاء في إبطال ميراث القاتل "2109" وقال:
حديث لا يصح. والدارقطني "4/ 96"
ونقل عن النسائي قوله: إسحاق متروك الحديث. وأخرجه
النسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف "9/ 12286". ولكن للحديث روايات
أخرى عن عمر وابنه رضي الله عنهما وعن ابن عباس أيضًا يتقوى بها ولذا حسنه السيوطي
في فيض القدير "5/
377" ونقل المناوي في فيض القدير عن ابن عبد البر
قوله: إسناده صحيح من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بالاتفاق وله شواهد كثيرة.
انظر الدارقطني "4/ 95-96" والتلخيص الحبير "3/ 84".
3 أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس رضي الله عنه في
كتاب الفرائض "4/ 97-98" والبيهقي في سننه في كتاب الوصايا باب نسخ
الوصية للوالدين والأقربين الوارثين "6/ 263" وساقه الزيلعي في نصب الراية من
عدة طرق وروايات فانظرها هناك "4/ 404" وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي
أمامة في كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث "2713". وأبو داود في كتاب
الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث "2870" وقال ابن حجر في التلخيص الحبير
"3/ 92". وهو حسن الاسناد.
ج / 1 ص -390- وكما يجوز تحصيص عموم القرآن بخبر الآحاد
كذلك يجوز"* تخصيصه بالقراءة الشاذة عند من نزلها منزلة الخبر الآحادي.
وقد سبق1 الكلام في القراءات في مباحث الكتاب.
وهكذا يجوز التخصيص لعموم الكتاب وعموم المتواتر من
السنة، بما ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم، إذا لم يدل دليل على اختصاصه به، كما
يجوز بالقول.
وهكذا يجوز التخصيص بتقريره صلى الله عليه وسلم، وقد
تقدم البحث في فعله صلى الله عليه وسلم وفي تقريره في مقصد السنة2، بما يغني عن الإعادة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "86".
2 انظر صفحة: "102".
التخصيص بموافق العام وبعطف الخاص على العام:
وأما التخصيص بموافق العام فقد سبق1 الكلام عليه في باب
العموم، وكذلك سبق الكلام على العام إذا عطف عليه ما يقتضي الخصوص، وعلى العام
الوارد على سبب خاص، فهذه المباحث لها تعلق بالعام وتعلق بالخاص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "285".
المسألة الثالثة والعشرون: في التخصيص بالقياس
ذهب الجمهور إلى جوازه.
قال الرازي في "المحصول": وهو قول أبي حنيفة
والشافعي، ومالك، وأبي الحسين البصري والأشعري وأبي هاشم أخيرًا.
وحكاه ابن الحاجب في "مختصر المنتهى" عن
هؤلاء، وزاد معهم الإمام الرابع أحمد بن حنبل، وكذا حكى ابن الهمام في
"التحرير".
وحكى القاضي عبد الجبار عن الحنابلة عن أحمد روايتين.
ج / 1 ص -391- وحكاه الشيخ أبو حامد، وسليم الرازي، عن
ابن سريج.
وذهب أبو علي الجبائي إلى المنع مطلقًا.
ونقله الشيخ أبو حامد وسليم الرازي، عن أحمد بن حنبل،
وقيل: إن ذلك إنما هو في رواية عنه قال بها طائفة من أصحابه.
ونقله القاضي أبو بكر الباقلاني، عن طائفة من المتكلمين،
وعن الأشعري.
وذهب عيسى بن أبان إلى أنه يجوز إن كان العام قد خصص قبل
ذلك بنص قطعي، كذا حكاه عنه القاضي أبو بكر في "التقريب"1، والشيخ أبو
إسحاق الشيرازي، وأطلق صاحب المحصول الحكاية عنه ولم يقيدها بكون النص قطعيًّا،
وحكى هذا المذهب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن بعض العراقيين.
وذهب الكرخي إلى أنه يجوز إن كان قد خص بدليل منفصل،
وإلا فلا، كذا حكاه عنه "صاحب" المحصول وغيره.
وذهب الإصطخري إلى أنه يجوز إن كان القياس جليًّا وإلا
فلا، كذا حكاه عنه الشيخ أبو حامد، وسليم الرازي، وحكاه الشيخ أبو حامد أيضًا عن
إسماعيل بن مروان2 من أصحاب الشافعي.
وحكاه الأستاذ أبو منصور، عن أبي القاسم الأنماطي3،
ومبارك بن أبان4، وأبي علي الطبري. وحكاه ابن الحاجب في "مختصر المنتهى"،
عن ابن سريج، والصحيح عنه ما تقدم.
وذهب الغزالي إلى أنه: إن تفاوت القياس والعام في غلبة
الظن رجح الأقوى، فإن تعادلا فالوقف. واختاره المطرزي5، ورجحه الفخر الرازي،
واستحسنه القرافي، والقرطبي.
وذهب الآمدي إلى أن العلة إن كانت منصوصة أو مجمعًا
عليها جاز التخصيص به، وإلا فلا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم الكلام عنه في الصفحة "159".
2 لم أجد ترجمته فيما بين يدي من المصادر.
3 هو الإمام عثمان بن سعيد بن بشار البغدادي، الفقيه، الأنماطي،
أبو القاسم الأحول، شيخ الشافعية، توفي سنة ثمانٍ وثمانين ومائتين هـ. ا. هـ. سير أعلام
النبلاء "13/ 429"، شذرات الذهب "2/ 198".
4 لم أجد ترجمته فيما بين يدي من المصادر.
5 هو ناصر بن أبي المكارم عبد السيد ين على المطرزي، كان
إمامًا في الفقه واللغة العربية، من آثاره: "المعرب"
"الإيضاح" "المقامات"، كان له: خليفة الزمخشري، ولد، سنة ست
وثلاثين وخمسمائة هـ، توفي سنة عشر وستمائة هـ، ا. هـ. الجواهر المضية "3/
528"، سير أعلام النبلاء "22/ 28" الفوائد البهية "218".
ج / 1 ص -392- وقد حكى إمام الحرمين في النهاية مذهبين
لم ينسبهما إلى من قالهما.
أحدهما: أنه يجوز إن كان الأصل المقيس عليه مخرجًا من
"عام وإلا فلا.
والثاني: أنه يجوز إن كان الأصل المقيس عليه مخرجًا من
غير"* ذلك العام وإلا فلا.
وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: القياس إن كان جليًّا
مثل {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُف}1 جاز التخصيص به الإجماع، وإن كان واضحًا وهو
المشتمل على جميع معنى الأصل، كقياس الربا، فالتخصيص به جائز في قول عامة أصحابنا
إلا طائفة شذت لا يعتد بقولهم وإن كان خفيًّا، وهو قياس علته الشبه، فأكثر أصحابنا
أنه لا يجوز التخصيص به، ومنهم من شذ فجوزه.
قال الأستاذ أبو منصور، والأستاذ أبو إسحاق: أجمع
أصحابنا على جواز التخصيص بالقياس الجلي.
واختلفوا في الخفي على وجهين، والصحيح الذي عليه
الأكثرون جوازه أيضًا، وكذا قال أبو الحسين بن القطان والماوردي والروياني، وذكر
الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أن الشافعي نص على جواز التخصيص بالخفي في مواضع.
واحتج الجمهور: بأن العموم والقياس دليلان متعارضين
والقياس خاص فوجب تقديمه.
وبهذا يعرف أنه لا ينتهض احتجاج المانعين بقولهم: لو قدم
القياس على عموم الخبر لزم تقديم الأضعف على الأقوى، وأنه باطل؛ لأن هذا التقديم
إنما يكون عند إبطال أحدهما بالآخر، فأما عند الجمع بينهما وإعمالهما جميعًا فلا.
وقد طول أهل الأصول الكلام في هذا البحث بإيراد شبه
زائفة لا طائل تحتها.
وسيأتي تحقيق الحق إن شاء الله تعالى في باب القياس، فمن
منع من العمل به مطلقًا منع من التخصيص به، ومن منع من بعض أنواعه دون بعض منع من
التخصيص بذلك البعض، ومن قبله مطلقًا خصص به مطلقًا.
والتفاصيل المذكورة هنا من جهة القابلين له مطلقًا، إنما
هي باعتبار كونه وقع هنا مقابلًا لدلالة العموم.
والحق الحقيق بالقبول: أنه يخصص بالقياس الجلي لأنه
معمول به لقوة دلالته، وبلوغها إلى حد يوازن النصوص، وكذلك يخصص بما كانت علته
منصوصة، أو مجمعًا عليها، أما العلة المنصوصة فالقياس الكائن بها في قوة النص،
وأما العلة المجمع عليها، فلكون ذلك الإجماع قد دل على دليل مجمع عليه، وما عدا
هذه الثلاثة الأنواع من القياس، فلم تقم الحجة بالعمل به من أصله.
وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا في القياس، على وجه
يتضح به الحق اتضاحًا لا يبقى عنده ريب لمرتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "1".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "23" من سورة الإسراء.
ج / 1 ص -393- المسألة الرابعة والعشرون: في التخصيص
بالمفهوم
ذهب القائلون بالعمل بالمفهوم إلى جواز التخصيص به.
قال الآمدي: لا أعرف خلافًا في تخصيص العموم بالمفهوم
بين القائلين بالعموم والمفهوم، وسيأتي1 الكلام على المفاهيم والمعمول به منها،
وغير المعمول به، وقد تقدم الكلام على التخصيص بمفهوم اللقب.
وحكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن الحنفية، وابن سريج
المنع من التخصيص بالمفهوم، وذلك مبني على مذهبهم في عدم العمل بالمفهوم.
قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد، في "شرح
الإلمام": قد رأيت في بعض مصنفات المتأخرين ما يقتضي تقديم العموم، وفي كلام
صفي الدين الهندي أن الخلاف إنما هو في مفهوم المخالفة، أما مفهوم الموافقة
فاتفقوا على التخصيص به.
قال الزركشي: والحق أن الخلاف ثابت فيهما.
أما مفهوم المخالفة، فكما إذا ورد عام في إيجاب الزكاة
في الغنم، كما في قوله: "في أربعين شاةً شاةٌ"3 ثم قال: "في سائمة
الغنم الزكاة"4 فإن المعلوفة خرجت بالمفهوم فيخصص به، عموم الأول، وذكر أبو
الحسين بن القطان أنه لا خلاف في جواز التخصيص به ومثل بما ذكرنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صفحة: "36 جـ2".
2 انظر صفحة: "353".
3 أخرجه ابن خزيمة في صحيحه من حديث سيدنا علي بن أبي
طالب رضي الله عنه مطولًا برقم "2270" وأبو داود في كتاب الزكاة باب في
زكاة السائمة "1572".
4 أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في
كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم "1454"، والنسائي في كتاب الزكاة، باب زكاة
الإبل "2446". وابن ماجه في كتاب الزكاة، باب إذا أخذ المصدق سنًا
والنسائي في كتاب الزكاة باب زكاة الإبل "2446". وابن ماجه في كتاب
الزكاة، باب إذا اخذ المصدق سنًا دون سن "1800" وأبو داود: في كتاب
الزكاة، باب زكاة السائمة "1567". وابن خزيمة برقم "2261".
ج / 1 ص -394- وكذا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني:
إذا ورد العام مجردًا على صفة ثم أعيدت الصفة متأخرة عنه كقوله: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِين}1 مع قوله قبله أو بعده "اقتلوا أهل الأوثان من المشركين"
كان ذلك موجبا للتخصيص بالاتفاق، ويوجب المنع من قتل أهل الكتاب، وتخصيص ما بعده
من العموم. انتهى.
وإنما حكى الصفي الهندي الإجماع على التخصيص بمفهوم
الموافقة؛ لأنه أقوى من مفهوم المخالفة، ولهذا يسميه بعضهم دلالة النص، وبعضهم
يسميه القياس الجلي، وبعضهم يسميه المفهوم الأولى، وبعضهم يسميه فحوى الخطاب، وذلك
كقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُف}2 وقد اتفقوا على العمل به، وذلك يستلزم
الاتفاق على التخصيص به.
والحاصل: أن التخصيص بالمفاهيم فرع العمل بها، وسيأتي3
بيان ما هو الحق فيها إن شاء الله تعالى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "5" من سورة التوية.
2 جزء من الآية "23" من سورة الإسراء.
3 انظر صفحة: "36 جـ2".
المسألة الخامسة والعشرون: في التخصيص بالإجماع
قال الآمدي: لا أعرف فيه خلافًا، وكذلك حكى الإجماع على
جواز التخصيص بالإجماع الأستاذ أبو منصور.
قال: ومعناه أن يعلم بالإجماع أن المراد باللفظ العام
بعض ما يقتضيه ظاهره، وفي الحقيقة يكون التخصيص بدليل الإجماع لا بنفس الإجماع.
وقال ابن القشيري: إن من خالف في التخصيص بدليل العقل
يخالف هنا.
وقال القرافي: الإجماع أقوى من النص الخاص؛ لأن النص
يحتمل نسخه، والإجماع لا ينسخ؛ لأنه إنما ينعقد بعد انقطاع الوحي.
وجعل الصيرفي من أمثلته قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه}1. قال:
وأجمعوا على أنه لا جمعة على عبد ولا امرأة.
ومثله ابن حزم بقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون}2، واتفقت الأمة على أنهم لو بذلوا فلسًا
أو فلسين لم يجز بذلك حقن دمائهم، قال: والجزية بالألف واللام، فعلمنا أنه أراد
جزية معلومة.
ومثله ابن الحاجب بآية حد القذف، وبالإجماع على التنصيف
للعبد.
والحق: أن المخصص هو دليل الإجماع، لا نفس الإجماع كما
تقدم3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "9" من سورة الجمعة.
2 جزء من الآية "29" من سورة التوبة.
3 انظر صفحة: "394".
ج / 1 ص -395- المسألة السادسة والعشرون: في التخصيص
بالعادة
ذهب الجمهور إلى عدم جواز التخصيص بها، وذهب الحنفية إلى
جواز التخصيص بها.
قال الصفي الهندي: وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أوجب أو حرم
شيئًا بلفظ عام، ثم رأينا العادة جارية بترك بعضها أو بفعل بعضها، فهل تؤثر تلك
العادة حتى يقال: المراد من ذلك العام ما عدا ذلك البعض الذي جرت العادة بتركه، أو
بفعله أو لا تؤثر في ذلك بل هو باق على عمومه متناول لذلك البعض ولغيره.
الثاني: أن تكون العادة جارية بفعل معين، كأكل طعام معين
مثلا، ثم إنه عليه السلام نهاهم عن تناوله بلفظ متناول له ولغيره، كما لو قال: نهيتكم
عن أكل الطعام فهل يكون النهي مقتصرًا على ذلك الطعام بخصوصه أم لا، بل يجري على
عمومه ولا تؤثر عاداتهم.
قال والحق: أنها لا تخصص لأن الحجة في لفظ الشارع وهو
عام، والعادة ليست بحجة حتى تكون معارضة له. انتهى.
وقد اختلف كلام أهل الأصول؛ وصاحب "المحصول"
وأتباعه تكلموا على الحالة الأولى، واختار فيها أنه إن علم جريان العادة في زمن
النبي صلى الله عليه وسلم مع عدم منعه عنها فيخصص بها، والمخصص في الحقيقة هو
تقريره صلى الله عليه وسلم.
وإن علم عدم جريانها ولم يخصص بها إلا أن يجمع على
فعلها، فيكون تخصيصًا بالإجماع.
وأما الآمدي وابن الحاجب فتكلموا على الحالة الثانية.
قال الرزكشي: وهما مسألتان لا تعلق لإحداهما بالأخرى،
فتفطن لذلك، فإن بعض من لا خبرة له حاول الجمع بين كلام الإمام الرازي في
"المحصول" وكلام الآمدي وابن الحاجب ظنًّا منه أنهما تواردا على محل
واحد وليس كذلك، وممن صرح بأنهما حالتان القرافي في "شرح
ج / 1 ص -396- التنقيح"، وفرق بأن العادة السابقة
على العموم تكون مخصصة، والعادة الطارئة بعد العموم لا يقضي بها على العموم. انتهى.
والحق: أن تلك العادة إن كانت مشتهرة في زمن النبوة،
بحيث يعلم أن اللفظ إذا أطلق كان المراد ما جرت عليه دون غيره فهي مخصصة؛ لأن
النبي صلى الله عليه وسلم إنما يخاطب الناس بما يفهمون، وهم لا يفهمون إلا ما جرى
عليه التعارف بينهم، وإن لم تكن العادة كذلك فلا حكم لها ولا التفات إليها.
والعجب ممن يخصص كلام الكتاب والسنة بعادة حادثة بعد
انقراض زمن النبوة تواطأ عليها قوم وتعارفوا بها، ولم تكن كذلك في العصر الذي تكلم
فيه الشارع، فإن هذا من الخطأ البين والغلط الفاحش.
أما لو قال المخصص بالعادة الطارئة إنه يخصص بها ما حدث
بعد أولئك الأقوام المصطلحين عليها من التحاور في الكلام، والتخاطب بالألفاظ، فهذا
مما لا بأس به، ولكن لا يخفى أن بحثنا في هذا العلم إنما هو عن المخصصات الشرعية، فالبحث
عن المخصصات العرفية لما وقع التخاطب به من العمومات الحادثة من الخلط لهذا الفن
بما ليس منه والخبط في البحث بما لا فائدة فيه.
المسألة السابعة والعشرون: في التخصيص بمذهب الصحابي
ذهب الجمهور إلى أنه لا يخصص بذلك.
وذهبت الحنفية والحنابلة إلى أنه يجوز التخصيص به، على
خلاف في ذلك بينهم، فبعضهم يخصص به مطلقا، وبعضهم يخصص به إن كان هو الراوي للحديث.
قال الأستاذ أبو منصور، والشيخ أبو حامد الإسفراييني،
وسليم الرازي، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي: إنه يجوز التخصيص بمذهب الصحابي إذا لم
يكن هو الراوي للعموم، وكان ما ذهب إليه منتشرًا ولم يعرف له مخالف في الصحابة؛
لأنه إما إجماع أو حجة مقطوع بها على الخلاف.
وأما إذا لم ينتشر، فإن خالفه غيره فليس بحجة قطعا، وإن
لم يعرف له مخالف، فعلى قول الشافعي الجديد ليس بحجة، فلا يخصص به، وعلى قوله
القديم هو حجة يقدم على القياس، وهل يخصص به العموم فيه وجهان.
وأما إذا كان الصحابي الذي ذهب إلى التخصيص هو الراوي
للحديث، فقد اختلف قول
ج / 1 ص -397- الشافعي في ذلك، والصحيح عنه وعن أصحابه
وعن جمهور أهل العلم، أنه لا يخصص به خلافًا لمن تقدم، والدليل على ذلك أن الحجة
إنما هي في العموم، ومذهب الصحابي ليس بحجة فلا يجوز التخصيص به.
واستدل القائلون بجواز التخصيص، بأن الصحابي العدل لا
يترك ما سمعه من النبي صلى اللهعليه وسلم ويعمل بخلافه إلا لدليل قد ثبت عنده يصلح
للتخصيص.
وأجيب عنه: بأنه قد يخالف ذلك لدليل في ظنه، وظنه لا
يكون حجة على غيره، فقد يظن ما ليس بدليل دليلًا، والتقليد للمجتهد من مجتهد مثله
لا يجوز، لا سيما في مسائل الأصول، فالحق عدم التخصيص بمذهب الصحابي، وإن كانوا
جماعة ما لم يجمعوا على ذلك فيكون من التخصيص بالإجماع، وقد تقدم1 الكلام عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "394".
المسألة الثامنة والعشرون: في التخصيص بالسياق
قد تردد قول الشافعي في ذلك، وأطلق الصيرفي جواز التخصيص
به، ومثله بقوله سبحانه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ}1 وكلام الشافعي في "الرسالة" يقتضيه، فإنه بوب لذلك
بابًا فقال: باب الصِّنف الذي قد بين سياقه معناه، وذكر قوله سبحانه: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْر}2 قال: فإن السياق أرشد إلى أن
المراد أهلها وهو قوله: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْت}3.
قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد، في "شرح
الإلمام": نص بعض الأكابر من الأصوليين أن العموم يخص بالقرائن القاضية
بالتخصيص، قال: ويشهد له مخاطبات الناس بعضهم بعضًا، حيث يقطعون في بعض المخاطبات
بعدم العموم، بناء على القرينة، والشرع يخاطب الناس بحسب تعارفهم. قال: ولا يشتبه
عليك التخصيص بالقرائن بالتخصيص بالسبب، كما اشتبه على كثير من الناس، فإن التخصيص
بالسبب غير مختار، فإن السبب وإن كان خاصًّا فلا يمنع أن يورد لفظ عام يتناوله
وغيره كما في "قوله تعالى"*: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا}4 ولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "173" من سورة آل عمران.
2 و3 جزء من الآية "163" من سورة الأعراف.
4 جزء من الآية "38" من سورة المائدة.
ج / 1 ص -398- ينتهض السبب بمجرده قرينة لرفع هذا بخلاف
السياق فإنه يقع به التبيين والتعيين، أما التبيين ففي المجملات، وأما التعيين ففي
المحتملات، وعليك باعتبار هذا في ألفاظ الكتاب والسنة والمحاورات تجد منه ما لا
يمكنك حصره. انتهى.
والحق: أن دلالة السياق إن قامت مقام القرائن القوية
المقتضية لتعيين المراد، كان المخصص هو ما "اشتمل"* عليه من ذلك، وإن لم
يكن السياق بهذه المنزلة ولا أفاد هذا المفاد فليس بمخصص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": اشتملت.
المسألة التاسعة والعشرون: في التخصيص بقضايا الأعيان
وذلك كإذنه صلى الله عليه وسلم بلبس الحرير للحكة1، وفي
جواز التخصيص بذلك قولان للحنابلة.
ولا يخفى أنه إذا وقع التصريح بالعلة التي لأجلها وقع
الإذن بالشيء، أو الأمر به، أو النهي عنه فهو من باب التخصيص بالعلة المعلقة على
الحكم، ولا يجوز التخصيص بالاستصحاب، قال أبو الخطاب الحنبلي2: إنه لا يجوز
التخصيص للعموم بالبقاء على حكم الأصل الذي هو الاستصحاب بلا خلاف.
قال القاضي عبد الوهاب في "الإفادة": ذهب بعض
ضعفاء المتأخرين إلى أن العموم يخص باستصحاب الحال، قال: لأنه دليل يلزم المصير
إليه ما لم ينقل عنه ناقل، فيجوز التخصيص به كسائر الأدلة. وهذا في غاية التناقض؛
لأن الاستصحاب من حقه أن يسقط بالعموم، فكيف يصح تخصيصه به! إذ معناه التمسك
بالحكم لعدم دليل ينقل عنه، والعموم دليل ناقل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم من حديث أنس بن مالك بلفظ "رخص رسول
الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في لبس الحرير من
حكة كانت بهما". في كتاب اللباس والزينة، باب إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان
به حكة أو نحوها "2076". والبخاري في الجهاد، باب الحرير في الحرب
"2921" والإمام أحمد في مسنده "3/ 255" وأبو يعلي
"3148". والنسائي في الزينة، باب الرخصة في لبس الحرير "8/
202". وابن حبان في صحيحه "5430".
2 هو محفوظ بن أحمد بن حسن العراقي، شيخ الحنابلة، أبو
الخطاب، العلامة الورع، مولده، سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة هـ، من آثاره:
"الهداية" "رءوس المسائل" "أصول الفقه"، توفي سنة
عشر وخمسمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "19/ 348"، شذرات الذهب "4/ 27".
ج / 1 ص -399- المسألة الموفية ثلاثين: في بناء العام
على الخاص
قد تقدم ما يجوز التخصيص به وما لا يجوز، فإذا كان العام
الوارد من كتاب أو سنة، قد ورد معه خاص يقتضي إخراج بعض أفراد العام من الحكم الذي
حكم به عليها، فإما أن يعلم تاريخ كل واحد منهما أو لا يعلم، فإن علم فإن كان المتأخر
الخاص فإما أن يتأخر عن وقت العمل بالعام أو عن وقت الخطاب، فإن تأخر عن وقت العمل
بالعام فههنا يكون الخاص ناسخًا لذلك القدر الذي تناوله من أفراد العام.
قال الزركشي في "البحر": وفاقًا، ولا يكون
تخصيصًا لأن تأخير بيانه عن وقت العمل غير جائز قطعًا.
وإن تأخر عن وقت الخطاب بالعام دون وقت العمل به، ففي
ذلك خلاف مبني على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، فمن جوزه جعل الخاص بيانًا
للعام، وقضى به عليه، ومن منعه حكم بنسخ العام في القدر الذي عارضه فيه الخاص، كذا
قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني، وسليم الرازي، قال: ولا يتصور في هذه المسألة خلاف
يختص بها، وإنما يعود الكلام فيها إلى جواز تأخير البيان، وكذا ذكر الشيخ أبو
إسحاق الشيرازي في "اللمع" وابن الصباغ في "العدة".
قال الصفي الهندي: من لم يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت
الخطاب ولم يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به كالمعتزلة، أحال المسألة، ومنهم
من جوزهما، فاختلفوا فيه، فالذي عليه الأكثرون من أصحابنا وغيرهم، أن الخاص مخصص للعام؛
لأنه وإن جاز أن يكون ناسخًا لذلك القدر من العام، لكن التخصيص أقل مفسدة من
النسخ، وقد أمكن حمله عليه فتعين.
ونقل عن معظم الحنفية أن الخاص إذا تأخر عن العام، وتخلل
بينهما ما يمكن المكلف بهما من العمل أو الاعتقاد بمقتضى العام، كان الخاص ناسخًا
لذلك القدر الذي تناوله من العام؛ لأنهما دليلان، وبين حكميهما تنافٍ، فيجعل
المتأخر ناسخًا للمتقدم "عند"*
الإمكان، دفعًا للتناقض، قال: وهو ضعيف. انتهى.
فإن تأخر العام عن وقت العمل بالخاص، فعند الشافعية:
يبنى العام على الخاص؛ لأن ما تناوله الخاص متيقن، وما تناوله العام ظاهر مظنون،
والمتيقن أولى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": من.
ج / 1 ص -400- وذهب أبو حنيفة، وأكثر أصحابه والقاضي عبد
الجبار، إلى أن العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم.
وذهب بعض المعتزلة إلى الوقف.
وقال أبو بكر الرازي: إذا تأخر العام كان ناسخًا لما
تضمنه الخاص ما لم يقم له دلالة من غيره على أن العموم مرتب على الخصوص. انتهى.
والحق في هذه الصورة البناء.
وإن تأخر العام عن وقت الخطاب بالخاص، لكنه قبل وقت
العمل به، فحكمه حكم الذي قبله في البناء والنسخ؛ إلا على رأي من لم يجوز منهم نسخ
الشيء قبل حضور وقت العمل به، كالقاضي عبد الجبار، فإنه لا يمكنه الحمل على النسخ،
فتعين عليه البناء أو التعارض فيما تنافيا فيه. وجعل إلكيا الطبري الخلاف في هذه
المسألة مبنيًّا على تأخير البيان فقال: من لم يجوز تأخيره عن مورد اللفظ جعله
ناسخًا للخاص.
"هذه"* الأربع الصور إذا كان تاريخهما معلومًا،
فإن جهل تاريخهما، فعند الشافعي وأصحابه والحنابلة والمالكية وبعض الحنفية والقاضي
عبد الجبار أنه يبنى العام على الخاص.
وذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه إلى التوقف إلى ظهور
التاريخ، أو إلى ما يرجح أحدهما، على الآخر من غيرهما، وحكى نحو ذلك عن القاضي أبي
بكر الباقلاني والدقاق.
والحق الذي لا ينبغي العدول عنه: في صورة الجهل البناء،
وليس عنه مانع يصلح للتشبث به، والجمع بين الأدلة ما أمكن هو الواجب، ولا يمكن
الجمع مع الجهل إلا بالبناء، وما علل به المانعون في الصور المتقدمة من عدم جواز
تأخير البيان عن وقت الحاجة غير موجود هنا، وقد تقرر أن الخاص أقوى دلالة من العام،
والأقوى أرجح، وأيضًا إجراء العام على عمومه إهمال للخاص، وإعمال الخاص لا يوجب إهمال
العام.
وأيضًا قد نقل أبو الحسين الإجماع على البناء مع جهل
التاريخ.
والحاصل: أن البناء هو الراجح على جميع التقادير
المذكورة في هذه المسألة.
وما احتج به القائلون بأن العام المتأخر ناسخ من قولهم
دليلان تعارضا، وعلم التاريخ بينهما، فوجب تسليط المتأخر على السابق، كما لو كان
المتأخر خاصًّا، فيجاب عنه بأن العام المتأخر ضعيف الدلالة، فلا ينتهض لترجيحه على
قوي الدلالة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": وهذه.
ج / 1 ص -401- وأيضًا في البناء جمع، وفي العمل بالعام
ترجيح، والجمع مقدم على الترجيح.
وأيضًا في العمل بالعام إهمال للخاص، وليس في التخصيص
إهمال للعام كما تقدم.
وسيأتي1 لهذه المسألة مزيد بيان في الكلام على جواز
تأخير البيان عن وقت الحاجة، وفي الكلام على جواز النسخ قبل إمكان العمل"* إن
شاء الله.
"تم الجزء الأول بعون الله تعالى وفضله ويليه الجزء
الثاني إن شاء الله تبارك وتعالى"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": العام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر "2/ 53".
