Translate

الخميس، 15 يونيو 2023

ج3.وج4. المقتضب المقتضب{ج3 ]حمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى : 285هـ)

 

ج3.وج4. المقتضب المقتضب{ج3 ]حمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى : 285هـ)

الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع ان شاء الله

بسم الله الرحمن الرحيم

تمام القول في إن وأن الخفيفتين

هذا باب

أن المفتوحة وتصرفها

اعلم أنها إذا كانت مع الفعل مصدراً جاز تقديمها وتأخيرها، ووقعت في كل موضع تقع فيه الأسماء إلا أن معناها - إذا وقعت على فعل مستقبل - أنها تنصبه، وذلك الفعل لما لم يقع، ولا يكون للحال. وذلك قولك: أن تأتيني خيرٌ لك، ويسرني أن تقوم يا فتى، وأكره أن تذهب إلى زيد. فهذا هكذا. وإن وقعت على فعلٍ ماضٍ كانت مصدراً لما مضى. تقول: سرني أن قمت، وساءني أن كلمك زيد وأنت غضبان، على: أن كلمت زيدا، أي: لهذه العلة.

واعلم أنها إذا وقعت بعدها الأفعال المستقبلة، وكانت بينها وبينها لا، فإن عملها على حاله. تقول: أحب ألا تذهب يا فتى، وأكره ألا تكلم زيدا. والمعنى: أكره تركك كلام زيد. فإن أردت بها الثقيلة لم يجز أن يليها الفعل إلا أن تأتي بعوض مما حذفت من المضمر والتثقيل. ونحن ذاكروا ذلك إن شاء الله. وذلك قولك - إذا أردت الثقيلة - : قد علمت أن لا تقوم، تريد: أنك لا تقوم. ف لا عوضٌ. وهي - إذا أردت الخفيفة - غير فاصلة بين أن والفعل. فأما السين وسوف فلا يكون أن قبلهما إلا على التثقيل والإضمار؛ لأنهما ليستا ك لا؛ ألا ترى أنك تقول: مررت برجل لا قائمٍ ولا قاعدٍ، فيمون بمنزلة قولك: مررت برجل قائمٍ وقاعد في الإعراب، وإن كان الأول منفياً. وكذلك: كان عبد الله لا شجاعا ولا بطلا. ولا تقع السين وسوف هذا الموقع؛ فعلى هذا تقول: علمت أن سيقومون، وأن سوف يقومون. لا يكون إلا على ذلك. وللثقيلة أفعالٌ، وللخفيفة أفعال سواها، وذلك مذكور على إثر هذا الباب إن شاء الله. فإن أردت الثقيلة - مع الفعل الماضي - دخل من العوض قد، فقلت: قد علمت أن قد ذهب زيد، أي: أنه قد ذهب زيد.

هذا باب

الأفعال التي لا تكون أن معها إلا ثقيلة

والأفعال التي لا تكون معها إلا خفيفة والأفعال المحتملة للثقيلة والخفيفة

أما ما كان من العلم فإن أن لا تكون بعده إلا ثقيلة؛ لأنه شيء قد ثبت واستقر، وذلك قولك: قد علمت أن زيدا منطلق، فإن خففت فعلى إرادة التثقيل والإضمار. تقول: قد علمت أن سيقوم زيد، تريد: أنه سيقوم زيد. قال الله عز وجل: " علم أن سيكون منكم مرضى " ؛ لأنه شيء قد استقر. ألا ترى أنه لا يصلح: علمت أن يقوم زيد؛ لأن أن الخفيفة إنما تكون لما لم يثبت؛ نحو: خفت أن تقوم يا فتى، وأرجو أن تذهب إلى زيد؛ لأنه شيء لم يستقر. فكل ما كان من الرجاء والخوف فهذا مجازه. فأما الأفعال التي تشترك فيها الخفيفة والثقيلة فما كان من الظن. فأما وقوع الثقيلة فعلى أنه قد استقر في ظنك: كما استقر الأول في علمك. وذلك قولك: ظننت أنك تقوم، وحسبت أنك منطلق. فإذا أدخلت على المحذوفة العوض قلت: حسبت أن سيقومون، وكذلك تقول: ظننت أن لا تقول خيرا، تريد: أنك لا تقول خيرا. وأما النصب فعلى أنه شيء لم يستقر، فقد دخل في باب رجوت وخفت بهذا المعنى. وهذه الآية تقرأ على وجهين: " وحسبوا أن لا تكون فتنةٌ " و " أن لا تكون فتنةٌ " ، فانتصب ما بعد لا وهي عوضٌ؛ كما أوقعت الخفيفة الناصبة بعد ظننت بغير عوض. وذلك قوله عز وجل: " تظن أن يفعل بها فاقرةٌ " ، لأن معناها معنى ما لم يستقر. وكذلك: " إن ظنا أن يقيما حدود الله " . وزعم سيبويه أنه يجوز: خفت أن لا تقوم يا فتى، إذا خاف شيئاً كالمستقر عنده، وهذا بعيد. وأجاز أن تقول: ما أعلم إلا أن تقوم، إذا لم يرد علماً واقعا، وكان هذا القول جارياً على باب الإشارة؛ أي: أرى من الرأى؛ وهذا في البعد كالذي ذكرنا قبله. وجملة الباب تدور على ما شرحت لك من التبيين والتوقع. فأما قول الله عز وجل: " أفلا يرون أن لا يرجع إليهم " فإن الوجه فيه الرفع، والمعنى: أنه لا يرجع إليهم قولا؛ لأنه علم واقع. والوجه في قول الشاعر:

أفنى عرائكها وخدد لحمها ... أن لا تذوق مع الشكائم عودا

الرفع؛ لأنه يريد: إن الذي أفنى عرائكها هذا. فهذا على المنهاج الذي ذكرت لك.

هذا باب

ما لحقته إن وأن الخفيفتان في الدعاء

وما جرى مجراه

تقول: أما إن غفر الله لك، وإن شئت: أما أن، على ما فسرت لك في أما أنها تقع للتنبيه، وتقع في معنى قولك: حقاً؛ فالتقدير: أما إنه، وأما أنه غفر الله لك، فإن قلت: فكيف جاز الإضمار والحذف بغير عوض؟ فإنما ذلك لأنك لا تصل إلى قد؛ لأنك داعٍ، ولست مخبراً؛ ألا ترى أن الإضمار قد دخل في المكسورة لهذا المعنى، ولا يدخل فيها في شيء من الكلام. وتقول في المستقبل على هذا المنهاج: أما أن يغفر الله لك، تريد: أما أنه، وإن شئت: أما إن يغفر الله لك؛ لأنك لو أدخلت السين أو سوف لتغير المعنى، وكنت مخبراً، ولو أدخلت لا لانقلب المعنى، وصرت داعياً عليه؛ فلذلك جاز بغير عوض. ولما كانت المكسورة تحذف بتثقيلها مع الضمير في هذا الموضع ليوصل إلى هذا المعنى، ولا يقع ذلك فيها في شيء من الكلام غير هذا الموضع - كانت المفتوحة أولى - لأن الضمير فيها مع العوض. فأما قولك: قد علمت أن زيدٌ منطلقٌ فمعناه: أنه زيد منطلق، ولا تحتاج إلى عوض، كما قال الشاعر:

في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا ... أن هالكٌ كل من يحفى وينتعل

وإنما امتنع الفعل أن يقع بعدها بغير عوض؛ لأن الفعل لم يكن ليقع بعدها لو ثقلت، وأعملت كما يكون الاسم. فلم يكونوا ليجمعوا عليها الحذف بغير عوض، وأن يوقعوا بعدها ما لا تقع عليه لو ثقلت، وأعملت؛ لأنها بمنزلة الفعل، ولا يقع فعل على فعل.

هذا

باب النونين الثقيلة والخفيفة

ومعرفة مواقعها من الأفعال

اعلم أنهما لا تدخلان من الأفعال إلا على ما لم يجب، ولا يكون من ذلك إلا في الفعل الذي يؤكد ليقع. وذلك ما لم يكن خبراً فيما ضارع القسم. فأما القسم فإحداهما فيه واجبةٌ لا محالة. وأما ما ضارعه فأنت فيه مخير. وذلك قولك في القسم: والله لأقومن، وحق زيد لأمضين، فيلحق النون إما خفيفة وإما ثقيلةً، لا يكون القسم إلا كذاك. وقد شرحنا ذلك في باب القسم: لم كانت فيه واجبة؟ وأما الثقيلة فكقوله عز وجل: " ليسجنن وليكونن من الصاغرين " . وأما الخفيفة فعلى قراءة من قرأ: " وليكونن من الصاغرين " ، وكقوله: " كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية " ، وقال الشاعر:

وفي ذمتي لئن فعلت ليفعلا

فمن مواضعها: الأمر، والنهي؛ لأنهما غير واجبين. وذلك قولك - إذا لم تأت بهما - :اضرب، ولا تضرب، فإذا أتيت بها قلت: اضربن زيدا، ولا تضربن زيدا، وإن شئت ثقلت النون، وإن شئت خففتها. وهي - إذا خففت - مؤكدة، وإذا ثقلت فهي أشد توكيدا، وإن شئت لم تأت بها فقلت: اضرب، ولا تضرب. قال الله عز وجل: " ولا تقولن لشيءٍ إني فاعلٌ ذلك غدًا " ، وقال: " ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون " ، وقال: " فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون " . وقال الشاعر في الخفيفة:

فإياك والميتات لا تقربنها ... ولا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا

وقال الآخر:

فأنزلن سكينةً علينا

والطلب يجري مجرى الأمر والنهي، وقد مضى القول في هذا. ومن مواضعهما: الاستفهام؛ لأنه غير واجب. وذلك قولك: هل تضربن زيداً، وهل يقومن زيد يا فتى. وتدخل الخفيفة كما دخلت الثقيلة؛ لأنهما في التوكيد على ما ذكرت لك ومن مواضعها: الجزاء إذا لحقت ما زائدةً في حرف الجزاء؛ لأنها تكون كاللام التي تلحق في القسم في قولك: لأفعلن، وذلك قولك: إما تأتيني آتك، ومتى ما تقعدن أقعد. فمن ذلك قول الله عز وجل: " فإما ترين من البشر أحداً " ، وقال: " وإما تعرضن عنهم " . فإن كان الجزاء بغير ما قبح دخولها فيه، لأنه خبر يجب آخره بوجوب أوله. وإنما يجوز دخولها الجزاء بغير ما في الشعر للضرورة؛ كما يجوز ذلك في الخبر. فمن ذلك قوله:

من تثقفن منهم فليس بآئبٍ ... أبداً، وقتل بني قتيبة شافي

فهذا يجوز؛ كما قال في الخبر:

ربما أوفيت في علمٍ ... ترفعن ثوبي شمالات

ومن أمثال العرب: بعينٍ ما أرينك وبألمٍ ما تختننه. فإنما أدخل النون من أجل ما الزائدة كاللام كما ذكرت لك.

هذا باب

الوقوف على النونين

الخفيفة والثقيلة

اعلم أنك إذا وقفت على الثقيلة كان الوقف عليها كالوقف على غيرها من الحروف المبنية على الحركة. فإن شئت كان وقفها كوصلها، وإن شئت ألحقت هاءً لبيان الحركة، كما تقول: ارمه، واغزه، واخشه، فهذا وجهها. وإن شئت قلت على قولك: ارم، اغز، اخش، فقلت: اضربن، وارمين، وقولن. فهذا أمر الثقيلة. فأما الخفيفة فإنها في الفعل بمنزلة التنوين في الاسم. فإذا كان ما قبلها مفتوحاً أبدلت منها الألف، وذلك قولك: اضربن زيداً. فإذا وقفت: قلت: اضربا، وكذلك: والله ليضربن زيداً. فإن وقفت قلت: لتضربا؛ كما قال: " لنسفعا بالناصية " . فإذا كان ما قبلها مضموماً أو مكسوراً، كان الوقف بغير نون ولا بدل منها؛ لأنك تقول في الأسماء في النصب: رأيت زيداً، فتبدل من التنوين ألفاً، وتقول في الرفع: هذا زيد. وفي الخفض: مررت بزيد، فلا يكون الوقف كالوصل.

وكذلك هذه الأفعال، تقول للجماعة - إذا أردت النون الخفيفة - اضربن زيدا، فإن وقفت قلت: اضربوا، واضربن زيدا يا امرأة، فإن وقفت قلت: اضربي. وفي نسخة أخرى: وكذلك هذه الأفعال. تقول: والله لتضربن زيدا فإن وقفت قلت. لتضربون، وتقول: هل تضربن زيدا يا امرأة، فإن وقفت قلت: هل تضربين فهذا نظير ما ذكرت لك. ولا فصل بين النون الخفيفة في الأفعال وبين التنوين في الأسماء، إلا أن النون تحذف إذا لقيها ساكن، والتنوين يحرك لالتقاء الساكنين.

وقد يجوز حذفه في الشعر وفي ضعف من الكلام، فتقول: - إذا أردت النون الخفيفة - : اضرب الرجل. حذفت النون لالتقاء الساكنين، فهذا أمرها. وإنما حذفت وخالفت التنوين، لأن ما يلحق الأفعال أضعف مما يلحق الأسماء؛ لأن الأفعال أنت في إدخال النون عليها مخير، إلا ما وقع منها في المستقبل في القسم، والأسماء كل ما ينصرف منها فالنون التي تسمى التنوين لازمةٌ فيه، والأسماء هي الأول، والأفعال فروع ودواخل عليها. وإذا وقفت على النون الخفيفة في فعل لجميع مرتفع، حذفت النون.

هذا باب

تغيير الأفعال للنونين

الخفيفة والثقيلة

اعلم أن الأفعال - مرفوعةً كانت أو منصوبةً أو مجزومةً - فإنها تبنى مع دخول النون على الفتحة؛ وذلك أنها والنون كشيء واحد، فبنيت مع النون بناء خمسة عشر. ولم تسكن لعلتين: إحداهما: أن النون الخفيفة ساكنة، والثقيلة نونان، الأولى منهما ساكنة، فلو أسكنت ما قبلها لجمعت بين ساكنين. والعلة الأخرى: أنك حركتها؛ لتجعلها مع النون كالشيء الذي يضم ليع غيره، فيجعلان شيئاً واحداً؛ نحو: بيت بيت، وخمسة عشر. وإنما اختاروا الفتحة؛ لأنها أخف الحركات. وذلك قولك للرجل: هل تضربن زيدا؟ والله لتضربن زيدا. فالفعلان مرفوعان. وتقول في الموقوف، والمجزوم: اضربن زيدا، ولا تضربن عمرا، وإما تغزون زيدا أغزه. كما قال عز وجل: " وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك " . فإذا ثنيت، أو جمعت، أو خاطبت مؤنثاً، فإن نظير الفتح في الواحد حذف النون مما ذكرت لك. تقول للمرأة: هل تضربن زيدا؟ ولا تضربن عمرا؛ فتكون النون محذوفة التي كانت في تضربين؛ ألا ترى أنك إذا قلت: لن تضرب يا فتى، قلت للمرأة - إذا خاطبتها - : لن تضربي، وكذلك لم تضربا، ولن تضربوا للاثنين والجماعة. فحذف النون نظير الفتحة في الواحد، وذهبت الياء في قولك: اضربن زيدا لالتقاء الساكنين. وكذلك تذهب الواو في الجماعة إذا قلت: اضربن زيدا، وهل تخرجن إلى زيد؛ فهذا نظير ما ذكرت لك. فإن كان قبل الواو والياء فتحة، لم تحذفهما لالتقاء الساكنين، وحركتا؛ لأنه إنما تحذف الواو التي قبلها ضمة، والياء التي قبلها كسرة؛ لأنهما إذا كانتا كذلك كانتا حرفي لين كالألف. ألا ترى أنك تقول: ارم الرجل، وارموا الرجل، فتحذف لالتقاء الساكنين. وتقول: اخشوا الرجل، واخشي الرجل، فتحرك، ولا تحذف، لأنهما بمنزلة الحروف التي هي غير معتلة. ومع ذلك فإنك لو حذفت ما قبله الفتحة لالتقاء الساكنين، لخرج اللفظ إلى لفظ الواحد المذكر، وذهبت علامة التأنيث وعلامة الجمع، فكنت تقول: اخش الرجل. فتقول على هذا للجماعة: اخشون الرجل، وللمرأة: اخشين زيدا. وكل ما جرى مما قبله مفتوح فهذه سبيله.

هذا باب

فعل الاثنين والجماعة من النساء..

في النون الثقيلة وامتناعهما من النون الخفيفة

اعلم أنك إذا أمرت الاثنين، وأردت النون الثقيلة قلت: اضربان زيدا. تكسر النون لأنها بعد ألف، فهي كنون الاثنين، والنون الساكنة المدغمة فيها ليس بحاجز حصين لسكونها. وكذلك: والله لتضربان زيدا، وجميع ما تصرفت فيه، فهذا سبيلها في الاثنين. قال الله عز وجل: " ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون " . فإذا أوقعتها في جمع النساء قلت: اضربنان زيدا. زدت ألفا؛ لاجتماع النونات، ففصلت بها بينهن، كما زدت في قول من قال: آأنت فعلت ذاك، فتجعلها بين الهمزتين؛ إذ كان التقاؤهما مكروهاً، وكذلك: لتضربنان زيدا، وكسرت هذه النون بعد هذه الألف؛ لأنها أشبهت ألف الاثنين. تفعل بالنون بعدها ما تفعل بها بعد ألف التثنية، فلا تحذف؛ لأنها علامة، ولأنك كنت إن حذفتها لا تفرق بين الاثنين والواحد. وأما الألف التي أدخلتها للفصل بين النونات فلم تكن لتحذفها؛ لأن الخفيفة إنما تقع في موقع الثقيلة. فإن قلت: فأجئ بها، وأحرك النون لالتقاء الساكنين، كان ذلك غير جائز؛ لأن النون ليست بواجبة، وأنت إذا جئت بها زائدةً، وأحدثت لها حركة، فهذا ممتنع. وإن تركتها على سكونها جمعت بين ساكنين ومع هذا فإنها كانت في الاستفهام وفي القسم وفي المواضع التي يكون فيها الفعل مرفوعاً تلتبس بنون الاثنين، ولا سبيل إلى اجتماعهما لما ذكرت لك من أن الفعل يبنى معها على الفتح. وإنما حذفت النون في التثنية والجمع وفعل المرأة - إذا خوطبت - لأنها كالفتح في الواحد؛ ألا ترى أنك تقول للمرأة: هل تضربن زيدا إذا أردت النون الخفيفة، وللجماعة من الرجال: هل تضربن زيدا؛ فهذا ما ذكرت لك.

وكان يونس بن حبيب يرى إثباتهما في فعل الاثنين وجماعة النسوة، فيقول: اضربان زيدا، وللنساء: اضربنان زيدا، فيجمع بين ساكنين، ولا يوجد مثل هذا في كلام العرب إلا أن يكون الساكن الثاني مدغماً والأول حرف لين، وقد مضى تفسير هذا. فإذا وقف يونس ومن يقول بقوله قال للاثنين: اضربا، وللجماعة من النساء: اضربنا، وإذا وصل فعل الاثنين قال: اضربان الرجل. وهذا خطأ على قوله، وإنما ينبغي على قياس قوله أن يقول: اضرب الرجل. فيحذف النون؛ لأنها تحذف لالتقاء الساكنين، كما ذكرت لك في أول الباب، ثم تحذف الألف التي في اضربا لعلامة التثنية؛ لأنها أيضاً ساكنة، فيصير لفظه لفظ الواحد إذا أردت به النون الخفيفة، ولفظ الاثنين بغير نون إذا حذفت ألفها لالتقاء الساكنين.

هذا باب

ما لا يجوز أن تدخله النون

خفيفةً ولا ثقيلةً وذلك ما كان مما يوضع موضع الفعل وليس بفعل

فمن ذلك قوله: صه و مه، وإيه يا فتى: إذا أردت أن يزيدك من الحديث، وإيهاً يا فتى، إذا كففته، و ويهاً يا فتى: إذا أغريته. وكذلك عليك زيدا، ودونك زيدا، ووراءك أوسع لك، وعندك يا فتى: إذا حذرته شيئاً بقربه. فكل هذه لا تدخلها نون؛ لأنها ليست بأفعال، وإنما هي أسماءٌ للفعل. ومن ذلك هلم في لغة أهل الحجاز؛ لأنهم يقولون: هلم للواحد، وللاثنين، والجماعة على لفظ واحد. وأما على مذهب بني تميم فإن النون تدخلها؛ لأنهم يقولون للواحد: هلم، وللاثنين: هلما، وللجماعة: هلموا، ولجماعة النسوة: هلممن، وللواحدة: هلمي؛ وإنما هي لمَّ لحقتها الهاء؛ فعلى هذا تقول: هلمن يا رجال، وهلمن يا امرأة، وهلممنان يا نسوة، فيكون بمنزلة سائر الأفعال.

هذا باب

حروف التضعيف في الأفعال

والمعتلة من ذوات الياء والواو في النونين

اعلم أنك تلزمهن في النونين ما تلزم الأفعال الصحيحة من بناء الفعل على الفتح، تقول: ردن يا زيد، ولا تقول: ارددن على قول من قال: اردد؛ لأن الدال الثانية تلزمها الحركة على ما ذكرت لك. وكذلك تقول: القين زيدا، وهل تغزون عمرا، وارمين خالدا، فتلزم الفعلين ما يلزم سائر الأفعال.

هذا باب

أمّا و إمّا

أما المفتوحة فإن فيها معنى المجازاة. وذلك قولك: أما زيدٌ فله درهم، وأما زيد فأعطه درهماً. فالتقدير: مهما يكن من شيءٍ فأعط زيدا درهماً، فلزمت الفاء الجواب؛ لما فيه من معنى الجزاء. وهو كلام معناه التقديم والتأخير. ألا ترى أنك تقول: أما زيدا فاضرب؛ فإن قدمت الفعل لم يجز؛ لأن أما في معنى: مهما يكن من شيء؛ فهذا لا يتصل به فعلٌ، وإنما حد الفعل أن يكون بعد الفاء. ولكنك تقدم الاسم؛ ليسد مسد المحذوف الذي هذا معناه، ويعمل فيه ما بعده. وجملة هذا الباب: أن الكلام بعد أما على حالته قبل أن تدخل إلا أنه لا بد من الفاء؛ لأنها جواب الجزاء؛ ألا تراه قال - عز وجل - " وأما ثمود فهديناهم " كقولك: ثمود هديناهم. ومن رأى أن يقول: زيدا ضربته نصب بهذا فقال: أما زيدا فاضربه. وقال: " فأما اليتيم فلا تقهر " فعلى هذا فقس هذا الباب. وأما إما المكسورة فإنها تكون في موضع أو، وذلك قولك: ضربت إما زيدا، وإما عمرا؛ لأن المعنى: ضربت زيدا أو عمرا، وقال الله عز وجل: " إما العذاب وإما الساعة " وقال: " إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً " . فإذا ذكرت إما فلا بد من تكريرها، وإذا ذكرت المفتوحة فأنت مخير: إن شئت وقفت عليها إذا تم خبرها. تقول: أما زيد فقائم، وأما قوله: " أما من استغنى. فأنت له تصدى. وما عليك ألا يزكى. وأما من جاءك يسعى. وهو يخشى. فأنت عنه تلهى " فإن الكلام مستغنٍ من قبل التكرير، ولو قلت: ضربت إما زيداً، وسكت، لم يجز؛ لأن المعنى: هذا أو هذا؛ ألا ترى أن ما بعد إما لا يكون كلاماً مستغنياً.

وزعم الخليل أن الفصل بين إما وأو أنك إذا قلت: ضربت زيدا أو عمرا فقد مضى صدر كلامك وأنت متيقن عند السامع، ثم حدث الشك بأو. فإذا قلت: ضربت إما زيدا فقد بنيت كلامك على الشك، وزعم أن إما هذه إنما هي إن ضمت إليها ما لهذا المعنى، ولا يجوز حذف ما منها إلا أن يضطر إلى ذلك شاعر، فإن اضطر جاز الحذف؛ لأن ضرورة الشعر ترد الأشياء إلى أصولها، قال:

لقد كذبتك نفسك فاكذبنها ... فإن جزعن وإن إجمال صبر

فهذا لا يكون إلا على إما. فأما في المجازاة إذا قلت: إن تأتني آتك، وإن تقم أقم، فإنك إن شئت زدت ما، كما تزيدها في سائر حروف الجزاء؛ نحو: أينما تكن أكن، ومتى ما تأتني آتك؛ لأنها: إن تأتني آتك، ومتى تقم أقم. فتقول على هذا - إن شئت - : إما تأتني آتك، وإما تقم أقم معك. وقد مضى تفسير هذا في باب الجزاء.

هذا باب

مذ ومنذ

أما مذ فيقع الاسم بعدها مرفوعاً على معنى، ومخفوضاً على معنى. فإذا رفعت فهي اسم مبتدأ وما بعدها خبره، غير أنها لا تقع إلا في الابتداء لقلة تمكنها وأنها لا معنى لها في غيره، وذلك قولك: لم آته مذ يومان، وأنا أعرفه مذ ثلاثون سنة، وكلمتك مذ خمسة أيام. والمعنى - إذا قلت: لم آته مذ يومان - : أنك قلت: لم أره، ثم خبرت بالمقدار والحقيقة والغاية. فكأنك قلت: مدة ذلك يومان. والتفسير: بيني وبين رؤية هذا المقدار، فكل موضع يرتفع فيه ما بعدها فهذا معناه. وأما الموضع الذي ينخفض ما بعدها فأن تقع في معنى في ونحوها؛ فيكون حرف خفض وذلك قولك: أنت عندي مذ اليوم، ومذ الليلة، وأنا أراك مذ اليوم يا فتى، لأن المعنى في اليوم وفي الليلة. وليس المعنى أن بيني وبين رؤيتك مسافةً، وكذلك: رأيت زيدا مذ يوم الجمعة يمدحك، وأنا أراك مذ سنةٌ تتكلم في حاجة زيد؛ لأنك تريد أنا في حال رؤيتك مذ سنة فإن أردت: رأيتك مذ سنةٌ، أي: غاية المسافة إلى هذه الرؤية سنةٌ، رفعت؛ لأنك قلت: رأيتك، ثم قلت: بيني وبين ذلك سنةٌ، فالمعنى: أنك رأيته، ثم غبرت سنةٌ لا تراه. وإذا قال: أنا أراك مذ سنةٍ، فإنما المعنى أنك في حال رؤيته لم تنقض وأن أولها مذ سنة؛ فلذلك قلت: أراك؛ لأنك تخبر عن حال لم تنقطع. فهذا شرط مذ وتفسيرها.فإن قال قائل: فما بالي أقول: لم أرك مذ يوم الجمعة، وقد رآه يوم الجمعة؟ قيل: إن النفي إنما وقع على ما بعد الجمعة، والتقدير: لم أرك مذ وقت رؤيتي لك يوم الجمعة، فقد أثبت الرؤية، وجعلتها الحد الذي منه لم أره. فهذا تفسيرها ومجرى ما كان هذا لفظه، واتصل به معناه.

فأما منذ فمعناها - جررت بها أو رفعت - واحد. وبابها الجر؛ لأنها في الأزمة لابتداء الغاية بمنزلة من في سائر الأسماء. تقول: لم أرك منذ يوم الجمعة، أي: هذا ابتداء الغاية؛ كما تقول: من عبد الله إلى زيد، ومن الكوفة سرت. فإن رفعت فعلى أنك جعلت منذ اسماً، وذهبت إلى أنها مذ في الحقيقة. وذلك قليل؛ لأنها في الأزمنة بمنزلة من في الأيام. فأما مذ فدل على أنها اسم: أنها محذوفة من منذ التي هي اسم؛ لأن الحذف لا يكون في الحرف؛ إنما يكون في الأسماء والأفعال، نحو: يد، ودم، وما أشبهه.

هذا الباب

التبيين والتمييز

اعلم أن التمييز يعمل فيه الفعل وما يشبهه في تقديره؛ ومعناه في الانتصاب واحدٌ وإن اختلفت عوامله. فمعناه: أن يأتي مبيناً عن نوعه، وذلك قولك: عندي عشرون درهماً، وثلاثون ثوباً. لما قلت: عندي عشرون، وثلاثون، ذكرت عدداً مبهماً يقع على كل معدود، فلما قلت درهماً عرفت الشيء الذي قصدت بأن ذكرت واحداً منه يدل على سائره، ولم يجز أن تذكر جمعا؛ لأن الذي قبله قد تبين أنه جمع، وأنه مقدار منه معلوم. ولم يجز أن يكون الواحد الدال على النوع معرفة؛ لأنه إذا كان معروفاً كان مخصوصاً، وإذا كان منكوراً كان شائعاً في نوعه. فأما النصب فإنما كان فيه؛ لأن النون منعت الإضافة، كما تمنعها إذا قلت: هؤلاء ضاربون زيدا. ولولا النون لأضفت فقلت: هؤلاء ضاربو زيدٍ؛ كما تقول: هذه عشرو زيدٍ، إلا أن الضاربين وما أشبهه أسماءٌ مأخوذةٌ من الفعل تضاف كما تضاف الأسماء، فإذا منعت النون الإضافة عملت هذه الأسماء فيما بعدها بما فيها من معنى الفعل، وكان المنصوب مفعولاً صحيحاً؛ لأنها أسماء الفاعلين في الحقيقة وفيها كنايتهم، فإذا قلت عشرون رجلاً فإنما انتصب بإدخالك النون ما بعدها تشبيها بذلك؛ كما أن قولك: إن زيدا منطلق، ولعل زيدا أخوك مشبهٌ بالفعل في اللفظ، ولا يكون منه فعل، ولا يفعل ولا شيء من أمثلة الفعل؛ وكما أن كان في وزن الفعل وتصرفه، وليست فعلا على الحقيقة. تقول: ضرب زيد عمرا، فتخبر بأن فعلا وصل من زيد إلى عمرو. فإذا قلت: كان زيد أخاك لم تخبر أن زيدا أوصل إلى الأخ شيئا، ولكن زعمت أن زيدا أخوه فيما خلا من الدهر. والتشبيه يكون للفظ، وللتصرف، والمعنى. فأما المعنى فتشبيهك ما بليس. وليس فعل وما حرف. والمعنى واحد. فهذا سبيل كل ما كانت النون فيه عاملة من التبيين. فإن قلت: هل يجوز عندي عشرو رجلٍ؟. فإن ذلك غير جائز؛ لأن الإضافة تكون على جهة الملك إذا قلت: عشرو زيد، فلو أدخلت التمييز على هذا المضاف لالتبس على السامع قصدك إلى تعريف النوع بتعريفك إياه صاحب العشرين، ولم يكن إلى النصب سبيلٌ؛ لأنه في باب الإضافة. كقولك: ثوب زيد، ودرهم عبد الله. والتبيين في بابه من النصب وإثبات النون؛ فامتنع من إدخاله في غير بابه مخافة اللبس. ومما ينصب قولك: هذا أفضلهم رجلا، وافره الناس عبدا. وذلك إنك كنت تقول في المصادر: أعجبني ضرب زيدٍ عمرا، فتضيف إلى زيد المصدر؛ لأنه فعله، فتشغل الإضافة بالفعل، فتنصب عمرا، لأنه مفعول. ولولا أنك أضفت إلى زيد لكان عمرو مخفوضاً بوقوع المضاف عليه؛ كما أنك لو لم تنون في قولك: ضاربون زيدا لحل زيد محل التنوين، وانخفض بالإضافة. فلما كان عشرون رجلاً بمنزلة ضاربين زيدا، كان قولك: لي مثله رجلاً. وأنت أفرههم عبداً بمنزلة أعجبني ضرب زيد عمرا، وشتمك خالدا. وكما امتنعت من أن تقول: عشرو درهمٍ للفصل بين التفسير والملك إذا قلت: عشرو زيد، امتنعت في قولك: أنت أفرههم عبداً من الإضافة؛ لأنك إذا قلت: أنت أفرههم عبداً فإنما عنيت مالك العبد. وإذا قلت: أنت أفره عبد في الناس فإنما عنيت العبد نفسه، إلا أنك إذا قلت: أنت أفره العبيد فقد قدمته عليهم في الجملة. وإذا قلت: أفره عبد في الناس، فإنما معناه: أنت أفره من كل عبدٍ إذا أفردوا عبداً عبداً؛ كما تقول: هذا خير اثنين في الناس، إذا كان الناس اثنين اثنين. ويجوز أن تقول - وهو حسن جداً - أنت أفره الناس عبيدا. وأجود الناس دوراً. ولا يجوز عندي عشرون دراهم يا فتى. والفصل بينهما: أنك إذا قلت: عشرون، فقد أتيت على العدد، فلم يحتج إلا إلى ذكر ما يدل على الجنس، فإذا قلت: هو أفره الناس عبدا، جاز أن تعني عبداً واحداً، فمن ثم حسن، واختير - إذا أردت الجماعة - أن تقول: عبيدا. قال الله عز وجل: " قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً " ، وقد يجوز أن تقول: أفره الناس عبداً فتعني جماعة العبيد نحو التمييز. والجمع أبين إذا كان الأول غير مخطور العدد. ومن التمييز ويحه رجلاً، ولله دره فارساً، وحسبك به شجاعاً، إلا أنه إذا كان في الأول ذكرٌ منه حسن أن تدخل من توكيداً لذلك الذكر. فتقول: ويحه من رجلٍ. ولله دره من فارسٍ؛ وحسبك به من شجاع ولا يجوز: عشرون من درهم ولا هو أمزههم من عبد لأنه لم يذكره في الأول. وأنا أرى قوله عز وجل: " وما بكم من نعمةٍ فمن الله " على هذا؛ كما تقول: من جاءني من طويلٍ

أعطيته، ومن جاءني من قصيرٍ منعنه؛ لأنك قدمت ذكره بقولك: من. واعلم أن التبيين إذا كان العامل فيه فعلاً جاز تقديمه؛ لتصرف الفعل. فقلت: تفقأت شحماً. وتصببت عرقاً. فإن شئت قدمت، فقلت: شحماً تفقأت. وعرقاً تصببت. وهذا لا يجيزه سيبويه؛ لأنه يراه كقولك: عشرون درهماً. وهذا أفرههم عبداً، وليس هذا بمنزلة ذلك؛ لأن عشرين درهماً إنما عمل في الدرهم ما لم يؤخذ من الفعل. ألا ترى أنه يقول: هذا زيد قائماً. ولا يجيز قائماً هذا زيد؛ لأن العامل غير فعل. وتقول: راكباً جاء زيد؛ لأن العامل فعل؛ فلذلك أجزنا تقديم التميز إذا كان العامل فعلاً. وهذا رأي أبي عثمان المازني. وقال الشاعر: فقدم التمييز لما كان العامل فعلاً:، ومن جاءني من قصيرٍ منعنه؛ لأنك قدمت ذكره بقولك: من. واعلم أن التبيين إذا كان العامل فيه فعلاً جاز تقديمه؛ لتصرف الفعل. فقلت: تفقأت شحماً. وتصببت عرقاً. فإن شئت قدمت، فقلت: شحماً تفقأت. وعرقاً تصببت. وهذا لا يجيزه سيبويه؛ لأنه يراه كقولك: عشرون درهماً. وهذا أفرههم عبداً، وليس هذا بمنزلة ذلك؛ لأن عشرين درهماً إنما عمل في الدرهم ما لم يؤخذ من الفعل. ألا ترى أنه يقول: هذا زيد قائماً. ولا يجيز قائماً هذا زيد؛ لأن العامل غير فعل. وتقول: راكباً جاء زيد؛ لأن العامل فعل؛ فلذلك أجزنا تقديم التميز إذا كان العامل فعلاً. وهذا رأي أبي عثمان المازني. وقال الشاعر: فقدم التمييز لما كان العامل فعلاً:

أتهجر ليلى للفراق حبيبها ... وما كان نفساً بالفراق تطيب

واعلم أن من التمييز ما يكون خفضاً. ولكن يكون على معنى أذكره لك: وذلك قولك: كل رجل جاءني فله درهم. فهذا شائعٌ في الرجال. ولكن معناه: كل الرجال إذا كانوا رجلاً رجلا، كقولك: كل اثنين أتياني فلهما درهمان. ومن ذلك قوله: مائة درهمٍ. وألف درهمٍ. وإنما معناه معنى عشرين درهماً. ولكنك أضفت إلى المميز؛ لأن التنوين غير لازم. والنون في عشرين لازمة؛ لأنها تثبت في الوقف، وتثبت مع الألف واللام. وقد مضى تفسير هذا في باب العدد. فأما قولك: زيد الحسن وجهها. والكريم أباً، فإنه خارج التقدير من باب الضارب زيد؛ لأنك تقول: هو الحسن الوجه يا فتى، وإن كان الخفض أحسن. وكذلك: هو حسنٌ الوجه. فهذا لا يكون فيه إلا النصب. لأن التنوين مانع، وقد ذكرنا هذا في بابه؛ فلذلك لم نذكر استقصاءه في هذا الموضع. فأما قولك: أنت أفره عبدٍ في الناس، فإنما معناه: أنت أحد هؤلاء الذين فضلتهم. ولا يضاف أفعل إلى شيء إلا وهو بعضه؛ كقولك: الخليفة أفضل بني هاشم. ولو قلت: الخليفة أفضل بني تميم كان محالاً؛ لأنه ليس منهم. وكذلك: هذا خير ثوب في الثياب إذا عنيت ثوبا. وهذا خيرٌ منك ثوبا إذا عنيت رجلاً. وكذلك تقول: الخليفة أفضل من بني تميم؛ لأن من دخلت للتفضيل، وأخرجتهم من الإضافة. فهذا وجه ذا. ولو قلت: ما أنت بأحسن وجهاً مني، ولا أفره عبداً - كان جيداً - فإن قصدت قصد الوجه بعينه قلت: هذا أحسن وجهٍ رأيته. إنما تعني الوجوه إذا ميزت وجهاً وجها. فعلى هذه الأصول فقس ما ورد عليك من هذا إن شاء الله.

هذا باب

التثنية على استقصائها

صحيحها ومعتلها

أما ما كان صحيحاً فإنك إذا أردت تثنيته سلمت بناءه، وزدت ألفاً ونوناً في الرفع، وياءً ونوناً في الخفض، ودخل النصب على الخفض؛ كما ذكرت لك في أول الكتاب؛ وذلك قولك في الرفع: زيدان، وعمران، وجعفران، وعطشانان، وعنكبوتان. فإن كان الاسم ممدوداً وكان منصرفاً، وهمزته أصلية، فهو على هذا. تقول في تثنية قراء: قراءان، وفي تثنية خطاء: خطاءان، وفي الخفض والنصب: خطاءين، وزيدين، وعمرين، وقراءين. وقد يكون قراوان على بعد؛ لعلة أذكرها إن شاء الله. وإن كان ممدوداً منصرفاً وهمزته بدلٌ من ياء أو واو، فكذلك. تقول: رداءان، وكساءان، وغطاءان. والقلب إلى الواو في هذا يجوز، وليس بجيد. وهو أحسن منه فيما كانت همزته أصلاً. وذلك قولك: كساوان، وغطاوان. وإن كان الممدود إنما مدته للتأنيث لم يكن في التثنية إلا بالواو، نحو قولك: حمروان، وخنفساوان، وصحراوان، ورأيت خنفساوين، وصحراوين. وإن كان المثنى مقصوراً فكان على ثلاثة أحرف نظرت في أصله: فإن كان من الواو أظهرت الواو، وإن كان من الياء أظهرت الياء، وذلك قولك في تثنية قفًا: قفوان، وعصا: عصوان، ورأيت قفوين، وعصوين. وأما ما كان من الياء فقولك في رحًى: رحيان، وحصًى: حصيان. وإنما فعلت ذلك لأن ألف التثنية تلحق الألف التي كانت في موضع اللام، وكذلك ياء التثنية، وهما ساكنان. فلا يجوز أن يلتقيا؛ فلا بد من حذف أو تحريك؛ فلو حذفت لذهبت اللام، فحركت. فرددت كل حيزٍ إلى أصله؛ كما كنت فاعلاً ذلك إذا ثنيت الفاعل في الفعل، وذلك قولك: غزا الرجل، ودعا، ثم تقول: غزوا، ودعوا؛ لأنك لو حذفت لالتقاء الساكنين لبقي الاثنان على لفظ الواحد. وتقول: رمى، وقضى، فإذا ثنيت قلت: رميا، وقضيا. فكذلك هذا المقصور في التثنية. فإن كان المقصور على أربعة أحرف فصاعداً كانت تثنيته بالياء من أي أصلٍ كان، وقد مضى تفسير هذا. وكذلك إن كانت ألفه زائدة للتأنيث أو للإلحاق. تقول: ملهيان، ومغزيان، وحباريان، وحبنطيان؛ كما تقول في الفعل: أغزيا، وغازيا، وراميا، واستغزيا، واستحييا، ونحوه؛ فعلى هذا مجرى جميع المقصور.

واعلم أن التثنية لا تخطئ الواحد. فإذا قيل لك: ثنه. وجب عليك أن تأتي بالواحد، ثم تزيد في الرفع ألفاً ونوناً، وفي الخفض والنصب ياءً ونوناً. فأما قولهم: جاء ينفض مذرويه؛ فإنما ظهرت فيه الواو؛ لأنه لا يفرد له واحدٌ. وكذلك: عقلته بثنايين ولو كان يفرد له واحدٌ لكان: عقلته بثنائين؛ لأن الواحد ثناءٌ فاعلم، وكنت تقول: مذريان؛ كما تقول: ملهيان، ولكنه بمنزلة قولك: الشقاوة، والعباية. بنيت على هذا التأنيث، وصارت الهاء حرف الإعراب، فظهرت الواو والياء. ولو بنيته على التذكير لم يكن إلا صلاءة، وعباءة؛ كما تقول: امرأة غزاءة؛ لأنك جئت إلى غزاءٍ - وقد انقلبت الواو فيه همزة - فأنثته على تذكيره، ولو كنت بنيته على التأنيث لكانت الهاء مظهرة للياء وللواو قبلها. فأما قولهم: خصيان فإنما بنوه على قولهم: خصيٌ فاعلم. ومن ثنى على قولهم: خصية لم يقل إلا: خصيتان. وكذلك يقولون: ألية وأليٌ في معنى. فمن قال: ألية قال: أليتان، ومن قال: ألي قال: أليان. قال الراجز:

ترتج ألياه ارتجاج الوطب

هذا باب

الإمالة

وهو أن تنحو بالألف نحو الياء. ولا يكون ذلك إلا لعلةٍ تدعو إليه. اعلم أن كل ألف زائدة أو أصلية فنصبها جائزٌ. وليس كل ألف تمال لعلة إلا نحن ذاكروها إن شاء الله. فمما يمال ما كان ألفه زائدةً في فاعل، وذلك نحو قولك: رجل عابدٌ، وعالمٌ، وسالمٌ؛ فإنما أملت الألف. للكسرة اللازمة لما بعدها. وهو موضع العين من فاعل. وإن نصبت في كل هذا فجيدٌ بالغٌ على الأصل وذلك قولك: عالم وعابد. وكذلك إذا كانت قبلها كسرة أو ياء، نحو قولك: عباد، وجبال، وحبال. كل هذا إمالته جائزةٌ. فأما عيال فالإمالة له ألزم، لأن مع الكسرة ياءً. فكل ما كانت الياء أقرب إلى ألفه أو الكسرة فالإمالة له ألزم. والنصب فيه جائز. وكل ما كثرت فيه الياءات أو الكسرات فالإمالة فيه أحسن من النصب.

واعلم أنه ما كان من فعل فإمالة ألفه جائزةٌ حسنة، وذلك نحو: صار بمكان كذا، وباع زيدٌ مالا؛ فإنما أملت؛ لتدل على أن أصل العين الكسر؛ لأنه من بعت، وصرت. والعين أصلها الكسر وألفها منقلبة من واو. إلا أنه فيما كانت ألفه منقلبة من ياء أحسن. فأما الواو فهو فيها جيد، وليس كحسنه في الياء؛ لأن فيه علتين، وإنما في ذوات الواو علةٌ واحدة، وهو أنه من فعل. وذلك قولك: خاف زيدٌ كذا، ومات زيدٌ في قول من قال: مت على وزن خفت. ومن قال: مت لم تجز الإمالة في قوله. وقد قرأ القراء: ذلك لمن خاف مقامي.

واعلم أن الألف إذا كانت منقلبة من ياءٍ في اسم أو فعل، فإمالتها حسنةٌ، وأحسن ذلك أن تكون في موضع اللام. وسنفسر لم ذلك إن شاء الله؟ وذلك قولك: رمى، وسعى، وقضى؛ وذلك لأن الألف هي التي يوقف عليها. والإمالة أبين، وهي التي تنتقل على الثلاثة، فتكون رابعة، وخامسة، وأكثر. فإذا كانت كذلك رجعت ذوات الواو إلى الياء؛ نحو: مغزيان، وملهيان، وقولك في الفعل: أغزيت وقد فسرنا هذا في بابه مستقصًى. فلما كانت الياء أمكن كانت الإمالة أثبت. فأما ما كان من ذوات الواو على ثلاثة أحرف فإن الإمالة فيه قبيحة؛ نحو: دعا، وغزا، وعدا وقد يجوز على بعد؛ لأن هذه الألف هي التي تمال في أغزى، ونحوه. فأما الأسماء فلا يجوز فيها الإمالة إذا كانت على ثلاثة أحرف؛ لأنها لا تنتقل انتقال الأفعال؛ لأن الأفعال تكون على فعل، وافعل، ونحوه، والأسماء لا تتصرف. وذلك قولك: قفاً، وعصاً. لا يكون فيهما، ولا في بابهما إمالةٌ؛ لأنهما من الواو. ولكن رحًى، وحصًى، ونوًى هذا كله تصلح إمالته. ولا تصلح الإمالة فيما ألفه في موضع العين إذا كانت واواً؛ نحو: قال، وطال، وجال؛ لأنها من واو، وليست بفعل كخفت؛ لأنك تقول: قلت، وطلت، وجلت.

هذا باب

ما كان على أربعة أحرف أصلية أو زائدة

اعلم أن ما كانت ألفه من ذلك طرفاً فالإمالة فيه جائزةٌ، وهي التي نختار؛ وذلك أنه لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه: إما أن تكون ألفه منقلبة من ياءٍ؛ نحو: مرمًى، ومسعًى؛ لأنه من سعيت، ورميت. وملهًى، ومغزًى من غزوت ولهوت، فإنها إذا كانت كذا ترجع إلى الياء في قولك: ملهيان، ومغزيان. وكلما ازدادت الحروف كثرةً كانت من الواو أبعد، وقد فسرنا لم ذلك في التصريف في باب أغزيت، واستغزيت؟ أو تكون الألف زائدة للتأنيث. فحقٌّ الزوائد أن تحمل على الأصول. فإذا كانت ذوات الواو ترجع إلى الياء فالزائد أولى؛ وذلك قولك في حبلى: حبليان، وحبليات. وكذلك سكرى، وشكاعى ونحوه. فأما الملحقة فنحو: حبنطًى، وأرطًى. ومعزًى تقول: أرطيان، ومعزيان، وحبنطيان. فكل هذا يرجع إلى الياء. فكذلك فافعل به إذا كانت الألف رابعة مقصورةً أو على أكثر من ذلك، اسماً كان أو فعلاً.

هذا باب

الحروف التي تمنع الإمالة

وهي حروف الاستعلاء، وهي سبعة أحرف: الصاد، والضاد، والطاء، والظاء، والقاف، والخاء، والعين. وذلك أنها حروف اتصلت من اللسان بالحنك الأعلى، وإنما معنى الإمالة: أن تقرب الحرف مما يشاكله من كسرةٍ أو ياءٍ. فإن كان الذي يشاكل الحرف غير ذلك ملت بالحرف إليه، فهذه الحروف منفتحة المخارج؛ فلذلك وجب الفتح. تقول: هذا عابد، وعالم، وعاند. فإذا جاءت هذه الحروف عينات ولامات في فاعل منعت الإمالة لما فيها، فقلت: هذا ناقد، ولم يجز ناقد من أجل القاف، وكذلك ضابط، وضاغط. فإن كانت هذه الحروف في موضع الفاءات من فاعل منعت الإمالة لقربها، وهي بعد الألف أمنع؛ لئلا يتصعد المتكلم بعد الانحدار. وذلك قولك: هذا قاسم، وصالح، وطالع، ولا تجوز الإمالة في شيءٍ من ذلك. فإن كان الحرف المستعلي بينه وبين الألف حرفٌ، والمستعلي متقدمٌ مكسور، فإن الإمالة حسنة. وذلك قولك: صفاف، وقفاف؛ لأن الكسرة أدنى إلى الألف من المستعلي، والنصب هاهنا حسن جداً، والإمالة أحسن لما ذكرت لك، وحسن النصب من أجل المستعلي. ولو كان المستعلي بعد حرف مكسور لم تجز الإمالة فيه؛ لأن المستعلي أقرب إلى الألف فهو مفتوح. وذلك قولك: رقاب، وحقاف؛ وكذلك رصاص فيمن كسر الراء، لا يكون إلا النصب فإن كان المستعلي في كلمة مع الألف وكان بعدها بحرف أو حرفين لم تكن إمالة. وذلك قولك: مساليخ، وصناديق. فإن قلت: فما قبل المستعلي مكسورٌ، فهلا كان هذا بمنزلة قفاف، وصفاف؟ فمن أجل أن المستعلي إنما انحدرت عنه، وأنت هاهنا لو كسرت كنت مصعداً إليه.

واعلم أنك تقول: مررت بمال لك، ومررت بباب لك، وليس بالحسن؛ لأن الألفين منقلبتان من واوين، من: مولت، وبوبت، وليست الحركة بلازمة. إنما تحذف في الخفض في الوصل، ولا تكون في الوقف، ولا في غير الخفض، فليست كعين فاعل؛ لأن الكسرة لازمة لها، والألف زائدة. ولكن لو قلت: هذا ناب، وهذا عابٌ لصلحت الإمالة؛ لأن الألفين منقلبتان من ياءٍ؛ لأنه من العيب، ومن قولك: نيبت في الأمر، وناب وأنياب، والنصب أحسن؛ لأن اللفظ أولى وليس في اللفظ كسرة، وإنما صلحت الإمالة؛ لأن الألف ياء في المعنى. فجملة الباب: أنه كل ما كان في الياء، أو الكسرة فيه أثبت، فالإمالة له ألزم، إلا أن يمنع مانع من المستعلية.

هذا باب

الراء في الإمالة

اعلم أن الراء مكررةٌ في اللسان، ينبو فيها بين أولها وآخرها نبوةً، فكأنها حرفان. فإن جاءت بعد الألف مكسورةً مالت الألف من أجلها. وذلك قولك: هذا عارم، وعارف. فكانت الإمالة هاهنا ألزم منها في عابد، ونحوه. فإن وقع قبل الألف حرف من المستعلية، وبعد الألف الراء المكسورة حسنت الإمالة التي كانت تمتنع في قاسم ونحوه؛ من أجل الراء، وذلك قولك: هذا قارب، وكذلك إن كان بين الراء وبين الألف حرف مكسور إذا كانت مكسورة. تقول: مررت بقادر يا فتى، وترك الإمالة أحسن؛ لقرب المستعلية من الألف، وتراخي الراء عنها، وينشد هذا البيت على الإمالة والنصب أحسن لما ذكرت لك وهو:

عسى الله يغني عن بلاد ابن قادرٍ ... بمنهمر جون الرباب سكوب

فإن لم يكن قبل الألف حرف من المستعلية، وكانت بعدها الراء على ما وصفت لك اختير إمالة الألف. وذلك قولك: من الكافرين. وإن قلت: من الكافر يا فتى، فالإمالة حسنة، وليس كحسنها في الكافرين؛ لأن الكسر في الكافرين لازم للراء وبعدها ياء، والكافر لا ياء فيه، وليست الكسرة بلازمة للراء إلا في الخفض، وهي في الجماعة تلزم في الخفض والنصب والوقف والإدراج، ولا تكون في الكافر في الوقف. فإن قلت: جاءني الكافر، فاعلم استوت الإمالة والنصب. فأما الإمالة فمن جهة كسرة الفاء. وأما النصب فإن الراء بعدها كحرفين مضمومين، وكذلك هي في النصب إذا قلت: رأيت الكافر يا فتى. ولو قلت: فلان باسطٌ يده، أو ناعق يا فتى، لم تصلح الإمالة من أجل المستعليين؛ لأن الراء - وإن كان قبلها التكرير - لا تحل محل المستعلية. ولو قلت: هذا قراب سيفك لصلحت الإمالة وإن كانت الراء مفتوحة؛ لأنها في الحقيقة في وزن حرف.

واعلم أن بني تميم يختارون فيما كان على وزن فعال من المؤنث إذا سمي به أن يكون بمنزلة سائر ما لا ينصرف، فيقولون: هذه حذام، ومررت بحذام يا فتى، ورأيت حذام. وأهل الحجاز يقولون: هذه حذام، ومررت بحذام. وقد بينا ذلك فيما ينصرف وما لا ينصرف. فإذا كان اسم من هذه الأسماء في آخره الراء اختارت بنو تميم مذهب أهل الحجاز؛ ليميلوا الألف؛ لأن إجناحها أخف عليهم، ولا سبيل إليه إلا أن يكسروا الراء. فيقولون: هذه حضار فاعلم، وطلعت حضار، والوزن، ومررت بسفار يا فتى. وينشدون هذا البيت للفرزدق:

متى ما ترد يوماً سفار تجد بها ... أديهم يرمي المستجيز المعورا

ومنهم من يمضي على لغته في الراء؛ كما يفعل في غيرها. قال الشاعر:

ومر دهرٌ على وبار ... فهلكت عنوةً وبار

والقوافي مرفوعة. ومما تمال ألفه ما كان قبلها فتحةٌ وفي ذلك الحرف ياء. وذلك قولك: نعم الله بك عينا، ورأيت زيناً، فالإمالة في هذا حسنة في الوقف من أجل الياء. فأما إذا وصلت فلا إمالة فيه من أجل أن الألف تذهب، ويصير مكانها التنوين. ولو قلت: هذا عمران لكانت الإمالة حسنة من أجل كسرة العين. فإن كان مكان الراء حرفٌ من المستعلية لم تصلح الإمالة؛ لأن المستعلي أقرب إلى الألف وهو مفتوح. فإن قلت فهذان مسلمان، فأملت من أجل كسرة اللام صلح، ويزيده حسنا علمك بأن النون مكسورة في الوصل، فإن قلت: مصلحان، أو مكرمان، لم تحسن الإمالة؛ لأنه لا كسر ولا ياء. فإن وصلت حسنت وهي بعيدة؛ لأن النون لا تلزمها الحركة في الوقف، كما أنك لو قلت: رأيت عنباً لم تكن إمالة؛ لأنه لا كسرة ولا ياء. وتقول: نعوذ بالله من النار، للتكرير الذي في الراء؛ لأن الحركة تلحق في الوصل. فإن قلت: وعد الكافرون النار، أو قلت: أحرقته النار، لم تكن إمالةٌ لما ذكرت لك. فأما قولهم: هذا رجل حجاج فلم تجز الإمالة؛ لأنه لا شيء يوجبها، ثم قالوا في الاسم الحجاج فإنما أمالوا للفصل بين المعرفة والنكرة، والاسم والنعت؛ لأن الإمالة أكثر، وليس بالحسن. النصب أحسن وأقيس.

هذا باب

ما يمال وينصب من الأسماء غير المتمكنة

والحروف

اعلم أنهم قالوا: ذا عبد الله، وهذا عبد الله، وقالوا في التهجي: باءٌ، وتاءٌ، وراءٌ؛ ليدلوا على أنها أسماء. فلو ألزمت النصب لالتبست بالحروف؛ لأن الحروف لا تصلح فيها الإمالة. فإن قلت: فهلا فعلوا ذلك في ما التي هي اسم لمضارعتها للحروف؛ لأنها لا تكون اسماً إلا بصلة، إلا في الاستفهام أو الجزاء، فهي في هذين مضارعة للحروف التي هي للاستفهام والجزاء. فأما في النفي فهي حرف وليس باسم، وكذلك هي زائدة في قولك: " فبما نقضهم ميثاقهم " ونحوه. فأما إما وحتى، وسائر الحروف التي ليست بأسماء فإن الإمالة فيها خطاٌ. ولكن متى تمال؛ لأنها اسم، وإنما هي من أسماء الزمان، ولا يستفهم بها إلا عن وقت. فأما عسى فإمالتها جيدةٌ؛ لأنها فعل، وألفها منقلبةٌ من ياء. تقول: عسيت؛ كما تقول: رمى ورميت. فأما على، وإلى فلا تصلح إمالتهما؛ لأن على من علوت، وهي اسم، يدلك على ذلك قولهم: جئت من عليه، أي: من فوقه قال الشاعر:

غدت من عليه تنفض الطل بعدما ... رأت حاجب الشمس اسيوى فترفعا

. قال الشاعر:

غدت من عليه بعد ما تم خمسها ... تصل وعن قيضٍ ببيداء مجهل

هذا باب

كم

اعلم أن كم اسم يقع على العدد، ولها موضعان: تكون خبراً، وتكون استفهاماً فمجراها مجرى عددٍ منون. وذلك قولك: كم رجلاً عندك؟ وكم غلاماً لك؟ تريد: أعشرون غلاماً أم ثلاثون، وما أشبه ذلك؛ كما أنك إذا قلت: أين عبد الله؟ أفي موضع كذا أو في موضع كذا؟ وإذا قلت: متى تخرج؟ فإنما معناه: أوقت كذا أم وقت كذا؟ إلا أنه يجوز لك في كم أن تفصل بينها وبين ما عملت فيه بالظرف فتقول: كم لك غلاماً؟ وكم عندك جاريةً؟ وإنما جاز ذلك فيها؛ لأنه جعل عوضاً لما منعته من التمكن. وأما عشرون ونحوها فلا يجوز أن تقول فيها: عشرون لك جارية، ولا خمسة عشر لك غلاماً إلا أن يضطر شاعر؛ كما قال حين اضطر:

على أنني بعد ما قد مضى ... ثلاثون للهجر حولاً كميلا

وقال الآخر:

في خمس عشرة من جمادى ليلةً ... لا أستطيع على الفراش رقادي

وتقول: كم درهم لك؟ لأن التمييز وقع على غيره. فكأن التقدير: كم دانقاً درهم لك. وكم قيراطاً، وما أشبه ذلك؟ كما أنك إذا قلت: كم غلمانك؟ فإنما المعنى: كم غلاماً غلمانك؟ ولا يكون في قولك: كم غلمانك؟ إلا الرفع؛ لأنه معرفة، ولا يكون التمييز بالمعرفة. فإذا قلت: كم غلمانك؟ فتقديره من العدد الواضح: أعشرون غلاماً غلمانك؟ فإن قلت: أعشرون غلمانك؟ فذلك معناه، لأن ما أظهرت دليلٌ على ما حذفت. وتقول: بكم ثوبك مصبوغٌ؟؛ لأن التقدير: بكم مناً ثوبك مصبوغٌ؟ أو بكم درهماً؟ وتقول: على كم جذعاً بيتك مبنى؟ إذا جعلت على كم ظرفاً لبنى رفعت البيت بالابتداء، وجعلت المبنى خبراً عنه، وجعلت على كم ظرفاً لمبنى. فهذا على قول من قال: في الدار زيدٌ قائم، ومن قال: في الدار زيدٌ قائما، فجعل في الدار خبرا، قال: على كم جذعاً بيتك مبنيًّا؟ إذا نصب مبنياً جعل على كم ظرفاً للبيت؛ لأنه لو قال لك على المذهب: على كم جذعاً بيتك؟ لاكتفى؛ كما أنه لو قال: في الدار زيدٌ لاكتفى. ولو قال: بكم رجلٍ زيد مأخوذٌ؟ لم يجز إلا الرفع في مأخوذ؛ كما تقول: بعبد الله زيدٌ مأخوذٌ؛ لأن الظرف هاهنا إنما هو معلقٌ بالخبر. والبصريون يجيزون على قبح: على كم جذعٍ، وبكم رجلٍ؟ يجعلون ما دخل على كم من حروف الخفض دليلاً على من، ويحذفونها، ويريدون: على كم من جذعٍ، وبكم من رجلٍ؟ فإذا لم يدخلها حرف الخفض فلا اختلاف في أنه لا يحوز الإضمار. وليس إضمار من مع حروف الخفض بحسن ولا قوي، وإنما إجازته على بعد. وما ذكرت لك حجة من أجازه. فهذه كم التي تكون للاستفهام. فأما كم التي تقع خبراً فمعناها: معنى رب إلا أنها اسم، و رب حرفٌ وذلك قولك: كم رجلٍ قد رأيته أفضل من زيد. إن جعلت قد رأيته الخبر، وإن جعلت قد رأيته من نعت الرجل قلت: أفضل من زيد رفعت أفضل؛ لأنك جعلت أفضل خبراً عن كم؛ لأن كم اسم مبتدأ. فأما رب إذا قلت: رب رجل أفضل منك فلا يكون له الخبر؛ لأنها حرف خفض وكم لا تكون إلا اسماً. ألا ترى أن حروف الخفض تدخل عليها، وأنها تكون فاعلة ومفعولة. تقول: كم رجلٍ ضربك، فهي هاهنا فاعلة. فإذا قلت: كم رجلٍ قد رأيت، فهي مفعولة، وكذلك لو قلت: كم رجلٍ قد رأيته لكانت مرفوعة؛ لأنها ابتداء؛ لشغلك الفعل عنها، وكذلك تقول: إلى كم رجلٍ قد ذهبت فلم أره.