ج / 1 ص -402- فهرس المحتويات:
الموضوع الصفحة
مقدمة سماحة مفتي زحلة والبقاع الغربي الشيخ خليل الميس
5
مقدمة الدكتور ولي الدين صالح فرفور الدمشقي 7
مقدمة التحقيق 9
مقدة الإمام الشوكاني 15
الفصل الأول: تعريف أصول الفقه وموضوعه وفائدته
واستمداده 17
موضوع علم أصول الفقه 23
فائدته وثمرته 24
استمداد علم أصول الفقه 24
الفصل الثاني: في الأحكام 25
البحث الأول: في الحكم 25
البحث الثاني: في الحاكم 28
البحث الثالث: في المحكوم به 31
البحث الرابع: في المحكوم عليه وهو المكلف 36
الفصل الثالث: في المبادئ اللغوية 40
البحث الأول: عن ماهية الكلام 40
البحث الثاني: عن الواضع 41
البحث الثالث: عن الموضوع 45
البحث الرابع: عن الموضوع له 46
البحث الخامس: في الطريق التي يعرف بها الوضع 47
الفصل الرابع: في تقسيم اللفظ إلى مفرد ومركب 52
المسألة الأولى: في الاشتقاق 53
المسألة الثانية: في الترادف 56
المسألة الثالثة: في المشترك 57
المسألة الرابعة: في استعمال المشترك في أكثر من معنى 59
ج / 1 ص -403- الموضوع الصفحة
المسألة الخامسة: في الحقيقة والمجاز 62
البحث الأول: في تفسير لفظي الحقيقة والمجاز 62
البحث الثاني: في حدهما 62
البحث الثالث: في الحقائق اللغوية والعرفية والشرعية
والخلاف في ثبوتها 63
البحث الرابع: المجاز في لغة العرب 66
البحث الخامس: في علاقات الحقيقة والمجاز 68
البحث السادس: في قرائن المجاز 70
البحث السابع: في الأمور التي يعرف بها المجاز ويتميز
عندها عن الحقيقة 71
البحث الثامن: في عدم اتصاف اللفظ قبل الاستعمال
بالحقيقة والمجاز 74
البحث التاسع: في اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز،
أيهما يرجح 76
البحث العاشر: في الجمع بين الحقيقة والمجاز 79
الخلاف في بعض حروف المعاني 80
المقصد الأول: في الكتاب العزيز
الفصل الأول: فيما يتعلق بتعريفه 85
الفصل الثاني: في حكم المنقول آحادًا 86
الفصل الثالث: في المحكم والمتشابه من القرآن 90
الفصل الرابع: في المعرب هل هو موجود في القرآن أم لا؟
91
المقصد الثاني: في السنة المطهرة
البحث الأول: في معنى السنة لغة وشرعًا 95
البحث الثاني: في حجية السنة واستقلالها بالتشريع 96
البحث الثالث: في عصمة الأنبياء 98
البحث الرابع: في أفعاله صلى الله عليه وسلم 102
البحث الخامس: في تعارض الأفعال 111
البحث السادس: في حكم التعارض بين القول والفعل 113
البحث السابع: في التقرير 117
البحث الثامن: فيما هم بفعله ولم يفعله صلى الله عليه
وسلم 118
البحث التاسع: في حكم إشارته وكتابته صلى الله عليه وسلم
118
البحث العاشر: فيما تركه صلى الله عليه وسلم والقول في
الحوادث التي لم يحكم بها 119
البحث الحادي عشر: في الأخبار 119
ج / 1 ص -404- الموضوع الصفحة
النوع الأول: في معنى الخبر لغة واصطلاحًا 119
النوع الثاني: أقسام الخبر من حيث الصدق والكذب 123
النوع الثالث: في تقسيم الخبر 127
النوع الرابع: أقسام الخبر من حيث التواتر وعدمه 128
القسم الأول: المتواتر 128
شروط إفادة الخبر المتواتر للعلم الضروري 130
القسم الثاني: الآحاد 133
أقسام الآحاد 137
شروط العمل بخبر الواحد 139
الشروط الراجعة إلى الراوي 139
الشروط الراجعة إلى مدلول الخبر 151
حكم زيادة الثقة 154
الشروط الراجعة إلى لفظ الخبر 155
الحال الأول: أن يرويه الراوي بلفظه 155
الحال الثاني: أن يرويه بغير لفظه بل بمعناه 155
الحال الثالث: حكم حذف الراوي لبعض الخبر 159
الحال الرابع: حكم زيادة الراوي 161
الحال الخامس: اقتصار الراوي على أحد محتملي الخبر 161
الحال السادس: صرف الخبر إلى غير ظاهره 161
فصل: في ألفاظ الرواية من الصحابي 162
ألفاظ الرواية من غير الصحابي ومراتبها 166
المرتبة الأولى: أن يسمع الحديث من لفظ الشيخ 166
المرتبة الثانية: القراءة وقول العلماء فيها 166
المرتبة الثالثة: الكتابة المقرونة بالإجازة 168
المرتبة الرابعة: المناولة 169
المرتبة الخامسة: الإجازة 170
فصل: في الحديث الصحيح 172
حكم الحديث المنقطع والمعضل 177
فصل: في طرق ثبوت العدالة 177
فرع: في الخلاف في عدالة المبهم 181
فرع آخر: الخلاف في قبول الجرح والتعديل من دون ذكر
السبب 182
فرع ثالث: في تعارض الجرح والتعديل والجمع يبنهما 184
ج / 1 ص -405- الموضوع الصحفة
فصل: في عدالة الصحابة 185
فرع: في التعريف بالصحابي 188
فرع آخر: في طرق معرفة الصحابي 189
المقصد الثالث: في الإجماع
البحث الأول: في مسماه لغة واصطلاحًا 193
البحث الثاني: في إمكان الإجماع في نفسه 194
المقام الأول: منع إمكان الإجماع في نفسه 194
المقام الثاني: في إمكان العلم بالإجماع 195
المقام الثالث: النظر في نقل الإجماع إلى من يحتج به 197
المقام الرابع: في حجية الإجماع 197
البحث الثالث: في ظنية الإجماع أو قطعيته 209
البحث الرابع: فيما ينعقد به الإجماع 210
البحث الخامس: في اعتبار المجتهد المبتدع في الإجماع 212
البحث السادس: في اعتبار التابعي المجتهد في الإجماع 215
البحث السابع: في حكم إجماع الصحابة 217
البحث الثامن: في حكم إجماع أهل المدينة 218
البحث التاسع: في عدم اعتبار من سيوجد في الإجماع 223
البحث العاشر: في حكم انقراض عصر أهل الإجماع في حجية
إجماعهم 223
البحث الحادي عشر: في الإجماع السكوتي 223
البحث الثاني عشر: في حكم الإجماع على شيء بعد الإجماع
على خلافه 227
البحث الثالث عشر: في حدوث الإجماع بعد سبق الخلاف 228
البحث الرابع عشر: فيما إذا اختلف أهل العصر على قولين
في مسألة فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث؟ 229
البحث الخامس عشر: في حكم إحداث دليل أو تأويل من غير
إلغاء الدليل أو التأويل الأول 230
البحث السادس عشر: في إمكان وجود دليل لا معارض له لم
يعلمه أهل الإجماع 230
البحث السابع عشر: في حكم قول العوام في الإجماع 231
فرع: في إجماع العوام 233
البحث الثامن عشر: في الاجماع المعتبر 233
البحث التاسع عشر: في مخالفة واحد من المجتهدين لأهل
الإجماع 234
البحث الموفي عشرين: في حجية الإجماع المنقول بطريق
الآحاد 236
ج / 1 ص -406- الموضوع الصفحة
المقصد الرابع: في الأوامر والنواهي والعموم والخصوص
والإطلاق والتقييد والإجمال والتبيين والظاهر والمؤول والمنطوق والمفهوم والناسخ
والمنسوخ
الباب الأول: في مباحث الأمر
الفصل الأول: حقيقة لفظ الأمر 241
الفصل الثاني: الخلاف في حد الأمر بمعنى القول 243
الفصل الثالث: حقيقة صيغة "أفعل" 247
صيغ الأمر ومعانية 253
الفصل الرابع: هل الأمر يفيد التكرار أم لا؟ 255
الفصل الخامس: هو الأمر يقتضي الفور أو لا؟ 259
الفصل السادس: في أن الأمر بالشيء نهي عن ضده 263
الفصل السابع: الإتيان بالمأمور به 269
الفصل الثامن: القضاء. هل يجب بأمر جديد أم بالأمر
الأول؟ 271
الفصل التاسع: هل الأمر بالأمر بالشيء أمرًا به أم لا؟
273
الفصل العاشر: الأمر بالماهية ومقتضاه 274
الفصل الحادي عشر: تعاقب الأمرين المتماثلين أو
المتغايرين 276
الباب الثاني: في النواهي
المبحث الأول: في معنى النهي لغة واصطلاحًا 278
المبحث الثاني: في النهي الحقيقي ومعناه 279
المبحث الثالث: في اقتضاء النهي للفساد 280
الباب الثالث: في العموم
المسألة الأولى: في حده 285
المسألة الثانية: في أن العموم من عوارض الألفاظ 287
المسألة الثالثة: في تصور العموم في الأحكام 289
المسألة الرابعة: في الفرق بين العام والمطلق 290
المسألة الخامسة: في صيغ العموم 291
المسألة السادسة: في الاستدلال على أن كل صيغة من تلك
الصيغ للعموم 295
ج / 1 ص -407- الموضوع الصحفة
المسألة السابعة: في عموم الجمع المنكر للقلة أو للكثرة
308
المسألة الثامنة: في أقل الجمع 310
المسألة التاسعة: الخلاف في عموم الفعل المثبت 313
المسألة العاشرة: في عموم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة} 316
المسألة الحادية عشرة: في الألفاظ الدالة على الجمع 318
المسألة الثانية عشرة: في عموم الخطاب 320
المسألة الثالثة عشرة: في دخول الكافر في الخطاب الصالح
له وللمسلمين 321
المسألة الرابعة عشرة: في الخطاب الشفاهي 322
المسألة الخامسة عشرة: في الخطاب الخاص بالأمة 323
المسألة السادسة عشرة: في الخطاب الخاص بواحد من الأمة
324
المسألة السابعة عشرة: في دخول المخاطب تحت عموم خطابه
326
المسألة الثامنة عشرة: في عموم المقتضى 327
المسألة التاسعة عشرة: في عموم المفهوم 329
المسألة الموفية العشرين: في الاستفصال 330
المسألة الحادية والعشرون: في حذف المتعلق 331
المسألة الثانية والعشرون: في الكلام العام الوارد في
جهة المدح أو الذم 331
المسألة الثالثة والعشرون: في حكم العام الوارد على سبب
خاص 332
المسألة الرابعة والعشرون: فيما إذا ذكر بعض أفراد العام
الموافق له في الحكم 336
المسألة الخامسة والعشرون: في عموم العلة المعلقة بالحكم
337
المسألة السادسة والعشرون: في العام المخصوص هل هو حقيقة
في الباقي أم مجاز 338
المسألة السابعة والعشرون: في حجية العام بعد التخصيص
340
المسألة الثامنة والعشرون: عطف بعد أفراد العام عليه 343
المسألة التاسعة والعشرون: في جواز العمل بالعام قبل
البحث عن المخصص 345
المسألة الثلاثون: في الفرق بين العام المخصوص والعام
الذي أريد به الخصوص 347
الباب الرابع: في الخاص والتخصيص والخصوص
المسألة الأولى: في حده 350
المسألة الثانية: في الفرق بين النسخ والتخصيص 352
المسألة الثالثة: في تخصيص العمومات وجوازه 354
المسألة الرابعة: في المقدار الذي لا بد من بقائه بعد
التخصيص 355
المسألة الخامسة: في المخصص 358
المسألة السادسة: في حكم الاستثناء من الجنس 359
ج / 1 ص -408- الموضوع الصفحة
المسألة السابعة: في إقامة الحجة على من أنكر الاستنثاء
361
المسألة الثامنة: في شروط صحة الاستثناء 363
المسألة التاسعة: في الاستثناء من النفي والخلاف فيه 369
المسألة العاشرة: في الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة
371
المسألة الحادية عشرة: في حكم الوصف الوارد بعد المستثنى
374
المسألة الثانية عشرة: التخصيص بالشرط 375
أقسام الشرط 376
المسألة الثالثة عشرة: التخصيص بالصفة 377
المسألة الرابعة عشرة: التخصيص بالغاية 378
المسألة الخامسة عشرة: التخصيص بالبدل 380
المسألة السادسة عشرة: التخصيص بالحال 381
المسألة السابعة عشرة: التخصيص بالظروف والجار والمجرور
381
المسألة الثامنة عشرة: التخصيص بالتمييز 381
المسألة التاسعة عشرة: التخصيص بالمفعول به والمفعول معه
382
المسألة الموفية العشرون: التخصيص بالعقل 382
المسألة الحادية والعشرون: التخصيص بالحس 385
المسألة الثانية والعشرون: التخصيص بالكتاب العزيز
وبالسنة المطهرة والتخصيص لهما 385
جواز تخصيص السنة بالكتاب 386
جواز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة 387
جواز تخصيص السنة المتواترة بالمتواترة 387
جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد 387
التخصيص بموافق العام وبعطف الخاص على العام 390
المسألة الثالثة والعشرون: في التخصيص بالقياس 390
المسألة الرابعة والعشرون: في التخصيص بالمفهوم 393
المسألة الخامسة والعشرون: في التخصيص بالإجماع 394
المسألة السادسة والعشرون: في التخصيص بالعادة 395
المسألة السابعة والعشرون: في التخصيص بمذهب الصحابي 396
المسألة الثامنة والعشرون: في التخصيص بالسياق 397
المسألة التاسعة والعشرون: في التخصيص بقضايا الأعيان
398
المسألة الموفية ثلاثين: في بناء العام على الخاص 399
فهرس المحتويات 403
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
ج / 2 ص -5- الباب الخامس: في المطلق والمقيد
وفيه مباحث أربعة:
الفصل الأول: في حدهما
أما المطلق: فقيل في حده: ما دل على شائع في جنسه. ومعنى
هذا: أن يكون حصة محتملة لحصص كثيرة مما "يندرج"* تحت أمر. فيخرج من قيد
الدلالة المهملات، ويخرج من قيد الشيوع العارف كلها، لما فيها من التعيين، إما
شخصا، نحو: زيد وهذا، أو حقيقة، نحو: الرجل وأسامة، أو حصة، نحو: {فَعَصَى
فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}1، أو استغراقا نحو: الرجال، وكذا كل عام ولو نكرة، نحو: كل
رجل ولا رجل.
وقيل في حده: هو ما دل على الماهية بلا قيد من حيث هي هي.
"قال في "المحصول" في حده: هو ما دل على
الماهية من حيث هي هي"** من غير أن تكون له دلالة على شيء من قيوده، والمراد
بها عوارض الماهية اللاحقة لها في الوجود.
وقد اعترض عليه بأنه جعل المطلق والنكرة سواء، وبأنه يرد
عليه أعلام الأجناس، كأسامة وثعالة، فإنها تدل على الحقيقة من حيث هي هي.
وأجاب عن ذلك الأصفهاني في "شرحة المحصول":
بأنه لم يجعل المطلق والنكرة سواء، بل غاير بينهما، فإن المطلق الدال على الماهية
من حيث هي هي، والنكرة الدالة على الماهية بقيد الوحدة الشائعة.
قال: وإما إلزامه بعلم الجنس فمردود، بأنه وضع للماهية
الذهنية بقيد التشخص الذهني، بخلاف اسم الجنس، وإنما يرد الاعتراض بالنكرة على
الحد الذي أورده الآمدي للمطلق، فإنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": يدرج.
** ما بين قوسين ساقط من "أ"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 16 من سورة المزمل.
ج / 2 ص -6- قال: هو الدال على الماهية بقيد الوحدة.
وكذا يرد الاعتراض بها على ابن الحاجب، فإنه قال في حده: هو ما دل على شائع في
جنسه. وقيل: المطلق هو ما دل على الذات دون الصفات.
وقال الصفي الهندي: المطلق الحقيقي: ما دل على الماهية
فقط، والإضافي مختلف، نحو: رجل،ب ورقبة، فإنه مطلق بالإضافة إلى رجل عالم، ورقبة
مؤمنة، ومقيد بالإضافة إلى الحقيقي؛ لأنه يدل على واحد شائع، وهما قيدان زائدان
على الماهية.
وأما المقيد:
فهو ما يقابل المطلق، على اختلاف هذه الحدود المذكورة في
المطلق، فيقال فيه: هو ما دل لا على شائع في جنسه، فتدخل فيه المعارف والعمومات
كلها، أو يقال في حده: هو ما دل على الماهية بقيد من قيودها، أو ما كان له دلالة
على شيء من القيود.
الفصل الثاني: حمل المطلق على المقيد
اعلم: أن الخطاب إذا ورد مطلقًا لا "مقيد له"*
حمل على إطلاقه، وإن ورد مقيدًا حمل على تقييده، وإن ورد مطلقًا في موضع، مقيدًا
في موضع آخر، فذلك على أقسام:
الأول:
أن يختلفا في السبب والحكم، فلا يحمل أحدهما على الآخر
بالاتفاق، كما حكاه القاضي أبوبكر الباقلاني: وإمام الحرمين الجويني، وإلكيا
الهراس، وابن برهان، والآمدي وغيرهم.
القسم الثاني:
أن يتفقا في السبب والحكم فيحمل أحدهما على الآخر، كما
لو قال: إن ظاهرت فأعتق رقبة؛ وقال في موضوع آخر: إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة. وقد
نقل الاتفاق في هذا القسم القاضي أبو بكر الباقلاني، والقاضي عبد الوهاب، وابن
فورك وإلكيا الطبري وغيرهم.
وقال ابن برهان في "الأوسط" اختلف أصحاب أبي
حنيفة في هذا القسم، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجمل، والصحيح من مذهبهم أنه يحمل،
ونقل أبو زيد الحنفي وأبو منصور الماتريدي في "تفسيره"1: أن أبا حنيفة
يقول بالحمل في هذه الصورة، وحكي "الطرطوسي2" الخلاف فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": لا مقيدًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه: "تأويلات الماتريدي" للشيخ محمد بن
محمد الماتريدي أبي منصور، ويعرف أيضًا باسم "تأويلات القرآن" ا. هـ.
كشف الظنون 1/ 457.
2 هو نجم الدين إبراهيم بن علي بن أحمد الطرسوسي، قاض،
مصنف، من كتبه: "الإرشادات في ضبط المشكلات" و"الإعلام في مصطلح
الشهود والحكام" و"أنفع الوسائل" يعرف بالفتاوى الطرطوسية، وغيرها
انظر ترجمته ومصادرها في الإعلام "1/ 51".
ج / 2 ص -7- عن المالكية، وبعض الحنابلة، وفيه نظر، فإن
من جملة من نقل الاتفاق القاضي عبد الوهاب، وهو من المالكية.
ثم بعد الاتفاق المذكور وقع الخلاف بين المتفقين، فرجح
ابن الحاجب وغيره أن هذا الحمل هو بيان للمطلق، أي: دال على أن المراد بالمطلق هو
المقيد، وقيل: إنه يكون نسخًا، أي: دالا على نسخ حكم المطلق السابق بحكم المقيد اللاحق،
والأول أولى. وظاهر إطلاقهم أنه لا فرق في هذا القسم بين أن يكون المطلق متقدمًا
أو متأخرًا، أو جهل السابق، فإنه يتعين الحمل، كما حكاه الزركشي.
القسم الثالث:
أن يختلفا في السبب دون الحكم، كإطلاق الرقبة في كفارة
الظهار1،وتقييدها بالإيمان في كفارة القتل2، فالحكم واحد وهو وجوب الإعتاق في
الظهار والقتل، مع كون الظهار والقتل سببين مختلفين، فهذا القسم هو موضع الخلاف.
فذهب كافة الحنفية إلى عدم جواز التقييد، وحكاه القاضي
عبد الوهاب عن أكثر المالكية.
وذهب جمهور الشافعية إلى التقييد.
وذهب جماعة من محققي الشافعية إلى أنه يجوز تقييد المطلق
بالقياس على ذلك المقيد، ولا يُدعى وجوب هذا القياس، بل يدعى أنه إن حصل القياس
الصحيح ثبت التقييد وإلا فلا.
قال الرازي في "المحصول": وهو القول المعتدل،
قال: واعلم
أن صحة هذا القول إنما تثبت إذا أفسدنا القولين الأولين، أما الأول -يعني مذهب جمهور
الشافعية- فضعيف جدًّا؛ لأن الشارع لو قال: أوجبت في كفارة القتل رقبة مؤمنة،
وأوجبت في كفارة الظهار رقبة كيف كانت لم يكن أحد الكلامين مناقضا للآخر، فعلمنا
أن تقييد أحدهما لا يقتضي تقييد الآخر لفظا.
وقد احتجوا بأن القرآن كالكلمة الواحدة، وبأن الشهادة
لما قيدت بالعدالة مرة واحدة، وأطلقت في سائر الصور، حملنا المطلق على المقيد فكذا
ههنا.
والجواب عن الأول: بأن القرآن كالكلمة الواحدة في أنها
لا تتناقض لا في كل شيء، وإلا وجب أن يتقيد كل عام ومطلق بكل خاص ومقيد.
وعن الثاني: أنَّا إنما قيدناه بالإجماع.
وأما القول الثاني -يعني مذهب الحنفية- فضعيف؛ لأن دليل
القياس، وهو أن العمل به دفع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي الواردة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ
مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا...} الآية، المجادلة 3.
2 وهي الواردة في قوله تعالى: {...وَمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ...} الآية، النساء 92.
ج / 2 ص -8- للضرر المظنون عام في كل الصور. انتهى.
قال إمام الحرمين الجويني -في دفع ما قاله من أن كلام
الله في حكم الخطاب الواحد-: إن هذا الاستدلال من فنون الهذيان، فإن قضايا الألفاظ
في كتاب الله مختلفة متباينة، لبعضها حكم التعلق والاختصاص، ولبعضها حكم الاستقلال
والانقطاع. فمن ادعى تنزيل جهات الخطاب على حكم كلام واحد، مع العلم بأن كتاب الله
فيه النفي والإثبات، والأمر والزجر، والأحكام المتغايرة؛ فقد ادعى أمرا عظيما.
انتهى.
ولا يخفاك أن اتحاد الحكم بين المطلق والمقيد يقتضى حصول
التناسب بينهما بجهة الحمل، ولا نحتاج في مثل ذلك إلى هذا الاستدلال البعيد. فالحق
ما ذهب إليه القائلون بالحمل.
وفي المسألة مذهب رابع لبعض الشافعية، وهو أن حكم المطلق
بعد المقيد من جنسه موقوف على الدليل، فإن قام الدليل على تقييده قيد، وإن لم يقم
الدليل صار كالذي لم يرد فيه نص، فيعدل عنه إلى غيره من الأدلة.
قال الزركشي: وهذا أفسد المذاهب؛ لأن النصوص المحتملة
يكون الاجتهاد فيها عائدا إليها، ولا يعدل إلى غيره.
وفي المسألة مذهب خامس: وهو أن يعتبر أغلظ الحكمين في
"المطلق و"* المقيد، فإن كان حكم المقيد أغلظ حمل المطلق على المقيد.
ولا يحمل على إطلاقه إلا بدليل؛ لأن التغليظ إلزام، وما
تضمنه الإلزام لا يسقط التزامه باحتمال.
قال الماوردي: وهذا أولى المذاهب. قلت: بل هو أبعدها من
الصواب.
القسم الرابع:
أن يختلفا في الحكم، نحو: اكس يتيما، أطعم يتيما عالما،
فلا خلاف في أنه لا يحمل أحدهما على الآخر بوجه من الوجوه، سواء كانا مثبتين أو
منفيين أو مختلفين، اتحد سببهما أو اختلف. "وقد" ** حكى الإجماع جماعة
من المحققين آخرهم ابن الحاجب.
==============
ج6.
====
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
1 مثاله: تعليل الربا في الذهب والفضة بأنهما إثمان فلا
يعلل بهما ا. هـ البحر المحيط 5/ 157.
قال في التلويح 2/ 66: ولا يجوز التعليل بالعلة القاصرة
عندنا، وعند الشافعي رحمه الله يجوز فإنه جعل علة الربا في الذهب والفضة الثمنية
فهي مقتصرة على الذهب الفضة غير متعدية عنهما؛ إذ غير الحجرين لم يخلق ثمنا،
والخلاف فيما إذا كانت العلة مستنبطة، أما إذا كانت منصوصة فيجوز عليتها اتفاقًا.
ج / 2 ص -115- القول في تعدد العلل:
وقد اختلفوا في جواز تعدد العلل مع اتحاد الحكم1؛ فإن
كان الاتحاد بالنوع، مع الاختلاف بالشخص، كتعليل إباحة قتل زيد بردته، وقتل عمرو
بالقصاص، وقتل خالد بالزنا مع الإحصان، فقد اتفقوا على الجواز، وممن نقل الاتفاق
على ذلك الأستاذ أبو منصور البغدادي، والآمدي، والصفي الهندي.
وأما إذا كان الاتحاد بالشخص، فقيل: لا خلاف في امتناعه
بعلل عقلية.
وحكى القاضي الخلاف في ذلك، فقال: ثم اختلفوا إذا وجب
الحكم العقلي بعلتين، فقيل: لا يرتفع إلا بارتفاعهما جميعًا.
وقيل: يرتفع بارتفاع إحداهما.
وأما تعدد العلل الشرعية، مع الاتحاد في الشخص، كتعليل
قتل زيد بكونه قتل من يجب عليه فيه القصاص، وزنى مع الإحصان، فإن كل واحد منهما
يوجب القتل بمجرده، فهل يصح تعليل إباحة دمه بهما معا أم لا؟ اختلفوا في ذلك على مذاهب.
الأول:
المنع مطلقًا، منصوصة كانت أو مستنبطة.
حكاه القاضي عبد الوهاب عن متقدمي أصحابهم، وجزم به
الصيرفي، واختاره الآمدي، ونقله القاضي، وإمام الحرمين.
الثاني:
الجواز مطلقًا، وإليه ذهب الجمهور، كما حكاه القاضي في
"التقريب".
قال: وبهذا نقول؛ لأن العلل علامات وأمارات على الأحكام،
لا موجبة لها، فلا يستحيل ذلك.
قال ابن برهان في "الوجيز": إنه الذي استقر
عليه رأي إمام الحرمين.
الثالث:
الجواز في المنصوصة دون المستنبطة2، وإليه ذهب أبو بكر
بن فورك، والفخر الرازي، وأتباعه.
وذكر إمام الحرمين أن القاضي يميل إليه، وكلام إمام
الحرمين هذا هو الذي اعتمده ابن الحاجب في نقل هذا المذهب عن القاضي، كما صرح به
في "مختصر المنتهى"، ولكن النقل عن
القاضي مختلف كما عرفته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحث مفصلا في المستصفى 2/ 342-343. والمنخول
392-393.
2 وأخرج هذا القسم الثالث الزركشي في البحر: حيث قال:
ويخرج مما سبق حكاية مذهب ثالث وهو الجواز في المنصوصة دون المستنبطة. قال عبد
الوهاب: وحكاه الهمداني عن أبي عبد الله البصري، والصحيح الجواز مطلقا. ا. هـ
البحر المحيط 5/ 158.
ج / 2 ص -116- الرابع:
الجواز في المستنبطة دون المنصوصة، حكاه ابن الحاجب في
"مختصر المنتهى"، وابن المنير في "شرحه للبرهان"، وهو قول
غريب.
والحق: ما ذهب إليه الجمهور من الجواز.
وكما ذهبوا إلى الجواز فقد ذهبوا أيضًا إلى الوقوع، ولم
يمنع من ذلك عقل ولا شرع.
الشروط المعتبرة في الفرع:
وأما ما يشترط في الفرع فأمور أربعة:
أحدهما:
مساواة علته لعلة الأصل.
والثاني:
مساواة حكمه لحكم الأصل.
والثالث:
أن لا يكون منصوصا عليه.
والرابع:
أن لا يكون متقدما على حكم الأصل.
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
الفصل الرابع: في الكلام على مسالك العلة وهي طرقها
الدالة عليها
ولما كان لا يكتفى في القياس بمجرد وجود الجامع في الأصل
والفرع، بل لا بد في اعتباره من دليل يدل عليه، وكانت الأدلة إما بالنص، أو
الإجماع، أو الاستنباط، احتاجوا إلى بيان مسالك العلة.
وقد أضاف القاضي عبد الوهاب إلى الأدلة الثلاثة دليلا
رابعا، وهو العقل، ولم يعتبره الجمهور، بل جعلوا طريق إثبات العلة هو السمع فقط.
وقد اختلفوا في عدد هذه المسالك.
فقال الرازي في "المحصول": هي عشرة: النص،
والإيماء، والإجماع، والمناسبة، والتأثير، والدوران، والسبر والتقسيم، والشبه،
والطرد، وتنقيح المناط.
قال: وأمور أخر اعتبرها قوم، هي عندنا ضعيفة. انتهى.
واختلف أهل الأصول في تقديم مسلك الإجماع على مسلك النص،
أو مسلك النص على مسلك الإجماع. فمن قدم الإجماع نظر إلى كونه أرجح من ظواهر
النصوص؛ لأنه لا يتطرق إليه احتمال النسخ. ومن قدم النص نظر إلى كونه أشرف من
غيره، وكونه مستند الإجماع، وهذا مجرد اصطلاح في التأليف، فلا مشاحة فيه1.
وسنذكر من المسالك ههنا أحد عشر مسلكا:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 5/ 184، وفواتح الرحموت 2/ 295
وميزان الأصول 2/ 843.
ج / 2 ص -117- المسلك الأول: الإجماع
وهو نوعان:
إجماع على علة معينة، كتعليل ولاية المال بالصغر، وإجماع
على أصل التعليل -وإن اختلفوا في عين العلة- كإجماع السلف على أن الربا في الأصناف
الأربعة معلل، وإن اختلفوا في العلة ماذا هي1.
وقد ذهب إلى كون الإجماع من مسالك العلة جمهور الأصوليين،
كما حكاه القاضي في "التقريب"، ثم قال: وهذا لا يصح عندنا، فإن
القياسيين ليسوا كل الأمة، ولا تقوم الحجة بقولهم، وهذا الذي قاله صحيح، فإن
المخالفين في القياس كلا أو بعضا هم بعض الأمة، فلا تتم دعوى الإجماع بدونهم.
وقد تكلف إمام الحرمين الجويني في "البرهان" لدفع هذا فقال: بأن
منكري القياس ليسوا من علماء الأمة، ولا من حملة الشريعة، فإن معظم الشريعة صدرت
عن الاجتهاد والنصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة. انتهى.
وهذا كلام يقتضي من قاله العجب، فإن كون منكري القياس
ليسوا من علماء الأمة من أبطل الباطلات، وأقبح التعصبات، ثم دعوى أن نصوص الشريعة
لا تفي بعشر معشارها لا تصدر إلا عمن لم يعرف نصوص الشريعة حق معرفتها.
وحكى ابن السمعاني عن بعض أصحاب الشافعي أنه لا يجوز
القياس على الحكم المجمع عليه، ما لم يعرف النص الذي أجمعوا عليه. انتهى.
وهذا يعود عند التحقيق إلى نفي كون الإجماع من مسالك
العلة. ثم القائلون بأن الإجماع من مسالك العلة لا يشترطون فيه أن يكون قطعيًّا،
بل يكتفون فيه بالإجماع الظني فزادوا هذا المسلك ضعفا إلى ضعفه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر فواتح الرحموت 2/ 295. وميزان الأصول 2/ 827.
ج / 2 ص -118- المسلك الثاني: النص على العلة
قال في "المحصول" ونعني بالنص: ما يكون دلالته
على العلة ظاهرة، سواء كانت قاطعة أو محتملة.
أما القاطع: فما يكون صريحا، وهو قولنا: لعلة كذا، أو
لسبب كذا، أو لمؤثر كذا، أو لموجب كذا، أو لأجل كذا، كقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ
ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ}1.
وأما الذي لا يكون قاطعا فثلاثة: اللام، وإن، والباء.
أما اللام: فكقولنا ثبت لكذا، كقوله تعالى: {وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}2.
وأما "إن" فكقوله صلى الله عليه وسلم:
"إنها من الطوافين"3.
وأما الباء: فكقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ}4
هذا حاصل كلامه.
قال الإمام الشافعي: متى وجدنا في كلام الشارع ما يد ل
على نصبه أدلة وأعلاما ابتدرنا إليه، وهو أولى ما يسلك.
واعلم: أنه لا خلاف في الأخذ بالعلة إذا كانت منصوصة،
وإنما اختلفوا هل الأخذ بها من باب القياس، أم من العمل بالنص؟
فذهب إلى الأول الجمهور، وذهب إلى الثاني النافون
للقياس، فيكون الخلاف على هذا لفظيا، وعند ذلك يهون الخطب، ويصغر ما تعاظم من
الخلاف في هذه المسألة.
قال ابن فورك: إن الأخذ بالعلة المنصوصة ليس قياسا وإنما
هو استمساك بنص لفظ الشارع، فإن لفظ التعليل إذا لم يقبل التأويل عن كل ما تجري
العلة فيه، كان المتعلق به مستدلا بلفظ قاضٍ بالعموم5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 32 من سورة المائدة.
2 جزء من الآية 56 من سورة الذاريات.
3 أخرجه أبو داود من حديث كبشة رضي الله عنها، كتاب
الطهارة، باب سؤر الهرة 75. والترمذي، أبواب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الهرة 92.
والنسائي، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة 1/ 55، 68.
وابن ماجه، كتاب الطهارة، باب الوضوء بسؤر الهرة والرخصة
في ذلك 367. ومالك في الموطأ، كتاب الطهارة، باب الطهور للوضوء 13. وابن حبان في
صحيحه 1299. الحاكم. كتاب الطهارة 1/
110. والبيهقي، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة 1/ 245.