واعلم أن هذا البيت ينشد على ثلاثة أوجه، وهو:

كم عمة لك يا جرير وخالةٍ ... فدعاء قد حلبت علي عشاري

فإذا قلت: كم عمةٍ فعلى معنى: رب عمة. وإذا قلت: كم عمةً؟ فعلى الاستفهام: وإن قلت: كم عمةٌ أوقعت كم على الزمان فقلت: كم يوماً عمةٌ لك وخالةٌ قد حلبت علي عشاري، وكم مرةً، ونحو ذلك. فإذا قلت: كم عمةٍ فلست تقصد إلى واحدة، وكذلك إن نصبت، وإن رفعت لم تكن إلا واحدة؛ لأن التمييز يقع واحده في موضع الجميع، وكذلك ما كان في معنى رب؛ لأنك إذا قلت: رب رجلٍ رأيته لم تعن واحداً، وإذا قلت: كم رجلاً عندك؟ فإنما تسأل: أعشرون أو ثلاثون أو نحو ذلك؟. فإذا قلت كم درهمٌ عندك؟ فإنما تعني: كم دانقاً هذا الدرهم الذي أسألك عنه؟ فالدرهم واحد مقصود قصده بعينه؛ لأنه خبر، وليس بتمييز، وكذلك: كم جاءني صاحبك؟ إنما تريد: كم مرةً جاءني صاحبك. فإذا قلت: ما بال المستفهم بها ينتصب ما بعدها والتي في معنى رب ينخفض بها ما بعدها وكلاهما للعدد؟ فإن في هذا قولين: أحدهما: أن التي للخبر لما ضارعت رب في معناها اختير فيها ترك التنوين؛ ليكون ما بعدها بمنزلتها بعد رب، وتكون تشبه من العدد ثلاثة أثواب، ومائة درهم، فتكون غير خارجة من العدد، وقد أصبت بها ما ضارعته؛ كما أن المضاف إليه إنما خص بالخفض؛ لأنه على معنى اللام،. ألا ترى أن قولك: هذا غلام زيدٍ إنما معناه: هذا غلامٌ لزيد، وقد تجوز أن تكون منونة في الخبر، فينتصب ما بعدها فتقول: كم رجلاً قد أتاني. إلا أن الأجود ما ذكرنا؛ ليكون بينها وبين المستفهم بها فصل. فإن فصلت بينها وبين ما تعمل فيه بشيءٍ اختير التنوين؛ لأن الخافض لا يعمل فيما فصل منه، والناصب والرافع يعملان في ذلك الموضع، وذلك قولك: كم يوم الجمعة رجلاً قد أتاني، وكم عندك رجلاً قد لقيته، ويختار النصب في قوله:

كم نالني منهم فضلاً على عدمٍ ... إذ لا أكاد من الإقتار أحتمل

وقد زعم قومٌ أنها على كل حال منونة، وإن ما انخفض بعدها ينخفض على إضمار من. وهذا بعيدٌ؛ لأن الخافض لا يضمر؛ إذا كان وما بعده بمنزلة شيءٍ واحد، وقد ذكرناه بحججه مؤكدا. ومن فصل للضرورة بين الخافض والمخفوض فعل مثل ذلك في كم في الخبر. وذلك قوله:

كم بجودٍ مقرفٍ نال العلا ... وشريف بخله قد وضعه

وقال الآخر:

كم في بني سعد بن بكرٍ سيدٍ ... ضخم الدسيعة ماجدٍ نفاع

والقوافي مجرورة. وقال الآخر:

كم قد فاتني بطلٍ كميٍّ ... وياسر فتيةٍ سمحٍ هضوم

ولا يجوز أن تفصل بين الخافض والمخفوض في الضرورة إلا بحشوٍ كالظروف وما أشبهها مما لا يعمل فيه الخافض؛ كما تقول: إن اليوم زيد منطلقٌ. ولو كان مكان اليوم ما تعمل فيه إن لم يقع إلى جانبها إلا معمولاً فيه. ولولا أن هذه القوافي مخفوضة لاختير في هذين البيتين الرفع، وتوقع كم على مرار من الدهر، فتكون كم ظرفاً منصوباً؛ لأن كم اسم للعدد، فهي واقعة على كل معدود. وتقول: كم رجلاً جاءك؟ فإنما تسأل بها عن عدد الرجال. وتقول: كم يوماً لقيت زيدا؟ فتنصبها؛ لأنها واقعة على عدد الأيام واللقاء العامل فيها، فكذا كل مبهم. ولو قلت: كم يوماً لقيت فيه زيدا؟ لكانت كم في موضع رفع، كأنك قلت: أعشرون يوماً لقيت فيها زيدا؟ إلا أن كم في هذا الموضع استفهام. فهي في أنها اسم وأنها الحرف المستفهم به بمنزلة من، وما، وأين، ومتى، وكيف وإن كانت المعاني مختلفةً؛ لأن من إنما هي لما يعقل خاصةً حيث وقعت: من خبر، أو استفهام، أو جزاء، أو نكرة. وما لذات غير الآدميين، ولصفات الآدميين. وأين للمكان، ومتى للزمان، وكيف للحال، وكم للعدد، فهي داخلة على جميع هذا إذا سألت عن عدد نوعٍ منها؛ نحو: كم مكاناً قمت؟ وكم يوماً صمت؟ وكم حالاً تصرفت عليها؟ ونحو ذلك.

هذا باب

مسائل كم في الخبر والاستفهام

تقول: كم ثلاثةً ستةٌ إلا ثلاثتان نصبت ثلاثة؛ لأنها تمييز، وستةٌ خبر كم، وثلاثتان بدلٌ من كم. فالتقدير: أي شيءٍ من العدد ستةٌ إلا ثلاثتان؟. ولو قلت: كم لك درهمٌ؟ وأنت تريد: كم دانقا درهمٌ؟ لم يكن الدرهم إلا رفعاً، ولم ترد به إلا واحداً. ولو قلت: كم لك درهما؟ لكان لك خبراً، وكان الدرهم في موضع جماعة، لأنك تريد: كم من درهم لك؟ وتقول: كم دنانيرٌ عندك؟ ولا يجوز النصب في تمييزها بجماعة؛ كما لا تقول: إلا عشرون درهماً، ولا يجوز عشرون دراهم. فإن ذكرت كم التي تقع في الخبر جاز أن تقول: كم غلمانٍ قد رأيت، وكم أثوابٍ قد لبست؛ لأنها بمنزلة ثلاثة أثواب ونحوه من العدد، ولأنها مضارعةٌ رب وهما يقعان على الجماعة، ووقوعها على الواحد في معنى الجماعة لمضارعتها رب، وتشبه من العدد مائة درهم، وألف درهم.

واعلم أن كم لا بد لها من الخبر، لأنها اسم فهي مخالفة لرب في هذا، موافقةٌ لها في المعنى. تقول: كم رجلٍ قد رأيت أفضل منك، ورب إنما تضيف بها إلى ما وقعت عليه ما بعده؛ نحو: رب رجلٍ في الدار، ورب رجلٍ قد كلمته. فهذا معناها. ولو قلت: كم رجل قد أتاني لا رجلٌ، ولا رجلان كان جيداً، لأنك تعطف على كم ولا يجوز مثل هذا في باب رب؛ لأنها حرف. فأما قوله:

إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ... عاراً عليك ورب قتلٍ عار

فعلى إضمار هو. لا يكون إلا على ذلك. فهذا إنشاد بعضهم. وأكثرهم ينشده

وبعض قتل عار

فأما قوله: كم من رجلٍ قد رأيته؟ فتدخل من وأنت لا تقول: عشرون من رجل؛ فإنما ذلك لأن كم استفهامٌ، والاستفهام يدخل فيما وقع عليه من توكيداً وإعلاماً أنه واحد في معنى الجميع، وذلك: هل أتاك من أحد؟ كما تقول في المنفي: ما أتاني من رجل. ولو قلت: ما أتاني رجل، وهل أتاني رجل، لجاز أن تعني واحداً؛ والدليل على ذلك وقوع المعرفة في هذا الموضع؛ نحو: ما أتاني زيد. وهل أتاك زيد؟. ومعنى قولك: عشرون درهماً: إنما هو عشرون من الدراهم؛ لأن عشرون وما أشبهه اسم عدد. فإذا قلت: هذا العدد، فمعناه: من ذا النوع. فلما قلت: درهماً. جئت بواحد يدل على النوع. لاستغنائك عن ذكر العدد، فلما اجتمع في كم الاستفهام وأنها تقع سؤالاً عن واحد؛ كما تقع سؤالاً عن جمع، ولا تخص عدداً دون عدد لإبهامها. ولأنها لو خصت لم تكن استفهاماً؛ لأنها كانت تكون معلومة عند السائل، دخلت من على الأصل، ودخلت في التي هي خبر؛ لأنها في العدد والإبهام كهذه.

واعلم أن كل تمييز ليس فيه ذكر للمقصود فإن من لا تدخله إذا كان مفرداً، لأنك لو أدخلتها لوجب الجمع؛ وذلك قولك: عشرون درهماً، ومائة درهم، وكل رجلٍ جاءني فله درهمٌ، وهو خيرٌ منك عبدا، أفره منك داية، وعندي ملءْ قدحٍ عسلا. وعلى التمرة مثلها زبدا. إلا أن تقول: عشرون من الدراهم، وهو خيرٌ منك من الغلمان، وعليها مثلها من الزبد. فإن كان فيها ذكر الأول دخلت من في المخصوص فقلت: ويحه رجلا، وويحه من رجل، ولله دره فارسا، ومن فارس، وحسبك به رجلا، ومن رجل. ولا يكون هذا في المضمر الذي يقدم على شريطة التفسير؛ لأنه مجمل، نحو: ربه رجلاً قد رأيته، ونعم رجلاً عبد الله، وقد مضى بابها مفسراً.

هذا باب

الأفعال التي تسمى أفعال المقاربة

وهي مختلفة المذاهب والتقدير، مجتمعة في المقاربة

فمن تلك الأفعال عسى وهي لمقاربة الفعل، وقد تكون إيجاباً، ونحن نذكر بعد فراغنا منها شيئاً إن شاء الله. اعلم أنه لا بد لها من فاعل؛ لأنه لا يكون فعلٌ إلا وله فاعل. وخبرها مصدر؛ لأنها لمقاربته. والمصدر اسم الفعل. وذلك قولك: عسى زيدٌ أن ينطلق، وعسيت أن أقوم، أي: دنوت من ذلك، وقاربته بالنية. وأن أقوم في معنى القيام. ولا تقل: عسيت القيام، وإنما ذلك لأن القيام مصدر، لا دليل فيه يخص وقتاً من وقت، وأن أقوم مصدر لقيام لم يقع؛ فمن ثم لم يقع القيام بعدها، ووقع المستقبل. قال الله عز وجل: " فعسى الله أن يأتي بالفتح " وقال: " فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين " . ولو احتاج شاعرٌ إلى الفعل فوضعه في موضع المصدر جاز؛ لأنه دالٌّ عليه. فمن ذلك قوله:

عسى الله أن يغني عن بلاد ابن قادرٍ ... بمنهمر جون الرباب سكوب

وقال الآخر:

عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرجٌ قريب

وأما قولهم في المثل: عسى الغوير أبؤساً فإنما كان التقدير: عسى الغوير أن يكون أبؤسا؛ لأن عسى إنما خبرها الفعل مع أن أو الفعل مجرداً، ولكن لما وضع القائل الاسم في موضع الفعل كان حقه النصب؛ لأن عسى فعل، واسمها فاعلها، وخبرها مفعولها؛ ألا ترى أنك تقول: كان زيد ينطلق. فموضعه نصبٌ. فإن قلت: منطلقاً لم يكن إلا نصبا. فأما قولهم: عسى أن يقوم زيد. وعسى أن يقوم أبواك، وعسى أن تقوم جواريك فقولك: أن يقوم رفع؛ لأنه فاعل عسى. فعسى فعلٌ ومجازها ما ذكرت لك. فأما قول سيبويه: إنها تقع في بعض المواضع بمنزلة لعل مع المضمر فتقول: عساك وعساني، فهو غلطٌ منه؛ لأن الأفعال لا تعمل في المضمر إلا كما تعمل في المظهر. فإما قوله:

تقول بنتي: قد أنى إناكا ... يا أبتي علك أو عساكا

وقال آخر:

ولي نفسٌ أقول لها إذا ما ... تخالفني: لعلي أو عساني

فأما تقديره عندنا: أن المفعول مقدم، والفاعل مضمر، كأنه قال: عساك الخير أو الشر، وكذلك: عساني الحديث، ولكنه حذف؛ لعلم المخاطب به، وجعل الخبر اسماً على قولهم: عسى الغوير أبؤسا. وكذلك قول الأخفش: وافق ضمير الخفض ضمير الرفع في لولاي، فليس هذا القول بشيءٍ، ولا قوله: أنا كأنت، ولا أنت كأنا بشيءٍ، ولا يجوز هذا، إنما يتفق ضمير النصب، وضمير الخفض كاستوائهما في التثنية والجمع، وفي حمل المخفوض الذي لا يجري على لفظ النصب؛ مثل قولك: مررت بعمر. استوى فيه الخفض، والنصب وأدخلت الخفض على النصب، كما أدخلت النصب على الخفض، فهذان متواخيان. والرفع بائنٌ منهما. وأما لولا فنذكر أمرها في بابها إن شاء الله.

ومن هذه الحروف لعل تقول: لعل زيداً يقوم. ولعل حرف جاء لمعنى مشبه بالفعل كأن معناه التوقع لمحبوب أو مكروه. وأصله عل واللام زائدة فإذا قلت: لعل زيداً يأتينا بخير، ولعل عمراً يزورنا. فإنما مجاز هذا الكلام من القائل، أنه لا يأمن أن يكون هذا كذا. والخبر يكون اسماً؛ لأنها بمنزلة إن، ويكون فعلاً، وظرفاً؛ كما يكون في إن تقول: لعل زيداً صديقٌ لك، ولعل زيداً في الدار، ولعل زيداً إن أتيته أعطاك. إذا ذكرت الفعل فهو بغير أن أحسن؛ لأنه خبر ابتداء، وقال الله عز وجل: " لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً " وقال: " فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى " . فإن قال قائلٌ في الشعر: لعل زيداً أن يقوم جاز؛ لأن المصدر يدل على الفعل، فمجاز المصدر هاهنا كمجاز الفعل في باب عسى. قال الشاعر:

لعلك يوماً أن تلم ملمةٌ ... عليك من اللائي يدعنك أجدعا

ومن هذه الحروف كاد، وهي للمقاربة، وهي فعل. تقول: كاد العروس يكون أميراً، وكاد النعام يطير. فأما قول الله عز وجل: " إذا أخرج يده لم يكد يراها " فمعناه - والله أعلم - لم يرها، ولم يكد، أي: لم يدن من رؤيتها. وكذلك: " من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم " . فلا تذكر خبرها إلا فعلاً، لأنها لمقاربة الفعل في ذاته. فهي بمنزلة قولك: جعل يقول، وأخذ يقول، وكرب يقول، إلا أن يضطر شاعر، فإن اضطر جاز له فيها ما جاز في لعل. قال الشاعر:

قد كاد من طول البلى أن يمصحا

هذا باب

المبتدأ المحذوف الخبر استغناءً عنه

وهو باب لولا

اعلم أن الاسم الذي بعد لولا يرتفع بالابتداء، وخبره محذوف لما يدل عليه. وذلك قولك: لولا عبد الله لأكرمتك. ف عبد الله ارتفع بالابتداء، وخبره محذوف. والتقدير: لولا عبد الله بالحضرة، أو لسبب كذا لأكرمتك. فقولك: لأكرمتك، خبرٌ معلق بحديث لولا. ولولا حرف يوجب امتناع الفعل لوقوع اسم. تقول: لولا زيد لكان كذا وكذا. فقوله: لكان كذا وكذا، إنما هو لشيءٍ لم يكن من أجل ما قبله. ولولا إنما هي لو و لا، جعلتا شيئاً واحداً، وأوقعتا على هذا المعنى. فإن حذفت لا من قولك: لولا انقلب المعنى، فصار الشيء في لو يجب لوقوع ما قبله. وذلك قولك: لو جاءني زيد لأعطيتك، ولو كان زيد لحرمك. ف لولا الأصل لا تقع في إلا على اسم. ولو لا تقع إلا على فعل. فإن قدمت الاسم قبل الفعل فيها كان على فعل مضمر، وذلك كقوله عز وجل: " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي " . إنما أنتم رفع بفعل يفسره ما بعده. وكذلك:

فلو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما

ومثل ذلك قول العرب: لو ذات سوارٍ لطمتني إنما أراد: لو لطمتني ذات سوارٍ، والصحيح من روايتهم: لو غير ذات سوار لطمتني وفيه خبر لحاتم. وقال الشاعر:

لو غيركم علق الزبير بحبله ... أدى الجوار إلى بني العوام

فغيركم يختار فيها النصب؛ لأن سببها في موضع نصب. وقولهم: لو أنك جئت لأكرمتك، وقد مر تفسيره في باب إن و أن.

هذا باب

المقصور والممدود

فأما المقصور فكل واو أو ياء وقعت بعد فتحة. وذلك؛ نحو: مغزًى؛ لأنه مفعل. فلما كانت الواو بعد فتحة، وكانت في موضع حركة انقلبت ألفاً؛ كما تقول: غزا، ورمى فتقلب الواو والياء ألفاً، ولا تنقلب واحدةٌ منهما في هذا الموضع إلا والفتح قبلها إذا كانت في موضع حركة. فإن كانت ساكنة الأصل وقبلها فتحةٌ لم تنقلب. وذلك؛ نحو: قول، وبيع، ولا تنقلب ألفاً؛ لأجل سكونها. فإذا أردت أن تعرف المقصور من الممدود فانظر إلى نظير الحرف من غير المعتل. فإن كان آخره متحركاً قبله فتحةٌ علمت أن نظيره مقصور. فمن ذلك: معطًى، ومغزًى؛ لأنه مفعل. فهو بمنزلة مخرج ومكرم، وكذلك: مستعطًى، ومستغزًى؛ لأنه بمنزلة مستخرج. فعلى هذا فقس جميع ما ورد عليك.

ومن المقصور أن ترى الفعل على فعل يفعل، والفاعل على فعلٍ، وذلك قولك: فرق يفرق فرقاً، وحذر يحذر حذراً، وبطر يبطر بطراً وهو بطرٌ وحذرٌ. ونظير هذا من المعتل: هوى يهوى هوًى؛ لأن المصدر يقع على فعل؛ ألا ترى أنك تقول: الفرق، والحذر، والبطر. وهو بمنزلة هوى يهوى وهو هوٍ، وطوى يطوى طوًى وهو طوٍ. وما كان مصدراً لفعل يفعل الذي الاسم منه أفعل أو فعلان. فهو كذلك. أما ما كان الاسم منه أفعل فهو أعمى؛ لأنك تقول: عمي الرجل فهو أعمى، والعشى؛ لأنك تقول: عشي الرجل وهو أعشى، وكذلك القنا من قنا النف، لأن الرجل أقنى. وأما فعلان فنحو الصدى، والطوى؛ لأنك تقول: صدي الرجل فهو صديان، وطوي فهو طيان. فنظير ذلك: عطش فهو عطشان، والمصدر هو العطش، وظمئ فهو ظمآن، والمصدر الظمأ، وعليه فهو علهان. والمصدر العله. ونظير الأول: عور فهو أعور، والمصدر العور. وكذلك الحول، والشتر، والصلع، ونحو ذلك. ومن المقصور كل اسم جمعه أفعالٌ مما أوله مفتوح، أو مضموم، أو مكسور وذلك نحو قولك: أقفاءٌ، وأرجاءٌ يا فتى؛ لأن الجمع إذا كان على أفعال وجب أن يكون واحده من المفتوح على فعل؛ نحو: جمل، وأجمال، وقتب وأقتاب، وصنم وأصنام. فإن كان مكسوراً فنحو قولك في معًى: أمعاءٌ؛ لأنه بمنزلة ضلع وأضلاع. وقد وجب أن يكون واحد الأمعاء معًى مقصور. فأما ندُى فهو فعلٌ، وجمعه الصحيح أنداء فاعلم؛ وعلى ذلك قال الشاعر:

إذا سقط الأنداء صينت، وأشعرت ... حبيراً ولم تدرج عليها المعاوز

فأما قول مرة بن محكان:

في ليلةٍ من جمادى ذات أندية ... ما يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا

فقد قيل في تفسيره قولان: قال بعضهم: هو جمعٌ على غير واحد، مجازه مجاز الاسم الموضوع على غير الجمع، نحو: ملامح، ومذاكير، وليالي؛ لأن ليلة: فعلة، ولا تجمع على ليالي، ولمحة وذكر لا يجمعان على مفاعل ومفاعيل. وقال بعضهم: إنما أراد جمع ندى، أي: ندى القوم الذي يقيمون فيه، فيضيفون ويفخرون؛ كما قال الشاعر:

يومان يوم مقاماتٍ وأنديةٍ ... ويوم سيرٍ إلى الأعداء تأويب

فإنما تستدل على المقصور بنظائره. ومن المقصور ما كان جمعاً لفُعلة أو فِعلة، نحو: رقية ورقى، ولحية ولحًى، ورشوة ورشًى، ومدية ومدًى. وقد قالوا: مديةٌ ومدًى؛ لأن نظيره من غير المعتل: كسرة وكسر، وقطعة وقطع، وظلمة وظلم. فإنما تستدل على المقصور بهذا وما أشبهه. ومن المقصور كل ما كان مؤنثاً لفعلان؛ نحو غضبان، وعطشان، وسكران؛ لأن مؤنثه سكرى، وغضبى، وعطشى. ومنه ما كان جمعاً لفعلى؛ لأنه يقع على مثال فعل، وذلك قولك: الدنيا والدنا، والقصيا والقصى. ومنه ما كان مؤنثاً في أفعل الذي كان معه من كذا؛ لأنه يكون على مثال فعلى. وذلك قولك: هذا الأكبر، وهذه الكبرى، والأصغر والصغرى، والأول والأولى؛ لأنك تقول: هذا أصغر منك، وهذا أكبر منك، وهذا أول منك. ومن المقصور ما لا يقال له: قصر لكذا؛ كما لا يقال: إنما سميت قدم لكذا، وقذال لكذا. ولكنك تستدل على قصره بما هو على خلافه بنحو ما ذكرناه.

فأما الممدود فإنه ياءٌ او واوٌ تقع بعد ألف زائدة، أو تقع ألفان للتأنيث فتبدل الثانية همزةً؛ لأنه إذا التقت ألفان فلا بد من حذف أو تحريك؛ لئلا يلتقي ساكنان، فالحذف لو وقع هاهنا لعاد الممدود مقصوراً، فحرك لما ذكرت لك. فأما ما كان غير مؤنث، فهمزته أصلية أو منقلبة من ياءٍ أو واو بعد ألف زائدة. فمن ذلك ما بنيته على فعال؛ نحو: شراب، وقتال، وحسان، وكرام؛ لأن موضع اللام بعد ألف زائدة. فإن كان من ذوات الواو والياء، أو ما همزته أصليةٌ؛ نحو: سقاء، وغزاء يا فتى؛ لأنه من سقيت وغزوت، وقولك: قراءٌ يا فتى؛ لأنه من قرأت، فهذا كهذا. ومما يعلم منه أنه ممدود ما كان من هذا الباب مصدراً لأفعلت؛ لأنها تأتي على وزن الإفعال؛ نحو: أخطأت إخطاءً، وأقرأته إقراءً. هذا مما همزته أصلية. ومن ذوات الياء والواو: أعطيته إعطاءً، وأغزيته إغزاءً. وكذلك كل ما كان مصدراً لاستفعلت؛ نحو: استقصيت استقصاءً، واستدنيت استدناءً؛ لأنه بمنزلة الاستخراج، والاستضراب. وكذلك كل ما كان مصدراً لقولك: انفعل، وافتعل؛ لأنه يأتي بمنزلة الانطلاق والاقتدار؛ لأن ما قبل اللام ألفٌ زائدة؛ نحو: اختفى اختفاءً، وانقضى انقضاءً. وكل ما لم نسمه فقسه على نظيره من الصحيح. وكل جمع من هذا الباب على أفعلة فواحده ممدود، نحو: رداء وأردية، وكساء وأكسية، وإناء وآنية، ووعاء وأوعية؛ لآن نظيره حمار وأحمرة، وقبال وأقبلة. ومن الممدود ما كان جمعاً لفعلة من ذوات الواو والياء، وذلك نحو: فروة وفراء. ومن قال: جروة قال: جراء فاعلم، وكذلك كوة وكواء. فأما قرية وقرى فليس من هذا الباب؛ لأن قرًى فعل وليس على فعلة وفعال؛ لأن فعالاً في فعلة هو الباب؛ نحو: صحفة وصحاف، وقصعة وقصاع، وجفنة وجفان. ومن الممدود كل مصدرٍ مضموم الأول في معنى الصوت، فمن ذلك الدعاء، والعواء، والرغاء. هذا ممدود؛ لأن نظيره من غير المعتل النباح، والصراخ، والشجاع. فأما البكاء، فإنه يمد ويقصر. فمن مد فإنما أخرجه مخرج الصوت، ومن قصره أخرجه مخرج الحزن. وكذلك كل ما كان في معنى الحركة على هذا الوزن؛ لأنه بمنزلة النقاز، والنفاض؛ وقلما تجد المصدر مضموم الأول مقصوراً؛ لأن فعلا قلما يقع في المصادر.

واعلم أن من الممدود ما لا يقال له: مد لكذا؛ كما لا تقول: وقع حمار لكذا إلا أنك تستدل بالنظائر. واعلم أن كل ممدود تثنيه وكان منصرفاً فإن إقرار الهمزة فيه أجود، نحو: كساءان، ورداءان، وقد يجوز أن تبدل الواو من الهمزة فتقول: كساوان، ورداوان، وليس بالجيد. فإن قلت: قراوان فهو أقبح؛ لأن الهمزة أصل، وليست منقلبة من ياء أو واو. وهذا جائز. فإن كان ملحقاً كان أحسن، على أن الهمزة أجود. وذلك: علباوان، وحرباوان؛ لأن الهمزة ملحقة، وليست بأصل، ولا منقلبة من شيءٍ من الأصل. وكذلك النسب: من قال: كساءان قال: كسائي، ومن قال: كساوان قال: كساوي. فإن كانت الهمزة للتأنيث لم يكن إلا بالواو؛ نحو: حمراوان وحمراوي.

والمقصور إذا كان على ثلاثة أحرف ردت الواو والياء في التثنية، تقول: قفوان. فإن كان من ذوات الياء قلت: رحيان، فردت الياء. فإن زاد على الثلاثة شيئاً - منصرفاً كان أو غير منصرف - لم تقل في تثنيته إلا بالياء؛ نحو: جبليان، ومغزيان، وحباريان. وكذلك الجمع بالتاء نحو: حباريات، وحبليات. فأما في النسب فما كان منه على ثلاثة انقلبت ألفه واواً من أي البابين كان؛ نحو: رحوي، وقفوي. فإن زاد فله حكم نذكره في باب النسبة إن شاء الله. ونذكر بعد هذا مجاز وقوع الممدود والمقصور، ليعلم ما سبيل المد والقصر فيهما إن شاء الله؟. أما المقصور فإنما هو على أحد أمرين: إما أن يكون اسماً ألفه غير زائدة؛ نحو: قفًا، وعصًى، ولهًى، ومرمًى، ومستعطًى، فهذا كله انقلبت ياوه أو واوه ألفاً لما ذكرت لك. وإما أن تكون ألفه زائدة لإلحاق أو تأنيث: فالإلحاق؛ نحو: حنبطًى، وعفرنًى، وأرطى. والتأنيث نحو: حبلى، وبشرى، وقرقرى. فهذه صيغٌ وقعت كما تقع الأسماء التي لا يقال لها مقصورةٌ ولا ممدودة. فما كان مثل قفا وعصا، فنحو جمل. ومثل مغزًى، وملهًى، مخرج، ومدخل. وما كان نحو: حنبطى فلامه أصل؛ لأن ألف حبنطًى ملحقة به؛ نحو: جحنفل، وما أشبهه، وكأرطًى الذي هو فعلًى، فألفه ملحقة بجعفر وسلهب، فألفات هذا الضرب أصلية، وتلك ملحقة بها.

وأما الممدود فلا يكون إلا وقبل آخره ألفٌ زائدة، ويقع بعدها ألف مبدلة من ياءٍ أو واو، للتأنيث أو للإلحاق. فأما سقاء وغزاء، فبمنزلة ضراب وقتال. وأما الملحقة فنحو: حرباء، وعلباء. وفعلاء - فاعلم - تلحق بسرداح، وشملال. وفعلاءٌ تلحق؛ نحو: قوباءٍ فاعلم فيمن أسكن الواو، وهو بمنزلة فسطاط. وأما ما كان للتأنيث فنحو: حمراء، وصفراء، وخنفساء. إنما هي زائدة بعد زائدة. فهذا تأويل المقصور والممدود.

هذا باب

الابتداء

وهو الذي يسميه النحويون الألف واللام

اعلم أن هذا الباب عبرةٌ لكل كلام، وهو خبر، والخبر ما جاز على قائله التصديق والتكذيب. فإذا قلت: قام زيد، فقيل لك: أخبر عن زيد، فإنما يقول لك: ابن من قام فاعلاً، وألحقه الألف واللام على معنى الذي، واجعل زيداً خبراً عنه، وضع المضمر موضعه الذي كان فيه في الفعل. فالجواب في ذلك أن تقول: القائم زيدٌ، فتجعل الألف واللام في معنى الذي، وصلتهما على معنى صلة الذي، وفي القائم ضمير يرجع إلى الألف واللام، وذلك الضمير فاعلٌ، لأنك وضعته موضع زيد في الفعل، وزيد خبر الابتداء. وإن شئت قلته ب الذي، فقلت: الذي قام زيدٌ. ف الذي لا يمتنع منه كلامٌ يخبر عنه البتة. وقولك: الفاعل لا يكون إلا من فعلٍ خاصةً.ولو قلت: زيدٌ في الدار فقال: أخبر عن زيد بالألف واللام، لم يجز؛ لأنك لم تذكر فعلاً. فإن قيل لك: أخبر عنه بالذي قلت: الذي هو في الدار زيد، فجعلت هو ضمير زيد، ورفعت هو في صلة الذي بالابتداء، وفي الدار خبره، كما كان حيث قلت: زيد هو في الدار، وجعلت هو ترجع إلى الذي. فإن قال لك أخبر عن الدار في قولك: زيد في الدار، قلت: التي زيد فيها الدار. فالهاء في قولك فيها مخفوضٌ في موضع الدار؛ لأن الدار في المسألة هاهنا خبر التي، فهذا وجه الإخبار.

هذا باب

الفعل الذي يتعدى الفاعل إلى المفعول

وذلك نحو: ضرب عبد الله أخاك، وقتل عبد الله زيداً. فإن قيل لك: أخبر عن الفاعل في قولك: ضرب عبد الله أخاك. قلت: الضارب أخاك عبد الله، وإن شئت قلت: الذي ضرب أخاك عبد الله، وفي ضرب اسم عبد الله فاعل؛ كما كان ذلك في قولك: ضرب عبد الله، وهو العائد إلى الذي حتى صلحت الصلة، وعبد الله خبر الابتداء. فإن قال لك: أخبر عن المفعول. قلت، الضاربه عبد الله أخوك. ف الهاء ضمير الأخ، وهي مفعول كما كان مفعولاً وعبد الله فاعل كما كان في المسألة، وأخوك خبر الابتداء، وهو الألف واللام في الحقيقة؛ لأن كل ما تخبر عنه ف الذي تقدمه له، وهو خبر الابتداء، وكلاهما تقصد به الذي تخبر عنه في الحقيقة. فإن قلت: ضرب زيدٌ أخاك في الدار، فقيل لك: أخبر عن الدار قلت: الضارب زيدا أخاك فيها الدار. وتأويله بالذي: التي ضرب عبد الله أخاك فيها الدار. وقولك: فيها هو قولك: في الدار في المسألة. وقد مضى من التفسير ما يدل على ما يرد من هذا الباب. فإن قلت: ضرب عبد الله أخاك قائماً، فقيل: أخبر عن قائم، فقد سألك محالاً؛ لأن الحال لا تكون إلا نكرة، والمضمر لا يكون إلا معرفة وكل ما أخبرت عنه فإضماره لا بد منه؛ فالإخبار عن الحال لا يكون. ولا يخبر عن النعت؛ لأن النعت تحلية. والمضمر لا يكون نعتاً؛ لأنه لا يكون تحلية. ولا يخبر عن التبيين؛ لأنه لا يكون إلا نكرة. ولا يخبر عن الظروف التي لا تستعمل اسماً؛ لأن الرفع لا يدخلها، وخبر الابتداء لا يكون إلا رفعاً. ولا يخبر عن الأفعال، ولا عن الحروف التي تقع لمعانٍ؛ لأنها لا يكون لها ضمير. فكل ما كان مما ذكرته فقد أثبت لك العلة فيه. وكل اسم سوى ذلك فمخبرٌ عنه. ولا يخبر عن كيف، وأين، وما أشبهه؛ لأن ذلك لا يكون إلا في أول الكلام؛ لأنها للاستفهام. ولا يخبر عن أحد وأخواته.

هذا باب

الفعل الذي يتعدى الفاعل إلى مفعولين

ولك أن تقتصر على أحدهما إن شئت

وذلك قولك: أعطيت زيداً درهما، وكسوت زيداً ثوبا، وما أشبهه؛ لأنك إن شئت قلت: كسوت زيداً، وأعطيت زيداً، ولم تذكر المفعول الثاني. فإذا قلت: أعطيت زيداً درهما، فقال لك: أخبر عن زيد، قلت: المعطيه أنا درهما زيدٌ. فإن قال لك: أخبر عن الدرهم قلت: المعطي أنا زيدا إياه درهمٌ، فهذا أحسن الإخبار أن تجعل ضمير الدرهم في موضعه؛ لئلا يدخل الكلام لبس وإن لم يكن ذلك في الدرهم، ولكن قد يقع في موضعه: أعطيت زيدا عمرا، فالوجه أن تقدم الذي أخذ، وقد يجوز: المعطية أنا زيدا درهم؛ لأن هذا لا يلبس؛ لأن الدرهم ليس مما يأخذ. فإذا دخل الكلام لبسٌ، فينبغي أن يوضع كل شيءٍ في موضعه. فإن قال لك: أخبر عن نفسك، قلت: المعطي زيداً درهما أنا.

واعلم أن الفعل يتضمن الضمير، واسم الفاعل لا يتبين ذلك فيه، فإذا جرى على ما هو له لم يظهر فيه ضمير. وإن جرى لمن ليس هو له خبراً، أو نعتاً، أو حالاً، أو صلة، لم يكن بدٌّ من إظهار الفاعل؛ ألا ترى أنك تقول: زيد أضربه، وعمرو تضربه. فإن وضعت في موضع تضربه ضاربه، قلت: زيد ضاربه أنا، وعمرو ضاربه أنت؛ لأن الفعل الذي أظهرت قد جرى خبراً على غير نفسه. فلذلك لما قال لك في قوله أعطيت زيدا درهما أخبر عن نفسك، قلت: المعطي زيدا درهما أنا، فلم تظهر بعد المعطي مضمراً؛ لأن الألف واللام لك والفعل لك فجرى على نفسه. وإن أخبرت عن الدرهم، أو زيدا، أظهرت أنا فقلت: المعطيه أنا درهما زيد؛ لأن الفعل لك، والألف واللام لزيد، فجرى الفعل على غير من هو له، وكذلك المعطي أنا زيدا إياه درهم؛ لأن الألف واللام للدرهم، والفعل لك. فإن كان الذي ظهر الفعل، فلم تحتج إلى المضمر المنفصل. وذلك قولك: - إن أخبرت عن زيد - الذي أعطيته درهما زيدٌ. فإن أخبرت عن الدرهم قلت: الذي أعطيته زيدا درهمٌ، وإن وضعت ضمير الدرهم موضعه قلت: الذي أعطيت زيدا إياه درهمٌ.

هذا باب

الفعل المتعدي إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحدهما

دون الآخر

وتلك الأفعال هي أفعال الشك واليقين؛ نحو: علمت زيداً أخاك، وظننت زيداً ذا مال، وحسبت زيدا داخلاً دارك، وخلت بكراً أبا عبد الله، وما كان من نحوهن. وإنما امتنع: ظننت زيداً حتى تذكر المفعول الثاني؛ لأنها ليست أفعالاً وصلت منك إلى غيرك، إنما هو ابتداء وخبر. فإذا قلت: ظننت زيدا منطلقاً فإنما معناه: زيد منطلق في ظني، فكما لا بد للابتداء من خبر كذا لا بد من مفعولها الثاني؛ لأنه خبر الابتداء، وهو الذي تعتمد عليه بالعلم والشك. إذا قلت: ظننت زيداً أخاك، فقال لك: أخبر عن نفسك، قلت: الظان زيداً أخاك نفسك. فإن قال: أخبر عن زيد، قلت: الظانه أنا أخاك زيدٌ. فإن قال: أخبر عن الأخ، قلت: الظان أنا زيدا إياه أخوك. تضع الضمير في موضع الذي تخبر عنه. فإن قيل لك: أخبر ب الذي عن نفسك قلت: الذي ظن زيداً أخاك أنا. فإن أخبرت عن زيد قلت: الذي ظننته أخاك زيدٌ. فإن قيل أخبر عن الأخ، قلت: الذي ظننت زيدا إياه أخوك، ويقبح أن تقول: الذي ظننته زيداً أخوك؛ لما يدخل الكلام من اللبس. ألا ترى أنك إذا قلت: ظننت زيداً أخاك، فإنما يقع الشك في الأخوة. فإن قلت: ظننت أخاك زيداً، أوقعت الشك في التسمية. وإنما يصلح التقديم والتأخير إذا كان الكلام موضحاً عن المعنى؛ نحو: ضرب زيدا عمرو؛ لأنك تعلم بالإعراب الفاعل والمفعول، فإن كان المفعول الثاني مما يصح موضعه إن قدمته فتقديمه حسنٌ؛ نحو قولك: ظننت في الدار زيدا، وعلمت خلفك زيدا. فإن قال: أخبر عن الدار، قلت: الظان أنا فيها زيدا الدار. و ب الذي تقول: التي ظننت فيها زيدا الدار. وكذلك الخلف. تقول: الظان أنا فيه زيدا خلفك. وإن كان المفعول الثاني فعلاً، نحو: ظننت زيدا يقوم، لم يجز الإخبار عنه لما ذكرت لك. وكذلك إن كان من الظروف التي لا تحل محل الأسماء.

هذا باب

الذي يتعدى إلى مفعول واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد

وذلك: كان، وصار، وأصبح، وأمسى، وليس، وما كان نحوهن

اعلم أن هذا الباب إنما معناه: الابتداء والخبر، وإنما دخلت كان؛ لتخبر أن ذلك وقع فيما مضى، وليس بفعل وصل منك إلى غيرك. وإنما صرفن تصرف الأفعال لقوتهن، وأنك تقول فيهن: يفعل، وسيفعل، وهو فاعل، ويأتي فيهن جميع أمثلة الفعل. فإذا قلت: كان زيد أخاك فخبرت عن زيد قلت: الكائن أخاك زيد؛ كما كنت تقول في ضرب. فإن أخبرت عن الأخ فإن بعض النحويين لا يجيز الإخبار عنه، ويقول: إنما معناه: كان زيد من أمره كذا وكذا؛ فكما لا يجوز أن تخبر عن قولنا: من أمره كذا وكذا؛ كذلك لا يجوز أن تخبر عما وضع موضعه. وهذا قولٌ فاسد مردود لا وجه له؛ لأنك إذا قلت: زيد منطلق، فمعناه: زيد من أمره كذا وكذا. فلو كان يفسد الإخبار هناك لفسد هاهنا. وكذلك باب ظننت وعلمت، وإن وأخواتها؛ لأن معنى: ظننت زيدا أخاك إنما هو: ظننت زيدا من أمره كذا وكذا، وكذلك: إن زيدا أخوك إنما هو: إن زيدا من أمره كذا وكذا. فمن زعم أنه لا يجوز الإخبار عن ذلك لزمه ألا يجيز الإخبار عن شيءٍ من هذا، فإن كان يخبر عن هذا أجمع، ويمتنع لعلة موجودة في هذا، فقد ناقض. فالإخبار عن المفعول في كان - إذا قلت: كان زيد أخاك - أن تقول: الكائن زيد إياه أخوك. فهذا الأحسن. وإن قلت: الكائنه زيدٌ أخوك، فحسنٌ، والأول أجود؛ لما قد ذكرته لك في باب كان من أن الذي يقع بعدها ابتداءٌ وخبر. فإذا قال: الكائنه، فوصل الضمير ب كان، فقد ذهب في اللفظ ما يقوم مقام الابتداء، وهو في المعنى موجود فاخترنا الأول؛ لأن له اللفظ والمعنى، وقد قال الشاعر:

فإن لا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها

فهذا جائز، والأحسن ما قال الشاعر:

ليت هذا الليل شهرٌ ... لا نرى فيه عريبا

ليس إياي وإيا ... ك ولا نخشى رقيبا

فإن قلت: كان زيد ضارباٌ عمرا، فقيل: خبر عن ضارب وحده، لم يجز؛ لأنه عامل في عمرو، وإن قيل: خبر عن عمرو جاز فقلت: الكائن زيد ضاربه عمرٌو. فإن قيل: خبر عن ضارب عمراً قلت: الكائنه زيد ضاربٌ عمرا، ولك أن تقول: إياه ضارب عمراً فتقول: الكائن زيد إياه ضاربٌ عمرا. فإن قلت ذلك ب الذي قلت: الذي كان زيد إياه ضاربٌ عمرا. فإن قلته بالهاء قلت: الذي كان زيد ضاربٌ عمرا، وتحذف الهاء لطول الاسم، وإن شئت جئت بها فقلت: الذي كانه. فأما إذا قلت: الذي كان زيد إياه، فإن إياه لا يجوز حذفها؛ لأن المتصل يحذف، كما يحذف ما كان من الاسم في مواضع، وإياه منفصلة فلا تحذف؛ لأن هذا لا يشبه ذلك. ألا ترى أنك تقول: الذي ضربت زيد، ولا تقول: الذي مررت زيد؛ لأن الضمير قد فصلته بالباء. فأما ليس فلا يجوز أن تخبر عما عملت فيه بالألف واللام؛ لأنها ليس فيها يفعل، ولا يبنى منها فاعل، ولكن يخبر بالذي، وذلك قولك: ليس زيد منطلقاً، وليس زيد إلا قائماً. فإن قيل لك: أخبر عن زيد في قولك: ليس زيد منطلقا، قلت: الذي ليس منطلقاً زيدٌ. وإن قال: أخبر عن منطلق قلت: الذي ليس زيد إياه منطلق. وإن قيل: أخبر عن زيد في قولك: ليس زيد إلا قائماً، قلت: الذي ليس إلا قائماً زيدٌ. وإن قال: أخبر عن قائم قلت: الذي ليس زيد إلا إياه قائم.

وكل شيء ليس فيه فعل فالإخبار عنه لا يكون إلا بالذي، تقول: زيد أخوك. فإن قيل: أخبر عن زيد قلت: الذي هو أخوك زيدٌ. وإن قيل: أخبر عن الأخ قلت: الذي زيدٌ هو أخوك. وتقول: إن زيداً منطلق. فإن قال: أخبر عن زيد قلت: الذي إنه منطلق زيدٌ. فإن قال: أخبر عن منطلق قلت: الذي إن زيداً هو منطلق، فعلى هذا تجري الإخبار. تقول: زيد في الدار. فإن قال: أخبر عن زيد قلت: الذي هو في الدار زيدٌ. وإن قال: أخبر عن الدار قلت: التي زيدٌ فيها الدار. وتقول: كان زيد حسنا وجهه. فإن قال: أخبر عن زيد قلت: الكائن حسنا وجهه زيدٌ. فإن قال: أخبر عن حسنا وجهه قلت: الكائن زيد إياه حسنٌ وجهه. فإن قيل: أخبر عن وجهه لم يجز ذلك؛ وذلك لأنه يضع في موضع وجهه ضميراً. فإن رجع ذلك الضمير إلى الذي لم يرجع إلى زيد شيءٌ فبطل الكلام. وإن رجع إلى زيد لم يرجع إلى الذي في صلته شيءٌ. وكذلك: كان زيد أبوه منطلق. إن قيل: أخبر عن أبيه لم يجز للعلة التي ذكرت لك، ويبين هذا أنك إذا قلت: الذي كان زيد هو منطلق أبوه، فرددت هو إلى زيد فسد من جهتين: إحداهما: أن هو للأب، وقد جعلتها لزيد. والآخر: أنك لم تجعل في صلة الذي شيئاً يرجع إليه. فإن قال: أرد هو إلى الذي لم يكن في خبر زيد ما يرجع إليه. ولكن لو قال: أخبر عن منطلق لقلت: الذي كان زيدٌ أبوه منطلقٌ. فكانت الهاء في أبيه لزيد، وهو الذي به يصح الكلام. واعتبر هذا بواحدة: وهو أن تضع في موضع الضمير أجنبياً، فإن صلح جاز الإخبار عنه، وإن امتنع لم يجز؛ ألا ترى أنك لو قلت: كان زيد حسنا عمرو، وكذلك: كان زيد عمرو منطلق لم يجز. فإن قلت: كان زيد أبوه في داره جاز الإخبار عن أبيه؛ لأنك لو قلت: كان زيد عمرو في داره لصلح. وإن أخبرت عن أبيه قلت: الكائن زيدٌ هو في داره أبوه. جعلت هو يرجع إلى الذي؛ لأنه المخبر عنه، وجعلت الهاء التي في داره ترجع إلى زيد. فكل ما كان من هذا فاعتبره بالأجنبي كما وصفت لك. فهذا بابه، وسنفرد باباً لمسائله بعد فراغنا منه إن شاء الله.

هذا باب

الإخبار عن الظروف والمصادر

فأما الظروف فهي: أسماء الزمان والأمكنة. وأما المصادر فهي: أسماء الأفعال.

اعلم أن كل ظرف متمكنٍ فالإخبار عنه جائز، وذلك قولك - إذا قال قائل: زيد خلفك - : أخبر عن خلف قلت: الذي زيدٌ فيه خلفك، فترفعه؛ لأنه اسم، وقد خرج من أن يكون ظرفاً، وإنما يكون ظرفاً إذا تضمن شيئاً؛ نحو: زيدٌ خلفك؛ لأن المعنى: زيدٌ مستقرٌ في هذا الموضع، والخلف مفعول فيه. فإن قلت: خلفك واسعٌ، لم يكن ظرفا، ورفعت؛ لأنك عنه تخبر. وكذلك: سرت يوم الجمعة، فيوم الجمعة ظرف لسيرك. فإن قلت: يوم الجمعة مباركٌ، أخبرت عن اليوم؛ كما تخبر عن سائر الأسماء؛ لأنه ليس بظرف، فهو كقولك: زيد حسنٌ،. وعلى هذا قال الشاعر:

فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها

فكل ظرف يستعمل اسماً فهذا مجازه، وما كان لا يقع إلا ظرفاً فلا يجوز الإخبار عنه؛ لأنه لا يرتفع. وكل ما خبرت عنه فلا بد من رفعه؛ لأنه خبر ابتداءٍ. فمن ذلك عند، لو قلت: زيد عندك، فقال قائل: أخبر عن قولك عندك لم يجز؛ لأنه كان يلزمك أن تقول: الذي زيد فيه عندك؛ فترفع ما لا يجوز أن يقع مرفوعاً أبداُ. وكذلك ذات مرة، وسوى، وسواء، وبعيدات بين، وسحر إذا أردت به سحر يومك وقد مرت العلة في هذه الظروف في مواضعها. وكل ما نصبته نصب الظروف لم تخبر عنه؛ لأن ناصبه قائم، وإنما تخبر عنه إذا حولته إلى الأسماء. وكذلك المصادر، كل ما تنصب منها نصب المصدر لم تخبر عنه فإن نصبته نصب الأسماء، فقد حكمت له بالرفع، والخفض في موضعهما، وجعلته كسائر الأسماء، وذلك قولك: سرت بزيد سيراً، ليس في قولك سيراً إلا ما كان في قولك: سرت إلا أن تنعته، أو تصيره معرفة، أو تفرده، أو تثنى فتقول: سرت بزيد سيراً شديداً، أو سيرةً واحدةً، أو سيرتين، أو السير الذي تعلم. فإذا أوقعت فيه الفائدة فالباب فيه التصرف. وتقول: سير بزيد سيرٌ شديد، وسير بزيد سيرتان. فإن قلت: سير بزيد سيراً فالنصب الوجه، والرفع بعيد؛ لأنه توكيد، وقد خرج من معاني الأسماء. قال الله - عز وجل - : " فإذا نفخ في الصور نفخةٌ واحدةٌ " فرفع لما نعت. فإذا أخبرت عن الصور قلت: المنفوخ فيه نفخةٌ واحدة الصور. وإن أخبرت عن النفخة قلت: المنفوخة في الصور نفخةٌ واحدةٌ. وتقول: سير بزيد فرسخٌ إذا أقمته مقام الفاعل. فإن قيل: أخبر عنه، قلت: المسير بزيد فرسخٌ. فإن قيل: أخبر عن زيد قلت: المسير به فرسخٌ زيدٌ. وإن قلت: سير بزيد فرسخا، فنصبته نصب الظروف، ولم تقمه مقام الفاعل لم يجز الإخبار عنه. وكذلك سير بزيد يوماً، وسير بزيد سيرا. وكل ما لم تجعله من مصدر، أو ظرف اسماً فاعلاً أو مفعولاً على السعة لم يجز الإخبار عنه؛ لأن ناصبه معه؛ ألا ترى أنك إذا قلت: سير بزيد سيرا، فجعلت قولك بزيد تماماً فإنما هو على قولك: يسيرون سيراً. وإنما يكون الرفع على مثل قولك: سير بزيد يومان، وولد له ستون عاماً. فالمعنى: ولد لزيد الولد ستين عاماً، وسير به في يومين، وهذا الرفع الذي ذكرناه اتساعٌ. وحقيقة اللغة غير ذلك. قال الله عز وجل: " بل مكر الليل والنهار " ، وقال الشاعر:

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم

وقال:

فنام ليلي وتقضى همي

وقد استقصينا هذا في بابه، وإنما نذكر منه شيئاً للإخبار. فمن جعل اليوم ونحوه ظرفاً قال: اليوم سرت فيه؛ لأنه قد شغل الفعل عنه، فرد إليه ضميره على معناه. ومن جعله اسماً على الاتساع قال: اليوم سرته؛ كما تقول: زيد ضربته. فمن ذلك قوله:

ويومٍ شهدناه سليماً وعامراً ... قليلٍ سوى الطعن النهال نوافله

فقال: شهدناه، وإنما أراد: شهدنا فيه على ما ذكرت لك. فإن قيل: سير بزيد فرسخان يومين فأنت مخير: إن نصبتهما نصب الظروف قلت: فرسخين يومين. والاختيار: أن تقيم أحدهما مقام الفاعل، وإن نصبت اليومين نصب الظرف قلت: سير بزيد فرسخان يومين. فإن أخبرت عن الفرسخين قلت: المسيران بزيد يومين فرسخان. فإن أخبرت عن اليومين، وجعلتهما ظرفاً قلت: المسير بزيد فيهما فرسخان يومان. وإن جعلتهما اسمين على السعة قلت: المسير هما بزيد فرسخان يومان. فإن جعلت الإخبار عن الذي، وأخبرت عن الفرسخين قلت: اللذان سيرا بزيد يومين فرسخان. فإن أخبرت عن اليومين، وجعلتهما ظرفاً قلت: اللذان سير بزيد فيهما فرسخان يومان وإن جعلتهما مفعولين قلت: اللذان سيرهما بزيد فرسخان يومان، وإنما توحد الفعل لتقدمه. وتقول في الألف واللام: المسيران - إذا أخبرت عن الفرسخين - لأن الفعل لهما، وهو مردود إلى الألف واللام. وفي اليومين توحد؛ لأن الألف واللام لهما، والفعل للفرسخين، وأفردته لظهور فاعله بعده. ومثل ذلك قولك: القائمان أخواك؛ لأنك تريد: اللذان قاما، ثم تقول: القائم أبواهما أخواك؛ لأنك تريد: اللذان قام أبواهما، فتوحد الفعل؛ لظهور فاعله بعده. فإن قدمت الفرسخين على ما شرطنا في أصل المسألة قلت: الفرسخان المسيران بزيد يومين وإن قدمت اليومين قلت: اليومان المسير بزيد فيهما فرسخان. إن جعلتهما ظرفاً، وإن جعلتهما مفعولين قلت: المسير هما بزيد فرسخان. فإن قدمت الفرسخين، واليومين، وجعلت اليومين مفعولين قلت الفرسخان اليومان المسيراهما بزيدهما. بجعل الفرسخين ابتداءً، واليومان ابتداءً ثانياً، والمسيراهما ابتداءً ثالثاً؛ لأن الألف واللام للفرسخين؛ فلا يكون خبراً عن اليومين، وقولك هما ضمير اليومين على أنهما مفعولان. فإن جعلتهما ظرفين قلت: المسيران فيهما، وقولك هما خبر الألف واللام، والألف، واللام، وخبرها خبر اليومين، واليومان وما بعدهما خبر الفرسخين. وهذا إذا تأملته في الفاعل، والمفعول مثل قولك: الرجلان الجارية الضارباهما والتقدير: اللذان ضرباها هما. فإن جعلت الألف واللام في معنى التي قلت: الضاربها هما؛ لأنك أردت: التي ضربها الرجلان. ف التي خبرٌ عنها، وقولك هما إظهار الفاعلين؛ لأن الفعل جرى على غر من هو له. فعلى هذا تجري المسألة في الفرسخين. وتقول: زيد الضاربك أبوه، فإن أخبرت عن زيد قلت: الذي هو الضاربك أبوه زيدٌ. وإن أخبرت عن الضارب بغير أبيه فقلت: الذي زيد هو أبوه الضاربك لم يصلح؛ لأنك كنت ترفع أباه بالضرب والضمير لا معنى لفعل فيه؛ فمن هاهنا بطل. ولكن لو قلت: زيدٌ صاحبه أبوه، على أن تجعل صاحبه ابتداءً، وأباه خبراً جاز فقلت: الذي زيدٌ هو أبوه صاحبه؛ ألا ترى أنك لو قلت: زيدٌ صاحبه عمرٌو أو زيد عمرو أبوه صلح فاعتبر هذا بالأجنبي؛ كما وصفت لك.

هذا باب

الإخبار عن البدل

وذلك قولك: مررت برجلٍ زيدٍ. فإن قال لك قائل: أخبر عن زيد فإن فيه اختلافاً. يقول قوم: الإخبار عنه: أن تخبر عن الرجل، ثم تجعله بدلاً منه، فتقول: المار به أنا رجل زيد، فتجعله بدلاً؛ كما كان في المسألة. وقال آخرون: إنما الشرط الإخبار عن البدل لا عن المبدل منه، فإنما تبدل منه في موضعه، فتقول: المار أنا برجل به زيدٌ ترد الباء؛ لأن ضمير المخفوض لا ينفصل، وردها فيما يجوز انفصاله جائز حسن. قال الله تبارك وتعالى: " قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم " ، فوقع البدل برد حرف الجر. وقال الله عز وجل في موضع آخر: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " . فجاء البدل بلا حرف؛ لأنه ينفصل. فهكذا طريق البدل. فإن قلت: رأيت رجلا زيد، فخبرت عن زيد قلت: الرائي أنا رجلاً إياه زيدٌ، على هذا القول، وعلى القول الأول: الرائيه أنا رجلٌ زيدٌ، فعلى هذا فأجر البدل.

هذا باب

الإخبار في باب الفعلين المعطوف أحدهما على الآخر

وذلك قولك: ضربت، وضربني زيد. إذا أعملت الآخر فاللفظ معرًّى من المفعول في الفعل الأول، وهو في المعنى عامل، وكان في التقدير: ضربت زيداً، وضربني زيدٌ، فحذف، وجعل ما بعده دالاً عليه. وقد مضى تفسير هذا في بابه. فالعرب تختار إعمال الآخر؛ لأنه أقرب، وتحذف إذا كان فيما أبقوا دليل على ما ألقوا. قال الله عز وجل: " والذاكرين الله كثيراً والذاكرات " ، وقال: " والحافظين فروجهم والحافظات " . فالفعلان فارغان في اللفظ، معملان في المعنى. قال الشاعر:

نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأي مختلف

أراد: نحن راضون بما عندنا. فإذا أعملت الأول قلت: ضربت، وضربني زيدا، فإن قدمت ضربني قلت في إعمال الآخر: ضربني، وضربت زيدا قدمت الفعل مضمراً فيه الفاعل؛ لأن الفعل لا يخلو من فاعل، والذي بعده تفسيرٌ له، وهو من المضمر المتقدم على شريطة التفسير. وقد قلنا في هذا في موضعه ما يغني عن إعادته. وتقول: أعطيت، وأعطاني زيد درهماً، إذا أعملت الأخير. فإن أعملت الأول قلت: أعطيت وأعطانيه زيدا درهما. تريد: أعطيت زيدا درهما، وأعطانيه. وإعمال الأول في المسألة الأولى: ضربني، وضربته زيد. تريد: ضربني زيدٌ، وضربته. وتقول: ظنني، وظننت زيدا منطلقاً إياه. لا يكون إلا ذلك؛ لأن ظننت إذا تعدى إلى مفعول لم يكن من الثاني بدٌّ، فهكذا إعمال الأخير، ولم يجز أن تقول: إياه قبل أن تعطف؛ لأنك لا تضمر المفعول قبل ذكره. وإنما أضمرت الفاعل قبل فعله اضطراراً؛ لأنه لا يخلو فعلٌ من فاعل. فمن ثم وضعت إياه مؤخراً لما تقدم ما يرد الضمير إليه، وهو قولك: منطلق. فإن أعملت الأول، وقدمت ظننت، قلت: ظننت وظننيه زيدا منطلقا. أردت: ظننت زيدا منطلقا، وظننيه، وإن شئت وظنني إياه. وتقول: ظننت، وظناني منطلقاً أخويك منطلقين، على إعمال الأول، والتقدير: ظننت أخويك منطلقين، وظناني منطلقا، والضمير لا يكون هاهنا؛ لأن خبر الأخوين مخالفٌ لما يكون للواحد.وإن أعملت الآخر قلت: ظننت وظنني أخواك منطلقاً. أعملت الآخر، والأول فارغٌ في اللفظ، وهو في المعنى معمل لدلالة ما بعده عليه. وإنما يجب إذا تعدى الظن إلى المفعول الأول أن يتصل بالثاني؛ لأن الأول والثاني في محل الابتداء، وخبره. فالأول مذكورٌ ليرد إليه ما استقر له عند القائل من يقينٍ أو شك. ألا ترى أن قولك: ظننت زيداً منطلقا إنما وقع الشك في الانطلاق، والتقدير: زيدٌ منطلق في ظني. وقد مضى هذا مفسراً في أول الكتاب. وإنما ذكرنا هاهنا منه شيئاً ليصل به الإخبار عنه إن شاء الله. إذا قال القائل: ضربت وضربني زيداً. يريد: ضربت زيداً وضربني، فإن الإخبار عن التاء في قول جميع النحويين، إلا أن أبا عثمان المازني يقول في هذا الباب قولاً لم يقله أحدٌ، وقوله صحيحٌ يتبينه من سمعه، ويعلم أن ما كان اصطلاحاً.

يقول النحويون: إذا أخبروا عن التاء في ضربت وضربني زيدا: الضارب زيداً والضاربه هو أنا؛ لأن التقدير: ضربت زيداً وضربني. فلما قلت: الضارب زيداً، كانت الألف واللام لك، والفعل لك مجرى الفعل صلة لنفسه، فلم يحتج إلى إظهار ما بعده، وقلت: والضاربه هو؛ لأن الألف واللام لك، والفعل لزيد، فجرى الفعل على غير من هو له، فأظهرت الفاعل. فإن أخبرت عن زيد قلت: الضاربه أنا، والضاربي زيد. أظهرت نفسك؛ لأن الفعل لك، والألف واللام لزيد. فإن قلت: ضربت، وضربني زيد، فإن أخبرت عن نفسك قلت: الضارب زيدا، والضاربه هو أنا، فذكرت زيداً مع الفعل الأول ولم يكن الفعل من قبل الإخبار عنه متعدياً في اللفظ، فجعلته بمنزلته في المسألة الأولى. فإن أخبرت عن زيد فإن بين النحويين فيه اختلافاً: يقول قوم: الضاربه أنا، والضاربي زيد، ويقولون: ذكرنا الفعل غير متعدٍّ، ولا بد أن نعديه في الإخبار عنه؛ ليرجع الضمير إلى الألف واللام، وإلا لم يكن في صلة الذي ما يرجع إليه. وقال آخرون: تقول: الضارب أنا، والضاربي زيدٌ، فلا تذكر في الضارب شيئاً. فيقال لهم إن لم تريدوا الهاء فالكلام محالً؛ لأنه لا يرجع إلى الألف واللام اللتين في معنى الذي شيءٌ. فيقولون: نريدها، ونحن نحذفها. ولا اختلاف في أن حذفها من صلة الألف واللام رديء جداً، وإن كان يحذف من الذي فقد آل إلى القول الأول، إلا أنهم حذفوا ما إثباته أجود. فإنما كان حذفها جيداً في الذي إذا قلت: الذي ضربت زيد، والذي ضرب عبد الله زيدٌ، لأن الذي اسم بنفسه والفعل والفاعل والمفعول، فصار أربعة أشياء اسماً واحداً، فلم يجز حذف الذي وهو الموصول والمقصود، ولا حذف الفعل وهو الصلة، ولا حذف الفاعل؛ إذا كان الفعل لا يكون إلا منه، فحذف المفعول استخفافاً؛ لأن الفعل قد يخلو منه وهو في النية، ولولا ذلك لم يكن في الصلة ما يرجع إلى الموصول. والألف واللام في معنى الذي، وليس محلهما محله؛ لأنهما دخلا على ضارب؛ كما يدخلان على الرجل، إلا أن ضارباً وما أشبهه في معنى الفعل، فصارتا في معنى ما يوصل بالفعل وهذا مذهب النحويين. وهؤلاء الذين قد حذفوا الهاء قد صاروا إلى حال من أثبتها، إلا أن إثباتها أجود، وليس محلها في الصلة كمحلها في الفعل؛ لأن الموصول لا بد من أن يكون وقع في صلته ما يرجع إليه، والفعل المطلق يستغنى فيه عن ذلك، فيكون المفعول فيه فضلةً: كالحال والظرف والمصدر ونحو ذلك، مما إذا ذكرته زدت في الفائدة، وإذا حذفته لم تخلل بالكلام؛ لأنك بحذفه مستغنٍ؛ ألا ترى أنك تقول: قام زيد، فلولا الفاعل لم يستغن الفعل، ولولا الفعل لم يكن للاسم وحده معنى إلا أن يأتي في مكان الفعل بخبر. فإذا قلت: ضرب عبد الله زيدا، فإن شئت قلت: ضرب عبد الله، فعرفتني أنه قد كان منه ضرب، فصار بمنزلة: قام عبد الله، إلا أنك تعلم أن الضرب قد تعدى إلى مضروب، وأن قولك: قام لم يتعد فاعله، فإن قلت: ضرب عبد الله زيدا، أعلمتني من ذلك المفعول؟، وقد علمت أن ذلك الضرب لا بد من أن يكون في مكانٍ وزمان، فإن قلت: عندك أوضحت المكان، فإن قلت: يوم الجمعة بينت الوقت، وقد علمت أن لك حالاً، وللمفعول حالاً. فإن قلت: قائماً عرفتني الحال منك أو منه، فإن قلت: قاعداً أبنت عن خالك أو حاله. وقد علمت أن ذلك الضرب إما أن يكون كثيراً وإما قليلاً، وإما شديداً، وإما يسيراً. فإن قلت: ضرباً شديداً،أو بينت فقلت: عشرين ضربةً، زدت في الفائدة. فإن قلت: لكذا أو من أجل كذا أفدت العلة التي بسببها وقع الضرب. فكل هذا زيادةٌ في الفوائد، وإن حذفت استغنى الكلام، وليس الفاعل كذلك. ولو قلت: وعمرو حاضر، لزدت في الفائدة كنحو ما ذكرنا. وسنأتي على مسائل من هذا الباب على ما أصله النحويون، ثم نخبر عن فساد الباب في قولهم، وصحة مذهب أبي عثمان المازني إخباراً شافياً إن شاء الله. فإن قلت: أعطيت، وأعطانيه زيدا درهما. تريد: أعطيت زيدا درهما، وأعطانيه قلت: - إذا أخبرت عن نفسك - : المعطي زيدا درهما، والمعطيه هو إياه أنا. تريد: الذي أعطى زيدا درهما، والذي أعطاه زيدٌ إياه أنا. فقولك والمعطيه الألف واللام لك، والفعل لزيد؛ فلذلك أظهرت الفاعل، ولم تظهره في الأول؛ أنه مبنًى من أعطيت فالألف واللام لك، والفعل لك. ولو أخبرت ب الذي لم تحتج إلى أعادته مرتين؛ لأنك تجعل الفعلين في

صلته، ولا يستقيم ذلك في الألف واللام، فكنت تقول: الذي أعطى زيدا درهما، وأعطاه إياه أنا؛ فلم تحتج إلى هو؛ لأنك ذكرت الفعل، وإنما تحتاج إليه في اسم الفاعل؛ ألا ترى أنك تقول: زيد أضربه فلا يحتاج إلى شيءٍ، فإن وضعت موضعه ضاربه قلت: زيد ضاربه أنا، لأن الفعل يحتمل الضمير المتصل، واسم الفاعل لا يحتمل ذلك إلا أن يجري على صاحبه، فتقول: زيد ضاربك، فلا تحتاج إلى هو؛ لأنه خبر عن صاحب الفعل. فإن أخبرت في المسألة التي ذكرنا عن زيد قلت: المعطيه أنا درهما، والمعطيه زيد، وإن شئت قلت: والمعطي إياه. وإن أخبرت عن الدرهم فإن الصواب المختار في ذلك أن تقول: المعطي أنا زيدا إياه، والمعطي هو إياه درهمٌ. والنحويون يجيزون: المعطيه أنا زيدا، والمعطيه هو درهم. وهذا في الدرهم يبين لعلم السامع بأنه لا يدفع إليك زيدا ولكن قد يقع في مثل هذه المسألة: أعطيت زيدا عمرا فيكون عمرو المدفوع. فإن قدمت ضميره صار هو القابض والدافع عند السامع. فالوجه في هذا وفي كل مسألة يدخلها اللبس أن يقر الشيء في موضعه؛ ليزول اللبس. وإنما يجوز التقديم والتأخير فيما لا يشكل. تقول: ضرب زيد عمرا، وضرب زيدا عمرو؛ لأن الإعراب مبين. فإن قلت: ضرب هذا هذا، أو ضربت الحبلى الحبلى، لم يكن الفاعل إلا المتقدم. وإنما قلت في الإخبار عن الدرهم: المعطي أنا زيدا إياه؛ والمعطى هو إياه درهم، فأظهرت ضميرك، وضمير زيد؛ لأن الألف واللام الأوليين للدرهم. وكذلك كل ما أخبرت عنه فالألف واللام له؛ لأنه خبر، والابتداء شيءٌ هو هو، والفعل لك، فجرى على غير نفسه، فأظهرت الفاعل والألف واللام الأخيرتان له، لأنهما معطوفتان على الابتداء؛ ليكون خبراً عنهما جميعاً، والفعل لزيد؛ فلذلك أظهرت ضميره؛ إذ جرى على غير نفسه، وعطف الابتداء على الابتداء كقولك: القائم والقاعد زيد، وأخوك وصاحبك عبد الله. فإن أخبرت ب الذي لم تحتج إلى إعادتها مرتين؛ لأن الأفعال يعطف بعضها على بعض في صلة الذي. فإن أخبرت عن نفسك قلت: الذي أعطى وأعطاه إياه زيدا درهما أنا. جئت بالفعل في الصلة؛ كما كان قبل الإخبار عنه. يعني من التقديم والتأخير. فإن أخبرت عن زيد قلت: الذي أعطيته درهما. وأعطانيه زيد. هذا الأحسن أن تقدم الدرهم، لأنه لا بد من تقديم ضمير زيد؛ لأنك إذا قدرت على الضمير المتصل لم يجز أن تأتي بمنفصل. تقول: ضرب زيد عمرا. فإن كنيت عن عمرو قلت: ضربه زيد، ولم تقل: ضرب زيد إياه. فإن أخبرت عن الدرهم قلت: الذي أعطيته زيدا، وأعطانيه درهمٌ، وإن شئت قلت: الذي أعطيت زيدا إياه درهمٌ. والتقدير على ما ذكرت لك فيما يلبس. وفيما لا يلبس. وتقول: كسوت، وكسواني إياهما أخويك جبتين. فإن أخبرت عن نفسك قلت: الكاسي أخويك جبتين، والكاسيه هما إياهما أنا. فالمسألة كالمسألة الأولى، إلا أنك أفردت الفعل في الكاسي؛ لأن الألف واللام لك، والفعل للأخوين. فهو فعلٌ متقدم، وأظهرت هما، لأنه اسم الفاعلين، ولهذا ذكرنا هذه المسألة. فإن قلت: أعطيت وأعطاني أخواك درهمين، وكسوت وكساني زيد جبة، فأعلمت الأخير في هذه المسألة، إذا أخبرت عن نفسك قل: المعطي، والمعطيه أخواك درهمين أنا. فإن أخبرت عن الأخوين فقد مضى القول في حذف الضمير وإثباته؛ إذ كان من حذف يقدر فيه تقدير من أثبته فيقول: المعطيهما أنا درهما، والمعطياني إياه أخواك، فيصيران في الإخبار في إعمال الثاني في منزلتهما في إعمال الأول. فهذا الذي أخبرتك به من قول النحويين وكذلك الإخبار عن الدرهم. تقول: المعطيه أنا أخويك، والمعطياي إياه درهم، وإن شئت: المعطيانيه. فهذا كما وصفنا.، ولا يستقيم ذلك في الألف واللام، فكنت تقول: الذي أعطى زيدا درهما، وأعطاه إياه أنا؛ فلم تحتج إلى هو؛ لأنك ذكرت الفعل، وإنما تحتاج إليه في اسم الفاعل؛ ألا ترى أنك تقول: زيد أضربه فلا يحتاج إلى شيءٍ، فإن وضعت موضعه ضاربه قلت: زيد ضاربه أنا، لأن الفعل يحتمل الضمير المتصل، واسم الفاعل لا يحتمل ذلك إلا أن يجري على صاحبه، فتقول: زيد ضاربك، فلا تحتاج إلى هو؛ لأنه خبر عن صاحب الفعل. فإن أخبرت في المسألة التي ذكرنا عن زيد قلت: المعطيه أنا درهما، والمعطيه زيد، وإن شئت قلت: والمعطي إياه. وإن أخبرت عن الدرهم فإن الصواب المختار في ذلك أن تقول: المعطي أنا زيدا إياه، والمعطي هو إياه درهمٌ. والنحويون يجيزون: المعطيه أنا زيدا، والمعطيه هو درهم. وهذا في الدرهم يبين لعلم السامع بأنه لا يدفع إليك زيدا ولكن قد يقع في مثل هذه المسألة: أعطيت زيدا عمرا فيكون عمرو المدفوع. فإن قدمت ضميره صار هو القابض والدافع عند السامع. فالوجه في هذا وفي كل مسألة يدخلها اللبس أن يقر الشيء في موضعه؛ ليزول اللبس. وإنما يجوز التقديم والتأخير فيما لا يشكل. تقول: ضرب زيد عمرا، وضرب زيدا عمرو؛ لأن الإعراب مبين. فإن قلت: ضرب هذا هذا، أو ضربت الحبلى الحبلى، لم يكن الفاعل إلا المتقدم. وإنما قلت في الإخبار عن الدرهم: المعطي أنا زيدا إياه؛ والمعطى هو إياه درهم، فأظهرت ضميرك، وضمير زيد؛ لأن الألف واللام الأوليين للدرهم. وكذلك كل ما أخبرت عنه فالألف واللام له؛ لأنه خبر، والابتداء شيءٌ هو هو، والفعل لك، فجرى على غير نفسه، فأظهرت الفاعل والألف واللام الأخيرتان له، لأنهما معطوفتان على الابتداء؛ ليكون خبراً عنهما جميعاً، والفعل لزيد؛ فلذلك أظهرت ضميره؛ إذ جرى على غير نفسه، وعطف الابتداء على الابتداء كقولك: القائم والقاعد زيد، وأخوك وصاحبك عبد الله. فإن أخبرت ب الذي لم تحتج إلى إعادتها مرتين؛ لأن الأفعال يعطف بعضها على بعض في صلة الذي. فإن أخبرت عن نفسك قلت: الذي أعطى وأعطاه إياه زيدا درهما أنا. جئت بالفعل في الصلة؛ كما كان قبل الإخبار عنه. يعني من التقديم والتأخير. فإن أخبرت عن زيد قلت: الذي أعطيته درهما. وأعطانيه زيد. هذا الأحسن أن تقدم الدرهم، لأنه لا بد من تقديم ضمير زيد؛ لأنك إذا قدرت على الضمير المتصل لم يجز أن تأتي بمنفصل. تقول: ضرب زيد عمرا. فإن كنيت عن عمرو قلت: ضربه زيد، ولم تقل: ضرب زيد إياه. فإن أخبرت عن الدرهم قلت: الذي أعطيته زيدا، وأعطانيه درهمٌ، وإن شئت قلت: الذي أعطيت زيدا إياه درهمٌ. والتقدير على ما ذكرت لك فيما يلبس. وفيما لا يلبس. وتقول: كسوت، وكسواني إياهما أخويك جبتين. فإن أخبرت عن نفسك قلت: الكاسي أخويك جبتين، والكاسيه هما إياهما أنا. فالمسألة كالمسألة الأولى، إلا أنك أفردت الفعل في الكاسي؛ لأن الألف واللام لك، والفعل للأخوين. فهو فعلٌ متقدم، وأظهرت هما، لأنه اسم الفاعلين، ولهذا ذكرنا هذه المسألة. فإن قلت: أعطيت وأعطاني أخواك درهمين، وكسوت وكساني زيد جبة، فأعلمت الأخير في هذه المسألة، إذا أخبرت عن نفسك قل: المعطي، والمعطيه أخواك درهمين أنا. فإن أخبرت عن الأخوين فقد مضى القول في حذف الضمير وإثباته؛ إذ كان من حذف يقدر فيه تقدير من أثبته فيقول: المعطيهما أنا درهما، والمعطياني إياه أخواك، فيصيران في الإخبار في إعمال الثاني في منزلتهما في إعمال الأول. فهذا الذي أخبرتك به من قول النحويين وكذلك الإخبار عن الدرهم. تقول: المعطيه أنا أخويك، والمعطياي إياه درهم، وإن شئت: المعطيانيه. فهذا كما وصفنا.

وتقول في باب المفعولين اللذين لا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر، وهو باب ظننت وعلمت، كقولك في هذين المفعولين في إعمال الأول والثاني، وذلك نحو: ظننت، وظنني إياه زيدا ذا مال. فإن أخبرت عن نفسك قلت: الظان زيدا ذا مال، والظان هو إياه أنا؛ فلا بد من هو؛ لأن الألف واللام لك، والفعل له. فإن أخبرت عن زيد قلت: الظان أنا ذا مال، والظانيه زيدٌ، وإن شئت قلت: والظاني إياه. فإن أخبرت عن ذي المال قلت: الظان أنا زيدا إياه، والظاني هو إياه ذو المال؛ فيظهر ضميرك؛ لأن الفعل لك، والألف واللام الأولى لذي المال، والألف واللام الثانية لذي المال أيضاً، والفعل لزيد؛ فلذلك أظهرت ضمير زيدا. فإن أخبرت عن المال لم يجز في اللفظ؛ لأن قولك: ذو لا يضاف إلى المضمر. تقول: هذا ذو مال، ولا تقول: المال هذا ذوه. فإن جعلت مكانه ما يكون مثله في المعنى نحو قولك: صاحبه ومالكه صلح. فقلت - إذا أخبرت عن المال - : الظان أنا زيدا صاحبه، والظاني هو إياه المال. فإن أعملت الثاني فقلت: ظننت، وظنني زيدا منطلقا. فأخبرت عن نفسك قلت: الظان، والظانه زيدا منطلقا أنا. فإن أخبرت عن زيد قلت: الظانه أنا منطلقا، والظاني إياه زيدٌ. فلم تحتج إلى هو؛ لأن الألف واللام الثانية والفعل لزيد. فإن أخبرت عن منطلق قلت: الظان أنا زيدا إياه، والظاني هو إياه منطلق. فهذا على المنهاج الذي ذكرنا في باب أعطيت. فإن قدمت فقلت: ظنني، وظننت زيدا منطلقا إياه، على إعمال الأخير، خالف باب أعطيت؛ وذلك أنك تقول: أعطاني، وأعطاني زيد درهما، فلم تعتد بضمير الدرهم، وفي قولك: ظنني، وظننت زيدا منطلقا، لا بد من إياه؛ وذلك لأنك تقول: أعطيت زيدا، ولا تذكر المفعول الثاني فيجوز، ولا يجوز ظننت زيدا؛ لأن الشك إنما هو في المفعول الثاني؛ لأن الثاني خبر الأول، ولا يكون أبداً إلا بخبر، وأضمرت الفاعل مضطراً في قولك: ظنني قبل ذكره؛ لأنه لا يخلو فعل من فاعلٍ، ولا يضمر المفعول قبل ذكره مضطرا في قولك: ظنني؛ لأنه مستغنى عنه، فتذكره بعد أن ذكرت الاسم مظهراً حتى يرجع هذا الضمير إليه؛ فمن ثم قلنا في باب الظن والشك هما المفعولان اللذان لا يقتصر على أحدهما دون صاحبه. وكذلك: علمت، وعلمني زيد أخاك. فإن قلت: علمني وعلمت، فلا بد من إياه. تقول: علمني، وعلمت زيدا أخاك إياه. فهذا باب واحد. وكذلك الفعل الذي يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، ولا يكون في الأفعال ما يتعدى إلى أكثر من ذلك إلا ما كان من ظرف، أو حال، أو فضلة من الكلام نحوهما. فإنه في الأفعال كلها ما يتعدى منها وما لم يتعد على طريقة واحدة.

والفعل المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل قولك: أعلم الله زيدا عمرا خير الناس، فلما، أعلمه ذلك غيره صار مفعولاً بالإعلام، وما بعده على حاله، فاعتبره بأن تقول: علم زيد أن عمرا خير الناس، وأعلم الله زيدا أن عمرا خير الناس. وكذلك تقول: رأى عمرو زيداً الظريف. إذا أردت برأيت معنى علمت، لا رؤية العين. فإن أراه ذلك غيره قلت: أرى عبد الله عمرا زيدا خير الناس. وكذلك نبأت زيدا عمرا أخاك. فكذا هذه الأفعال. ولا يجوز الاقتصار على بعض مفعولاتها دون بعض؛ لأن المعنى يبطل العبارة عنه؛ لأن المفعولين ابتداءٌ وخبر. والمفعول الأول كان فاعلاً، فألزمه ذلك الفعل غيره، وصار كقولك: دخل زيد في الدار، وأدخلته إياها أنا. فإذا أخبرت عن الفاعل في قولك: أعلم زيد عمرا خالدا أخاك قلت: المعلم عمرا خالدا أخاك زيد. وإن أخبرت عن عمرو لم يجز عندي إلا أن تقول: المعلم زيدا إياه خالدا أخاك عمرٌو. فإن أخبرت عن خالد قلت: المعلم زيد عمرا إياه أخاك خالدٌ. فإن أخبرت عن الأخ قلت: المعلم زيد عمرا خالدا إياه أخوك. فإن لم تفعل هذا. وقلت: المعلمه في بعض هؤلاء المفعولين، التبس الكلام، إلا أن يكون الذي تقول فيه المعلمه المفعول الأول. فإن كان كذاك جاز، وإلا لم يفهم. وقد أجازه كثيرٌ من البصريين في المفعولات كلها، وليس قولهم في هذا شيئاً. فإن أخبرت ب الذي في قولك: أعلم زيد عمرا خالدا خير الناس قلت - إذا أخبرت عن الفاعل - : الذي أعلم خالدا عمرا خير الناس زيد. وإن أخبرت عن عمرو في قول من وصل الضمير قلت: الذي أعلم زيدا خالدا خير الناس عمرٌو. تريد: الذي أعلمه، فحذفت الهاء لطول الاسم؛ كقولك: الذي ضربت زيدٌ، وإن شئت جئت بها فقلت: الذي أعلمه. وإن فصلت الضمير قلت: الذي أعلم زيدا إياه خالدا خير الناس عمرٌو، ولا يجوز الحذف على هذا؛ لأن الحذف يصلح في صلة الذي إذا وصلتها بالمفعول الذي لا ينفصل بنفسه، فيحذف منه، كما يحذف الاسم إذا طال. نحو قولك في اشهيباب: اشهباب. وفي ميِّت: ميت، وكذلك صيرورة، وقيدودة. إنما أصل هذه المصادر: فيعلول، فألزمت التخفيف.وإذا انفصل المضمر تم بنفسه، فلم يجز حذفه؛ ألا ترى أنك تقول: الذي ضربت زيد، ولا تقول: الذي مررت زيد؛ لانفصال الكناية في الثاني. ولو قلت: الذي ضربت إياه زيدٌ، لم يجز حذف إياه لانفصاله. فعلى هذا يجري ما ذكرنا.

ثم نعود إلى تكثير المسائل في باب الفعلين المعطوف أحدهما على الآخر في قول النحويين المتقدمين، فإذا انقضى أخبرنا بفساده، وبالصواب الذي رآه أبو عثمان وأخبر عنه، ولا يجوز غيره إن شاء الله. إذا قلت: ضربني وضربت زيدا أضمرت الفاعل في ضربني مضطراً قبل ذكره؛ لأنه لا يخلو فعل من فاعل، فأخبرت عن زيد على قول النحويين قلت: الضاربي والضاربه أنا زيدٌ؛ ليكون الفعل غير متعدٍّ: كما كان في الفعل قبل الإخبار. فإن أخبرت عن المفعول، وهو أنت أيها المتكلم قلت: الضاربه هو، والضارب زيدا أنا، فخرج من هذا الشرط؛ لأنك عديت الضارب، ولو لم يكن متعدياً في الفعل؛ ألا ترى أنك إذا قلت: ضربت، وضربني زيد، فأخبرت عن نفسك تقول: الضارب زيدا، والضاربه هو أنا، فتعدى ضربت في الإخبار ولم يكن متعدياً في الفعل؛ فهذا الذي ذكرت لك من أن النحويين جروا فيه على الاصطلاح. وإنما الابتداء والخبر كالفعل والفاعل، فحق الكلام أن يؤدى في الإخبار كما كان قبل؛ فإذا زاد أو نقص فسد الشرط. ألا ترى أنك إذا قلت: قام زيد، فقيل لك: أخبر عن زيد، قلت: القائم زيد. وإذا قيل لك أخبر عن الدار في قولك: زيد في الدار، قلت: التي زيد فيها الدار، فجعلت ضميره كل شيءٍ تخبر عنه في موضعه، وجعلته خبراً. وتقول في قول النحويين: أعطيت وأعطاني زيد درهما، إذا أخبرت عن نفسك قلت: المعطى والمعطيه زيدٌ درهما أنا. وإن أخبرت عن زيد قلت: المعطيه أنا درهما، والمعطيه زيدٌ، وإن شئت والمعطي إياه، فهذا على خلاف الشرط؛ لأنك عديت أعطيت، ولم يكن متعدياً في الفعل. فإن قلت: أعطاني وأعطيت زيدا درهما - قلت - إذا أخبرت عن زيد: المعطي، والمعطيه أنا درهما زيد. فإن أخبرت عن نفسك قلت: المعطيه هو درهما، والمعطيه زيدا أنا، وإن شئت: والمعطي زيدا إياه أنا؛ فهذا على ما ذكرت لك.

وتقول على هذا الشرط في الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين ولا يقتصر على أحدهما كما قلت في هذا، لا فصل بينهما إلا أنك في ذلك إذا عديت إلى واحد فلا بد أن تعدي إلى آخر. فإن أخبرت عن زيد قلت: الظاني منطلقا، والظانه أنا إياه زيد. وإن أخبرت عن نفسك قلت: الظانه هو منطلقا، والظان زيدا إياه أنا. وإن أخبرت عن منطلق على هذه الشريطة التي جرت في قولهم، قلت: الظاني هو إياه، والظان أنا زيدا إياه منطلقٌ. فهكذا مجرى هذا في كلامهم. وهذه المسائل تدل على ما بعدها، وتجري على منهاجها فيما ذكرنا من الأفعال مما يتعدى إلى مفعول وإلى اثنين وإلى ثلاثة، وذلك قولك فيما تعدى إلى ثلاثة مفعولين في إعمال الأول: أعلمت وأعلمني إياه زيدا عمرا خير الناس، وإن شئت: أعلمت، وأعلمنيه إياه زيدا عمرا خير الناس. فإن أعملت الآخر قلت: أعلمت، وأعلمني زيد عمرا خير الناس. وإن أخبرت عن إعمال الأول عن نفسك قلت: المعلم زيدا عمرا خير الناس والمعلمه، هو إياه إياه أنا؛ فأظهرت هو؛ لأن الألف واللام لك، والفعل لزيد. فإن أخبرت عن زيد قلت: المعلمة أنا عمرا خير الناس، والمعلمي هو إياه إياه زيدٌ، وإن شئت قلت: والمعلميه هو إياه زيد. كل ذلك حسنٌ، لأن المفعول الأول في موضعه. فإن أخبرت عن عمرو قلت: المعلم أنا زيدا إياه خير الناس والمعلمي هو إياه عمرو؛ فأظهرت أنا وهو؛ لأن الألف واللام لعمرو، والفعل الأول لك، والثاني لزيد. فلما جرى على غير نفسه أظهرت الفاعل. فإن أخبرت عن خير الناس قلت: المعلم أنا زيدا عمرا إياه والمعلمي هو إياه إياه خير الناس، وإن شئت قلت: والمعلميه إلا أن الثاني من المنصوبات إياه، وهو ضمير خير الناس، ليقع كل واحد من هذه المفعولات في موضعه. فإن وصلته وهو متباعد التبس ولم يبن موضعه؛ ألا ترى أن قولك: أعلمت زيدا أن زيدا هو الذي عرفته، فإذا قلت: عمرا خير الناس، فإنما عرفته أن عمرا خير الناس. ولو قدمت لصار المعنى: أن خير الناس المعروف بذلك هو عمرو، وكان ذلك معلوماً، وصار عمرو الفائدة؛ ألا ترى أنك إذا قلت: أعطيت زيدا عمرا، أن عمرا المدفوع وزيدا هو المدفوع إليه. فضع هذه الأشياء مواضعها لتعرف معانيها. وإن أعملت الآخر على قول النحويين قلت: أعلمت، وأعلمني زيد عمرا خير الناس، فخبرت عن نفسك قلت: المعلم والمعلمه زيد عمرا خير الناس أنا. فقلت المعلم فلم تعده كما كان في الفعل. فإن أخبرت عن زيد قلت على قولهم: المعلمه أنا عمرا خير الناس، والمعلمي إياه إياه زيدٌ، وإن شئت: والمعلميه إياه زيد؛ فصار إعمال الآخر كإعمال الأول في قولهم وفيما ذكرنا دليل على جميع الباب.

هذا باب

الإخبار في قول أبي عثمان المازني

عن هذا الباب الذي مضى

إذا قلت: ضربت، وضربني زيد، فأعملت الآخر فإن الإخبار عنك أن تقول: الضارب أنا، والضاربي زيدٌ، فتجعل الضارب مبتدأ، وتجعل أنا خبره فيكون الخبر هاهنا كالفاعل هناك؛ لأن نظير الفعل والفاعل الابتداء والخبر، ويصير قولك الضاربي زيد متعدياً؛ كما كان في الفعل، ويكون جملة معطوفة على جملة كما كانت هناك. فاعتبر هذا فإنه لا يجوز غيره. فإن قلت: ضربني، وضربت زيدا، فأعلمت الآخر أضمرت الفاعل قبل ذكره على شريطة التفسير، فأخبرت عن زيد قلت: الضاربي هو، والضاربه أنا زيدٌ. جعلت الضاربي مبتدأ وعديته؛ كما عديته في قولك: ضربني، وجعلت الخبر هو؛ لأنك احتجت إلى أن يكون مضمراً على شريطة التفسير؛ كما كان في الفعل. ومما يصحح هذا الباب: أنه ليس شيءٌ يمتنع من أن يخبر عنه، وليس هكذا يقع في قول النحويين؛ لأنك لو قلت: ظناني منطلقا، وظننت أخويك منطلقين، فأخبرت عن المضمر في قولك: ظناني لم يجز؛ لأنك كنت تقول في التقدير: الظاناني منطلقا، والظان أنا أخويك منطلقين هما، فلا يقع في قولك: والظان أنا أخويك منطلقين شيءٌ يرجع إلى الألف واللام فيبطل؛ لأنه ليس في الصلة ما يرجع إلى الموصول. وفي قول أبي عثمان إذا أخبرت عنهما قلت: الظاناني منطلقا هما، فتجعل الخبر هما وهو مضمر، ثم تقول: والظان أخويك منطلقين أنا، فتعطف الجملة على الجملة، وفي صلة كل واحد منهما ضمير يرجع إليه، وسنذكر من المسائل ما يوضح صحة هذا المذهب ويبطل ما سواه إن شاء الله. وفي قول النحويين أنك إذا قلت: ضربت، وضربني زيد، فإن الإخبار عن التاء في ضربت، وعن الياء في ضربني واحد؛ لأنهما يرجعان إلى شيءٍ واحد. وذلك قولك على مذهب النحويين: الضارب، والضاربه زيد أنا. وهذان - وإن كانا راجعين إلى شيءٍ واحد - فإنما ذلك في المعنى. فأما اللفظ والموضع فمخالفان له. وفي قول أبي عثمان إن أخبرت عن التاء قلت: الضارب أنا والضاربي زيدٌ، فتجعل الضارب مبتدأ، وأنا خبره، ولا تعده؛ كما لم يكن في الفعل متعدياً، وتأتي بالفعل، والفاعل في الإخبار وهو: والضاربي زيد؛ لأن الكلام إنما كان: ضربت وضربني زيد، فجعلت الابتداء والخبر كالفعل والفاعل، وجعلت المتعدي متعدياً، والممتنع ممتنعاً. فإن أخبرت عن الياء في ضربني قلت: الضارب أنا، والضاربه زيد أنا؛ كما كنت قائلاً إذا أخبرت عن نفسك في قولك: ضربني زيد: الضاربه زيدٌ أنا، لأن قولك: وضربني زيد هو الذي وصفنا؛ أفلا ترى إلى بيان هذا، واشتماله على كل اسم، وامتناع قول النحويين من بعض الأسماء؛ لامتناع الصلات من راجع إلى الموصولات. ويقول النحويون: إذا قلت: ظننت، وظنني أخواك منطلقا، فالتقدير في المعنى: أن يكون ظني بهما كظنهما بي. فإن أخبرت في قول النحويين عن الأخوين فقلت: الظان أنا، والظانان منطلقا أخواك كان محالاً؛ لأن قولك: الظان أنا الألف واللام للأخوين؛ لأنهما الخبر، وليس في الصلة ما يرجع إلى الموصول فهذا عندهم محال، وكذلك هو على تقديرهم، ويجيزون في الذي؛ لأنهم لا يحتاجون إلى تكريرها مرتين، ولكنهم يذكرونها مرة ويعطفون أحد الفعلين على الآخر، فيرجع الذكر في أحدهما، فيكون كلاماً. والتقدير: اللذان ظننت، وظناني منطلقا أخواك فيصير الضمير في ظناني يرجع إلى اللذين. والقول في هذه المسألة على قول أبي عثمان وهي: ظننت، وظنني أخواك منطلقا أن تقول - إذا أخبرت عن نفسك - : الظان أنا، والظانان منطلقا أخواك، فيصير الألف واللام في الظان لك، وتجعل أنا خبر الابتداء؛ كما كان في المسألة فاعلاً، ولا تعده؛ لأنه كان هناك غير متعدٍّ، ثم تعطف عليه الجملة على ما كانت في الفعل. فهذا لا يمتنع منه شيءٌ. فكل ما ورد عليك من هذا الباب فقسه على ما ذكرت لك تجده مستقيماً إن شاء الله.

هذا باب

من الذي والتي

ألفه النحويون فأدخلوا الذي في صلة الذي وأكثروا في ذلك

وإنما قياسه قياس قولك: الذي زيد أخوه أبوك، فتصل الذي بالابتداء والخبر، وقولك: أبوك خبر الذي؛ لأنه ابتداءٌ فتقول - إذا كان الذي غير مبتدأ - : أرأيت الذي أخوه أبوك، فكأنك قلت: رأيت زيدا. وقد أعلمتك أن الذي يوصل بالفعل والفاعل، وبالابتداء والخبر، والظرف، ولا بد في صلة الذي من راجع إليه يوضحه. فإذا قلت: رأيت الذي قام، فاسمه في قام، وكذلك: رأيت الذي في الدار. فإن كان الاستقرار والقيام لغيره، قلت: رأيت الذي في الدار أبوه، ورأيت الذي قام صاحبه. على ذلك يجري، كذلك: رأيت الذي إن يأتني آته؛ لأن المجازاة جملة، وفيها ما يرجع إليه. وإذا وصلت الذي بالذي فلا بد للثاني من صلة وخبر، حتى يكون في صلة الأول ابتداءً، وخبراً. تقول: الذي الذي في داره زيد أخوك. فقولك الذي ابتداءٌ، والثاني مبتدأٌ في صلته، وقولك في داره فيه ضميران: مرفوع بالاستقرار، ومخفوض بالإضافة. فالمرفوع يرجع إلى الذي الثاني، والمخفوض يرجع إلى الأول وزيد خبر الذي الثاني، وأخوك خبر الذي الأول؛ لأن الثاني صار بصلته، وخبره صلة للأول. فهذا مجرى هذا الباب. وتقول: الذي التي اللذان ضربا جاريتها أخواك عنده عبد الله. فالذي ابتداءٌ، والتي ابتداءٌ في صلة التي، واللذان ابتداءٌ في صلة التي، وقولك ضربا جاريتها صلة اللذين، والهاء في جاريتها ترجع إلى التي، وأخواك خبر اللذين فتمت صلة الذي، وقولك عبد الله خبر الذي. فإن أدخلت على هذا كان فالكلام على حاله إلا الذي، وعبد الله فإنك جاعل أحدهما اسم كان، والآخر خبره. وتقول: اللذان التي في الدار صاحبتهما أخواك على ما شرحت لك. فإن قلت الذي التي اللذان الذين التي في الدار جاريتهم منطلقون إليهما صاحباها أخته. زيدٌ، كان جيداً بالغاً. تجعل الذي مبتدأ، والتي ابتداءً في صلة الذي، واللذان ابتداءً في صلة التي، والذين ابتداءً في صلة الذين، والتي ابتداءً في صلة الذين، وقولك في الدار صلة التي وجاريتهم خبر التي، والضمير يرجع إلى الذين، وقد تمت صلتهم؛ لأن التي وصلتها ابتداءٌ، وجاريتهم خبر ذلك الابتداء. فقد تمت صلة الذين، وقولك منطلقون إليهما خبر الذين، فقد تمت صلة اللذين، وقولك صاحباها خبر اللذين فقد تمت صلة التي الأولى، وأخته خبر التي الأولى، والهاء ترجع إلى الذي فقد تمت صلة الذي، وزيد خبر الذي فقد صح الكلام.

هذا باب

الإضافة وهو باب النسب

اعلم أنك إذا نسبت رجلاً إلى حيٍّ أو بلد أو غير ذلك، ألحقت الاسم الذي نسبته إليه ياءً شديدة؛ ولم تخففها لئلا يلتبس بياء الإضافة التي هي اسم المتكلم. وذلك قولك: هذا رجلٌ قيسي، وبكري، وكذلك كل ما نسبته إليه.

واعلم أن الاسم إذا كانت فيه ياءٌ قبل آخره، وكانت الياء ساكنة، فحذفها جائز؛ لأنها حرف ميت، وآخر الاسم ينكسر لياء الإضافة، فتجتمع ثلاث ياءات مع الكسرة، فحذفوا الياء الساكنة لذلك. وسيبويه وأصحابه يقولون: إثباتها هو الوجه. وذلك قولك في النسب إلى سليم: سلمى، وإلى ثقيف: ثقفي، وإلى قريش: قرشي. وإثباتها كقولك في نمير: نميري، وقشير: قشيري، وعقيل: عقيلي، وتميم: تميمي. فإن كانت هاء التأنيث في الاسم فالوجه حذف الياء؛ لمل يدخل الهاء من الحذف والتغيير. وذلك قولك في ربيعة: ربعي، وفي حنيفة: حنفي، وفي جذيمة: جذمي، وفي ضبيعة: ضبعي. فأما قولهم في الخريبة: خريبي، وفي السليقة: سليقي فهذا بمنزلة الذي يبلغ به الأصل؛ نحو: لححت عينه، " واستحوذ عليهم الشيطان " . والوجه ما ذكرت لك. فإن كانت الياء متحركة لم تحذف. وذلك قولك في حمير: حميري، وفي عثير: عثيري.

هذا باب

النسب إلى كل اسم قبل آخره ياء مشددة

واعلم أنه لا بد من حذف إحدى الياءين؛ لاجتماع الياءات والكسرة. والتي تحذفها المتحركة؛ لأنها لو بقيت للزمها القلب والتغيير. فأما القلب فلانفتاح ما قبلها، وأما التغيير فلاجتماع الحركات مع الحروف المعتلة. فلو شئت لأسكنت. وذلك قولك في النسب إلى أسيد: أسيدي، وإلى هين: هيني، وإلى ميت: ميتي. لا يكون إلا ذلك. وقد كان يجوز التخفيف من قبل ياء النسب استثقالاً للإدغام في حروف اللين، فلما توالت الياءات والكسرة لم يكن إلا التخفيف. فأما التخفيف الأول فهو قولك في ميت: ميت، وكذلك في سيد: سيد، وفي هين: هين، ولين: لين. ويلزم التخفيف باب صيرورة، وقيدودة، وكينونة، لكثرة العدد. ولولا التخفيف لكان كينونة، وصيرورة؛ لأنها فيعلولة. فإن قال قائل: فما أنكرت أن يكون فعلولة؟ قيل له: لو كانت فعلولة لخالفت؛ لأن هذا البناء لا يكون إلا مضموم الأول، وكنت تقول: كونونة، وقودودة؛ لأنها من القود، والكون؛ ألا ترى أن ميت لو كان فعل لكان موت؛ لأنه من الواو، ولكنه محذوف من فيعل. فهذا أمرٌ واضح.

هذا باب

ما كان على ثلاثة أحرف مما آخره حرف لينٍ

اعلم أن ما كان من ذلك على فعلٍ فإن الألف مبدلة من يائه أو واوه. وذلك قولك: رحاً، وقفا، وعصا. واعلم أن النسب إلى ما كان من الياء كالنسب إلى ما كان من الواو. وذلك أنك تقلب هذه اللف واواً من أي البابين كانت. تقول في قفا: قفوي، وفي عصا: عصوي، وكذلك حصًى، ورحًى. تقول: حصوي، ورحوي. وإنما قلبت الألف المنقلبة من الياء واواً؛ لكراهيتك اجتماع الياءات والكسرات، فصار اللفظ في النسب إلى المقصور الذي على ثلاثة أحرف واحدا. وكذلك إن كان على فعل؛ نحو: عمٍ، وشقٍ. ذهبت به في النسب إلى فعل فقلت: عموي، وشقوي، وفي النسب إلى الشجي: شجوي؛ فإنما فعلت ذلك كراهيةً لاجتماع الياءات والكسرات. وأنت في غير المعتل كنت تفعل ذلك كراهيةً لتوالي الكسرتين والياءين. فهذا هاهنا أوجب. فأما غير المعتل فنحو قولك في النمر: نمري، وفي شقرة: شقري؛ ألا ترى أنك قد سويت بين فعل، وفعل. فلو كان مكان الكسرة ضمةٌ لم تغيره؛ لأنه لم يتوال ما تكره. وذلك قولك في سمرة: سمري لا غير. فإن كان على فعل وفعل جرى مجرى غير المعتل. وذلك أنه يسكن ما قبل آخره، فيقع عليه الإعراب كما يقع على غير المعتل. وذلك قولك: هذا ظبي، ودلو، ونحي، وجرو فاعلم. على هذا يجري جميع هذا. فإذا نسبت إليه قلت: ظبي، ونحي، وكذلك إن لحقت شيئاً منه الهاء؛ لأن ياء النسب تعاقب هاء التأنيث. فكل ما نسبت إليه فالهاء ملغاة منه، فكأنه لم تكن هاءٌ. ألا ترى أنك تقول في النسب إلى طلحة: طلحي، وإلى حمدة: حمدي. فأما قول يونس في النسب إلى ظبية: ظبوي فليس بشيءٍ. إنما القول ما ذكرت لك. فإن كانت الياء شديدة أصلية فإن النسب على ضربين: الأحسن في النسب إلى حية: حيوي. تحرك ما قبل الياء الثانية؛ لتقلبها ألفاً، فإنها إذا كانت كذلك انقلبت واواً في النسب، وإن تركت على حالها جاز، وفيه قبحٌ؛ لاجتماع أربع ياءات مع الكسرة. وذلك قولك: حيي. ومن قال: حيوي قال في النسب إلى لية - وهو المصدر من لويت - : لووي؛ لأنها لوية في الأصل. فلما زال الإدغام أظهرت الواو. فإن كانت الياء زائدة مثقلة فلا اختلاف في حذفها لياء النسب. وذلك قولك في النسب إلى بختيٍّ: بختيٌّ فاعلم، وإلى بخاتي: بخاتيٌّ فتصرف؛ لأن الياء الظاهرة ياء النسب. فإنما وجب حذف هاتين الياءين ليائي الإضافة؛ لأن ياءي الإضافة تعاقب هاء التأنيث، فتقول في النسب إلى طلحة: طلحي، وإلى حنظلة: حنظلي. وإنما عاقبتها؛ لأنه يؤتى بها زائدةً في الاسم بعد الفراغ من تمامه، فإنهما يحلان محلاً واحداً. ألا ترى أنك تقول تمرة، وتمر، وبرة وبر، فلا يكون بين الواحد والجمع إلا الهاء. وتقول على هذا: زنجي وزنج ورومي، وروم، فلا يكون بينهما إلا الياء المشددة؛ فلذلك حلتا محلاً واحداً. فلما كانت الهاء تحذف لياء النسب كان حذف الياء لها أوجب؛ لأنك أو أقررتها كنت تجمع بين أربع ياءات مع العلة التي ذكرنا من مضارعة الهاء. فعلى هذا فأجر هذا الباب.

هذا باب

الإضافة إلى الاسم الذي يكون آخره ياء مشددة

والاخيرة لام الفعل

اعلم أنك إذا نسبت إلى شيء من ذلك فإن الوجه أن تحذف من الاسم الياء الخفيفة التي كنت تحذفها من حنيفة، وثقيف، فإذا فعلت ذلك انقلبت الياء فيها ألفاً، ثم انقلبت واو ليائى النسبة؛ كما تجب في لامات الفعل.

فمن ذلك قولك في عدى: عدوى؛ لأنك لما حذفت الياء التي تزيد في فعيل صارت عد. فاعلم على وزن عم، فذهبت بفعل إلى فعل لما ذكرت لك قبل هذا الباب، فقلت: عدوى؛ كما قلت: عموى.

ومثل ذلك النسب إلى أمية. تقول: أموي. تحذف ياء التصغير، فيصير كأنك نسيت إلى فعل.

وكذلك قصى تقول في النسب إليه: قصوى. فعلى ما ذكرت لك فأخر هذا الباب.

هذا باب

النسب إلى المضاف من الأسماء

اعلم أن الإضافة على ضربين: أحدهما: ما يكون الأول معروفاً بالثاني؛ نحو قولك: هذه دار عبد الله، وغلام زيد، فإن نسبت إلى شيءٍ من هذا فالوجه أن تنسب إلى الثاني؛ لأن الأول إنما صار معرفة به. وذلك قولك في ابن الزبير: زبيري، وفي غلام زيد: زيدي. والوجه الآخر في الإضافة: أن يكون المضاف وقع علما، والمضاف إليه من تمامه، فالباب النسب إلى الأول، وذلك قولك في عبد القيس: عبدي، وكذلك إن نسبت إلى رجل من عبد الدر: عبديٌّ، وكذلك إن نسبت إلى أبي عبد الله بن دارم. وقد تشتق العرب من الاسمين اسماً واحداً لاجتناب اللبس؛ وكذلك لكثرة ما يقع عبد في أسمائهم مضافاً، فيقولون في النسب إلى عبد القيس: عبقسي، وإلى عبد الدار: عبدري، وإلى عبد شمس: عبشمي. والوجه ما ذكرت لك أولاً. وإنما فعل هذا لعلة اللبس.

هذا باب

الإضافة إلى الاسمين اللذين يجعلان اسماً واحداً

اعلم أنك إذا نسبت إلى اسمين قد جعلا اسماً واحداً فإنما النسب إلى الصدر منهما. وذلك قولك في النسب إلى بعلبك: بعلي، وإلى حضرموت: حضري، وإلى رام هرمز: رامي. وقد يجوز أن تشتق منهما اسماً يكون فيه من حروف الاسمين؛ كما فعلت ذلك في الإضافة. والوجه ما بدأت به لك. وذلك قولك في النسب إلى حضرموت: حضرمي؛ كما قلت في عبد شمس، وعبد الدار: عبشمي، وعبدري.

هذا باب

ما يقع في النسب بزيادة

لما فيه من المعنى الزائد على معنى النسب

وذلك قولك في الرجل تنسبه إلى أنه طويل اللحية: لحياني، وفي طويل الجمة: جماني، وفي طويل الرقبة: رقباني، وفي كثير الشعر: شعراني؛ فإنما زدت لما أخبرتك به من المعنى فإن نسبت رجلاً إلى رقبة، أو شعر، أو جمة قلت: جميٌّ، وشعريٌّ، ورقبيٌّ، لأنك تزيد فيه ما تزيد في النسب إلى زيد، وعمرو.

واعلم أن أشياء قد نسب إليها على غير القياس للبس مرةً، وللاستثقال أخرى، وللعلاقة أخرى. والنسب إليها على القياس هو الباب. فمن تلك الأشياء قولهم في النسب إلى زبينة: زباني. وإنما الوجه زبني؛ كقولك في حنيفة: حنفي، وفي ربيعة: ربعي، ولكنهم أبدلوا الألف من الياء؛ كما قالوا في بقي: بقا، وفي رضى: رضا. والبدل كثير في الكلام، وهو مشروحٌ في باب التصريف. ومن ذلك قولهم من النسب إلى الشام، واليمن: يمان يا فتى، وشآمٍ يا فتى، فجعلوا الآلف بدلاً من إحدى الياءين. والوجه: يمني، وشامي. ومن قال: يماني فهو كالنسب إلى منسوب، وليس بالوجه. وقالوا في النسب إلى تهامة: تهامي فاعلم، ومن أراد العوض غير، ففتح التاء، وجعل تهامة على وزن يمن فتقديره: تهم فاعلم، ويقال في النسب إليه تهامٍ فاعلم. ففتحة التاء تبين لك أن الاسم قد غير عن حده. وكل شيءٍ سميته باسمٍ من هذه، فنسبته إليه لم يكن إلا على القياس. ألا ترى أنك تقول: تقية، وتكأة فتبدل التاء من الواو، ولو بنيت من هذا شيئاً اسماً لحذفت التاء وردت الواو؛ لأنها الأصل. فالبدل يقع لمعانٍ في أشياء ترد إلى أصولها، فهذا ما ذكرت لك. وقد قالوا في النسب إلى البصرة: بصري، فالكسر من أجل الياء، والوجه: بصري، ولو سميت شيئاً البصرة فنسبت إليه لم تقل إلا: بصري وهو أجود القولين في النسب قبل التسمية. وكذلك قولهم في الذي قد أتى عليه الدهر عليه: دهري؛ ليفصلوا بينه وبين من يرجو الدهر، ويخافه، والقياس: دهري في جميعها. فكل ما كان على نحوٍ مما ذكرت لك فالتسمية ترده إلى القياس.

هذا باب

النسب فيما كان على أربعة أحرف ورابعه ألف مقصورة

أما ما كانت ألفه أصلاً، أو ملحقة بالأصل منصرفةً في النكرة فإن الوجه فيه، والحد إثبات الألف، وقبلها واواً؛ للتحرك الذي يلزمها، وذلك قولك في النسب إلى ملهى: ملهوي، وإلى معزًى: معزوي، وإلى أرطًى: أرطوي. فإن كانت الألف للتأنيث ففيها ثلاثة أقاويل: أجودها، وأحقها بالاختيار، وأكثرها، وأصحها، وأشكلها لمنهاج القياس حذف الألف. فتقول في النسب إلى حبلى: حبلي، وإلى دنيا: دنيي، وكذلك بشرى، وسكرى، ودفلى، وما أشبه ذلك. ويجوز أن تلحق واواً زائدة، لأنك إذا فعلت ذلك فإنما تخرجه إلى علامة التأنيث اللازمة له. وذلك قولك دنياوي، ودفلاوي حتى يصير بمنزلة حمراوي، وصحراوي. فهذا مذهب وليس على الحد، ولكنك وكدته؛ لتحقق منهاج التأنيث. والقول الثالث: أن تقلب الألف واواً؛ لأن الألف رابعة، فقد صارت في الوزن بمنزلة ما الألف من أصله. تقول: حبلوي، ودفلوي. فمن قال هذا فشبهه بملهًى، ومعزًى أجاز في النسب إلى ما الألف فيه أصلية الحذف يشبهها بألف التأنيث؛ كما شبه الألف به. تقول: ملهي، ومعزي في النسب إلى ملهًى، ومعزًى. وهو أردأ الأقاويل؛ لأن الفصل هاهنا لازم؛ إذ كان أحد الألفين أصلاً، والآخر زائداً.

فإن كانت الألف خامسة مقصورة فليس فيها إلا الحذف منصرفةً كانت أو غير منصرفة. وذلك نحو: مرامى، وحبارى، وشكاعى. تقول: مرامي، وحباري. وذلك لأنها كانت تحذف رابعة إذا كانت للتأنيث، ويجوز مثل ذلك فيها إذا كانت أصلية، فلما زاد العدد لم يكن إلا الحذف، وكلما ازداد كثرةً كان الحذف أحرى. وكذلك إن كان على أربعة أحرف ثلاثةٌ منها متحركةٌ لم يكن إلا الحذف، ولم تكن الألف إلا للتأنيث. وذلك نحو: جمزى لأنها لا يكون فيها مثل لغة من قال: حبلوي؛ لأن الحركة أخرجته عن ذلك؛ كما أخرجت قدماً عن أن تنصرف، اسم امرأة؛ كما تنصرف هند، ودعد؛ لأنها زادت عليها حركة.

فإن كان الاسم ممدوداً لم يحذف منه شيءٌ، وانقلبت المدة واواً لأنها حرفٌ حيٌّ فلا يحذف، ولأنها للتأنيث تنقلب، ولا تكون كحرف الأصل. وذلك قولك في حمراء: حمراوي، وفي خنفساء: خنفساوي. فإن كان منصرفاً وحروفه أصلٍ فالوجه إقرار الهمزة وذلك قولك في النسب إلى قراء: قرائي. فالهمزة أصلٌ، وفي رداء: ردائيُّ. فالهمزة منقلبة، وحالها كحال تلك. وكذلك الملحقة نحو: علباءٍ، و حرباءٍ، وقد يجوز القلب في هذا المنصرف؛ نحو: علباوي، وحرباوي. فهو في هذا الحيز أصلح؛ لأن الهمزة زائدة. ويجوز أيضاً في رداءٍ، وكساءٍ وهو فيهما أجود منه في قراءٍ لأن الهمزة في رداءٍ، وكساءٍ منقلبة وهو فيه أبعد أن تقول: قراوي.

هذا باب

النسب إلى الجماعة

اعلم أنك إذا نسبت إلى جماعة فإنما توقع النسب على واحدها. وذلك قولك في رجلٍ ينسب إلى الفرائض: فرضي؛ لأنك رددته إلى فريضة، فصار كقولك في النسب إلى حنيفة: حنفي. فهذا هو الباب في النسب إليها. والنسب إلى مساجد: مسجدي، وإلى أكلب: كلبي. وإنما فعل ذلك؛ ليفصل بينها وهي جمعٌ وبينها إذا كانت اسماً لشيءٍ واحد؛ لأنها إذا سمي واحدٌ بشيءٍ منها كان النسب على اللفظ؛ لأنه قد صار واحداً. وذلك قولك في رجلٍ من بني كلاب: كلابي. فإن نسبته إلى الضباب قلت: ضبابي. وتقول رجل معافري ومعافر بن مر أخو تميم. وتقول في النسب إلى أكلب من خثعم: أكلبي، وكذلك هذا أجمع. ونظير ذلك قولك في النسب إلى المدائن: مدائني؛ لأنها اسمٌ لبلد واحد. وتقول في رجل من أبناء سعد. أبناوي؛ لأنه قد صار اسمٌ لهم، ولو قلت ابنائي كان جيداً؛ كما تقول: كسائي وكساوي. فإن نسبت إليه وأنت تقدر أن كل واحد منهم ابن على حياله، ثم تجمعهم. قلت: ابني وبنوي. أي ذلك قلته فصوابٌ: لأنه النسب إلى ابن.

هذا باب

النسب إلى كل اسم على حرفين

اعلم أنه ما كان من الأسماء على حرفين فإن رد الحرف الثالث إليه في الجمع بالتاء، أو التثنية. فالنسبة ترده. لا يكون إلا ذلك. وذلك قولك في النسب إلى أخت: أخوي؛ لقولك: أخوات، وإلى سنة: سنوي فيمن قال: سنوات. ومن قال: سانهت، مسنيهة في التحقير قال: سنهي. وفي النسب إلى أب، وأخ: أبوي، وأخوي؛ لقولك: أبوان، وأخوان، وكذلك هذا الجمع لا يكون غير ما ذكرت لك. وإن لم ترد الحرف الثالث في تثنية، ولا جمع بالتاء فأنت في النسب مخير: إن شئت رددته، وإن شئت لم تردده. وذلك قولك في النسب إلى دمٍ: دميٌّ، ودمويٌّ، وفي النسب إلى يدٍ: يدي، ويدوي في قول سيبويه. فأما الأخفش فبقول: يديٌّ، ويديي، ويقول: أصل يدٍ فعل، فإن رددت ما ذهب رجعت بالحرف إلى أصله. فهذا قوله في كل هذا. وسيبويه وأصحابه يقولون: رددنا إلى حرف قد لزمه الإعراب لجهد الاسم؛ فلا يحذف ما كان يلزمه قبل الرد. وسيبويه يزعم أن دما فعل في الأصل، وهذا خطأ؛ لأنك تقول: دمي يدمى فهو دمٍ. فمصدر هذا لا يكون إلا فعل؛ كما تقول: فرق يفرق، والمصدر الفرق، والاسم فرقٌ، وكذلك الحذر، والبطر، وجميع هذا الباب. ومن الدليل أنه فعلٌ أن الشاعر لما اضطر جاء به على فعل. قال:

جرى الدميان بالخبر اليقين

فأما يدٌ ففعل ساكنة لا اختلاف في ذلك؛ لأن جمعها أيدٍ وأفعل إنما هو جمع فعل؛ نحو: أكلب، وأفلس، وأفرخ. وغدٌ فعل؛ لأن أصله غدو.

وحق هذه السماء المحذوفة أن يحكم عليها بسكون الأوسط إلا أن تثبت الحركة؛ لأن الحركة زيادة؛ فلا تثبت إلا بحجة؛ ألا ترى أن الشاعر لما اضطر إلى الرد رد على الإسكان فقال:

إن مع اليوم أخاه غدوا

وقال الشاعر:

وما الناس إلا كالديار وأهلها ... بها يوم حلوها وغدواً بلاقع

وإنما كانت الإضافة رادةً ما رجع في التثنية والجمع بالتاء وما لم ترده تثنيه ولا جمعٌ لأن الإضافة أردٌ؛ وذلك أنها مغيرة أواخر الأسماء لا محالة؛ لأن الإعراب عليها يقع، ولأنه يلزمها الحذف من قولك: أسيدي، وأموي، وحنفي، ونحو ذلك. والتغير في مثل بصري وما ذكرنا يدل على ما بعده؛ فلذلك كنت راداً في الإضافة ما يرجع في تثنية أو جمع بالتاء لا محالة، ومخيراً فيما لم يرجع في تثنية ولا جمع.

واعلم أن كل ما كان من بنات الحرفين فحذفن منه حرفاً مزيداً تجعل عدته ثلاثة فلا بد من الرد؛ لأنك لما حذفت ما ليس منه لزمك أن ترد ما هو منه؛ إذ كنت قد ترد فيما لا تحذف منه شيئاً؛ لأنه له في الحقيقة. وذلك قولك في النسب إلى ابن: ابني إذا اتبعت اللفظ، فإن حذفت ألف الوصل رددت موضع اللام فقلت: بنوي. ولا تقول في أخت إلا أخوي؛ لأن التاء تحذف كما تحذف الهاء في النسب؛ لأنها تلك في الحقيقة. وذلك قولك في طلحة: طلحي، وفي عمرة: عمري، فإذا حذفت التاء من أخت لم تقل إلا أخوي، وكذلك بنت: بنوي؛ لأن التاء تذهب. ومن قال: ابنة. قال: ابني على قولك: ابني في ابن. ومن قال في ابن: بنوي قال في مؤنثه: بنوي. وذلك أن النسب إلى كل مؤنثٍ كالنسب إلى مذكره. تقول في النسب إلى ضارب: ضاربي، وكذلك هو إلى ضاربة.