4 جزء من الآية 13 من سورة الأنفاق، والآية 4 من سورة الحشر.
5 ذكر الزركشي هذا الكلام في البحر المحيط 5/ 186 ونسبه
إلى الإمام الجويني في البرهان.
ج / 2
ص -119- واعلم أن التعليل قد يكون مستفادا من حرف من
حروفه، وهي: كي، واللام، وإذن، ومن، والباء، والفاء، وإن، ونحو ذلك، وقد يكون
مستفادا من اسم من أسمائه، وهي: لعلة كذا، لموجب كذا، بسبب كذا، لمؤثر كذا، لأجل
كذا، "لجزاء كذا، لعلم كذا"*، لمقتضى كذا، ونحو ذلك، وقد يكون مستفادا من
فعل من الأفعال الدالة على ذلك، كقوله: عللت بكذا، وشبهت كذا بكذا، ونحو ذلك، وقد يكون
مستفادا من السياق، فإنه قد يدل على العلة كما يدل على غيرها.
وقد قسموا النص على العلة إلى صريح، وظاهر.
قال الآمدي: فالصريح هو الذي لا يحتاج فيه إلى نظر
واستدلال، بل يكون اللفظ موضوعا في اللغة له.
قال الأبياري: ليس المراد بالصريح المعنى الذي لا يقبل
التأويل، بل المنطوق بالتعليل فيه على حسب دلالة اللفظ الظاهر على المعنى. انتهى.
ثم الصريح ينقسم إلى أقسام.
أعلاها أن يقول: لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو نحو ذلك،
وبعده أن يقول: لأجل كذا، أو من أجل كذا.
قال ابن السمعاني: وهو دون ما قبله؛ لأن لفظ العلة تعلم
به العلة من غير واسطة، بخلاف قوله: لأجل، فإنه يفيد معرفة العلة، بواسطة أن العلة
ما لأجلها الحكم، والدال بلا واسطة أقوى، وكذا قال الأصفهاني.
وبعده أن يقول: كي يكون كذا، فإن الجويني في
"البرهان" جعلها من الصريح، وخالفه الرازي.
وبعده: إذا، فإن أبا إسحاق الشيرازي، والغزالي، جعلاه من
الصريح، وجعله الجويني في "البرهان" من الظاهر.
وبعده: ذكر المفعول له نحو: ضربته تأديبا.
وأما الظاهر: فينقسم إلى أقسام، أعلاها: اللام، ثم أنْ
المفتوحة المخففة، ثم إنْ المكسورة الساكنة، بناء على أن الشروط اللغوية أسباب، ثم
إنَّ المشددة، كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنها من الطوافين عليكم"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في الصفحة 2/ 118.
ج / 2
ص -120- قال صاحب "التنقيح": كذا عدوها من هذا
القسم، والحق: أنها لتحقيق الفعل، ولا حظ لها في التعليل، والتعليل في الحديث
مفهوم من سياق الكلام.
وقد نقل الأبياري إجماع النحاة على أنها لا ترد للتعليل،
قال: وهي في قوله: "إنها من الطوافين عليكم" للتأكيد؛ لأن علة طهارة
سؤرها هي الطواف، ولو قدرنا مجيء قوله: "من الطوافين" بغير إن لأفاد التعليل،
فلو كانت للتعليل لعدمت العلة بعدمها، ولا يمكن أن يكون التقدير لأنها، وإلا لوجب
فتحها، ولاستفيد التعليل من اللام.
ثم الباء، قال ابن مالك: وضابطه أن يصلح غالبا في
موضوعها اللام، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}1، وقوله
سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ}2؛ وجعل من ذلك الآمدي،
والصفي الهندي قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}3. ونسبة بعضهم إلى
المعتزلة، وقيل: هي المقابلة، كقوله: هذا بذلك؛ لأن المعطي بعوض قد يعطي مجانا.
ثم الفاء: إذا علق بها الحكم على الوصف، وذلك نوعان.
أحدهما:
أن يدخل على السبب والعلة، ويكون الحكم متقدما، كقوله
صلى الله عليه وسلم: "لا تخمروا رأسه، فإنه يبعث ملبيا"4.
الثاني:
أن يدخل على الحكم، وتكون العلة متقدمة، كقوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ
جَلْدَةٍ}5، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}6.
لأن التقدير من زنى فاجلدوه، ومن سرق فاقطعوه.
ثم لعل؛ على رأي الكوفيين من النحاة، فإنهم قالوا: إنها
في كلام الله للتعليل المحض، مجردة عن معنى الترجي، لاستحالته عليه.
ثم إذ: ذكره ابن مالك نحو: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ
وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ}7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 13 من سورة الأنفال. وكذلك من الآية 4 من
سورة الحشر.
2 جزء من الآية 160 من سورة النساء.
3 جزء من الآية 14 من سورة الأحقاف.
4 أخرجه البخاري من حديث ابن عباس، كتاب جزاء الصيد، باب
سنة المحرم إذا مات 1815. مسلم، كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات 1206. النسائي،
كتاب مناسك الحج، باب غسل المحرم بالسدر إذا مات 5/ 195. البيهقي، كتاب الجنائز، باب
المحرم يموت 3/ 392. ابن حبان في صحيحه 3960. أحمد في مسنده 1/ 215.
5 جزء من الآية 2 من سورة النور.
6 جزء من الآية 38 من سورة المائدة.
7 جزء من الآية 16 من سورة الكهف.
ج / 2
ص -121- ثم حتى: كما ذكره ابن "مالك"*، نحو
قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}1، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ
مِنْكُمْ}2، {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}3 ولا يخفى ما في عد هذه الثلاثة المتأخرة من جملة
دلائل التعليل من الضعف الظاهر.
وقد عد منها صاحب "التنقيط": لا جرم، نحو: {لا
جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ}4. وعد أيضًا جميع أدوات الشرط والجزاء.
وعد إمام الحرمين منها الواو. وفي هذا من الضعف ما لا
يخفى على عارف بمعاني اللغة العربية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 29 من سورة التوبة.
2 جزء من الآية 31 من سورة محمد صلى الله عليه وسلم.
3 جزء من الآية 193 من سورة البقرة.
4 جزء من الآية 62 من سورة النحل.
المسلك الثالث: الإيماء والتنبيه
وضابطه: الاقتران بوصف، لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل
لكان بعيدا، فيحمل على التعليل دفعا للاستبعاد.
وحاصله:
أن ذكره يمتنع أن يكون لا لفائدة؛ لأنه عبث، فيتعين أن
يكون لفائدة، وهي إما كونه علة، أو جزء علة، أو شرطا، "والأطهر"*: كونه
علة؛ لأنه الأكثر في تصرفات الشرع، وهو أنواع:
الأول:
تعليق الحكم على العلة بالفاء، وهو على وجهين:
أحدهما:
أن تدخل الفاء على العلة، ويكون الحكم متقدما، كقوله صلى
الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته ناقته: " فإنه يحشر يوم القيامة
ملبيا"1.
ثانيهما: أن تدخل الفاء على الحكم، وتكون العلة متقدمة،
وذلك أيضًا على وجهين:
أحدهما:
أن تكون الفاء دخلت على كلام الشارع، مثل قوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيديهما}2، {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا}3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": وإلا ظهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه 2/ 120.
2 جزء من الآية 38 من سورة المائدة.
3 جزء من الآية 6 من سورة المائدة.
ج / 2
ص -122- وثانيهما: أن تدخل على رواية الراوي، كقوله:
"سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد"1، و"زنى ماعز
فرجم"2، كذا في "المحصول" وغيره.
النوع الثاني:
أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا، لو لم يكن علة لعري عن
الفائدة إما مع سؤال في محله، أو سؤال في نظيره.
فالأول:
كقول الأعرابي: واقعت أهلي في رمضان. فقال: "أعتق
رقبة"3. فإنه يدل على أن الوقاع علة للإعتاق، والسؤال مقدر في الجواب، كأنه
قال: إذا واقعت فكفر.
الثاني كقوله: وقد سألته الخثعمية: إن أبي أدركته
الوفاة، وعليه فريضة الحج، أفينفعه إن حججت عنه؟ فقال: "أرأيت لو كان على
أبيك دين فقضيته، أكان ينفعه؟" قالت: نعم4.
فذكر نظيره، وهو دين الآدمي، فنبه على كونه، علة في
النفع، وإلا لزم العبث.
وذهب جماعة من الأصوليين إلى أن شرط فهم التعليل من هذا
النوع أن يدل الدليل على أن الحكم وقع جوابا؛ إذ من الممكن أن يكون الحكم
استئنافا، لا جوابا، وذلك كمن تصدى للتدريس، فأخبره تلميذه بموت السلطان، فأمره
عقب الإخبار بقراءة درسه، فإنه لا يدل على تعليل القراءة بذلك الخبر، بل الأمر بالاشتغال
بما هو بصدده، وترك ما لا يعنيه.
النوع الثالث:
أن يفرق بين الحكمين لوصف، نحو قوله صلى الله عليه وسلم:
"للراجل سهم وللفارس سهمان"5. فإن ذلك يفيد أن الموجب للاستحقاق للسهم
والسهمين هو الوصف المذكور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود من حديث عمران بن حصين بلفظ: "إن
النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم" كتاب
الصلاة، باب سجدتي السهو 1039. الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في التشهد في سجدتي السهو
395. النسائي،
في السهو، ذكر الاختلاف على أبي هريرة في السجدتين 3/ 26. الحاكم في المستدرك
بلفظ: "صلى بهم فسها في صلاته فسها فسجد سجدتين السهو بعد السلام والكلام، 1/
323 وسكت عنه الذهبي في التلخيص. ابن حبان في صحيحه 2670.
2 تقدم تخريجه 2/ 73.
3 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، كتاب الأدب، باب ما
جاء في قول الرجل: "ويلك" 6164. بنحوه أبو داود، كتاب الصيام، باب كفارة
من أتى أهله في رمضان 2390. والترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في كفارة الفطر في
رمضان 724. وابن ماجه، كتاب الصوم، باب ما جاء في كفارة من أفطر يوما في رمضان
1617. والنسائي في الكبرى كما في التحفة 9/ 327. وابن حبان في صحيحه 3524. وأحمد
في مسنده 2/ 241.
4 تقديم تخريجه 2/ 100.
5 أخرجه البيهقي من حديث ابن عمر، وقد روي أيضًا من طريق
العقبني عن عبد الله العمري بالشك بالفارس أو الفرس، فقال الشافعي في القديم: كأنه
سمع نافعا يقول: للفرس سهمين وللرجل سهما، فقال: للفارس سهمين وللراجل سهما وليس
يشك أحد من أهل العلم في تقدمة عبيد الله بن عمر على أخيه في الحفظ. انظر البيهقي، كتاب
قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في سهم الراجل والفارس 6/ 325. ورواه الحاكم في المستدرك، من
حديث مجمع بن جارية الأنصاري، في كتاب قسم الفيء قال: حديث كبير صحيح الإسناد ولم
يخرجاه. ووافقه الذهبي في التلخيص 2/ 113
وأخرجه أحمد في مسنده 3/ 420
ج / 2 ص -123- النوع الرابع:
أن يذكر عقب الكلام أو في سياق شيئا، لو لم يعلل به
الحكم المذكور لم ينتظم الكلام، كقوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ}1؛ لأن الآية
سيقت لبيان وقت الجمعة وأحكامها، فلو لم يعلل النهي عن البيع بكونه مانعا من
الصلاة، أو شاغلا عن المشي إليها؛ لكان ذكره عبثا؛ لأن البيع لا يمنع منه مطلقا.
النوع الخامس:
ربط الحكم باسم مشتق، فإن تعليق الحكم به مشعر بالعلية،
نحو: أكرم زيدا العالم، فإن ذكر الوصف المشتق مشعر بأن الإكرام لأجل العلم.
النوع السادس:
ترتب الحكم على الوصف بصيغة الشرط والجزاء كقوله تعالى:
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}2. أي: لأجل تقواه، {وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}3. أي: لأجل توكله؛ لأن الجزاء يتعقب
الشرط.
النوع السابع:
تعليل عدم الحكم بوجود المانع منه، كقوله تعالى:
{وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ}4. {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي
الْأَرْضِ}5، {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}6.
النوع الثامن:
إنكاره سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لفائدة، ولا
لحكمة بقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}7، وقوله:
{أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}8، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}9.
النوع التاسع:
إنكاره سبحانه أن يسوي بين المختلفين، ويفرق بين
المتماثلين.
فالأول:كقوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ
كَالْمُجْرِمِينَ}10.
والثاني: كقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}11
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 9 من سورة الجمعة.
2 جزء من الآية 2 من سورة الطلاق.
3 جزء من الآية 3 من سورة الطلاق.
4 جزء من الآية 33 من سورة الزخرف.
5 جزء من الآية 27 من سورة الشورى.
6 جزء من الآية 44 من سورة فصلت.
7 جزء من الآية 115 من سورة المؤمنون.
8 جزء من الآية 36 من سورة القيامة.
9 جزء من الآية 85 من سورة الحجر
10 الآية 35 من سورة القلم.
11 جزء من الآية 71 من سورة التوبة.
ج / 2 ص -124- وقد اختلف في اشتراط مناسبة الوصف المومأ
إليه للحكم في الأنواع السابقة، فاشترطه إمام الحرمين الجويني، والغزالي.
وذهب الأكثرون إلى عدم اشتراطه.
وذهب قوم إلى التفصيل، فقالوا: إن كان التعليل فهم من
المناسبة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقض القاضي وهو غضبان"1
اشترط، وأما غيره فلا يشترط، واختاره ابن الحاجب.
وحكى الهندي تفصيلًا، وهو اشتراطه في ترتيب الحكم على
الاسم دون غيره،. وحكى ابن المنير تفصيلًا آخر: وهو إن كان الاسم المشتق يتناول
معهودا معينا؛ فلا يتعين للتعليل ولو كان مناسبا، بل يحتمل أن يكون تعريفا، وأما
إذا علق بعام ومنكر فهو تعليل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم من حديث أبي بكرة، كتاب الأقضية، باب كراهة
قضاء القاضي وهو غضبان 1717.
وأخرجه البخاري بلفظ: "لا يقضين حكم بين اثنين وهو
غضبان" كتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي وهو غضبان 7158. وأبو داود، كتاب
الأقضية، باب القاضي يقضي وهو غضبان 3589". والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما
جاء لا يقضي القاضي وهو غضبان 1334. والنسائي، كتاب آداب القاضي، باب ذكر ما ينبغي
للحاكم أن يجتنبه 8/ 237. والبيهقي، كتاب آداب القاضي، باب لا يقضي وهو غضبان 10/ 105. وابن حبان
في صحيحه 5063. وأحمد في مسنده 5/ 36.
المسلك الرابع: الاستدلال على علية الحكم بفعل النبي صلى
الله عليه وسلم:
كذا قال القاضي في "التقريب" وصورته: أن يفعل
النبي صلى الله عليه وسلم فعلا بعد وقوع شيء، فيعلم أن ذلك الفعل إنما كان لأجل
ذلك الشيء الذي وقع، كأن يسجد صلى الله عليه وسلم للسهو، فيعلم أن ذلك السجود إنما
كان لسهو قد وقع منه.
وقد يكون ذلك الفعل من غيره بأمره، كرجم ماعز.
وهكذا الترك له حكم الفعل، كتركه صلى الله عليه وسلم
للطيب، والصيد، وما يجتنبه المحرم، فإن المعلوم من شاهد الحال أن ذلك لأجل الإحرام.
المسلك الخامس: السبر والتقسيم:
وهو في اللغة: الاختبار، ومنه الميل الذي يختبر به
الجرح، فإنه يقال له المسبار، وسمي
ج / 2 ص -125- هذا به؛ لأن المناظر يقسم الصفات ويختبر
كل واحدة منها "في أنه"* هل تصلح للعلية أم لا؟
وفي الاصطلاح هو قسمان:
أحدهما:
أن يدور بين النفي والإثبات، وهذا هو المنحصر.
والثاني:
أن لا يكون كذلك، وهذا هو المنتشر.
فالأول:
أن تحصر الأوصاف التي يمكن التعليل بها للمقيس عليه، ثم
اختبارها في المقيس، وإبطال ما لا يصلح منها بدليله، وذلك الإبطال إما بكونه ملغى،
أو وصفا طرديا، أو يكون فيه نقض، أو كسر، أو خفاء، أو اضطراب، فيتعين الباقي للعلية1.
وقد يكون في القطعيات، كقولنا: العالم إما أن يكون
قديما، أو حادثا، بطل أن يكون قديما، فثبت أنه حادث.
وقد يكون في الظنيات، نحو أن نقول: في قياس الذرة على
البر في الربوية: بحثت عن أوصاف البر فما وجدت ثم ما يصلح للربوية في بادئ الرأي
إلا الطعم، والقوت، والكيل، لكن الطعم والقوت لا يصلح لذلك بدليل كذا، فتعين
الكيل2.
قال الصفي الهندي: وحصول هذا القسم في الشرعيات عسر جدا.
ويشترط في صحة هذا المسلك أن يكون الحكم في الأصل معللا
بمناسب، خلافا للغزالي، وأن يقع الاتفاق على أن العلة لا تركيب فيها، كما في مسألة
الربا، فأما لو لم يقع الاتفاق لم يكون هذا المسلك صحيحا؛ لأنه إذا بطل كونه علة
مستقلة، جاز أن يكون جزءا من أجزائها، وإذا انضم إلى غيره صار علة مستقلة، فلا بد من
إبطال كونه علة أو جزء علة.
ويشترط أيضًا أن يكون حاصرا لجميع الأوصاف، وذلك بأن
يوافقه الخصم على انحصارها في ذلك، أو يعجز عن إظهار وصف زائد، وإلا فيكفي المستدل
أن يقول: بحثت عن الأوصاف فلم أجد سوى ما ذكرته، والأصل عدم ما سواها، وهذا إذا
كان أهلا للبحث.
ونازع في ذلك بعض الأصوليين، ومنهم: الأصفهاني، فقال:
قول المعلل في جواب طالب الحصر: بحثت وسبرت فلم أجد غير هذه الأشياء، فإن ظفرت
بعلة أخرى فأبرزها، وإلا فليلزمك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عرفه صاحب فواتح الرحموت بقوله: هو حصر الأوصاف
الصالحة للعلية وحذف ما سوى الوصف المدعى في عليته فيتعين المدعى. ا. هـ انظر
فواتح الرحموت 2/ 299. البحر المحيط 5/ 222-223 المستصفى 2/ 295.
2 انظر تتمة البحث في البحر المحيط 5/ 223، وفيه تنبيه
مهم وجليل، ذكره الزركشي في 5/ 224.
ج / 2
ص -126- ما يلزمني، قال: وهذا فاسد؛ لأن سبره لا يصلح
دليلا؛ لأن الدليل ما يعلم به المدلول، ومحال أن يعلم طالب الحصر الانحصار ببحثه ونظره،
وجهله لا يجوب على خصمه أمرا، واختار ابن برهان التفصيل بين المجتهد وغيره.
القسم الثاني:
المنتشر، وذلك بأن لا يدور بين النفي والإثبات، أو دار
ولكن كان الدليل على نفي علية ما عدا الوصف المعين فيه ظنيا.
فاختلفوا في ذلك على مذاهب:
الأول:
أنه ليس بحجة مطلقًا، لا في القطعيات، ولا في الظنيات،
حكاه في "البرهان" عن بعض الأصوليين.
الثاني:
أنه حجة في العمليات فقط؛ لأنه يحصل غلبة الظن، واختاره
إمام الحرمين الجويني، وابن برهان، وابن السمعاني. قال الصفي الهندي: هو الصحيح.
الثالث:
أنه حجة للناظر دون المناظر، واختاره الآمدي.
وقال إمام الحرمين في "الأساليب"1: إنه يفيد
الطالب مذهب الخصم، دون تصحيح مذهب المستدل؛ إذ لا يمتنع أن يقول: ما أبطلته باطل،
وما اخترته باطل.
وحكى ابن العربي أنه دليل قطعي، وعزاه إلى الشيخ أبي
الحسن والقاضي، وسائر أصحاب الشافعي، قال: وهو الصحيح، فقد نطق به القرآن ضمنا،
وتصريحا، في مواطن كثيرة2.
فمن الضمن، قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ
هَذِهِ الْأَنْعَامِ} إلى قوله: {حَكِيمٌ عَلِيم}3، ومن التصريح قوله:
{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج} إلى قوله: {الظَّالِمِين}4.
وقد أنكر بعض أهل الأصول أن يكون السبر والتقسيم مسلكا.
قال الأبياري في شرح "البرهان": السبر يرجع
إلى اختبار أوصاف المحل وضبطها، والتقسيم يرجع إلى إبطال ما يظهر إبطاله منها،
فإذًا لا يكون من الأدلة بحال، وإنما تسامح الأصوليون بذلك.
قال ابن المنير: "ومن الأسئلة"* القاصمة لمسلم
السبر والتقسيم أن المنفي لا يخلو في.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": والمسألة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأساليب في الخلافيات لأبي المعالي الجويني وذكر فيه
الخلاف بين الشافعية والحنفية، ا. هـ. كشف الظنون 1/ 75.
2 انظر البحث مفصلا في البحر المحيط 5/ 224-225. المنخول
351.
3 الآية 139 من سورة الأنعام.
4 جزء من الآيتين 142-143 من سورة الأنعام.
ج / 2
ص -127- نفس الأمر من أن يكون مناسبا، أو شبها، أو طردا،
"لأنه"* إما أن يشتمل على مصلحة أو لا، فإن اشتمل على مصلحة، فإما أن
تكون منضبطة للفهم أو كلية لا تنضبط.
فالأول:
المناسبة.
والثاني:
الشبه.
وإن لم يشتمل على مصلحة أصلا فهو الطرد المردود، فإن كان
ثم مناسبة أو شبه "يعني لغى"** السبر والتقسيم، وإن كان عريا عن المناسبة
قطعا، لم ينفع السبر والتقسيم أيضًا1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": لا أنه.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 5/ 227. فواتح الرحموت 2/ 299-300.
المسلك السادس: المناسبة
ويعبر عنها بالإخالة، وبالمصلحة، وبالاستدلال، وبرعاية
المقاصد، ويسمى استخراجها: تخريج المناط وهي عمدة كتاب القياس، ومحل غموضه ووضوحه.
ومعنى المناسبة: هي تعيين العلة بمجرد إبداء المناسبة،
مع السلامة عن القوادح، لا بنص ولا غيره.
والمناسبة في اللغة: الملاءمة، والمناسب الملائم.
قال في "المحصول": الناس ذكروا في تعريف
المناسب شيئين:
الأول:
أنه المفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلا وإبقاء، وقد
يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة، وعن الإبقاء بدفع المضرة لأن ما قصد إبقاؤه فإزالته
مضرة، وإبقاؤه دفع للمضرة.
ثم هذا التحصيل والإبقاء، قد يكون معلوما، وقد يكون
مظنونا وعلى التقديرين، فإما أن يكون دينيا أو دنيويا.
والمنفعة عبارة عن اللذة، أو ما يكون طريقا إليها،
والمضرة عبارة عن الألم، أو ما يكون طريقا إليه، واللذة قيل في حدها: إنها إدراك
الملائم، والألم: إدراك المنافي.
والصواب عندي: أنه لا يجوز تحديدهما؛ لأنهما من أظهر ما
يجده الحي من نفسه، ويدرك بالضرورة التفرقة بين كل واحد منهما، وبينهما وبين
غيرهما، وما كان كذلك يتعذر تعريفه بما هو أظهر منه.
الثاني:
أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات، فإنه يقال: هذه
اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة
ج / 2 ص -128- في الجمع بينها في سلك واحد متلائم. انتهى.
وقد اختلف في تعريفها القائلون بمنع تعليل أفعال الله
سبحانه بالأغراض، والقائلون بتعليلها بها.
فالأولون قالوا: إنها الملائم لأفعال العقلاء في
العادات، أي: ما يكون بحيث يقصد العقلاء تحصيله على مجاري العادة بتحصيل مقصود
مخصوص.
والآخرون قالوا: إنها ما تجلب للإنسان نفع، أو تدفع عنه
ضرا1.
وقيل: هي ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول، كذا قال
الدبوسي.
وقيل:
وعلى هذا فإثباتها على الخصم متعذر؛ لأنه ربما يقول:
عقلي لا يتلقى هذا بالقبول، ومن ثم قال الدبسوي: هو حجة للناظر؛ لأنه لا يكابر
نفسه: لا للمناظر.
قال الغزالي: والحق بأنه يمكن إثباته على الجاحد بتبيين
معنى المناسبة على وجه مضبوط، فإذا أبداه المعلل فلا يلتفت إلى جحده. انتهى.
وهذا صحيح، فإنه لا يلزم المستدل إلا ذلك.
وقال ابن الحاجب: إن المناسب وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا
من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا من حصول مصلحة ودفع مفسدة، فإن كان
الوصف خفيا، أو غير منضبط اعتبر ملازمة، وهو المظنة؛ لأن الغيب لا يعرف الغيب،
كالسفر للمشقة، والفعل المقضي عرفا عليه بالعمد في العمدية.
قال الصفي الهندي: وهو ضعيف؛ لأنه اعتبر في ماهية
المناسبة ما هو خارج عنه، وهو اقتران الحكم بالوصف، وهو خارج عن ماهية المناسب،
بدليل أنه يقال: المناسبة مع الاقتران دليل العلة، ولو كان الاقتران داخلا في
الماهية لما صح هذا.
وأيضا فهو غير جامع؛ لأن التعليل "بالظاهرة"*
المنضبطة جائز على ما اختاره قائل هذا الحد، والوصفية غير متحققة فيها مع تحقق
المناسبة.
وقد احتج إمام الحرمين على إفادتها للعلية بتمسك الصحابة
بها، فإنهم يلحقون غير المنصوص بالمنصوص، إذا غلب على "ظنهم"** أنه
يضاهيه لمعنى أو يشبهه.
ورد2 بأنه لم ينقل إلينا أنهم كانوا يتمسكون بكل ظن
غالب، فلا يبعد التعبد مع نوع من الظن الغالب، ونحن "لا" *** نعلم ذلك
النوع.
ثم قال إمام الحرمين: فالأولى الاعتماد على العمومات
الدالة على الأمر بالقياس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": ظنه.
*** ما بين القوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 5/ 206. وميزان الأصول 2/ 864.
2 قال الزركشي في البحر ورده في الرسالة البهائية. البحر
المحيط 5/ 207.
ج / 2 ص -129- انقسام المناسب من حيث الظن واليقين:
واعلم:
أنه قد يحصل بالمناسب المقصود به من شرع الحكم يقينا،
كمصلحة البيع للحل، أو ظنا، كمصلحة القصاص لحفظ النفس، وقد يحتملهما على السواء،
كحد الخمر، لحفظ العقل؛ لأن الإقدام مساوٍ للإحجام، وقد يكون نفي الحصول أرجح،
كنكاح الآيسة لتحصيل التناسل، ويجوز التعليل بجميع هذه الأقسام، وأنكر بعضهم صحة التعليل
بالثالث، وبعضهم بالرابع.
قال الصفي الهندي: الأصح يجوز إن كان في آحاد الصور
الشاذة، وكان ذلك الوصف في أغلب الصور من الجنس مفضيا إلى المقصود، وإلا فلا.
أما إذا حصل القطع بأن المقصود من شرع الحكم غير ثابت1،
فقالت الحنفية: يعتبر التعليل به، والأصح لا يعتبر، سواء ما لا تعبد فيه، كلحوق
نسب المشرقي بالمغربية، وما فيه تعبد، كاستبراء جارية اشتراها بائعها في المجلس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في البحر المحيط: "أما إذا حصل القطع بأن المقصود
من شرع الحكم ثابت فقالت..." 5/ 208.
انقسام المناسب إلى حقيقي وإقناعي:
المناسب ينقسم إلى حقيقي وإقناعي.
والحقيقي ينقسم إلى ما هو واقع في محل الضرورة، ومحل
الحاجة، ومحل التحسين.
الأول: الضروري
وهو المتضمن "حفظ"* قصود من المقاصد الخمس،
التي لم تختلف فيها الشرائع، بل هي مطبقة على حفظها، وهي خمسة:
أحدها: حفظ النفس بشرعية القصاص، فإنه لولا ذلك لتهارج
الخلق، واختل نظام المصالح.
ثانيها: حفظ المال بأمرين: أحدهما: إيجاب الضمان على
المتعدي، فإن المال قوام العيش، وثانيهما: القطع بالسرقة.
ثالثها: حفظ النسل بتحريم الزنا، وإيجاب العقوبة عليه
بالحد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* "أ": لحفظ.
ج / 2 ص -130- رابعها: حفظ الدين بشرعية القتل بالردة،
والقتال للكفار.
خامسها: حفظ العقل بشرعية الحد على شرب المسكر، فإن
العقل هو قوام كل فعل تتعلق به مصلحة، فاختلاله يؤدي إلى مفاسد عظيمة.
واعترض على دعوى اتفاق الشرائع على الخمسة المذكورة بأن
الخمر كانت مباحة في الشرائع "السابقة"*، وفي صدر الإسلام. ورد بأن
المباح منها في تلك الشرائع هو ما لا يبلغ إلى حد السكر المزيل للعقل، فإنه محرم
في كل ملة، كذا قال الغزالي.
وحكاه ابن القشيري عن القفال، ثم نازعة فقال: تواتر الخبر
أنها كانت مباحة على الإطلاق، ولم يثبت أن الإباحة كانت إلى حد لا يزيل العقل.
وكذا قال النووي في "شرح مسلم"1، ولفظه: وأما
ما يقوله من لا تحصيل عنده أن المسكر لم يزل محرما فباطل، لا أصل له. انتهى.
قلت: وقد تأملت التوراة والإنجيل، فلم أجد فيهما إلا إباحة الخمر
مطلقًا، من غير تقييد بعدم السكر، بل فيهما التصريح بما يتعقب الخمر من السكر،
وإباحة ذلك؛ "فلا"** يتم دعوى اتفاق الملل على التحريم، وهكذا تأملت كتب
أنبياء بني إسرائيل؛ فلم أجد فيها ما يدل على التقييد أصلا.
وقد زاد بعض المتأخرين سادسا، وهو حفظ الأعراض، فإن عادة
العقلاء بذل نفوسهم وأموالهم دون أعراضهم، وما فدي بالضروري فهو بالضرورة أولى،
وقد شرع في الجناية عليه بالقذف الحد، وهو أحق بالحفظ من غيره، فإن الإنسان قد
يتجاوز عمن جنى على نفسه أو ماله، ولا يكاد أحد أن يتجاوز عمن جنى على عرضه، ولهذا
يقول قائلهم:
يهون علينا أن تصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول2
قالوا:
ويلتحق بالخمسة المذكورة مكمل الضروري، كتحريم قليل المسكر،
ووجوب الحد فيه، وتحريم البدعة، والمبالغة في عقوبة المبتدع، الداعي إليها،
والمبالغة في حفظ النسب، بتحريم النظر، واللمس والتعزير على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": المتقدمة.
** في "أ": فلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الشافعي، وهو
شرح متوسط مفيد، سماه المنهاج في شرح مسلم بن الحجاج قال فيه: لولا ضعف الهمم وقلة
الراغبين لبسطته فبلغت به ما يزيد على مائة مجلد ولكني أقتصر على التوسط. ا. هـ
كشف الظنون 1/ 557.
2 وهو لأبي الطيب المتنبي من قصيدة له في ديوانه 352
والبيت من البحر الطويل.