هذا باب ما كان على حرفين مما ذهب منه موضع الفاء

وذلك قولك: عدة، وزنة؛ لأن الأصل كان وعدة، ووزنة؛ لأنه من وعدت، ووزنت، وكذلك رثة من قولك: ورثته رثة، وجدة. وكل مصدر على فعلة مما فاؤه واو فهذه سبيله، وقد مضى القول في حذف هذه الواو في موضعه فإذا نسبت إلى شيءٍ منه لم تغيره؛ لبعده من ياء النسب. تقول: عدي، وزني. فإن نسبته إلى شيةٍ فلا بد من الرد؛ لأنه على حرفين أحدهما حرف لين، ولا تكون الأسماء على ذلك. فإنما صلح قبل النسب من أجل هاء التأنيث. فإذا نسبته إليه حذفت الهاء. وكان سيبويه يقول في النسب إليه: وشوي على أصله؛ لأنه إذا رد لم يغير الحرف عن حركته. هذا مذهبه، ومذهب الخليل على ما تقدم من قولنا حيث ذكرنا يدا وقوله فيها: يدوي فيمن رد، وغدوي في غدٍ فيمن رد. وكان أبو الحسن الأخفش يقول في النسب إليها: وشيي؛ لأنه يقول: إذا رددت ما ذهب من الحرف رددته إلى أصله، وثبتت الياء لسكون ما قبلها؛ كما تقول في النسب إلى ظبي: ظبيي. وقد مضى ذكر القولين في موضعه. واعلم أنه من رد في الاسم من ذوات الحرفين الذي لا يرجع منه في تثنية ولا جمع بالتاء نحو: دموي، ويدوي فإنه لا يرد في عدة؛ لأن الذاهب منه ليس مما تغيره الإضافة. وكذلك ما ذهب منه موضع العين فغير مردود ولكن مذي فاعلم. فقد شرحت لك أن ياء الإضافة لا يرد لها ما كان على حرفين إلا موضع اللام؛ لأنها لا تغير غير اللام. تقول: هذا زيد فاعلم، فإذا نسبت إليه قلت: زيدي، فكسرت الدال من أجل الياء، ولم تقرها على الإعراب؛ لأن الإعراب في الياء، ولا يكون في اسم إعرابان. فأما قوله:

هما نفثا في فيَّ من فمويهما ... على النابح العاوي أشد رجام

فإنما فم أصله: فوه؛ لأنه من تفوهت بكذا، وجمعه أفواه على الأصل، فإذا قلت: هذا فو زيد، فقد حذفت موضع اللام، ولولا الإضافة لم يصلح اسم على حرفين أحدهما حرف لين. ولكن ثبت في الإضافة؛ لأنها تمنعه التنوين. وكذلك قولك: هذا ذو مال، فأنت تقول: رأيت فا زيد، ومررت بفي زيد، فإن أفردت لم يصلح اسم على حرفين أحدهما حرف لين؛ لأن التنوين يذهب حرف اللين فيبقى الاسم على حرف. فتقول في الإفراد فم فاعلم، فتبدل الميم من الواو؛ لأنهما من مخرج واحد. وإنما الميم والباء والواو من الشفة، ثم تهوي إلى الفم،؛ لما فيها من المد واللين، حتى تنقطع عند مخرج الألف. والميم تهوي في الفم حتى تتصل بالخياشيم؛ لما فيها من الغنة. والباء لازمة لموضعها. فأما قوله: فمويهما فإنه جعل الواو بدلاً من الهاء لخفائها للين وأن الهاء خفيةٌ. فمن قال فمان قال في النسب: فمي، وفموي. ومن قال فموان لم يجز في النسب إلا فموي.

هذا باب

النسبة إلى التثنية والجمع

اعلم أنك إذا نسبت إلى مثنى حذفت منه الألف والنون، وحذفهما لأمرين: أحدهما: أنهما زيدا معاً، وقد مضى هذا في باب عطشان وحمراء. والوجه الثاني: أنه يستحيل النسب إليه وألف التثنية أو ياؤها فيه؛ لأنه يجتمع في الاسم رفعان، أو نصبان، أو خفضان. فإن أضفت إلى جمع مذكر فهو كذلك. تقول في النسب إلى مسلمين أو مسلمين: مسلمي، وإلى رجلين: رجلي؛ كما ينسب إلى الواحد، وكما ذكرت لك قبل الجماعة؛ لتفصل بينها وبين الواحد المسمى بجماعة. وتقول في النسب إلى مسلمات: مسلمي، فتحذف الألف والتاء؛ كما حذفت الألف والنون، والواو والنون؛ وكما تحذف هاء التأنيث إذا قلت في طلحة: طلحي.

هذا باب

ما يبنى عليه الاسم لمعنى الصناعة

لتدل من النسب على ما تدل عليه الياء

وذلك قولك لصاحب الثياب: ثواب، ولصاحب العطر: عطار، ولصاحب البز: بزاز. وإنما أصل هذا لتكرير الفعل كقولك: هذا رجلٌ ضراب، ورجلٌ قتال، أي: يكثر هذا منه، وكذلك خياط، فلما كانت الصناعة كثيرة المعاناة للصنف فعلوا به ذلك. وإن لم يكن منه فعلٌ؛ نحو: بزاز، وعطار. فإن كان ذا شيءٍ، أي: صاحب شيءٍ بني على فاعل؛ كما بني الأول على فعال، فقلت: رجل فارس، أي: صاحب فرس، ورجل دارع، ونابل، وناشب، أي: هذا آلته. قال الشاعر:

وغررتني، وزعمت أنك لابنٌ بالصيف تامر

فأما قوله:

وليس بذي رمحٍ فيطعنني به ... وليس بذي سيفٍ وليس بنبال

فإنه كان حقه أن يقول: وليس بنابل، ولكنه كثر ذلك منه ومعه.

واعلم أن قولهم: عيشةٍ راضيةٍ، ورجلٌ طاعمٌ كأسٍ. إنما هو على ذا. معناه: عيشة فيها رضًا، ورجل له طعام وكسوة. وكذلك همٌّ ناصب. إنما هو: فيه نصب. وكذلك كل مؤنث نعت بغير هاءٍ؛ نحو: طامث، وحائض، ومئتم، وطالق. فما كان من هذا مبنياً على فعل فهو كقولك: ضربت فهي ضاربة، وجلست فهي جالسة. قال الله عز وجل: " يوم ترونها تذهل كل مرضعةٍ عما أرضعت " ، لأنه جاء مبنياً على أرضعت. وما كان على غير فعل فعلى معنى النسب الذي ذكرت لك. وذلك انك تريد: لها حيض، ومعها طلاق. وتأويله: هي ذات كذا. فأما قول بعض النحويين: إنما تنزع الهاء من كل مؤنث لا يكون له مذكر، فيحتاج إلى الفصل فليس بشيء؛ لأنك تقول: رجل عاقر، وامرأة عاقر، وناقة ضامر، وبكر ضامر. وكذلك امرأة قتول، ورجل قتول، وامرأة معطار، ورجل معطار فهذا على ما وصفت لك. فأما قولهم: بعير عاضهٌ، وبعير حامضٌ فهو على هذا إنما معناه: أنه معتاد لأكل الحمض ولأكل العضاه. فوقع النسب على معنى قولك: هو كذا، فهذا بابه.

هذا باب

المحذوف والمزيد فيه

وتفسير ما أوجب ذلك فيهما

فمن المحذوف ما يكون حذفه قياساً؛ لأن العلة جارية فيه وذلك ما كان من باب وعد، ووزن، وقد مضى قولنا في ذلك. ومن ذلك ما كان آخره ألفاً أو ياءً أو واواً من الأفعال فإن الجزم يذهب هذه الحروف؛ لأن الجزم حذف الأواخر، فإذا صادفت الحرف متحركاً حذفت الحركة، وإن صادفنه ساكناً كان الحرف هو المحذوف، وبقي ما قبله على حركته وذلك قولك: لم يغز، ولم يخش، ولم يرم، فإذا وصلت قلت: لم يخش يا فتى، ولم يرم يا فتى، ولم يغز يا فتى. تدع الحركة على ما كانت عليه، لأنك حذفت الحرف للجزم فلم يكن لك على الحركة سبيلٌ؛ كما أنك لما حذفت الحركة من يضرب ونحوه لم يكن لك على الحرف سبيلٌ، فبقي كهيئته. فما كان من حذف لعلة تشمله فذلك جامع لبابه.

ومن المحذوف ما يحذف استخفافاً من الشيء؛ لأنه لا يكون أصلاً في بابه، ويكون الحرف الذي في آخره من الحروف التي أمرها الحذف، أو مضارعاً لها. فمن ذلك قولهم: لم أبلن ولم يك، ولا أدر. أما قولهم: لم يك فإن الحد لم يكن وهو الوجه، أسكنت النون للجزم، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين؛ كما تقول: لم أقل، ولم أبع. فأما من قال: لم أك فإنه لما رأى النون ساكنة، وكانت مضارعةً للياء والواو بأنها؛ تدغم فيهما، وتزاد حيث تزادان، فتكون للصرف، كما تكونان للإعراب، وتبدل الألف منهما، كما تبدل منها في قولك: اضربا، إذا أردت النون الخفيفة، وفي قولك: رأيت زيدا، وتحل محل الواو في قولك: بهراني، وصنعاني، وتحذف النون الخفيفة؛ كما تحذف الياء والواو لالتقاء الساكنين. وكانت تكون الأصل فيما مضى وما لم يقع. وذلك قولك: أقام زيد؟ فتقول: قد كان ذاك. وتقول: يقوم زيد، فتقول: يكون. فكانت العبارة دون غيرها من الأفعال. فقد بانت بعلة ليست في غيرها من أنها عبارة وترحمة، فحذقت لسكونها استخفافاً؛ فإن تحركت النون لم يجز حذفها. تقول: لم يك زيد منطلقا، ولا تقول: لم يك الرجل؛ لأنها تتحرك هاهنا لالتقاء الساكنين إذا قلتك لم يكن الرجل.

وأما لم أبله فإنه كثر في كلامهم، وكان الأصل في كل مطرح، وكان يقول في الوقف: لم أبال، فيلتقي ساكنان: الألف، واللام، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين؛ لكثرة هذه الحروف. ولولا كثرته لم يحذف؛ لأنه يلتقي ساكنان في الوقف. ومنهم من يقول: لم أبله؛ فيحذف الألف؛ لأنها زائدة لما ذكرت لك من كثرة هذه الحروف. فأما قولهم:

ويهاً فداءٌ لك يا فضاله ... أجره الرمح ولا تهاله

فإن حرك اللام لالتقاء الساكنين؛ لأنه قد علم أنه لا بد من حذف، أو تحريك، فكان الباب هاهنا الحذف، فيقول: لا تهل، ولكن للقافية حرك؛ لأن الحد لا تهال، فتسكن اللام للجزم، ثم تحذف الألف لالتقاء الساكنين. فهذا حرك اللام من أجل القافية حركة اعتلال، وحركها بالفتح؛ لفتح ما قبلها ولما منه الفتح وهي اللف؛ كما تقول: عض يا فتى، وانطلق يا فتى فيمن أسكن، وأدخل الهاء لبيان الحركة. وقولهم: لا أدر رديء. وإنما كان يقف عليه، فوصله على وقفه، وقياسه قياس سبسباً، وكلكلاً، ونحوهما. وقد مضى القول في هذا مفسراً في موضع الوقف. فأما ما يزاد في مثل قولهم: أمهات وهي في الإفراد: أم، وكذلك قولهم: يا أمت، ويا أبت في النداء فإن الهاء في يا أمت، ويا أبت بدلٌ من ياء الإضافة؛ لأنه من قال: يا أبي لا تفعل، ويا أمي لا تفعلي، لم يقل: يا أم، ويا أب، ولكنه يقول: يا أبة لا تفعل، فيجعل الهاء بدلاً من الياء، ويلزمها الكسر؛ لتدل على الياء؛ لأن هاء التأنيث لا تكون ساكنة؛ لأنها كاسم ضم إلى اسم. فأما أمهات فالهاء زائدة؛ لأنها من حروف الزوائد. تزاد لبيان الحركة في غير هذا الموضع فزيدت. ولو قلت: أمات لكان هذا على الأصل، ولكن أكثر ما يستعمل أمهات في الإنس، وأمات في البهائم. فكأنها زيدت للفرق، ولو وضع كل واحدة في موضع الأخرى لجاز. ولكن الوجه ما ذكرت لك. والآخر إنما يجوز في شعر. ترده إلى الأصل فتقول: كل واحدة منهما أم. فما جاز من زيادة في هذا أو حملٍ على الأصل فهو في الآخر جائز. قال الشاعر:

قوال معروفٍ، وفعاله ... عقار مثنى أمهات الرباع

واعلم أن لا أدري، ولم يكن، ولم أبال يا فتى الوجه، والحد والاختيار: الإتمام؛ وإنما ذكرنا الحذف لما فيه من العلل. فأما باب عدة وزنة، فحذف ذلك الحد والقياس.

والأسماء التي تنقص من الثلاثة لا يجوز أن ينقص منها شيءٌ إلا ما كانت لامه ياءً أو واواً؛ لأنها تعتل، أو تكون من المضاعف، فتحذف للاستثقال، أو يكون خفياً، فيحذف لخفائه. وحرف الخفاء هو الهاء. فأما ما حذفت منه الياء الواو فنحو: يدٍ، وأصله: يديٌ. والمحذوف ياءٌ. يدلك على ذلك قولهم: يديت إليه يدا. وتقول في الجمع أيدي. وكذلك دمٌ من دميت. فأما ما حذفت الهاء منه فشفة؛ لأنها من شافهت. وكذلك سنة فيمن قال سنيها، وسانهت، ومن قال: سنية جعل المحذوف واواً من قولك: سنوات. فاعتبر هذا بهذا الضرب. فإن قلت: مذ قد حذفت النون منه؛ فإنما ذلك لمضارعتها حروف اللين، وقد ذكرنا دخولها في مداخلهن، وبيناه تبييناً واضحاً، وذكرنا حروف الزوائد، ومواقع زيادتهن، وبيناه تبييناً يغني عن إعادته.

هذا باب

ما يعرب من الأسماء وما يبنى

اعلم أن حق الأسماء أن تعرب جمع وتصرف. فما امتنع منها من الصرف فلمضارعته الأفعال؛ لأن الصرف إنما هو التنوين، والأفعال لا تنوين فيها ولا خفض، فمن ثم لا يخفض ما لا ينصرف إلا أن تضيفه أو تدخل عليه ألفاً ولاماً، فتذهب بذلك عنه شبه الأفعال، فترده إلى أصله؛ لأن الذي كان يوجد فيه ترك الصرف قد زال. وكل ما لا يعرب من السماء فمضارعٌ به الحروف؛ لأنه لا إعراب فيها. وسنذكر من هذه الأسماء جملة تدل على جميعها، ونذكر ما ضارعت فيه الحروف؛ لأنا قد أحكمنا باب ما ينصرف وما لا ينصرف. فمن تلك الأسماء: كم، وأين وكيف، وما، ومتى، وهذا، وهؤلاء، وجميع المبهمة، ومنها: الذي والتي، ومنها: حيث. واعلم أن الدليل على أن ما ذكرنا أسماءٌ، وقوعها في مواضع الأسماء، وتأديتها ما يؤديه سائر الأسماء.

أما من فتكون فاعلة، ومفعولة، وغير ذلك. تقول: جاءني من في الدار، وضربت من في الدار، وضربت من عنك، ومررت بمن أكرمك. وموقعها في الكلام في ثلاثة مواضع: تكون خبراً فتكون معرفة إذا وصلت، ونكرة إذا نعتت، وتكون استفهاماً، وجزاءً. وتقول في الاستفهام: من ضربك؟؛ كما تقول: أزيدٌ ضربك؟ وتقول: من ضربت؟، وبمن مررت؟ كما تقول في زيد. وكذلك الجزاء. تقول: من يأتك تأته، ف من مرفوعة على تقدير: إن يأتك زيدٌ تأته، وتقول: من تعط يكرمك على تقدير: زيدا تضرب، وكذلك بمن تمرر أمرر به. فهذا قد أوضح لك أنها اسم. فأما ما بنيت من أجله، ومنعت الإعراب لمضارعته، فإنها ضارعت في الجزاء إن التي هي حرف الجزاء، وفي الاستفهام تضارع الألف وهل. فأما في الخبر فلا يجب أن تعرب، لعلل منها: وقوعها في الاستفهام والجزاء، ومنها أنها في الخبر لا تتم إلا بصلة فإنما تمامها صلتها، والإعراب بأواخر الأسماء. ومن هذه الأسماء أين، وكيف، ومضارعتها لحروف الاستفهام والجزاء قد وضحت لك، وتحريك آخرها؛ لالتقاء الساكنين، حركت بالفتح للياء التي قبل أواخرها. فكذلك: حيث في قول من فتح. فأما من ضم آخرها فإنما أجراها مجرى الغايات؛ إذ كانت غاية، وتفسير هذا في موضعه من هذا الباب إن شاء الله. وكل مبني مسكن آخره إن ولي حرفاً متحركاً؛ لأن الحركات إنما هي في الأصل للإعراب، فإن سكن ما قبل آخره فلا بد من تحريك آخره؛ لئلا يلتقي ساكنان. فهذه حال المبنية إلا ما ضارع منها المتمكنة، أو جعل في موضع لعلة بمنزلة غير المتمكنة، وقد ذكرناه في الكتاب وسنعيده في هذا الباب، لأنه موضعه.

ومن المبنيات أمس. تقول: مضى أمس بما فيه، ولقيتك أمس يا فتى. وإنما بني؛ لأنه اسم لا يخص يوماً بعينه، وقد ضارع الحروف. وذلك أنك إذا قلت: فعلت هذا أمس يا فتى إنما تعني اليوم الذي يلي يومك، فإذا انتقلت عن يومك انتقل اسم أمس عن ذلك اليوم؛ فإنما هي بمنزلة من التي لابتداء الغاية فيما وقعت عليه، وتنتقل من شيءٍ إلى شيءٍ، وليس حد الأسماء إلا لزوم ما وضعت علاماتٍ عليه. وحيث زيدٌ جالسٌ. فحيث انتقل زيد فحيث منتقل معه. فأما كسر آخر أمس فلالتقاء الساكنين: الميم، والسين. وإنما كان الحد الكسر لما أذكره لك: وهو أنه إذا كان الساكن الذي تحركه في الفعل كسرته؛ لأنك لو فتحته لالتبس بالفعل المنصوب، ولو ضممته لالتبس بالفعل المرفوع، فإذا كسرته علم أنه عارض في الفعل؛ لأن الكسر ليس من إعرابه. وإن كان الساكن الذي تحركه في اسم كسرته؛ لأنك لو فتحته لالتبس بالمنصوب غير المنصرف، وإن ضممت التبس بالمرفوع غير المنصرف، فكسرته لئلا يلتبس بالمخفوض؛ إذ كان المخفوض المعرب يلحقه التنوين لا محالة؛ فلذلك كان الكسر اللازم لالتقاء الساكنين.

فأما الغايات فمصروفة عن وجهها؛ وذلك أنها مما تقديره الإضافة؛ لأن الإضافة تعرفها وتحقق أوقاتها، فإذا حذفت منها، وتركت نياتها فيها، كانت مخالفة للباب معرفةً بغير إضافة، فصرفت عن وجوهها، وكان محلها من الكلام أن يكون نصباً أو خفضاً. فلما عن مواضعها ألزمت الضم، وكان ذلك دليلاً على تحويلها، وأن موضعها معرفة وإن كانت نكرةً أو مضافةً، لزمها الإعراب وذلك قولك: جئت قبلك، وبعدك، ومن قبلك، ومن بعدك، وجئت قبلاً وبعداً، كما تقول أولاً وآخراً. فإن أردت قبل ما تعلم فحذفت المضاف إليه قلت: جئت قبل وبعد، وجئت من قبل ومن بعد. قال الله عز وجل: " والذين من قبلهم " و " ومن بعد أن أظفركم عليهم " وكذلك جئت من علو، وصب عليهم من فوق، ومن تحت يا فتى إذا أردت المعرفة. وكذلك من دون يا فتى.

وحيث فيمن ضم وهي اللغة الفاشية. والقراءة المختارة " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " . فهي غاية، والذي يعرفها ما وقعت عليه من الابتداء والخبر. وإنما حق هذا وبابه للظروف من الزمان، وحيث ظرف من المكان. ولكن ظروف الزمان دلائل على الأفعال، والأفعال توضح معانيها. ولو أفردت حيث لم يصح معناها. فأضفتها إلى الفعل والفاعل، والى الابتداء والخبر؛ كما تفعل بظروف الزمان؛ لمضارعتها، ومشاركتها إياها بالإبهام؛ فلذلك تقول: قمت حيث قمت، وقمت حيث زيدٌ قائم؛ كما تقول: قمت يوم قام زيد، وحين زيدٌ أميرٌ، والغايات كلها بمنزلة ما ذكرناه.

وأما ظروف الزمان فإنما كانت بالفعل أولى؛ لأنها إنما بنيت لما مضى منه، ولما لم يأت. تقول: جئت وذهبت، فيعلم أن هذا فيما مضى من الدهر، وإذا قلت: سأجيء وسأذهب، علم أنه فيما يستقبل من الدهر، وليس للمكان ما يقع هذا الموضع؛ لأنه ثابت لا يزول، ومرئي مميز: كزيد، وعمرو. والزمان كالفعل: إنما هو مضي الليل والنهار. فإذا قلت: هذا يوم زيد. فمعناه: الذي فعل فيه، أو عرف فيه، أو حدث له فيه حادث، أو حدث به. فإذا قلت: هذا يوم يخرج زيد، فقد أضفته إلى هذه الجملة، فاتصل بالفعل لما فيه من شبهه، وأتبعه الفاعل؛ لأنه لا يخلو منه. وهو معرفة؛ لأن قولك: هذا يوم يخرج زيد: هذا يوم خروج زيد في المعنى، و " هذا يوم لا ينطقون " : هذا يوم منعهم من النطق. واتصل بالابتداء والخبر، والفعل والفاعل؛ كما يكون ذلك في إذ. وإذ يقع بعدها الفعل والفاعل، والابتداء والخبر. وإذا لا يقع بعدها إلا الفعل، نحو: آتك إذا جاء زيد. وكنت في إذ تقول: أتيتك إذ زيدٌ أميرٌ، وأتيتك إذ جاء زيد. فأما جواز الوجهين في إذ؛ فلأن الابتداء والخبر كالفعل والفاعل؛ لأنهما جملتان. فأما امتناع الابتداء والخبر من إذا فلأن إذا في معنى الجزاء، والجزاء لا يكون إلا بالفعل. ألا تراها تحتاج إلى الجواب؛ كما تحتاج حروف الجزاء. تقول: إذا جاء زيد فأعطه، وإذا جئتني أكرمتك فإن قلت: أكرمك إذا جئتني: فأكرمك في موضع الجواب؛ كما تقول في حروف الجزاء: أكرمك إذا جئتني. فكل ما كان من أسماء الزمان في معنى إذ فهو مضاف إلى ما يضاف إليه إذ من الابتداء والخبر، والفعل والفاعل. وما كان في معنى إذا وهو الذي لم يأت فلا يضاف إلا إلى الفعل إذا كان كذلك. تقول: جئتك يوم زيدٌ أميرٌ، وأتيتك يوم قام زيد. وتقول في المستقبل: أتيتك يوم يقوم زيد، ولا يجوز: يوم زيدٌ أميرٌ لما ذكرت لك. قال الله عز وجل: " هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " . وقال: " هذا يوم لا ينطقون " .

فأما إذا التي تقع للمفاجأة فهي التي تسد مسد الخبر، والاسم بعدها مبتدأ وذلك قولك: جئتك فإذا زيد، وكلمتك فإذا أخوك. وتأويل هذا: جئت، ففاجأني زيد، وكلمتك، ففاجأني أخوك، وهذه تغني عن الفاء، وتكون جواباً للجزاء؛ نحو: إن تأتني إذا أنا أفرح على حد قولك: فأنا أفرح. قال الله عز وجل: " وإن تصبهم سيئةٌ بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون " فقوله: " إذا هم يقنطون " في موضع: يقنطوا. وقوله: إن تأتني فلك درهم في موضع إن تأتني أعطك درهما؛ كما أن قوله عز وجل: " سواءٌ عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون " في موضع: أم صمتم. فمن جعل حيث مضمومة - وهو أجود القولين - فإنما ألحقها بالغايات؛ نحو: من قبل، ومن بعد، ومن عل يا فتى، وابدأ بهذا أول يا فتى، ونحوه. ومن فتح فللياء التي قبل آخره، وأنه ظرف بمنزلة أين، وكيف. فأما قولهم: يا زيد وما أشبهه في النداء، فقد مضت العلة فيه في موضعها، والمبنيات كثيرة، وفيما ذكرنا دليلٌ على ما تركنا. وباب حذام، وتراك، وحلاق، وبداد، ونزال، قد ذكرناه فيما يجري وما لا يجري.

فأما ما كان من سوى ذلك في معنى الفعل المأمور به؛ نحو: صه، ومه، وإيه، وإيها، ومهلاً يا فتى، وما أشبه ذلك فنحن ذاكروه: أما صه، ومه، وقد التي بمعنى حسب، فمبنيات على السكون لحركة ما قبل أواخرها، وأنها في معنى افعل. وأما إيه يا فتى فحركت الهاء لالتقاء الساكنين، وترك التنوين؛ لأن الأصوات إذا كانت معرفة لم تنون. قال الشاعر:

وقفنا فقلنا إيه عن أم سالمٍ ... وما بال تكليم الرسوم البلاقع

ولو جعله نكرة لقال: إيهٍ يا فتى؛ كما يقول: إيهاً يا فتى: إذا أمرته بالكف، وويها: إذا أغريته. قال الشاعر:

ويهاً فداءٌ لكم أمي وما ولدت ... حاموا على مجدكم واكفوا من اتكلا

وكذلك قولهم: قال الغراب: غاق يا فتى، فإن جعلته نكرة نونت، وكذلك ما كان مثله.

هذا باب

الاسم الذي تلحقه صوتاً أعجمياً

نحو: عمروية وحمدوية، وما أشبهه، والاختلاف في هيهات، وذية، وذيت، وكية، وكيت

اعلم أن الاسم الأعجمي الذي يلحق الصدر مجراه مجرى الأصوات، فحقه أن يكون مكسوراً بغير تنوين ما كان معرفةً. فإن جعلته نكرة نونته على لفظه؛ كما تفعل ذلك بالأصوات، نحو قولك: إيه يا فتى في المعرفة، وإيهٍ، إذا أردت النكرة، وقال الغراب: غاق، وغاقٍ في النكرة. وتأويل ترك التنوين فيه: أنه قال الشيء الذي كنت تعرفه به؛ والنكرة إنما هو قال صوتاً هذا مثاله. فأما الصدر فلا يكون إلا مفتوحاً؛ كقولك: حضرموت يا فتى، وخمسة عشر، وما يفتح قبل هاء التأنيث؛ نحو: حمدة، وما أشبهها. وذلك الاسم ما كان نحو: عمروية، وحمدوية؛ كما قال الشاعر:

يا عمرويه انطلق الرفاق ... مالك لا تبكي ولا تشتاق

وزعم سيبويه مع التفسير الذي فسرناه أن العرب إذا ضمت عربياً إلى عربيٍّ مما يلزمه البناء ألزمته أخف الحركات، وهي الفتحة، فقالوا: خمسة عشر يا فتى، وهو جاري بيت يا فتى، ولقيته كفة كفة، و " يا ابن أم لا تأخذ " وإذا بنوا أعجمياً مع ما قبله حطوه عن ذلك، فألزموه الكسر،وهذا مطرد في كلامهم. فأما هيهات فتأويلها: في البعد، وهي ظرف غير متمكن؛ لإبهامها، ولأنها بمنزلة الأصوات. فمنهم من يجعلها واحدا كقولك: علقاة فيقول: " هيهات هيهات لما توعدون " فمن قال ذلك فالوقف عنده هيهاه وترك التنوين للبناء. ومنهم من يجعلها جمعاً كبيضات فيقول: " هيهات هيهات لما توعدون " وإذا وقف على هذا القول وقف بالتاء، والكسرة إذا أردت الجمع للبناء كالفتحة إذا أردت الواحد. ومن جعلها نكرة في الجميع نون فقال: هيهاتٍ يا فتى. وقال قوم: بل نون وهي معرفة؛ لأن التنوين في تاء الجمع في موضع النون من مسلمين. قال: والدليل على ذلك أن معناه في البعد كمعناه، فلو جاز أن تنكره وهو جمع لجاز أن تنكره وهو واحد، وهذا قول قوي. وينشد هذا البيت على وجهين، قال:

ها أنذا آمل الحياة وقد ... أدرك عقلي ومولدي حجرا

أبا امرئ القيس،هل سمعت به؟ ... هيهات هيهات طال ذا عمرا

بعضٌ يفتح وبعضٌ يكسر.

فأما ذيت وذيت، وذية فإنما هي كنايات عن الخبر؛ كما يكنى عن الاسم المعروف بفلان، وعن العدد بأن يقول: كذا وكذا. ولم يوضع على الإفراد؛ فلذلك بنيت، والتاء متحركة بالفتح؛ لالتقاء الساكنين من حيث حركت آخر أين، وكيف، وما أشبه ذلك. وكل اسمين أزيلا فحكمهما إذا بنيا كذلك؛ نحو: لقيته كفة كفة، وبيت بيت. فقد تجوز فيهما الإضافة وترك البناء للمعنى. وذلك أن معنى كفة كفة: كفةً لكفة، أي: قابلت صفحة صفحة. فيجوز أن تقول: لقيته كفة كفةٍ يا فتى. وكذلك هو جاري بيت بيتٍ يا فتى؛ لأن المعنى: بيته إلى بيتي. فعلى ما ذكرت لك تصلح الإضافة، وتمتنع. فأما شغر بغر فاسمان ليس في أحدهما معنى الإضافة إلى الآخر؛ فلذلك لم يكن فيهما وفيما أشبههما إلا البناء. وفيما ذكرت لك من المبنيات ما يدل على جميعها إن شاء الله.

هذا باب

الأسماء واختلاف مخارجها

اعلم أن الأسماء تقع على ضروب: فمنها ما يقع للفصل غير مشتق، وذلك نحو: حجر، وجبل، وكل ما كان مثل هذا فهذا سبيله، وهو نكرة لا يعرف بالاسم منه إلا أنه واحد من جنس. ومن الأسماء ما يكون مشتقاً نعتاً، ومشتقاً غير نعت. فأما النعت فمثل: الطويل، والقصير، والصغير، والعاقل، والأحمق، فهذه كلها نعوتٌ جارية على أفعالها: لأن معنى الجاهل: المعروف بأنه يجهل، والطويل: المعروف بأنه طال. فكل ما كان من هذا فعلاً له أو فعلاً فيه فقد صار حلية له.

والأسماء المشتقة غير النعوت مثل: حنيفة؛ وإنما اشتقاقه من الحنيف، وأصله المخالف في هيئته. يقال: رجل أحنف لما في رجليه، ودين حنيف، أي: مخالف لخطأ الأديان. ولو كان على الفعل فكان من تحنف لكان الفاعل متحنفاً. وكذلك مضر إنما هو مشتق من قولك: مضر اللبن، إذا حمض. كما أن عيلان من العيلة، وقحطان من القحط، وليست على أفعالها. ومن الأسماء المبهمة، وهي التي تقع للإشارة، ولا تخص شيئاً دون شيءٍ، وهي: هذا، وهذاك، وأولئك، وهؤلاء ونحوه. ومن السماء الأعلام، وإنما هي ألقاب محدثة؛ نحو: زيد، وعمرو. ومن الأسماء المضمرة، وهي التي لا تكون إلا بعد ذكر، نحو: الهاء في به، والواو في فعلوا، والألف في فعلا. فأنكر الأسماء قول القائل: شيء؛ لأنه مبهم في الأشياء كلها. فإن قلت جسم فهو نكرة، وهو أخص من شيءٍ؛ كما أن حيواناً أخص من جسم، وإنساناً أخص من حيوان، ورجلاً أخص من إنسان. والمعرفة: ما وضع على شيءٍ دون ما كان مثله، نحو: زيد وعبد الله فإن أشكل زيد من زيد فرقت بينهما الصلة. وقد ذكرنا هذا مفسراً في باب المعرفة والنكرة.

هذا باب

مخارج الأفعال

واختلاف أحوالها وهي عشرة أنحاء

فمنها: الفعل الحقيقي الذي لا يتعدى الفاعل إلى مفعوله، وهو قولك: قام زيد، وجلس عمرو، وتكلم خالد. فكل هذا وما كان مثله غير متعدٍّ. وكل فعل تعدى أو لم يتعد فهو متعدٍّ إلى اسم الزمان، واسم المكان والمصدر، والحال، وذلك قولك: قام عبد الله ضاحكاً يوم الجمعة عندك قياماً حسناً؛ وذلك أن فيه دليلاً على هذه الأشياء. فقولك: قام زيد بمنزلة قولك: أحدث قياماً، وتعلم أن ذلك فيما مضى من الدهر، وأن للحدث مكاناً، وأنه كان على هيئة. وكذلك إن قلت: قام عبد الله ابتغاء الخير، فجئت بالعلة التي لها وقع القيام. وكل ما كان فعله على فعل فغير متعدٍّ؛ لأنه لانتقال الفاعل إلى حال عن حال؛ فلا معنى للتعدي؛ وذلك قولك: كرم زيد، وشرف عبد الله. والتقدير: ما كان كريماً ولقد كرم، وما كان شريفاً وقد شرف، فهذا نحو من الفعل. ونحوٌ آخر لا يتعدى الفعل فيه الفاعل، وهو للفاعل على وجه الاستعارة. ويقع على ضربين: أحدهما: سقط الحائط، وطال عبد الله، وأنت تعلم أنهما لم يفعلا على الحقيقة شيئاً. فهذا ضربٌ. والضرب الثاني الذي يسميه النحويون فعل المطاوعة. وذلك قولك: كسرتهفانكسر، وشويته فانشوى، وقطعته فانقطع، وإنما هذا ما أشبهه على أنك بلغت فيه ما أردت، وانتهيت منه إلى ما أحببت؛ لا أن له فعلاً. ومن الأفعال ما يتعدى الفاعل إلى مفعول واحد وفعله واصل مؤثر كقولك: ضربت زيدا، وكسرت الشيء يا فتى. فأما المصدر، والحالات، والظروف، فلا يمتنع منها فعلٌ البتة. ومن هذه المتعدية إلى مفعول ما يكون غير واصل، نحو: ذكرت زيدا، وشتمت عمرا، وأضحكت خالدا. فهذا نوع آخر.

ومن الأفعال ما يتعدى إلى مفعولين ولك أن تقتصر على أحدهما. وذلك قولك: أعطيت زيدا درهما، وكسوت زيدا ثوبا، وألبست زيدا جبة. ومنها ما يتعدى إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحدهما وذلك نحو: ظننت زيدا أخاك، وحسبت زيدا ذا الحفاظ، وخلت عبد الله يقوم في حاجتك. والفصل بين هذا والأول أن الأول فعل حقيقي يقع مفعولاه مختلفين. تقول: أعطيت زيدا، فتخبر أنه كان منك عطاءٌ، وإن شئت أن تذكره بعد ذكرته. فأما قولك: ظننت زيدا فلا يستقيم؛ لأن الشك إنما وقع في المفعول الثاني. فالثاني خبر عن الأول، والتقدير: زيد منطلق في طني، إلا أن تريد بظننت: اتهمت. فهذا من غير هذا الباب، وكذلك: إذا أردت بعلمت: عرفت. فهو من باب ما يتعدى إلى مفعول؛ كما قال عز وجل: " لا تعلمونهم الله يعلمهم " إنما هو: لا تعرفونهم الله يعرفهم. وكذلك: " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت " . ومن هذه الأفعال ما يتعدى إلى ثلاثة مفعولين، وهو من باب الفعل المتعدي إلى مفعولين، ولكنك جعلت الفاعل في ذلك الفعل مفعولاً بأنه كان يعلم، فجعل غيره أعلمه، فيقول: أعلم الله زيدا عمرا خير الناس، ونبأتك عبد الله صاحب ذلك. فما كان من هذا فهذا سبيله. ومنها ما يتعدى إلى مفعول واسم الفاعل والمفعول فيه لشيءٍ واحد، وليست أفعالاً حقيقية، ولكنها في وزن الأفعال، ودخلت لمعانٍ على الابتداء والخبر؛ كما أن مفعولي ظننت إنما هما ابتداءٌ وخبر. وذلك قولك: كان زيد أخاك، وأمسى عبد الله ظريفاً يا فتى. وكذلك ليس، ومازال، ومادام، فهذه ثمانية أفعال متصرفة.

ومنها فعل التعجب وهو غير متصرف؛ لأنه وقع لمعنى، فمتى صرف زال المعنى. وكذلك كل شيءٍ دخله معنى من غير أصله على لفظ فهو يلزم ذلك اللفظ لذلك المعنى، وهو قولك: ما أحسن زيدا؛ وما أظرف أخاك. وقد مضى تفسيره في بابه وهو فعل صحيح.

والعاشر: ما أجري مجرى الفعل وليس بفعل، ولكنه يشبه الفعل بلفظ، أو معنى. فأما ما أشبه الفعل فدل على معناه مثل دلالته ف ما النافية، وما أشبهها. تقول: ما زيد منطلقا؛ لأن المعنى: ليس زيد منطلقا، وما أشبهه في اللفظ، ودخل على الابتداء والخبر دخول كان، وإن وأخواتهما. وقد ذكرنا الحجج في بابها.

هذا باب

الصلة والموصول في مسائله

فأما أصوله فقد ذكرناها

تقول: رأيت الذي أبوه منطلق. ف الذي مرئي، وأبوه منطلق صلته. فإن قلت: رأيت الذي اللذان أبواهما منطلقان. لم يجز؛ لأن قولك: أبواهما منطلقان صلة للذين، واللذان في صلة الذي. وهما ابتداءٌ لا خبر له. فلم تتم الصلة. فإن قلت: رأيت الذي اللذان أبواهما منطلقان في الدار، لم يجز أيضاً وإن كنت قد جئت بخبر؛ أنه ليس في صلة الذي ما يرجع إليه. فإن قلت: رأيت الذي اللذان أبواهما منطلقان في داره أو عنده أو ما أشبه ذلك، فقد صحت المسألة، وصار التقدير: رأيت الذي أخواك عنده. فإن قلت: رأيت الذي اللذان أبواهما منطلقان إليه لم يجز، لأن منطلقان خبر الأبوين، وإليه متصل بمنطلقين، فكأنك قلت: رأيت الذي أخواه. فهذا ابتداءٌ لا خبر له. فعلى هذا فقس. فإن قلت: رأيت اللذين الذي قاما إليه، فهو غير جائز؛ لأن قولك: الذي قاما إليه ابتداءٌ لا خبر له. وتصحيح المسألة: رأيت اللذين الذي قاما إليه أخوك. فترجع الألف في قاما إلى اللذين والهاء في إليه إلى الذي، وأخوك خبر الذي، فتمت صلة اللذين، وصح الكلام. ولو قلت: ظننت الذي التي تكرمه يضربها، لم يجز، وإن تمت الصلة؛ لأن التي ابتداءٌ وتكرمه صلتها، ويضربها خبر الابتداء. فقد تم الذي بصلته؛ وإنما فسد الكلام؛ لأنك لم تأت بمفعول ظننت الثاني. فإن أتيت فقلت: أخاك أو ما أشبهه صح الكلام. وتقول: ضرب اللذان القائمان إلى زيد أخواهما الذي المكرمه عبد الله. فتجعل الذي منصوبا، وإن جعلته مرفوعا نصبت اللذين. وتقول: رأيت الراكب الشاتمه فرسك. والتقدير: رأيت الرجل الذي ركب الرجل الذي شتمته فرسك. وتقول: مررت بالدار الهادمها المصلح داره عبد الله. فقولك: الهادمها في معنى التي هدمها الرجل الذي أصلح داره عبد الله. وتقول: رأيت الحامل المطعمه طعامك غلامك. أردت: رأيت الرجل الذي حمل الرجل الذي أطعمه طعامك غلامك، فغلامك هو الحامل، والهاء في المطعمه ترجع إلى الألف واللام الأولى. ولو قلت: وافق ضربك صاحبك أخوك غلامك، كان جيداً. رفعت الضرب بأنه الموافق غلامك، وضربك تقديره: أن ضربك، وصاحبك هو الفاعل، وأخوك نعت أو بدل. فهذا جيد. وإنما يحتاج المصدر إلى الصلة إذا كان في معنى أن فعل أو يفعل. فأما إذا قلت: ضربت ضرباً، فليس المصدر مما يحتاج إلى الصلة. فإذا قلت: أعجبني ضرب زيدٍ عمرا، فمعناه: أعجبني أن ضرب زيد عمرا وكذلك إن قلت: ضرب زيدٍ عمرٌو فمعناه: أن ضرب زيدا عمرو. وإن قلت: قيام القائم إليه زيدٌ معجبٌ الشارب ماءه الآكل طعامك، صار معناه: أن قام الذي قام إليه زيد معجب الذي شرب ماءه الرجل الذي أكل طعامك. وتقول: أعجب حسن حذاء نعلك حذاؤها لابس نعل أخيك، وإن شئت قلت: لابسا نعل أخيك.

وهذه مسائل يسيرة صدرنا بها لتكون سلماً إلى ما نذكره بعدها إن شاء الله من مسائل طويلة أو قصيرة معماة الاستخراج. تقول: أعجب المدخل السجن المدخله الضارب الشاتم المكرم أخاه عبد الله زيدا. أردت: أعجب زيدا المدخل السجن المدخله الرجل الذي ضرب الرجل الذي شتم الرجل الذي أكرم أخاه عبد الله إن شئت نصبت عبد الله بأنه الأخ فبينته به، وإن شئت جعلته بدلاً، وأبدلته من بعض المنصوبات التي لم تذكر أسماءها إذا كان إلى جانبه من الصلة، فإن فصلت بين ما في الصلة وبين ما تبدله منها لم يجز، لأنك إذا أبدلت شيئاً مما في الصلة أو نعت به ما في الصلة صار في الصلة، ولا تفرق بين الصلة والموصول؛ لأنه اسم واحد. أو قلت: رأيت الذي ضرب أخاك يخاطب زيدا عمرا، فجعلت عمرا بدلاً من الأخ، ويخاطب حالاً للذي أو مفعولاً ثانياً لرأيت وهي في معنى علمت لم يجز. فإن جعلت يخاطب زيدا حالاً لأخيك دخل في الصلة، فأبدلت عمرا فهو جيد حينئذ؛ لأنه كله في الصلة.

وتقول: سر ما إن زيداً يحبه من هند جاريته. فوصلت ما وهي في معنى الذي بإن، وما عملت فيه لأن إن إنما دخلت على الابتداء والخبر، والمعنى كذلك، وكذلك أخواتها. قال الله عز وجل: وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة. وتقول على هذا: جاءني الذي كأن زيدا أخوه، ورأيت الذي ليته عندنا وكذلك كل شيءٍ يكون جملة. تقول: الذي إن تأته يأتك زيد، ورأيت الذي من يأته يكرمه. فإن قلت: رأيت الذي من يأتيه يكرمه جاز. تجعل من في موضع الذي. فكأنك قلت: رأيت الذي زيد يكرمه؛ لأن من صلتها: يأتيه، وخبرها: يكرمه. فأما قول الله عز وجل: " فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه " فإن من الأولى في معنى الذي، ولا يكون الفعل بعدها إلا مرفوعاً. فأما الثانية فوجهها الجزم بالجزاء، ولو رفع رافع على معنى الذي كان جيداً؛ لأن تصييرها على معنى الذي لا يخرجها من الجزاء. ألا ترى أنك تقول: الذي يأتيك فله درهم. فلولا أن الدرهم يجب بالإتيان لم يجز دخول الفاء؛ كما لا يجوز: زيد فله درهم، وعبد الله فمنطلق.وقال الله عز وجل: " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانيةً فلهم أجرهم عند ربهم " . فقد علمت أن الأجر إنما وجب بالإنفاق. فإذا قلت: الذي يأتيك له درهم لم تجعل الدرهم له بالإتيان. فإذا كانت في معنى الجزاء جاز أن تفرد لها وأنت تريد الجماعة؛ كما يكون من وما، قال الله عز وجل: " والذي جاء بالصدق وصدق به " . فهذا لكل من فعل، ولذلك قال: " فأولئك هم المتقون " . فهذه أصول، ونرجع إلى المسائل إن شاء الله.

تقول: محبتك شهوة زيد طعام عبد الله وافقت أخاك، أردت في ذلك: أن أحببت أن اشتهى زيدٌ طعام عبد الله وافقت هذه المحبة أخاك. ولو قلت: أعجبت إرادتك قيام زيد إلى المعجبه ضرب أخيه أخاك زيداً، كان زيد مفعولاً بأعجبت، والكلام ماضٍ على ما كان عليه مما شرحت لك. فالأسماء الموصولة المصادر إذا كانت في معنى: أن فعلت، والألف واللام إذا كانت في معنى الذي، والتي، ومن، وما، وأي في الخبر، وألى التي في معنى الذين. فأما ما كان من النكرات؛ نحو: هذا ضاربٌ زيدا فليس قول من يقول من النحويين إن زيدا من صلة الضارب بشيءٍ؛ لأن ضارباً في معنى يضرب. يتقدم زيد فيه ويتأخر. فتقول: هذا زيدا ضاربٌ، زيدا عبد الله شاتمٌ. فإنما الصلة والموصول كاسم واحد لا يتقدم بعضه بعضا، فهذا القول الصحيح الذي لا يجوز في القياس غيره.

واعلم أن الصلة موضحة للاسم؛ فلذلك كانت في هذه الأسماء المبهمة، وما شاكلها في المعنى؛ ألا ترى أنك لو قلت: جاءني الذي، أو مررت بالذي لم يدللك ذلك على شيءٍ حتى تقول: مررت بالذي قام، أو مررت بالذي من حاله كذا وكذا، أو بالذي أبوه منطلق. فإذا قلت: هذا وما أشبهه وضعت اليد عليه. فإذا قلت: أريد أن تقوم يا فتى، فتقوم من صلة أن حتى تم مصدراً، فصار المعنى: أريد قيامك، وكذلك يسرني أن تقوم يا فتى. تقوم من صلة أن حتى تم مصدرا، فصار المعنى: يسرني قيامك. قال الله عز وجل: " وأن يستعففن خيرٌ لهن " ، و " وأن تصوموا خيرٌ لكم " فهذا على ما وصفت لك. وكذلك أن الثقيلة. تكون مع صلتها مصدراً. تقول: بلغني أنكم منطلقون، أي: بلغني انطلاقكم. وكذلك ما بصلتها تكون مصدراً. تقول: سرني ما صنعت، أي: سرني صنيعك. فأما قولهم: أنا مقيمٌ ما أقمت، وجالسٌ ما جلست، فهو هذا الذي ذكرنا من المصدر؛ ألا ترى أنك تقول: آتيك مقدم الحاج، وأتيتك إمرة فلان. إنما تريد: وقت إمرة فلان، ووقت قدوم الحاج. فإذا قلت: أقيم ما أقمت، فإنما تقديره: أقيم وقت مقامك، ومقدار مقامك.

واعلم أنك إذا أدخلت شيئاً في الصلة، فنعته وفعله والبدل منه داخلات في الصلة. ولو قلت: جاءني الذي ضرب عبد الله زيدا الظريف يوم الجمعة قائماً في داره لكان هذا أجمع في صلة الذي، ويعلق بها الهاء التي في قولك: داره، ودخل الظريف في الصلة؛ لأنه نعت لزيد وهو في الصلة. فعلى هذا تجري هذه الأشياء. تقول: رأيت المكرمه المطعمه المعطيه درهما عبد الله. فهذه المسألة صحيحة، وتأويلها: رأيت الرجل الذي أطعمه الرجل الذي أكرمه الرجل الذي أعطاه درهما عبد الله. فعبد الله هو المعطي، والمعطي هو المكرم، والمكرم هو المطعم.ولو قلت: طعاماً طيباً عند قولك: رأيت المطعمه أو بعد عبد الله، جاز، فإن جعلته بين شيءٍ من هذا وبين صلته لم يجز أن تفصل بين الصلة والموصول. ولو قلت: رأيت المعطي أخاك الشاتمه، درهما زيد لم يجز؛ لأنك فصلت بين زيد وبين شاتمه، وقلت درهما بعد الشاتمه، ففصلت بالشاتمه بينه وبين المعطي. ولكن لو رأيت المعطي أخاك درهما الشاتمه زيد، إذا نصبت الشاتمه بالنعت للمعطى، أو جعلت رأيت من رؤية القلب، فجعلت الشاتمه مفعولاً ثانياً. فإن أردت أن ترفع الشاتم لأنه المعطي لم يكن بدٌّ من أن تجعل فيه كناية ترجع إلى الألف واللام في المعطي. فتقول: رأيت المعطي أخاك درهما الشاتمه أخوه، تجعل الهاء من أخيه ترجع إلى الألف واللام، فتصير بمنزلة قولك: رأيت الضارب زيدا أخوه، فإنما رأيت رجلاً ضرب أخوه زيدا ولن ترى أنت الضارب؛ لأن الضارب هو الأخ، وإنما رأيت واحداً الضارب زيدا أخوه. فعلى هذا قلت: رأيت المعطي أخاك درهما الرجل الذي شتمه أخوه؛ لأن المعنى: رأيت الذي أعطى الرجل الذي شتمه أخوه أخاك درهما. وتقول: رأيت الذي اللذان التي قامت إليهما عنده أخواك، فهذا كلامٌ جيدٌ؛ لأن قولك: اللذان مبتدأ في صلة الذي، والتي مبتدأه في صلة اللذين، وقامت إليهما صلة التي، وعنده ظرفٌ داخل في الصلة وحقه أن يقال: وعنده خبر التي وقولك: أخواك خبر اللذين. فتمت صلة الذي فصار تقدير هذا: رأيت الذي أخواه قائمان. ولو قلت: جاءني الذي التي اللتان اللذان الذي يحبهما عندهما في دارهما عنده جاريتك كان جيداً؛ لأن الكلام الذي في صلة الذي الأخير. فكل ما زدت من هذا فهذا قياسه.

واعلم أن أن الخفيفة إذا وصلت بفعل لم يكن في الفعل راجعٌ إليها. وكذلك أن الثقيلة؛ لأنهما حرفان، وليسا باسمين. وإنما يستحق الواحد منهما أن يكون اسماً بما بعده، والذي، ومن، وأي أسماءٌ، فلا بد في صلاتها مما يرجع إليها؛ ألا ترى أنك تقول: جاءني اللذان في الدار، فيعرف. وتقول: أيهم يأتيك تضربه، وأيهم يأتيك فاضرب.

وما عند سيبويه إذا كانت والفعل مصدراً بمنزلة أن والأخفش يراها بمنزلة الذي مصدراً كانت أو غير مصدر. وسنشرح ما ذكرنا شرحاً بيناً شافياً إن شاء الله. وتقول: أن تأتيني خيرٌ لك، فليس في تأتيني ذكرٌ لأن. ولو قلت: رأيت الذي تقوم لم يجز؛ لأنك لم تردد إلى الذي شيئاً وهو اسم حتى تقول: رأيت الذي تقوم إليه. ولو قلت: بلغني أنك منطلق لم تردد إلى أن شيئا. ولو قلت: جاءني من إنك منطلق لم يجز حتى تقول: إنك منطلق إليه أو عنده. فهذا أمر الحروف، وهذه صفات الأسماء.

فأما اختلاف الأخفش وسيبويه في ما إذا كانت والفعل مصدراً فإن سيبويه كان يقول: إذا قلت: أعجبني ما صنعت فهو بمنزلة قولك: أعجبني أن قمت. فعلى هذا يلزمه: أعجبني ما ضربت زيدا؛ كما تقول: أعجبني أن ضربت زيدا، وكان يقوله. والأخفش يقول: أعجبني ما صنعت، أي: ما صنعته؛ كما تقول: أعجبني الذي صنعته، ولا يجيز: أعجبني ما قمت؛ لأنه لا يتعدى، وقد خلط، فأجاز مثله، والقياس والصواب قول سيبويه. فإن أردت ب ما معنى الذي، فذاك ما ليس فيه كلام؛ لأنه الباب والأكثر، وهو الأصل، وإنما خروجها إلى المصدر فرع.

هذا باب

ما جرى مجرى الفعل وليس بفعل ولا مصدر

ولكنها أسماءٌ وضعت للفعل تدل عليه، فأجريت مجراه ما كانت في مواضعها؛ ولا يجوز فيها التقديم والتأخير؛ لأنها لا تصرف تصرف الفعل؛ كما لم تصرف إن تصرف الفعل، فألزمت موضعاً واحداً، وذلك قولك: صه ومه، فهذا إنما معناه: اسكت، واكفف، فليس بمتعدٍّ، وكذلك: وراءك وإليك، إذا حذرته شيئاً مقبلاً عليه، وأمرته أن يتأخر، فما كان من هذا القبيل فهو غير متعدٍّ. ومنها ما يتعدى وهو قولك: عليك زيدا، ودونك زيدا، إذا أغريته. وكذلك: هلم زيدا، إذا أردت: هات زيدا فهذه اللغة الحجازية: يقع هلم فيها موقع ما ذكرنا من الحروف، فيكون للواحد وللاثنين والجمع على لفظٍ واحد، كأخواتها المتقدمات. قال الله عز وجل: " والقائلين إخوانهم هلم إلينا " . فأما بنو تميم فيجعلونها فعلاً صحيحاً، ويجعلون الهاء زائدة، فيقولون: هلم يا رجل، وللاثنين: هلما، وللجماعة: هلموا، وللنساء: هلممن؛ لأن المعنى: الممن، والهاء زائدة. فأما قول الله عز وجل: " كتاب الله عليكم " ، فلم ينتصب كتاب بقوله " عليكم " ، ولكن لما قال: " حرمت عليكم أمهاتكم " أعلم أن هذا مكتوبٌ عليهم، فنصب كتاب الله للمصدر؛ لأن هذا بدلٌ من اللفظ بالفعل؛ إذ كان الأول في معنى: كتب الله عليكم، وكتب عليكم. ونظير هذا قوله: " وترى الجبال تحسبها جامدةٌ وهي تمر مر السحاب صنع الله " ؛ لأنه قد أعلمك بقوله: " وهي تمر مر السحاب " أن ثم فعلاً، فنصب ما بعده؛ لأنه قد جرى مجرى: صنع الله. وكذلك: " الذي أحسن كل شيءٍ خلقه " . قال الشاعر:

ما إن يمس الأرض إلا منكبٌ ... منه وحرف الساق طي المحمل

لأنه ذكر على ما يدل على أنه طيان من الطي، فكان بدلاً من قوله طوى، وكذلك قوله:

إذا رأتني سقطت أبصارها ... دأب بكارٍ شايحت بكارها

لأن قوله: إذا رأتني معناه: كلما رأتني، فقد خبر أن ذلك دأبها؛ فكأنه قال: تدأب دأب بكار؛ لأنه بدل منه. ومثل هذا - إلا أن اللفظ مشتقٌّ من فعل المصدر، ولكنهما يشتبهان في الدلالة - قوله عز وجل: " وتبتل إليه تبتيلا " على: وبتل غليه، ولو كان على تبتل لكان تبتلاً. وكذلك: " والله أنبتكم من الأرض نباتاً " . لو كان على أنبت لكان إنباتاً. ولكن المعنى - والله أعلم - : أنه إذا أنبتكم نبتم نباتاً. وقال الشاعر:

وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا

وهذا كثيرٌ جداً.

ومن الحروف التي تجري مجرى الفعل ما يكون أشد تمكناً من غيره، وذلك أنك تقول للرجل - إذا أردت تباعده - : إليك فيقول: إلي. كأنك قلت: تباعد، فقال: أتباعد. وتقول: على زيدا، فمعناه: أولني زيدا، وتقول: عليك زيدا، أي: خذ زيدا. فإن سأل سائل عن اختلافها قيل: هي بمنزلة الأفعال التي منها ما يتعدى، ومنها ما لا يتعدى، ومنها ما يتعدى إلى مفعولين.

ومن هذه الحروف: حيهل فإنما هي اسمان جعلا اسماً واحداً، وفيه أقاويل: فأجودها: حيهل بعمر. فإذا وقفت قلت: حيهلا، فجعلت الألف لبيان الحركة. وجائزٌ أن تجعله نكرة فتقول: حيهلاً يا فتى، وجائزٌ أن تثبت الألف، وتجعله معرفة، فلا تنون والألف زيادة، ومعناه: قربه، وتقديره في العربية: بادر بذكره، وإنما حي في معنى: هلم. ومن ذلك قولهم: حي على الصلاة. قال الشاعر:

وهيج القوم من دارٍ فظل لهم ... يومٌ كثيرٌ تناديه وحيهلةٍ

وقال فيما أثبت فيه الألف:

بحيهلا يزجون كل مطيةٍ ... أمام المطايا سيرها متقاذف

وأدخل الباء عليه؛ لأنه اسم في موقع المصدر.

ومن أسماء الفعل رويد ولها باب تفرد به نذكره بعد هذا الباب إن شاء الله. ومن المصادر ويح، وويل، وويب، وإنما هي إذا قلت: ويلٌ لزيد في موضع: قبوحٌ لزيد. ولكن لم يجز أن يكون منها أفعال لعلة مشروحة في التصريف. وكذلك أفةً وتفة، وإنما هي في موضع: نتناً ودفراً. ومنها: سبحان الله، وريحانه، ومعاذ الله، وعمرك الله، وقعدك الله في النداء.

هذا باب

تفسير ما ذكرنا من هذه الأسماء الموضوعة..

موضع المصادر وما أشبهها من الأسماء

المدعو بها من غير المصادر؛ نحو: تربا وجندلا، وما أشبه ذلك. أما رويد زيدا، فاسم للفعل، وليس بمصدر، وبني على الفتح؛ لأنه غير متصرف كما فعلت بأخواته المبنيات، نحو: صه، ومه، ولم يسكن آخره؛ لأن قبله حرفاً ساكناً، واخترت له الفتح للياء التي قبله؛ كما فعلت في أين، وكيف وما أشبه ذلك. قال الشاعر:

رويد عليا جد ما ثدي أمهم ... إلينا ولكن ودهم متماين

فإن قلت: أرودته كان المصدر إرواداً، وتصرف تصرف جميع المصادر، فإن حذفت الزوائد على هذه الشريطة صرفت رويد فقلت: رويداً يا فتى. وإن نعت به قلتك ضعه وضعاً رويداً، وتفرده وتضيفه؛ لأنه كسائر المصادر. وتقول: رويد زيدٍ؛ كما قال الله عز وجل: " فضرب الرقاب " ، ورويداً زيدا؛ كما تقول: ضربا زيدا في الأمر. فأما قولك: رويدك زيدا فإن الكاف زائدة، وإنما زيدت للمخاطبة، وليست باسم، وإنما هي بمنزلة قولك: النجاءك يا فتى، وأريتك زيدا ما فعل؟، وكقولك: أبصرك زيدا. إنما الكاف زائدة للمخاطبة، ولولا ذلك كان النجاءك محالاً؛ لأنك لا تضيف الاسم وفيه الألف واللام، وقوله عز وجل: " أرأيتك هذا الذي كرمت علي " قد أوضح لك أن الكاف زائدة. ولو كانت في رويدك علامةً للفاعلين لكان خطأ إذا قلت: رويدكم؛ لأن علامة الفاعلين الواو؛ كقولك: أرودوا.

واعلم أن هذه الأسماء ما كان منها مصدراً، أو موضوعاً موضع المصدر فإن فيه الفاعل مضمراً؛ لأنه كالفعل المأمور به. تقول: رويدك أنت وعبد الله زيدا، وعليك أنت وعبد الله أخاك. فإن حذفت التوكيد قبح، وإعرابه الرفع على كل حال؛ ألا ترى أنك لو قلت: قم وعبد الله كان جائزاً على قبح حتى تقول: قم أنت وعبد الله، و " فاذهب أنت وربك فقاتلا " و " اسكن أنت وزوجك الجنة " . فإن طال الكلام حسن حذف التوكيد؛ كما قال الله عز وجل: " لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا " وقد مضى هذا مفسراً في موضعه. وكذلك ما نعته بالنفس في المرفوع. إنما يجري على توكيد فإن لم تؤكد جاز على قبح. وهو قولك: قم أنت نفسك. فإن قلت: قم نفسك جاز. وذلك قولك: رويدك أنت نفسك زيدا، وعليك أنت نفسك زيدا، والحذف جائز قبيح إذا قلت: رويدك نفسك زيدا.

واعلم أنك إذا قلت: عليك زيدا ففي عليك اسمان: أحدهما: المرفوع الفاعل. والآخر: هذه الكاف المخفوضة. تقول: عليكم أنفسكم أجمعون زيدا، فتجعل قولك أجمعون للفاعل: وتجعل قولك: أنفسكم للكاف. وإن شئت أجريتهما جميعاً على الكاف فخفضته، وإن شئت أكدت، ورفعتهما لما ذكرت لك من قبح مجرى النفس في المرفوع إلا بتوكيد، وإن شئت رفعت بغير توكيد على قبح. وإن قلت: رويد نفسك، أو رويدك. جعلت النفس مفعولة بمنزلة زيد؛ كما قال الله عز وجل: " عليكم أنفسكم " .

هذا باب

إياك في الأمر

اعلم أن إياك اسم المكنى عنه في النصب؛ كما أن أنت اسمه في الرفع، وهما منفصلان. لا تقول: إياك إذا قدرت على الكاف في رأيتك وأخواتها؛ نحو: ضربته، وضربني. وكذلك أنت لا تقع موقع التاء وأخواتها في ضربت وضربنا، وزيد قام يا فتى، فيقع الضمير في النية، وقد مضى القول في هذا. فلما كانت إياك لا تقع إلا اسماً لمنصوب كانت بدلاً من الفعل، دالةً عليه، ولم تقع هذه الهيئة إلا في الأمر؛ لأن الأمر كله لا يكون إلا بفعل. وذلك قولك: إياك والأسد يا فتى وإنما التأويل: اتق نفسك والأسد. وإياك منصوب بالفعل؛ لأنه والأسد متقيان. وكذلك: إياك والصبي، وإياك ومكروه عبد الله، وإن أكدت رفعت إن شئت، فقلت: إياك أنت وزيدٌ؛ لأن مع إياك ضميراً، وهو الضمير الذي في الفعل الذي نصبها. ألا ترى أن معنى إياك إنما هو: احذر، واتق، ونحو ذلك، وإن شئت قلت: إياك أنت وزيدا، فجعلت أنت توكيداً لذلك المضمر، فإن قلت: إياك وزيدٌ فهو قبيح وهو على قبحه جائزٌ كجوازه في قم وزيدٌ. والبيت يستوي فيه الوجهان؛ لأنه فيه توكيد وهو قوله:

إياك أنت وعبد المسيح أن تقربا قبلة المسجد

ولا يجوز أن تقول: إياك زيدا؛ كما لا يجوز أن تقول: زيدا اضرب عمرا حتى تقول: وعمرا. وأما قوله: إياك أن تقرب الأسد فجيد، لأن أن تحذف معها اللام لطولها بالصلة. تقول: أكرمتك أن اجتر مودة زيد. فالمعنى: إياك احذر من أجل كذا، فهذا جائز، وإن أدخلت الواو فجيد؛ لأن أن وصلتها مصدر. فأما إياك الضرب فلا يجوز في الكلام؛ كما لا يجوز: إياك زيدا. فإن اضطر شاعرٌ جاز؛ لأنه يشبهه للضرورة بقوله: أن تقربا. وعلى هذا:

إياك إياك المراء فإنه ... إلى الشر دعاءٌ وللشر جالب

فاضمر بعد قوله: إياك فعلاً آخر على كلامين؛ لأنه لما قال: إياك أعلمه أنه يزجره، فأضمر فعلاً. يريد: اتق المراء يا فتى.

والفصل بين المصدر نحو: الضرب والقتل. وبين أن يضرب، وأن يقتل في المعنى. أن الضرب اسم للفعل يقع على أحواله الثلاثة: الماضي، والموجود، والمنتظر. فقولك: أن تفعل لا يكون إلا لما يأتي. فإن قلت: أن فعلت، فلا يكون إلا للماضي ولا يقع للحال البتة. وقراءة من قرأ: " وامرأةً مؤمنةً أن وهبت نفسها للنبي " معناه: المضي. وإن قرأ: " إن وهبت نفسها للنبي " فمعناه: متى كان ذا؛ لأنها إن التي للجزاء والحذف مع أن وصلتها مستعمل في الكلام لما ذكرت لك من أنها علة لوقوع الشيء فعلى هذا يكون، وهذا بينٌ واضح. وأما قول الله عز وجل: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " . فإن قال قائل: قوله: " أن تضل إحداهما " لما ذكر. وهو لم يعدد الإشهاد؛ لأن تضل إحداهما. فالجواب في ذلك: أنه إنما أعد الإشهاد للتذكير، ولكن تقدمت أن تضل؛ لتوقع سبب التذكرة. ونظيره من الكلام: أعددت هذا أن يميل الحائط. فأدعمه، ولم يعدده طلباً لأن يميل الحائط، ولكنه أخبر بعلة الدعم، فاستقصاء المعنى: إنما هو: أعددت هذا لأن إن مال الحائط دعمته، فإن الأولى هي الثانية. وقد يحذف الفعل في التكرير وفي العطف وذلك قولك: رأسك والحائط، ورأسه والسيف يا فتى. فإنما حذف الفعل للإطالة والتكرير، ودل على الفعل المحذوف بما يشاهد من الحال. ومن أمثال العرب: رأسك والسيف، ومن أمثالهم: أهلك والليل وقد دل هذا على أنه يريد: بادر أهلك والليل. والأول على أنه: نح رأسك من السيف. وتقديره في الفعل: اتق رأسك والسيف. فلو أفردت لم يجز حذف الفعل إلا وعليه دليل. نحو: زيدا. لو قلت ذلك لم يدر ما الفعل المحذوف. فإن رأيت رجلاً قد أشار بسيف فقلت: زيدا أو ذكرت أنه يضرب أو نحو ذلك جاز لأن المعنى: أوقع ضربك بزيد. فإن كان مصدراً فقد دل على فعل، فمن ذلك: ضرباً ضرباً، إذا كنت تأمر. وإنما كان الحذف في الأمر جائزاً؛ لأن الأمر لا يكون إلا بفعل. قال الله عز وجل: " فإما منا بعد وإما فداءً " وقال: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " . فالمصدر المأمور به يكون نكرة، وبالألف واللام، ومضافاً. كل ذلك مطرد في الأمر، وكل شيءٍ كان في معنى المصدر فمجراه مجرى المصدر، وسنبين ذلك إن شاء الله. فأما قولك: الحمد لله في الخبر، وسقياً لزيد، ورعياً له. فله باب يفرد به إن شاء الله.

هذا باب

ما جرى مجرى المصادر وليس بمتصرف من فعل

فمن ذلك: سبحان الله، ومعاذ الله، وقولهم: أفةً، وتفةً، وويلا لزيد، وويحا له، وسلامٌ على زيد، وويلٌ لزيد، وويحٌ له، وتربا له. كل هذا معناه في النصب واحدٌ، ومعناه في الرفع واحد. ومنه ما لا يلزمه إلا النصب، ومنه ما لا يجوز فيه إلا الرفع لعلل نذكرها إن شاء الله. ومنه قولك: مرحبا، وأهلاً وسهلاً، وويلةً، وعولةً. فأما قولهم: سبحان الله فتأويله: براءة الله من السوء، وهو في موضع المصدر، وليس منه فعل. فإنما حده الإضافة إلى الله - عز وجل - وهو معرفة. وتقديره، إذا مثلته فعلاً: تسبيحاً لله. فإن حذفت المضاف إليه من سبحان لم ينصرف؛ لأنه معرفة، وإنما نكرته بالإضافة؛ ليكون معرفة بالمضاف إليه. فأما قول الشاعر:

سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به ... وقبلنا سبح الجودي والجمد

في رواية: نعوذ به. فإنما نون مضطراً، ولو لم يضطر لكان كقول الآخر:

أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر

فهذا في موضع: براءةً منه. ومعاذ الله كذلك لا يكون إلا مضافاً. وتقديره تقدير: عياذ الله، أي: عذت بالله عياذاً. فهذا موضع هذا. ومثل ذلك: حجرة،إنما معناه: حراماً. فهو في موضعه لو تكلمي به. فمن ذلك قول الله عز وجل: " حجراً محجوراً " أي: حراماً محرماً. وأما قولهم: مرحباً وأهلاً، فهو في موضع قولهم: رحبت بلادك رحبا، وأهلت أهلا، ومعناه: الدعاء. يقول: صادفت هذا. ولو قلت: حجرٌ، ومرحبٌ، لصلح، تريد: أمرك هذا. وأما سبحان وما كان مثله مما لا يكون إلا مضافاً، فلا يصلح فيه إلا النصب. وهذا البيت ينشد على وجهين: على الرفع والنصب وهو:

وبالسهب ميمون النقيبة قوله ... لملتمس المعروف: أهلٌ ومرحب

وقال الآخر:

إذا جئت بواباً له قال: مرحباً ... ألا مرحبٌ واديك غير مضيق

فأما قولهم: سلاماً، وسلامٌ يا فتى، فإن معناه: المبارأة والمتاركة. فمن قال: لا تكن من فلان إلا سلامٌ بسلام فمعناه: لا تكن إلا وأمرك وأمره المتاركة والمبارأة،وإنما رفعت؛ لأنك جعلته ابتداءً وخبراً في موضع خبر كان. ولو نصبته كان جيداً بالغاً. فمن ذلك قوله عز وجل: " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً " تأويله: المتاركة، أي: لا خير بيننا وبينكم ولا شر. ومن كلامهم: سبحان الله، وريحانه. فتأويل ريحان في هذا الموضع: الرزق. وتقديره في المصادر: تسبيحاً، واسترزاقاُ وتصديق هذا في قوله عز وجل: " والحب ذو العصف والريحان " . فأما قولهم: ويلٌ لزيد، وويحٌ لزيد، وتبٌ لزيد، وويسٌ له. فإن أضفت لم يكن إلا النصب فقلت: ويحه، وويله. فإنما ذلك لأن هذه مصادر. فإن أفردت فلم تضف، فأنت مخير بين النصب والرفع. تقول: ويلٌ لزيد، وويلاٌ لزيد فأما النصب فعلى الدعاء، وأما الرفع فعلى قولك: ثبت ويل له؛ لأنه شيءٌ مستقرٌ. فويلٌ مبتدأ، وله خبره. وهذا البيت ينشد على وجهين، وهو:

كسا اللؤم تيماً خضرةً في جلودها ... فويلٌ لتيمٍ من سرابيلها الخضر

فأما قوله عز وجل: " ويلٌ للمطففين " وقوله: " ويلٌ يومئذٍ للمكذبين " . فإنه لا يكون فيه إلا الرفع؛ إذ كان لا يقال: دعاءٌ عليهم، ولكنه إخبارٌ بأن هذا قد ثبت لهم. فإن أضفت فقلت: ويله، وويحه، لم يكن إلا نصباً؛ لأن وجه الرفع قد بطل بأنه لا خبر له، فكذا هذه التي في معنى المصادر. فإن كان مصدراً صحيحاً يجري على فعله فالوجه النصب. وذلك قولك: تباً لزيد، وجوعاً لزيد؛ لأن هذا من قولك: جاع يجوع، وتب يتب. وكذلك سقياً، ورعياً. والرفع يجوز على بعد؛ لأنك تبتدئ بنكرة، وتجعل ما بعدها خبرها. فأما سلامٌ عليك فاسم في معنى المصدر، ولو كان على سلم لكان تسليما. فإن كانت هذه المصادر معارف فالوجه الرفع، ومعناه كمعنى المنصوب، ولكن يختار الرفع؛ لأنه كالمعرفة، وحق المعرفة الابتداء. وذلك قولك: الحمد لله رب العالمين ولعنة الله على الظالمين. والنصب يجوز. وإنما تنظر في هذه المصادر إلى معانيها؛ فإن كان الموضع بعدها أمراً أو دعاءً لم يكن إلا نصباً. وإن كان لما قد استقر لم يكن إلا رفعاً وإن كان يقع لهما جميعاً كان النصب والرفع. فمما يدعى به أسماءٌ ليست من الفعل، ولكنها مفعولات. وذلك قولك: ترباً، وجندلا. إنما تريد: أطعمه الله، ولقاه الله، ونحو ذلك. فإن أخبرت أنه مما قد ثبت رفعت. قال الشاعر:

لقد ألب الواشون ألباً لبينهم ... فتربٌ لأفواه الوشاة وجندل

فأما قوله: أفةً وتفةً فإنما تقديره من المصادر: نتناً، ودفراً فإن أفردت أف بغير هاءٍ فهو مبني؛ لأنه في موضع المصدر وليس بمصدر، وإنما قوي حيث عطفت عليه؛ لأنك أجريته مجرى الأسماء المتمكنة في العطف. فإذا أفردته بني على الفتح والكسر والضم، وتنونه إن جعلته نكرة. وفي كتاب الله عز وجل: " فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما " . وقال: " أفٍّ لكم ولما تعبدون " كل هذا جائزٌ جيد. وهذه المبنيات إذا جعلت شيئاً منها نكرةً نونت، نحو: إيه يا فتى، وقال الغراب: غاقٍ غاقٍ يا فتى كذا تأويلها.

واعلم أن من المصادر التي لا أفعال لها تجري عليها وإنما يوضع موضع المصادر ما يكون مثنى لمبالغة. وذلك قولك: لبيك وسعديك، وحنانيك، إنما أراد حناناً بعد حنان، أي: كل ما كنت في رحمةٍ منك فلتكن موصولة بأخرى. وتأويل حنانيك: إنما هو رحمةٌ بعد رحمة. يقال: تحنن فلان على فلان: إذا رحمه. قال الشاعر:

تحنن علي هداك المليك ... فإن لكل مقامٍ مقالا

وقال الآخر:

أبا منذرٍ أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض

فهذا مما يجوز إفراده، فإذا أفردت فأنت مخير: إن شئت نصبت بالفعل وإن شئت ابتدأت. فإذا ثنيت لم يكن إلا منصوباً؛ لأنه وضع موضع ما لا يتمكن؛ نحو: لبيك وسعديك. وقال الشاعر فيما أفرد فيه:

ويمنحها بنو شمجى بن جرمٍ ... معيزهم حنانك ذا الحنان

وقال الآخر، فرفع:

فقالت: حنانٌ ما أتى بك ههنا؟ ... أذو نسبٍ أم أنت بالحي عارف

والفصل بين الرفع والنصب أن الناصب دعا له. كأنه قال: رحمتك يا ذا الرحمة وقوله:

حنانٌ ما أتى بك هاهنا؟

إنما أراد: أمرنا حنانٌ؛ كقوله عز وجل: " مثل الجنة التي وعد المتقون " فالتقدير: فيما يتلى عليكم مثل الجنة، ثم قال: فيها، وفيها. ومن قال: إنما معناه: صفة الجنة فقد أخطأ؛ لأن مثل لا يوضع في موضع صفة. إنما يقال: صفة زيد أنه ظريف، وأنه عاقل. ويقال: مثل زيد مثل فلان. وإنما المثل مأخوذ من المثال والحذو، والصفة تحلية ونعت. فأما تأويل قولهم: لبيك: فإنما يقال: ألب فلان على الأمر: إذا لزمه ودام عليه فمعناه: مداومةً على إجابتك، ومحافظةً على حقك. فإذا قال العبد لربه: لبيك فمعناه: ملازمةً لطاعتك، ومحافظةً على أمرك. وقولك: سعديك. إنما معناه من قولك: قد أسعد فلان فلاناً على أمره، وساعده عليه. فإذا قال: اللهم لبيك وسعديك، فإنما معناه: اللهم ملازمةً لأمرك، ومساعدةً لأوليائك، ومتابعةً على طاعتك. فلو كان الباب واسعاً لكان متصرفاً؛ لأنه بمنزلة الضرب من ضربت، ولكنهما مشتقان للمبالغة من الفعل كسبحان الله، ومعاذ الله؛ فلذلك ألزما طريقةً واحدة. فأما حنانٌ فمنفرد؛ لأنه من حننت، مثل قولك: ذهبت ذهاباً، ويتصرف في الكلام في غير الدعاء وحناناً من لدنا وتقول: تحنن علي. فهذا وجه ما جاء على فعله، وما لم يأت عليه فعل. فأما قولهم: شكرانك لا كفرانك، فهما مصدران لحقتهما الزيادة. وإنما التقدير: شكراً لا كفراً. ولكن وقعت الزيادة للمبالغة.

واعلم أن المصدر كسائر الأسماء إلا أنه اسم للفعل، فإذا نصبت فعلى إضمار الفعل. فمن المصادر ما يكثر استعماله، فيكون بدلاً من فعله ومنها ما لا يكون له حق الاسم. فأما ما كثر استعماله حتى صار بدلاً من الفعل فقولك: حمداً وشكراً، لا كفراً. وعجباً إنما أردت: أحمد الله حمداً. فلولا الاستعمال الذي أبان عن ضميرك لم يجز أن تضمر؛ لأنه موضع خبر، وإنما يحسن الإضمار ويطرد في موضع الأمر؛ لأن الأمر لا يكون إلا بفعل. نحو قولك: ضرباً زيدا. إنما أردت: اضرب ضربا. وكذلك ضرب زيد. نصبت الضرب باضرب، ثم أضفته إلى زيد لما حذفت التنوين؛ كما تقول: هذا ضارب زيد غدا. والأصل إثبات التنوين وحذفه استخافٌ لعلم المخاطب. ألا ترى أن الاسم المضاف إلى معرفة على نية التنوين لا يكون إلا نكرة؛ لأن التنوين في النية، نحو قوله عز وجل: " هذا عارضٌ ممطرنا " و " هدياً بالغ الكعبة " . هو وصف للنكرة، وتدخل عليه رب كما تدخل على النكرة. وقد مضى تفسير هذا في بابه. قال الشاعر:

يا رب غابطنا لو كان يطلبكم ... لاقى مباعدةً منكم وحرمانا

يريد: غابطٍ لنا. ومن ذلك قوله عز وجل: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " وإنما التقدير - والله أعلم - : فضرباً الرقاب. فهذا يدل على ما بعده، وما يرد من جنسه ونظائره.

هذا باب

المصادر في الاستفهام على جهة التقدير

وعلى المسألة

وذلك قولك: أقياماً وقد قعد الناس. لم تقل هذا سائلاً، ولكن قلته موبخاً منكراً لما هو عليه، ولولا دلالة الحال على ذلك لم يجز الإضمار؛ لأن الفعل إنما يضمر إذا دل عليه دالٌّ؛ كما أن الاسم لا يضمر حتى يذكر، وإنما رأيته في حال قيام في وقت يجب فيه غيره، فقلت له منكراً. ومثله: أقعوداً وقد سار الناس، كما قال:

أطرباً وأنت قنسريٌّ

فإنما قال إنكاراً على نفسه الطرب وهو على غير حينه. وكذلك إن أخبرت على هذا المعنى فقلت: قياماً - علم الله - وقد قعد الناس، وجلوساً والناس يسيرون. وإن شئت وضعت اسم الفاعل في موضع المصدر فقلت: أقائماً وقد قعد الناس. فإنما جاز ذلك؛ لأنه حال. والتقدير: أتثبت قائماً، فهذا يدلك على ذلك المعنى. وتقول في بابٍ منه آخر: ما أنت إلا سيرا، وما أنت إلا ضربا، وكذلك: زيدٌ سيرا، وزيدٌ أبداً قياما، وإنما جاز الإضمار لأن المخاطب يعلم أن هذا لا يكون إلا بالفعل، وأن المصدر إنما يدل على فعله، فكأنك قلت: زيد يسير سيراً، وما أنت إلا تقوم قياما، وإن شئت قلت: زيد سيرٌ يا فتى. فهذا يجوز على وجهين: أحدهما: أن يكون: زيدٌ صاحب سيرٍ، فاقمت المضاف إليه مقام المضاف؛ لما يدل عليه؛ كما قال الله عز وجل: " واسأل القرية التي كنا فيها " إنما هو: أهل القرية كما قال الشاعر:

ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبالٌ وإدبار

أي: ذات إقبال وإدبار، ويكون على أنه جعلها الإقبال والإدبار لكثرة ذاك منها. وكذلك قوله عز وجل: " ولكن البر من آمن بالله " . والوجه: ولكن البر بر من آمن بالله. ويجوز أن يوضع البر في موضع البار على ما ذكرت لك. فإذا قلت: ما أنت إلا شرب الإبل فالتقدير: ما أنت إلا تشرب شرب الإبل، والرفع في هذا أبعد؛ لأنه إذا قال: ما أنت إلا سيرٌ. فالمعنى: ما أنت إلا صاحب سيرٍ؛ لأن السير له. فإذا قال: ما أنت إلا شرب الإبل ففيه فعل؛ لأن الشرب ليس له. وإنما التقدير: إلا تشرب شرباً مثل شرب الإبل، فإذا أراد الضمير في الرفع كثر، فصار المعنى: ما أنت إلا صاحب شربٍ كشرب الإبل، فهذا ضعيفٌ خبيث. ومثل الأول قوله:

وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب

يريد: كخلالة أبي مرحب. فهذا كقوله عز وجل: " ولكن البر من آمن بالله " . ومن ذلك قول الشاعر:

وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعلٍ في ذي الفقارة عاقل

واعلم أن المصادر لا تمتنع من إضمار أفعالها إذا ذكرت ما يدل عليها، أو كان بالحضرة ما يدل على ذلك. وقياسها قياس سائر الأسماء في رفعها ونصبها وخفضها، إلا أنها تبدل من أفعالها. ألا ترى قوله عز وجل: " في أربعةٍ أيامٍ سواءً للسائلين " وأن قوله " أربعة " قد دل على أنها قد تمت. فكأنه قال: استوت استواءً. ومثله: " الذي أحسن كل شيءٍ خلقه " ؛ لأن فعله خلق فقوله: " أحسن " ؛ أي خلق حسنا خلق، ثم أضافه. ومثل ذلك: " وعد الله " ؛ لأنه لما قال: " ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله " علم أن ذلك وعدٌ منه، فصار بمنزلة: وعدهم وعداً، ثم أضافه. وكذلك: " كتاب الله عليكم " . لما قال: " حرمت عليكم أمهاتكم " أعلمهم أن ذلك مكتوب عليهم، فكأنه قال: كتب الله ذلك. ومن زعم أن قوله: " كتاب الله عليكم " نصب بقوله: عليكم كتاب الله، فليس يدري ما العربية؛ لأن السماء الموضوعة موضع الأفعال لا تتصرف تصرف الأفعال، فتنصب ما قبلها. فمن ذلك قوله:

ما إن يمس الأرض إلا منكبٌ ... منه وحرف الساق طي المحمل

وذلك أنه دل بهذا الوصف على انه منطوٍ فأراد: طوي طي المحمل. فهذه أوصاف تبدل من الفعل لدلالتها عليه.

هذا باب

ما يكون من المصادر توكيدا

وذلك قولك: لا إله إلا الله قولاً حقاًّ. كأنك قلت: أقول قولاً حقاً؛ لأن قولك: لا إله إلا الله هو حقٌّ، وكذلك: لأضربنك قسماً حقاً؛ لأنه بدلٌ من قولك: أقسم، وكذلك: لأقومن قسما لأن قولك: لأقومن فيه لام القسم. ومثله.

إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسماً إليك مع الصدود لأميل

فإن قال قائل: قد تقع اللام فيما لا قسم فيه. قيل: تقع على تقدير القسم؛ لأن قولك: والله لأفعلن متصل، ولو أقسم مقسمٌ على فعل لم يقع، لم يكن ليتصل به إلا اللام والنون، فإنما حقه القسم ذكر أو حذف، وكذلك ما كان مثل الكعيت يعني البلبل، والجميل، إنما هو مصغر، وإن كان تكبيره غير مستعمل لعلة قد ذكرناها في باب التصغير. ألا ترى أنه يرد إلى الأصل في جمعه، فيجمع على تكبيره، وذلك قولك في جمع كميت: كمتٌ؛ كما تقول: أشقر وشقر؛ لأن الأصل أكمت، وإنما هو مصغر تصغير الترخيم. وكذلك تقول: كعتان، وجملان؛ لأن تكبيره: فعل؛ كما تقول في النغر، والصرد، والجعل: جعلان، ونغران، وصردان. فمثل ذلك كرسي، وقمري. إنما هو فعل. والياء ياء النسب وإن لم يستعمل غير منسوب، وليس فيه نسب إلى أرض ولا رجل ولا غير ذلك.

ومن المصادر ما يقع في موضع الحال فيسد مسده، فيكون حالاً، لأنه قد ناب عن اسم الفاعل، وأغنى غناءه، وذلك قولهم: قتلته صبرا. إنما تأويله: صابراً أو مصبراً، وكذلك: جئته مشياً؛ لأن المعنى: جئته ماشياً. فالتقدير: أمشي مشياً، لأن المجيء على حالات، والمصدر قد دل على فعله من تلك الحال. ولو قلت: جئته إعطاءً لم يجز؛ لأن الإعطاء ليس من المجيء، ولكن جئته سعياً، فهذا جيد؛ لأن المجيء يكون سعياً. قال الله عز وجل: " ثم ادعهن يأتينك سعياً " . فهذا اختصار يدل على ما يرد مما يشاكلها، ويجري مع كل صنف منها.

هذا باب الأسماء التي توضع موضع المصادر التي تكون حالاً وذلك قولك: كلمته فاه إلى في، وبايعته يداً بيدٍ. فإنما انتصب؛ لأنه أراد: كلمته مشافهةً، وبايعته نقداً، فوضع قوله: فاه إلى في موضع مشافهةً، ووضع قوله: يدا بيد في موضع نقداً. فلو قلت: كلمته فوه إلى في لجاز؛ لأنك تريد: كلمته وفوه إلى في. وأما بايعته يداً بيدٍ فلا يجوز غيره؛ لأن المعنى: بايعته نقداً، أي: أخذت منه، وأعطيت، ولست تخبر أنك بايعته ويدٌ بيدٍ؛ كما أنك كلمته وفوه إلى فيك. ولكن تقول: بايعته يده فوق رأسه، أردت: ويده فوق رأسه، أي: وهذه حاله؛ لأن هذا ليس من نعت المبايعة؛ كما كان قولك: مشافهة ونقدا من نعت الفعل، فكذلك بايعته ويده في يدي.

واعلم أن من المصادر ما يدل على الحال وإن كان معرفة وليس بحال، ولكن دل على موضعه، وصلح للموافقة، فنصب، لأنه في موضع ما لا يكون إلا نصباً. وذلك قولك: أرسلها العراك. وفعل ذلك جهده وطاقته، لأنه في موضع: فعله مجتهداً، وأرسلها معتركةً؛ لأن المعنى: أرسلها وهي تعترك، وليس المعنى أرسلها؛ لتعترك قال الشاعر:

فأرسلها العراك ولم يذدها ... ولم يشفق على نغص الدخال

واعلم أن هذه المنتصبات عن المصادر في موضع الأحوال، وليست بأحوال، ولكنها موافقة، وموضوعة في مواضع غيرها؛ لوقوعها معه في المعنى. وكذلك: جاءني القوم قاطبةً، وطرًّا. إنما معناه: جاءني القوم جميعاً، ولكن وقع طرًّا في معنى المصدر؛ كما تقول: جاءني القوم جميعاً إذا أخذته من قولك: جمعوا جمعاً. وقد يكون الجمع اسماً للجماعة. قال الله عز وجل: " سيهزم الجمع ويولون الدبر " . فأما قولك: طرًّا فقد كان يونس يزعم أنه اسم نكرة للجماعة وإن لم يقع إلا حالاً. ويقال: طررت القوم، أي: مررت بهم جميعاً. وقال النحويون سوى يونس: إنه في موضع المصدر الذي يكون حالاً.

هذا باب

الأسماء الموضوعة في مواضع المصادر

إذا أريد بها ذلك أو أريد بها التوكيد جرت على ما قبلها مجرى كلهم وأجمعين

وذلك قولك: مررت بزيد وحده، ومررت بأخويك وحدهما، ومررت بالقوم خمستهم، ومررت بهم ثلاثتهم، وأتاه القوم قضهم بقضيضهم. أما قولك: مررت بزيد وحده فتأويله: أوحدته بمروري إيحاداً؛ كقولك: أفردته بمروري إفرادا. وقولك: وحده في معنى المصدر، فلا سبيل إلى تغييره عن النصب. وأما قولك: مررت بالقوم خمستهم فجائز أن تجريه على الأول فتقول: مررت بالقوم خمستهم، وما أشبه الخمسة من قولك: ثلاثتهم، وأربعتهم، والمعنى مختلف لأنك إذا قلت: مررت بالقوم خمستهم، فمعناه: بهؤلاء تخميساً؛ كقولك: مررت به وحده؛ أي: لم أخلط معه أحدا. فكذلك قولك في الجماعة إنما هو خصصتهم. وإذا قلت: مررت بالقوم خمستهم، فهو على أنه قد علم أنهم خمسة، فإنما أجري مجرى كلٍّ. أراد: مررت بالقوم كلهم، أي: لم أبق من هؤلاء الخمسة أحداً. فالمعنى يحتمل أن تكون قد مررت بغيرهم؛ كما أنك إذا قلت: مررت بإخوتك كلهم جاز أن تكون قد مررت بغيرهم أيضاً. وأما قولك: مررت بالقوم قضهم بقضيضهم فعلى هذا، كأنك قلت: مررت بالقوم كلهم وجماعتهم. ومن قال: قضهم بقضيضهم أراد: انقضاضاً، أي: انقض أولهم على آخرهم. ولا يجوز مررت بزيد كله؛ لأن كلاًّ لا يقوم في هذا الموضع، ولا يجوز: مررت بأخويك اثنيهما؛ لأن الاثنين هما الهاء والميم، والشيء لا يضاف إلى نفسه. وإنما قلت: خمستهم؛ لأن هم لكل جمع، فاقتطعت من الجمع شيئاً، فأضفته إلى جميعه، فصار مختصاً به. وهما لا يكون إلا تثنية. فإن قلت: فأنت تقول: كلاهما منطلق ف كلا لا يكون إلا لاثنين، فلم أضفته إلى ضميرهما؟ فالجواب في ذلك: أن كلاً اسم واحد فيه معنى التثنية، فإنما أضفت واحداً إلى اثنين. ألا ترى أنك تقول: الاثنان منطلقان، وكلاهما منطلقٌ، وكلانا كفيلٌ ضامنٌ عن صاحبه. فإنما تأويله: كل واحد منا؛ كما قال الشاعر:

أكاشره وأعلم أن كلانا ... على ما ساء صاحبه حريص

ومع هذا إن التثنية إنما تخرج عن الواحد. تقول: رجلٌ ورجلان، وامرأةٌ امرأتان. فمن هذا الوجه أيضا إذا قلت للواحد: مررت به وحده، قلت للاثنين: مررت بهما وحدهما فذا بينٌ جداً. فأما قولهم: هذا نسيج وحده فلا معنى له إلا الإضافة، لأنه يخبر أنه ليس في مثاله أحد، فلو لم يضف إليه لقال: هذا نسيجٌ إفرادا. فالإضافة في الحقيقة إلى المصدر. وكذلك عيير وحده، وجحيش وحده. ولو قال: جحيش نفسه. وعيير نفسه وحدها لصلح؛ لأنه الرجل الذي يخدم نفسه وحدها. فهذا بينٌ جداً. وكان أبو الحسن الأخفش لا يجيز: اختصم أخولك كلاهما، ولا اقتتل أخواك كلاهما، ويقول: اختصم لا يكون إلا من اثنين أو أكثر؛ وإنما أقول: جاءني أخواك كلاهما؛ لأعلم السامع أنه لم يأت واحد، وكذلك: جاءني إخوتك كلهم؛ لأعلم أني لم أبق منهم واحدا، فقيل له: فقل: اختصم أخواك كلاهما؛ لأنه لا يلتبس بما بعد التثنية، فذهب أن كلاهما يكثر به، ولا يقلل به. وهذا قول كثير من النحويين وليس كما قال إذا حدد. وذلك أن كلاً عموم؛ لأن الأعداد قد يقتصر على الشيء منها، فيكون كلاماً، فتقول: جاءني بنو فلان، فيجوز أن تعني بعضاً دون الكل فإذا قلت: كلهم دخلت لتدل على العموم. وكلا ليس كذلك. إنما تقع على الاثنين وأنت تريد كل واحد منهما. فهذا لا يقع إلا على ما وصفنا لأن جماعةً أكثر من جماعة، ولا يكون اثنان أعثر عدداً من اثنين فتقول: تكثير أو تقليل. ومن قول الأخفش أنه يجوز: استوى زيد وعمرو كلاهما: لأن الاستواء لا يكون من واحد، إذا أراد: ساوى فلانً فلانا، بل يدخل في باب اقتتل، واختصم، ونحوه. وإنما تستخرج هذه المسائل بالتفتيش والقياس.

واعلم أن من الأسماء أسماءً محتملة لا تنفصل بأنفسها. فمتى ما سمع منها شيءٌ علم أن صوابه أن يكون محمولاً على غيره، وذلك قولك: جاءني رجلٌ آخر، ولا يجوز هذا إلا أن تكون قد ذكرت قبله رجلا، فتقول: جاءني فلانٌ ورجلٌ آخر، أو يقول القائل: هل جاءك فلان؟ فتقول: جاءني رجلٌ آخر. وكذلك:سائر كذا وكذا. لا يكون إلا مضافاً إلى شيءٍ قد ذكر بعده. تقول: رأيت الأمير دون سائر الأمراء، وجاءني عبد الله. وتأخر عني سائر إخوتي، إذا كان عبد الله أخاك، فإن لم يكن أخاك لم تجز المسألة إذا لم يكن بعضا أضفت السائر إليه. ولو قلت: أتتني جاريتك وامرأة أخرى كان غير جائز. فإن قلت: أتاني أخوك، وإنسان آخر جاز وإن عنيت بالإنسان امرأة؛ لأن الباب الذي ذكرتها به يجمعها. وكذلك: جاءتني جاريتك وإنسان آخر، وأنت تعني بالإنسان رجلاً فهو جيد بالغ. فأما قوله:

صلى على عزة الرحمن وابنتها ... ليلى وصلى على جاراتها الأخر

فإنه جعل ابنتها جارة لها، ولولا ذلك لم يجز. ألا ترى إلى قول الله عز وجل: " فعدةٌ من أيامٍ أخر " لما قدم من ذكر الأيام. وكذلك: " منه لآياتٌ محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهاتٌ " . فهذا باب هذا. وكان حد آخر أن يكون معه من كذا، وكذا إلا أن أفعل يقع على وجهين: أحدهما: أن يكون نعتاً قائماً في المنعوت، نحو: أحمر، وأصفر، وأعور. والوجه الآخر: أن يكون للتفضيل، نحو: هذا أفضل من زيد، وأكبر من عبد الله فإن أردت هذا الوجه لم يكن إلا أن تقول: من كذا، كذا، أو بالألف واللام؛ نحو: هذا الأصغر، والأكبر. فأما قوله في الآذان: الله أكبر، فتأويله: كبير؛ كما قال عز وجل: " وهو أهون عليه " . فإنما تأويله: وهو عليه هين؛ لأنه لا يقال: شيءٌ أهون عليه من شيءٍ. ونظير ذلك قوله:

لعمرك ما أدري وإني لأوجلعلى أينا تعدو المنية أول

أي: إني لوجل. فأما إذا أردت من كذا وكذا فلا بد من منه أو الألف واللام؛ كقولك: جاءني زيد ورجل آخر، إنما معناه: آخر منه. ولكن علم أن الآخر لا يكون إلا بعد مذكور أو بعد أول، فلم يحتج إلى منه. والدليل على أن الأصل هذا قولهم في مؤنثه: أخرى؛ كما تقول: هذا أول منك، وهذه الأولى، والأوسط، والوسطى، والأكبر والكبرى. فلولا أن آخر قد استغنى فيه عن ذكر من كذا لكان لازماً؛ كما يلزم قولك: هذه أول من ذاك؛ ولذلك قلت: في أخر بغير الصرف؛ لأنها محدودة عن وجهها؛ لأن الباب لا يستعمل إلا بالألف واللام أو من كذا. فلما سقط، من كذا سقط ما يعاقبه، فلم يصرف. قال الله عز ذكره: " وأخر متشابهاتٌ " فلم يصرف. وقال: " فعدةٌ من أيامٍ أخر " ، فلم يصرف. فهذان دليلان بينان مع المعنى الذي يجمعه.

واعلم أن أفعل إذا أردت أن تضعه موضع الفاعل فمطرد. فمن ذلك قوله:

قبحتم يا آل زيد نفرا ... ألأم قومٍ أصغراً وأكبرا

يريد: صغيراً وكبيراً. فهذا سبيل هذا الباب.

هذا باب

مسائل أفعل مستقصاةً بعد ما ذكرنا من أصوله

تقول: مررت برجل خيرٌ منك أبوه، وجاءني رجل خيرٌ منك أخوه، ورأيت رجلاً أفضل منك أخوه. يختار في هذا الرفع والانقطاع من الأول؛ لأنه ليس اسم الفاعل الذي يجري على الفعل؛ نحو: فاعل وما أشبه ذلك مما هو اسم الفاعل، نحو: مررت برجلٍ حسنٍ أبوه؛ لأنه اسم من حسن يحسن، ومررت برجلٍ كريمٍ أبوه لأنه من كرم كضارب من ضرب. وأفضل فيه معنى الفعل، فإن أجريته على الأول فبذلك المعنى، كأنك قلت: يفضله أبوه. وإن لم تجره فلما ذكرت لك، وهو الباب. فإن جرى على الأول أتبعه لأنه نعت له خاصةً، وذلك قولك: مررت برجلٍ خيرٍ منك، ومررت بدرهم سواءٍ يا فتى، ومررت برجلٍ سواءٍ درهمه. فإن قلت: برجلٍ سواءٍ هو والعدم خفضت؛ لأن سواءً له خاصة. فعلى هذا يجري هذا الباب.

ثم نذكر المسائل، ونقول: ما رأيت رجلاً أحسن عنده زيدٌ من عمرو. فأجريت أحسن على الأول خلافاً لما ذكرت أنه المختار، ولم يجز هاهنا غيره؛ وذلك أنك إذا قلت: ما رأيت رجلاً أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد، فأردت أن ترفع أحسن كنت قد أضمرت قبل الذكر، وذلك لأن الهاء في قولك منه إنما هي الكحل. ولو قلت: ما رأيت رجلاً أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد، كنت قد فصلت بين الكحل وما هو له بما ليس من الكلام، ووضعته في غير موضعه. فإن أخرت الكحل، فقلت: ما رأيت رجلاً أحسن في عينه منه في عين زيد الكحل وأنت تقدر أن أحسن هو الابتداء، كان خطأ لمل قدمت من ضمير الكحل قبل ذكره. وإن قدرت أن يكون الكحل هو الابتداء فجيدٌ بالغ، وتأخيره كتقديمه. فكأنك قلت: ما رأيت رجلاً الكحل في عينه أحسن منه في عين زيد. وكذلك لو قلت: ما من أيام أحب إلى الله فيها الصوم منه في عشر ذي الحجة كان هو الوجه إلا أن تقدم فتقول: ما من أيام الصوم إلى الله فيها منه في عشر ذي الحجة أو تأخر الصوم، ومعناه التقديم، فيكون كتأخيرك الكحل في المسألة الأولى. وتقول: زيد أفضل منه عبد الله، ورأيت زيدا أفضل منه عبد الله. أردت: رأيت زيدا عبد الله أفضل منه، فتجعله ابتداءً وخبراً في موضع المفعول الثاني. وأما قولهم: مررت برجلٍ أخبث ما يكون أخبث منك أخبث ما تكون، ومررت برجلٍ خير ما يكون خيرٍ منك خير ما تكون. فهذا على إضمار إذ كان، وإذا كان، واحتمل الضمير؛ لأن المعنى يدل عليه. والتقدير: مررت برجلٍ خيرٍ منك إذا كان خير ما يكون إذا كنت خير ما تكون. ومثل هذا قولك: هذا بسرا أطيب منه تمرا، فإن أومأت إليه وهو بسر، تريد: هذا إذ صار بسرا أطيب منه إذا صار تمرا، وإن أومأت إليه وهو تمر قلت: هذا بسرا أطيب منه تمرا، أي هذا إذ كان بسراً أطيب منه إذ صار تمراً، فإنما على هذا يوجه؛ لأن الانتقال فيه موجود. فإن أومأت إلى عنب قلت: هذا عنبٌ أطيب منه بسرٌ، ولم يجز إلا الرفع؛ لأنه لا يتنقل فتقول: هذا عنبٌ أطيب منه بسرٌ، تريد: هذا عنبٌ البسر أطيب منه. فأما هذا البيت فينشد على ضروب:

الحرب أول ما تكون فتيةً ... تسعى بزينتها لكل جهول

منهم من ينشد: الحرب أول ما تكون فتيةً يجعل أول ابتداءً ثانياً، ويجعل الحال يسد مسد الخبر وهو فتيةً فيكون هذا كقولك: الأمير أخطب ما يكون قائماً، وقد بينا نصب هذا في قول سيبويه، ودللنا على موضع الخبر في مذاهبهم وما كان الأخفش يختار، وهو الذي لا يجوز غيره. فأما تصييره فتية حالاً لأول، أول مذكر، وفتية مؤنثة، فلأن المعنى مشتمل عليها. فخرج هذا مخرج قول الله عز وجل: " ومنهم من يستمعون إليك " ؛ لأن من وإن كان موحد اللفظ فإن معناه هاهنا الجمع، وكذلك: " فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين " ، وهذا كثيرٌ جداً. ومنه قول الشاعر:

تعش فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

أراد مثل اثنين ومثل اللذين. وقرأ القراء: " ومن تقنط منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً " . وأما أبو عمرو فقرأ: " ومن يقنط منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً، فحمل ما يلي على اللفظ، وما تباعد منها على المعنى، ونظير ذلك قوله عز وجل: " بلا من أسلم وجهه لله وهو محسنٌ فله أجره عند ربه " فهذا على لفظ من، ثم قال: " ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون " على المعنى. وهذا كثيرٌ جداً. ومنهم من ينشد:

الحرب أول ما تكون فتيةٌ

يريد: الحرب فتيةٌ في هذا الوقت. ومنهم من ينشد:

الحرب أول ما تكون فتيةً

على غير هذا التفسير الأول ولكن على قوله: أول ما تكون تسعى بزينتها فتيةً، فقدم الحال. ومنهم من ينشد:

الحرب أول ما تكون فتيةٌ

أراد: الحرب فتية وهي أول ما تكون. ومنهم من ينشد:

الحرب أول ما تكون فتيةً

فخبر أنها أول شيءٍ في هذه الحال. فهذه الوجوه تدل على ما بعدها. ولو قال قائل: معناه: أنها أول ما تكون إذا كانت فتية، على قياس: هذا بسراً أطيب منه تمراً، كان مجيداً. فأما قولهم: البر أرخص ما يكون قفيزاً بدرهم، والزيت أرخص ما يكون ون وين بدرهم فعلى هذا. وقولهم: أرخص ما يكون البر بستين، تأويله: الكربستين ولكنهم حذفوا الكر لعلمهم بأن التعسير عليه يقع. فكل ما كان معلوماً في القول جارياً عند الناس فحذفه جائز لعلم المخاطب. فعلى هذا فأجره.

هذا باب

التسعير

تقول: أخذت هذا بدرهمٍ فصاعدا، وأخذته بدرهمين فزائداً. لم ترد: أنك أخذته بدرهمٍ وبصاعد، فجعلتهما ثمناً، ولكن التقدير: أنك أخذته بدرهمٍ، ثم زدت صاعداً؛ فمن ثم دخلت الفاء، ولو أدخلت ثم لكان جائزاً؛ نحو: أخذته بدرهم ثم صاعداً، ولكن الفاء أجود، لأن معناه الاتصال، وشرحه على الحقيقة: أخذته بدرهم فزاد الثمن صاعداً. ومن ذلك قولك: بعت الشاء شاةً ودرهما. إنما تأويله على الحقيقة: بعت الشاء مسعراً شاةٌ بدرهم. فإن قلت: لك الشاء شاةً ودرهما كنت بالخيار: إن شئت رفعت؛ لأن لك ظرف. فهو بمنزلة قولك: عبد الله في الدار قائمٌ، وقائماً. إن قلت: قائمٌ فإنما خبرت عن قيامه. وإن قلت: قائماً فإنما خبرت عن كونه في هذا المحل، فاستغنى الكلام به. ومن قال: في الدار عبد الله - وهو يريد أن يرفع القائم - ، فليس بكلامٌ تام؛ لأنه لم يأت بخبر. وإنما قائمٌ هو الخبر، ف في الدار ظرفٌ للقائم لا لزيد. وإذا كان في الدار خبراً فهو لزيد لا لقائم. وقد مضى تفسير هذا. وتقدير قولك: الشاء شاةً ودرهما: وجب لك الشاء مسعراً شاةٌ بدرهم؛ كما أنه إذا قال: زيدٌ في الدار قائما، وإذا قال: لك الشاء شاةٌ ودرهم فإنما المعنى: الشاء شاةٌ بدرهم، ثم أخبر أنه بهذا السعر، فعلى هذا يجري هذا الباب.

هذا باب ما يقع في التفسير من أسماء الجواهر التي لا تكون نعوتاً تقول: مررت ببرٍّ قفيزٌ بدرهم؛ لأنك لو قلت: مررت ببرٍّ قفيزٍ كنت ناعتاً بالجوهر. وهذا لا يكون؛ لأن النعوت تحلية، والجواهر هي المنعوتات. وتقول: العجب من برٍّ مررنا به قفيزاً بدرهم. فإن قلت: فكيف أجعله حالاً للمعرفة، ولا أجعله صفةً للنكرة؟ فإن سيبويه اعتل في ذلك بأن النعت تحلية وأن الحال مفعول فيها، وهذا على مذهبه صحيحٌ بين الصحة. وشرحه وإن لم يذكر سيبويه: إنما هو موضوع في موضع قولك: مسعراً. فالتقدير: العجب من برٍّ مررنا به مسعراً على هذه الحال. وإذا قال: مرت ببر قفيزٌ بدرهم فتأويله: قفيزٌ منه بدرهم، ولولا ذلك لم يجز أن يتصل بالأول ويكون في موضع نعته ولا راجع إليه منه. وإنما هذا كقولك: مررت برجل غلامٌ له قائم. وقد أجاز قومٌ كثير أن ينعت به فيقال: هذا راقودٌ خلٌّ، ولهذا خاتمٌ حديدٌ. وسنشرح ما ذهبوا إليه، ونبين فساده على النعت، وجوازه في الإتباع لما قبله إن شاء الله. ويقال للذي أجاز هذا على النعت: إن كنت سمعته من العرب مرفوعاً فإن رفعه غير مدفوع، وتأويله: البدل؛ لأن معناه: خاتمٌ حديدٌ، وخاتمٌ من حديد. فيكون رفعه على البدل والإيضاح. فأما ادعاؤك أنه نعت: وقد ذكرت أن النعت إنما هو تحلية، فقد نقضت ما أعطيت، والعلة أنت ذكرتها، وإنما حق هذا أن تقول: راقود خلٍّ، أو راقودٌ خلاً على التبيين. فهذا حق هذا. فإن اعتل بقوله: مررت برجل فضة خاتمه، ومررت برجل أسد أبوه، على قبحه فبما ذكره وبعده، فإن هذا في قولك: فضة خاتمه غير جائز، إلا أن تريد: شبيه بالفضة، ويكون الخاتم غير فضة. فهذا ما ذكرت لك أن النعت تحلية. وعلى هذا: مررت برجل أسدٍ أبوه؛ لأنه وضعه في موضع شديدٍ أبوه. ألا ترى أن سيبويه لم يجز: مررت بدابة أسد أبوها إذا أراد السبع بعينه، فإذا أراد الشدة جاز على ما وصفت، وليس كجواز: مررت برجل قائم أبوه، لأن لهذا اللفظ والمعنى، وذاك محمول على معناه. فحق الجواهر أن تكون منعوتة؛ ليعرف بعضها من بعض. وحق الأسماء المأخوذة من الأفعال أن تكون نعوتاً لما وصفت لك. فإن قلت: مررت ببرٍّ قفيزٍ بدرهم. جاز على البدل، ويجيزه على النعت من عبنا قوله، وأوضحنا فساده. فإن قيل: معناه مسعر. فحق هذا النصب؛ لأن التسعير يعمل فيه. فعلى هذا فأجر هذا الباب. فأما قولهم: هذا خاتمٌ حديدا على الحال فتأويله: أنك نبهت له في هذه الحال. فإن قلت: الحال بابها الانتقال؛ نحو: مررت بزيد قائما. قيل: الحال على ضربين: فأحدهما: التنقل، والآخر: الحال اللازمة. وإنما هي مفعول فاللزوم يقع لما في اسمها، لا لما عمل فيها. فمن اللازم قوله عز وجل: " فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها " فالخلود معناه: البقاء. وكذلك: " وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها " فهذا الاسم لا لما عمل فيه.

هذا باب

ما يجوز لك فيه النعت والحال

ولا يكون مجازهما واحداً، ولما تحمل كل واحدٍ منهما عليه

وذلك قولك: مررت بامرأةٍ معها رجلٌ قائمةٍ يا فتى، إذا حملت ذلك على مررت بامرأة، وإن حملته على الهاء في معها قلت: رجلٌ قائمةً. والمعنى - إذا نصبت - : أنك مررت به معها في حال قيامها، فكانت المقارنة في هذه الحال. ومن ذلك: هذه دابةٌ تشتد مكسوراً سرجها. إن حملته على الضمير في تشتد، وإن حملته على دابة رفعت، فيكون نعتاً كأنك قلت: هذه دابة مكسورٌ سرجها، وفي الباب الآخر أنها تشتد في هذه الحال. وتقول: نحن قومٌ ننطلق عامدين بلد كذا، وكذا فتنصب عامدين لما في قولك ننطلق. فإن أردت أن تجريه على قوم رفعت. وقد قرأوا هذه الآية: " ويخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً " ، أي يخرج له طائره كتابا. ومن هذا الباب: مررت برجل معه صقرٌ صائدٍ به، وصائداً به. فإن قلت: مررت برجل معه امرأةٌ ضاربها ضاربته كان جيداً، وأجود منه أن تقول: مررت برجل معه امرأة ضاربته ضاربها، فيجري نعت المرأة وهو إلى جنبها، وإن شئت قلت: ضاربها للهاء في معه. وتقول: مررت برجل معه فرس راكباً برذونا، وراكبٍ على ما وصفت لك. وتقول: مررت برجل معه امرأةٌ ضاربها هو لا يكون إلا كذلك؛ لأنك أجريت النعت عليها، والفعل له. وكذلك لو قلت: مررت برجل معه امرأة ضاربته هي. لم يكن من إظهار الفاعل بدٌّ؟ لأنه الفعل جرى على غير من هو له وإنما يكون هذا الإظهار في اسم الفاعل؛ لأنه تبين فيه الإضمار، وأنه محمول على الفعل. فإن كان فعلاً لم تحتج فيه إلى إظهار. تقول: مررت برجل معه امرأة يضربها ومعه امرأة تضربه. وكذلك تقول: زيد هند ضاربته؛ لأن الفعل لها. فإن قلت: زيد هند ضاربها. قلت هو، ويجري على وجهين: إن شئت جعلت زيداً ابتداءً، وهند ابتداءً ثانياً، وضاربها خبر عن هند، والهاء والراجعة إليها، وهو إظهار فاعل، ورجوعه إلى زيد. وإن شئت جعلت قولك ضاربها ابتداءً ثالثاً، وجعلت هو خبره، وجعلتهما خبراً عن هند، وجعلت هنداً وما بعدها خبراً عن زيد. وتقول: مررت بزبد وهندٌ الضاربته، أي وهند التي تضربه، فموضعها موضع الحال بمنزلة قولك: كلمت زيدا، وعمرو عنده. فتقدير الواو: تقدير إذ؛ كما قال الله عز وجل: " يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ قد أهمتهم أنفسهم " أي: إذ طائفة في هذه الحال. وتقول: أنت زيد ضاربه أنت؛ لأنك ابتدأت أنت، وجعلت زيدا مبتدأ بعده، وضاربه لك، فكان مبتدأ ثالثا، وأنت خبره، وإن شئت كان خبراً عن زيد، وأنت فاعله. ولو أدخلت على هذا كان لم تغيره عن لفظه، إلا أنك تجعل زيدا مرفوعاً بكان. ولو أدخلت عليه ظننت أو أن لنصبت زيدا، وتركت سائر الكلام على حاله؛ لأنه قد عمل بعضه في بعض. فصار كقولك: كان زيد أبوه منطلق، وإن زيدا أبوه منطلق. واعلم أنك إذا قلت: كان زيد أبوه منطلق. أن أباه ومنطلقا في موضع نصب، والجمل لا يعمل فيها ما قبلها، وكذلك: كان زيد يقوم يا فتى؛ لأنه فعل وفاعل، فهو كالابتداء والخبر، فهذا مما يؤكد عندك أن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال. ولا يجوز أن تدخل بين الشيء وما يعمل فيه شيئاً مما لا يعمل فيه، نحو: أنت زيد ضاربه. إذا جعلت ضاربه جارياً على زيد، والمسائل كثيرةٌ، والأصل ما وقفتك عليه. فقس تصب إن شاء الله.

هذا باب

المصادر التي تشركها أسماء الفاعلين

ولا تكون واقعة هذا الموقع إلا ومعها من مشاهدة، فهي منصوبة على ذلك، خبراً كانت أو استفهاماً

وذلك قولك: أقائماً يا فلان وقد قعد الناس، وذلك أنه رآه في حال قيام، فوبخه بذلك. فالتقدير: أتثبت قائماً وقد قعد الناس، وليس يخبر عن قيامٍ منقضٍ، ولا عن قيام تستأنفه. وكذلك لو قال: أقياماً وقد قعد الناس، وأجلوساً والناس يسيرون، ومثله: أتخلفاً عن زيد مع بره بك وفضله. ومن ذلك قول الشاعر:

أطرباً وأنت قنسري

إنما رأى نفسه في حال طرب مع سنه، فوبخها بذلك. ولو لم تستفهم لقلت منكراً: قاعداً علم الله، وقد سار الناس، قائماً كما يرى والناس قعودٌ. فهذا لا يكون إلا لما تشاهد من الحال؛ فلذلك استغنيت عن ذكر الفعل.

واعلم أن الأسماء التي لم تؤخذ من الأفعال تجري هذا المجرى. وذلك أن ترى الرجل في حال تلون وتنقل، فتقول: أتميمياً مرة، وقيسياً أخرى، تريد: أتتحول وتتلون، وأغناه عن ذكر الفعل ما شاهد من الحال. وكذلك إن لم تستفهم قلت: تميمياً مرة - علم الله - وقيسياً أخرى. ومن ذلك قول الشاعر:

أفي السلم أعياراً جفاءً وغلظةً ... وفي الحرب أشباه النساء العوارك

وقال الآخر:

أفي الولائم أولاداً لواحدةٍ ... وفي العيادة أولاداً لعلات

هذا باب

ما وقع من المصادر توكيدا

وذلك قولك: هذا زيدٌ حقاً؛ لأنك لما قلت: هذا زيد فخبرت، إنما خبرت بما هو عندك حق، فاستغنيت عن قولك: أحق ذاك، وكذلك هذا زيدٌ الحق لا الباطل؛ لأن ما قبله صار بدلاً من الفعل. ولو قلت: هذا زيدٌ الحق، لكان رفعه على وجهين، وليس على ذلك المعنى، ولكن على أن تجعل زيدا هو الحق، وعلى أنك قلت: هذا زيد، ثم قلت: الحق، تريد: قولي هو الحق، لأن هذا زيد إنما هو قولك. وقد قرئ هذا الحرف على وجهين، وهو قوله عز وجل: " ذلك عيسى بن مريم قول الحق " ، وقول الحق. وتقول: هذا القول لا قولك، أي: ولا أقول قولك. فتأويل هذا: أن قولك بمنزلة هذا القول حقاً، وهذا القول غير قيلٍ باطل؛ لأنه توكيدٌ للأول. ولو قلت: هذا القول لا قولاً لم يكن لهذا الكلام معنى؛ لأنك إنما تؤكد الأول بشيءٍ تحقه، فإذا قلت: غير قيلٍ باطل، فقد أوجبت أنه حق فإذا قلت: لا قولك، فقد دللت على أنه قول باطل، فعلى هذا تؤكد. ومن ذلك: لأضربن زيدا قسما حقا. ومن ذلك قوله:

إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسماً إليك مع الصدود لأميل

لما قال: إني لأمنحك الصدود، وإنني إليك لأميل، علم أنه مقسم، فكان هذا بدلاً من قوله: أقسم قسما.

واعلم أن المصادر كسائر الأسماء، إلا أنها تدل على أفعالها فأما في الإضمار والإظهار والإخبار عنها والاستفهام، فهي بمنزلة غيرها. تقول إذا رأيت رجلاً في ذكر ضربٍ: زيدا، تريد: زيداً اضرب، واستغنيت عن قولك: إضرب بما كان فيه من الذكر، فعلى هذا إذا ذكر فعلاً. فقال: لأضربن، قلت: نعم، ضرباً شديداً. فإن لم يكن ذكر، ولا حالٌ دالة، لم يكن من الإظهار بدٌّ، إلا أن يكون موضع أمرٍ، فتضمر، وتصير المصدر بدلاً من اللفظ بالفعل، وإنما يكون ذلك في الأمر والنهي خاصة؛ لأنهما لا يكونان إلا بفعل، فتأمر بالمصدر نكرة، ومعرفة بالألف واللام والإضافة، ولذلك موضع آخر: وهو أن يكون المصدر قد استعمل في موضع الفعل حتى علم ما يراد به. ومن ذلك سقياً لزيد؛ لأن الدعاء كالأمر، والنهي وإنما أردت: سقى الله زيدا سقياً. فإن قلت ذلك لم تحتج إلى قولك: لزيد. وإن قلت: سقياً قلت بعده: لفلان؛ لتبين ما تعني، وإن علم من تعني. فإن شئت أن تحذفه حذفته. ومن ذلك قول عز وجل: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " إنما هو: فاضربوا الرقاب ضرباً، ثم أضاف. وكذلك قوله، تبارك وتعالى: " فإما مناً بعد وإما فداءً " إنما تقديره: فإما مننتم مناً، وإما فاديتم فداءً. وكذلك " وعد الله حقاً " و " صنع الله " .

واعلم أن من المصادر مصادر تقع في موضع الحال، وتغني غناءه، فلا يجوز أن تكون معرفة؛ لأن الحال لا تكون معرفة. وذلك قولك: جئتك مشياً، وقد أدى عن معنى قولك: جئتك ماشيا، وكذلك قوله عز وجل: " ثم ادعهن يأتينك سعياً " . ومنه: قتلته صبرا. وإنما الفصل بين المصدر وبين اسم الفاعل أنك إذا قلت: عجبت من ضرب زيدٍ عمرا، أن ضرباً في معنى: أن ضرب فيحتاج ما بعدها إلى الفاعل والمفعول. فإذا قلت: عجبت من ضارب عمرا، فقد جئت بالفاعل، وإنما بقي المفعول، والفاعل يحمل على المصدر؛ كما حمل المصدر عليه.تقول: قم قائماً فالمعنى: قم قياماً. فمن ذلك قوله:

على حلفةٍ لا أشتم الدهر مسلماً ... ولا خارجاً من في زور كلام

إنما أراد: لا أشتم، ولا يخرج من في زور كلام؛ فأراد: ولا خروجاً فوضع خارجاً في موضعه، وهذا قول عامة النحويين. وكان عيسى بن عمر يأبى ما فسرنا ويقول: إنما قال:

ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لبين رتاجٍ قائماً ومقام

على حلفةٍ لا أشتم الدهر مسلماً ... ولا خارجاً من في زور كلام

يريد: عاهدت ربي على أمور وأنا في هاتين الحالتين: لا شاتماً، ولا خارجاً من في مكروه.

هذا باب

ما يكون حالاً

وفيه الألف واللام على خلاف ما تجري به الحال لعلةٍ دخلت

وذلك قولك: ادخلوا الأول فالأول، وادخلوا رجلاً رجلاً. تأويله: ادخلوا واحداً بعد واحد. فأما الأول فإنما انتصب على الحال وفيه الألف واللام؛ لأنه على غير معهود، فجريا مجرى سائر الزوائد. ألا ترى أنك لو قلت: الأول فالأول أتونا، لم يجز؛ لأنك لست تقصد إلى شيءٍ بعينه، ولو قلت: الرجال أتونا، كان جيداً. وإن شئت قلت: دخلوا الأول فالأول على البدل. كأنك قلت: دخل الأول فالأول. وكذلك لو قلت: دخلوا رجلٌ فرجلٌ، فأبدلت النكرة من المعرفة؛ كما قال الله عز وجل: " بالناصية ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ " . فإذا قلت: ادخلوا الأول فالأول، فلا سبيل عند أكثر النحويين إلى الرفع؛ لأن البدل لا يكون من المخاطب؛ لأنك لو قدرته بحذف الضمير لم يجز. فأما عيسى بن عمر فكان يجيزه، ويقول: معناه: ليدخل الأول فالأول، ولا أراه إلا جائزاً على المعنى؛ لأن قولك: ادخل إنما هو: لتدخل في المعنى.

وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فبذلك فلتفرحوا " فإذا قلت: ادخلوا الأول والآخر، والصغير، والكبير، فالرفع؛ لأن معناه: ادخلوا كلكم. فهذا لا يمون إلا مرفوعاً، ولا يكون إلا بالواو؛ لأن الفاء تجعل شيئاً بعد شيءٍ، والواو تتصل على معنى قولك: كلكم. ألا ترى أنك تقول: مررت بزيد أخيك، وصاحبك، فتدخل الواو على حد قولك: زيد العاقل الكريم، وكذلك زيد العاقل، والكريم. ولو قلت: العاقل فالكريم، أو العاقل ثم الكريم، لخبرت أنه استوجب شيئاً بعد شيءٍ. وكان سيبويه يقول: جيدٌ أن تقول: هذا خاتمك حديدا، وهذا سرجك خزاً، ولا تقول على النعت: هذا خاتمٌ حديدٌ إلا مستكرهاً، إلا أن تريد البدل؛ وذلك لأن حديداً وفضة وما أشبه ذلك جواهر، فلا ينعت بها؛ أن النعت تحلية. وإنما يكون هذا نعتاً مستكرهاً إذا أردت التمثيل. وتقول: هذا خاتم مثل الحديد، أي في لونه وصلابته، وهذا رجلٌ أسدٌ أي: شديد. فإن أردت السبع بعينه لم تقل: مررت برجل أسد أبوه. هذا خطأ، وإنما أجاز سيبويه: هذا خاتمك حديدا، وهو يريد الجوهر بعينه؛ لأن الحال مفعول فيها، والأسماء تكون مفعولة، ولا تكون نعوتاً حتى تكون تحلية. وهذا في تقدير العربية كما قال، ولكن لا أرى المعنى يصح إلا بما اشتق من الفعل، نحو: هذا زيد قائماً؛ لأن المعنى أنبهك له في حال قيام. وإذا قال: هذا خاتمك حديداً، فالحديد لازم. فليس للحال هاهنا موضعٌ بين، ولا أرى نصب هذا إلا على التبيين؛ لأن التبيين إنما هو بالأسماء. فهذا الذي أراه، وقد قال سيبويه ما حكيت لك. ولو قلت: مررت بزيدٍ رجلاً صالحاً لصلحت الحال لقولك صالحاً إلا أن يكون علم أنك مررت بزيد وهو بالغ فتقول: مررت بزيد رجلاً، أي في حال بلوغه. فقد دللتك بهذا على معنى الحال.

ومن الحالات قولك: ما شأنك قائماً والتقدير: ما أمرك في هذه الحال. فهذا التقدير، والمعنى: لم قمت؟ كما أنك تقول: غفر الله لزيد، واللفظ لفظ الإخبار، والمعنى معنى الدعاء، وقولك: يعلم الله لأقومن. اللفظ لفظ: يذهب زيد والمعنى القسم. ومثل هذا: ما لك قائماً؟ والتقدير: أي شيءٍ لك في حال قيامك؟ والمعنى: لم قمت؟ قال الله جل ذكره: " فما لهم عن التذكرة معرضين " . والمعنى: - والله أعلم - ما لهم يعرضون؟ أي: لم أعرضوا؟. ولو قلت: من زيدٌ قائما؟ لم يجز؛ لأن قولك: من زيد؟ سؤال يقتضي أن تعرف: أبن عمرو هو أم ابن خالد؟ التميمي هو أم القيسي؟ فالسؤال قد وقع عن تعريف الذات، فليس للحال هاهنا موضع. ولو قلت: زيدٌ أخوك قائماً وأنت تريد النسب فهو محال لأن النسب لازم فليس له في القيام معنى، ويستحيل في تقدير العربية مع استحالته في المعنى؛ لأن الفعل ينصب الحال. ولو قلت: زيدٌ أخوك قائماً، تريد الصداقة، لكان جيداً. المعنى: يصادقك في هذه الحال. وكل شيءٍ كان فيه فعل مجرد أو معنى فعل، فالحال فيه صحيحة؛ نحو: المال لك قائماً، أي: تملكه في هذه الحال، وكذلك: المال لك يوم الجمعة، ولا يصلح: زيد أخوك يوم الجمعة إذا كان من النسب؛ لأنه لا فعل فيه. وظروف الزمان لا تضمن الفعل الجثث. وكل ما كان فعلاً أو في معنى الفعل فعمله في ظروف الزمان كعمله في الحال. فأما قولهم: الليلة الهلال، فمعناه: الحدوث، ولولا ذلك لم يجز؛ كما لا تقول: الليلة زيدٌ. وتقول: خرجت من الدار فإذا زيدٌ. فمعنى إذا هاهنا المفاجأة. فلو قلت على هذا: خرجت فإذا زيد قائماً، كان جيداً؛ لأن معنى فإذا زيد، أي: فإذا زيد قد وافقني.

هذا باب

المخاطبة

فأول كلامك لما تسأل عنه، وآخره لمن تسأله، وذلك قولك: إذا سألت رجلاً عن رجلٍ: كيف ذاك الرجل؟ فتحت الكاف؛ لأنها للذي تكلم. وقولك ذاك إنما زدت الكاف على ذا، وكانت لما تومئ إليه بالقرب. فإن قلت هذا ف ها للتنبيه، وذا هي الاسم، فإذا خاطبت زدت الكاف للذي تكلمه ودل الكلام بوقوعها على أن الذي تومئ إليه بعيدٌ، وكذلك جميع الأسماء المبهمة إذا أردت التراخي زدت كافاً للمخاطبة؛ لأنك تحتاج إلى أن تنبه بها المخاطب على بعد ما تومئ إليه. فإن سألت امرأة عن رجل قلت: كيف ذاك الرجل؟ تكسر الكاف؛ لأنها لمؤنث. قال الله عز وجل: " قال كذلك الله يخلق ما يشاء " . وتقول - إذا سألت رجلاً عن امرأة - : كيف تلك المرأة؟ بفتح الكاف؛ لأنها لمذكر. فإن سألت امرأةً عن امرأة قلت: كيف تلك المرأة، بكسر الكاف من أجل المخاطبة. فإن سألت امرأتين عن رجلين قلت: كيف ذانكما الرجلان؟. وإن سألت رجلين عن امرأتين قلت: كيف تانكما المرأتان؟. وإن سألت رجلين عن امرأة قلت: كيف تلكما المرأة؟. وإن سألت امرأتين عن رجل قلت: كيف ذاكما الرجل؟. وإن شئت قلت: ذلكما، تدخل اللام زائدة، فمن قال في الرجل ذاك قال في الاثنين ذانك. ومن قال في الرجل ذلك قال في الاثنين ذانك بتشديد النون. تبدل من اللام نوناً، وتدغم إحدى النونين في الأخرى، كما قال عز وجل: " فذانك برهانان من ربك " . وإن سألت رجلاً عن نساءٍ قلت: كيف أولئكم النساء؟ وإن سألت نساءً عن رجالٍ قلت: كيف أولئكن الرجال؟ وإن سألت نساءً عن رجل قلت بغير اللام: كيف ذاكن الرجل؟ وباللام: كيف ذلكن الرجل؟ كما قال الله عز وجل: " فذلكن الذي لمتنني فيه " .

وقد يجوز أن تجعل مخاطبة الجماعة على لفظ الجنس؛ إذ كان يجوز أن تخاطب واحداً عن الجماعة، فيكون الكلام له، والمعنى يرجع إليهم؛ كما قال الله تبارك وتعالى: " ذلك أدنى أن لا تعولوا " . ولم يقل ذلكم؛ لأن المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم فما ورد من هذا الباب فقسه على ما ذكرت لك تصب إن شاء الله.

هذا باب

تأويل هذه الكاف التي تقع للمخاطبة

إذا اتصلت بالفعل نحو: رويدك وأرأيتك زيدا ما حاله؟، وقولك: أبصرك زيدا

اعلم أن هذه الكاف زائدة زيدت لمعنى المخاطبة. والدليل على ذلك أنك إذا قلت: أرأيتك زيدا فإنما هي أرأيت زيدا؛ لأن الكاف لو كانت اسماً استحال أن تعدي رأيت إلى مفعولين: الأول والثاني هو الأول. وإن أردت رؤية العين لم يتعد إلا إلى مفعول واحد، ومع ذلك أن فعل الرجل لا يتعدى إلى نفسه، فيتصل ضميره إلا في باب ظننت وعلمت، لما قد ذكرنا في موضعه. فأما ضربتني، وضربتك يا رجل فلا يكون. وكذلك أبصرك زيدا يا فلان، إنما هو: أبصر زيدا، ودخلت الكاف للإغراء توكيداً للمخاطبة. وكذلك رويد. يدلك أنك إذا قلت: رويدك زيدا، إنما تريد: أرود زيدا، والكاف للمخاطبة. ألا ترى أنها لو كانت اسم الفاعل كان خطأ؛ لأن الواحد المرفوع لا تظهر علامته في الفعل. وإن كان الفعل لاثنين أو ثلاثة قلت: رويدكما، ورويدكم. فلو كان اسم الفاعل لكان ألفاً في التثنية، وواواً في الجماعة؛ كما تقول: اذهبا، واذهبوا. وقد تقول: رويد زيدا إذا لم ترد أن تبين المخاطبة؛ كما تقول: أرأيت زيدا، وأبصر زيدا. وزعم سيبويه أن قولك: رويدك زيدا إذا أدخلت الكاف كقولك: يا فلان لمن هو مقبل عليك توكيداً للتنبيه ولمن هو غير مقبل عليك لتعطفه بالنداء. فكذلك تنبه بالمخاطبة، وتركها كتركك يا فلان استغناءً بإقبالك عليه، وإنما القول بغير الكاف: رويد زيدا؛ لأن رويد في موضع المصدر وهو غير متمكن؛ لأن المصدر من أرودت إنما هو الإرواد. ومن أراد أن يجعل رويد مصدراً محذوف الزوائد جاز له ذلك فقال: رويداً زيدا. فنظير الأول قوله:

رويد عليًّا جد ما ثدى أمهم ... إلينا ولكن ودهم متماين

ومن جعله مصدراً صحيحاً قال: رويداً زيدا ورويد زيدٍ؛ كما تقول: ضرب الرقاب. وإن كان نعتاً فهو مصروف منون على كل حال، وذلك قولك: ضعه وضعاً رويداً؛ كما قال عز وجل: " فمهل الكافرين أمهلهم رويداً " . وإنما صرفنا هذا المصدر عندما جرى من ذكره مع كاف المخاطبة.

هذا باب

مسائل من هذه المصادر التي جرت

اعلم أنك إذا قلت: رويدك وعبد الله فهو جائز وفيه قبحٌ حتى تقول: رويدك أنت وعبد الله وقد تقدم تفسير هذا في باب عطف الظاهر على المضمر. فإن جعلت رويد متصرفةً قلت: رويد عبد الله، وزيدٍ، ولا تقول: رويدك، ورويد زيدٍ إذا جعلت رويد غير متصرفة والكاف للمخاطبة؛ لأن الكاف ليست باسم، ورويد اسم، ولا يقع العطف على استواءٍ إلا أن تجعل الكلام الثاني على غير معنى الكلام الأول، فذلك جائز متى أردته. وكل جملة بعدها جملةٌ فعطفها عليها جائزٌ وإن لم يكن منها؛ نحو: جاءني زيد، وانطلق عبد الله، وأخوك قائم، وإن تأتني آتك. فهذا على ذا. ولو قلت: ضعه وضعاً رويداً، لم تقع رويد المحذوفة التنوين هذا الموضع؛ لأن تلك لا تقع إلا في الأمر على معنى: أرود زيدا.

واعلم أن الكاف في قولك: النجاءك إنما هي للمخاطبة بمنزلة كاف رويدك والدليل على ذلك لحاقها مع الألف واللام، ولو كانت اسماً كان هذا محالاً؛ لأنك لا تضيف ما فيه الألف واللام. فهذا بين جداً.

وفي هذه المصادر في الأمر والنهي من الضمير ما في الفعل، تقول: النجاءك نفسك، والنجاءكم كلكم والخفض خطأ؛ لأن الكاف ليست باسم. فأما عليك، ودونك، وما أشبه ذلك، فإن الكاف في موضع خفض وله ضمير المرفوع الذي يكون به فاعلاً، وإن شئت أتبعته التوكيد مرفوعاً، وإن شئت كان مخفوضاً. تقول: عليك نفسك زيدا، وإن شئت نفسك، لأنك تريد: أنظر نفسك. والدليل على أن الكاف لها موضع أن حروف الإضافة لا تعلق ولا تنفرد فهي واقعة على الأسماء. وكل شيءٍ كان في موضع الفعل ولم يكن فعلاً قلا يجوز أن تأمر به غائباً، ولا يجوز أن تقول: على زيدٍ عمرا، ولا يجوز أن تقدم فيه ولا تؤخر، فتقول: زيدا عليك، وزيدا دونك. ومن زعم أن قول الله عز وجل: " كتاب الله عليكم " إنما نصبه بعليكم فهذا خطأ، وقد مضى تفسير هذا. وإنما قالوا: عليه رجلا ليسني، لأن هذا مثل، والأمثال تجري في الكلام على الأصول كثيراً.

هذا باب

ما يحمل على المعنى وحمله على اللفظ أجود

اعلم أن الشيء لا يجوز أن يحمل على المعنى إلا بعد استغناء اللفظ، وذلك قولك: ما جاءني غير زيد وعمرٌو. حمل عمرو على الموضع؛ لأن معنى قوله: غير زيد إنما هو إلا زيدٌ، فحمل عمرو على هذا الموضع. وكذلك قوله: ما جاءني من أحدٍ عاقلٌ. رفعت العاقل، ولو خفضته كان أحسن. وإنما جاز الرفع؛ لأن المعنى: ما جاءني أحد. ومن ذلك قراءة بعض الناس: " زين لكثيرٍ من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم " . لما قال: قتل أولادهم، تم الكلام، فقال: شركاؤهم على المعنى؛ لأنه علم أن لهذا التزيين مزيناً فالمعنى: زينه شركاؤهم. ومثل ذلك قول الشاعر:

ليبك يزيد ضارعٌ لخصومةٍ ... ومختبطٌ مما تطيح الطوائح

لما قال: ليبكي يزيد علم أن له باكيا. فكأنه قال: ليبكه ضارعٌ لخصومة. ومن هذا قولهم:

قد سالم الحيات منه القدما ... الأفعوان والشجاع الشجعما

فنصب الأفعوان؛ لأنك تعلم أن القدم مسالمة؛ كما أنها مسالمة فكأنه قال: قد سالمت القدم الأفعوان والشجاع. ومن ذلك قول الله عز وجل: " انتهوا خيراً لكم " .

زعم الخليل أنه لما قال: انتهوا علم أنه يدفعهم عن أمر، ويغريهم بأمر يزجرهم عن خلافه، فكان التقدير: ائتوا خيراً لكم. وقد قال قوم: إنما هو على قوله: يكن خيراً لكم. وهذا خطأ في تقدير العربية؛ لأنه يضمر الجواب ولا دليل عليه، وإذا أضمر ايتوا فقد جعل انتهوا بدلاً منه، وكذلك انته يا فلان أمراً قاصداً. وقد مر من ذكر المضمرات ما يغني عن إعادته. ومن ذلك قول الشاعر:

وجدنا الصالحين لهم جزاءٌ ... وجناتٍ وعيناً سلسبيلا

فنصبهما؛ لأن الوجدان في المعنى واقعٌ عليهما. ومثل ذلك:

لن تراها وإن تأملت إلا ... ولها في مفارق الرأس طيبا

لأن الرؤية قد اشتملت على الطيب. وهذا البيت أبعد ما مر؛ لأنه ذكره من قبل استغناء. وإنما جاز نصبه على رأيت؛ لأن المعنى: لن تراها إلا وأنت ترى لها في مفارق الرأس طيبا. فهذا على الإضمار. فأما قوله:

تواهق رجلاها يديه ورأسه

فمن أنشده برفع اليدين فقد أخطأ؛ لأن الكلام لم يستغن، ولو جاز لجاز: ضارب عبد الله زيدٌ؛ لأن من كل واحد منهما ضرباً.

هذا باب

أم وأو

فأما أم فلا تكون إلا استفهاماً، وتقع من الاستفهام في موضعين: أحدهما أن تقع عديلةً على معنى أي. وذلك قولك: أزيد في الدار أم عمرو؟ وكذلك: أأعطيت زيداً أم حرمته؟. فليس جواب هذا لا، ولا نعم؛ كما أنه إذا قال: أيهما لقيت؟ أو: أي الأمرين فعلت؟ لم يكن جواب هذا لا ولا نعم؛ لأن المتكلم مدعٍ أن أحد الأمرين قد وقع، ولا يدري أيهما. فالجواب أن تقول: زيدٌ أو عمرو. فإن كان الأمر على غير دعواه فالجواب أن تقول: لم ألق واحدا، أو كليهما. فمن ذلك قول الله عز وجل: " اتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار " . وقوله: " أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها " ومثله: " أهم خيرٌ أم قوم تبعٍ " ، فخرج هذا مخرج التوقيف والتوبيخ، ومخرجه من الناس يكون استفهاماً، ويكون توبيخاً. فهذا أحد وجهيها.

ويدخل في باب التسوية مثل قولك: سواءٌ علي أذهبت أم جئت، وما أبالي أقبلت أم أدبرت، وليت شعري أزيدٌ في الدار أم عمرو؟. فقولك: سواءٌ علي تخبر أن الأمرين عندك واحد، فأدخلت حروف الاستفهام هاهنا لإيجابها التسوية. ألا ترى أنك إذا قلت: أزيدٌ في الدار أم عمرو، أنهما في علمك متساويان، فهذه مضارعة، ولهذا تقول: قد علمت أزيدٌ في الدار أم عمرو؛ لأنهما استويا عند السامع؛ كما استوى الأولان في علمك. وأي داخلة في كل موضع تدخل فيه أم مع الألف. تقول: قد علمت أيهما في الدار؟ تريد: إذا أم ذا. قال الله عز وجل: " فلينظر أيها أزكى طعاماً " . وعلى ذلك قول الشاعر:

سواءٌ عليه أي حينٍ أتيته ... أساعة نحسٍ جئته أم بأسعد

فقس أيًّا بالألف وأم؛ كما تقول: أي الرجلين أفضل أزيدٌ أم عمرو؟ وسنفرد باباً للمسائل بعد فراغنا من الأصول، فهذا أحد موضعيها.

والموضع الثاني: أن تكون منقطعة مما قبلها، خبراً كان أو استفهاماً، وذلك قولك فيما كان خبراً: إن هذا لزيد أم عمرو يا فتى. وذلك أنك نظرت إلى شخص، فتوهمته زيدا، فقلت على ما سبق إليك، ثم ادركك الظن أنه عمرو، فانصرفت عن الأول، فقلت: أم عمرو مستفهماً. فإنما هو إضراب عن الأول على معنى بل، إلا أن ما يقع بعد بل يقين، وما يقع بعد أم مظنون مشكوك فيه، وذلك أنك تقول: ضربت زيدا ناسياً أو غالطاً، ثم تذكر أو تنبه، فتقول: بل عمرا مستدركاً مثبتاً للثاني، تاركاً الأول. ف بل تخرج من غلط إلى استثبات، ومن نسيان إلى ذكرٍ. وأم معها ظن أو استفهام، وإضراب عما كان قبله. ومن ذلك: هل زيدٌ منطلق أم عمرو يا فتى قائما. أضرب عن سؤاله عن انطلاق زيد، وجعل السؤال عن عمرو. فهذا مجرى هذا، وليس على منهاج قولك: أزيدٌ في الدار أم عمرو. وأنت تريد: أيهما في الدار؟ لأن أم عديلة الألف، وهل إنما تقع مستأنفة. ألا ترى أنك تقول: أما زيد في الدار على التقرير، وتقول: يا زيد، أسكوتاً والناس يتكلمون. توبخه بذلك وقد وقع منه السكوت، ولا تقع هل في هذا الموضع. ألا ترى إلى قوله:

أطرباً وأنت قنسري

وإنما هو: أتطرب وهو في حال طرب؟. وذلك لأن الألف و أم حرفا الاستفهام اللذان يستفهم بهما عن جميعه، ولا يخرجان منه، وليس كذا كسائر حروف الاستفهام؛ لأن كل حرفٍ منها لضربٍ لا يتعدى ذلك إلى غيره، ألا ترى أن أين إنما هي سؤال عن المكان لا يقع إلا عليه. ومتى سؤال عن زمان، وكيف سؤال عن حال، وكم سؤال عن عدد. وهل تخرج من حد المسألة فتصير بمنزلة قد نحو: قوله عز وجل: " هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً " . فالألف وأم لا ينقلان عن الاستفهام كما تنقل هذه الحروف. فتكون جزاءً، ويكون ما كان منها يقع للناس وغيرهم، نحو: من، وما، وأي كذلك، ويكون في معنى الذي. وحرفا الاستفهام اللذان لا يفارقانه: الألف وأم، وهما يدخلان على هذه الحروف كلها. ألا ترى أن القائل يقول: هل زيد بالدار أم هل عمرٌو هناك؟ وتقول: كيف صنعت أم كيف صنع أخوك؟. فدخل هذان الحرفان على حروف الاستفهام لتمكنهما وانتقالهما. فمن ذلك قوله:

هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم

أم هل كبيرٌ بكى لم يقض عبرته ... إثر الأحبة يوم البين مشكوم

فأدخل أم على هل، وقال:

سائل فوارس يربوعٍ بشدتنا ... أهل رأونا بسفح القف ذي الأكم

وقال:

كيف القرار ببطن مكة بعدما ... هم الذين تحب بالإنجاد

أم كيف صبرك إذ ثويت معالجا ... سقماً خلافهم وسقمك بادي

وتدخل حروف الاستفهام على من، وما، وأي إذا صرن في معنى الذي بصلاتهن. وكذلك أم، كقول الله عز وجل: " أم من يجيب المضطر إذا دعاه " ، وكقوله: " أفمن يلقى في النار خيرٌ أم من يأتي آمناً يوم القيامة " ، فقد أوضحت لك حالهما. فأما قول الله عز وجل: " آلم. تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين. أم يقولون افتراه " وقوله: " أم تسألهم أجراً " ، وما كان مثله، نحو قوله عز وجل: " أم اتخذ مما يخلق بنات " فإن ذلك ليس على جهة الاستفهام؛ لأن المستخبر غير عالم، إنما يتوقع الجواب فيعلم به. والله - عز وجل - منفيٌّ عنه ذلك. وإنما تخرج هذه الحروف في القرآن مخرج التوبيخ والتقرير، ولكنها لتكرير توبيخ بعد توبيخ عليهم. ألا تراه يقول عز وجل: " أفمن يلقى في النار خيرٌ أم من يأتي آمناً يوم القيامة " - وقد علم المستمعون كيف ذلك - ليزجرهم عن ركوب ما يؤدي إلى النار، كقولك للرجل: السعادة أحب إليك أم الشقاء؛ لتوقفه أنه على خطأ وعلى ما يصيره إلى الشقاء؛ ومن ذلك قوله: " أليس في جهنم مثوًى للمتكبرين " . كما قال:

ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح

وأنت تعلم أنه لم يستفهم، ولكن قررهم بأنهم كذلك وأنه قد ثبت لهم، فمجاز هذه الآيات - والله أعلم - : أيقولون افتراه؟ على التوبيخ لهم، وأنهم قالوا، فنبه الرسول والمسلمين على إفكهم، وترك خبراً إلى خبر لا على جهة الإضراب، ولكن على جهة تكرير خبرٍ بعد خبرٍ: كما يقع أمر بعد زجر، وأمر بعد أمر الترغيب، والترهيب. والله أعلم.

هذا باب

من مسائل أم

في البابين المتقدمين لنوضح كل باب على حياله، ونبينه من صاحبه إن شاء الله

تقول: أعندك زيدٌ أم عمرو، فإذا أردت: أيهما عندك فهذا عربيٌّ حسن، والأجود: أزيدٌ عندك أم عمرو؛ لأنك عدلت زيدا بعمرو، فأوقعت كل واحد منهما إلى جانب حرف الاستفهام، وجعلت الذي لا تسأل عنه بينهما، وهو قولك: عندك. وكذلك: أزيدا ضربت أم عمرا، أزيدٌ قام أم عمرو. ولو قلت: أقام زيدٌ أم عمرو؟ وأزيدٌ أم عمرو قام؟ وأزيدٌ أم عمرو عندك؟ وأزيدا أم عمرو ضربت؟ كان ذلك جائزاً حسناً، والوجه ما وصفت لك، وكل هذا غير بعيد. فإن أردت أن تجريه على استفهامين قلت: أزيدٌ عندك، أم عندك عمرو يا فتى. استفهم أولاً عن زيد، ثم أدركه الشك في عمرو، فأضرب عن زيد، ورجع إلى عمرو، فكأنه قال: أزيدٌ عندك بل أعندك عمرو؟ فهذا تمثيل ذلك، ومثله قول كثير:

أليس أبي بالنضر أم ليس والدي ... لكل نجيبٍ من خزاعة أزهرا

ترك استفهام الأول، ومال إلى الثاني، وإنما أخرجه مخرج التقرير في اللفظ، كالإستخبار.

وأم المنقطعة تقع بعد الاستفهام كموقعها بعد الخبر، ومن ذلك قولك: أزيد في الدار أم لا؟ ليس معنى هذا: معنى أيهما، ولكنك استفهمت على أنك ظننت أنه في الدار، ثم أدركك الشك في أنه ليس فيها، فأضربت عن السؤال عن كونه فيها، وسألت عن إصغارها منه. فأما قول ابن أبي ربيعة:

لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً بسبعٍ رمين الجمر أم بثمان

فليس على الإضراب، ولكنه أراد: أبسبعٍ؟ فاضطر، فحذف الألف، وجعل أم دليلاً على إرادته إياه؛ إذ كان المعنى على ذلك، كما قال الشاعر:

لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً شعيث ابن سهمٍ أم شعيث ابن منقر

يريد: أشعيث؟. فأما قول الأخطل:

كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ ... غلس الظلام من الرباب خيالا

فيكون على ضربين: يجوز أن يكون: أكذبتك عينك، فحذف الألف. ويجوز أن يكون ابتدأ كذبتك عينك مخبراً، ثم أدركه الشك في أنه قد رأى، فاستفهم مستثبتاً. وأما ما حكى الله عن فرعون من قوله: " أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خيرٌ من هذا الذي هو مهينٌ " - فإنما تأويله - والله أعلم - : أنه قال: أفلا تبصرون. أم أنا خير؟ على أنهم ما قالوا له: أنت خير لكانوا عنده بصراء، فكأنه قال - والله أعلم - : أفلا تبصرون. وهذه أم المنقطعة؛ لأنه أدركه الشك في بصرهم، كالمسألة في قولك: أزيدٌ في الدار أم لا، وقد مضى تفسير هذا. فهذا في قول جميع النحويين لا نعلم بينهم اختلافاً فيه. فأما أبو زيد وحده فكان يذهب إلى خلاف مذاهبهم، فيقول: أم زائدة، ومعناه: أفلا تبصرون أنا خير، وكان يفسر لهذا البيت:

يا دهر أم كان مشيي رقصاً ... بل قد تكون مشيتي توقصا

يريد: يا دهر، ما كان مشى رقصاً. وهذا لا يعرفه المفسرون، ولا النحويون، لا يعرفون أم زائدةً ولكن إذا عرض الشيء في الباب ذكرناه، وبينا عليه.

وتقول: ليت شعري أزيد في الدار أم عمرو؟ وما بالي: أقمت أم قعدت، وسواءٌ علي: أذهبت أم جئت، وقد ذكرنا هذا قبل، ولكن رددناه لاستقصاء تفسيره؛ لأن هذا ليس باستفهام، ولا قولك: قد علمت أزيد في الدار أم عمرو. إنما هو أنك قد علمت أن أحدهما في الدار. لا تدري أيهما هو؟ فقد استويا عندك، فهذه الأشياء التي وصفنا مستويةٌ، وإن لم تكن استفهاماً. فالتسوية أجرت عليه هذه الحروف؛ إذ كانت لا تكون إلا التسوية. والدليل على ذلك أن أياً لا تكون إلا لهذا المعنى داخلةً على جميعها. ألا ترى أنك إذا قلت: أزيد في الدار أم عمرو فمعناه: أيهما في الدار، وإذا قلت: سواءٌ علي أذهبت أم جئت. فمعناه: سواءٌ علي أي ذلك كان، كما تقول: ما أبالي: أقمت أم قعدت، أي ما أبالي أي ذلك كان، وليت شعري! أي ذلك كان. ألا ترى أنه لا يدخل على الاستفهام من الأفعال إلا ما يجوز أن يلغى؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وهذه الأفعال هي التي يجوز ألا تعمل خاصةً، وهي ما كان من العلم والشك فعلى هذا: " لنعلم أي الحزبين " ، " ولقد علموا لمن اشتراه " ؛ لأن هذه اللام تفصل ما بعدها مما قبلها. فتقول: علمت لزيدٌ خير منك. وعلى ذلك قوله:

لا أبالي أنب بالحزن تيسٌ ... أم لحاني بظهر غيبٍ لئيم

وقول الشاعر:

ليت شعري وأين مني ليتٌ ... أعلى العهد يلبنٌ فبرام

وقال الشاعر:

سواءٌ عليك اليوم انصاعت النوى ... بخرقاء أم أنحى لك السيف ذابح

ونظير إدخالهم التسوية على الاستفهام لاشتمال التسوية عليها. قولك: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، فأجروا حرف النداء على العصابة وليست مدعوة؛ لأن فيها الاختصاص الذي في النداء، وإنما حق النداء أن تعطف به المخاطب عليك، ثم تخبره، أو تأمره، أو تسأله، أو غير ذلك مما توقعه إليه، فهو مختص من غيره في قولك: يا زيد، ويا رجال. فإذا قلت: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. فأنت لم تدع العصابة، ولكنك اختصصتها من غيرها؛ كما تختص المدعو، فجرى عليها اسم النداء، أعني أيتها، لمساواتها إياه في الاختصاص؛ كما أنك إذا قلت: ما أدري أزيدٌ في الدار أم عمرو، فقد استويا عندك في المعرفة وإن لم يكن هذا مستفهماً عنه، ولكن محله من الاستفهام كمحل ما ذكرت لك من النداء. وعلى هذا تقول: على المضارب الوضيعة أيها الرجل، ولا يجوز أن تقول: يا أيها الرجل، ولا يا أيتها العصابة؛ لأنك لا تنبه إنساناً إنما تختص و يا إنما هي زجر وتنبيه. وتقول: أزيدٌ في الدار أم في البيت عمرو. لا تريد معنى أيهما ولكنك أضربت عن الأول، واستفهمت عن الثاني على ما شرحت. وكل ما كان من الإخبار، ومن حروف الاستفهام غير الألف فليست تقع أم بعده إلا مستأنفةً، وتكون مع الألف مستأنفةً إذا أجريتها على ما وصفت لك. فإذا أردت معنى أيهما عدلتها بالألف، وتدخل عليها ما كان للتسوية على ما وصفنا. وكان الخليل يجيز: لأضربنه أذهب أم مكث. يريد: لأضربنه أي ذلك كان، وإنما عبارة الألف وأم ب أي فحيث صلحت أي، صلحتا، وكان يجيز على هذا: كل حقٍّ لها سميناه أم لم نسمه، على معنى قوله: أي ذلك كان، والوجه في هذا أو، وتفسيره في بابها إن شاء الله.

هذا باب

أو

وحقها أن تكون في الشك واليقين لأحد الشيئين، ثم يتسع بها الباب، فيدخلها المعنى الذي في الواو من الإشراك على أنها تخص ما لا تخصه الواو. فأما الذي يكون فيه لأحد الأمرين يقيناً أو شكًّا فقولك: ضربت زيدا أو عمرا، علمت أن الضرب قد وقع بأحدهما. وذهب عنك أيهما هو؟ وكذلك: جاءني زيد أو أخوك. فأما اليقين فقولك: ايت زيدا أو عمرا، أي: قد جعلتك في ذلك مخيراً، وكذلك: لأعطين زيدا أو عمرا درهما. لم تنس شيئاً، ولكنك جعلت نفسك فيه مخيرة.

والباب الذي يتسع فيه قولك: ائت زيدا أو عمرا أو خالدا. لم ترد: ائت واحداً من هؤلاء، ولكنك أردت: إذا أتيت فائت هذا الضرب من الناس؛ كقولك: إذا ذكرت فاذكر زيدا أو عمرا أو خالدا. فإذا نهيت عن هذا قلت: لا تأت زيدا أو عمرا أو خالدا، أي لا تأت هذا الضرب من الناس؛ كما قال الله عز وجل: " ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً " . والفصل بين أو وبين الواو أنك إذا قلت: اضرب زيداً وعمراً، فإن ضرب أحدهما فقد عصاك، وإذا قال: أو فهو مطيعٌ لك في ضرب أحدهما أو كليهما. وكذلك إذا قال: لا تأت زيدا وعمرا. فأتى أحدهما فليس بعاصٍ، وإذا قال: لا تأت زيدا أو عمرا فليس له أن يأتي واحداً منهما، فتقديرها في النهي: لا تأت زيدا ولا عمرا، وتقديرها في الإيجاب: ائت زيدا؛ وإن شئت فائت عمرا معه. وتقول: لأضربنه ذهب أو مكث؛ أي: لأضربنه في هذه الحال كان أو في هذه الحال. وعلى هذا تقول: وكل حقٍّ لها داخلٍ فيها أو خارجٍ منها، وإن شئت داخلٍ فيها وخارجٍ منها. أما الواو فعلى قولك: كل حقٍّ لها من الداخل، والخارج. وأما أو فعلى قولك: إن كان ذلك الحق داخلاً أو كان خارجاً. وهذا البيت ينشد على وجهين:

إذا ما انتهى علمي تناهيت عنده ... أطال فأملى أو تناهى فأقصر

وينشد أم تناهى. أما أو فعلى قولك: إن طال، وإن قصر. وأما أم فعلى قولك: أيٌّ ذلك كان؟ والألف في أطال ألف استفهام، والأحسن في هذا أو؛ لأن التقدير: إن كان كذا.، وإن كان كذا، وكذلك كل موضع لا يقع فيه استفهام على معنى أيهما، وأيهم، ونسق به على هذا التقدير. وكل موضعٍ يقع فيه أي كائناً ما كان فألف الاستفهام وأم تدخلانه، وإن كان الأحسن فيهما ما قصصنا. وتقول: ما أدري أزيدا أوعمرا ضربت أم خالدا. لم ترد أن تعدل بين زيد، وعمرو، ولكنك جعلتهما جميعاً عدلاً لخالد في التقدير، والمعنى: ما أدري أحد هذين ضربت أم خالدا. وتقول: قد علمت أربعي أم مضري أنت أم تميمي كأنه قال: قد علمت أم من أحد هذين الشعبين أنت أم تميمي. وعلى هذا ينشد قول صفية بنت عبد المطلب:

كيف رأيت زبرا

أأقطاً أم تمرا

أم قرشياً صقرا

لم ترد أن تجعل الأقط عدلاً للتمر فتقول: أهذا، أم هذا ولكن أرادت: أطعاماً رأيت أم قرشياً. لا يصلح في المعنى إلا هذا. فأما قول الله عز وجل: " وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون " فإن قوماً من النحويين يجعلون أو في هذا الموضع بمنزلة بل. وهذا فاسدٌ عندنا من وجهين: أحدهما: أن أو لو وقعت في هذا الموضع موقع بل لجاز أن تقع في غير هذا الموضع، وكنت تقول: ضربت زيدا أو عمرا، وما ضربت زيدا أو عمرا على غير الشك، ولكن على معنى بل فهذا مردودٌ عند جميعهم.

والوجه الآخر: أن بل لا تأتي في الواجب في كلام واحد إلا للإضراب بعد غلطٍ أو نسيان، وهذا منفي عن الله عز وجل؛ لأن القائل إذا قال: مررت بزيد غالطاً فاستدرك، أو ناسياً فذكر، قال: بل عمرو؛ ليضرب عن ذلك، ويثبت ذا. وتقول عندي عشرة بل خمسة عشر على مثل هذا، فإن أتى بعد كلامٍ قد سبق من غيره فالخطأ إنما لحق كلام الأول؛ كما قال الله عز وجل: " وقالوا اتخذ الرحمن ولداً " فعلم السامع أنهم عنوا الملائكة بما تقدم من قوله: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاُ " .وقال: " أم اتخذ مما يخلق بناتٍ " وقال: " ويجعلون لله ما يكرهون " وقال: " بل عبادٌ مكرمون " ، أي: بل هؤلاء الذين ذكرتم أنهم ولدٌ عبادٌ مكرمون. ونظير ذلك أن تقول للرجل: قد جاءك زيدٌ، فيقول: بل عمرو. ولكن مجاز هذه الآية عندنا مجاز ما ذكرنا قبل في قولك: ائت زيدا أو عمرا أو خالدا، تريد: ايت هذا الضرب من الناس، فكأنه قال - والله أعلم - : إلى مائة ألف أو زيادة. وهذا قول كل من نثق بعلمه. وتقول: وكل حقٍّ لها علمناه أو جهلناه. تريد توكيد قولك: كل حقٍّ لها، فكأنك قلت: إن كان معلوماً، أو مجهولاً فقد دخل في هذا البيع جميع حقوقها.

ولها في الفعل خاصةٌ أخرى نذكرها في إعراب الأفعال إن شاء الله. وجملتها أنك تقول: زيد يقعد أو يقوم يا فتى، وإنما أكلم لك زيدا، أو أكلم عمرا. تريد: أفعل أحد هذين؛ كما قلت في الاسم: لقيت زيدا أو عمرا، وأنا ألقى زيدا أو عمرا، أي: أحد هذين. وعلى القول الثاني: أنا أمضي إلى زيد، أو أقعد إلى عمرو، أو أتحدث، أي: أفعل هذا الضرب من الأفعال. وعلى هذا القول الذي بدأت به قول الله عز وجل: " تقاتلونهم أم يسلمون " ، أي: يقع أحد هذين. فأما الخاصة في الفعل فأن تقع على معنى: إلا أن، وحتى، وذلك قولك: الزمه أو يقضيك حقك، واضربه أو يستقيم. وفي قراءة أبيٍّ: " تقاتلونهم أو يسلموا " ، أي: إلا أن يسلموا، وحتى يسلموا. وهذا تفسيرٌ مستقصًى في بابه إن شاء الله.

هذا باب الواو التي تدخل عليها ألف الاستفهام

وذلك قولك - إذا قال القائل: رأيت زيدا عند عمرو - : أو هو ممن يجالسه؟ استفهمت على حد ما كنت تعطف. كأن قائلاً قال: وهو ممن يجالسه، فقال: أو هذا كذا؟ وهذه الألف لتمكنها تدخل على الواو، وليس كذا سائر حروف الاستفهام، إنما الواو تدخل عليهن في قولك: وهل هو عندك؟ فتكون الواو قبل هل. وتقول: وكيف صنعت؟ ومتى تخرج؟ وأين عبد الله؟ وكذلك جميعها إلا الألف. ولا تدخل الواو على أم، ولا أم عليها، لأن أم للعطف والواو للعطف. ونظير هذه الواو، والفاء، وسائر حروف العطف قول الله عز وجل: " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون " " أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحًى وهم يلعبون " . فالواو هاهنا بمنزلة الفاء في قولك: " أفأمنوا مكر الله " . وإنما مجاز هذه الآيات - والله أعلم - إيجاب الشيء. والتقدير كما شرحت لك أولاً. وهذه الواو، وواو العطف مجازهما واحد في الإعراب. وتكون في الاستفهام والتقرير كما ذكرنا في الألف، وللتعجب، وللإنكار. فأما الاستفهام المحض فنحو قولك: إذا قال الرجل: رأيت زيدا فتقول: أوَيوصل إليه، فأنت مسترشد أو منكر ما قال؟ فيقول: أوَأدركته؟ تستبعد ذلك. فأما التعجب والإنكار فقول المشركين " أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون " . والتقرير ما ذكرت لك في الآيات في الفاء والواو في قوله عز وجل: " أو أمن أهل القرى " .

هذا باب

ما يجري وما لا يجري

بتفصيل أبوابه وشرح معانيه واختلاف الأسماء، وما الأصل فيها.

اعلم أن التنوين في الأصل للأسماء كلها علامةٌ فاصلةٌ بينها وبين غيرها، وأنه ليس للسائل أن يسأل: لم انصرف الاسم؟ فإنما المسألة عما لم ينصرف: ما المانع له من الصرف؟ وما الذي أزاله من منهاج ما هو اسمٌ مثله؛ إذ كانا في الاسمية سواءً؟ ونفسر ذلك بجميع معانيه إن شاء الله.

اعلم أن كل ما لا ينصرف مضارعٌ به الفعل، وإنما تأويل قولنا: لا ينصرف، أي: لا يدخله خفض ولا تنوين؛ لأن الأفعال لا تخفض ولا تنون، فلما أشبهها جرى مجراها في ذلك. وشبهه بما يكون في اللفظ، ويكون في المعنى، بأي ذين أشبهها وجب أن يترك صرفه؛ كما أنه ما أشبه الحروف التي جاءت لمعنى من الأسماء فمتروك إعرابه؛ إذ كانت الحروف لا إعراب فيها وهو الذي يسميه النحويون: المبني.

فمما لا ينصرف: كل اسم في أوله زيادة من زوائد الأفعال يكون بها على مثال الفعل، فمن ذلك أكلب، وأحمد، وإثمد، وإصبع؛ لأن ما كان من هذا على أفعَل فهو بمنزلة: أذهب، وأعلم، وما كان منها على أفعِل فهو بمنزلة: أضرب، وأجلس، وما كان منها على مثال إثمد فهو بمنزلة اضرب في الأمر، وكل ما لم نذكر في هذا الباب فعلى هذا منهاجه. فمن ذلك تنصب، وتتفل؛ لأنهما على مثال تقعد، وتقتل. وسنفسر ما يلحق هذه الحروف زوائد وما يكون من نفس الحرف إن شاء الله.

هذا باب

أفعل

اعلم أن ما كان من أفعل نعتاً فغير منصرف في معرفة ولا نكرة، وذلك: أحمر، وأخضر، وأسود. وإنما امتنع هذا الضرب من الصرف في النكرة؛ لأنه أشبه الفعل من وجهين: أحدهما أنه على وزنه. والثاني: أنه نعت؛ كما أن الفعل نعت. ألا ترى أنك تقول: مررت برجلٍ يقوم. ومع هذا أن النعت تابع للمنعوت كاتباع الفعل الاسم. فإن كان اسماً انصرف في النكرة؛ لأن شبهه بالفعل من جهة واحدة، وذلك نحو: أفكل، وأحمد، تقول: مررت بأحمد، وأحمدٍ آخر. فإن قال القائل: ما بال أحمد مخالفاً لأحمر؟ قيل من قبل أن أحمد، وما كان مثله لا يكون نعتاً إلا أن يكون معه من كذا فإن ألحقت به من كذا لم ينصرف في معرفة ولا نكرة؛ لأنه قد صار نعتاً كأحمر. وذلك قولك: مررت برجل أحمد من عبد الله، وأكرم من زيد. وكل ما سميت به من الأفعال لم ينصرف في المعرفة، وانصرف في النكرة، نحو: يزيد، ويشكر، ويضرب، ونحوه لو كان اسماً، تقول: مررت بيزيد، ويزيدٍ آخر. فإن قال قائل: ما باله انصرف في النكرة، وهو فعل في الأصل، وقد ذكرت أن ما لا ينصرف إنما امتنع بشبهه بالفعل، وأحمر وما كان مثله لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، وهي أسماءٌ؟.

قيل له: إن أحمر أشبه الفعل وهو نكرة، فلما سميت به كان على تلك الحال، فلما رددته إلى النكرة رددته إلى حال قد كان فيها لا ينصرف؛ فلذلك خالفه. هذا قول النحويين، ولست أراه كما قالوا. أرى إذا سمي بأحمر، وما أشبهه، ثم نكر أن ينصرف؛ لأنه امتنع من الصرف في النكرة؛ لأنه نعت، فإذا سمي به فقد أزيل عنه باب النعت، فصار بمنزلة أفعل الذي لا يكون نعتاً، وهذا قول أبي الحسن الأخفش، ولا أراه يجوز في القياس غيره. وكل ما لا ينصرف إذا أدخلت فيه ألفاً ولاماً، أو أضفته انخفض في موضع الخفض؛ لأنها أسماءٌ امتنعت من التنوين والخفض؛ لشبهها بالأفعال، فلما أضيفت وأدخل عليها الألف واللام باينت الأفعال، وذهب شبهها بها؛ إذ دخل فيها ما لا يكون في الفعل، فرجعت إلى الاسمية الخالصة، وذلك قولك: مررت بالأحمر يا فتى، ومررت بأسودكم.

هذا باب

ما يسمى به من الأفعال

وما كان على وزنها

اعلم أنك إذا سميت رجلاً بشيءٍ من الفعل ليست في أوله زيادة، وله مثال في الأسماء، فهو منصرف في المعرفة، والنكرة. فمن ذلك: ضرب، وما كان مثله، وكذلك: علم، وكرم، وبابهما؛ لأن ضرب على مثال: جمل، وحجر، وعلم على مثال: فخذ، وكرم على مثال: رجل، وعضد. وكذلك ما كثر عدته، وكان فيه هذا الشرط الذي ذكرنا. فمن ذلك: دحرج؛ لأن مثاله: جعفر، وحوقل؛ لأن مثاله كوثر، والملحق بالأصل بمنزلة الأصلي. فإن سميت بفعل لم تسم فاعله: لم تصرفه؛ لأنه على مثالٍ ليست عليه الأسماء، ونحو ذلك: ضرب، ودحرج، وبوطر، إلا أن يكون معتلاً أو مدغماً؛ فإنه إن كان كذلك خرج إلى باب الأسماء، وذلك نحو: قيل، وبيع، ورد، وما كان مثلها؛ لأن رد بمنزلة: كرٍّ، وبرد، ونحوهما، وقيل بمنزلة فيلٍ، وديك. وكذلك إن سميت بمثل قطع، وكسر لم ينصرف في المعرفة؛ لأن الأسماء لا تكون على فعل. فإن قلت: قد جاء مثل بقم، فإنه أعجميٌّ. وليست الأسماء الأعجمية بأصول، إنما داخلة على العربية. فأما قولهم: خضم للعنبر بن عمرو بن تميم فإنما هو لقب لكثرة أكلهم. وخضم بعد إنما هو فعل. ولو سميت رجلاً ضارب، أو ضارب من قولهم: ضارب زيدا إذا أمرته انصرف؛ لأن ضارب بمنزلة ضاربٍ الذي هو اسم، وضارب بمنزلة خاتم، فعلى هذا يجري ما ينصرف وما لا ينصرف.

فأما ما كان فيه زيادةٌ من زوائد الأفعال الأربع: الهمزة، والياء، والتاء، والنون، كان بها على مثال الفعل فقد قلنا فيه، وسنقول في شرحه، وما يحكم عليه منها بالزيادة، وإن لم يكن له فعل، وما يحكم بأنه أصليٌّ حتى يتبين. أما ما كانت الهمزة في أوله، والياء فحكمه أن تكونا فيه زائدتين إذا كانت حروفه الثلاثة أصلية؛ لأنك لم تشتق من هذا شيئاً إلا أوضح لك أنهما فيه زائدتان، فحكمت بما شاهدت منه على ما غاب عنك. وذلك نحو: أفكل، وأيدع، ويرمع؛ لأنك لم ترها في مثل أحمر، وأصفر، وأخضر، ولا يكون له فعل إلا زائدة، وكذلك الياء؛ لأنك لم ترها في مثل اليعملة وما كان نحوها إلا زائدة؛ لأن أحمر من الحمرة، وكذلك أخضر، واسود، ويعملة من العمل.

فأما أولق فإن فيه حرفين من حروف الزيادة: الهمزة والواو، فعند ذلك تحتاج إلى اشتقاق؛ ليعلم أيهما الزائدة. تقول فيه: ألق الرجل فهو مألوق، فقد وضح لك أن الهمزة أصل والواو زائدة؛ لأن الهمزة في موضع الفاء من الفعل؛ فقد وضح لك أنها فوعل. وكذلك أيصر؛ لأن فيه ياءً، وهمزة. فكلاهما من الحروف الزوائد، فجمعه على إصار؛ فقد بان لك أن أيصر فيعل. قال الأعشى:

فهذا يعد لهن الخلى ... ويجمع ذا بينهن الإصارا

فأما النون والتاء، فيحكم بأن كل واحد منهما أصل حتى يجيء أمرٌ يبين زيادتها. فمن ذلك قولك: نهشل، ونهسر الذئب. يدلك على أصليهما أنك تقول: نهشلت المرأة ونهشل الرجل: إذا أسنا، وقد وضح لك أنه بمنزلة دحرج؛ لأن النون أصلية. وكذلك توأم إنما هو فوعل من أتأمت المرأة كما تقول: أكرمت. فأما تتفل، ونرجس فقد وضح لك أن فيهما زائدتين؛ لأنهما على مثال لا تكون الأسماء عليه. ألا ترى أنه ليس في الأسماء مثل جعفر، ولا جعفر؛ فقد وضح لك أن تتفلا مثل تقتل فلو سميت به رجلاً لم تصرفه. وكذلك نرجس بمنزلة نضرب. فهذا حكمه. فأما من قال: تتفل فإنه يصرف إن سمي به؛ وذلك لأنه على مثال لا يكون الفعل عليه ليس في الأفعال تفعل. ألا ترى أن الزيادة لا تمنع الصرف من الأسماء إلا ما كان منها على وزن الأفعال. فما كان في أوله زيادة ليس هو بها على وزن الأفعال فهو مصروف، وذلك نحو:يربوع، وتعضوض، وطريق أسلوب؛ لأن الأفعال لا تكون عليه، وكذلك إسكاف، وفيما قلنا دليلٌ على ما يرد عليك إن شاء الله.

هذا باب

ما ينصرف وما لا ينصرف

مما سميت به مذكراً من الأسماء الغربية

اعلم أن كل ما لا ينصرف من مذكر أو مؤنث، عربي أو أعجمي، قلت حروفه أو كثرت في المعرفة فإنه ينصرف في النكرة، إلا خمسة أشياء فإنها لا تنصرف في معرفة، ولا نكرة فمنها: ما كان من أفعل صفةً، نحو: أخضر، وأحمر. وما كان من فعلان الذي له فعلى؛ نحو: سكران، وسكرى، وعطشان، وعطشى، وغضبان وغضبى، وسنذكر علته في موضعه إن شاء الله. وما كان فيه ألف التأنيث مقصوراً كان أو ممدوداً. فالمقصور؛ نحو: سكرى وغضبى. والممدود؛ نحو: حمراء، وصفراء، وصحراء. وما كان من الجمع على مثال لا يكون عليه الواحد؛ نحو: مساجد، وقناديل، ورسائل. وما كان معدولاً في حال النكرة؛ نحو: مثنى، وثلاث، ورباع. فإذا سميت مذكراً باسم عربي فهو مصروف إلا أن يمنعه أحد هذه الموانع التي وصفت، أو ما أذكره لك مما يوجب ترك الصرف في المعرفة، إلا المعدول فإن له حكماً آخر إذا سمي به نذكره إن شاء الله. فمن ذلك أن تسميه بمؤنث فيها هاء التأنيث فإنه لا ينصرف في المعرفة، وينصرف في النكرة. وإنما منعه من الصرف في المعرفة علم التأنيث الذي فيه، وذلك نحو رجل سميته حمدة، أو طلحة أو نحو ذلك. وقد تقدم قولنا: إن كل ما كان فيه الهاء مؤنثاً كان أو مذكراً. عربياً كان أو أعجمياً لم ينصرف في المعرفة، وانصرف في النكرة. فإن قال قائل: ما باله ينصرف في النكرة وما كانت فيه ألف التأنيث لا ينصرف في معرفة، ولا نكرة؟. قيل: إن الفصل بينهما أن ما كان فيه الهاء فإنما لحقته وبناؤه بناء المذكر؛ نحو قولك: جالسٌ؛ كما تقول: جالسة، وقائم ثم تقول: قائمة. فإنما تخرج إلى التأنيث من التذكير، والأصل التذكير. وما كانت فيه الألف فإنما هو موضوع للتأنيث على غير تذكير خرج منه فامتنع من الصرف في الموضعين؛ لبعده من الأصل. ألا ترى أن حمراء على غير بناء أحمر، وكذلك عطشى على غير بناء عطشان.

وما كان مؤنثاً لا علامة فيه سميت به مذكراً، وعدد حروفه ثلاثة أحرف فإنه ينصرف إذا لم تكن فيه هاء التأنيث، تحركت حروفه أو سكن ثانيها. وذلك نحو: دعد، وشمس، وقدم، وقفاً فيمن أنثها. إن سميت بشيءٍ من هذا رجلاً انصرف. وكذلك كل مذكر سوى الرجل. فإن كان على أربعة أحرف فصاعداً ومعناه التأنيث لم ينصرف في المعرفة، وانصرف في النكرة. وذلك نحو رجل سميته عقرباً أو عناقا أو عقاباً فإنه ينصرف في النكرة، ولا ينصرف في المعرفة. وإنما انصرف في الثلاثة لخفته؛ لأن الثلاثة أقل أصول الأسماء. وكذلك إن كان الاسم أعجمياً.

ألا ترى أن نوحاً، ولوطاً مصروفان في كتاب الله - تبارك وتعالى - وهما اسمان أعجميان، وأن قارون، وفرعون غير مصروفين للعجمة، وكذلك إسحق، ويعقوب، ونحوهما، ونذكر هذا في باب الأعجمية إن شاء الله. فأما صالح وشعيب، فاسمان عربيان، وكذلك محمد صلى الله عليهم أجمعين. فكل ما اشتققته، فرأيت له فعلاً، أو كانت عليه دلالة بأنه عربي، ولم يمنعه من الصرف تأنيث، ولا عجمة، ولا زيادةٌ من زوائد الفعل تكون بها على مثاله، ولا أن يكون عل مثال الأفعال، ولا عدل فهو مصروف في المعرفة، والنكرة.

هذا باب

ما كان من أسماء المذكر

أو سمي به ما هو على ثلاثة أحرف

اعلم أن جميع ذلك منصرف إلا ما استثنيناه مما فيه هاء التأنيث؛ نحو: شاة، وشية. أو تكون فيه زائدة يكون بها على مثال الفعل؛ نحو: يضع، ويزن. أو يكون معدولاً؛ نحو: عمر، وزفر. أو يكون على مثالٍ لا يكون إلا للأفعال نحو: ضرب، وقتل. فأما غير ذلك فمصروف.

هذا باب

ما كان من هذه الأسماء على مثال فُعَل

وإنما ذكرناه لنبين المعدول منه من غيره. فأما ما كان منه نكرة، ويعرف بالألف واللام فهو مصروف، واحداً كان أو جمعاً. فالواحد؛ نحو: صرد، ونغرٍ، وجعلٍ، ينصرف في المعرفة والنكرة والجمع، نحو: ثقب، وحفر، وعمر: إذا أردت جمع عمرة، وكذلك إن كان نعتاً نحو: سكع، وختع، وحطم كما قال:

قد لفها الليل بسواقٍ حطم

ولبد وهو الكثير من قول الله عز وجل: " أهلكت مالاً لبداً " . فأما ما كان منه لم يقع إلا معرفة؛ نحو: عمر، وقثم، ولكع، فإنه غير مصروف في المعرفة؛ لأنه الموضع الذي عدل فيه. ألا ترى أنك لا تقول: هذا القثم، ولا هذا العمر؛ كما تقول: هذا الجعل، وهذا النغر.

هذا باب

ما كان من فُعِل

اعلم أنه ما كان على فعل غير معتلٍ لم يكن إلا فعلاً، وكذلك كل بناءٍ من الفعل معناه فعل إذا كان غير معتل؛ نحو: دحرج، واستخرج، وضورب. فإن سميت من هذا رجلاً لم تصرفه في المعرفة؛ لأنه مثال لا يكون للأسماء، وإنما هو فيها مدخل. فإن كان من ذوات الواو والياء، أو مما يلزمه الإدغام، فكان ذلك مخرجاً له إلى مثال الأسماء، انصرف في المعرفة، لأن المانع له قد فارقه، وذلك قولك: قد قيل، وبيع، ورد، وشد إذا أردت مثل فعل؛ لأنه قد خرج إلى مثال فيل، وديك؛ كما خرج المدغم إلى مثال البر، والكر. وإن كان على مثال: أطيع، وأستطيع، وقوول لم ينصرف في المعرفة، وكذلك: احمور في هذا المكان، لأنه لم يخرج إلى مثال من أمثلة الأسماء. فهذا جملة هذا.

هذا باب

ما اشتق للمذكر من الفعل

فمن ذلك ما كان اسماً للفاعل؛ نحو: مجاهد، مقاتل، وضارب، ومكرم، ومستطيع، ومدحرج، فكل هذا منصرف؛ لأنه لا مانع له من الصرف، وكذلك إن كان مفعولاً، نحو: مخرج، ومضروب، ومستطاع؛ لأنها أسماءٌ مشتقة. وما كان من الأعجمية معرباً فهذا سبيله. والمعرب منها ما كان نكرة في بابه؛ لأنك تعرفه بالألف واللام، فإذا كان كذلك كان حكمه حكم العربية. لا يمنعه من الصرف إلا ما يمنعها. فمن ذلك: راقود، وجاموس، وفرند؛ لأنك تعرفه بالألف واللام. فإذا كان معرفة في كلام العجم فغير منصرف لامتناعه بالتعريف الذي فيه من إدخال الحروف العربية عليه. وذلك نحو: إسحق، ويعقوب، وفرعون، وقارون؛ لأنك لا تقول: الفرعون ولو سميته بيعقوب - تعنى ذكر القبج - لانصرف؛ لأنه عربي على مثال يربوع. والزوائد التي في أوله لا تمنعه من الصرف؛ لأنها لا تبلغ به مثال الفعل؛ لأن الفعل لا يكون على يفعول. وكذلك إسحاق إذا أردت به المصدر من قولك: أسحقه الله إسحاقاً، وتعرق هذا من ذاك بأن إسحق ويعقوب الأعجميين على غير هذه الحروف، وإنما لاءمت هذه الحروف العرب. ونظير إسحق في القصد إلى العربي والعجمي ما قلت لك في عمر من أنك إذا أردت به جمع عمرة صرفته. وإن أردت به المعدول عن عامر امتنع من الصرف. وإن كان الأعجمي قد أعرب ولم يكن على مثال الأسماء المنصرفة ولا غيرها، صرف وصار كعربيٍّ لا ثاني له؛ لأنه إذا أعرب فهو كالعربية الأصلية. فمن ذلك آجر مصروف لدخوله في التعريف؛ إذ كان نكرة. فهو بمنزلة عربي منفرد ببنائه نحو: إبل، وإطل، وصعفوق. فأما بقم فلا ينصرف في المعرفة وإن كان قد أعرب؛ لأنه قد وقع من أمثلة العرب على ما لا يكون إلا فعلاً، نحو: ضرب، وقطع فمنعه الصرف ما منع ضرب لو سميت به رجلاً. وكذلك سراويل لا ينصرف عند النحويين في معرفة ولا نكرة؛ لأنها وقعت على مثال من العربية لا يدخله الصرف، نحو: قناديل، ودهاليز. فكانت لما دخلها الإعراب كالعربية. فهذا جملة القول في الأعجمي الواقع على الجنس، والمخصوص به الواحد للعلامة.