ج / 2 ص -131- القسم الثاني: الحاجي
وهو ما يقع في محل الحاجة، لا محل الضرورة، كالإجارة،
فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن، مع القصور عن تملكها، وامتناع مالكها عن
بذلها عارية، وكذلك المساقاة والقراض.
ثم اعلم: أن المناسبة قد تكون جلية، فتنتهي إلى القطع،
كالضروريات، وقد تكون خفية كالمعاني المستنبطة لا لدليل إلى مجرد احتمال اعتبار
الشرع لها، وقد يختلف التأثير بالنسبة إلى الجلاء والخفاء.
القسم الثالث: التحسيني
وهو قسمان:
الأول:
ما هو غير معارض للقواعد، كتحريم القاذورات، فإن نفرة
الطباع عنها لقذارتها معنى يناسب حرمة تناولها، حثا على مكارم الأخلاق، كما قال
الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِث}1، "وحمله الشافعي على المستحب"*، وكما قال صلى الله عليه وسلم:
"بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"2.
ومنه سلب العبد أهلية الشهادة؛ لأنها منصب شريف، والعبد
نازل القدر، والجمع بينهما غير ملائم.
وقد استشكل هذا ابن دقيق العيد؛ لأن الحكم بالحق بعد
ظهور الشاهد، وإيصاله إلى مستحقه، ودفع اليد الظالمة عنه من مراتب الضرورة،
واعتبار نقصان العبد في الرتبة والمنصب من مراتب التحسين، وترك مرتبة الضرورة
رعاية لمرتبة التحسين بعيد جدا، نعم لو وجد لفظ يستند إليه في رد شهادته، ويعلل
بهذا التعليل، لكان له وجه، فأما مع الاستقلال بهذا التعليل، ففيه هذا الإشكال.
وقد ذكر بعض أصحاب الشافعي أنه لا يعلم لمن رد شهادة
العبد مستندا أو وجها.
وأما سلب ولايته، فهو في محل الحاجة؛ "إذ
ولاية"** الأطفال تستدعي استغراقا وفراغا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": لأن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 157 من سورة الأعراف.
2 ذكره العجلوني في كشف الخفاء برقم 638 وقال: رواه مالك
في الموطأ بلاغا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قال ابن عبد البر هو متصل من
وجود صحاح عن أبي هريرة وغيره.
وأخرجه البخاري في الأدب المفرد من حديث أبي هريرة بلفظ:
"إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" رقم 273 أحمد في مسنده 2/ 381 وانظر
بقية التخريج في المقاصد الحسنة: ص131 رقم 204.
ج / 2 ص -132- والعبد مستغرق بخدمة سيده، فتفويض أمر
الطفل إليه إضرار بالطفل، أما الشهادة فتتفق أحيانا، كالرواية والفتوى"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في حاشية "أ": كذا بالأصل الذي بين
أيدينا من دون ذكر القسم الثاني فيما بعد فلعله سقط من بعض الناسخين، لكن ترشد
إليه المقابلة وعبارة التحصيل والحاصل، والثالث كالتحسينات والحث على مكارم
الأخلاق وهذا منه ما لا يعارض قاعدة معتبرة كتحريم القاذورات ومنه ما يعارضها
كشرعية الكتابة ا. هـ.
كذا في جميع الأصول التي اطلعنا عليها حيث أشاروا إلى
نقص القسم الثاني من قسمي التحسيني دون الانتباه إلى نقص القسم الثاني من قسمي المناسب
أيضًا، وهو المناسب الإقناعي. وبما أن المصنف رحمه الله غالبا ما ينقل عن البحر
المحيط للزركشي رأينا استدراك النقص من كتاب البحر المحيط للزركشي في هذا المكان.
قال الزركشي:
"والثاني: ما هو معارض كالكتابة، فإنها من حيث
كونها مكرمة في العوائد احتمل الشرع فيها خرم قاعدة ممهدة، وهي امتناع معاملة
السيد عبده وامتناع مقابلة الملك بالملك على سبيل المعاوضة. نعم، هي جارية على
قياس المالكية في أن العبد يملك. وزعم إمام الحرمين أنها خرجت عن قياس الوسائل
عندهم؛ لأنها عندهم غير واجبة. لكنهم مع ذلك يقدرون خروجها عن القياس واشتمالها على شائبتي
معاوضة وتعليق، على خلاف قياسهما.
وهذا القسم كله يتعلق بالدنيا، وقد يتعلق بالآخرة،
كتزكية النفس ورياضتها وتهذيب الأخلاق المؤدية إلى امتثال الأمر واجتناب النهي.
وقد يتعلق بالدارين، كإيجاب الكفارات؛ إذ يحصل بها الزجر عن تعاطي الأفعال الموجبة
لها، وتحصيل تلافي الذنب الكبير.
وفائدة مراعاة هذا الترتيب أنه إذا تعارض مصلحتان وجب
إعمال الضرورة المهمة وإلغاء التتمة.
وإما الإقناعي فهو الذي يظهر منه في بادئ الأمر أنه
مناسب، لكن إذا بحث عنه حق البحث ظهر بخلافه، كقولهم في منع بيع الكلب قياسا على
الخمر والميتة: إن كون الشيء نجسا يناسب إذلاله. ومقابلته بالمال في البيع إعزازا
له، والجمع بينهما تناقض، فإذا كان هذا الوصف يناسب عدم جوز البيع لأن المناسبة مع
الاقتران دليل العلية فهذا وإن كان مخيلا فهو عند النظر غير مناسب؛ إذ لا معنى
لكون الشيء نجسا إلا عدم جواز الصلاة معه، ولا مناسبة بينه وبين عدم جواز البيع.
كذا قال الرازي وتبعه الهندي. وقد ينازع في أن المراد بكونه نجسا منع الصلاة معه،
بل ذلك من جملة أحكام النجس، وحينئذ فالتعليل بكون النجاسة يناسب الإذلال ليس بإقناعي".
البحر المحيط 5/ 212-213.
انقسام المناسب باعتبار شهادة الشرع وعدمها:
ثم اعلم: أن المناسب ينقسم باعتبار شهادة الشرع له،
بالملاءمة والتأثير، وعدمها، إلى ثلاثة أقسام؛ لأنه إما أن يعلم أن الشارع اعتبره،
أو يعلم أنه ألغاه، أو لا يعلم واحد منهما.
القسم الأول:
ما علم اعتبار الشرع له، والمراد بالعلم الرجحان،
والمراد بالاعتبار: إيراد الحكم على وفقه، لا التنصيص عليه، ولا الإيماء إليه،
وإلا لم تكن العلة مستفادة من المناسبة، وهو المراد بقولهم: شهد له أصل معين.
ج / 2 ص -133- قال الغزالي في "شفاء العليل"1:
المعنى بشهادة أصل معين للوصف أنه مستنبط منه، من حيث إن الحكم أثبت شرعا على وفقه.
وله أربعة أحوال: لأنه إما أن يعتبر نوعه في نوعه، أو في
جنسه، أو جنسه في نوعه، أو في جنسه.
الحالة الأولى: أن يعتبر نوعه في نوعه، وهو خصوص الوصف
في خصوص الحكم، وعمومه في عمومه، كقياس القتل بالمثقل على القتل
"بالجارح"*، في وجوب القصاص، بجامع كونه قتلا عمدا عدوانا، فإنه قد عرف
تأثير خصوص كونه قتلا عمدا عدوانا في خصوص الحكم، وهو وجوب القصاص في النفس في
القتل بالمحدد. ومثل هذا أن يقال:
إنه إذا ثبت أن حقيقة السكر اقتضت حقيقة التحريم،
فالنبيذ يلحق بالخمر؛ لأنه لا تفاوت بين العلتين، وبين الحكمين وهذا القسم يسمى
المناسب الملائم، وهو متفق عليه بين القياسين.
الحالة الثانية: أن يعتبر نوعه في جنسه، كقياس تقديم
الإخوة لأبوين على الإخوة لأب في النكاح على تقديمهم في الإرث، فإن الإخوة من الأب
والأم نوع واحد في الصورتين، ولم يعرف تأثيره في التقديم في ولاية النكاح، ولكن
عرف تأثيره في جنسه؛ وهو التقدم عليهم، فيما ثبت لكل واحد منهم عند عدم
"الأمر"**، كما في الإرث، وهذا القسم دون ما قبله؛ لأن المقارنة بين
المثلين بحسب اختلاف المحلين أقرب من المقارنة بين نوعين مختلفين.
الحالة الثالثة: أن يعتبر جنسه في نوعه، كقياس إسقاط
القضاء عن الحائض، على إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين عن المسافر، بتعليل المشقة،
والمشقة جنس، وإسقاط قضاء الصلاة نوع واحد، يستعمل على صنفين، إسقاط قضاء الكل،
وإسقاط قضاء البعض، وهذا أولى من الذي قبله؛ لأن الإبهام في العلة أكبر محذورا من
الإبهام في المعلول.
الحالة الرابعة: اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم، وذلك
كتعليل كون حد الشرب ثمانين بأنه مظنة القذف، لكونه مظنة الافتراء، فوجب أن يقام
مقامه قياسا على الخلوة، فإنها لما كانت مظنة الوطء أقيمت مقامه، وهذا كالذي قبله.
القسم الثاني:
ما علم إلغاء الشرع له، كما قال بعضهم: بوجوب الصوم
ابتداء في كفارة الملك الذي واقع في رمضان؛ لأن القصد منها الانزجار، وهو لا ينزجر
بالعتق، فهذا وإن كان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": بالمثقل.
** في هامش "أ": كذا بالأصل ولعل الصواب عند
عدم الأب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه: "شفاء العليل في القياس والتعليل".
وهو في أصول الفقه قال فيه: بعد إلحاحك أيها المسترشد في اقتراحك ولجاجك في إظهار
احتياجك إلى شفاء العليل في بيان مسائل التعليل من المناسب، والمحيل، والشبه،
والطرد، أتيت فيه بالعجب العجاب ولباب الألباب...ألخ ا. هـ كشف الظنون 2/ 1051.
ج / 2 ص -134- قياسا لكن الشرع ألغاه، حيث أوجب الكفارة
مرتبة من غير فصل بين المكلفين، فالقول به مخالف للنص فكان باطلا.
القسم الثالث:
ما لا يعلم اعتباره ولا إلغاؤه، وهو الذي لا يشهد له أصل
معين من أصول الشريعة بالاعتبار، وهو المسمى بالمصالح المرسلة.
وقد اشتهر انفراد المالكية بالقول به، قال الزركشي: وليس
كذلك، فإن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة، ولا معنى للمصلحة
المرسلة إلا ذلك.
قال الفخر الرازي في "المحصول": وبالجملة
فالأوصاف إنما يلتفت إليها إذا ظن التفات الشرع إليها، وكل ما كان التفات الشرع
إليه أكثر كان ظن كونه معتبرا أقوى، وكلما كان الوصف والحكم أخص كان ظن كون ذلك
الوصف معتبرا في حق ذلك الحكم آكد، فيكون لا محالة مقدما على ما يكون أعم منه.
وأما المناسب الذي علم أن الشرع ألغاه فهو غير معتبر
أصلا.
وأما المناسب الذي لا يعلم أن الشارع ألغاه، أو اعتبره،
فذلك يكون بحسب أوصاف هي أخص من كونه وصفا مصلحيا، وإلا فعموم كونه وصفا مصلحيا
مشهود له بالاعتبار، وهذا القسم المسمى بالمصالح المرسلة. انتهى.
قال ابن الحاجب في "مختصر المنتهى": وغير
المعتبر هو المرسل، فإن كان غريبا، أو ثبت إلغاؤه فمردود اتفاقا، وإن كان ملائما
فقد صرح الإمام، والغزالي بقبوله، وذكر عن مالك، والشافعي، والمختار رده، وشرط
الغزالي فيه أن تكون المصلحة ضرورية، قطعية، كلية. انتهى.
وسنذكر للمصالح المرسلة بحثا مستقلا في الفصل السابع إن
شاء الله1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: 2/ 172.
انقسام المناسب من حيث التأثير والملاءمة وعدمهما:
القسم الرابع:
أن المناسب: إما مؤثر، أو غير مؤثر، وغير المؤثر: إما
ملائم، أو غير ملائم. "وغير الملائم"* إما غريب، أو مرسل، أو ملغى.
الصنف الأول:
المؤثر: وهو أن يدل النص، أو الإجماع على كونه علة، تدل
على تأثير عين الوصف في عين الحكم أو نوعه في نوعه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ج / 2 ص -135- الصنف الثاني:
الملائم:
وهو أن يعتبر الشارع عينه في عين الحكم، بترتيب الحكم
على وفق الوصف، لا بنص ولا إجماع، وسمي ملائما لكونه موافقا لما اعتبره الشارع،
وهذه المرتبة دونما قبلها.
الصنف الثالث:
الغريب: وهو أن يعتبر عينه في عين الحكم، بترتيب الحكم
على وفق الوصف فقط، ولا يعتبر عين الوصف في جنس الحكم، ولا عينه ولا جنسه في جنسه
بنص وإجماع، كالإسكار في تحريم الخمر، فإنه اعتبر عين الإسكار في عين الحكم،
بترتيب التحريم على الإسكار فقط.
ومن أمثلة الغريب: توريث المبتوتة في مرض الموت، إلحاقا بالقاتل
الممنوع من الميراث، تعليلا بالمعارضة بنقيض القصد، فإن المناسبة ظاهرة، لكن هذا
النوع من المصلحة لم يعهد اعتباره في غير هذا الخاص، فكان غريبا لذلك.
الصنف الرابع:
المرسل غير الملائم، وقد عرفت مما تقدم من كلام ابن
الحاجب الا تفاق على رده، وحكاه غيره عن الأكثرين.
الصنف الخامس:
الغريب غير الملائم، وهو مردود بالاتفاق، واختلفوا: هل
تنخرم المناسبة بالمعاوضة التي تدل على وجود مفسدة، أو فوات مصلحة تساوي المصلحة،
أو ترجح عليها؟ على قولين:
الأول:
أنها تنخرم، وإليه ذهب الأكثرون، واختاره الصيدلاني1
وابن الحاجب؛ لأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ ولأن المناسبة أمر عرفي،
والمصلحة إذا عارضها ما يساويها لم تعد عند أهل العرف مصلحة.
الثاني:
أنها لا تنخرم، واختاره الفخر الرازي في
"المحصول"، والبيضاوي في "المنهاج"، وهذا الخلاف إنما هو إذا
لم تكن المعارضة دالة على انتفاء المصلحة، أما إذا كانت كذلك فهي قادحة "بلا خلاف*.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله محمد بن داود بن محمد المروزي، المعروف
بالصيدلاني، أبو بكر، فقيه محدث، توفي سنة سبعٍ وعشرين وأربعمائة هـ، له مصنفات ا.
هـ معجم المؤلفين 9/ 298.
ج / 2 ص -136- المسلك السابع: الشبه
ويسميه بعض الفقهاء: الاستدلال بالشيء على مثله، وهو عام
أريد به خاص؛ إذ الشبه يطلق على جميع أنواع القياس؛ لأن كل قياس لا بد فيه من كون
الفرع شبيها بالأصل، بجامع بينهما، وهو من أهم ما يجب الاعتناء به1. قال الأبياري:
لست أرى في مسائل الأصول مسالة أغمض منه، وقد اختلفوا في تعريفه، فقال إمام الحرمين
الجويني، لا يمكن تحديده، وقال غيره: يمكن تحديده، فقيل: هو الجمع بين الأصل
والفرع بوصف يوهم اشتماله على الحكمة المقتضية للحكم من غير تعيين، كقول الشافعي
في النية في الوضوء والتيمم: طهارتان فأنى تفترقان؟! كذا قال الخوارزمي في "الكافي".
قال في "المحصول": ذكروا في تعريفه وجهين:
الأول:
ما قاله القاضي أبو بكر، وهو أن الوصف: إما أن يكون
مناسبا للحكم بذاته، وإما لا يناسبه بذاته، لكنه يكون مستلزما لما يناسبه بذاته،
وإما أن لا يناسبه بذاته، ولا يستلزم ما يناسبه بذاته.
فالأول: هو الوصف المناسب. والثاني: الشبه. والثالث:
الطرد.
الثاني:
الوصف الذي لا يناسب الحكم، إما أن يكون عرف بالنص تأثير
جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم، وإما أن لا يكون كذلك.
والأول هو الشبه؛ لأنه من حيث هو غير مناسب يظن أنه غير
معتبر في حق ذلك الحكم، ومن حيث إنه علم تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك
الحكم مع أن سائر الأوصاف ليس كذلك يكون ظن إسناد الحكم إليه أقوى من ظن إسناده
إلى غيره. انتهى.
وحكى الأبياري في "شرح البرهان" عن القاضي:
أنه ما يوهم الاشتمال على وصف مخيل، ثم قال: وفيه نظر، من جهة أن الخصم قد ينازع
في إيهام الاشتمال على مخيل، إما حقا أو عنادا، ولا يمكن التقرير عليه.
قال الزركشي: والذي في "مختصر التقريب" من
كلام القاضي أن قياس الشبه هو إلحاق فرع بأصل لكثرة إشباهه للأصل في الأوصاف من
غير أن يعتقد أن الأوصاف التي شابه الفرع بها الأصل علة حكم الأصل.
وقيل: الشبه: هو الذي لا يكون مناسبا للحكم، ولكن عرف
اعتبار جنسه القريب في الجنس القريب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 5/ 231، ميزان الأصول 2/ 864 فواتح
الرحموت 2/ 302.
ج / 2
ص -137- واختلف في الفرق بينه وبين الطرد، فقيل: إن
الشبه الجمع بينهما بوصف يوهم المناسبة، كما تقدم، والطرد: الجمع بينهما بمجرد
الطرد، وهو السلامة عن النقض ونحوه.
وقال الغزالي في "المستصفى"1: الشبه لا بد أن
يزيد على الطرد بمناسبة الوصف الجامع لعلة الحكم وإن لم يناسب الحكم، قال: وإن لم
يريدوا بقياس الشبه هذا، فلا أدري ما أرادوا به، وبما فصلوه عن الطرد المحض.
والحاصل: أن الشبهي والطردي يجتمعان في عدم الظهور في
المناسب، ويتخالفان في أن الطردي عهد من الشارع عدم الالتفات إليه، وسمي شبها؛
لأنه باعتبار عدم الوقوف على المناسبة يجزم المجتهد بعدم مناسبته، ومن حيث اعتبار
الشرع له في بعض الصور يشبه المناسب، فهو بين المناسب والطردي.
وفرق إمام الحرمين بين الشبه والطرد؛ بأن الطرد نسبة
ثبوت الحكم إليه ونفيه على السواء، والشبه نسبة الثبوت إليه مترجحة على نسبة
النفي، فافترقا.
قال ابن الحاجب في "مختصر المنتهى": ويتميز،
يعني: الشبه عن الطردي، بأن وجوده كالعدم، وعن المناسب الذاتي بأن مناسبته عقلية،
وإن لم يرد الشرع به كالإسكار في التحريم.
مثاله: طهارة تراد للصلاة، فيتعين الماء كطهارة الحدث،
فالمناسبة غير ظاهرة، واعتبارها في مس المصحف والصلاة يوهم المناسبة. انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المستصفى 2/ 311 فإن الغزالي أورد أمثلة لذلك وله
كلام مطول في ذلك لم يذكره الإمام الشوكاني رحمه الله هنا.
الخلاف في حجية الشبه:
واختلفوا في كونه حجة أم لا على مذاهب.
الأول:
أنه حجة، وإليه ذهب الأكثرون.
الثاني:
أنه ليس بحجة، قال ابن السمعاني: وبه قال أكثر الحنفية،
وإليه ذهب من ادعى التحقيق منهم، وإليه ذهب القاضي أبو بكر، والأستاذ ابو منصور،
وأبو إسحاق المروزي، وأبو إسحاق الشيرازي، وأبو بكر الصيرفي، والقاضي أبو الطيب الطبري1.
الثالث:
اعتباره في الأشباه الراجعة إلى الصورة.
الرابع:
اعتباره فيما غلب على الظن أنه مناط الحكم، بأن يظن أنه
مستلزم لعلة الحكم، فمتى كان كذلك صح القياس، سواء كانت المشابهة في الصورة أو
المعنى، وإليه ذهب الفخر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 5/ 235-236، وفواتح الرحموت 2/ 302.
ج / 2 ص -138- الرازي، وحكاه القاضي في
"التقريب" عن ابن سريج.
الخامس:
إن تمسك به المجتهد كان حجة في حقه، إن حصلت غلبة الظن،
وإلا فلا، وأما المناظر فيقبل منه مطلقًا، هذا ما اختاره الغزالي في
"المستصفى"1.
وقد احتج القائلون بأنه حجة، بأنه يفيد غلبة الظن، فوجب
العمل به.
واحتج القائلون بأنه ليس بحجة بوجهين:
الأول:
أن الوصف الذي "سميتموه"* شبها إن كان مناسبا
فهو معتبر بالاتفاق، وإن كان غير مناسب فهو الطرد المردود بالاتفاق.
الثاني:
أن المعتمد في إثبات القياس على عمل الصحابة، ولم يثبت
عنهم أنهم تمسكوا بالشبه.
وأجيب عن الأول: بأنا لا نسلم أن الوصف إذا لم يكن مناسبا
كان مردودا بالاتفاق، بل ما لا يكون مناسبا إن كان مستلزما للمناسب، أو عرف بالنص
تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم، فهو غير مردود.
وعن الثاني: بأنا نعول في إثبات هذا النوع من القياس على
عموم قوله تعالى: {فاَعتَبروٌا}2 على ما ذكرنا أنه يجب العمل بالظن.
ويجاب عن هذين الجوابين: أنا لا نسلم أن ما كان مستلزما
للمناسب كالمناسب، ولا يحصل به الظن بحال، ولا تدل عليه الآية بوجه من وجوه
الدلالة، كما سبق تقريره في أول مباحث القياس3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": كان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المستصفى 2/ 315.
2 جزء من الآية 2 من سورة الحشر.
3 انظر: 2/ 91.
المسلك الثامن: الطرد
قال في "المحصول": والمراد منه: الوصف الذي لم
يكن مناسبا، ولا مستلزما للمناسب، إذا كان الحكم حاصلا مع الوصف في جميع الصور
المغايرة لمحل النزاع، وهذا المراد من الاطراد والجريان، وهو قول كثير من فقهائنا،
ومنهم من بالغ فقال: مهما رأينا الحكم حاصلا مع الوصف في صورة واحدة، يحصل ظن العلية.
ج / 2 ص -139- احتجوا على التفسير الأول بوجهين:
أحدهما:
أن استقراء الشرع يدل على أن النادر في كل باب يلحق
بالغالب، فإذا رأينا الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع مقارنا للحكم، ثم
رأينا الوصف حاصلا في الفرع، وجب أن يستدل "به"* على ثبوت الحكم إلحاقا
لتلك الصورة بسائر الصور.
وثانيهما:
إذا رأينا فرس القاضي واقفا على باب الأمير، غلب على
ظننا كون القاضي في دار الأمير، وما ذاك إلا لأن مقارنتهما في سائر الصور أفاد ظن
مقارنتهما في هذه الصورة المعينة.
واحتج المخالف بأمرين:
أولهما:
أن الاطراد: عبارة عن كون الوصف بحيث لا يوجد إلا ويوجد
معه الحكم، وهذا لا يثبت إلا إذا ثبت أن الحكم حاصل معه في الفرع، فإذا أثبتم ثبوت
الحكم في الفرع بكون ذلك الوصف علة، وأثبتم عليته بكونه مطردا، لزم الدور وهو باطل.
وثانيهما:
أن الحد مع المحدود، والجوهر مع العرض، وذات الله مع
صفاته: حصلت المقارنة فيها مع عدم العلية.
والجواب "عن الأول"**: أن نستدل بالمصاحبة في
كل الصور غير الفرع على العلية، وحينئذ لا يلزم الدور.
وعن الثاني: أن غاية كلامكم حصول الطرد في بعض الصور،
منفكا عن العلية، وهذا لا يقدح في دلالته على العلية ظاهرا، كما أن الغيم الرطب
دليل المطر، ثم عدم نزول المطر في بعض الصور لا يقدح في كونه دليلا.
وأيضا:
المناسبة، والدوران، والتأثير، والإيماء قد ينفك كل واحد
منها عن العلية،، ولم يكن ذلك قدحا في كونها دليلا على العلية ظاهرا "فكذا
ههنا"***. انتهى.
وقد جعل بعض أهل الأصول الطرد والدوران شيئًا واحدًا،
وليس كذلك، فإن الفرق بين الطرد والدوران: أن الطرد عبارة عن المقارنة في الوجود
دون العدم، والدوران عبارة عن المقارنة وجودا وعدما.
والتفسير الأول للطرد المذكور في "المحصول"
قال الهندي: هو قول الأكثرين.
وقد اختلفوا1 في كون الطرد حجة، فذهب بعضهم إلى أنه ليس
بحجة مطلقًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** زيادة عن المحصول.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 5/ 249، التبصرة 460، ميزان الأصول
2/ 860.
ج / 2 ص -140- وذهب آخرون إلى أنه حجة مطلقا.
وذهب بعض أهل الأصول إلى التفصيل، فقال: هو حجة على
التفسير الأول دون الثاني.
ومن القائلين بالمذهب الأول جمهور الفقهاء والمتكلمين،
كما نقله القاضي عنهم.
قال القاضي حسين: لا يجوز أن يدان الله به، واختار
الرازي، والبيضاوي أنه حجة، وحكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في
"التبصرة" عن الصيرفي. قال الكرخي: هو مقبول جدلا، ولا يسوغ التعويل
عليه عملا و"لا"* الفتوى به.
قال القاضي أبو الطيب الطبري: ذهب بعض متأخري أصحابنا
إلى أنه يدل على صحة العلية، واقتدى به قوم من أصحاب أبي حنيفة بالعراق، فصاروا
يطردون الأوصاف على مذاهبهم، ويقولون إنها قد صحت، كقولهم في مس الذكر
"مس"** آلة الحدث، فلا ينتقض الوضوء بلمسه؛ لأنه طويل مشقوق، فاشبه
البوق، وفي السعي بين الصفا والمروة: إنه سعي بين جبلين، فلا يكون ركنًا، كالسعي
بين جبلين بنيسابور1، ولا يشك عاقل أن هذا سخف. قال ابن السمعاني: وسمى أبو زيد
الذين يجعلون الطرد حجة، والاطراد دليلا على صحة العلية حشوية أهل القياس. قال: ولا يعد هؤلاء من
جملة الفقهاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مدينة عظيمة ذات فضائل جسيمة، معدن الفضلاء، ومنبع
العلماء، وهي مدينة في الإقليم الرابع، تبعد عن الري مائة وستين فرسخا، وهي مدينة
كثيرة المياه والثمار والفواكه ا. هـ معجم البلدان 5/ 331.
المسلك التاسع: الدوران
وهو: أن يوجد الحكم عند وجود الوصف، ويرتفع بارتفاعه في صورة واحدة،
كالتحريم مع السكر في العصير، فإنه لما لم يكن مسكرا لم يكن حراما، فلما حدث السكر
فيه وجدت الحرمة، ثم لما زال السكر بصيرورته خلا زال التحريم، فدل على أن العلة
السكر1.
وقد اختلف أهل الأصول في إفادته للعلية.
فذهب بعض المعتزلة إلى أنه يفيد القطع بالعلية.
وذهب الجمهور إلى أنه يفيد ظن العلية، بشرط عدم المزاحم؛
لأن العلة الشرعية لا توجب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المستصفى 2/ 307 والبحر المحيط 5/ 243.
ج / 2 ص -141- الحكم بذاتها، وإنما هي علامة منصوبة،
فإذا دار الوصف مع الحكم غلب على الظن "كونه معرفا"*.
قال الصفي الهندي: هو المختار. قال إمام الحرمين: ذهب كل
من يعزى إلى الجدل إلى أنه أقوى ما تثبت به العلل، وذكر القاضي أبو الطيب الطبري
أن هذا المسلك من أقوى المسالك.
وذهب بعض أهل الأصول إلى أنه لا يفيد بمجرده، لا قطعا
ولا ظنا، واختاره الأستاذ أبو منصور، وابن السمعاني، والغزالي، والشيخ أبو إسحاق
الشيرازي، والآمدي، وابن الحاجب.
واحتجوا:
بأنه قد وجد مع عدم العلية، فلا يكون دليلا عليها، ألا
ترى أن المعلول دار مع العلة وجودا وعدما، مع أن المعلول ليس بعلة لعلته قطعا،
والجوهر والعرض متلازمان، مع أن أحدهما ليس بعلة في الآخر اتفاقا، والمتضايفان
كالأبوة والبنوة متلازمان وجودا وعدما، مع أن أحدهما ليس بعلة في الآخر، لوجوب
تقدم العلة على المعلول، ووجوب تصاحب المتضايفين، وإلا لما كانا متضايفين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": أنه معرف.
المسلك العاشر: تنقيح المناط1
التنقيح في اللغة: التهذيب والتميز، يقال: كلام منقح،
أي: لا حشو فيه، والمناط هو العلة.
قال ابن دقيق العيد: وتعبيرهم بالمناط عن العلة من باب
المجازي اللغوي؛ لأن الحكم لما علق بها كان كالشيء المحسوس الذي تعلق بغيره، فهو
من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، وصار ذلك في اصطلاح الفقهاء بحيث لا يفهم عند
الإطلاق غيره. انتهى.
ومعنى تنقيح المناط عند الأصوليين: إلحاق الفرع بالأصل
بإلغاء الفارق، بأن يقال: لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا، وذلك لا مدخل له في
الحكم ألبتة، فيلزم اشتراكهما في الحكم لاشتراكهما في الموجب له، كقياس الأمة على
العبد في السراية، فإنه لا فارق بينهما إلا الذكورة، وهو ملغى بالإجماع؛ إذ لا
مدخل له في العلية.
قال الصفي الهندي: والحق أن تنقيح المناط قياس خاص،
مندرج تحت مطلق القياس،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الزركشي: وسماه الحنفية بالاستدلال وأجروه في
الكفارات، وفرقوا بينه وبين القياس بأن القياس ما ألحق فيه بذكر الجامع الذي لا
يفيد إلا غلبة الظن، والاستدلال ما يكون الإلحاق فيه بإلغاء الفارق الذي يفيد
القطع، متى أجروا مجرى القطعيات في النسخ وجوزوا الزيادة على النص ولم يجوزوا نسخه
بخبر الواحد. ا. هـ البحر المحيط 5/ 255.
ج / 2 ص -142- وهو عام يتناوله وغيره.
وكل منهما قد يكون ظنيا، وهو الأكثر، وقطعيا ولكن حصول
القطع فيما فيه الإلحاق بإلغاء الفارق أكثر من الذي الإلحاق فيه بذكر الجامع، لكن
ليس ذلك فرقا في المعنى، بل في الوقوع، وحينئذ: لا فرق بينهما في المعنى.
قال الغزالي: تنقيح المناط يقول به أكثر منكري القياس،
ولا نعرف بين الأمة خلافا في جوازه، ونازعه العبدري بأن الخلاف فيه ثابت بين من
يثبت القياس وينكره، لرجوعه إلى القياس.
وقد زعم الفخر الرازي أن هذا المسلك هو مسلك السبر
والتقسيم، فلا يحسن عدة نوعا آخر، ورد عليه بأن بينهما فرقا ظاهرا، وذلك أن الحصر
في دلالة السبر والتقسيم لتعيين العلة، إما استقلالا أو اعتبارا، وفي تنقيح المناط
لتعيين الفارق وإبطاله، لا لتعيين العلة.