هذا باب

الجمع المزيد فيه وغير المزيد

أما ما كان من الجمع على مثال مفاعل، ومفاعيل؛ نحو: مصاحف، ومحاريب، وما كان على هذا الوزن؛ نحو: فعالل، وفواعل، وأفاعل، وأفاعيل وكل ما كان مما لم نذكره على سكون هذا وحركته وعدده، فغير منصرف في معرفة ولا نكرة. وإنما امتنع من الصرف فيهما؛ لأنه على مثال لا يكون عليه الواحد، والواحد هو الأصل، فلما باينه هذه المباينة، وتباعد هذا التباعد في النكرة، امتنع من الصرف فيها، وإذا امتنع من الصرف فيها فهو من الصرف في المعرفة أبعد، ويدلك على ذلك قول الله عز وجل: " من محاريب وتماثيل " وقوله: " لهدمت صوامع وبيع وصلواتٌ ومساجد " . كل هذا هذه علته. فإن لحقته الهاء للتأنيث انصرف في النكرة على ما وصفت لك في الهاء أولاً؛ لأن كل ما كانت فيه فمصروف في النكرة، وممتنع من الصرف في المعرفة؛ لأن الهاء علم تأنيث، فقد خرجت بما كان من هذا الجمع إلى باب طلحة، وحمدة؛ وذلك نحو: صياقلة، وبطارقة. فإن قال قائل: فما باله انصرف في النكرة، وقد كان قبل الهاء لا ينصرف فيها؟ فالجواب في ذلك: أنه قد خرج إلى مثال يكون للواحد. ألا ترى أنك تقول: رجل عباقية، وحمار حزابية، فالهاء أخرجته إلى هذا المثال؛ كما أن ياءي النسب يخرجانه إلى باب تميمي، وقيسي. وذلك قولك: مدائني ونحوه، ينصرف في المعرفة والنكرة؛ ألا ترى أن مدائنياً إنما هو للواحد، فبالياء خرج إليه؛ كما أخرجته الهاء إلا أن ما كانت فيه الهاء لا ينصرف من أجل التأنيث، وما كانت فيه ياء النسب فمصروف في المعرفة، والنكرة. فأما سراري، وبخاتي، وكراسي فغير مصروف في معرفة ولا نكرة؛ لأن الياء ليست للنسب، وإنما هي الياء التي كانت في الواحد في بختية وكرسي. فأما قولك: حوالي، وحواري فهو حال، وحوار، فنسب إليه، فإنما على هذا تعتبر ما وصفت لك. فأما قولهم: رباع، ويمان فنذكره في باب: ما اعتل من هذا الجمع إن شاء الله.

فأما ما كان من الجمع على مثال أفعال، وفعول، نحو: أجمال، وفلوس فمنصرف في المعرفة والنكرة، لأنه على مثال يكون للواحد. وهو جمعٌ مضارع للواحد؛ لأنه لأدنى العدد. أعني أفعالاً. وفعول وإن كان لأكثر العدد فمضارعته للواحد؛ لأنه يجمع كما يجمع الواحد. فأما أفعال فما يكون منه على مثال الواحد قولهم: برمة أعشار وحبل أرمام، وأقطاع، وثوب أكياش: متمزق، ويجمع كما يجمع الواحد وذلك قولك: أنعام وأناعيم، وأعراب وأعاريب. وما كان على فعول للواحد فقولك: سدوس للطيلسان الأخضر. وما يكون من هذا مصدراً أكثر من أن يحصى؛ نحو: قعدت قعوداً، وجلست جلوساً، وسكت سكوتاً. ويجمع كما يجمع الواحد تقول: بيوت وبيوتات. فهما ينصرفان في المعرفة والنكرة على كل حال: أعني أفعالاً، وفعولاً إلا أن تسمي بهما مؤنثاً فيمنعهما التأنيث الصرف؛ لأن كل مؤنث، على ثلاثة أحرف متحركات غير منصرف، وكلما زاد في عدد الحروف كان ذلك أوكد لترك صرفه، ولهذا موضع نذكره قيه إن شاء الله.

وأما ما كان من الجمع على مثال أفعل نحو: أكلب وأكعب، فغير منصرف في المعرفة؛ وإنما منعه الصرف أنه على مثال الفعل؛ نحو: أعبد، وأقتل، وينصرفان في النكرة كما ذكرت لك فيما يكون على مثال الفعل. وما كان من الجمع على مثال فعلان، وفعلان؛ نحو: قطبان وظلمان، فغير منصرف في المعرفة لزيادة الألف والنون، وخروجه إلى باب عثمان وسرحان، وينصرفان في النكرة؛ لأن الممتنع من الصرف في المعرفة والنكرة من هذا الباب فعلان الذي له فعلى على ما ذكرت لك؛ نحو: غضبان، وسكران. كما أن الممتنع من باب ما كان على مثال أفعل من أن يصرف في المعرفة والنكرة، فأفعل الذي هو نعت؛ نحو: أحمر، وأصفر. وما كان من الجمع على مثال فعال فمصروف، وذلك نحو: كعاب، وكلاب؛ لأنه بمنزلة الواحد نحو: حمار، وكتاب. وفي هذه الجملة دلالةٌ على كل ما يرد عليك من الجمع إن شاء الله.

هذا باب

ما كان من جمع المؤنث بالألف والتاء

فهذا الجمع في المؤنث نظير ما كان بالواو والنون في المذكر؛ لأنك فيه تسلم بناء الواحد كتسليمك إياه في التثنية. والتاء دليل التأنيث، والضمة علم الرفع، واستوى خفضه ونصبه، كما استوى ذلك في مسلمين. والتنوين في مسلماتٍ عوضٌ من النون في قولك: مسلمين. فإن سميت بمسلمات رجلاً أو امرأة لحقه التنوين؛ لأنه عوض فلذلك كان لازماً. وعلى ذلك قوله عز وجل: " فإذا أفضتم من عرفات " وعرفات معرفة؛ لأنه اسم موضع بعينه. هذا في قول من قال: هؤلاء مسلمون، ومررت بمسلمين يا فتى، وكل ما كان على وزن المسلمين فالوجه فيه أن يجري هذا المجرى وإن لم يكن في الأصل جمعاً؛ كما أن كرسياً وبختياً كالمنسوب وإن لم يكن فيه معنى نسب إلى حيٍّ، ولا إلى أرضٍ، ولا غير ذلك. فمن ذلك عشرون، وثلاثون. قال الله عز وجل: " كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين " . وما أدراك ما عليون. وتقول على هذا: قنسرون، ومررت بقنسرين، وهذه يبرون، ومررت بيبرين. ومن لم يقل هذا، وقال: قنسرين كما ترى، وجعل الإعراب في النون، وقال: هذه سنونٌ فاعلم، فإنه يفعل مثل هذا بالمؤنث إذا كان واحداً، ويجيزه في الجمع؛ كما تقول: هؤلاء مسلمينٌ فاعلم، كما قال الشاعر:

وماذا يدري الشعراء مني ... وقد جاوزت حد الأربعين

وقال الآخر:

إني أبيَّ أبي ذو محافظةٍ ... وابن أبيٍّ أبي من أبيين

وقال الله عز وجل: " فيما كان واحدا " : " ولا طعامٌ إلا من غسلينٍ " فمن رأى هذا قال: هذه عرفات مباركاً فيها، وعلى هذا ينشد هذا البيت:

تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظرٌ عالي

وقال الآخر:

تخيرها أخو عانات دهرا

والوجه المختار في الجمع ما بدأت به. وأما الواحد؛ نحو: غسلين، وعليين، فالوجهان مقولان معتدلان.

هذا باب

ما لحقته ألف ونون زائدتان

أما ما كان من ذلك على فعلان الذي له فعلى فقد تقدم قولنا فيه أنه غير مصروف في معرفة ولا نكرة. وإنما امتنع من ذلك؛ لأن النون اللاحقة بعد الألف بمنزلة الألف اللاحقة بعد الألف للتأنيث في قولك: حمراء وصفراء. والدليل على ذلك أن الوزن واحد في السكون، والحركة، وعدد الحروف، والزيادة. وأن النون، والألف تبدل كل واحدة منهما من صاحبتها. فأما بدل النون من الألف فقولك في صنعاء، وبهراء: صنعاني، وبهراني. وأما بدل الألف منها فقولك - إذا أردت ضربت زيداً فوقفت - قلت: ضربت زيدا، وفي قولك: اضربن زيدا ولنسفعاً بالناصية إذا وقفت قلت: اضربا زيدا، ولنسفعا، وزعم الخليل أن الدليل على ذلك: أن كل مؤنث تلحقه علامة التأنيث بعد التذكير فإنما تلحقه على لفظه إلا ما كان مضارعاً لتأنيث أو بدلاً في أن علامة التأنيث لا تلحقه على لفظه؛ لأنه لا يدخل تأنيث على تأنيث، وكذلك لا يدخل على ما كان بمنزلته. ألا ترى أنك لا تقول: حمراءة ولا صفراءة. فكذلك لا تقول: غضبانة، ولا سكرانة، وإنما تقول: غضبى، وسكرى. فإن كان فعلان ليس له فعلى، أو كان على غير هذا الوزن مما الألف والنون فيه زائدتان، انصرف في النكرة، ولم ينصرف في المعرفة؛ نحو: عثمان، وعريان، وسرحان. وإنما امتنع من الصرف في المعرفة للزيادة التي في آخره؛ لأنها كالزيادة التي في آخر سكران وانصرف في النكرة؛ لأنه ليست مؤنثة فعلى؛ لأنك تقول: في مؤنثة: عريانة، وخمصانة، فقد وجبت فيه حقيقة التذكير فمنزلة هذا من باب غضبان كمنزلة أفكل من باب أحمر، وكمنزلة حبنطى من باب حبلى وسكرى. وسنذكرها بعقب هذا الباب إن شاء الله. فأما حسان، وسمان، وتبان، فأنت في هذه الأسماء مخير: إن أخذت ذلك من السمن، والتبن، والحسن، فإنما وزنها فعال. وإن أخذت حسان من الحس، وسمان من السم، وتبان من التب، لم تصرفه في المعرفة لزيادة الألف والنون، وصرفته في النكرة. فأما فينان فالنون فيه أصل بمنزلة الدال من حماد، وذلك منصرف في المعرفة والنكرة؛ لأن معناه: كثير الفنون، كأفنان الشجر، فهو منصرف على كل حال، وتقديره من الفعل فيعال على وزن بيطار. وكذلك مران لأنه فعال، ومعناه: المرانة، أي: اللين. فعلى هذا تصريف ما ينصرف وما لا ينصرف من هذا الباب. فأما ما كانت نونه زائدةً وليست فيها ألف فمنصرف في المعرفة والنكرة؛ لأنه لا يشبه فعلان فعلى المنقلبة نونه من ألفه. فمن ذلك: رعشنٌ إنما هو من الارتعاش قال:

من كل رعشاء وناجٍ رعشن

وكذلك سرحان لو صغرته فقلت سريحين لصرفت سريحيناً في المعرفة والنكرة، وما كان مثله نحو تصغيرك سلطانا، وضبعانا إذا قلت: سليطين، وضبيعين. وكذلك ضيفن النون زائدة؛ لأنه الذي يجيء مع الضيف، فتقدره: فعلن.

هذا باب

ما كانت آخره ألف مقصورةٌ للتأنيث وللإلحاق

أما ما كانت ألفه للتأنيث؛ نحو: حبلى، وسكرى فقد تقدم قولنا فيه أنه لا ينصرف في معرفة ولا نكرة. وأما ما كانت الألف فيه زائدة للإلحاق فمصروف في النكرة؛ لأنه ملحق بالأصول، وممنوع من الصرف في المعرفة؛ لأن ألفه زائدة كزيادة ما كان للتأنيث، فموضعه من حبلى وأخواتها كموضع أفكلٍ من أحمر وكموضع عثمان من عطشان. فمن ذلك حبنطًى إنما هو من حبط بطنه، فالنون والألف زائدتان؛ لتبلغ بهما بناء سفرجل، وعلى هذا تقول للمرأة: حبنطاةٌ، ولو كانت الألف للتأنيث لم تدخل عليها الهاء؛ لأنه لا يدخل تأنيثٌ على تأنيثٍ. وكذلك أرطًى ملحق بجعفر، ووزنه فعلًى ملحق بفعلل، وعلى ذلك تقول في الواحدة: أرطاة. ومثله معزًى ملحق بهجرع، ودرهم. فأما ما كان مثل ذفرى، وتترى الذي يكون فيه الأمران: الإلحاق والتأنيث، وما كان من بابه فسنذكره في موضعه إن شاء الله.

هذا باب

ما كان من أفعل نعتاً يصلح فيه التأويلان جميعاً

فمن ذلك أجدل، وأخيل؛ الأجود فيهما أن يكونا اسمين؛ لأن الأجدل إنما يدل على الصقر بعينه، والأخيل أيضاً: اسم طائر. فإذا قال قائل: إن أجدل إنما هو مأخوذ من الجدل وهي شدة الخلق، وأخيل إنما هو أفعل مأخوذ من الخيلان، وكذلك أفعى إنما هو أفعل مأخوذ من النكادة. قيل له فإنه كذلك، وإلى هذا كان يجب من يراه نعتا: ولا يصرفه في معرفة ولا نكرة، وليس بأجود القولين، أجودهما أن تكون أسماءً منصرفة في النكرة؛ لأنها - وإن كان أصلها ما ذكرنا - فإنما تدل على ذات شيءٍ بعينه. ألا ترى أن أجدل لا يدل إلا على الصقر، تقول: أجدلٌ بمنزلة قولنا: صفر. وكذلك أفعى لا يدل إلا على هذا الضرب من الحيات. ومثل ذلك أخيل؛ لأنه يدل على طائرٍ بعينه. وهو الذي يلزم عندي في أبغث لطائر. فأما الأسود - إذا عنيت الحية، والأدهم - إذا أردت القيد، والأرقم - إذا عنيت الحية - فنعوتٌ غير منصرفة في معرفة ولا نكرة؛ لأنها تحلية لكل ما نعت بها غير دالةً على لونٍ بعينه.

فأما أول فهو يكون على ضربين: يكون اسماً، ويكون نعتاً موصولاً به من كذا. وأما كونه نعتاً فقوله: هذا رجلً أول منك، وجاءني هذا أول من مجيئك، وجئتك أول من أمس.

وأما كونه اسماً فقوله: ما تركت له أولاً ولا آخراً كما تقول: ما تركت له قديماً ولا حديثاً. وعلى أي الوجهين سميت به رجلاً انصرف في النكرة؛ لأنه على باب الأسماء بمنزلة أفكل، وعلى باب النعوت بمنزلة أحمر. فأما أرمل فإنه اسمٌ نعت به. والدليل على ذلك أن مؤنثه على لفظه. تقول للمرأة: أرملة، ولو كان نعتاً في الأصل لكان مؤنثه فعلاء؛ كما تقول: أحمر، وحمراء. فقولهم: أرملة دليل على أنه اسم. وكذلك أربعٌ إنما هو اسمٌ للعدد وإن نعت به في قولك: هؤلاء نسوةٌ أربعٌ. لا اختلاف في ذلك. وإنما جاز أن يقع نعتاً وأصله الاسم؛ لأن معناه: معدودات؛ كما تقول: مررت برجل أسدٍ؛ لأن معناه: شديد. فإن قال قائل: فالرجل ليس بأسد ولكن معناه: مثل أسد، والأربع حقيقة عدد. قيل: إنما يخرج هذا وشبهه على تأويل الفعل وصحته إذا جاز في التمثيل، ومثل الشيء غيره؛ إذا كان المثل مضافاً إليه ولكنه الأول الذي هو نعته. فالشيء الذي يخرج على أنه الأول على غير حذف أجود.

إلا ترى أن قولك: زيد أسد معناه مثل أسد، فقد حذفت المثل وأنت تريده. ولولا تقديرك المثل لم يكن كلاماً. وقولك:جواريك أربعٌ حقيقة على غير حذف، ولكن لما أردت النعت قدرت تقدير الفعل؛ لأن النعت تحلية؛ ألا ترى أنك إذا قلت: مررت برجلٍ مثلك، فإنما أردت مشبه لك، ولولا ذلك لم يكن نعتاً. وكان الأخفش لا يصرف أرمل، ويزعم أنه نعت في الأصل، وله احتجاج نذكره في موضعه إن شاء الله. وليس على هذا القول أحد النحويين علمناه.

فأما أجمع وأكتع، فمعرفة ولا يكون إلا نعتاً. فإن سميت بواحدٍ منهما رجلاً صرفته في النكرة. والفصل بينه وبين أحمر وجميع بابه، أن أحمر كان نعتاً وهو نكرة، فلما سميت به ازداد ثقلاً، وأجمع لم يكن نكرة، إنما هو نكرة ونعت، فإذا سميت به صرفته في النكرة لأنك لست ترده إلى حال كان فيها لا ينصرف.

فأما أولق، وأيصر فإن في كل واحدٍ منهما حرفين من حروف الزيادة، ففي أولق الهمزة والواو، فلا بد من الاشتقاق حتى يعلم أيهما الأصل؟ فنظرت إلى أولق فإذا الفعل منه ألق الرجل فهو مألوق: إذا أصابه لممٌ من الجنون، فعلمنا أن الهمزة أصل، وأن الواو زائدة؛ فتقديره: فوعل مثل كوثر، فهو مصروف في المعرفة والنكرة. وكذلك أيصر يجمع على فعال فيقال في جمعه: إصار، فتثبت الهمزة، وتسقط الياء. كما قال الأعشى:

فهذا يعد لهن الخلى ... وينقل ذا بينهن الإصارا

هذا باب

تسمية الواحد مؤنثاً كان أو مذكراً بأسماء الجمع

قد تقدم قولنا في جمع التكسير إنه بمنزلة الواحد. يمنعه من الصرف ما يمنع الواحد، فإذا نقلت منه شيئاً، فسميت به مذكراً فهو على تلك الحال، وذلك أنك إن سميت مذكراً أنمارا، أو كلابا انصرف؛ كما ذكرت لك في أفعال؛ لأن هذا المثال ينصرف في المعرفة والنكرة. فإن سميته أكلب، وأكعب لم ينصرف في المعرفة لزيادة الهمزة في أوله؛ لأنها على مثال أعبد، وأقتل. وينصرف هذا المثال في النكرة؛ لأنه ليس بنعت، وإنما الممتنع من الصرف من هذا المثال في النكرة أفعل الذي يكون نعتاً؛ لأنه لا يقع شيءٌ مما على وزن الأفعال نعتاً إلا ما كان على أفعل. فإن سميته بغلمان لم ينصرف وكان كسرحان الذي هو واحد. فإن سميته بقضبان فحاله كحال عثمان في الامتناع من الصرف في المعرفة، وأنه ينصرف في النكرة لأنه ليس شيءٌ من هذا المثال يكون له فعلى إلا ما كان على فعلان الذي هو في السكون والحركة، والزيادتين على مثال حمراء. فهذا يجمع هذا الضرب من الجمع.

فأما ما كانت فيه هاء التأنيث، جمعاً كان أو واحداً، نحو: طلحة، ونسابة، وأجربة، وصياقلة فقد أجملنا القول فيه أنه لا ينصرف في المعرفة، وينصرف في النكرة، واحداً كان أو جمعاً، قليل العدد كان أو كثيراً، عربياً كان أو أعجمياً. فإن سميت رجلاً بمساجد، وقناديل فإن النحويين أجمعين لا يصرفون ذلك في معرفة ولا نكرة؛ ويجعلون حاله وهو اسمٌ لواحد كحاله في الجمع. وعلى هذا لم يصرفوا سراويل وإن كانت قد أعربت؛ لأنها وقعت في كلام العرب على مثال ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة.

فأما العجمة فقد زالت عنها بأنها قد أعربت، إلا أبا الحسن الأخفش فإنه كان إذا سمى بشيءٍ من هذا رجلاً أو امرأة صرفه في النكرة، فهذا عندي هو القياس، وكان يقول إذا منعه من الصرف أنه مثال لا يقع عليه الواحد، فلما نقلته فسميت به الواحد خرج من ذلك المانع. وكان يقول: الدليل على ذلك ما يقول النحويون في مدائنيّ وبابه أنه مصروف في المعرفة والنكرة. وصياقلة أنه مصروف في النكرة ممتنع بالهاء من الصرف في المعرفة؛ لأنهما قد خرجا إلى مثال الواحد. قيل له: فلم لم تصرف مساجد إذا كان اسم الرجل في المعرفة. فقال: إن بناءه قد بلغ به مثال ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، فهو عنده في هذا المثال بمنزلة الملحق بالألف مما فيه ألف التأنيث، ومنزلة أفكلٍ وبابه. من أحمر وبابه، وبمنزلة عثمان وسرحان، من باب غضبان وسكران. فأما سراويل فكان يقول فيها: العرب يجعلها بعضهم واحداً، فهي عنده مصروفة في النكرة على هذا المذهب. ومن العرب من يراها جمعاً واحدها سروالة: وينشدون:

عليه من اللؤم سروالةٌ

فمن رآها جمعاً يقال له: إنما هي اسمٌ لشيءٍ واحد، فيقول: جعلوه أجزاءً؛ كما تقول: دخاريص القميص والواحد دخرصة فعلى هذا كان يرى أنها بمنزلة قناديل؛ لأنها جمع لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، ولكن إن سمى بها صرفها في النكرة كما وصفت لك في غيرها.

واعلم أن كل جمعٍ ليس بينه وبين واحده إلا الهاء فإنه جارٍ على سنة الواحد وإن عنيت به جمع الشيء؛ لأنه جنس. من أنثه فليس إلى الاسم يقصد، ولكنه يؤنثها على معناه؛ كما قال عز وجل: " تنزع الناس كأنهم أعجاز نخلٍ منقعرٍ " ؛ لأن النخل جنس. وقال: " فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ " ؛ لأنه جمع نخلة فهو على المعنى جماعة. ألا ترى أن القوم اسمٌ مذكر! وقال عز وجل: " كذبت قبلهم قوم نوحٍ " لأن التقدير - والله أعلم - : إنما هو جماعة قوم نوح. وذلك الجمع؛ نحو: حصاة، وحصًى، وقناة وقنًى، وشعيرة وشعير، وكل ما كان مثل هذا فهذا مجازه.

ومن الجمع ما يكون اسماً للجمع، ولا واحد له من لفظه، فمجاز ذلك أن يكون مؤنثاً كالواحد الذي يعنى به الشيء المؤنث، إلا ما كان لجماعة الآدميين، وذلك نحو: غنم، وإبل فإنك تقول في تصغيره: غنيمة، وأبيلة، كما تقول في تصغير دار: دويرة، وتصغير هند: هنيدة. وأما ما كان من الآدميين من ذلك فنحو: رهط، ونفر وقوم، لا تقول في تصغير شيءٍ من ذلك إلا كما تقول في تصغير الواحد المذكر: قويم، ورهيط، ونفير. فإن سميت بشيءٍ من جميع هذا المؤنث الذي ليس فيه علامة تأنيث، ولا مانع مما ذكرت رجلاً فهو مصروف في المعرفة والنكرة، وذلك نحو: عنوق: جمع عناق. وكذلك كل ما كان جمعه لمذكر أو مؤنث، ولم يمنعه من الصرف ما يمنع الواحد فهو مصروف إذا سميت به مذكراً. فإن قال قائل: فكيف انصرف في المعرفة وأصله التأنيث؟ فإنما ذلك لأن تأنيثه ليس بحقيقي، إنما قلت: هي الجمال، وهي الرجال على معنى هي جماعة الرجال، وجماعة الجمال.

ألا ترى أن المؤنث والمذكر يخرجان إلى اسم واحد، فتقول: هي أنيق، كما تقول هي الجمال فمانما تريد بها جميعاً: جماعة. فأما الواحد فتأنيثه وتذكيره واقعان له. والتأنيث، والتذكير في الواحد على ضربين: أحدهما: حقيقة، والآخر: لفظ، فهما في ترك الصرف سواءٌ، لأن الصرف إنما هو للفظ، وليسا في الإخبار عنهما سواءً. فأما الحقيقي فما كان في الرجل والمرأة، وجميع الحيوان؛ لأنك لو سميت رجلاً طلحة لخبرت عنه كما يخبر إذا كان اسمه مذكراً. ولو سميت امرأة، أو غيرها من إناث الحيوان باسمٍ مذكر لخبرت عنها كما تخبر عنها واسمها مؤنث. وذلك نحو امرأةً سميتها جعفرا فتقول: جاءتني جعفر؛ كما تقول: جاءتني حمدة، ولا يجوز أن تقول: جاءني؛ لأن التأنيث حقيقة، كما لا يجوز أن تقول: جاءتني طلحة وأنت تعني رجلاً. والتأنيث الثاني، والتذكير نحو قولك: يوم، وليلة، وبلدة، ودار ومنزل، فليس في هذا أكثر من اللفظ. فلو قلت: قصر ليلتك، وعمر دارك لجاز؛ لأن الدار والمنزل شيءٌ واحد. ليس في الدار حقيقة تصرفها عن ذلك، وكذلك البلد والبلدة. قال الله عز وجل: " من جاءه موعظةٌ من ربه " وقال: " وأخذ الذين ظلموا الصيحة " . وقال في تأنيث الجمع: " وقالت نسوةٌ في المدينة " ؛ لأن الإخبار ليس عن واحد. فإن قال: قام جواريك صلح، ولو قال: قام جاريتك لم يجز، وكذلك لا يجوز: قام مسلماتك، وجاراتك ولكن قامت؛ لأن هذا جمعٌ حقيقيٌّ. لا يغير الواحد عن بنائه إلا أن يضطر شاعر كما قال:

لقد ولد الأخيطل أم سوءٍ

ولو قال في الشعر: قام جاريتك لصلح، وليس بحسن حتى تذكر بينهما كلاماً، فتقول: قام يوم كذا وكذا جاريتك، ولا يجوز مثل هذا عندنا في الكلام. وهذا الجمع إنما هو على حد التثنية. فالألف والتاء في المؤنث كالواو والنون في المذكر.

هذا باب تسمية المؤنث

اعلم أن كل أنثى سميتها باسمٍ على ثلاثة أحرف فما زاد فغير مصروف، كانت فيه علامة التأنيث أم لم تكن، مذكراً كان الاسم أو مؤنثاً، وذلك نحو امرأة سميتها قدما أو قمرا أو فخذا أو رجلا. فإن سميتها بثلاثة أحرف أوسطها ساكن، فكان ذلك الاسم مؤنثاً أو مستعملاً للتأنيث خاصةً، فإن شئت صرفته، وإن شئت لم تصرفه إذا لم يكن في ذلك الاسم علم التأنيث نحو: شاة، فإن ذلك قد تقدم قولنا فيه. وذلك نحو امرأةً سميتها بشمس أو قدم، فهذه الأسماء المؤنثة. وأما المستعملة للتأنيث فنحو: جمل، ودعد، وهند. فأنت في جميع هذا بالخيار، وترك الصرف أقيس. فأما من صرف فقال: رأيت دعدا، وجاءتني هندٌ، فيقول: خفت هذه الأسماء لأنها على أقل الأصول، فكان ما فيها من الخفة معادلاً ثقل التأنيث. ومن لم يصرف قال: المانع من الصرف لما كثر عدته؛ نحو: عقرب وعناق، موجود فيما قل عدده؛ كما كان فيه علامة تأنيث في الكثير العدد والقليله سواءً.

فإن سميت مؤنثاً باسم على هذا المثال أعجميٍّ، فإنه لا اختلاف فيه أنه لا ينصرف في المعرفة. وذلك نحو امرأةً سميتها بخش، أو بدل، أو بجاز؛ لأنه جمع مع التأنيث عجمة، فاجتمع فيه مانعان.

فإن سميت مؤنثاً بمذكر على هذا الوزن عربيٍّ فإن فيه اختلافاً: فأما سيبويه والخليل والأخفش والمازني، فيرون أن صرفه لا يجوز؛ لأنه أخرج من بابه إلى باب يثقل صرفه، فكان بمنزلة المعدول. وذلك نحو امرأة سميتها زيدا أو عمرا. ويحتجون بأن مصر غير مصروفة في القرآن؛ لأن اسمها مذكر عنيت به البلدة. وذلك قوله عز وجل: " أليس لي ملك مصر " فأما قوله عز وجل: " اهبطوا مصراً " . فليس بحجةٍ عليه؛ لأنه مصرٌ من الأمصار، وليس مصر بعينها، هكذا جاء في التفسير، والله أعلم.

وأما عيسى بن عمر، ويونس بن حبيب، وأبو عمر الجرمي وأحسبه قول أبي عمرو ابن العلاء فإنهم كانوا إذا سموا مؤنثاً بمذكر على ما ذكرنا رأوا صرفه جائزاً، ويقولون: نحن نجيز صرف المؤنث إذا سميناه بمؤنث على ما ذكرنا. وإنما أخرجناه من ثقلٍ إلى ثقل، فالذي إحدى حالتيه حال خفة أحق بالصرف؛ كما أن لو سمينا رجلاً، أو غيره من المذكر باسم مؤنث على ثلاثة أحرف ليس له مانع لم يكن إلا الصرف. وذلك أنك لو سميت رجلاً قدما أو فخذا أو عضدا، لم يكن فيه إلا الصرف، لخفة التذكير. وكذلك لو سميته باسم أعجميٍّ على ثلاثة أحرف متحركات جمع، أو ساكنة الحرف الأوسط لكان مصروفاً. لا يجوز إلا ذلك؛ لأن الثلاثة أقل الأصول، والتذكير أخف الأبواب. فكل مذكر بثلاثة أحرف فمصروف إلا أن تكون فيه هاء التأنيث؛ نحو: شاة، وثبة فقد قلنا في الهاء، أو تكون فيه زيادة فعل نحو: يعد، ويضع، أو يكون من المعدول: كعمر، وقثم، أو يكون على ما لا تكون عليه الأسماء؛ نحو: ضرب، وقتل، وقد تقدم قولنا في هذا. فأما ما كان من المذكر المسمى باسم مؤنث على أربعة أحرف فصاعداً، أو بأعجمي على هذه العدة فغير منصرف في المعرفة؛ وذلك لأنه إنما انصرف فيما كان من المؤنث على ثلاثة أحرف مما ذكرت لك؛ لأنها الغاية في قلة العدد، فلما خرج عن ذلك الحد منعه ثقل المؤنث من الانصراف. والأعجمي المذكر يجري مجرى العربي المؤنث في جميع ما صرف فيه.

ألا ترى أن نوحا ولوطا اسمان أعجميان وهما مصروفان في كتاب الله عز وجل! فأما قوله عز وجل: " وعاداً وثمود وأصحاب الرس " وقوله: " ألا إن ثمود كفروا ربهم " " وإلى ثمود أخاهم صالحاً " فإن ثمود اسم عربيٌّ، وإنما هو فعول من الثمد، فمن جعله اسماً لأب أوحىٍّ صرفه، ومن جعله اسماً لقبيلة أو جماعة لم يصرفه. ومكانهم من العرب معروف؛ فلذل كان لهم هذا الاسم. وعلى ذلك اسم صالح. فأما الأسماء المشتقة غير المغيرة فهي تبين لك عن أنفسها. واعلم أن الشاعر إذا اضطر صرف ما لا ينصرف. جاز له ذلك؛ لأنه إنما يرد الأسماء إلى أصولها. وإن اضطر إلى ترك صرف ما ينصرف لم يجز له ذلك؛ وذلك لأن الضرورة لا تجوز اللحن، وإنما يجوز فيها أن ترد الشيء إلى ما كان له قبل دخول العلة، نحو قولك في رادٍّ إذا اضطررت إليه: هذا رادد؛ لأنه فاعل في وزن ضارب، فلحقه الإدغام، كما قال:

مهلاً أعاذل قد جربت من خلقي ... إني أجود لأقوامٍ وإن ضننوا

لأن ضن إنما هو ضنن، فلحقه الإدغام وذلك قوله:

يشكو الوجى من أظللٍ وأظلل

وعلى هذا قال الشاعر:

فلتأتينك قصائدٌ وليركبن ... جيشٌ إليك قوادم الأكوار

ونحو ذلك. ألا ترى أنه ما كان من ذوات الياء فإن الرفع والخفض لا يدخلانه؛ نحو: هذا قاضٍ فاعلم، ومررت بقاضٍ، فلما احتاج إليه الشاعر رده إلى أصله فقال:

لا بارك الله في الغواني هل ... يصبحن إلا لهن مطلب

وقال الشاعر مثله:

فيوماً يجارين الهوى غير ماضيٍ ... ويوماً ترى منهن غولٌ تغول

فعلى هذا إجراء ما لا يجري لما وصفت لك.

هذا باب تسمية السور والبلدان أما قولك: هذه هودٌ، وهذه نوحٌ، فأنت مخير: إن أردت هذه سورة نوح، وهذه سورة هود، فحذفت سورة على مثال ما حذف من قوله عز وجل: " واسأل القرية " فمصروف. تقول: هذه هودٌ، وهذه نوحٌ. وإن جعلت واحداً منهما اسماً للسورة لم تصرفه في قول من رأى ألا يصرف زيدا إذا كان اسماً لامرأة. هذا في هود خاصةً. وأما نوح فإنه اسمٌ أعجميٌّ لا ينصرف إذا كان اسماً لمؤنث، كما ذكرت لك قبل هذا. فأما يونس، وإبراهيم فغير مصروفين، للسورة جعلتهما أو للرجلين؛ للعجمة. ويدلك على ذلك أنك إذا قلت: هذه يونس أنك تريد: هذه سورة يونس، فحذفت؛ كما أنك تقول: هذه الرحمن.

وأما حاميم فإنه اسمٌ اعجميٌّ لا ينصرف، للسورة جعلته أو للحرف؛ ولا يقع مثله في أمثلة العرب. لا يكون اسم على فاعيل. فإنما تقديره تقدير: هابيل. وكذلك طس، ويس فيمن جعلهما اسماً؛ كما قال لما جعله اسماً للسورة:

يذكرني حاميم والرمح شاجرٌ ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم

وقال الكميت:

وجدنا لكم في آل حاميم آيةً ... تأولها منا تقيٌّ ومعرب

وأما فواتح السور فعلى الوقف؛ لأنها حروفٌ مقطعة؛ فعلى هذا تقول: آلم ذلك و " حم والكتاب " لأن حق الحروف في التهجي التقطيع؛ كما قال:

أقبلت من عند زيادٍ كالخرف ... تخط رجلاي بخطٍّ مختلف

تكتبان في الطريف لامَ الِف

فهذا مجاز الحروف. فأما نون في قولك: قرأت نوناً يا فتى، فأنت مخير: إن أردت سورة نون، وجعلته اسماً للسورة جاز فيه الصرف فيمن صرف هندا، وتدع ذلك في قول من لم يصرفها. وكذلك صاد، وقاف. وهذه الأسماء التي على ثلاثة أحرف أوسطها ساكن إنما هي بمنزلة امرأة سميتها دارا.

فأما البلاد فإنما تأنيثها على أسمائها، وتذكيرها على ذلك؛ تقول: هذا بلد، وهذه بلدة، وليس بتأنيث الحقيقة، وتذكيره كالرجل والمرأة. فكل ما عنيت به من هذا بلداً، ولم يمنعه من الصرف ما يمنع الرجل فاصرفه. وكل ما عنيت به من هذا بلدة منعه من الصرف وما يمنع المرأة، وصرفه ما يصرف اسم المؤنث على أن منها ما يغلب عليه أحد المذهبين والوجه الآخر فيه جائزٌ، والأصل ما ذكرت لك. وذلك نحو: فلج، وحجر، وقباء، وحراء. فأما المدينة، والبصرة، والكوفة، ومكة، فحرف التأنيث يمنعها. وأما بغداد ونحوها، فالعجمة تمنعها. وعمان، ودمشق فالأكثر فيهما التأنيث؛ يراد البلدتان والتذكير جائز، يراد: البلدان. كما أن واسطاً الأغلب عليه التذكير؛ لأنه اسم مكان وسط البصرة والكوفة، فإنما هو نعتٌ سمي به، ومن أراد البلدة لم يصرفها؛ وجعلها كامرأة سميت ضارباً. ألا ترى أنه لما جعل حراء اسماً لبقعة لم يصرفه وقال:

ستعلم أينا خيرٌ قديماً ... وأعظمنا ببطن حراء نارا

فأصل هذا ما تقصد به إليه. ألا ترى أنه يقول:

من كان ذا شكٍّ فهذا فلج ... ماءٌ رواءٌ، وطريقٌ نهج

فقال: فهذا، ولم يقل فهذه؛ لأنه أراد بلداً.

هذا باب أسماء الأحياء والقبائل فمجاز هذا مجاز ما ذكرنا قبل في البلدان. تقول: هذه تميمٌ، وهذه أسدٌ، إذا أردت هذه قبيلة تميم، أو جماعة تميم، فتصرف؛ لأنك تقصد قصد تميم نفسه. وكذلك لو قلت: أنا أحب تميما، أو أنت تهجو أسدا. إذا أردت ما ذكرنا، أو جعلت كل واحدٍ منهما اسماً للحي. فإن جعلت شيئاً من ذلك اسماً للقبيلة لم تصرفه على ما ذكرنا قبل. تقول: هذه تميم فاعلم، وهذه عامر قد أقبلت. وعلى هذا تقول: هذه تميم بنة مرٍّ، وإنما تريد القبيلة، كما قال:

لولا فوارس تغلب بنة وائلٍ ... نزل العدو عليك كل مكان

وكما قال الله عز وجل: " كذبت قوم نوحٍ المرسلين " ؛ لأن المعنى: الجماعة، وعلى هذا " كذبت عادٌ " و " كذبت ثمود بالنذر " ؛ لأنه عنى القبيلة والجماعة.

فأما ما كان من هذا اسماً لا يقع عليه بنو كذا، فإن التذكير فيه على وجهين: على أن تقصد قصد الحي، أو تعمد للأب الذي سمي به القبيل، وذلك نحو: قريش، وثقيف. تقول: جاء قريشٌ يا فتى، إنما تريد: حي قريش، وجماعة قريش. فهي بمنزلة ما قبلها إلا فيما ذكرنا من أنك لا تقول: بنو قريش؛ كما تقول: بنو تميم؛ لأنه اسم للجماعة وإن كانوا إنما سموا بذلك لرجلٍ منهم. وقد اختلف الناس في هذه التسمية لأي معنًى وقعت؟ إلا أن الثبت عندنا أنها إنما وقعت لقصي بن كلاب ولذلك قال اللهبي:

وبنا سميت قريشٌ قريشا

وثقيف كذلك إنما هو تلقيب القبيلة أو الحي، المقصود في ذلك أبوها قسي بن منبه ابن بكر بن هوازن. ومن جعل هذه الأسماء واقعة على قبائل أو جماعات، لم يصرفه، كما قال:

غلب المساميح الوليد سماحةً ... وكفى قريشا المعضلات وسادها

جعله اسماً للقبيلة؛ كما قال الأعشى:

ولسنا إذا عد الحصى بأقلة ... وإن معد اليوم مودٍ ذليلها

جعل معد اسماً للقبيلة يدلك على ذلك قوله: مودٍ ذليلها. على أنه قد يجوز أن يقول مودٍ ذليلها، لو أراد أبا القبيلة لأنه يريد: جماعة معدٍّ، ولكن ترك الصرف قد أعلمك أنه يريد القبيلة، وأن ذليلها على ذلك جاء. فإذا قلت: ولد كلابٌ كذا، وولد تميمٌ كذا، فالتذكير والصرف لا غير؛ لأنك الآن إنما تقصد الآباء. وأما قوله:

بكى الخز من عوفٍ وأنكر جلده ... وعجت عجيجاً من جذام المطارف

فإنه جعله اسماً للقبيلة.

وأما قولك: هذه رقاش يا فتى على مذهب بني تميم، وهذه رقاش في قول أهل الحجاز، فلهذا موضع سنبينه في عقب هذا الباب إن شاء الله. ورقاش امرأة، وأبو القبيل عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة. وكذلك سلول، وسدوس فليس من هذا مصروفاً إلا في النكرة، وإنما ذلك بمنزلة باهلة، وخندف وإن كان في باهلة علامة التأنيث.

هذا باب تسمية الرجال والنساء بأسماء السور والأحياء والبلدان اعلم أنك إذا سميت رجلاً باسم شيءٍ من ذلك على ثلاثة أحرف ليس فيه مانع مما قدمنا ذكره فهو مصروف وإن وقع في الأصل مؤنثاً، كما ذكرت لك في رجل يسمى هندا أو قدما أو فخذا. فإن سمي بشيءٍ على أربعة أحرف أو أكثر، وكان عربياً مذكراً، فهو مصروف. وإن كان أعجمياً أو مؤنثاً لم ينصرف. وذلك قولك في رجلٍ يسمى حاميم: هذا حاميم مقبلاً؛ لأنه أعجميٌّ على ما وصفت لك. فإن سميته صالحاً أو شعيباً، وذلك الاسم اسمٌ لسورة، انصرف؛ لأنه في الأصل مذكر، وإن علقته على مؤنث فإنما ذلك بمنزلة غزال وسحاب، سميت بواحدٍ منهما امرأة، ثم سميت بذلك الاسم رجلاً فإنما ترده إلى أصله.

وإنما ذكرنا أن هنداً ودعداً وجملا أسماءٌ مؤنثة؛ لأنها وقعت مشتقة للتأنيث، فكانت بمنزلة ما أصله التأنيث إذ كان المؤنث المختص بها. ومن ثم لا يصرف عند أكثر النحويين أسماء بن خارجة؛ لأن أسماء قد اختص به النساء حتى كأن لم بكن جمعاً قط، والأجود فيه الصرف وإن ترك إلى حالته التي كان فيها جمعاً للاسم، وعلى ذلك صرف هؤلاء النحويون ذراعاً اسم رجل؛ لكثرة تسمية الرجال به، وأنه وصف للمذكر في قولك: هذا حائط ذراعٌ، والأجود ألا يصرف اسم رجل؛ لأن الذراع في الأصل مؤنثة.

فإن سميت السورة أو الرجل أو غير ذلك بفعل، أجريته مجرى الأسماء، وذلك أنك تقول إذا أضفت إلى " اقتربت الساعة وانشق القمر " : قرأت سورة إقتربه؛ لأنك إذا سميت بفعل فيه تاء تأنيث صارت في الوقف هاءً؛ لأنك نقلته إلى اسم، فصار آخره كآخر حمدة؛ لأنه في الأصل مدرج بالتاء، والتاء علامة التأنيث، وإنما تبدل منها في الوقف هاءً، وتقطع ألف الوصل؛ كما أنك لو سميت رجلاً بقولك: اضرب في الأمر قطعت الألف حتى تصير كألفات الأسماء فتقول: هذا إضرب قد جاء، فتصيره بمنزلة إثمد. فعلى هذا قلت: هذه سورة إقتربه فإن وصلت قلت: هذه سورة اقتربت الساعة؛ لأنها الآن فعل رفعت بها الساعة، وسميت بهما جميعاً؛ كما أنك لو سميت رجلاً: قام زيدٌ لقلت: هذا قام زيدٌ؛ لأنك سميت بفعل وفاعل. ولهذا موضع نذكره فيه على حدته إن شاء الله.

هذا باب

ما كان من الأسماء المعدولة على فعال اعلم أن الأسماء التي تكون على هذا الوزن على خمسة أضرب: فأربعة منها معدولة، وضرب على وجهه. فذلك الضرب هو ما كان مذكراً، أو مؤنثاً غير مشتقٍّ، ويجمع ذلك أن تكون مما أصله النكرة فأما المذكر فنحو قولك: رباب، وسحاب، وجمال. وأما المؤنث فنحو قولك: عناق، وأتان، وصناع. فما كان من هذا مذكراً فمصروف إذا سميت به رجلاً، أو غيره من المذكر. وما كان منه مؤنثاً فغير مصروف في المعرفة، ومصروف في النكرة، لمذكرٍ كان أو لمؤنث. وأما ما كان معدولاً فمجراه واحدٌ في العدل وإن اختلفت أنواعه. فمن ذلك ما يقع في معنى الفعل نحو قولك: حذار يا فتى، ونظار يا فتى، ومعناه: احذر، وانظر. فهذا نوع. ومنه ما يقع في موضع المصدر نحو قولك: الخيل تعدو بداد يا فتى ومعناه: بدادا، ومثله: لا مساس يا فتى، أي: لا مماسة. فهذا نوع ثان. وتكون صفة غالبة حالة محل الاسم؛ كتسميتهم المنية حلاق يا فتى فهذا نوعٌ ثالث. والنوع الرابع ما كان معدولاً للنساء؛ نحو: حذام وقطام، إلا أن جملة هذا أنه لا يكون شيء من هذه الأنواع الأربعة إلا مؤنثة معرفة. فأما ما لم يكن كذلك فغير داخل في هذا الباب. ونحن بادئون في تفسيره نوعاً نوعاً. أما ما كان في معنى الأمر فإنما كان حقه أن يكون موقوفاً؛ لأنه معدول عن مصدر فعل موقوف موضوع في موضعه، فإنما مجازه مجاز المصدر، إلا أنها المصادر التي يؤمر بها؛ نحو: ضرباً زيدا؛ كما قال الله عز وجل: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " إلا أن المصدر مقدر مؤنثاً علماً لهذا المعنى وذلك نحو قوله:

تراكها من إبل تراكها

إنما المعنى: اتركها إلا أنه اسم مؤنث موقوف الآخر محرك بالكسر، لالتقاء الساكنين. وحركته الكسر لما أذكره لك إن شاء الله، ومن ذلك قوله:

مناعها من إبل مناعها ... ألا ترى الموت لدى أرباعها

وقال آخر:

حذار من أرماحنا حذار

وقال آخر:

نظار كي أركبه نظار

ويدلك على تأنيثه قول زهير:

ولنعم حشو الدرع أنت إذا ... دعيت نزال ولج في الذعر

فقال: دعيت. وقال زيد الخليل:

وقد علمت سلامة أن سيفي ... كريهٌ كلما دعيت نزال

وأما ما كان اسماً لمصدر غير مأمور به فنحو قوله:

وذكرت من لبن المحلق شربةً ... والخيل تعدو بالصعيد بداد

وقرأ القراء: فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس. فإن قال قائل: ما بالنا لا نجد أكثر المصادر إلا مذكراً. وهذا إنما هو معدول عما لا نجد التأنيث في لفظه. قيل له: قد وجدتم في المصادر مؤنثاً كثيراً، كقولك: أردت إرادة، واستخرت استخارة؛ وقاتلت مقاتلة. وكل مصدر تريد به المرة الواحدة فلا بد من دخول الهاء فيه، نحو: جلست جلسةً واحدةً وركبت ركبةً، وإنما هذا معدول عن مصدر مؤنث كنحو ما ذكرت لك. والدليل على ذلك أن المذكر من المصادر، وغيرها الذي هو على هذا الوزن مصروف متصرف؛ نحو: ذهبت ذهاباً، ولقيته لقاءً، وأنه لما أراد المكسور قال: دعيت نزال. وأما ما كان نعتاً غالباً فمنه قوله:

لحقت حلاق بهم على أكسائهم ... ضرب الرقاب، ولا يهم المغنم

يريد: المنية؛ كما قال مهلهل:

ما أرجي العيش بعد ندامى ... كلهم قد سقوا بكأس حلاق

وإنما هذا نعت غالب نظير قوله:

ونابغة الجعدي بالرمل بيته ... عليه صفيحٌ من تراب منضد

وإنما النابغة نعت في الأصل، ولكنه غلب حتى صار اسماً.

وأما ما كان اسماً علماً نحو: حذام، وقطام، ورقاش، فإن العرب تختلف فيه: فأما أهل الحجاز فيجرونه مجرى ما ذكرنا قبل؛ لأنه مؤنث معدول. وإنما أصله حاذمة، وراقشة، وقاطمة. ففعال في المؤنث نظير فعل في المذكر.

ألا ترى أنك تقول للرجل: يا فسق، يا لكع، وللمرأة: يا فساق، يا لكاع. فلما كان المذكر معدولاً عما ينصرف عدل إلى ما لا ينصرف ولما كان المؤنث معدولاً عما لا ينصرف عدل إلى ما لا يعرب؛ لأنه ليس بعد ما لا ينصرف إذ كان ناقصاً منه التنوين إلا ما ينزع منه الإعراب؛ لأن الحركة والتنوين حق الأسماء، فإذا أذهب العدل التنوين لعلة أذهب الحركة لعلتين. واختير له الكسر؛ لأنه كان معدولاً عما فيه علامة التأنيث، فعدل إلى مافية تلك العلامة؛ لأن الكسر من علامات التأنيث، ألا ترى أنك تقول للمؤنث: إنك فاعلة، وأنت فعلت، وأنت تفعلين؛ لأن الكسرة من نوع الياء؛ فلذلك ألزمته الكسرة. فإن نكرت شيئاً من هذا أعربته وصرفته، فقلت: رأيت قطام، وقطاماً أخرى. ولو سميت به مذكراً أعربته ولم تصرفه؛ لأنك لا تصرف المذكر إذا سميته بمؤنث على أربعة فصاعداً فإنما هو بمنزلة رجل سميته عقرباً، وعناقاً، تقول: هذا حذام قد جاء، وقطام يا فتى، وهذا حذامٌ آخر. وإنما فعلت ذلك؛ لأنه لم يلزم الكسر للتأنيث، ولو كان للتأنيث لكان هذا في عقرب وعناق، ولكنه للمعنى، فإذا نقلته إلى المذكر زال المانع منه، وجرى مجرى مؤنث سميت به مذكراً مما لم يعدل. وأما بنو تميم فلا يكسرون اسم امرأة، ولكنهم يجرونه مجرى غيره من المؤنث؛ لأنهم لا يذهبون به إلى العدل، والدليل على ذلك أنهم إذا أرادوا العدل قالوا: يا فساق أقبلي ويا خباث أقبلي، لأن هذا لا يكون إلا معدولاً.

وما كان في آخره راءٌ من هذا الباب فإن بني تميم يتبعون فيه لغة أهل الحجاز، وذلك أنهم يريدون إجناح الألف، ولا يكون ذلك إلا والراء مكسورة وهذا مبين في باب الإمالة. فتقول للضبع: هذه جعار فاعلم. وإنما جعار نعت غالب، فصار اسماً للضبع، فمن ذلك قوله:

فقلت لها عيثي جعار وجرري ... بلحم امرئٍ لم يشهد اليوم ناصره

ومنهم من يجري الراء مجرى غيرها، ويمضي على قياسه الأول. فمن ذلك قوله:

ومر دهرٌ على وبار ... فهلكت عنوةً وبار

والقوافي مرفوعة. ومن المعدول: أخر، وسحر، وعدلهما مختلف. فأما أخر فلولا العدل انصرفت؛ لأنها جمع أخرى. فإنما هي بمنزلة الظلم، والنقب، والحفر، ومثلها مما هو على وزنها: الكبرى والكبر، والصغرى والصغر. فباب فعلى في الجمع كباب فعلة نحو: الظلمة والظلم، والغرفة والغرف. وإنما استويا في الجمع؛ لاستواء الوزن، وأن آخر كل واحدٍ منهما علامة التأنيث، فإنما عدلت أخر عن الألف واللام من حيث أذكره لك: وذلك أن أفعل الذي معه من كذا وكذا، لا يكون إلا موصولاً بمن، أو تلحقه الألف واللام، نحو قولك: هذا أفضل منك، وهذا الأفضل، وهذه الفضلى، وهذه الأولى، وهذه الكبرى. فتأنيث الأفعل الفعلى من هذا الباب، فكان حدٌّ آخر أن يكون معه من نحو قولك: جاءني زيدٌ ورجل آخر انما كان اصله آخر منه؛ كما تقول: أكبر منه، وأصغر منه. فلما كان لفظ آخر يغني عن من لما فيه من البيان أنه رجلٌ معه. وكذلك: ضربت رجلاً آخر، قد بينت أنه ليس بالأول استغناءً عن من بمعناه. فكان معدولاً عن الألف واللام خارجاً عن بابه، فكان مؤنثه كذلك فقلت: جاءتني امرأة أخرى، ولا يجوز جاءتني امرأة صغرى ولا كبرى، إلا أن يقول: الصغرى أو الكبرى، أو تقول: أصغر منك أو أكبر، فلما جمعناها فقلنا: أخر كانت معدولة عن الألف واللام؛ فذلك الذي منعها الصرف. قال الله عز وجل: " وأخر متشابهاتٌ " وقال: " فعدةٌ من أيامٍ أخر " . فإن سميت به رجلاً فهي منصرفة في قول الأخفش ومن قال به. لأنه يصرف أحمر إذا كان نكرة اسم رجل؛ لأنه قد زال عنه الوصف، وكان هذا قد زال عنه العدل، وصار بمنزلة أصغر لو يسمى به رجلاً.

وسيبويه يرى أنه على عدله ولكل مذهبٌ قويٌّ يطول الكلام بشرحه، وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله.

فأما سحر فإنه معدول - إذا أردت به يومك - عن الألف واللام؛ فإن أردت سحراً من الأسحار صرفته لأنه غير معدول. ألا ترى أنك تقول: جاءني زيد ليلةً سحراً. وقمت مرةً سحراً، وكل سحرٍ طيب، فهذا منصرف فتقول إذا أردت تعريفه: هذا السحر خيرٌ لك من أول الليل، وجئتك في أعلى السحر وعلى هذا قوله عز وجل: " إلا آل لوطٍ نجيناهم بسحرٍ " . فأما في يومك فإنه غلب عليه التعريف بغير إضافة؛ كما غلب ابن الزبير على واحد من بنيه، وكما غلب الوصف في قولك: النابغة فصار كالاسم اللازم، فلما كان ذلك امتنع من الصرف؛ كما امتنع أخر فقلت: سير عليه سحر يا فتى، ولم يكن متمكناً فترفعه، وتجريه مجرى الأسماء؛ كما تقول: سير عليه يوم الجمعة، وسير عليه يومان، فامتنع من التصرف؛ كما امتنع من الصرف. فإن عنيت الذي هو نكرة صرفته وصرفته. وإن صغرت هذا الذي هو معرفة صرفته؛ لأن فعيلا لا يكون معدولاً، وصار كتصغير عمر؛ لأنه قد خرج من باب العدل، ولكنك لا تصرفه في الرفع، فتقول: سير عليه سحير يا فتى إذا عنيت المعرفة. ولم ينصرف إذا كان مكبراً معدولاً. فإن سميت به رجلاً فلا اختلاف في صرفه. فيقال لسيبويه: ما بالك صرفت هذا اسم رجل، ولم تفعل مثل ذلك في باب أخر؟ فمن حجة من يحتج عنه أن يقول: إن أخر على وزن المعدول، وعدل في باب النكرة، فلما امتنع في النكرة كان في المعرفة أولى. وأما أنا فلا أرى الأمر فيهما إلا واحداً، ينصرفان جميعاً إذا كانا لمذكر، وترجع أخر إذا فارقه العدل إلى باب صرد ونغر.

فأما غدوة فليست من هذا الباب؛ لأنها بنيت اسماً للوقت علماً على خلاف بنائها وهي نكرة. تقول: هذه غداةٌ طيبة، وجئتك غداة يوم الأحد. فإن أردت الوقت بعينه قلت: جئتك اليوم غدوة يا فتى، فهي ترفع وتنصب، ولا تصرف لأنها معرفة.

فأما بكرة ففيها قولان: قال قوم: نصرفها. لأنا إذا أردنا بها يوماً بعينه فهي نكرة؛ لأن لفظها في هذا اليوم وفي غيره واحد. وقال قوم: لا نصرفها؛ لأنها في معنى غدوة؛ كما أنك تجري كلهم مجرى أجمعين فتجريه على المضمر وإن كان كلهم قد يكون اسماً وإن لم يكن جيداً نحو قولك: رأيت كلهم، ومررت بكلهم. ولكن لما أشبهتها في العموم، وأجريت مجراها على المضمر، فقلت: إن قومك في الدار كلهم، كما تقول: أجمعون: وكما فتحت يذر وليس فيها حرف من حروف الحلق؛ لأنها في معنى يدع. وكلا القولين مذهب، والقائل فيها مخير، أعني في جعل بكرة إذا أردت يومك، نكرة إن شئت، ومعرفة إن شئت.

ومن المعدول قولهم: مثنى، وثلاث، ورباع، وكذلك ما بعده. وإن شئت جعلت مكان مثنى ثناء يا فتى حتى يكون على وزن رباع وثلاث. وكذلك أحاد، وإن شئت قلت: موحد؛ كما قلت مثنى. قال الله عز وجل: " أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " وقال عز وجل: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " . قال الشاعر:

منت لك أن تلاقيني المنايا ... أحاد أحاد في شهر حلال

وقال الآخر:

ولكنما أهلي بوادٍ أنيسه ... ذئابٌ تبغى الناس مثنى وموحد

وتأويل العدل في هذا: أنه أراد واحداً واحداً، واثنين اثنين. ألا تراه يقول: " أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " والعدل يوجب التكثير؛ كما أن يا فسق مبالغة في قولك: يا فاسق وكذلك يا لكع، ويا لكاع.

وأما قولهم: الثلاثاء والأربعاء يريدون: الثالث والرابع، فليس بمعدول؛ لأن المعنى واحد، وليس فيه تكثير، ولكنه مشتق بمعنى اليوم كالعديل والعدل، والعديل: ما كان من الناس، والعدل: ما كان من غير ذلك، والمعنى في المعادلة سواء. ألا ترى أن الخميس مصروف فهذان دليلان، وكذلك لزوم الألف واللام لهذه الأيام؛ كما يلزم النجم، والدبران؛ لأنهما معرفة. وقد أبان ذلك الأحد والاثنان؛ لأنه على وجهه. وقد فسرت لك باب العدل لتتناول القياس من قرب، وتميز بعضه من بعض إن شاء الله. ونظير العدل والعديل قولهم: امرأة ثقال، ورزان. وتقول لما ثقل وزنه: ثقيل، ورزين. إنما تريد في المرأة أنها متوقرة لازمة لموضعها؛ فعلى هذا بناؤه إن شاء الله.

هذا باب

الأمثلة التي يمثل بها أوزان الأسماء والأفعال

تقول: كل أفعلٍ في الكلام يكون نعتاً فغير مصروف، وإن كان اسماً انصرف. فإن قال قائل: لم قلت، كل أفعلٍ يكون وصفاً لا ينصرف، وأنت قد صرفت أفعلا هذه التي ذكرت أنها تكون وصفاً؟ قيل له: أفعل ليس وصفاً في الكلام مستعملاً وإنما هو مثال يمثل به. فإنما قلت: إذا كان هذا المثال وصفاً لم ينصرف، ولو كان هذا شيئاً قد علم وصفاً لم تصرفه، ولم تقل: إذا كان وصفاً، ولكن تقول: لأنه وصف؛ كما تقول: كل آدمٍ في الكلام لا ينصرف؛ لأن آدم نعت مفهوم وعلى هذا تقول: كل أفعل في الكلام تريد به الفعل فهو مفتوح؛ لأن أفعلا مثال، وليس بفعل معروف، وموقعه بعد كل وهو مفرد يدلك على أنه اسم. ولكن لو قلت: كل أفعل زيدٌ مفتوح، لم يكن إلا هكذا؛ لأنك قد رفعت به زيدا، فأخلصته فعلا، ووقعت كل عليه؛ لأنه عامل ومعمول فيه، فهو حكاية. ونظير ذلك قولك: هذا رجل أفعل فاعلم؛ فلا تصرف أفعل؛ لأنك وضعته موضع النعت؛ كما وضعت الأول موضع الفعل. هذا قول الخليل وسيبويه.