المسلك الحادي عشر: تحقيق المناط
وهو: أن يقع الاتفاق على علية وصف بنص، وإجماع، فيجتهد
في وجودها في صورة النزاع، كتحقيق أن النباش سارق.
وسمي تحقيق المناط؛ لأن المناط وهو الوصف علم أنه مناط،
وبقي النظر في تحقيق وجوده في الصورة المعينة.
قال الغزالي: وهذا النوع من الاجتهاد لا خلاف فيه بين
الأمة، والقياس مختلف فيه، فكيف يكون هذا قياسا1.
واعلم أنهم قد جعلوا القياس من أصله ينقسم إلى ثلاثة
اقسام:
قياس علة.
وقياس دلالة.
وقياس في معنى الأصل.
فقياس العلة: ما صرح فيه بالعلة، كما يقال في النبيذ:
إنه مسكر فيحرم كالخمر.
وقياس الدلالة: هو أن لا يذكر فيه العلة، بل وصف ملازم
لها، كما لو علل في قياس النبيذ على الخمر برائحة المشتد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 5/ 256 والمستصفى 2/ 230.
ج / 2 ص -143- والقياس الذي في معنى الأصل، هو أن يجمع
بين الأصل والفرع بنفي الفارق، وهو تنقيح المناط كما تقدم.
وأيضا قسموا القياس إلى جلي، وخفي.
فالجلي:
ما قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع، كقياس الأمة
على العبد في أحكام العتق، فإنا علم قطعا أن الذكورة والأنوثة فيها مما لم يعتبره
الشارع، وأنه لا فارق بينهما إلا ذلك، فحصل لنا القطع بنفي الفارق.
والخفي بخلافه، وهو ما يكون نفي الفارق فيه مظنونا في
كقياس النبيذ على الخمر في الحرمة؛ إذ لا يمتنع أن تكون خصوصية الخمر معتبرة،
ولذلك اختلفوا في تحريم النبيذ.
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
الفصل الخامس: فيما لا يجري فيه القياس:
حكم جريان القياس في الأسباب:
فمن ذلك الأسباب
وقد اختلفوا في ذلك:
فذهب أصحاب أبي حنيفة، وجماعة من الشافعية، وكثير من أهل
الأصول إلى أنه لا يجرى فيها.
وذهب جماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يجري فيها.
ومعنى القياس في الأسباب: أن يجعل الشارع وصفا سببا
لحكم، فيقاس عليه وصف آخر، فيحكم بكونه سببا.
وذلك نحو: جعل الزنا سببا للحد، فيقاس عليه اللواط، في
كونه سببا للحد.
احتج المانعون بأن علية سببية المقيس عليه، وهي قدر من
الحكمة، يتضمنها الوصف الأول منتفية في المقيس، وهو الوصف الآخر، أي: لم يعلم
ثبوتها فيه لعدم انضباط الحكمة، وتغاير الوصفين، فيجوز اختلاف قدر الحكمة الحاصلة
بهما، وإذا كان كذلك امتنع الجمع بينهما في الحكم، وهو السببية؛ لأن معنى القياس الاشتراك
في العلة، وبه يمكن التشريك في الحكم.
وأيضا: الحكمة المشتركة: إما أن تكون ظاهرة منضبطة، يمكن
جعلها مناطا للحكم أو لا تكون.
فعلى الأول: قد استغنى القياس عن الالتفات إلى الوصفين،
وصار القياس في الحكم.
ج / 2 ص -144- المترتب على الحكمة، وهي الجامع بينهما،
فتحد الحكم والسبب، وهو خلاف المفروض.
وعلى الثاني: فإما أن يكون لها مظنة، أي: وصف ظاهر
منضبط، تنضبط هي به أولا، فعلى الأول صار القياس في الحكم المترتب على ذلك الوصف،
فاتحد الحكم والسبب أيضًا.
وعلى الثاني: لا جامع بينهما من حكمة أو مظنة، فيكون
قياسا خاليا عن الجامع، وهو لا يجوز.
واحتج القائلون بالجواز: بأنه قد ثبت القياس في الأسباب،
وذلك كقياس المثقل على المحدد في كونه سببا للقصاص، وقياس اللواطة على الزنا في
كونها سببا للحد.
وأجيب:
بان ذلك خارج عن محل النزاع؛ لأن النزاع إنما هو فيما
تغاير فيه السبب في الأصل والفرع، أي: الوصف المتضمن للحكمة، وكذا العلة، وهي
الحكمة، وههنا السبب سبب واحد، يثبت لهما، أي: لمحلي الحكم، وهما الأصل والفرع
بعلة واحدة. ففي المثقل والمحدد السبب هو القتل العمد العدوان، والعلة الزجر لحفظ
النفس، والحكم القصاص، وفي الزنا واللواطة السبب إيلاج فرج في فرج محرم شرعا،
مشتهى طبعا، والعلة الزجر لحفظ النسب، والحكم وجوب الحد.
وهذا الجواب لا يرد على الحنفية المانعين من القياس في
الأسباب؛ لأنهم لا يقولون بالقصاص في المثقل، ولا بالحد في اللواط، وإنما يرد على
من قال بمنع القياس في الأسباب من الشافعية، فإنهم يقولون بذلك.
قال المحقق السعد: والحق أن رفع النزاع بمثل ذلك يعني:
بكونه ليس محل النزاع ممكن في كل صورة، فإن القائلين بصحة القياس في الأسباب لا
يقصدون إلا ثبوت الحكم بالوصفين؛ لما بينهما من الجامع، ويعود إلى ما ذكرتم من
اتحاد الحكم والسبب.
القياس في الحدود والكفارات:
واختلفوا أيضًا: هل يجري القياس في الحدود، والكفارات،
أم لا؟ فمنعه الحنفية، وجوزه غيرهم1.
احتج المانعون بأن الحدود مشتملة على تقديرات لا تعقل،
كعدد المائة في الزنا، والثمانين في القذف، فإن العقل لا يدرك الحكمة في اعتبار
خصوص هذا العدد، والقياس فرع تعقل المعنى في حكمة الأصل، وما كان يعقل منها، كقطع
يد السارق، لكونها قد جنت بالسرقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في فواتح الرحموت 2/ 317: قال الحنفية: لا يجري
القياس في الحدود خلافا لمن عداهم لاشتمالها على تقديرات لا تعقل بالرأي. ا. هـ وانظر
المستصفى 2/ 334.
ج / 2 ص -145- فقطعت، فإن الشبهة في القياس لاحتماله
الخطأ توجب المنع من إثباته بالقياس، وهكذا اختلاف تقديرات الكفارات، فإنه لا
يعقل، كما لا تعقل أعداد الركعات.
وأجيب عن ذلك: بأن جريان القياس إنما يكون فيما يعقل
معناه منها، لا فيما لا يعقل، فإنه لا خلاف في عدم جريان القياس فيه، كما في غير
الحدود، والكفارات، ولا مدخل لخصوصيتهما في امتناع القياس.
وأجيب عما ذكروه من الشبهة في القياس، لاحتماله الخطأ،
بالنقض بخبر الواحد، وبالشهادة، فإن احتمال الخطأ فيهما قائم؛ لأنهما لا يفيدان
القطع، وذلك يقتضي عدم ثبوت الحد بهما.
والجواب: الجواب.
واحتج القائلون بإثبات القياس في الحدود والكفارات، بأن
الدليل الدال على حجية القياس يتناولهما بعمومه، فوجب العمل به فيهما. ويؤيد ذلك
أن الصحابة حدوا في الخمر بالقياس، حتى تشاوروا فيه، فقال علي رضي الله عنه:
"إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فأرى عليه حد الافتراء"1.
فأقام مظنة الشيء مقامه، وذلك هو القياس.
واحتجوا أيضًا: بأن القياس إنما يثبت في غير الحدود
والكفارات، لاقتضائه الظن، وهو حاصل فيهما، فوجب العمل به.
واعلم:
أن عدم جريان القياس فيما لا يعقل معناه، كضرب الدية على
العاقلة، قد قيل: إنه إجماع، وقيل: إنه مذهب الجمهور، وأن المخالف في ذلك شذوذ.
ووجه المنع: أن القياس فرع تعقل المعنى المعلل به الحكم
في الأصل.
واستدل من أثبت القياس فيما لا يعقل معناه: بأن الأحكام
الشرعية متماثلة؛ لأنه يشتملها حد واحد، وهو حد الحكم الشرعي، والمتماثلان يجب
اشتراكهما فيما يجوز عليهما؛ لأن حكم الشيء حكم مثله.
وأجيب: بأن هذا القدر لا يوجب التماثل، وهو الاشتراك في
النوع، فإن الأنواع المتخالفة قد تندرج تحت جنس واحد، فيعمها حد واحد، وهو حد ذلك
الجنس، ولا يلزم من ذلك تماثلها، بل تشترك في الجنس، ويمتاز كل نوع منها بأمر
يميزه، وحينئذ فما كان يلحقها باعتبار القدر المشترك من الجواز والامتناع يكون
عاما، لا ما كان يلحقها باعتبار غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البيهقي من حديث علي رضي الله عنه، كتاب الأشربة
والحد فيها، باب ما جاء في عدد حد الخمر موقوفا على علي رضي الله عنه 8/ 321.
ومالك في الموطأ، كتاب الأشربة، باب الحد في الخمر 2، 2/ 842.
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
ج / 2 ص -146- الفصل السادس: في الاعتراضات
أي: ما يعترض به المعترض على كلام المستدل، وهي في الأصل
تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
مطالبات، وقوادح، ومعارضة؛ لأن الكلام المعترض: إما أن
يتضمن تسليم مقدمات الدليل أو لا.
الأول: المعارضة.
والثاني: إما أن يكون جوابه ذلك الدليل أو لا.
الأول: المطالبة. والثاني: القدح.
وقد أطنب الجدليون في هذه الاعتراضات، ووسعوا دائرة
الأبحاث فيها، حتى ذكر بعضهم منها ثلاثين اعتراضا، وبعضهم خمسة وعشرين، وبعضهم
جعلها عشرة، وجعل الباقية راجعة إليها، فقال هي: فساد الوضع، فساد الاعتبار، عدم
التأثير، القول بالموجب، النقض، القلب، المنع، التقسيم، المعارضة، المطالبة.
قال: ولكل مختلف فيه إلا المنع، والمطالبة، وهذا يدل على الإجماع
على المنع والمطالبة، وفيه أنه قد خالف في المنع غير واحد، منهم الشيخ أبو إسحاق "العنبري"*،
وخالف في المطالبة شذوذ من أهل العلم.
وقال ابن الحاجب في "المختصر": إنها راجعة إلى
منع، أو معارضة، وإلا لم تسمع، وهي خمسة وعشرون. انتهى.
وقد ذكرها جمهور أهل الأصول في أصول الفقه، وخالف في ذلك
الغزالي، فأعرض عن ذكرها في أصول الفقه، وقال: إنها كالعلاوة عليه، وأن موضع ذكرها
علم الجدل.
وقال صاحب "المحصول": إنها أربعة: النقض، وعدم
التأثير، والقول بالموجب، والقلب. انتهى.
وسنذكر ههنا منها ثمانية وعشرين اعتراضا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في أ: أبو إسحاق الشيرازي، والصواب العنبري كما قال
الزركشي في كتابه: وخالف في المنع غير واحد من الأئمة وهو الشيخ أبو إسحاق
العنبري على حسب ما سمعته من القاضي الإمام فخر الدين أحمد الخطابي. انتهى. البحر
المحيط 5/ 260.
ج / 2 ص -147- الاعتراض الأول: النقض
وهو تخلف الحكم مع وجود العلة، ولو في صورة واحدة، فإن
اعترف المستدل بذلك كان نقضا صحيحا، عند من يراه قادحا، وأما من لم يره قادحا فلا
يسميه نقضا، بل يجعله من باب تخصيص العلة.
وقد بالغ أبو زيد في الرد على من يسميه نقضا1.
وينحصر النقض في تسع صور؛ لأن العلة أما منصوصة قطعا، أو
ظنا، أو مستنبطة، وتخلف الحكم عنها: إما لمانع، أو فوات شرط، أو بدونها.
وقد اختلف الأصوليون في هذا الاعتراض على مذاهب:
الأول:
أنه يقدح في الوصف المدعى علة مطلقًا، سواء كانت منصوصة
أو مستنبطة عن سواء كان تخلف الحكم لمانع أو لا لمانع، وهو مذهب المتكلمين، وهو
اختيار أبي الحسين البصري، والأستاذ أبي إسحاق، والفخر الرازي، وأكثر أصحاب
الشافعي، ونسبوه إلى الشافعي، ورجحوا أنه مذهبه2.
المذهب الثاني:
أنه لا يقدح مطلقًا في كونها علة فيما وراء النقض،
ويتعين بتقدير مانع، أو تخلف شرط، وإليه ذهب أكثر أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد.
المذهب الثالث:
أنه لا يقدح في المنصوصة، ويقدح في المستنبطة، حكاه إمام
الحرمين عن المعظم، فقال: ذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض يبطل العلة المستنبطة.
وقال في "المحصول": زعم الأكثرون أن علية
الوصف إذا ثبتت بالنص لم يقدح التخصيص في عليته.
المذهب الرابع:
أنه يقدح في المنصوصة دون المستنبطة، عكس الذي قبله،
حكاه بعض أهل الأصول، وهو ضعيف جدا.
المذهب الخامس:
أنه لا يقدح في المستنبطة إذا كان لمانع أو عدم شرط،
ويقدح في المنصوصة، حكاه ابن الحاجب، وقد أنكروه عليه، وقالوا: لعله فهم ذلك من
كلام الآمدي، وفي كلام الآمدي ما يدفعه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومثاله: قولنا فيمن لم يبيت النية: صوم تعرى أوله عن
النية فلا يصح. فيقال: فينتقض بصوم التطوع. ا. هـ البحر المحيط 5/ 261.
2 وذلك لأن علله سليمة عن الانتقاض جارية على مقتضاها،
وأن النقض يشبه تجريح البينة المعدلة. ا. هـ البحر المحيط 5/ 262.
ج / 2 ص -148- المذهب السادس:
أنه لا يقدح حيث وجود مانع مطلقًا، سواء كانت العلة
منصوصة أو مستنبطة، فإن لم يكن مانع قدح، واختاره البيضاوي، والصفي الهندي.
المذهب السابع:
أنه يقدح في المستنبطة في صورتين، إذا كان التخلف لمانع،
أو انتفاء شرط، ولا يقدح في صورة واحدة، وهي ما إذا كان التخلف بدونهما.
وأما المنصوصة: فإن كان النص ظنيا، وقدر مانع، أو فوات
شرط جاز، وإن كان قطعيا لم يجز، أي: لم يكن وقوعه؛ لأن الحكم لو تخلف لتخلف الدليل.
وحاصله:
أنه لا يقدح في المنصوصة إلا بظاهر عام، ولا يقدح في
المستنبطة إلا لمانع، أو فقد شرط، واختاره ابن الحاجب، وهو قريب من كلام الآمدي.
المذهب الثامن:
أنه يقدح في علة الوجوب والحل، دون علة الحظر، حكاه
القاضي عن بعض المعتزلة.
المذهب التاسع:
أنه يقدح إن انتقضت على أصل من جعلها علة، ولم يلزمه
الحكم بها، وإن اطردت على أصله ألزم، حكاه الأستاذ أبو إسحاق عن بعض المتأخرين،
قال: وهو من حشو الكلام، لولا أنه أودع كتابا مستعملا لكان تركه أولى.
المذهب العاشر:
إن كانت العلة مؤثرة لم يرد النقض عليها؛ لأن تأثيرها لا
يثبت إلا بدليل مجمع عليه، ومثله لا ينقض، حكاه ابن السمعاني عن أبي زيد، ورده بأن
النقض يفيد عدم تأثير العلة.
المذهب الحادي عشر:
إن كانت العلة مستنبطة، فإن اتجه فرق بين محل التعليل،
وبين صورة النقض بطلت عليته؛ لكونه المذكور أولا جزء من العلة، وليست علة تامة،
وإن لم يتجه فرق بينهما، فإن لم يكن الحكم مجمعا عليه، أو ثابتا بمسلك قاطع
"سمعي"* بطلت عليته، وإلا فلا، واختاره إمام الحرمين الجويني.
المذهب الثاني عشر:
إن "تخلف"** الحكم عن العلة "له"***
ثلاث صور.
الصورة الأولى: أن يعرض في جريان العلة ما يقتضي عدم
اطرادها، فإنه يقدح.
الثانية: أن تنتفي العلة لا لخلل في نفسها، لكن لمعارضة
علة أخرى، فهذه لا تقدح.
الثالثة: أن يختلف الحكم لا لخلل في ركن العلة، لكن لعدم
مصادفتها محلها، أو شرطها، فلا يقدح، وهذا اختيار الغزالي، وفي كلامه طول.
المذهب الثالث عشر:
إن كان النقص من جهة المستدل فلا يقدح؛ لأن الدليل قد
يكون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ما بين القوسين ساقط من "أ". وكلمة
"قاطع" قبلها ساقطة من "ب".
** في "أ": أن يختلف.
***في "أ": وله.
ج / 2
ص -149- صحيحا في نفسه، وينقضه المستدل، فلا يكون نقضه
دليلا على فساده؛ لأنه قد ينقضه على أصله، ويكون أصل غيره مخالفا له، وإن كان
النقض من جهة المعترض قدح، حكاه الأستاذ أبو منصور.
المذهب الرابع عشر:
أن عليه الوصف إن ثبتت بالمناسبة، أو الدوران، وكان
النقض بتخلف الحكم عنها لمانع، لم يقدح في عليته، وإن كان التخلف لا لمانع قدح،
حكاه صاحب "المحصول"، ونسبة إلى الأكثرين.
المذهب الخامس عشر:
أن الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لأن العلة إن فسرت بالموجبة،
فلا يتصور عليتها مع الانتقاض، وإن فسرت بالمعرفة، فيتصور عليتها مع الانتقاض،
وهذا رجحه الغزالي، والبيضاوي، وابن الحاجب، وفيه نظر. فإن الخلاف معنوي، لا لفظي،
على كل حال.
قال الزركشي: في "البحر": واعمل أنه إذا قال المعترض:
ما ذكرت من العلة منقوض بكذا؛ فللمستدل أن يقول: لا نسلم، ويطالبه بالدليل على
وجودها في محل النقض، وهذه المطالبة مسموعة بالاتفاق. انتهى1.
قال الأصفهاني: لا يشترط في القيد الدافع للنقض أن يكون
مناسبا، بل غير المناسب مقبول، مسموع اتفاقا، والمانعون من التعليل بالشبه يوافقون
على ذلك.
وقال في "المحصول": هل يجوز دفع النقض بقيد
طردي؟ أما الطاردون فقد جوزوه، وأما منكرو الطرد فمنهم من جوزوه، والحق: أنه لا
يجوز؛ لأن أحد أجزاء العلة إذا لم يكون مؤثرا لم يكن مجموع العلة مؤثرا، وهكذا قال
إمام الحرمين في "البرهان"، ثم اختار التفصيل بين أن يكون القيد الطردي يشير
إلى مسألة تفارق مسألة النزاع بفقه، فلا يجوز نقض العلة، وإلا فلا يفيد الاحتراز
عنه، قال: ولو فرض التقييد باسم غير مشعر بفقه، ولكن مباينة المسمى به لما عداه
مشهورة بين النظار، فهل يكون التقييد بمثله تخصيصا للعلة؟ اختلف فيه الجدليون،
والأقرب تصحيحه؛ لأنه اصطلاح2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 5/ 271. ولكنه قال: "وهذه
المطالبة ممنوعة بالاتفاق" ففي العبار تحريف.
2 انظر البحر المحيط 5/ 273.
الاعتراض الثاني: الكسر
وهو إسقاط وصف من أوصاف العلة المركبة، وإخراجه عن
الاعتبار، بشرط أن يكون المحذوف مما لا يمكن أخذه في حد العلة1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المنخول 410، والبحر المحيط 5/ 278.
ج / 2
ص -150- هكذا قال أكثر الأصوليين، والجدليين، ومنهم من
فسره: بأنه وجود المعنى في صورة، مع عدم الحكم فيه، والمراد: وجود معنى تلك العلة
في موضع آخر، ولا يوجد معها ذلك الحكم، وعلى هذا التفسير يكون كالنقض.
ولهذا قال ابن الحاجب في "المختصر": الكسر:
وهو نقض المعنى، والكلام فيه كالنقض.
ومثاله: أن يعلل المستدل على القصر في السفر بالمشقة،
فيقول المعترض: ما ذكرته من المشقة ينتقض بمشقة أرباب الصنائع الشاقة في الحضر.
وقد ذهب الأكثرون إلى أن الكسر غير مبطل.
وأما جماعة من الأصوليين، منهم: الفخر الرازي،
والبيضاوي، فجعلوه من القوادح.
قال الصفي الهندي: الكسر نقض يرد على بعض أوصاف العلة،
وذلك هو ما عبر عنه الآمدي بالنقض المكسور. قال الصفي الهندي: وهو مردود عند
الجماهير، إلا إذا بين الخصم إلغاء القيد، ونحن لا نعني بالكسر إلا إذا بَيَّن أما
إذا لم يبين، فلا خلاف أنه مردود، وأما إذا بَيَّن، فالأكثرون على أنه قادح، وقول الآمدي،
والأكثرون على أنه غير قادح مردود.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "التلخيص":
واعلم أن الكسر سؤال مليح، والاشتغال به ينتهي إلى بيان الفقه، وتصحيح العلة، وقد
اتفق أكثر أهل العلم على صحته، وإفساد العلة به، ويسمونه النقض من طريق المعنى،
والإلزام من طريق الفقه، وأنكره طائفة من الخراسانيين، قال: وهذا غير صحيح؛ لأن
الكسر نقض من حيث المعنى، فهو بمنزلة النقض من طريق اللفظ. انتهى.
وقد جعلوا منه ما رواه البيهقي عنه صلى الله عليه وسلم:
أنه دُعي إلى دار فأجاب، ودُعي إلى دار أخرى فلم يجب، فقيل له في ذلك، فقال:
"إن في دار فلان كلبا"، فقيل: وفي هذه الدار سنور، فقال: "السنور
سبع"1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البيهقي، من حديث أبي هريرة، كتاب الطهارة، باب
سؤر الهرة 1/ 249 والدارقطني، كتاب الطهارة، باب الأسآر 1/ 63. وابن أبي شيبة،
كتاب الطهارات، باب من قال لا يجزء ويغسل منه الإناء 1/ 47 بلفظ "الهر سبع". والحاكم،
كتاب الطهارة 15/ 183. وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه.
وعيسى بن المسيب تفرد عن أبي زرعة، إلا أنه صدوق ولم
يجرح قط.
وتعقبه الذهبي: قلت: قال أبو داود: ضعيف، وقال أبو حاتم:
ليس بالقوي. وبعهم يسرده مختصرا، وبعضهم يأتي به بقصة. قال الزيلعي في نصب الراية
1/ 134: قال ابن أبي حاتم في علله، قال أبو زرعة: لم يرفعه أبو نعيم وهو أصح،
وعيسى ليس بالقوي، ثم قال: أخرجه العقيلي في "كتاب الضعفاء" من طريقه
وقال: لا يتابعه إلا من هو مثله أو دونه. وجاء في التلخيص الحبير 1/ 25 قال ابن
الجوزي: لا يصح. وأخرجه ابن عدي في "الكامل" في ترجمة عيسى وقال: هذا لا
يرويه غير عيسى بن المسيب بهذا الإسناد ولعيسى بن المسيب غير هذا الحديث وهو صالح فيما
يرويه. ا. هـ.
ج / 2 ص -151- ووجه الدلالة: أنهم ظنوا أن الهرة يكسر
المعنى، فأجاب بالفرق، هو أن الهرة سبع، أي: ليست بنجسة، كذا قيل.
قال في "المنخول": قال الجدليون: الكسر يفارق
النقض، فإنه يرد على إخالة المعلل، لا على عبارته، والنقض يرد على العبارة، قال:
وعندنا لا معنى للكسر، فإن كل عبارة لا إخالة فيها، فهي طرد محذوف، فالوارد على
الإخالة نقض، ولو أورد على أحد الوصفين مع كونهما مختلفين، فهو باطل لا يقبل1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في المنخول: إن الكسر سؤال لازم، ويفارق النقض،
فإنه يرد على إخالة العلة لا على عبارتها والنقض يرد على العبارة. ا. هـ المنخول
ص410.
الاعتراض الثالث: عدم العكس
وهو وجود الحكم بدون الوصف في صورة أخرى، كاستدلال
الحنفي على منع تقديم أذان الصبح بقوله: صلاة لا تقصر، فلا يجوز تقديم أذانها
كالمغرب، فيقال له: هذا الوصف لا ينعكس؛ لأن الحكم الذي هو منع التقديم للأذان على
الوقت موجود فيما قصر من الصلوات لعلة أخرى.
قال إمام الحرمين: إذا قلنا: إن اجتماع العلل على معلول
واحد غير واقع، فالعكس لازم ما لم يثبت الحكم عند انتفاء العلة
"بتوقيف"*، لكن لا يلزم المستدل بيانه، بخلاف ما ألزمناه في النقض؛ لأن
ذاك داعٍ إلى الانتشار، وسببه أن إشعار النفي بالنفي منحط عن أشعار الثبوت بالثبوت.
وقال الآمدي: لا يرد سؤال العكس، إلا أن يتفق المتناظران
على اتحاد العلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": يتوقف.
الاعتراض الرابع: عدم التأثير
وقد ذكر جماعة من أهل الأصول أن هذا الاعتراض قوي، حتى
قال ابن الصباغ: إنه من أصح ما يعترض به على العلة.
وقال ابن السمعاني: ذكر كثير من أصحابنا سؤال عدم
التأثير، ولست أرى له وجها بعد أن يبين المعلل التأثير لعلته، وقد ذكرنا أن العلة
الصحيحة ما أقيم الدليل على صحتها بالتأثير، وقد
ج / 2 ص -152- جعله القائلون به منقسمًا إلى أقسام:
الأول:
عدم التأثير في الوصف "لكونه"* طرديًّا وهو
راجع إلى عدم العكس السابق قبل هذا كقولهم صلاة الصبح لا تقصر فلا تقدم على وقتها
كالمغرب فقولهم: لا تقصر "وصف"** طردي بالنسبة إلى عدم التقديم.
الثاني:
عدم التأثير في الأصل "بكونه"*** مستغنى عنه
في الأصل لوجود معنى آخر مستقل بالغرض، كقولهم في بيع الغائب مبيع غير مرئي كالطير
في الهواء؛ فلا يصح فيقال: لا أثر لكونه غير مرئي فإن العجز عن التسليم كافٍ؛ لأن
بيع الطير لا يصح، وإن كان مرئيًّا.
وحاصله: معارضة في الأصل؛ لأن المعترض يلغي من العلة
وصفًا، ثم يعارضه المستدل بما بقي.
قال إمام الحرمين: والذي صار إليه المحققون فساد العلة
بما ذكرنا.
وقيل:
بل يصح؛ لأن ذلك القيد له أثر في الجمل، وإن كان مستغنى
عنه، كالشاهد الثالث بعد شهادة عدلين، وهو مردود؛ لأن ذلك القيد ليس محله، ولا
وصفا له، فذكره لغو، بخلاف الشاهد الثالث، فإنه متهيئ لأن يصير عند عدم صحة شهادته
أحد الشاهدين ركنا.
الثالث:
عدم التأثير في الأصل والفرع جميعا؛ بأن يكون له فائدة
في الحكم، إما ضرورية، كقول من اعتبر الاستنجاء بالأحجار "عبادة متعلقة
بالأحجار لم يتقدمها معصية، فاشترط فيها العد كالجمار"****.
وإما غير ضرورية، كقولهم: الجمعة صلاة مفروضة فلم تفتقر
إلى إذن الإمام كالظهر، فإن قولهم: مفروضة حشو لو حذف لم يضر.
الرابع:
عدم التأثير في الفرع، كقولهم: زوجت نفسها فلا يصح، كما
لو: "تزوجت***** من غير كفء، "فيقال"******: غير كفء لا أثر له،
فإن النزاع في الكفء وغيره سواء. وقد اختلف فيه على أقوال:
الأول: الجواز، قال الأستاذ أبو بكر: وهو الأصح.
والثاني: المنع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": لكونه.
** في "أ": إلى وصف عدم التقد يم.
*** في "أ": لكونه.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** في "أ": زوجت.
****** في "أ": فإن كونه.
ج / 2 ص -153- والثالث: التفصيل، وهو عدم الجواز مع
تبيين محل السؤال، والجواز مع عدمه، واختاره إمام الحرمين.
الخامس:
عدم التأثير في الحكم، وهو أن يذكر في الدليل وصفا لا
تأثير له في الحكم المعلل به، كقولهم في المرتدين الذين يتلفون الأموال: مشركون
اتلفوا في دار الحرب، فلا ضمان عليهم كالحربي، فإن دار الحرب لا مدخل لها في
الحكم، فلا فائدة لذكرها؛ لأن من أوجب الضمان يوجبه وإن لم يكن في دار الحرب، وكذا
من نفاه ينفيه مطلقًا.
الاعتراض الخامس: القلب
قال الآمدي: هو أن يبين القالب أن ما ذكره المستدل يدل
عليه لا له، أو يدل عليه وله، والأول قلما يتفق في الأقيسة.
ومثله في المنصوص: باستدلال الحنفي في توريث الخال بقوله
صلى الله عليه وسلم: "الخال وارث من لا وارث له"1. فاثبت إرثه عند عدم الوارث،
فيقول المعترض: هذا يدل عليك لا لك؛ لأن معناه نفي توريث الخال بطريق
المبالغة، كما يقال: الجوع زاد من لا زاد له، والصبر حيلة من لا حيلة له، أي: ليس
الجوع زادا، ولا الصبر حيلة.
قال الفخر الرازي في "المحصول": القلب معارضة
إلا في أمرين:
أحدهما:
أنه لا يمكن فيه الزيادة في العلة، وفي سائر المعارضات
يمكن.
والثاني:
لا يمكن منع وجود العلة في الفرع والأصل؛ لأن أصله وفرعه
أصل المعلل وفرعه، ويمكن ذلك في سائر المعارضات، أما فيما وراء هذين الوجهين، فلا
فرق بينه وبين المعارضة.
قال الهندي: والتحقيق أنه دعوى؛ "لأن"* ما
ذكره المستدل عليه لا له في تلك المسألة على ذلك الوجه. انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": أن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود من حديث المقدام، كتاب الفرائض، باب في
أرزاق الذرية 2899. وابن ماجه، كتاب الفرائض، باب ذوي الأرحام 2738. وأحمد في
مسنده 4/ 133. وابن حبان في صحيحه 6035.
الدارقطني 4/ 85. والبيهقي، كتاب الفرائض، باب من قال
بتوريث ذوي الأرحام 6/ 214. والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 397.
النسائي في الكبرى في التحفة 8/ 510. وابن أبي شيبة 11/ 264.
ج / 2 ص -154- وجعله ابن الحاجب وشراح كلامه قسمين:
إحدهما:
تصحيح مذهب المعترض، فيلزم منه بطلان مذهب المستدل
لتنافيهما.
وثانيهما:
إبطال مذهب المستدل ابتداء، إما صريحا، أو بالالتزام.
ومثال الأول: أن يقول الحنفي: الاعتكاف يشترط فيه الصوم؛
لأنه لبث، فلا يكون بمجرده قربة، كالوقوف بعرفة.
فيقول الشافعي: فلا يشترط فيه الصوم كالوقوف بعرفة.
ومثال الثاني: أن يقول الحنفي في أنه يكفي مسح ربع الرأس
عضو من أعضاء الوضوء، فلا يكفي أقله، كسائر الأعضاء، فيقول الشافعي: فلا يقدر
بالربع، كسائر الأعضاء، هذا الصريح.
وأما الالتزام: فمثاله أن يقول الحنفي: بيع غير المرئي
بيع معاوضة، فيصح مع الجهل بأحد العوضين: كالنكاح، فيقول الشافعي: فلا يثبت فيه
خيار الرؤية، كالنكاح.
وقد ذهب إلى اعتبار هذا الاعتراض الجمهور، وأنه قادح.
وأنكره بعض أهل الأصول، وقال: إن الحكمين، أي: ما يثبته
المستدل، وما يثبته القالب، إن لم يتنافيا فلا قلب؛ إذ لا منع من اقتضاء العلة
الواحدة لحكمين غير متنافيين، وإن استحال اجتماعهما في صورة واحدة، فلم يمكن الرد
إلى ذلك الأصل بعينه، فلا يكون قلبا؛ إذ لا بد فيه من الرد إلى ذلك الأصل.
وأجاب الجمهور عن هذا: بأن الحكمين غير متنافيين
لذاتهما، فلا جرم يصح اجتماعهما في الأصل، لكن قام الدليل على امتناع اجتماعهما في
الفرع، فإذا أثبت القالب الحكم الآخر في الفرع بالرد إلى الأصل، امتنع ثبوت الحكم
الأول، وظاهر كلام إمام الحرمين أنه لازم جدلا لا دينا1.
وقال أبو الطيب الطبري: إن هذا القلب إنما ذكره
المتأخرون من أصحابنا، حيث استدل أبو حنيفة بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا
ضرر ولا ضرار"2 في مسالة الساحة، قال: وفي "هدم"* البناء ضرار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحث المحيط 5/ 290-291.
2 أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس، كتاب الأحكام باب من
بنى في حقه ما يضر بجاره 2340/ 2341". والحاكم في المستدرك 2/ 58 الدارقطني
في سننه 4/ 227 ومالك في الموطأ كتاب الأقضية باب القضاء في المرفق 31، 2/ 745
وأيضًا في كتاب المكاتب، باب ما لا يجوز من عتق المكاتب 13، 2/ 804 وذكره الشافعي
في الأم، باب فيمن أحيا أرضا مواتا 7/ 230.
ج / 2 ص -155- بالغاصب، فقال له أصحابنا: وفي بيع صاحب
الساحة "لساحته"* إضرار به1.
قال: ومن أصحابنا من قال: "لا"** يصح سؤال القلب، قال:
وهو شاهد زور، يشهد لك ويشهد عليك، قال: وهذا باطل؛ لأن القالب عارض المستدل بما
لا يمكن الجمع بينه وبين دليله، فصار كما لو عارضه بدليل آخر.
وقيل: هو باطل؛ إذ لا يتصور إلا في الأوصاف الطردية.
ومن أنواع القلب، جعل المعلول علة، والعلة معلولا، وإذا
أمكن ذلك تبين أن لا علة، فإن العلة هي الموجبة، والمعلول هو الحكم الواجب لها.
وقد فرقوا بين القلب والمعارض بوجوه:
منها ما قدمنا عن الفخر الرازي.
وقال القاضي أبي الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق
الشيرازي: إنه معارضة، فإنه لا يفسد العلة.
وقال ابن الحاجب في "مختصر المنتهى": والحق
أنه نوع معارضة، اشترك فيه الأصل والجامع، فكان أولى بالقبول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الساحة.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يذكرها الأحناف بمسألة الساحة وإنما ذكروها بمسألة
الساجة، في مبسوط السرخسي: يجب رد المغصوب كالساجة إذا بني عليها، وتأثير هذا
الكلام أن العين باقية والرد جائز شرعا، وحجتهم في ذلك أن العين ملك المغصوب منه
وما أتصل به من الوصف "البناء" متقوم حق للغاصب وسبب ظلمه لا يسقط قيمة
ما كان متقوما من حقه، ودفع الضرر واجب فيتعين دفع الضرر هنا بإيجاب قيمة المغصوب حقا
للمغصوب منه ليتوصل هو إلى مالية ملكه ويبقى حق صاحب الوصف في الوصف مرعيا هذا
لأنه لا بد من إلحاق الضرر بأحدهما إلا أن في الإضرار بالغاصب إهدار حقه وفي قطع
حق المغصوب منه بضمان القيمة توفير المالية عليه لا إهدار حقه ودفع الضرر واجب
بحسب الإمكان وضرر النقل دون ضرر الإبطال. ا. هـ المبسوط 11/ 93. وانظر الهداية 3/
297.
وقالت الشافعية بخلاف ذلك فقال النووي في المجموع: وإن
غصب أرضا فغرس فيها غراسا أو بنى فيها بناء فدعا فيها صاحب الأرض إلى قلع الغراس
ونقض البناء لزمه ذلك. ا. هـ المجموع 14/ 256 مختصر المزني: 118.
ج / 2 ص -156- الاعتراض السادس: القول بالموجب
بفتح الجيم، أي: القول بما أوجبه دليل المستدل.
قال في "المحصول": وحده: تسليم ما جعله
المستدل موجب العلة، مع استبقاء الخلاف. انتهى.
قال الزركشي في "البحر": وذلك بأن يظن المعلل
أن ما أتى به مستلزم لمطلوبه، من حكم المسألة المتنازع فيها، مع كونه غير مستلزم.
قال: وهذا أولى من تعريف الرازي له بموجب العلة؛ لأنه لا
يختص بالقياس.
قال ابن المنير: حدوه بتسليم مقتضى الدليل، مع بقاء
النزاع فيه، وهو غير مستقيم؛ لأنه يدخل فيه ما ليس منه، وهو بيان غلظ المستدل على
إيجاب النية في الوضوء بقوله صلى الله عليه وسلم: "في أربعين شاةً
شاةٌ"1 فقال المعترض: أقول بموجب هذا الدليل، لكنه لا يتناول محل النزاع، "فهذا
ينطبق عليه الحد"*، وليس قولا بالموجب؛ لأن شرطه أن يظهر عذر للمستدل عذر
معتبر.
ومن أنواع القول بالموجب: أن يذكر المستدل إحدى
المقدمتين، ويسكت عن الأخرى، ظنا منه أنها مسلمة، فيقول الخصم بموجب المقدمة،
ويبقى على المنع لما عداها.
ومنها: أن يعتقد المستدل تلازما بين محل النزاع، وبين محل
آخر، فينصب الدليل على ذلك المحل بناء منه على أن ما ثبت به الحكم في ذلك المحل
يستلزم ثبوته في محل النزاع.
فيقول المعترض بالموجب ومنع الملازمة.
والفرق بينه وبين المعارضة: أن حاصله يرجع إلى خروج
الدليل عن محل النزاع، والمعارضة فيها اعتراف بأن للدليل دلالة على محل النزاع.
قال إمام الحرمين، وابن السمعاني: وهو سؤال صحيح إذا خرج
مخرج الممانعة، ولا بد في "توجهه"** من شرط، وهو أن يسند الحكم الذي
ينصب له العلة إلى شيء، مثل قول الحنفي في ماء الزعفران: ماء خالطه طاهر،
والمخالطة لا تمنع صحة الوضوء، فيقول المعترض: المخالط لا يمنع، لكنه ليس بماء
مطلق2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ومكانها: عندي كالمظنون للمستدل.
** في "أ": موجهة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في 2/ 393.
2 انظر البحر المحيط 5/ 300.
ج / 2
ص -157- قال في "المنخول"1: الأصوليون يقولون
تارة: أن القول بالموجب ليس اعتراضا، وهو لعمري كذلك، فإنه لا يبطل العلة؛ لأنها
إذا جرت العلة وحكمها مختلف فيه؛ فلأن تجرى وحكمها متفق عليه أولى.
واختلفوا هل يجب على المعترض إبداء سند القول بالموجب أم
لا؟
فقيل: يجب لقربه إلى ضبط الكلام، وصونه عن الخبط، وإلا
فقد يقول بالموجب على سبيل العناد.
وقيل: لا يجب؛ لأنه قد وفى بما عليه وعلى المستدل
الجواب، وهو أعرف بمآخذ مذهبه، قال الآمدي، وهو المختار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المنخول 402.
الاعتراض السابع: الفرق
وهو إبداء وصف في الأصل يصلح أن يكون علة مستقلة، أو جزء
علة، وهو معدوم في الفرع، سواء كان مناسبا أو شبها إن كانت العلة شبيهة، بأن يجمع
المستدل بين الأصل والفرع بأمر مشترك بينهما فيبدي المعترض وصفا فارقا بينه وبين الفرع.
قال في "المحصول": الكلام فيه مبني على أن
تعليل الحكم بعلتين، هل يجوز أم لا؟ انتهى.
وقد اشترطوا فيه أمرين:
أحدهما:
أن يكون بين الأصل والفرع فرق بوجه من الوجوه، وإلا لكان
هو هو، وليس كلما انفرد "به"* الأصل بوصف من الأوصاف يكون مؤثرا، مقتضيا
للحكم، بل قد يكون ملغى للاعتبار بغيره، فلا يكون الوصف الفارق قادحا.
والثاني:
أن يكون قاطعا للجمع: "بأن"** كون أخص من
الجمع فيقدم عليه، أو مثله فيعارضه.
قال جمهور الجدليين في حده: الفرق قطع الجمع بين الأصل
والفرع؛ إذ اللفظ أشعر به.
وهو الذي يقصد منه.
وقال بعضهم: حقيقته المنع من الإلحاق بذكر وصف في الفرع،
أو في الأصل.
قال إمام الحرمين، والأستاذ أبو إسحاق: إن الفرق ليس
سؤالا على حياله، وإنما هو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في"أ": بين أن.
ج / 2
ص -158- معارضة الأصل بمعنى أو معارضة العلة التي نصبها
المستدل في الفرع بعلة مستقلة، وهو سؤال صحيح، كما اختاره إمام الحرمين، وجمهور المحققين
من الأصوليين، والفقهاء.
قال إمام الحرمين: ويعترض على الفارق مع قبوله في الأصل
بما يعترض به على العلل المستقلة.
الاعتراض الثامن: الاستفسار
وقد قدمه جماعة من الأصوليين على الاعتراضات، ومعناه:
طلب شرح معنى اللفظ إن كان غريبا، أو مجملا، ويقع بهل، أو الهمزة، أو نحوهما، مما
يطلب به شرح الماهية، وهو سؤال مقبول معول عليه عند الجمهور، وقد غلط من لم يقبله
من الفقهاء؛ لأن محل النزاع إذا لم يكن متحققا، لم يظهر وفاق ولا خلاف.
وقد يرجع المخالف إلى الموافقة "عن* أن يتضح له محل
النزاع، ولكن لا يقبل إلا بعد بيان اشتمال اللفظ على إجمال، أو غرابة، فيقول
المعترض.
أولا: اللفظ الذي ذكره المستدل مجمل، أو غريب بدليل كذا،
فعند ذلك يتوجه على المستدل التفسير.
وحكى الصفي الهندي أن بعض الجدليين أنكر كونه اعتراضا؛
لأن التصديق فرع دلالة الدليل على المتنازع فيه1.
قال بعض أهل الأصول: إن هذا الاعتراض للاعتراضات قد
جعلوه طليعة جيشها، وليس من جنسها؛ إذ الاعتراض عبارة عما يخدش به كلام المستدل،
والاستفسار ليس من هذا القبيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": عند.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 5/ 318.
الاعتراض التاسع: فساد الاعتبار
أي: أنه لا يمكن اعتبار القياس في ذلك الحكم، لمخالفه للنص، أو
الإجماع، أو كان الحكم ما لا يمكن إثباته بالقياس1، أو كان تركيبه مشعرا بنقيد
الحكم المطلوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثاله: إلحاق المصراة بغيرها من العيوب في حكم الرد
وعدمه ووجوب بدل لبنها الموجود في الضرع.
ج / 2
ص -159- وخص فساد الاعتبار جماعة من أهل الأصول بمخالفته
للنص، وهذا الاعتراض مبني على أن خبر الواحد مقدم على القياس، وهو الحق. وخالف في
ذلك طائفة من الحنفية، والمالكية، فقدموا القياس على خبر الواحد.
وجواب هذا الاعتراض بأحد وجوه:
الأول: الطعن في سند النص إن لم يكن من الكتاب، أو السنة
المتواترة.
أو منع ظهوره فيما يدعيه المستدل،
أو بيان أن المراد به غير ظاهرة،
وأن مدلوله لا ينافي حكم القياس.
أو المعارضة له بنص آخر حتى يتساقطا، ويصح القياس.
أو أن القياس الذي اعتمده أرجح من النص الذي عورض
"به"*، ويقيم الدليل على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
الاعتراض العاشر: فساد الوضع1
وذلك بإبطال ضع القياس المخصوص في إثبات الحكم المخصوص،
بأن يبين المعترض أن الجامع الذي ثبت به الحكم قد ثبت اعتباره بنص، أو إجماع في
نقيض الحكم. والوصف الواحد لا يثبت به النقيضان؛ وذلك بأن يكون أحدهما مضيقا، والآخر موسعا،
أو أحدهما مخففا، والآخر مغلظا، أو أحدهما إثباتا، والآخر نفيا.
والفرق بين هذا الاعتراض والاعتراض الذي قبله: أن فساد
الاعتبار أعم من فساد الوضع، فكل فاسد الوضع فاسد الاعتبار، ولا عكس
وجعلهما أبو إسحاق الشيرازي واحدا.
وقال ابن برهان: هما شيئان من حيث المعنى، لكن الفقهاء
فرقوا بينهما، وقالوا: فساد الوضع، وهو: أن يعلق على العلة "ضد ما يقتضيه، وفساد
الاعتبار هو: أن يعلق على العلة"* خلاف ما يقتضيه النص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المنخول 415 والبحر المحيط 5/ 219. وميزان الأصول
2/ 1070.
ج / 2
ص -160- وقيل: فساد الوضع: هو إظهار كون الوصف ملائما
لنقيض الحكم، مع اتحاد الجهة، ومنه: الاحتراز عند تعدد الجهات لتنزيلها منزلة تعدد
الأوصاف، وعن ترك حكم العلة بمجرد ملاءمة الوصف للنقيض دون دلالة الدليل؛ إذ هو
عند فرض اتحاد الجهة خروج عن فساد الوضع إلى القدح في المناسبة.
قال ابن السمعاني: وذكر أبو زيد أن هذا السؤال لا يرد
إلا على الطرد، والطرد ليس بحجة.
وقيل: هو أقوى من النقيض؛ لأن الوضع إذا فسد لم يبق إلا
الانتقال، والنقض يمكن الاحتراز عنه.
وقال الأصفهاني في "شرح المحصول": هو مقبول
عند المتقدمين، ومنعه المتأخرون؛ إذ لا توجه له لكونه خارجا عن المنع والمعارضة.
وجواب هذا الاعتراض ببيان وجود المانع في أصل المعترض.
الاعتراض الحادي عشر: المنع
قال أبن السمعاني: الممانعة: أرفع سؤال على العلل.
وقيل: "إنها"* أساس المناظرة، وهو يتوجه على
الأصل من وجهين:
أحدهما:
منع كون الأصل معللا؛ لأن الأحكام تنقسم بالاتفاق إلى ما
يعلل، وإلى ما لا يعلل، فمن ادعى تعليل شيء كلف ببيانه.
قال إمام الحرمين: إنما "يتجه"** هذا الاعتراض
على من لم يذكر تحريرا، فإن الفرع في العلة المحررة يرتبط بالأصل.
قال إلكيا: هذا الاعتراض باطل؛ لأن المعلل إذا أتى
بالعلة لم يكن لهذا السؤال معنى,
الثاني:
منع الحكم في الأصل.
واختلفوا هل هذا الاعتراض يقتضي انقطاع المستدل أم لا؟
فقيل: إنه يقتضي إنقطاعه.
وقيل: إنه لا يقتضي ذلك، وبه جزم إمام الحرمين، وإلكيا
الطبري.
قال ابن برهان: إنه المذهب الصحيح، المشهور بين النظار،
واختاره الآمدي، وابن الحاجب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": يتوجه.
ج / 2 ص -161- وقيل: إن كان المنع جليا فهو انقطاع، وإن
كان خفيا فلا، واختاره الأستاذ أبو إسحاق.
وقيل: يتبع عرف البلد الذي وقعت فيه المناظرة، فإن الجدل
مراسيم، فيجب اتباع العرف، وهو اختيار الغزالي.
وقيل: إن لم يكن له مدرك غيره جاز، واختاره الآمدي1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحث مفصلا في ميزان الأصول 1067 والبحر المحيط
5/ 322.
الاعتراض الثاني عشر: التقسيم
وهو كون اللفظ مترددا بين أمرين: أحدهما ممنوع، والآخر
مسلم، واللفظ محتمل لهما، غير ظاهر في أحدهما.
قال الآمدي: وليس من شرطه أن يكون أحدهما ممنوعا، والآخر
مسلما، بل قد يكونان مسلمين، لكن الذي يرد على أحدهما غير "ما"* يرد على
الآخر؛ إذ لو اتحد "ما"** يرد عليهما لم يكن للتقسيم معنى، ولا خلاف في أنه
لا يجوز كونهما ممنوعين؛ لأن التقسيم لا يفيد.
وقد منع قوم من قبول هذا السؤال؛ لأن إبطال أحد محتملي
كلام المستدل لا يكون إبطالا له؛ إذ لعله غير مراده.
مثال:
في الصحيح الحاضر، إذا فقد الماء وجد سبب جواز التيمم
-وهو تعذر الماء- فيجوز التيمم، فيقول المعترض: ما المراد بكون تعذر الماء سببا
للتيمم، هل تعذر الماء مطلقًا، أو تعذره في السفر، أو المرض؟
الأول ممنوع.
وحاصله: أنه منع بعد تقسيم، فيأتي فيه ما تقدم في صريح
المنع من كونه مقبولا أو مردودا، وموجبا للانقطاع أو غير موجب.
وجوابه: أن يعين المستدل أن اللفظ موضوع له، ولو عرفا أو
ظاهرا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الذي
** في "أ": الذي
الاعتراض الثالث عشر: اختلاف الضابط بين الأصل والفرع
اختلاف الضابط بين الأصل والفرع، لعدم الثقة بالجامع،
كقولهم في شهود القصاص:
ج / 2 ص -162- الاعتراض السادس عشر: منع كون الوصف
المدعى عليته علة
قال ابن الحاجب في "مختصر المنتهى": وهو من
أعظم الأسئلة لعمومه، وتشعب مسالكه، والمختار قبوله، وإلا لأدى إلى اللعب في
التمسك بكل طردي. انتهى.
مثاله:
أن يقول في الكلب: حيوان يغسل من ولوغه سبعا، فلا يقبل
جلده الدباغ "كالخنزير، فيقول: لا نسلم أن كون جلد الخنزير لا يقبل
الدباغ"*، معللا بكونه يغسل من ولوغه.
وجوابه: بإثبات العلية بمسلك من مسالكها المذكورة سابقا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
الاعتراض الرابع عشر: اختلاف حكمي الأصل والفرع
قيل: إنه قادح؛ لأن شرط القياس مماثلة الفرع للأصل في علته وحكمه،
فإن اختلف الحكم لم تتحقق المساواة، وذلك كإثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها، قياسا
على إثباتها في مالها.
الاعتراض الخامس عشر: منع كون ما يدعيه المستدل علة لحكم
الأصل
منع كون ما يدعيه المستدل علة لحكم الأصل، موجودا في
الأصل، فضلا أن يكون هو العلة.
مثاله:
أن يقول في الكلب: حيوان يغسل من ولوغه سبعا، فلا يقبل
جلده الدباغ، كالخنزير، فيقول المعترض: لا نسلم أن الخنزير يغسل من ولوغه سبعا.
والجواب عن هذا الاعتراض: بإثبات وجود الوصف في الأصل
بما هو طريق ثبوت مثله، إن كان حسيا فبالحس، وإن كان عقليا فبالعقل، وإن كان شرعيا
فبالشرع.
ج / 2 ص -163- الاعتراض التاسع عشر : كون الوصف غير ظاهر
كون الوصف غير ظاهر، كالرضا في العقود.
وجوابه بالاستدلال على كونه ظاهرا، كضبط الرضا بصيغ
العقود، ونحو ذلك.
الاعتراض الثامن عشر: القدح في إفضائه إلى المصلحة
المقصودة من شرع الحكم له
مثاله: أن يقال في علة تحريم مصاهرة المحارم على
التأبيد: إنها الحاجة إلى ارتفاع الحجاب.
ووجه المناسبة: أنه يفضي إلى رفع الفجور، وتقريره أن رفع
الحجاب، وتلاقي الرجال والنساء يفضي إلى الفجور، وأنه يرتفع بتحريم التأبيد؛ إذ
يرتفع الطمع المفضي إلى مقدمات الهم والنظر، المفضية إلى الفجور.
فيقول المعترض: لا يفضي إلى ذلك، بل سد باب النكاح أفضى
إلى الفجور؛ لأن النفس حريصة على ما منعت منه، وقوة داعية الشهوة مع اليأس عن الحل
مظنة الفجور.
وجوابه ببيان الإفضاء إليه، بأن يقول في هذه المسألة:
التأبيد يمنع عادة ما ذكرناه من مقدمات الهم والنظر، وبالدوام يصير كالأمر الطبيعي.
ج / 2 ص -164- الاعتراض الحادي والعشرون: المعارضة
وهي: إلزام المستدل الجمع بين شيئين، والتسوية بينهما في
الحكم، إثباتا أو نفيا.
كذا قال الأستاذ أبو منصور.
وقيل:
هي إلزام الخصم أن يقول قولا قال بنظيره، وهي من أقوى
الاعتراضات، وهي "أعم"* من اعتراض النقض، فكل نقض معارضة، ولا عكس، كذا
قيل1.
وفيه نظر؛ لأن النقض هو تخلف الحكم مع وجود العلة، وهذا
المعنى يخالف معنى المعارضة.
وقد أثبت اعتراض المعارضة الجمهور من أهل الأصول،
والجدل، وزعم قوم أنها ليست بسؤال صحيح.
واختلف القائلون بها في الثابت منها، فقيل: إنما يثبت
منها معارضة الدلالة بالدلالة والعلة بالعلة، ولا يجوز معارضة الدعوى بالدعوى
"وذكر الكعبي في "جدله"2 أنه يجوز معارضة الدعوى بالدعوى"**.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": أهم.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في البحر: والفرق بينه وبين المناقضة من حيث إن كل
نقض معارضة بخلاف العكس، وأيضا فالنقض لا يكون بالدليل، المعارضة بالدليل على
الدليل صحيحة. ا. هـ البحر المحيط 5/ 333.
2 واسمه أدب الجدل لأحمد بن عبد الله الكعبي البلخي
المتوفى سنة تسع عشرة وثلاثمائة هـ ولكن ذكره صاحب هدية العارفين باسم عبد الله بن
أحمد الكعبي وكذلك ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء. ا. هـ الأعلام 4/ 65 سير
أعلام النبلاء 14/ 313 هدية العارفين 1/
444.
أقسام المعارضة:
والمعارضة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
معارضة في الأصل.
ومعارضة في الفرع.
ومعارضة في الوصف.
أما المعارضة في الأصل:
فبأن يذكر علة أخرى في الأصل سوى العلة التي علل بها.
ج / 2
ص -165- المستدل، وتكون تلك العلة معدومة "في الفرع"*
ويقول: إن الحكم في الأصل إنما كان بهذه العلة التي ذكرها المعترض، لا بالعلة التي
ذكرها المستدل.
قال ابن السمعاني، والصفي الهندي: وهذا هو سؤال الفرق.
وذكر بعض أهل الأصول: أنه لا فرق بين أن تكون العلة التي
يبديها المعترض مستقلة بالحكم، كمعارضة الكيل بالطعم، أو غير مستقلة، بل هي جزء
علة، كزيادة الجارح في القتل العمد العدوان في مسألة القتل بالمثقل، وهذا إذا كانت
العلة التي جاء بها المعترض مسلمة من خصمه، أو محتملة احتمالا راجحا، أما إذا
تعارضت الاحتمالات، فقيل: يرجح وصف المستدل.
وقيل: وصف المعترض.
وقيل: لا وجه لترجيح أحدهما على الآخر، بل هو من التحكم
المحض.
ثم اختلفوا مع عدم الترجيح، هل تقتضي هذه المعارضة إبطال
دليل المستدل أم لا؟ على قولين، حكاهما الأستاذ أبو منصور.
ثم اختلفوا هل يجب على المعترض بيان انتفاء الوصف الذي
عارض به الأصل عن الفرع على أقوال:
الأول:
أنه لا يجب، بل على المستدل أن يبين ثبوته في الفرع،
ليصح الإلحاق وإلا بطل الجمع.
الثاني:
أنه يجب على المعترض البيان؛ لأن الفرق لا يتم إلا بذلك.
الثالث:
أنه إن قصد الفرق بين الأصل والفرع، وجب عليه ذلك، وإلا
لم يجب، وهو اختيار الآمدي، وابن الحاجب.
وجواب هذه المعارضة يكون إما بمنع وجود الوصف في الأصل،
أو بمنع المناسبة، أو منع الشبه، إن أثبته بأحدهما؛ لأن المعارضة لا تتم من
المعترض، إلا إذا كان الوصف الذي عارض به في الأصل مناسبا، أو "شبها"**؛
إذ لو كان طرديا لم تصح المعارضة، أو بمنع كون الوصف الذي أبداه المعترض ظاهرا، أو
بمنع كونه منضبطا، أو ببيان إلغاء الوصف الذي وقعت به المعارضة، أو ببيان رجوعه
إلى عدم وجود وصف في الفرع، لا إلى ثبوت معارض في الأصل.
وأما المعارضة في الفرع:
فهي أن يعارض حكم الفرع لما يقتضي نقيضه أو ضده بنص أو
إجماع أو بوجود مانع أو بفوات شرط فيقول: ما ذكرت من الوصف وإن اقتضى ثبوت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": مشابها.
ج / 2
ص -166- الحكم في الفرع، فعندي وصف آخر، يقتضي نقيضه، أو
ضده، بنص هو كذا، أو بإجماع على كذا، أو بوجود مانع، لما ذكرته من الوصف، أو بفوات
شرط له.
وقد قبل هذا الاعتراض، أعني: المعارضة في الفرع، بعض أهل
الأصول والجدل، ونفاه آخرون فقالوا: إن دلالة المستدل على ما ادعاه قد تمت.
قال الصفي الهندي: وهو ظاهر "إلا فيما"* إذا
كانت المعارضة بفوات شرط.
وأما المعارضة في الوصف
فهي على قسمين:
أحدهما:
أن يكون بضد حكمه.
والثاني:
أن يكون في عين حكمه، مع تعذر الجمع بينهما.
مثال الأول: أن يقول المستدل في الوضوء: إنها طهارة
حكمية، فتفتقر إلى النية، قياسا على التيمم.
فيقول المعارض: طهارة بالماء، فلا تفتقر إلى النية،
قياسا على إزالة النجاسة، فلا بد عند ذلك من الترجيح.
ومثال الثاني: أن يقول المعترض: نفس هذا الوصف الذي
ذكرته "يدل"** على خلاف ما تريده، ثم يوضح ذلك بما يكون محتملا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الادعاء.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
الاعتراض الثاني والعشرون: سؤال التعدية
وهو أن يعين المعترض في الأصل معنى غير ما عينه المستدل،
ويعارضه بم ثم يقول للمستدل: ما عللت به، وإن تعدى إلى فرع مختلف فيه، فكذا ما
عللت به أنا، يتعدى إلى فرع آخر، مختلف فيه، وليس أحدهما أولى من الآخر.
وذلك كأن يقول المستدل: بكر، فجاز خيراها كالصغيرة،
فيقول المعترض: البكارة، وإن تعدت إلى البكر البالغة، فالصغر متعد إلى الثيب
الصغيرة.
وقد اختلفوا في "قبول هذا الاعتراض"*، فقبله
البعض ورده البعض، وأدرجه الصفي الهندي في اعتراض المعارضة في الأصل.
وجوابه: إبطال ما اعترض به وحذفه عن درجة الاعتبار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": في قبول هذا إبطال الاعتراض.
ج / 2 ص -167- واختلفوا: هل يجب على المستدل أن يبين أنه
لا أثر لما أشار إليه المعترض من التسوية في التعدية، أو لا يجب؟
فقال الأكثرون: لا يجب، وقال بعض أهل الأصول: يجب.
الاعتراض الثالث والعشرون: سؤال التركيب
وهو أن يقول المعترض: شرط حكم الأصل أن لا يكون ذا قياس
مركب، وهو قسمان:
مركب الأصل.
ومركب الوصف.
ومرجع الأول: منع حكم الأصل، أو منع العلة.
ومرجع الثاني: منع الحكم، أو منع وجود العلة في الفرع.
وقد اختلفوا في قبوله، فبعضهم قبله، وبعضهم رده.
الاعتراض الرابع والعشرون: منع وجود الوصف المعلل به في
الوصف
كأن يقول المستدل في أمان العبد: أمان صدر عن أهله،
كالعبد المأذون له في القتال.
فيقول المعترض: لا نسلم أن العبد أهل للأمان.
وجوابه ببيان ما يثبت "به"*أهليته من حس، أو
عقل، أو شرع، وقد جعل بعضهم هذا الاعتراض مندرجا فيما تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ج / 2 ص -168- الفائدة الأولى:
اختلفوا:
هل يلزم المعترض أن يورد الأسئلة مرتبة بعضا مقدم على
البعض إذا أورد أسئلة متعددة، أم لا يلزمه ذلك، بل يقدم ما شاء، ويؤخر ما شاء؟
فقال جماعة: لا يلزمه الترتيب.
وقال آخرون: يلزمه؛ لأنه لو جاز إيرادها على أي وجه اتفق
لأدى إلى التناقض، كما لو
الاعتراض الثامن والعشرون: أن يدعي المعترض المخالفة بين
حكم الأصل وحكم الفرع
أن يدعي المعترض المخالفة بين حكم الأصل وحكم الفرع، وهو
اعتراض متوجه إلى المقدمة القائلة، فيوجد الحكم في الفرع كما وجد في الأصل.
وحاصل هذا: أن دعوى المعترض للمخالفة: إما أن تكون بدليل
المستدل، فيرجع إلى اعتراض القلب، أو بغيره، فيكون اعتراضا خاصا، خارجا عما تقدم،
وقد جعله بعضهم مندرجا فيما تقدم.
وههنا فوائد متعلقة بهذه الاعتراضات:
ج / 2 ص -169- جاء بالمنع بعد المعارضة، أو بعد النقض،
أو بعد "المطالبة"* فإنه ممتنع؛ لأنه منع بعد تسليم، وإنكار بعد إقرار.
قال الآمدي: وهذا هو المختار. وقيل: إن اتحد جنس السؤال
كالنقض، والمعارضة، والمطالبة، جاز إيرادها من غير ترتيب؛ لأنها بمنزلة سؤال واحد،
فإن تعددت أجناسها، كالمنع مع المطالبة، ونحو ذلك، لم يجز، وحكاه الآمدي عن أهل الجدل،
وقال: اتفقوا على ذلك، ونقل عن أكثر الجدليين أنه يقدم المنع، ثم المعارضة،
ونحوها، ولا يعكس هذا الترتيب، وإلا لزم الإنكار بعد الإقرار.
قال جماعة من المحققين منهم: الترتيب المستحسن أن يبدأ
بالمطالبات أولا؛ لأنه إذا لم يثبت أركان القياس لم يدخل في جملة الأدلة، ثم
بالقوادح؛ لأنه لا يلزم من كونه على صورة الأدلة أن يكون صحيحا، ثم إذا بدأ
بالمنع، فالأولى أن يقدم منع وجود الوصف في الفرع؛ لأنه دليل الدعوى، ثم منع ظهره،
ثم منع انضباطه، ثم منع كونه علة في الأصل، فإذا فرغ من المنوع شرع في القوادح، فيبدأ
بالقول بالموجب، لوضوح مأخذه، ثم بفساد الوضع، ثم بالقدح في المناسبة، ثم
بالمعاوضة.
وقال الأكثر من القدما ء كما حكاه عنهم أبو الحسن
السهيلي في "أدب الجدل": إنه يبدأ بالمنع من الحكم في الأصل؛ لأنه إذا
كان ممنوعا لم يجب على السائل أن يتكلم على كون الوصف ممنوعا، أو مسلما، ولا كون
الأصل معللا بتلك العلة، أو بغيرها، ثم يطالبه بإثبات الوصف في الفرع، ثم باطراد
العلة، ثم بتأثيرها ثم بكونه غير فاسد الوضع، ثم بكونه غير فاسد الاعتبار، ثم
بالقلب، ثم بالمعارضة.
وقال جماعة من الجدليين، والأصوليين: إن أول ما يبدأ به
الاستفسار، ثم فساد الاعتبار، ثم فساد الوضع، ثم منع حكم الأصل، ثم منع وجود العلة
في الأصل، ثم منع علية الوصف، ثم المطالبة، وعدم التأثير، والقدح في المناسبة،
والتقسيم، وعدم ظهور الوصف، وانضباطه وكون الحكم غير صالح للإفضاء إلى ذلك
المقصود، ثم النقض والكسر، ثم المعارضة، والتعدية، والتركيب، ثم منع وجود العلة في
الفرع، ومخالفة حكمه حكم الأصل، ثم القلب، ثم القول بالموجب.
وقد قدمنا1 قول من قال: إن جميع الأسئلة ترجع إلى المنع
والمعارضة، ووجه ذلك: أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": المعارضة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: 2/ 168.
ج / 2
ص -170- متى حصل الجواب عن المنع والمعارضة، فقد تم
الدليل، وحصل الغرض، من إثبات المدعى، ولم يبق للمعترض مجال، فيكون ما سواهما من
الأسئلة باطلا، فلا يسمع؛ لأنه لا يحصل الجواب عن جميع المنوع إلا بإقامة الدليل على
جميع المقدمات، وكذلك لا يحصل الجواب عن المعارضة إلا ببيان انتفاء المعارضة عن
جميعها.
الفائدة الثانية: في الانتقال عن محل النزاع إلى غيره
قبل تمام الكلام فيه
منعه الجمهور؛ لأنا لو جوزناه لم يتأت إفحام الخصم، ولا
إظهار الحق؛ لأنه ينتقل من كلام إلى كلام، ثم كذلك إلى ما لا نهاية له، فلا يحصل
المقصود من المناظرة، وهو إظهار الحق، وإفحام المخالف له، وهذا إذا كان الانتقال
من المستدل.
وأما إذا كان من السائل، بأن ينتقل من سؤاله قبل تمامه،
ويقول: ظننت أنه لازم، فبان خلافه، فمكنوني من سؤال آخر، فقال بعضهم: الأصح أنه
يمكن من ذلك، إذا كان انحدارا من الأعلى إلى الأدنى، فإن كان ترقيا من الأدني إلى
الأعلى، كما لو أراد الترقي من المعارضة إلى المنع، لم يمكن من ذلك؛ لأنه يكذب
نفسه، وقيل: يمكن؛ لأن مقصوده الإرشاد.
الفائدة الثالثة: في الفرض والبناء
قالوا: إنه يجوز للمستدل في الاستدلال ثلاث طرق:
الأولى:
أن يدل على المسألة بعينها.
والثانية:
أن يفرض الدلالة في بعض شعبها وفصولها.
والثالثة:
أن يبني المسألة على غيرها.
فإن استدل عليها بعينها فواضح، وإن أراد أن يفرض الكلام
في بعض أحوالها جاز؛ لأنه إذا كان الخلاف في الكل، وثبت الدليل في بعضها، ثبت في
الباقي بالإجماع، وإن أراد أن يفرض الدلالة في غير فرد من أفراد المسألة لم يجز.
وأما إذا أراد أن يبني المسألة على غيرها، فإما أن
يبنيها على مسألة أصولية، وإما أن يبنيها على مسألة فروعية1، وعلى التقديرين: إما
أن يكون طريقها واحدة، أو مختلفة، فإن كانت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العبارة في البحر المحيط 2/ 356 كما يلي: وإما أن
يبنيها على مسألة فرعية.
ج / 2 ص -171- واحدة جاز، وإن كانت مختلفة لم يجز، وهذا
قول جمهور أهل الجدل.
وقال ابن فورك: لا يجوز الفرض والبناء؛ لأن حق الجواب أن
يطابق السؤال.
وقال إمام الحرمين: إنما يجوز إذا كانت علة الفرض شاملة
لسائر الأطراف.
قال: المستحسن منه هو الواقع في طرف يشتمل عليه عموم سؤال السائل،
وذلك محمول على استشعار انتشار الكلام في جميع الأطراف، وعدم وفاء مجلس واحد
باستتمام الكلام فيها.
وحاصله: إن ظهر انتظام العلة العامة في الصورتين كان
مستحسنا، وإلا كان مستهجنا، وفائدته كون العلة قد تخفى في بعض الصور، وتظهر في بعض
آخر، فالتفاوت بالأولية خاصة، والعلة واحدة.
الفائدة الرابعة: في جواز التعلق بمناقضات الخصوم
قد وقع الاتفاق على أنه لا يجوز إثبات المذهب إلا بدليل
شرعي، ولكن اختلفوا في التعلق بمناقضات الخصوم في المناظرة.
فذهب جماعة إلى جوازه من حيث إن المقصود من الجدل تضييق
الأمر على الخصم.
وذكر القاضي تفصيلا حسنا، فقال: إن كانت المناقضة عائدة
إلى تفاصيل أصل لا يرتبط فسادها وصحتها بفساد الأصل وصحته، فلا يجوز التعلق بها،
وإلا جاز.
الفائدة الخامسة: في السؤال والجواب
قال الصيرفي: السؤال إما استفهام مجرد، وهو الاستخبار عن
المذهب، أو عن العلة، وإما استفهام عن "الدلالة"* أى: التماس وجه دلالة
البرهان، ثم المطالبة بنفوذ الدليل وجريانه.
وسبيل الجواب أن يكون إخبارا مجردا، ثم الاستدلال، ثم
طرد الدليل، ثم السائل في الابتداء، إما أن يكون غير عالم بمذهب من يسأله، أو يكون
عالما به، ثم إما أن يعلم صحته، فسؤاله لا معنى له، وإما أن لا يعلم فسؤاله راجع
إلى الدليل.
والحاصل: أن من أنكر الأصل الذي يستشهد به المجيب،
فسؤاله عنه أولى؛ لأن الذي أحوجه إلى المسألة هو الخلاف، فأما إذا كان الخلاف في
الشاهد، فالسؤال عنه أولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*في "أ": الأدلة.
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
ج / 2 ص -172- الفصل السابع: في الاستدلال
وهو في اصطلاحهم، ما ليس بنص، ولا إجماع، ولا قياس.
لا يقال: هذا من تعريف بعض الأنواع ببعض، وهو تعريف
بالمساوي، في الجلاء والخفاء، بل هو تعريف للمجهول بالمعلوم؛ لأنه قد سبق العلم
بالنص، والإجماع، والقياس.
واختلفوا في أنواعه: فقيل هي ثلاثة:
الأول: التلازم بين الحكمين، من غير تعيين علة، وإلا كان
قياسا.
الثاني: استصحاب الحال.
الثالث: شرع من قبلنا.
قال الحنفية: ومن أنواعه نوع رابع، وهو الاستحسان.
وقالت المالكية: ومن أنواعه نوع خامس، وهو المصالح
المرسلة.
وسنفرد لكل واحد من هذه الأنواع بحثا، ونلحق بها فوائد،
لاتصالها بها بوجه من الوجوه.
البحث الأول: في التلازم
وهو أربعة أقسام:
لأن التلازم إنما يكون بين حكمين، وكل واحد منهما إما
مثبت أو منفي، وحاصله: إذا كان تلازم تساوٍ فثبوت كل يستلزم ثبوت الآخر، ونفيه نفيه، وإن
كان مطلق اللزوم، فثبوت الملزوم يستلزم ثبوت اللازم، من غير عكس، ونفي اللازم يستلزم
نفي الملزوم من غير عكس "وأنه إذا كان بين الشيئين انفصال حقيقي فثبوت كلٍّ
يستلزم نفي الآخر، ونفيه ثبوته، وإن كان منع جمع، فثبوت كلٍّ يستلزم نفي الآخر من
غير عكس، وإن كان منع خلو فنفي كلٍّ يستلزم ثبوت الآخر من غير عكس"*.
وخلاصة هذا البحث يرجع إلى الاستدلال بالأقسية
الاستثنائية، والاقترانية.
قال الآمدي: ومن أنواع الاستدلال قولهم: وجد السبب
والمانع أو فقد الشرط.
ومنها: انتفاء الحكم لانتفاء مدركه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ج / 2
ص -173- ومنها: الدليل المؤلف من أقوال، يلزم من تسليمها
لذاتها قول آخر، ثم قسمه إلى الاقتراني والاستثنائي، وذكر الأشكال الأربعة
وشروطها، وضروبها. انتهى. فليرجع في هذا البحث إلى ذلك الفن.
وإذا كان هذا لا يجرى إلا فيما فيه تلازم، أو تناف،
فالتلازم: إما أن يكون طردا أو عكسا، أي: من الطرفين، أو طردا لا عكسا، أي: من طرف
واحد، والتنافي لا بد أن يكون من الطرفين، لكنه إما أن يكون طردا وعكسا، أي:
إثباتا ونفيا، وإما طردا فقط، أي: إثباتا، وإما عكسا فقط، أي: نفيا.
الأول:
المتلازمان طردا وعكسا، وذلك كالجسم والتأليف؛ إذ كل جسم
مؤلف، وكل مؤلف جسم، وهذا يجرى فيه التلازم بين الثبوتين، وبين النفيين، كلامهما
طردا وعكسا، كلما كان جسما كان مؤلفا، وكلما كان مؤلفا كان جسما، وكلما لم يكن
مؤلفا لم يكن جسما، وكلما لم يكن جسما لم يكن مؤلفا.
الثاني:
المتلازمان طردا فقط، كالجسم والحدوث؛ إذ كل جسم حادث،
ولا ينعكس في الجوهر الفرد، فهذا يجري فيه التلازم بين الثبوتين طردا فيصدق كلما
كان جسما كان حادثا، لا عكسا، فلا يصدق كلما كان حادثا كان جسما، ويجري فيه
التلازم بين النفيين، عكسا، فيصدق كلما لم يكن حادثا لم يكن جسما، لا طردا، فلا
يصدق كلما لم يكن جسما لم يكن حادثا.
الثالث:
المتنافيان طردا وعكسا، كالحدوث ووجوب البقاء، فإنهما لا
يجتمعان في ذات، فتكون حادثة واجبة البقاء، ولا يرتفعان، فيكون قديما غير واجب
البقاء، فهذا يجرى فيه التلازم بين الثبوت والنفي، وبين النفي والثبوت، طردا
وعكسا، أي: من الطرفين فيصدق لو كان حادثا لم يجب بقاؤه، ولو وجب بقاؤه لم يكن
حادثا، ولو لم يكن حادثا فلا يجب بقاؤه، ولو لم يجب بقاؤه فلا يكون حادثا.
الرابع:
المتنافيان طردا لا عكسا، أي: إثباتا لا نفيا، كالتأليف
والقدم؛ إذ لا يجتمعان، فلا يوجد شيء هو مؤلف وقديم، لكنهما قد يرتفعان، كالجزء
الذي لا يتجزأ، وهذا يجري فيه التلازم بين الثبوت والنفي، طردا وعكسا، أي: من
الطرفين، فيصدق كلما كان جسما لم يكن قديما، وكلما كان قديما "لم يكن جسما،
ولا يصدق كلما كان جسما لم يكن قديما، وكلما كان قديما"* كان جسما.
الخامس:
المتنافيان عكسا، أي: نفيا، كالأساس والخلل، فإنهما لا
يرتفعان، فلا يوجد ما ليس له أساس، ولا يختل، وقد يجتمعان في كل ما له أساس قد
يختل بوجه آخر، وهذا يجري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ج / 2
ص -174- فيه تلازم النفي والإثبات، طردا وعكسا، فيصدق كل
ما لم يكن له أساس، فهو مختل، وكل ما لم يكن مختلا فليس له أساس، ولا يصدق كل ما
كان له أساس فليس بمختل، وكل ما كان مختلا فليس له أساس.
وما قدمنا عن الآمدي: أن من أنواع الاستدلال قولهم: وجب
السبب إلخ، هو أحد الأقوال لأهل الأصول.
وقال بعضهم: إنه ليس بدليل، وإنما هو دعوى دليل، فهو
بمثابة قولهم: وجد دليل الحكم، لا يكون دليلا ما لم يعين، وإنما الدليل ما يستلزم
المدلول. وقال بعضهم: هو دليل، إذ لا معنى للدليل إلا ما يلزم من العلم به العلم بالمدلول.
والصواب: القول الأول، أنه استدلال، لا دليل، ولا مجرد
دعوى.
واعلم: أنه يرد على جميع أقسام التلازم من الاعتراضات
السابقة جميع ما تقدم، ما عدا الاعتراضات الواردة على نفس العلة.
البحث الثاني: الاستصحاب
أي: استصحاب الحال لأمر وجودي، أو عدمي، عقلي، أو شرعي1.
ومعناه:
أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن
المستقبل، مأخوذ من المصاحبة، وهو بقاء ذلك الأمر ما لم يوجد ما يغيره، فيقال:
الحكم الفلاني قد كان فيما مضى، وكلما كان فيما مضى، ولم يظن عدمه، فهو مظنون
البقاء.
قال الخوارزمي في "الكافي": وهو آخر مدار
الفتوى، فإن المفتي إذا سئل عن حادثة، يطلب حكمها في الكتاب، ثم في السنة، ثم في
الإجماع، ثم في القياس، فإن لم يجده فيأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي،
والإثبات، فإن كان التردد في زواله فالأصل بقاؤه، وإن كان التردد في ثبوته فالأصل
عدم ثبوته، انتهى.
واختلفوا هل هو حجة عند عدم الدليل على أقوال2:
الأول:
أنه حجة، وبه قالت الحنابلة، والمالكية، وأكثر الشافعية،
والظاهرية، سواء كان في النفي أو الإثبات، وحكاه ابن الحاجب عن الأكثر.
الثاني:
أنه ليس بحجة، وإليه ذهب أكثر الحنفية، والمتكلمين، كأبي
الحسين البصري،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ميزان الأصول 2/ 932 والمنخول 372 والبحر المحيط
6/ 17.
2 انظر ميزان الأصول "2/ 934.
ج / 2
ص -175- قالوا: لأن الثبوت في الزمان الأول يفتقر إلى
الدليل، فكذلك في الزمان الثاني؛ لأنه يجوز أن يكون وأن لا يكون، وهذا خاص عندهم بالشرعيات،
بخلاف الحسيات، فإن الله سبحانه أجرى العادة فيها بذلك، ولم يجر العادة به في
الشرعيات، فلا تلحق بالحسيات.
ومنهم من نقل عنه تخصيص النفي بالأمر الوجودي.
ومنهم من نقل عن الخلاف مطلقًا.
قال الصفي الهندي: وهو يقتضي تحقق الخلاف في الوجودي
والعدمي جميعا، لكنه بعيد؛ إذ تفاريعهم تدل على أن استصحاب العدم الأصلي حجة.
قال الزركشي: والمنقول في كتب أكثر الحنفية أنه لا يصح
حجة على الغير، ولكن يصلح للرفع والدفع.
وقال أكثر المتأخرين منهم: إنه حجة لإبقاء ما كان، ولا
يصلح حجة لإثبات أمر لم يكن "وذلك كحياة المفقود، فإنه لما كان الظاهر
بقاؤها، صلح حجة لإبقاء ما كان، فلا يورث ماله، ولا يصلح حجة لإثبات أمر لم يكن
فلا يرث عن أقاربه"*
الثالث:
أنه حجة على المجتهد فيما بينه وبين الله عز وجل، فإنه
"لم"**كلف إلا ما يدخل تحت مقدوره، فإذا لم يجد دليلا سواه جاز له
التمسك "به"***ولا يكون حجة على الخصم عند المناظرة، فإن المجتهدين إذا
تناظروا لم ينفع المجتهد قوله لم أجد دليلا على هذا؛ لأن التمسك بالاستصحاب لا
يكون إلا عند عدم الدليل.
الرابع:
أنه يصلح حجة للدفع لا للرفع، وإليه ذهب أكثر الحنفية،
قال إلكيا: ويعبرون عن هذا "بأن"**** استصحاب الحال صالح لإبقاء ما كان
على ما كان، إحالة على عدم الدليل، لا لإثبات أمر لم يكن، وقد قدمنا1 أن هذا قول
أكثر المتأخرين منهم.
الخامس:
أنه يجوز الترجيح به لا غير، نقله الأستاذ أبو إسحاق عن
الشافعي، وقال: إنه الذي يصح عنه، لا أنه يحتج به.
السادس:
أن المستصحب إن لم يكن غرضه سوى نفي ما نفاه، صح ذلك2،
وإن كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": لا.
*** بين قوسين ساقط من "أ".
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: 174.
2 مثاله: من استدل على إبطال بيع الغائب ونكاح المحرم
والشغار بأن الأصل أن لا عقد فلا يثبت إلا بدلالة.
ج / 2
ص -176- غرضه إثبات خلاف قول خصمه، من وجهة يمكن استصحاب
الحال في نفي ما أثبته فلا يصح1. حكاه الأستاذ أبو منصور البغدادي، عن بعض أصحاب الشافعي.
قال الزركشي: لا بد من تنقيح موضع الخلاف، فإن أكثر
الناس يطلقه، ويشتبه عليهم موضع النزاع، فنقول: للاستصحاب صور:
إحداها:
استصحاب ما دل العقل أو الشرع على ثبوته ودوامه، كالملك
عند جريان القول المقتضي له، وشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام، ودوام الحل في
المنكوحة بعد تقرير المنكاح، فهذا لا خلاف في وجوب العمل به إلى أن يثبت معارض.
قال، الثانية:
استصحاب العدم الأصلي المعلوم بدليل العقل في الأحكام
الشرعية، كبراءة الذمة من التكليف حتى يدل دليل شرعي على تغيره، كنفي صلاة سادسة.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا حجة بالإجماع
"أي"*: من القائلين بأنه لا حكم قبل الشرع.
قال، الثالثة:
استصحاب الحكم العقلي عند المعتزلة، فإن عندهم أن العقل
يحكم في بعض الأشياء إلى أن يرد الدليل السمعي، وهذا لا خلاف بين أهل السنة في أنه
لا يجوز العمل به؛ لأنه لا حكم للعقل في الشرعيات.
قال، الرابعة:
استصحاب الدليل، مع احتمال المعارض، إما تخصيصا إن كان
الدليل ظاهرا، أو نسخا إن كان الدليل نصًّا، فهذا أمر معمول به "بالإجماع"**.
وقد اختلف في تسمية هذا النوع بالاستصحاب، فأثبته جمهور
الأصوليين، ومنعه المحققون، منهم إمام الحرمين في "البرهان"، وإلكيا في
"تعليقه"، وابن السمعاني في "القواطع"؛ لأن ثبوت الحكم فيه من
ناحية اللفظ، لا من ناحية الاستصحاب2.
قال، الخامسة:
الحكم الثابت بالإجماع في محل النزاع وهو راجع إلى الحكم
الشرعي، بأن يتفق على حكم في حاله، ثم يتغير صفة المجمع عليه، فيختلفون فيه،
فيستدل من لم يغير الحكم باستصحاب الحال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين القوسين ساقط من "أ".
** في "أ": إجماعا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثاله: من يقول في مسألة الحرام: إنه يمين توجب
الكفارة، لم يستدل على إبطال قول خصومه بأن الأصل أن لا طلاق ولا ظهار ولا لعان
فيعارض بالأصل أن لا يمين ولا كفارة فيتعارض الاستصحابان فيسقطان ا. هـ البحر
المحيط 6/ 20.
2 ذكر الزركشي في كتابه كلاما وافيا على ذلك فانظره في
الصفحة 21 من البحر المحيط م6.
ج / 2
ص -177- مثاله: إذا استدل من يقول إن المتيمم إذا رأى
الماء في أثناء صلاته لا تبطل صلاته؛ لأن الإجماع منعقد على صحتها قبل ذلك،
فاستصحب إلى أن يدل دليل على أن رؤية الماء مبطلة.
وكقول الظاهرية: يجوز بيع أم الولد؛ لأن الإجماع انعقد
على جواز بيع هذه الجارية قبل الاستيلاء، فنحن على ذلك الإجماع بعد الاستيلاد1.
وهذا النوع ومحل الخلاف، كما قاله في
"القواطع" وهكذا فرض أئمتنا الأصوليون الخلاف فيها، فذهب الأكثرون منهم
القاضي، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ، والغزالي، إلى أنه ليس بحجة.
قال الأستاذ أبو منصور: وهو قول جمهور أهل الحق من
الطوائف.
وقال الماوردي، والروياني، في كتاب القضاء: إنه قول
الشافعي، وجمهور العلماء، فلا يجوز الاستدلال بمجرد الاستصحاب، بل إن اقتضى القياس
أو غيره إلحاقه بما قبل الحق به وإلا فلا.
قال: وذهب أبو ثور، وداود الظاهري إلى الاحتجاج به،
ونقله ابن السمعاني عن المزني، وابن سريج، والصيرفي، وابن خيران، وحكاه الأستاذ
أبو منصور عن أبي الحسين بن القطان، قال: واختاره الآمدي، وابن الحاجب.
قال سليم الرازي في "التقريب": إنه الذي ذهب
إليه شيوخ أصحابنا، فيستصحب حكم الإجماع حتى يدل الدليل على ارتفاعه. انتهي.
والقول الثاني: هو الراجح؛ لأن المتمسك بالاستصحاب باق
على الأصل، قائم في مقام المنع، فلا يجب عليه الانتقال عنه إلا بدليل يصلح لذلك،
فمن ادعاه جاء به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 22 والمستصفى 1/ 223.
2 جزء من الآية 13 من سورة الشورى.
البحث الثالث: شرع من قبلنا
وفي ذلك مسألتان:
المسألة الأولى: هل كان صلى الله عليه وسلم متعبدا بشرع
أم لا؟
كان نبينا صلى الله عليه وسلم قبل البعثة متعبدا بشرع أم
لا؟ وقد اختلفوا في ذلك على مذاهب:
فقيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا قبل البعثة
بشريعة آدم؛ لأنها أول الشرائع.
وقيل: بشريعة نوح لقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}2.
ج / 2
ص -178- وقيل: بشريعة إبراهيم لقوله تعالى: {إِنَّ
أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ}1
وقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}2.
قال الواحدي: وهذا هو الصحيح.
قال ابن القشيري في "المرشد"3: وعزي إلى
الشافعي.
قال الأستاذ أبو منصور: وبه نقول، وحكاه صاحب
"المصادر" عن أكثر أصحاب أبي حنيفة، وإليه أشار أبو علي الجبائي.
وقيل: كان متعبدا بشريعة موسى.
وقيل:
بشريعة عيسى؛ لأنه أقرب الأنبياء، ولأنه الناسخ لما قبله
من الشرائع، وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني كما حكاه عنه الواحدي4.
وقيل كان على شرع من الشرائع، ولا يقال: كان من أمة نبي
من الأنبياء، أو على شرعه.
قال ابن القشيري في "المرشد": وإليه كان يميل
الأستاذ أبو إسحاق.
وقيل: كان متعبدا بشريعة كل من قبله من الأنبياء، إلا ما
نسخ منها واندرس، حكاه صاحب "الملخص".
وقيل: كان متعبدا بشرع، ولكن لا ندري بشرع من تعبده
الله، حكاه ابن القشيري.
وقيل: لم يكن قبل البعثة متعبدا بشرع، حكاه في
"المنخول" عن إجماع المعتزلة.
قال القاضي في "مختصر التقريب" وابن القشيري:
هو الذي صار إليه جماهير المتكلمين، قال جمهورهم: إن ذلك محال عقلا؛ إذ لو تعبد
باتباع أحد لكان غضا من نبوته.
وقال بعضهم: بل كان على شريعة العقل.
قال ابن القشيري: وهذا باطل؛ إذ ليس للعقل شريعة، ورجح
هذا المذهب، أعني: عدم التعبد بشرع قبل البعثة القاضي، وقال: هذا ما نرتضيه
وننصره؛ لأنه لو كان على دين لنقل، ولذكره صلى الله عليه وسلم، إذ لا يظن به
الكتمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 68 من سورة آل عمران.
2 جزء من الآية 123من سورة النحل.
3 وهو للإمام عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري، أبي
نصر، كما نسبه إليه السيوطي في كتابه المسمى "بالإتقان في علوم القرآن".
ا. هـ الإتقان 4/ 228.
4 هو علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري،
أبو الحسن الشافعي، صاحب التفسير، توفي في نيسابور سنة ثمان وستين وأربعمائة هـ،
من آثاره "أسباب النزول، البسيط، الوسيط، الوجيز" وغيرها كثير. ا.
هـ سير أعلام النبلاء 18/ 339 معجم المؤلفين 12/ 256 شذرات الذهب 3/ 330 هدية
العارفين 1/ 692.
ج / 2 ص -179- وعارض ذلك إمام الحرمين وقال: لو لم يكن
على دين أصلا لنقل، فإن ذلك أبعد عن المعتاد مما ذكره القاضي.
قال: فقد تعارض الأمران.
والوجه أن يقال: كانت العادة انخرقت في أمور الرسول صلى
الله عليه وسلم بانصراف "همم"* الناس عن أمر دينه، والبحث عنه، ولا يخفى ما في هذه
المعارضة من الضعف وسقوط ما "رتبه"* عليها.
وقيل: بالوقف، وبه قال إمام الحرمين، وابن القشيري،
وإلكيا، والغزالي، والآمدي، والشريف المرتضى، واختار النووي في
"الروضة"، قالوا: إذ ليس فيه دلالة عقل، ولا ثبت فيه نص، ولا إجماع.
قال ابن القشيري في "المرشد" بعد حكاية
الاختلاف في ذلك: وكل هذه أقوال متعارضة وليس فيها دلالة قاطعة، والعقل يجوز ذلك
لكن أين السمع فيه. انتهى.
قال إمام الحرمين: هذه المسألة لا تظهر لها فائدة، بل
تجري مجرى التواريخ المنقولة، ووافقه المازري، والماوردي، وغيرهما، وهذا صحيح،
فإنه لا يتعلق بذلك فائدة، باعتبار هذه الأمة ولكنه يعرف به في الجملة شرف تلك
الملة التي تبعد بها، وفضلها على غيرها من الملل المتقدمة على ملته.
وأقرب هذه الأقوال، قول من قال: إنه كان متعبدا بشريعة
إبراهيم عليه السلام، فقد كان صلى الله عليه وسلم كثير البحث عنها، عاملا بما بلغ
إليه منها، كما يعرف ذلك من كتب السيرة، وكما تفيده الآيات القرآنية من أمره صلى
الله عليه وسلم بعد البعثة باتباع تلك الملة، فإن ذلك يشعر بمزيد خصوصية لها، فلو
قدرنا أنه كان على شريعة قبل البعثة لم يكن إلا عليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": بانصرافهم.
** في حاشية "أ": كذا بالأصل "أي
ملزمة" والصواب سقوط ما نبه عليه يعني بقوله والوجه أن يقال إلخ والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 41 والمستصفى 1/ 250.
المسألة الثانية: هل كان صلى الله عليه وسلم بعد البعثة
متعبدا بشرع من قبله أم لا ؟
اختلفوا هل كان متعبدا بعد البعثة بشرع من قبله أم لا
على أقوال:
الأول:
أنه لم يكن متعبدا باتباعها1، بل كان منهيا عنها، وإليه
ذهب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في آخر قوليه، واختاره الغزالي في آخر عمره.
ج / 2
ص -180- قال ابن السمعاني: إنه المذهب الصحيح، وكذا قال
الخوارزمي في "الكافي"، واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا
إلى اليمن1 لم يرشده إلا إلى العمل بالكتاب والسنة، ثم اجتهاد الرأي.
وصحح هذا القول ابن حزم.
واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}2.
وبالغت المعتزلة فقالت: باستحالة ذلك عقلا، وقال غيرهم:
العقل لا يحيله، ولكنه ممتنع شرعًا، واختاره الفخر الرازي، والآمدي.
القول الثاني: أنه كان متعبدًا بشرع من قبله، إلا ما نسخ
منه، نقله ابن السمعاني عن أكثر الشافعية، وأكثر الحنفية، وطائفة من المتكلمين.
قال ابن القشيري: هو الذي صار إليه الفقهاء، واختاره
"ابن برهان"*. وقال: إنه قول أصحابهم، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن محمد
بن الحسن واختاره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي واختاره ابن الحاجب.
قال ابن السمعاني: وقد أومأ إليه الشافعي في بعض كتبه.
قال القرطبي: وذهب إليه معظم أصحابنا، يعني المالكية،
قال القاضي عبد الوهاب: إنه الذي تقتضيه أصول مالك.
واستدلوا بقوله سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا
أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}3 الآية، فإن ذلك مما استدل به في شرعنا على وجوب
القصاص، ولو لم يكن متعبدًا بشرع من قبله لما صح الاستدلال بكون القصاص واجبًا في
شرع بني إسرائيل على كونه واجبًا في شرعه.
واستدلوا أيضًا بأنه صلى الله عليه وسلم قال: "من
نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"4 وقرأ قوله تعالى: {وَأَقِمِ
الصَّلاةَ لِذِكْرِي}5 وهي مقولة لموسى، فلو لم يكن متعبدًا بشرع من قبله، لما كان
لتلاوة الآية عند ذلك فائدة.
واستدلوا بما ثبت عن ابن عباس أنه سجد في صورة ص، وقرأ
قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}6
فاستنبط التشريع من هذه الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الرازي. وهو تحريف، والصواب ما أثبت
كما في البحر 6/ 42.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه 1/ 152.
2 جزء من الآية 48 من سورة المائدة.
3 جزء من الآية 45 من سورة المائدة.
4 تقدم تخريجه 2/ 75.
5 جزء من الآية 14 من سورة طه.
6 جزء من الآية "90" من سورة الأنعام
ج / 2
ص -181- واستدلوا أيضًا بما ثبت في الصحيح أنه كان صلى
الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه1 "فإن هذا يفيد أنه
كان متعبدًا فيما لم ينزل عليه"* ولولا ذلك لم يكن لمحبته للموافقة فائدة.
ولا أوضح ولا أصرح في الدلالة على هذا المذهب من قوله
تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ
اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}2.
القول الثالث: الوقف، حكاه ابن القشيري وابن برهان.
وقد فصل بعضهم تفصيلا حسنا فقال: إنه إذا بلغنا شرع من
قبلنا على لسان الرسول، أو لسان من أسلم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار3 ولم يكن
منسوخا، ولا مخصوصا، فإنه شرع لنا، وممن ذكر هذا القرطبي، ولا بد من هذا التفصيل
على قول القائلين بالتعبد، لما هو معلوم من وقوع التحريف والتبديل، فإطلاقهم مقيد
بهذا القيد، ولا أظن أحدا منهم يأباه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين القوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثاله ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن سخبرة قال:
"مُرَّ على علي بجنازة فذهب اصحابه يقومون فقال لهم علي: ما يحملكم على هذا؟
قالوا: إن أبا موسى أخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا مُرت به جنازة
قام حتى تجاوزه. قال: فقال: إن أبا موسى لا يقول شيئًا، لعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم فعل ذلك مرة. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يتشبه بأهل الكتاب
فيما لم ينزل عليه شيء فإذا أنزل عليه تركه". كتاب الجنائز، باب نسخ القيام
للجنازة 962. أبو داود. كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة 3175. النسائي، كتاب الجنائز، باب الرخصة
في ترك القيام للجنازة 1044. البيهقي، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة 4/ 27. ابن حبان في
صحيحه 3056. أبو يعلى في مسنده 1/ 273.
2 جزء من الآية 123 من سورة النحل.
3 هو كعب بن ماتع، الحميري، اليماني، كان يهوديا فأسلم
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة من اليمن أيام عمر رضي الله عنه،
فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية، ويحفظ عجائبا، ويأخذ السنن عن الصحابة وكان حسن
الإسلام. ا. هـ سير أعلام النبلاء 3/ 489 شذارت الذهب 1/ 40 الجرح والتعديل 7/ 161.
البحث الرابع: الاستحسان
واختلف في حقيقته: فقيل: هو دليل ينقدح في نفس المجتهد،
ويعسر عليه التعبير عنه.
وقيل: هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر التبصرة 492 والمنخول 347.
ج / 2 ص -182- وقيل: هو العدول عن حكم الدليل إلى العادة
لمصلحة الناس.
وقيل: تخصيص قياس بأقوى منه.
ونسب القول به إلى أبي حنيفة، وحكى عنه أصحابه، ونسبه
أمام الحرمين إلى مالك، وأنكره القرطبي فقال: ليس معروفا من مذهبه، وكذلك أنكر
أصحاب أبي حنيفة ما حكي عن أبي حنيفة من القول به، وقد حكي عن الحنابلة.
قال ابن الحاجب في "المختصر": قالت به
الحنفية، والحنابلة، وأنكره غيرهم. انتهى.
وقد أنكره الجمهور، حتى قال الشافعي: من استحسن فقد شرع.
قال الروياني: ومعناه أنه ينصب من جهة نفسه شرعا غير
الشرع.
وفي رواية عن الشافعي أنه قال: القول بالاستحسان باطل.
وقال الشافعي في "الرسالة": الاستحسان تلذذ1،
ولو جاز لأحد الاستحسان في الدين؛ لجاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم، ولجاز
أن يشرع في الدين في كل باب، وأن يخرج كل أحد لنفسه شرعا.
قال جماعة من المحققين: الحق أنه لا يتحقق استحسان مختلف
فيه؛ لأنهم ذكروا في تفسيره أمورا لا تصلح للخلاف؛ لأن بعضها مقبولا اتفاقا،
وبعضها متردد بين ما هو مقبول اتفاقا، وما هو مردود اتفاقا، وجعلوا من صور الاتفاق
على القبول قول من قال: إن الاستحسان العدول عن قياس إلى قياس أقوى، وقول من قال:
إنه تخصيص قياس بأقوى منه، وجعلوا من المتردد بين القبول والرد قول من قال: إنه
دليل ينقدح في نفس المجتهد، ويعسر عليه التعبير عنه لأنه إن كان معنى قوله ينقدح
أنه يتحقق ثبوته "فالعمل"* به واجب عليه، فهو مقبول اتفاقا، وإن كان
بمعنى أنه شاك، فهو مردود اتفاقا؛ إذ لا تثبت الأحكام بمجرد الاحتمال والشك.
وجعلوا من المتردد أيضًا قول من قال: إنه العدول عن حكم
الدليل إلى العادة لمصلحة الناس، فقالوا: إن كانت العادة هي الثابتة في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت بالسنة، وإن كانت هي الثابتة في عصر الصحابة، من غير
إنكار، فقد ثبت بالإجماع، وأما غيرها، فإن كان نصًّا "أو"** قياسا، مما
ثبت حجيته، فقد ثبت ذلك به، وإن كان شيئًا آخر، لم تثبت حجيته، فهو مردود قطعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": والعمل به.
** في "أ": وقياسا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 87.
ج / 2
ص -183- وقد ذكر الباجي أن الاستحسان الذي ذهب إليه
أصحاب مالك هو القول بأقوي الدليلين، كتخصيص بيع العرايا من بيع الرطب بالتمر1.
قال: وهذا هو الدليل، فإن سموه استحسانا فلا مشاحة في
التسمية.
وقال الأبياري: الذي يظهر من مذهب مالك القول
بالاستحسان، لا على ما سبق، بل حاصله استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي، فهو
يقدم الاستدلال المرسل على القياس.
ومثال: لو اشترى سلعة بالخيار، ثم مات وله ورثة، فقيل:
يرد، وقيل: يختار الإمضاء. قال أشهب: القياس الفسخ، ولكنا نستحسن إن أراد الإمضاء
أن يأخذ من لم يمضِ، إذا امتنع البائع من قبوله نصيب الراد.
قال ابن السمعاني: إن كان الاستحسان هو القول بما
يستحسنه الإنسان، ويشتهيه من غير دليل، فهو باطل، ولا أحد يقول به، ثم ذكر أن
الخلاف لفظي، ثم قال: فإن تفسير الاستحسان بما يشنع به عليهم لا يقولون به
"والذي يقولون به أنه العدول في الحكم من دليل إلى دليل أقوى منه"*،
فهذا مما لم ينكره أحد عليه، لكن هذا الاسم لا يعرف اسما لما "يقال
به"** وقد سبقه إلى مثل هذا القفال، فقال: إن كان المراد بالاستحسان ما دلت
عليه الأصول بمعانيها، فهو حسن، لقيام الحجة به، قال: فهذا لا ننكره ونقول به، وإن
كان ما يقع في الوهم من استقباح الشيء واستحسانه، من غير حجة دلت عليه، من أصل
ونظيره، فهو محظور، والقول به غير سائغ.
قال بعض المحققين: الاستحسان كلمة يطلقها أهل العلم على
ضربين:
أحدهما:
واجب بالإجماع، وهو أن يقدم الدليل الشرعي أو العقلي،
لحسنه2، فهذا يجب العمل به؛ لأن الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع.
والضرب الثاني: أن يكون على مخالفة الدليل، مثل أن يكون
الشيء محظورا بدليل شرعي، وفي عادات الناس "إباحته، أو يكون في الشرع دليل
يغلظه وفي عادات الناس التخفيف"*** فهذا عندنا يحرم القول به، ويجب اتباع
الدليل، وترك العادة والرأي، سواء كان ذلك الدليل نصًّا، أو إجماعًا أو قياسا.
انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": مكانها: وإن تفسير الاستحسان
بالعدول عن دليل أقوى منه.
** في "أ": يقاربه.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ". وهو مثبت في
البحر المحيط 6/ 90.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مالك في الموطأ، كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع
العرية 14، 2/ 619 وتقدم تخريجه 1/ 152.
2 مثاله: القول بحدوث العالم وقدم المحدث ا. هـ البحر
المحيط 6/ 90.
ج / 2
ص -184- فعرفت بمجموع ما ذكرنا أن ذكر الاستحسان في بحث
مستقل لا فائدة فيه أصلا؛ لأنه إن كان راجعا إلى الأدلة المتقدمة فهو تكرار، وإن
كان خارجا عنها فليس من الشرع في شيء، بل هو من التقول على هذه الشريعة بما لم يكن
فيها تارة، وبما يضادها أخرى.
البحث الخامس: المصالح المرسلة
قد قدمنا الكلام فيها في مباحث القياس، وسنذكر ههنا بعض
ما يتعلق بها تتميما للفائدة، ولكونها قد ذكرها جماعة من أهل الأصول في مباحث
الاستدلال، ولهذا سماها بعضهم بالاستدلال المرسل، وأطلق إمام الحرمين، وابن
السمعاني عليها اسم الاستدلال1.
قال الخوارزمي: والمراد بالمصلحة المحافظة على مقصود
الشرع، بدفع المفاسد عن الخلق.
قال الغزالي: هي أن يوجد معنى يشعر بالحكم، مناسب عقلا،
ولا يوجد أصل متفق عليه.
وقال ابن برهان: هي ما لا تستند إلى أصل كلي ولا جزئي.
وقد اختلفوا في القول بها على مذاهب.
الأول: منع التمسك بها مطلقًا وإليه ذهب الجمهور.
والثاني:
الجواز مطلقًا، وهو المحكي عن مالك، قال الجويني في
"البرهان": وأفرط في القول بها حتى جره إلى استحلال القتل وأخذ المال
لمصالح يقتضيها في غالب الظن، وإن لم يجد لها مستندا، وقد حكى القول بها عن
الشافعي، في "قوله"* القد يم، وقد أنكر جماعة من المالكية ما نسب إلى مالك من القول
بها، ومنهم القرطبي. وقال: ذهب الشافعي، ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى عدم الاعتماد عليها،
وهو مذهب مالك، قال: وقد اجترأ إمام الحرمين الجويني، وجازف فيما نسبه إلى مالك من
الإفراط في هذا الوصل، وهذا لا يوجد في كتب مالك ولا في شيء من كتب أصحابه.
قال ابن دقيق العيد: الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحا على
غيره من الفقهاء، في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما من
اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيح في الاستعمال لها على غيرهما. انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": القول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المستصفى 1/ 284 والبحر المحيط 6/ 76.
ج / 2
ص -185- قال القرافي: هي عند التحقيق في جميع المذاهب؛
لأنهم يقومون ويقعدون بالمناسبة، ولا يطلبون شاهدا بالاعتبار، ولا نعني بالمصلحة
المرسلة إلا ذلك.
الثالث: إن كانت ملائمة لأصل كلي من أصول الشرع، أو لأصل
جزئي، جاز بناء الأحكام عليها، وإلا فلا.
وحكاه ابن برهان في "الوجيز" عن الشافعي،
وقال: إنه الحق المختار.
قال إمام الحرمين: ذهب الشافعين ومعظم أصحاب أبي حنيفة
إلى "اعتماد"* تعليق الأحكام بالمصالح المرسلة، بشرط
"ملائمته"** للمصالح المعتبرة المشهود لها بالأصول.
الرابع: إن كانت تلك المصلحة ضرورية، قطعية، كلية، كانت
معتبرة، فإن فقد أحد هذه الثلاثة لم تعتبر، والمراد بالضرورية أن تكون من
الضروريات الخمس1، وبالكلية أن تعم جميع المسلمين، لا لو كانت لبعض الناس دون بعض،
أو في حالة مخصوصة دون حالة، واختار هذا الغزالي، والبيضاوي، ومثل الغزالي للمصلحة
المستجمعة "الشرائط"*** بمسألة الترس؛ وهي ما إذا تترس الكفار بجماعة من
المسلمين، وإذا رمينا قتلنا مسلما من دون جريمة منه، ولو تركنا الرمي لسلطنا
الكفار على المسلمين، فيقتلونهم، ثم يقتلون الأسارى الذين تترسوا بهم، فحفظ
المسلمين بقتل من تترسوا به من المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع؛ لأنا نقطع أن
"الشارع"**** يقصد تقليل القتل، كما يقصد حسمه عند الإمكان، فحيث لم
نقدر على الحسم، فقد قدرنا على التقليل، وكان هذا التفاتا إلى مصلحة، علم بالضرورة
كونها مقصودة للشرع، لا بدليل واحد، بل بأدلة خارجة عن الحصر ولكن تحصيل هذا
المقصود بهذا الطريق، وهو قتل من لم يذنب لم يشهد له اصل "معين"*****،
فينقدح اعتبار هذه المصلحة بالأوصاف الثلاثة، وهي كونها ضرورية، كلية، قطعية، فخرج
بالكلية ما إذا أشرف جماعة في سفينة على الغرق، ولو غرق بعضهم لنجوا، فلا يجوز
تغريق البعض، وبالقطعية ما إذا شككنا في كون الكفار يتسلطون عند عدم رمي الترس "وبالضرورية
ما إذا تترسوا في قلعة بمسلم فلا يحل رمي الترس"****** إذ لا ضرورة بنا إلى
أخذ القلعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": الملائمة.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": الشرع.
***** ما بين قوسين ساقط من "أ".
****** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الضروريات الخمس: وهي حفظ النفس والمال والنسب والدين
والعقل ا. هـ انظر شرح التلويح على التوضيح 2/ 63.
ج / 2
ص -186- قال القرطبي: هي بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف
في اعتبارها، وأما ابن المنير، فقال: هو احتكام من قائله، ثم هو تصوير بما لا يمكن
عادة، ولا شرعا، أما عادة: فلأن القطع في الحوادث المستقلة لا سبيل إليه؛ إذ هو عبث
وعناد، وأما شرعا: فلأن الصادق المعصوم قد أخبرنا بأن الأمة لا يتسلط عدوها عليها
ليستأصل شأفتها1.
قال: وحاصل كلام الغزالي رد الاستدلال بها، لتضييقه في
قبولها باشتراط ما لا يتصور وجوده. انتهى.
قال الزركشي: وهذا تحامل منه، فإن الفقيه يفرض المسائل
النادرة، لاحتمال وقوعها، بل المستحيلة لرياضة "الأذهان"*، ولا حجة له
في الحديث؛ لأن المراد به كافة الخلق، وتصوير الغزالي إنما هو في أهل محلة
بخصوصهم، استولى عليهم الكفار، لا جميع العالم، وهذا واضح. انتهى.
قال ابن دقيق العيد: لست أنكر على من اعتبر أصل المصالح،
لكن الاسترسال فيها، وتحقيقها محتاج إلى نظر سديد، وربما يخرج عن الحد، وقد نقلوا
عن عمر رضي الله عنه أنه قطع لسان الحطيئة2 بسبب الهجو، فإن صح ذلك فهو من باب
العزم على المصالح المرسلة، وحمله على التهديد الرادع للمصلحة أولى من حمله على
حقيقة القطع للمصلحة، وهذا يجر إلى النظر فيما يسمى مصلحة مرسلة.
قال: وشاورني بعض القضاة في قطع أنملة شاهد، والغرض منعه عن الكتابة
بسبب قطعها، وكل "هذه"** منكرات عظيمة الموقع في الدين، واسترسال قبيح
في أذى المسلمين. انتهى.
ولنذكر ههنا فوائد لها بعض اتصال بمباحث الاستدلال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الأفهام.
** في "أ": هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم من حديث ثوبان المطول بلفظ: وإني سألت ربي
لأمتي أن لا يهلكهم بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوًّا من غيرهم فيهلكهم ولا
يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض..." كتاب الفتن، باب هلاك هذه الأمة بعضهم
ببعض 2889. وأخرجه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب ما يكون من الفتن 3952. البيهقي في السنن،
كتاب السير، باب إظهار دين النبي صلى الله عليه وسلم على الأديان 9/ 181. ابن حبان في
صحيحه 6714، 7238. وأخرج بنحوه أبو داود، كتاب الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها
4252. وأحمد في مسنده 5/ 278. والترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في سؤال النبي صلى
الله عليه وسلم ثلاثا في أمته 2176.
2 هو جرول بن أوس بن مالك العبسي، شاعر مخضرم، أدرك
الجاهلية والإسلام فأسلم، ثم ارتد، وكان هجاءً مُرًّا، لم يكد يسلم من لسانه أحد،
وهجا أمه وأباه ونفسه، من آثاره: ديوان شعر ا. هـ معجم المؤلفين 3/ 128 الأعلام 2/ 118 هدية العارفين
1/ 251. كشف الظنون 1/ 785.
ج / 2 ص -187- فوائد تتعلق بالاستدلال:
الفائدة الأولي: في قول الصحابي
اعلم:
أنهم قد اتفقوا على أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد
ليس بحجة على صحابي آخر، وممن نقل هذا الاتفاق القاضي أبو بكر، والآمدي، وابن
الحاجب، وغيرهم.
واختلفوا هل يكون حجة على من بعد الصحابة من التابعين،
ومن بعدهم، على أقوال1:
الأول:
أنه ليس بحجة مطلقًا، وإليه ذهب الجمهور.
الثاني:
أنه حجة شرعية، مقدمة على القياس، وبه قال أكثر الحنفية،
ونقل عن مالك، وهو قديم قولي الشافعي.
الثالث:
أنه حجة إذا انضم إليه القياس، فيقدم حينئذ على قياس ليس
معه قول صحابي، وهو ظاهر قول الشافعي في "الرسالة".
قال: وأقوال الصحابة إذا تفرقا نصير منها إلى ما وافق الكتاب، أو
السنة، أو الإجماع، أو كان أصح في القياس، وإذا قال واحد منهم القول لا يحفظ عن
غيره منهم له فيه موافقة ولا مخالفة، صرت إلى إتباع قول واحدهم إذا لم أجد كتابا،
ولا سنة، ولا إجماعا، ولا شيئًا يحكم له بحكمه، أو وجد معه قياس. انتهى.
وحكى القاضي حسين، وغيره من أصحاب الشافعي عنه أنه يرى في
الجديد أن قول الصحابي حجة، إذا عضده القياس، وكذا حكاه عنه القفال الشاشي، وابن
القطان.
قال القاضي في "التقريب": إنه الذي قاله
الشافعي في الجديد، واستقر عليه مذهبه، وحكاه عنه المزني، وابن أبي هريرة.
الرابع:
أنه حجة إذا خالف القياس؛ لأنه لا محمل له إلا التوقيف،
وذلك أن القياس والتحكم في دين الله باطل، فيعلم أنه لم يقلد إلا توقيفا.
قال ابن برهان في "الوجيز": وهذا هو الحق
المبين، قال: ومسائل الإمامين أبي حنيفة، والشافعي رحمهما الله تدل عليه. انتهى2.
ولا يخفاك أن الكلام في قول الصحابي إذا كان ما قاله من
مسائل الاجتهاد، أما إذا لم يكن منها، ودل دليل على التوقيف، فليس مما نحن بصدده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر فواتح الرحموت 2/ 185 والبحر المحيط 6/ 53.
2 انظر تتمة البحث مفصلا في البحر المحيط 6/ 59.
ج / 2
ص -188- والحق: انه ليس بحجة فإن الله سبحانه لم يبعث
إلى هذه الأمة إلا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، وليس لنا إلا رسول واحد، وكتاب
واحد، وجميع الأمة مأمورة باتباع كتابة، وسنة نبيه، ولا فرق بين الصحابة
"وبين"* من بعدهم، في ذلك، فكلهم مكلفون بالتكاليف الشرعية، وباتباع
الكتاب والسنة، فمن قال: إنها تقوم الحجة في دين الله عز وجل بغير كتاب الله، وسنة
رسوله، وما يرجع إليهما، فقد قال في دين الله بما "لم"** يثبت، وأثبت في
هذه الشريعة الإسلامية شرعا لم يأمر الله به، وهذا أمر عظيم، وتقول بالغ فعن الحكم
لفرد أو أفراد من عباد الله بأن قوله، أو أقوالهم حجة على المسلمين يجب عليهم
العمل بها وتصير شرعا ثابتا متقررا تعم به البلوى، مما لا يدان الله عز وجل به،
ولا يحل لمسلم الركون إليه، ولا العمل عليه، فإن هذا المقام لم يكن إلا لرسل الله،
الذين أرسلهم بالشرائع إلى عباده لا لغيرهم، وإن بلغ فالعلم والدين عظم المنزلة أي
مبلغ، ولا شك أن مقام الصحبة مقام عظيم، ولكن ذلك في الفضيلة، وارتفاع الدرجة،
وعظمة الشأن، وهذا مسلم لا شك فيه، ولهذا "صار مد"*** أحدهم لا
"تبلغ إليه"**** من غيرهم الصدقة بأمثال الجبال، ولا تلازم بين هذا وبين
جعل كل واحد منهم بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجية قوله، وإلزام الناس
باتباعه، فإن ذلك مما لم يأذن الله به، ولا ثبت عنه فيه حرف واحد.
وأما ما تمسك به بعض القائلين بحجية قول الصحابي، مما
روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"1 فهذا
لم يثبت قط، والكلام فيه معروف عند أهل هذا الشأن، بحيث لا يصح العمل بمثله في
أدنى حكم من أحكام الشرع، فكيف مثل هذا الأمر العظيم والخطب الجليل، على أنه لو
ثبت من وجه صحيح لكان معناه أن مزيد عملهم بهذه الشريعة المطهرة، الثابتة من
الكتاب والسنة، وحرصهم على اتباعها، ومشيهم "في"***** طريقتها، يقتضي أن
اقتداء الغير بهم في العمل بها، واتباعها هداية كاملة؛ لأنه لو قيل لأحدهم لِمَ قلت
كذا "أو"****** لِمَ فعلت كذا، لَمْ ٍْْْيعجز من إبراز الحجة من الكتاب والسنة،
ولَمْ يتلعثم في بيان ذلك.
وعلى مثل هذا الحمل يحمل ما صح عنه صلى الله عليه وسلم
من قوله: "اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": وبين بعدهم.
** في "أ": لا.
*** في "أ": مد أحدهم.
**** في "أ": يبلغه.
***** في "أ": على.
******ما بين القوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في "1/ 186".
ج / 2 ص -189- وعمر"1 وما صح عنه من قوله صلى الله
عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين"2.
فاعرف هذا، واحرص عليه، فإن الله لم يجعل إليك وإلى سائر
هذه الأمة رسولا إلا محمدا صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرك باتباع غيره، ولا شرع لك
على لسان سواه من أمته حرفا واحدا ولا جعل شيئًا من الحجة عليك في قول غيره، كائنا
من كان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في 1/ 221.
2 تقدم تخريجه في 1/ 221.
الفائدة الثانية: الأخذ بأقل ما قيل
فإنه أثبته الشافعي، والقاضي أبو بكر الباقلاني، قال
القاضي عبد الوهاب: وحكى بعض الأصوليين إجماع أهل النظر عليه.
قال ابن السمعاني: وحقيقته أن يختلف المختلفون في أمر
على أقاويل، فيأخذ بأقلها إذا لم يدل على الزيادة دليل.
قال القفال الشاشي: هو أن يرد الفعل عن النبي صلى الله
عليه وسلم مبنيا لمجمل، ويحتاج إلى تحديده، فيصار إلى اقل ما يوجد، كما قال
الشافعي في أقل الجزية إنه دينار1.
وقال ابن القطان: هو أن يختلف الصحابة في تقدير، فيذهب
بعضهم إلى مائة مثلا، وبعضهم إلى خمسين، فإن كان ثَمَّ دلالة تعضد أحد القولين صير
إليها، وإن لم يكن دلالة، فقد اختلف فيه أصحابنا، فمنهم من قال يأخذ بأقل ما قيل.
ويقول: إن هذا مذهب الشافعي؛ لأنه قال: إن دية اليهودي
الثلث، وحكى اختلاف الصحابة فيه، وأن بعضهم قال بالمساواة، وبعضهم قال بالثلث فكان
هذا أقلها.
وقسم ابن السمعاني المسألة إلى قسمين:
أحدهما:
أن يكون ذلك فيما أصله البراءة، فإن كان الاختلاف في
وجوب الحق وسقوطه كان سقوطه أولى، لموافقة براءة الذمة، ما لم يقم دليل الوجوب،
وإن كان الاختلاف في قدره بعد الاتفاق على وجوبه، كدية الذمي إذا وجبت على قاتله،
فهل يكون الأخذ بأقله دليلا؟ اختلف أصحاب الشافعي فيه.
القسم الثاني:
أن يكون مما هو ثابت في الذمة، كالجمعة الثابت فرضها مع
اختلاف العلماء في عدد انعقادها، فلا يكون الأخذ بالأقل دليلا لارتهان الذمة بها،
فلا تبرأ الذمة بالشك.
وهل يكون الأخذ بالأكثر دليلا؟ فيه وجهان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك لأن الدليل قام أنه لا بد من تحديد فصار إلى أقل
ما حُكي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ من الجزية.
ج / 2 ص -190- أحدهما:
أن يكون دليلا، ولا ينتقل عنه إلا بدليل؛ لأن الذمة تبرأ
بالأكثر إجماعا، وفي الأقل خلاف، فلذلك جعلها الشافعي تنعقد بأربعين؛ لأن هذا
العدد أكثر ما قيل.
الثاني:
لا يكون دليلا؛ لأنه لا ينعقد من الخلاف دليل. انتهى1.
والحاصل: أنهم جعلوا الأخذ بأقل ما قيل متركبا من
الإجماع والبراءة الأصلية، وقد أنكر جماعة الأخذ بأقل ما قيل.
قال ابن حزم: وإنما يصح إذا أمكن ضبط أقوال جميع أهل
الإسلام، ولا سبيل إليه، وحكى قولا بأنه يؤخذ بأكثر ما قيل، ليخرج عهدة التكليف
بيقين.
ولا يخفاك أن الاختلاف في التقدير بالقليل والكثير إن
كان باعتبار الأدلة ففرض المجتهد "أن يأخذ"* بما صح له منها، مع الجمع
بينهما إن أمكن، أو الترجيح إن لم يمكن، وقد تقرر أن الزيادة الخارجة من مخرج
صحيح، الواقعة غير منافية للمزيد مقبولة، يتعين الأخذ بها، والمصير إلى مدلولها،
وإن كان الاختلاف في التقدير باعتبار المذاهب، فلا اعتبار عند "المجتهد"**
بمذاهب الناس، بل هو متعبد باجتهاده، وما يؤدي إليه نظره، من الأخذ بالأقل، أو
بالأكثر، أو بالوسط.
وأما المقلد فليس له من الأمر شيء، بل هو أسير إمامه في جميع
"مسائل"** دينه، وليته لم يفعل، وقد أوضحنا الكلام في التقليد في المؤلف
الذي سميناه "أدب الطلب"2، وفي الرسالة المسماه "القول المفيد في حكم
التقليد"3.
وكما وقع الخلاف في مسألة الأخذ بأقل ما قيل، كذلك وقع
الخلاف في الأخذ بأخف ما قيل، وقد صار بعضهم إلى ذلك، لقوله تعالى: {يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}4 وقوله: {وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}5 وقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت
بالحنيفية السمحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": الجمهور.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 29.
2 واسمهم" أدب الطلب ومنتهى الأرب" للإمام
محمد بن علي الشوكاني. ا. هـ البدر الطالع 2/ 222. هدية العارفين 2/ 365.
3 واسمه "القول المفيد في حكم التقليد وهو أيضًا
للإمام محمد بن علي الشوكاني. ا. هـ البدر الطالع 2/ 222. هدية العارفين 2/ 336.
4 جزء من الآية 185 من سورة البقرة.
5 جزء من الآية 78 من سورة الحج.
ج / 2
ص -191- السهلة"1 وقوله: "يسروا ولا تعسروا
وبشروا ولا تنفروا"2 وبعضهم صار إلى الأخذ بالأشق، ولا معنى للخلاف في مثل
هذا؛ لأن الدين كله يسر، والشريعة جميعها سمحة سهلة.
والذي يجب الأخذ به ويتعين العمل عليه هو ما صح دليله،
فإن تعارضت الأدلة لم يصلح أن يكون الأخف مما دلت عليه، أو الأشق مرجحا، بل يجب
المصير إلى المرجحات المعتبرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أحمد في مسنده من حديث عائشة قالت: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت
بحنيفية سمحة" 6/ 116-233 وذكره العجلوني في كشف الخفاء من حديث السيدة عائشة أيضًا 1/
217.
2 أخرجه مسلم من حديث أبي موسى، كتاب الجهاد، باب تأمير
الإمام الأمراء على البعوث 1732 وأبو داود، كتاب الأدب، باب كراهية المراء 4835.
وورد بلفظ أخر وهو: "يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا
تنفروا" من حديث أنس.
أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب كان النبي صلى الله عليه
وسلم يتخولهم بالموعظة 69. ومسلم، كتاب الجهاد، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير 1734.
وأحمد في مسنده 3/ 131. وأبو يعلى في مسنده 4172.
الفائدة الثالثة: النافي للحكم هل يلزمه الدليل؟
لا خلاف أن المثبت للحكم يحتاج إلى إقامة الدليل عليه.
وأما النافي له، فاختلفوا في ذلك على مذاهب:
الأول:
أنه يحتاج إلى إقامة الدليل على النفي.
نقله الأستاذ أبو منصور عن طوائف أهل الحق، ونقله ابن
القطان عن أكثر أصحاب الشافعي، وجزم به القفال، والصيرفي.
وقال الماوردي: إنه مذهب الشافعي، وجمهور الفقهاء
والمتكلمين.
وقال القاضي في "التقريب": إنه الصحيح، وبه قال
الجمهور، قالوا: لأنه مدعٍ، والبينة على المدعي، ولقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا
بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}1 فذمهم على نفي
ما لم يعلموه مبينا، ولقوله تعالى:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}2
في جواب قولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ
نَصَارَى}3، ولا يخافك أن الاستدلال بهذه الأدلة واقع في غير موضعه، فإن النافي
غير مدعٍ، بل قائم مقام المنع، متمسك بالبراءة الأصلية، ولا هو مكذب بما لم يحط
بعلمه، بل واقف حتى يأتيه الدليل، وتضطره الحجة إلى العمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 39 من سورة يونس.
2 جزء من الآية 111 من سورة البقرة.
3 جزء من الآية 111 من سورة البقرة.
ج / 2
ص -192- وأما قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فهو نصب للدليل في غير موضعه، فإنه إنما طلب منهم
البرهان لادعائهم أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى.
المذهب الثاني:
أنه لا يحتاج إلى إقامة دليل، وإليه ذهب أهل الظاهر، إلا
ابن حزم، فإنه رجح المذهب الأول..
قالوا: لأن الأصل في الأشياء النفي والعدم، فمن نفى
الحكم فله أن يكتفي بالاستصحاب، وهذا المذهب قوي جدا.
فإن النافي عهدته أن يطلب الحجة من المثبت حتى يصير
إليها، ويكفيه في عدم إيجاب الدليل عليه التمسك بالبراءة الأصلية، فإنه لا ينقل
عنها إلا دليل يصلح للنقل.
المذهب الثالث:
أنه يحتاج إلى إقامة الدليل في النفي العقلي، دون
الشرعي، حكاه القاضي في "التقريب"، وابن فورك:
المذهب الرابع:
أنه يحتاج إلى إقامة الدليل في غير الضروري، بخلاف
الضروري، وهذا اختاره الغزالي، ولا وجه له، فإن الضرورى يستغني بكونه ضروريا، ولا
يخالف فيه مخالف إلا على جهة الغلط، أو اعتراض الشبهة، ويرتفع عنه ذلك ببيان
ضروريته، وليس النزاع إلا في غير الضروري.
المذهب الخامس:
أن النافي إن كن شاكًّا فنفيه لم يحتج إلى دليل، وإن كان
نافيا له عن معرفة احتاج إلى ذلك إن كانت تلك المعرفة استدلالية لا إن كانت
ضرورية، فلا نزاع في الضروريات. كذا قال القاضي عبد الوهاب في الملخص ولا وجه له،
فإن النافي عن معرفة يكفيه "تكليف"* المثبت بإقامة الدليل، حتى يعمل به،
أو يرده؛ لأنه هو الذي جاء بحكم يدعي أنه واجب عليه، وعلى خصمه، وعلى غيرهما.
المذهب السادس:
أن النافي نفى العلم عن نفسه فقال: لا أعلم ثبوت هذا
الحكم، فلا يلزمه الدليل، وإن نفاه مطلقًا احتاج إلى الدليل؛ لأن نفي ال