وكان المازني يقول: هذا رجلٌ أفعلٌ، فيصرف أفعلاً هذا، ويقول: لأنه ليس بنعت معلوم. وأما أفعل زيدٌ فيجعله فعلا؛ لأنه قد رفع زيداً به، وهو مذهب. وقول الخليل وسيبويه أقوى عندنا. فإذا قلت أفعل إذا كان نعتاً لم ينصرف أفعل لأنه معرفة وإنما بدأت به لذلك. فكأنك قلت: هذا البناء إذا كان نعتاً. وتقول: كل فعلانٍ له فعلى لا ينصرف وإن لم تكن له فعلى فمصروف. وإنما صرفت فعلانا هاهنا؛ لأنه ليس بشيءٍ معروف له فعلى والقول فيه القول في الأول وعلى ذلك تقول: فعلان إذا كانت له فعلى لم ينصرف، فلا تصرف فعلان لأنه معرفة؛ كما قلنا فيما قبله. وتقول: كل فعنلًى في الكلام فاصرفه؛ لأن هذا مثال ما ينصرف في النكرة. وكل لا يقع بعدها إلا نكرة، وإنما هو مثال حبنطًى، وسرندًى، وسبندًى، ونحوه. وتقول: كل فعلى في الكلام، وفعلى فلا ينصرف؛ لأن الألف للتأنيث، وإن شئت قلت: كل فعلًى في الكلام وفعلًى يا فتى، فتصرفه، لأن هذا المثال للإلحاق يكون وللتأنيث. وإنما تمنعه ألفه لا معناه، فإن قدرتهما تقدير الملحق انصرفتا، وكانت كمعزًى، وأرطًى. فإن قدرتهما تقدير التأنيث كانتا كدفلى، وتترى تكون للأمرين جميعاً، والأجود التأنيث وتقول: كل فعلى في الكلام لا ينصرف لأن هذا المثال لا يكون إلا للتأنيث وهو باب حبلى، وبهمى. وكذلك كل فعلاء في الكلام لا ينصرف، هذا المثال لا يكون إلا للتأنيث نحو: حمراء، وصحراء. وتقول: كل فعلاء، وفعلاء فمصروف لأنه مثال لا يكون إلا ملحقاً مصروفاً في المعرفة والنكرة. وذلك نحو علباء، وحرباء. وأما فعلاء فنحو قولك: قوباء فاعلم: لأنه ملحق بفسطاط؛ كما أن علباءً ملحق بسرداح. فهذا يبين لك جميع هذه الأمثلة إن شاء الله.

==========

الكتاب : المقتضب

المؤلف : محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى : 285هـ)

الجزء الرابع {ج4 ج4 ج4 }

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا باب

إيضاح الملحقة وتبيين الفصل بينها وبين غيرها

تقول فيما كان على أربعة أحرف كلها أصل، نحو: جعفر، وجلجل، وقمطر، وسبطر، وجرج، ودرهم، وغير ذلك إذا أردت أن تبلغ وزنه ما أصله الثلاثة، فقامت في مثل جعفر: جدول فالواو زائدة ألحقت الثلاثة ببناء الأربعة، فصار جدول في وزن جعفر، وإنما هو من الجدل، فهذه الواو زائدة ألحقته بهذا المثال، فالواو ملحقة.

فإن قلت: عجوز، أو رغيف، أو رسالة فالياء والواو والألف زوائد، ولسن بملحقات؛ لأنهن لم يبلغن بالثلاثة مثالاً من أمثلة الأربعة. فهذا الملحق، وما كان مثله.

وما كان من الزوائد لا يبلغ بالثلاثة مثالاً من أمثلة الأربعة والخمسة، ولا يبلغ الأربعة مثال الخمسة فليس بملحق.

فسرحان ملحق بسرداح، وإنما امتنع من الصرف في المعرفة؛ لأن في آخره الزائدتين اللتين في آخر غضبان، وقد أشبهه من هذه الجهة.

وحبنطىً ملحق بسفرجل بالنون والألف، وإنما منعه من الصرف في المعرفة أن آخره كآخر حبلى في الزيادة، فأشبهها من هذه الجهة، ولكن الزوائد يكن كزوائد حبلى؛ فلذلك لم ينصرف في المعرفة.

فإن قلت: ما بال حرباء، وعلباء، وقوباء ينصرفن في المعرفة والنكرة، والزائدتان في آخر كل واحد منها كالزائدتين في آخر حمراء. هلا ترك صرفهن في المعرفة؛ كما ترك صرف ما ذكرناه من الملحقات؟.

فالفصل بينهما أن الأوائل التي وصفنا، ألفاتها غير منقلبة، وألفات هذه منقلبة من ياءات قد باينت ألفات التأنيث؛ لأن تلك لا تكون إلا منقلبة من شيء. فقد باينتها.

والدليل على ذلك قولهم درحاية، إنما هي فعلاية. فلو ذكرت قلت درحاء كما ترى؛ كقولك: سقاء، وغزاء يا فتى.

ألا ترى أن النحويين لا يجيزون ترخيم رجل في النداء يسمى حبلوىً في قول من قال: يا حار فرفع؛ لأن الذي يقول: يا حار لا يعتد بما ذهب، ويجعله اسماً على حياله.

فإذا رخم حبلوىً لزمه أن يقول: يا حبلى أقبل؛ لأن الواو تنقلب ألفاً لفتحة ما قبلها، ومثال فعلى لا يكون إلا التأنيث، ومحال أن تكون ألف التأنيث منقلبةً، فقد صار مؤنثاً مذكراً في حال؛ فلهذا ذكرت لك أنه محال.

هذا باب

جمع الأسماء المؤنثة بعلامة التأنيث

إذا وقعت لمذكر أو مؤنث، فعلامات التأنيث فيها مقصوراً كان أو ممدوداً فالمقصور؛ نحو سكرى، وغضبى، وحبلى.

والممدود؛ نحو: حمراء، وصفراء، وصحراء.

وما كان بالهاء في الوقف؛ كحمدة، وطلحة.

فما كان من هذا اسماً لامرأة فغير ممتنع من الألف والتاء؛ نحو: حبليات، وسكريات، وحمراوات، وصفراوات؛ تبدل من الألف التي هي طرف واوا؛ كما تفعل في التثنية إذا قلت: حمراوان.

ولو كانت أصلا لكان الأجود أن تبدل منها همزة، كما كان في الواحد قبل أن يثنى، فيكون ما كان منه مبدلا من ياء أو واو، بمنزلة الهمزة الأصلية، فتقول في كساء: كساءان، وفي قراء: قراءان. فالهمزة في قراء أصل، وفي كساء مبدلة، وكذلك سقاء، وما كان مثله يجوز في هذا أجمع بدل الواو.

وأما ما كانت مثل علباء، وحرباء فبدل الواو فيه أجود؛ لأن ألفيه زائدتان، فهما يشبهان ألفى التأنيث من جهة الزيادة.

وأما ما كان مثل غزاء، وسقاء فالإبدال فيه جائز، وليس كجوازه في الأول؛ لأن الهمزتين مبدلتان من ياء أو واو، وهما أصلان.

وأما ما كان مثل قراء، فقد يجوز هذا فيه على قبح؛ لأن الهمزة أصل، وليست بمبدلة من شيء. والأصل في هذا أجمع: انه كل ما كان مذكراً من هذا الباب فالوجه فيه ثبات الهمزة في التثنية. وما كانت ألفاه للتأنيث لم يجز إلا القلب إلى الواو.

وما كانت فيه هاء التأنيث التي وصفنا، فسميت به امرأة، أدخلت عليها في الجمع الألف والتاء، فتقول: حمدات، وطلحات.

أما تحريك وسطه فللفصل بين الاسم والنعت، وهذا يذكر مفسراً في باب التصريف.

وأما حذف التاء التي كانت في الواحد، فلأن الألف والتاء إنما دخلتا في الجمع التأنيث؛ فلا يدخل تأنيث على تأنيث؛ لأن هذه العلامات إنما تدخل في المذكر لتؤنثه، فحذفت التاء التي في حمدة وأخواتها لدخول الألف والتاء اللتين هما علامة الجمع.

فإن سميت رجلاً بشيء فيه ألف التأنيث، فأردت جمعه جمعته بالواو والنون، فقلت في حمراء اسم رجل إذا جمعته: حمراوون، وصفراوون، وفيما كان مثل حبلى: حبلون، وسكرون.

وما كان بالهاء فإنك تجمعه بالألف والتاء، فتقول: طلحاث، وحمدات على ما قلت في المؤنث. وعلى هذا قلت: طلحة الطلحات.

والفصل بينهما أن ما كان فيه ألف التأنيث مقصورةً أو ممدودةً، فهي لازمة له؛ لأنها لم تدخل على بناء مذكر.

فإن قال قائل: كيف يجوز دخول الواو والنون على ما فيه علامة التأنيث، وهما علامتا التذكير، أفيكون مؤنثاً مذكراً في حال؟ قيل له: هذا محال، ولكن الألف لا تثبت، وإنما يثبت ما هو بدل منها.

ألا ترى أنك تقول في جمع حبلى: حبليات. فلو كانت الألف ثابتة لم يدخل عليها علم التأنيث الذي هو للجمع؛ كما لا تقول: حمدتات، ولكنك تبدل من الألف إذا كانت ممدودة واوا، فإنما تدخل علامة التأنيث وعلامة التذكير على شيء لا تأنيث فيه.

فأما طلحة فلو قلت في جمعها طلحتون للزمك أن تكون أنثته وذكرته في حال، وهذا هو المحال.

فإن قلت: أحذف التاء. فإن هذا غير جائز، وإنما جاز في الجمع في المؤنث؛ لأنك لما حذفتها جئت بما قام مقامها في اللفظ. والتأنيث. فعلى هذا يجري جميع ما وصفنا في المذكر والمؤنث.

هذا باب

ما يحكى من الأسماء وما يعرب

فمن الحكاية أن تسمى رجلاً، أو امرأة بشيء قد عمل بعضه في بعض؛ نحو تسميتهم: تأبط شراً، وذرى حباً، وبرق نحره.

فما كان من ذلك فإعرابه في كل موضع أن يسلم على هيئة واحدة؛ لأنه قد عمل بعضه في بعض، فتقول: رأيت تأبط شراً، وجاءني تأبط شراً فمن ذلك قوله:

كذبتم وبيت الله لا تنكحونها ... بنى شاب قرناها تصر وتحلب

وقوله أيضاً:

إن لها مركناً إرزبا ... كأنه جبهة ذرى حبا

وقال الآخر:

وجدنا في كتاب بني تميم ... أحق الخيل بالركض المعار

فلم يجز في هذا إلا الحكاية؛ لأنه لا يدخل عامل على عامل.

ف أحق الخيل رفع بالابتداء، والمعار خبره. فهذا بمنزلة الفعل والفاعل. وعلى هذا ينشد هذا البيت لذي الرمة:

سمعت الناس ينتجعون غيثاً ... فقلت لصيدح: انتجعي بلالا

لأن التأويل: سمعت من يقول: الناس ينتجعون غيثاً؛ فحكى ما قال ذاك، فقال: سمعت هذا الكلام.

وعلى هذا تقول: قرأت: الحمد لله رب العالمين. لا يجوز إلا ذلك؛ لأنه حكى كيف قرأ وكل عامل، ومعمول فيه هذا سبيلهما. وتقول: قرأت على خاتمه: الحمد لله، وقرأت على فصه: زيد منطلق.

وتقول: رأيت على فصه الأسد رابضاً؛ لأنك لم تر هذا مكتوباً، إنما رأيت صورة؛ فأعملت فيها الفعل؛ كما تقول: رأيت الأسد يا فتى.

فأما قوله عز وجل: " قالوا سلاماً قال سلام " فإن المفسرين يقولون في هذا قولين أعني المنصوب.

أما المرفوع فلا اختلاف في أن معناه والله أعلم ، قولي سلام، وأمري سلام كما قال: " طاعة وقول معروف " وكما قال: " وقالوا مجنون وازدجر " على الحكاية.

وأما المنصوب فبإضمار فعل. كأنهم قالوا: سلمنا سلاماً.

وقال بعضهم: لم يكن هذا هو اللفظ، ولكنه معنى ما قالوا: فإنما هو بمنزلة: قلت حقاً. واعلم أن هذه الحكاية لا يجوز أن تثنى وتجمع، ولا تضاف؛ لأنه تزول معانيها باختلاف ألفاظها.

ألا ترى أنك لو رأيت: أحق الخيل بالركض المعار في مكانين مكتوباً لم يجز أن تثنيه؛ كما تقول: رأيت زيدين. فإنما حق هذه الأسماء التأدية.

فإن سميت رجلاً زيد الطويل والطويل خبر قلت: رأيت زيد الطويل، ومررت يزيد الطويل.

فإن جعلت الطويل نعتاً صرفته، فقلت: مررت بزيد الطويل، ورأيت زيدا الطويل، لأن الطويل تابع، وعلى هذا الشرط وقع في التسمية.

وأما حيث كان خبراً فإنه وقع مرفوعاً بالمبتدأ؛ كما كان المبتدأ رفعاً بالابتداء.

ولو سميت رجلاً عاقلة لبيبة لكان الوجه فيه أن تقول: مررت بعاقلة لبيبة، وجاءتني عاقلة لبيبة، لأنك سميت باسمين كلاهما نكرة، فجعلت الثاني تابعاً للأول كحالهما كانت في النكرة.

ولو سميت ب عاقلة وحدها لكان الأحود أن تقول: هذه عاقلة قد جاءت؛ لأنه معرفة، فيصير بمنزلة حمدة غير منصرف، والحكاية تجوز، وليس بالوجه، لأنه على مثال الأسماء.

وأما تضربان إذا سميت به رجلاً قلت فيه: لقيت تضربان، حكيته. ولك أن تثنيه وتنصبه، فتقول: تضربين. ولك أن تلحقه بعثمان، فتقول: كلمني تضربان، فإذا صغرته قلت: تضيربان لا غير.

وشيطان يكون فيعال من الشطن: وهو الحبل الممتد في صلابة، فتصرفه ويكون من شاط يشيط: إذا ذهب باطلاً؛ فلا ينصرف. وإنسان فعلان من الأنس.

وطحان فعال من الطحن، ويكون فعلان من الطح وهو الطحاء وهو الممتد من الأرض.

و عبدون: إذا فتحته لم تجره، وإذا ضممته أجريته ولم تجره، ولك أن تحكيه، فتجعله جمعاً، فيكون الرفع بالواو، وفي النصب بالياء، وفي الأول بالواو لا غير.

وإذا دعوت رجلاً اسمه زيد منطلق قلت: يا زيد منطلق أقبل لا تعمل فيه النداء؛ كما لم تعمل غيره.

وإن سميته ب زيد الطويل فيمن جعل الطويل نعتاً قلت: يا زيد الطويل أقبل. تنصب لطوله؛ كما تنصب عشرين رجلاً. وهذا مفسر في باب النداء.

فإذا سميت رجلاً وزيد وأنت تريد القسم قلت: رأيت وزيد؛ وجاءني وزيد؛ لأن الواو عاملة في زيد فإنما هي بمنزلة الباء. ألا ترى أنك لو سميته بزيد لقلت: جاءني بزيد.

فإن كانت الواو للنسق فإن حكمها أن تقررها على ما كانت عليه قبل أن تحذف الذي قبلها؛ لأنك لا تقول في النسق وزيد إلا وقبله مرفوع، أو منصوب، أو مخفوض فأي ذلك كان فالواو جارية عليه غير مغيرة.

تقول إن كان منصوباً: جاءني وزيداً، ومررت بوزيداً، وكذلك الرفع، والخفض.

باب

الألقاب

إذا لقبت مفرداً بمفرد أضفته إليه، لا يجوز إلا ذلك، فتقول: هذا قيس قفة يا فتى، وهذا سعيد كرز. فإن لقبته بمضاف جرى اللقب على الاسم كالنعت فقلت: هذا زيد وزن سعة، وهذا زيد حارس الدار.

فإن لقبت مضافاً بمفرد أو مضافاً بمضاف فكذلك. تقول: هذا عبد الله وزن سبعة، وهذا عبد الله كرز يا فتى.

وإنما كان هذا كهذا لأن أصل الألقاب أن تجرى على أصل التسمية، وليس حق الرجل أن يسمى باسمين مفردين، ولكن مفرد ومضاف، نحو قولك: زيد أبو فلان، أو بمضافين نحو: عبد الله أبي فلان، فعلى هذا تجري الألقاب والكنية في المفرد كالاسم واللقب كذلك؛ لأن الأسماء التي هي أعلام؛ نحو: زيد وعبد الله إنما هن ألقاب تفصل الواحد من جميع جنسه.

ولوقوع اللقب الواحد على اثنين احتيج إلى الصفات.

ألا ترى أنك تقول: جاءني زيد. فإذا خفت أن يلتبس عليه بزيد آخر تعرفه قلت: الطويل ونحوه؛ لتفصل بينهما.

هذا باب

ما ينتقل بتصغيره

تقول في رجل سميته ب مساجد إذا صغرته : مسيجد، فتصرفه؛ لأنه قد عاد إلى مثل تصغير جعفر.

وكذلك رجل يسمى قناديل تقول: هذا قنيديل فاعلم؛ لأن المانع قد زال عنه.

ولو سميته أجادل، فصغرته لقلت: أجيدل قد جاء لا تصرفه؛ لأنه تصغير أفعل فالمانع للصرف فيه.

فإن قال قائل: إنما منع أفعل من الصرف؛ لأنه على مثال الفعل؛ نحو: أذهب، وأعلم. فإذا قلت: أحيمر، وأحيمد فقد زال عنه شبه الفعل، فما بالك لا ترده إلى الصرف، كما تصرف تتفلا لأن زوائد الفعل المضارع لا تكون مضمومة، وكما تصرف يربوعا، لأن زيادته لا تبلغ به مثال الأفعال؟ قيل له: إنه قد صرف الفعل مصغراً. فكما أشبه أحمر أذهب، أشبه أحيمر قولهم: ما أميلح زيداً، وما أحيسنه، والمانع قائم بعد معه.

فجملة هذا: أنه كل ما صغر، فخرج تصغيره من المانع فهو مصروف، وما كانت العلة قائمةً فيه فترك الصرف له لازم.

ومن هذا الباب ما كانت فيه هاء التأنيث، أو ألف التأنيث الممدودة؛ لأن الحكم أن تصغر، فتقر فيه ما تقر لو لم تكن هاء ولا ألف ممدودة. وتحذف ما تحذف لو لم تكونا فيه؛ ثم يؤتى بهما.

وكذلك الألف والنون الزائدتان، وذلك قولك في خنفساء: خنيفساء يا فتى. صغرت خنفس؛ كما تصغر جعفر، ثم أتيت بالألفين مسلمتين.

وكذلك سفرجلة، تقول: سفيرجة تحذف منها ما تحذف قبل الهاء، ثم تأتى بالهاء بعد؛ لأنها كاسم ضم إلى اسم.

وتقول في زعفران: زعيفران، فلو كنت معتداً بهذه الزوائد كان التصغير محالاً؛ لأنك لا تصغر اسما على خمسة أحرف إلا ما كان رابعه حرف لين، وهذا مبين في باب التصغير. وإنما ذكرنا منه هاهنا ما يدخل في الباب الذي قصدنا له.

هذا باب

الاسمين اللذين يجعلان اسماً واحداً

نحو: حضرموت، وبعلبك، ومعد يكرب

اعلم أن كل اسمين جعلا اسماً واحداً على غير جهة الإضافة فإن حكمهما أن يكون آخر الاسم الأول منهما مفتوحاً، وأن يكون الإعراب في الثاني، فتقول: هذا حضرموت يا فتى، وبعلبك فاعلم وكذلك رامهرمز.

ولا يصرف؛ لأنهما جعلا بمنزلة الاسم الذي فيه هاء التأنيث؛ لأن الهاء ضمت إلى اسم كان مذكراً قبل لحاقها، فترك آخره مفتوحاً؛ نحو: حمدة، وطلحة.

ألا ترى أنك إذا صغرت واحداً من هذين النوعين قلت: حميدة يا فتى، وحضير موت يا فتى، فسلمت الصدر.

والدليل على ما وصفنا صرفك هذين الاسمين في النكرة وهي أصول الأسماء، وعلى هذا يجري الترخيم.

تقول إذا ناديت : يا حضر أقبل؛ كما تقول: يا حمد أقبل.

فأما ما كان من هذه الأسماء منتهى الاسم الأول منه ياءً كقولك: قالي قلا، وأيادي سبا. وبادي بدا، ومعد يكرب فإن الياءات تسكن؛ لأنهن في حشو الأسماء، ولأن حكمها لو كانت حروف الإعراب أن تسكن في موضع الجر والرفع، تقول: هذا قاض فاعلم ومررت بالقاضي فاعلم.

ويضطر الشاعر إلى إسكانها في النصب، فيكون ذلك جائزاً له؛ إذ كانت تسكن في الموضعين؛ نحو قوله:

ردت عليه أقاصيه ولبده ... ضرب الوليدة بالمسحاة في الثأد

وكما قال: سوى مساحيهن تقطيط الحقق وكما قال:

كفى بالنأي من أسماء كاف ... وليس لحبها ما عشت شافى

وهذا كثير جداً. فعلى هذا تقول في الحشو بالإسكان.

تقول: هذا معد يكرب فاعلم، ومررت بمعد يكرب، وفعلت هذا بادي بدا يا فتى، ونزلت قالي قلا.

وإن شئت أضفت في جميع هذا الأول إلى الثاني؛ والأجود ما قدمناه، فقلت: هذا حضرموت، وبعلبك فاعلم.

وينشد هذا البيت لامرئ القيس على وجهين:

لقد أنكرتني بعلبك وأهلها

وبعضهم يقول: بعلبك وأهلها.

وكذلك بيت رؤبة ينشده بعضهم:

أحضرت أهل حضرموت موتا

وبعضهم يقول: حضرموت.

وكذلك بيت جرير ينشده بعضهم:

لقيتم بالجزيرة خيل قيس ... فقلتم مارسرجس لا قتالا

فهذا الأجود. وبعضهم ينشده:

مارسرجس لا قتالا

على الإضافة.

وإنما كان غير الإضافة أجود؛ لأن الإضافة إنما حقها التمليك؛ نحو قولك: هذا غلام زيد، ومولى زيد، فيكون موصولاً بزيد ببعض ما ذكرنا، أو تضيف بعضاً إلى كل؛ نحو قولك: هذا ثوب خز، وخاتم حديد، ونحو ذلك. وأنت إذا قلت: حضرموت فليس حضر شيئاً تضيفه إلى موت على شيء من هذه الجهات.

وإنما صلحت فيه الإضافة على بعد؛ لأنه في وزن المضاف؛ لأنك ضممت اسماً إلى اسم؛ كما تفعل ذلك في الإضافة.

فأما ما منتهى أوائله الياءات في الإضافة فإن حكمه أن تسكن ياءاته في الرفع والخفض؛ كما أن ذلك جائز فيه في غير هذا الموضع، وتسكن الياءات في النصب أيضاً؛ لأنه منقول عن موضع كان يجب هذا فيه؛ كما قلت في جمع أرض: أرضون: فحركت؛ لتدل على أنها تجمع بالألف والتاء، فلزمها الحركة؛ لأنها اسم غير نعت بمنزلة تمرات، وحصيات ونحو ذلك، فتقول: رأيت قالي قلا على هذا.

ولو حرك محرك في الشعر مضطراً لجاز فيه فيمن رأى أن يجعلها اسماً واحد.

أنشد هذا البيت:

سيصبح فوقي أقتم الريش واقفاً ... بقالي قلا أو من وراء دبيل

ومن أضاف، فجعل قلا اسماً لمذكر قال: بقالي قلا أو من وراء دبيل وإن جعل قلا اسماً لمؤنث لم يصرفه، وكان موضعه موضع خفض. وكذلك أيادي سبا إلا أن هذه نكرة. وبادي بدا مثله.

وينشد هذا البيت على وجهين، أما من أضاف فيقول:

فيا لك من دار تحمل أهلها ... أيادي سباً بعدي وطال احتيالها

ومن لم يضف وأراد المعرفة لم ينون. وهذا إذا أريد به المعرفة موضوع في غير موضعه؛ لأن الأول لا يكون إلا نكرة؛ لأنه في موضع حال، وليس من باب قيد الأوابد. فالتنوين عندي واجب، أردت الإضافة أو غيرها؛ لأنه لا يكون إلا حالاً.

وكذلك بادي بدا؛ لأنه في موضع قولك أولاً.

ومنهم من يقول: بادي بد في هذا الموضع، قال أبو نخيلة:

وقد علتني ذرأة بادي بدي ... ورثية تنهض في تشددي

ويروى: كبرة.

باب

نقول في خمسة عشر وما أشبهها

وعمرويه وبابه إن شاء الله.

أما ما كان مثل خمسة عشر مما يلزم فيه ألا يكون معرباً فبناؤه على الفتح.

أما فتح أوله فعلى ما ذكرت لك من أنه ليس منتهى الاسم، وأنه كالدال من حمدة، والحاء من طلحة.

وأما فتح آخره فللبناء، واختير له الفتح؛ لأنه أخف الحركات وهو عربي ضممته إلى عربي.

ومن ذلك شغر بغر يا فتى. إنما معناه: الافتراق. تقول: جاء القوم شغر بغر يا فتى.

وتقول: هو جاري بيت بيت، ولقيته كفة كفة.

وتساقطوا أخول أخول، أي: شيئاً بعد شيء.

فأما خمسة عشر فإن حدها أن تكون خمسةً، وعشرةً، فلما جعلت الاسمين اسماً واحداً حذفت واو العطف مغيراً له من جهته، فألزمته البناء لذلك.

وأما هذه الحروف مثل شغر بغر، وأخول أخول فبتلك المنزلة؛ لأنك جعلت الاسمين اسماً واحداً، ولو أفردت أحدهما من صاحبه لم تؤد المعنى.

وأما بيت بيت، وكفة كفة فكأنك إذا قلت: لقيته كفة كفة قلت: لقيته كفاحاً.

وإذا قلت: هو جاري بيت بيت قلت: هو جاري دنواً، وإن شئت أضفته وهو في هذين الاسمين أجود.

وذلك لأنك تضيف بيتاً إلى بيت فمعنى الإضافة فيه صحيح.

وكذلك كفة كفة إنما هو وجهاً لوجه.

ألا تراك تقول في هذا المعنى: لقيته كفة لكفة، وكفة عن كفة. فما صح معناه فبابه الإضافة. وإن كان على جهة اللام لم يجز إلا الإضافة.

ألا ترى أن قولك: هذا أخو زيد، وغلام زيد إنما هو في المعنى أخ لزيد، وغلام لزيد. وخمسة عشر وبابها إذا سميت بشيء منها رجلاً جاز فيه الأمران.

وكان الأخفش يجيز فيه الإضافة وهو عدد، ويعربه..

فأما الإضافة فجيدة، وأما الإعراب فيه فردئ؛ لأن ما أعرب مضافاً أعرب نكرة، فترك الإعراب له نكرة مخرج له من الإعراب مضافاً.

فأما قوله: خمسة عشر درهماً فلأنه عدد فيه معنى التنوين نحو: عشرين، وما أشبهها.

فإذا قلت: هذه خمسة عشركم ذهب منه معنى التنوين، وصار في الوجهين بمنزلة قولك: هذه عشرون درهماً، وهذه عشروك، وعشرو عبد الله. فهو بالنية هكذا؛ كما تقول: هؤلاء ضوارب زيد إذا أردت الماضي، وإسقاط التنوين من المستقبل، وهؤلاء ضوارب زيداً إذا أردت معنى التنوين.

واعلم أن معد يكرب فيه ثلاثة أقاويل: يقول بعضهم: معد يكرب على الإضافة، ويجعل بعضهم كرب اسماً مؤنثاً فلا يجريه. فيقول: هذا معد يكرب يا فتى.

ويجعله بعضهم اسماً واحداً كما ذكرت لك، فيقول: معد يكرب فاعلم.

وأما قولهم: عمرويه وما كان مثله فهو بمنزلة خمسة عشر في البناء، إلا أن آخره مكسور فأما فتحة أوله فكالفتحة هناك.

وأما كسرة آخره فلأنه أعجمي، فبني على الكسرة، وحط عن حال العربي. وكذلك ما كان مثله في هذا المعنى.

وتثنى وتجمع، فتقول فيه اسم رجل: عمرويهان، وعمرويهون، لأن الهاء ليست للتأنيث، ولو كانت كذلك لكانت في الأصل تاء.

هذا باب

الشيئين المجعولين اسماً واحداً

وأحدهما حرف أو كلاهما

فإذا سميت رجلاً أو شيئاً غيره بحرفين أحدهما مضموم إلى الآخر لم يكن في ذلك إلا الحكاية. تقول في رجل سميته إنما: هذا إنما قد جاء، وكذلك إن سميته لعلما أو لعل وحدها؛ لأن عل ضمت إليها اللام.

وإنما كان هكذا؛ لأن أحد الحرفين ضم إلى الآخر، فإن غيرته ذهب المعنى.

ولو سميته ب إن وحدها أو بعل، أو بحرف غير ذلك واحد لأعربته. وغيرت؛ لأنه بمنزلة الأسماء، إلا أن تريد الحكاية، فإن أردت ذلك جاز، وذلك نحو قولك: هذا إن فاعلم وكذلك عل، وما كان مثله.

فإن سميته إن زيداً فالحكاية، لأن إن بمنزلة الأفعال، فالقول فيها كالقول في تأبط شراً.

ونظير ما قلت لك في الحرف إذا كان مفرداً قوله:

ليت شعري وأين مني ليت ... إن ليتاً وإن لوا عناء

لما جعله اسماً أعربه، ومثله:

ألا يا ليتني والمرء ميت ... وما يغني من الحدثان ليت

فإن سميت رجلاً من زيد وعن زيد فإن أجود ذلك أن تقول: هذا من زيد. وعن زيد، كما تقول: يد زيد.

وإنما كان ذلك هكذا، ولم يكن كالذي قبله؛ لأن هذه الحروف حروف إضافة توصل ما قبلها إلى ما بعدها. تقول: الغلام لزيد؛ كما تقول: غلام زيد، وتقول: مررت بزيد؛ كما تقول: ضربت زيداً، فالباء وما بعدها في موضع نصب.

فأنت لو قلت في من وهي اسم لم تكن إلا معربة، فأضفتها على ذلك، فكان قولك: من زيد بمنزلة قولك في الإفراد: هذا من فاعلم.

وإن أردت الحكاية جاز؛ كما كنت في الأفعال مخيراً. فإن سميته عم في الاستفهام في قولك: عم تسأل؟ ومم أنت؟ فأردت الحكاية جاز. وإن أردت الإعراب قلت: هذا عن ماء، ومن ماء، فأعربت، وأضفت، ومددت ما؛ لأنها اسم متمكن.

ألا ترى أنك لا تسمي بحرفين أحدهما حرف لين؛ لأن التنوين يذهبه؛ فيبقى الاسم على حرف واحد، وقد تقدم قولنا في هذا.

فإن سميت رجلاً أما من قولك: أما زيد فمنطلق كان اسماً بحياله معرباً مقصوراً بمنزلة علقىً، ولا تصرف لأن ألفه للتأنيث. وكذلك إلا بمنزلة دفلى. إذا أردت إلا التي تقع في الاستثناء.

وإن أردت إلا التي تقع في المجازاة، نحو قول الله عز وجل: " إلا تنصروه فقد نصره الله " لم تكن إلا الحكاية لأنها إن ضمت إليها لا.

وكذلك إما التي في الجزاء في مثل قوله عز وجل: " فإما ترين من البشر أحداً " الحكاية لا غير؛ لأنها إن، وما.

ومثل ذلك قولك إما التي في معنى قولك: إما كنت منطلقاً انطلقت. فهذا يفصح لك عن جميع ما يأتي من هذا الباب.

فإن سميت رجلاً بفعل، نحو: ضرب وقتل، ولا فاعل فيه فالإعراب والصرف، وقد تقدم قولنا في هذا.

وإن سميته بهما أو بشيء من الفعل وفيه الفاعل فالحكاية لا غير.

تقول: هذا ضرب قد جاء؛ لأن الفاعل مضمراً بمنزلته مظهراً.

ألا ترى أنك لو سميته قام زيد قلت: هذا قام زيد لا غير. وإن سميته ضرباً والألف ضمير الفاعلين، أو ضربوا على هذا الشرط حكيته. وإن سميته ضرباً، أو ضربوا من قولك: ضربوا إخوتك زيداً، أوضربا أخواك زيداً، فكانت الألف والواو علامةً لا ضميراً قلت: هذا ضربان قد جاء، وهذا ضربون قد جاء، لأن النون في الاثنين والجمع من الأفعال كالضمة في الواحد.

ألا ترى أنك تقول: هذا يضرب يا فتى، وهما يضربان، وهم يضربون. فالنون في مكان الضمة من يضرب.

فإذا قلت: لن تضرب يا فتى قلت: لن تضربا، ولن تضربوا فعلى هذا قلت: ضربا، وضربوا؛ كما قلت في الواحد: ضرب يا فتى.

فلما أدخلت في الواحد الإعراب فقلت: هذا ضرب يا فتى أدخلت في التثنية والجمع النون، إلا أنك تصرفه تصريف رجل سميته رجلين، فيكون نصبه وخفضه بالياء، ورفعه بالألف في التثنية، وبالواو في الجمع، ونفسر هذا في الباب الذي يليه إن شاء الله.

ولو سميته أولو من قوله عز وجل: أولو قوة، أو ذوو من قولك: هؤلاء ذوو مال لقلت: جاءني ألون، وذوون؛ لأن النون نون الجمع، وإنما ذهبت للإضافة.

هذا باب

تسمية الرجال بالتثنية والجمع من الأسماء

إذا سميت رجلاً رجلين فإن أحسن ذلك أن تحكى حاله التي كانت في التثنية فتقول: هذا رجلان قد جاء، ورأيت رجلين. وتقول في هذا البلد: هذا البحران يا فتى، وأتيت البحرين؛ وإنما اخترت ذلك لأن القصد إنما كان في التثنية.

وكذلك إن سميته بقولك مسلمون قلت: هذا مسلمون قد جاء، ومررت بمسلمين. والقول في هذا القول في التثنية.

وكذلك كل ما كان جمعاً بالألف والتاء. تقول: هذا مسلمات، ومررت بمسلمات؛ لأن الألف والتاء في المؤنث، بمنزلة الواو والنون في المذكر.

وإن شئت قلت في التثنية هذا مسلمان قد جاء، فنجعله بمنزلة زعفران. وإنما جاز ذلك؛ لأن التثنية قد زالت عنه، والألف والنون فيه زائدتان، فصار بمنزلة قولك: غضبان، وعطشان، وعريان، وكأن الأول أقيس؛ لأن هذا بني في الأصل على فعلان، وفعلان ونحو ذلك، وهذا نقل عن التثنية.

ومن قال: هذا رجلان فاعلم قال في رجل يسمى بقولك مسلمون: هذا مسلمين فاعلم، فجعل الإعراب في النون؛ كما فعل هناك، ولم يجز أن تقول: هذا رجلين قد جاء، لأن هذا مثال لا تكون الأسماء عليه.

ومثل قولك مسلمين فاعلم غسلين فاعلم، ويبرين، وقنسرين، ونحو ذلك، والأجود ما ذكرت لك. والوجه الآخر يجوز.

ألا ترى أنه يجوز فيه وهو جمع أن تجريه مجرى الواحد، فيصير إعرابه في آخره، فتقول: هذه عشرين فاعلم، وليس بالوجه.

على هذا قال:

وماذا يدري الشعراء مني ... وقد جاوزت حد الأربعين

وجاز ذلك لاختلاف الجمع وأن إعرابه كإعراب الواحد إلا ما كان على حد التثنية. وهو هذا الذي ذكرنا. ولم يجز أن يكون إعراب المثنى كإعراب الواحد؛ لأن التثنية لا تأتي مختلفة، وقد دللنا على هذا في أول الكتاب.

ومن قال: هذا مسلمين كما ترى قال في مسلمات إذا سمي به رجلاً : هذا مسلمات فاعلم، أجراها مجرى الواحد، فلم يصرف، لأن فيها علامة التأنيث، وتقول: مررت بمسلمات يا فتى فلا تنون لأنها لا تصرف، ولا يجوز فتحها؛ لأن الكسرة ها هنا كالياء في مسلمين. وعلى هذا ينشدون بيت امرئ القيس:

تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالى

لأن أذرعات اسم موضع بعينه، والأجود ما بدأنا به من إثبات التنوين في أذرعات ونحوها؛ لأنها بمنزلة النون في مسلمين إذا قلت: هؤلاء مسلمون، ومررت بمسلمين. ومن ذلك قول الله عز وجل " فإذا أفضتم من عرفات " بالتنوين. ونظير هذا قولهم: هذه قنسرون، ويبرون.

فمن ذهب إلى أنها جمع في الأصل، أو شبهها به، فيصيرها جمعاً. وقد تقدم باب الحكاية، والتسمية بالجمع يعتدل فيه الأمران. قد جاء القرآن بهما جميعاً. قال الله عز وجل: " ولا طعام إلا من غسلين " وقال: " كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين، وما أدراك ما عليون " .

فالقياس في جميع هذا ما ذكرت لك.

ومن قال: هذه قنسرون، وهذا مسلمون، فنسب إلى واحد منهما رجلاً أو غيره، قال: مسلمي، وقنسري بحذف الواو، والنون لأنهما زائدتان لمجئ ياء النسب.

ومن قال: قنسرين، ومسلمين فاعلم، وجعل الإعراب في النون قال: قنسريني، ومسلميني فاعلم.

واعلم أن من سمى رجلاً بقولك: رجلان، أو مسلمون، فأجراه مجرى التثنية، والجمع لم يجز أن يثنيه ولا يجمعه، فيقول: هذا مسلمانان، ولا رأيت مسلمينين؛ لأنه يثبت في الاسم رفعان، ونصبان، وخفضان. ولكن من قال: مسلمين فاعلم ومسلمان فاعلم جاز أن يثنيه ويجمعه؛ لأنه الآن بمنزلة زعفران وقنسرين فيمن جعل الإعراب في نونها.

ولكن أذرعات ومسلمات اسم رجل يجوز أن تثنيه، وأن تجمعه؛ لأنه لا يجتمع فيه شيء مما ذكرنا. فتقول: هذان مسلماتان، ورأيت مسلماتين، وهؤلاء مسلمات فاعلم بحذف الألف والتاء اللتين كانتا في الواحد وتثبت مكانها ألفاً، وتاء للجمع، كما فعلت في طلحة حيث قلت: طلحات، فحذفت علم التأنيث من الواحد، وأثبته في الجمع؛ لأنه لا يدخل تأنيث على تأنيث. وهذا محكم في باب الجمع، وليس هذا موضعه، وإنما ذكرنا منه ما احتجنا إليه فيما قصدنا له.

فإذا أردت تثنية قولك مسلمان اسم رجل فيمن حكى، أو مسلمون قلت: هذا ذو مسلمين، وهؤلاء ذوو مسلمين وما أشبهه، مثل أن تقول: كل واحد منهما يسمى مسلمين، أو كل واحد منهما مسلمان حتى تدل عليه بهذا وما أشبهه، كما ذكرت لك من التقاء إعرابين في حرف.

فأما مسلمات فتثنية وتجمعه لأنه لا يلحق شيء مما ذكرنا.

والفعل والفاعل، وجميع الحكايات إذا كانت أسماء لا تثنيها؛ لئلا تنتقض الحكاية، وتزول دلائل المعاني.

هذا باب

تسمية الحروف والكلم

تقول إذا نظرت إلى ميم، أو باء، أو تاء، أو غير ذلك من الحروف، إذا جعلت الميم، وما أشبهها اسماً لحرف قلت: هذا ميم حسن، وهذا باء حسن يا فتى.

وإن جعلتها مؤنثة صلح ذلك فقلت: هذه ميم، وهذه باء. فالذي أومأت إليه مؤنث، والاسم مؤنث قال الشاعر:

كما بينت كاف تلوح وميمها

فأنث، ومن لم يصرف هنداً اسم امرأة لم يصرف شيئاً من هذا إذا جعله اسماً للكلمة معرفةً، وإن أجراه نكرةً على حد مجراه من الكلام صرفه.

ومما جاء في التذكير قوله:

سيناً، وميمين وياءً طاسما

ولم يقل طلسمة.

وإن جعلت الاسم مذكراً، والذي تومئ إليه مؤنثاً على معنى قولك اسم الكلمة قلت: هذه ميم يا فتى، ولا تصرف؛ كما لا تصرف امرأة سميتها زيداً. ومن رأى صرف ذلك صرف هذا. فقد قلنا في ذلك ما يغني عن إعادته.

فأما ما كان من الظروف، والأفعال، والحروف المشبهة بها وغير ذلك من الكلم فنحن ذاكروه إن شاء الله.

وتقول إذا نظرت إلى حذف مكتوبة، فأردت الحرف قلت: هذا حذف فاعلم؛ لأن خلفاً مذكر وتصغيره خليف. ولو كان مؤنثاً لحقته الهاء.

ألا تراها قد لحقت في الظروف ما جاوز الثلاثة للدلالة على التأنيث، فقلت في قدام: قديديمة، وفي وراء: وريئة، وتقديرها: وريعة، كما قال:

قديديمة التجريب والحلم، إنني ... أرى غفلات العيش قبل التجارب

وكما قال:

يوم قديديمة الجوزاء مسموم

فإن أردت بالمكتوبة الكلمة، فجعلت خلفاً اسماً لها لم تصرف إلا في قول من رأى أن يصرف زيداً اسم امرأة.

فإن سميت رجلاً، أو حرفاً كم فالإعراب والصرف، تقول: هذا كم فاعلم، ورأيت كماً.

فأما متى فلا ينصرف اسم كلمة بوجه من الوجوه، وينصرف اسم حرف؛ لأنه مثل جمل وقدم، لا ينصرفان اسمين لامرأتين في قول من الأقاويل البتة.

وحد متى وهذه الظروف كلها أن تكون مذكرات، لأنها أسماء الأمكنة، وأوقات إلا ما دخل عليه منها حرف تأنيث: كالليلة، والساعة، والغداة، والعشية كما قلت لك في قديديمة، ووريئة.

وكذلك ضرب إن رأيته قلت: هذا ضرب مكتوباً فاعلم إذا جعلت المكتوب حرفاً. فإن جعلته اسماً مكتوباً لكلمة لم تصرف.

وضرب لا يكون إلا مذكراً؛ لأن ضرب نعت؛ كما تنعت بضارب. تقول: مررت برجل ضربنا، ويضربنا، كما تقول: مررت برجل ضارب لنا، وضاربنا، وأنت تريد النكرة.

وكذلك ما ضارع الفعل، نحو إن، وليت، ولعل؛ لأنها مضارعة للأفعال التي قد صح تذكيرها. فما جعلته منها اسماً لحرف فمصروف، وما علقته على كلمة فغير مصروف في المعرفة إلا ما كان منها ساكن الوسط، وسميت به مؤنثاً فإنه كزيد سميت به امرأة.

واعلم أن الأفعال والحروف التي جاءت لمعنى، نحو: إن، وليت، ولعل، ولو، ولا حقهن أن يكن معارف لما أذكره لك.

وأما با، وتا، وجميع حروف المعجم فبابهن أن يكن نكرات، وسنفسر ذلك بما يوضح أمره إن شاء الله.

تقول: إن وليت أشياء معروفة. قد عرفت مواضعها، وأثبتت حقائقها، ولهذا امتنعت من دخول حروف التعريف عليها. وذلك أنك إذا رأيت شيئاً منها مكتوباً لم تعبر عنه بالألف واللام وإن كانت أسماء.

وأما حروف المعجم فإنها عبارات تكون نكرة بغير ألف ولام ومعرفة بهما. كقولك: الألف والباء والتاء. وأما في التهجي فقولك: با وتا وقف لا يدخله إعراب؛ لأن التهجي على الوقف. فإن جعلتها أسماء عطفت بعضها على بعض وقلت: ألف، وباء، وتاء تعرب وتمد؛ لأنه لا يكون اسم على حرفين أحدهما حرف لين.

فإن كان شيء من هذا قبل التسمية زدت على الواو واواً وعلى الياء ياءً، وزدت إلى الألف ألفاً، فتحركها، فتصير همزة. تقول إذا سميت رجلاً في: هذا في، ولو: هذا لو فاعلم كما قال:

إن لواً وإن ليتاً عناء

وإن سميته لا قلت: هذا لاء فاعلم، وكذلك باء، وتاء كما قال:

إذا اجتمعوا على ألف وباء ... وتاء هاج بينهم جدال

وكما قال:

رق تبين فيه اللام والألف

هذا باب

ما كان معرفةً بجنسه

لا بواحده ولم جاز أن يكون كذلك

وذلك قولك للأسد: أبو الحارث، وأسامة يا فتى، وللدويبة: أم حبين. وكذلك للثعلب: أبو الحصين. وللذئب: أبو جعدة يا فتى غير مصروف؛ لأنه معرفة.

ومن ذلك قولهم لضرب من الكمأة: بنات أوبر يا فتى. ولضرب من الحيات: ابن قترة ومن هذا قولهم: حمار قبان، وابن عرس وسام أبرص، وابن آوى.

فهذه كلها معارف. فأما ما كان منها مضافاً فقد تبين لك أنه معرفة بترك صرف ما أضيف إليه مما لا ينصرف في المعرفة.

فأما غير ذلك فيبين لك أنها معارف امتناعها من الألف واللام التي للتعريف. فإن قال قائل: كيف صارت معارف واسم الواحد منها يلحق كل من كان مثله؟ فالجواب فيه: أن هذه أشياء ليست مقيمة مع الناس، ولا مما يتخذون ويقتنون، كالخيل والشاء، ونحو ذلك، فيحتاجوا إلى الفصل بين بعضها وبعض، وإنما يريدون أن يفصلوا بين جنس وجنس. ولو كانت مما يقيم معهم لفصلوا بين بعضها وبعض، وكان مجراها كمجرى الناس.

ألا ترى أن ابن مخاض، وابن لبون، وابن ماء نكرات، وأنك إذا أردت أن تعرف شيئاً منها أدخلت فيما أضفت إليه ألفاً ولاماً، فقلت: هذا ابن اللبون، ونحو ذلك، لتعرف شيئاً من شيء؛ كما تفعل في الخيل، والكلاب، ونحوها.

قال جرير:

وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس

وقال أيضاً:

وجدنا نهشلاً فضلت فقيماً ... كفضل ابن المخاض على الفصيل

وقال:

مفدمةً قزاً كأن رقابها ... رقاب بنات الماء أفزعها الرعد

وقال:

وردت اعتسافاً والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماء محلق

فجعل محلق نعتاً له لأنه نكرة.

وهذا يفتح لك ما يرد عليك من هذا الباب، فتقدير قولك للأسد: هذا أسامة يا فتى، أي: هذا الضرب الذي سمعت به أو رأيته من السباع. وكذلك قولك للضبع: أم عامر يا فتى، وهذه حضاجر، وهذه قثام يا فتى، وهذه جعار، وهذه جيأل.

وللذكر: هذا قثم؛ كما تقول: يا فسق، ويا فساق.

واعلم أنك إذا قلت جاءني عثمان، وعثمان آخر، فجعلته نكرة قلت في هذا أجمع مثل ذلك. قلت: هذا قثم، وقثم آخر؛ كما تقول: هذه جيأل، وجيأل أخرى. فأما قوله:

ولقد جنيتك أكمؤا، وعساقلاً ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

فإن دخول الألف واللام على وجهين: أحدهما: أن يكون دخولهما كدخولهما في الفضل والعباس على ما وصفت لك؛ لأن أوبر نعت نكرة في الأصل.

والآخر: على قولك: هذا ابن عرس آخر تجعله نكرة؛ كما تقول: هذا زيد من الزيدين، أي: هذا واحد ممن له هذا الاسم. فأنت وإن كنت لم تذكر قبله شيئاً تقول بعده آخر فإنما أردت ضرباً مما يقع له هذا الاسم، كما قال:

باعد أم العمر من أسيرها

هذا باب

المفعول الذي لا يذكر فاعله

وهو رفع، نحو قولك: ضرب زيد، وظلم عبد الله. وإنما كان رفعا، وحد المفعول أن يكون نصباً؛ لأنك حذفت الفاعل. ولا بد لكل فعل من فاعل؛ لأنه لا يكون فعل ولا فاعل، فقد صار الفعل والفاعل بمنزلة شيء واحد؛ إذ كان لا يستغني كل واحد منهما عن صاحبه؛ كالابتداء والخبر.

والفعل قد يقع مستغنياً عن المفعول البتة حتى لا يكون فيه مضمراً، ولا مظهراً. وذلك نحو قولك: تكلم زيد، وقعد عمرو، وجلس خالد، وما أشبهه من الأفعال غير المتعدية، ولا يكون مثل هذا في الفاعل. فلما لم يكن للفعل من الفاعل بد، وكنت هاهنا قد حذفته أقمت المفعول مقامه، ليصبح الفعل بما قام مقام فاعله.

فإن جئت بمفعول آخر بعد هذا المفعول الذي قام مقام الفاعل فهو منصوب؛ كما يجب في المفعول. وذلك قولك: أعطي زيد درهماً، وكسي أخوك ثوباً، وظن عبد الله أخاك.

وتقول: ظننت زيداً، فالتاء هاهنا في موضعها إذا كانت فاعلة؛ نحو: ضربت زيداً، وكذلك ظنني زيد. إذا كان ضميرك مفعولاً؛ كقولك: ضربني زيد.

وتقول: زيد ظن منطلقاً، فضمير زيد فاعل في ظن؛ كما تقول: زيد ضرب عمراً، فتضمر زيداً في ضرب.

وتقول: رفع إلى زيد درهم، فيرفع درهم، لأنك جررت زيداً، فقام الدرهم مقام الفاعل. فإن أظهرت زيداً غير مجرور قلت: أعطي زيد درهماً، وكسي زيد ثوباً. فهذا الكلام الجيد.

وقد يجوز أن تقول: أعطي زيداً درهم، وكسي زيداً ثوب. لما كان الدرهم والثوب مفعولين كزيد جاز أن تقيمهما مقام الفاعل، وتنصب زيداً؛ لأنه مفعول. فهذا مجاز والأول الوجه. ومن قال هذا قال: أدخل القبر زيداً، وألبست الجبة أخاك.

فإن قال قائل: هل يجوز على هذا ضرب زيداً سوط؟ قيل له: لا يجوز ذلك؛ وذلك أن السوط إذا قلت: ضربت زيداً سوطاً مصدر، ومعناه ضربت زيداً ضربةً بالسوط.

ويدلك على ذلك قولك: ضربت زيداً مائة سوط. لست تعني أنك ضربته بمائة سوط، ولكنك تعني أنك ضربته مائة ضربة بسوط، أو بأكثر من ذلك من هذا الجنس.

وأنت إذا قلت: أعطيت زيداً مائة درهم، أو كسوته ثوبين فإنما أوصلت إليه هذا القدر بعينه من الدراهم، والثياب؛ فلذلك لم يجز أن تقيم المصدر مقام الفاعل إذا كان معه مفعول على الحقيقة، ولكنه قد يجوز أن تقيم المصادر، والظروف من الأمكنة والأزمنة مقام الفاعل إذا دخل المفعول من حروف الجر ما يمنعه أن يقوم مقام الفاعل، وذلك نحو قولك: سير بزيد سير شديد، وضرب بزيد عشرون سوطاً. المعنى: بسبب زيد، ومن أجله، وسير بزيد يوم الجمعة، واختلف به شهران، ومضى به فرسخان، ومشي به ميلان. أقمت هذه الأشياء مقام الفاعل، وقد يجوز نصبها في هذا الموضع وإن كان المفعول مجروراً على ما أصف لك.

فمن ذلك أنك إذا قلت: سير بزبد فرسخاً أضمرت السير؛ لأن سير يدل على السير، فلم تحتج إلى ذكره معه؛ كما تقول: من كذب كان شراً له، تريد: كان الكذب شراً له، فلم تذكر الكذب؛ لأن كذب قد دل عليه.

ونظيره قول الله عز وجل: " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً " فلم يذكر البخل لذكره يبخلون.

وجاز أن يكون المضمر الطريق. فكأنه قال: سير عليه الطريق فرسخاً، فحذف لعلم المخاطب بما يعنى.

وجائز أن تقيم المجرور مع المصدر والظروف مقام الفاعل، فتقول: سير يزيد فرسخاً، فلا يمنعه حرف الجر من أن يكون فاعلاً؛ كما قال: ما من أحد، ف أحد فاعل وإن كان مجروراً بمن. وكذلك قوله: " أن ينزل عليكم من خير من ربكم " إنما هو خير من ربكم. ف من لم تغير المعنى وإن غيرت اللفظ. فهذا الذي ذكرته مشبه بذلك في هذا الموضع إذا نصبت المصادر والظروف على مواضعها، فلم تجعلها مفعولات على السعة. فإن جعلتها مفعولات على السعة فالوجه فيها الرفع، لشغلك الأسماء بحروف الجر.

واعلم أنك إذا قلت: سير يزيد سيراً فالوجه النصب؛ لأنك لم تفد بقولك: سيراً شيئاً لم يكن في سير أكثر من التوكيد.

فإن وصفته فقلت: سيراً شديداً، أو هيناً فالوجه الرفع؛ لأنك لما نعته قربته من الأسماء، وحدثت به فائدة لم تكن في سير.

والظروف بهذه المنزلة. لو قلت: سير يزيد مكاناً أو يوماً لكان الوجه النصب.

فإن قلت: يوم كذا، أو يوماً طيباً، أو مكاناً بعيداً اختير الرفع لما ذكرت لك.

واعلم أن التقديم والتأخير، والإظهار والإضمار في هذا الباب، مثله في الفاعل. يجوز فيه ما جاز في ذلك.

تقول: أعطي زيد درهماً، وأعطي درهماً زيد، ودرهماً أعطي زيد، وزيد أعطي درهماً. تجريه مجرى ذلك الباب.

وتقول: سير بالمعطي درهمين فرسخان. أقمت الضمير الذي في المعطى مقام الفاعل، ونصبت الدرهمين، وجررت المعطى بالباء فارتفع الفرسخان.

وتقول: أعطي المسير به فرسخان درهمين. رفعت الفرسخين لقولك به.

وتقول: أعطي المسير فرسخين درهمين، قام الضمير في المسير مقام الفاعل، فنصبت الفرسخين.

وتقول: دفع المسير به فرسخان درهمان، لأنك أدخلت على كل واحد منهما حرف الجر.

وتقول: ظن المعطي درهمين قائماً.

وتقول: أخذ من المعطي أخوه درهماً دينار لأنك أدخلت من على المعطي فقام الدينار مقام الفاعل.

وتقول: ذهب بالمسلوب ثوبه مرتين يومان، إذا أقمت الثوب مقام الفاعل. فإن جعلت في المسلوب ضميراً يقوم مقام الفاعل نصبت الثوب وسائر الكلام على حاله. فإن ثنيت على المسألة الأولى قلت: ذهب بالمسلوب ثوباهما مرتين يومان.

وعلى المسألة الثانية تقول: ذهب بالمسلوبين ثوبيهما، وبالمسلوبين ثيابهم، وبالمسلوبة ثوبها، والمسلوبات ثيابهن.

وعلى القول الأول بالمسلوب ثوبها. ففي دليل على ما يرد عليك إن شاء الله.

ويجوز منه وجه ثالث، وهو أن تضمر في المسلوب اسماً، وتجعل الثوب بدلاً منه فتقول: مررت بالمسلوب ثوبه، وبالمسلوبين ثوباهما، وبالمسلوبين أثوابهم؛ لأنك لو قلت: سلب زيد ثوبه جاز رفع الثوب على البدل من زيد، وجاز نصبه على أنه مفعول ثان.

وتقول: أدخل المدخل الدار السجن. تقديرها: الذي أدخل الدار أدخل السجن. فإن أردت أن تدخل حرف الجر لم تقل أدخل، ولكن تقول: دخل بالمدخول به الدار السجن، ودخل بالمدخول الدار السجن، وأدخل المدخول به الدار السجن؛ لأن المدخول قام مقام الفاعل.

وتقول: دخل بالمدخول الدار السجن، فهذا على غير ذلك المعنى ولكن ليس هذا موضعه ولكن ذكرنا منه شيئاً لنصله بما قبله، ثم تذكره في موضعه مبيناً إن شاء الله.

فمعنى المدخول الدار: الذي دخلت داره؛ كما تقول المضروب الوجه، أي: الذي ضرب وجهه.

ويجوز نصب الدار في قول من قال: الحسن الوجه، وتفسيره في ذلك الموضع.

وتقول: قيل في زيد خير، وعلم من زيد خير، وسير بزيد فرسخان، وسير به يومان، وسير به سير شديد، على ما فسرت لك من تصيير المصادر والظروف مفعولات.

ويجوز نصب هذا إذا جعلت المصادر والظروف في مواضعها، ولم تحمل شيئاً منها على المفعول به، وقد بينا تفسير هذا فيما مضى.

ولو قلت: ضرب هند، وشتم جاريتك لم يصلح حتى تقول: ضربت هند، وشتمت جاريتك؛ لأن هنداً، والجارية مؤنثات على الحقيقة، فلا بد من علامة التأنيث.

ولو كان مؤنث الاسم، لا معنى لتأنيث، ولا تذكير تحته، كالدار والنار وما كان غير ذلك مما ليست له حقيقة التأنيث لجاز أن تذكر الفعل إن شئت فتقول: أطفئ نارك. وجئ نساؤك؛ لأن هذا إنما هو تأنيث الجمع؛ كما قال الله جل ثناؤه: " وقال نسوة في المدينة " وقال " فمن جاءه موعظة من ربه " ، " أخذ الذين ظلموا الصيحة " .

وتقول في قول من قال: أدخل القبر زيداً، وأعطي درهم عمراً، وما أشبهه: أدخل المدخله السجن الدار. تقيم الدار والسجن مقام الفاعل.

وكذلك تقول: ظن المعطاه درهم زيداً، وحسب المكسوته جبة أخاك.

نقول في مسائل طوال يمتحن بها المتعلمون

علم المدخل المدخله السجن زيد أخوه غلامه المظنون الآخذ دراهمه زيد. نصبت المدخله بالمدخل، ونصبت السجن؛ لأنه مفعول، ورفعت زيداً بأنه أدخله، ورفعت أخاه بالابتداء، وجعلت غلامه خبره، وهما جميعاً في موضع المفعول الثاني لعلم والمظنون صفة للغلام، وفيه ضميره، والآخذ المفعول الثاني لمظنون وهو منصوب، وزيد هو الفاعل الذي أخذ، والدراهم منصوبة بالآخذ.

وتقول: أعطي المأخوذ منه درهمان المعطاة الآخذ من زيد ديناراً درهماً.

رفعت المأخوذ بالمعطى، ورفعت الدرهمان لأنك شغلت الضمير بمن والمعطاه هو المفعول الثاني لأعطى، وهو درهم فكأنك قلت: الدرهم المعطاه الآخذ من زيد، فقام الآخذ من زيد مقام الفاعل؛ لأن المضير مفعول ثان، ودرهماً بدل من المعطاه.

تقول: جعل للمعطى أخوه درهمين لعمرو ديناران. تقديره: جعل لعمرو ديناران الذي أعطى أخوه درهمين.

ولو قلت: الدرهمين ظن المعطى منطلقاً كان محالاً، سواء إذا أردت: ظن المعطى درهمين منطلقاً؛ لأن الدرهمين من صلة المعطى، فإذا قدمتها فقد بدأت بالصلة قبل الموصول، وإنما هو تمام اسمه فكأنك جعلت دال زيد قبل يائه، أو يائه من قبل زايه.

وتقول: جعل الشارب الشاربه ماءك لبنك شرابك؛ لأن المعنى: جعل الشراب الذي شرب الرجل الذي شرب ماءك لبنك؛ أي: جعل هذا الشيء الذي شرب ماءك الشارب لبنك، و شرابك بدل من قولك لبنك؛ لأن اللبن هو المفعول الثاني في جعل.

هذا باب

من إعمال الأول والثاني

وهما الفعلان اللذان يعطف أحدهما على الآخر وذلك قولك: ضربت وضربني زيد، ومررت ومر بي عبد الله، وجلست وجلس إلي أخواك، وقمت وقام إلي قومك.

فهذا اللفظ. هو الذي يختاره البصريون، وهو إعمال الفعل الآخر في اللفظ.

وأما في المعنى فقد يعلم السامع أن الأول قد عمل؛ كما عمل الثاني، فحذف لعلم المخاطب، ونظير ذلك في الحذف قول الله عز وجل: " والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات " ، فقد يعلم المخاطبون أن الذاكرات متعديات في المعنى، وكذلك الحافظات؛ لأن المعنى: والحافظاتها، والذاكراته.

وقال الشاعر: فحذف أكثر من هذا:

نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف

أراد: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راض، فاجتزأ بخبر الواحد عن الجميع. وإنما اختاروا إعمال الآخر؛ لأنه أقرب من الأول. ألا ترى أن الوجه أن تقول: خشنت بصدرك، وصدر زيد، فتعمل الباء؛ لأنها أقرب.

وقد حملهم قرب العامل على أن قال بعضهم: هذا جحر ضب خرب، وإنما الصفة للجحر. فكيف بما يصح معناه؟ ولو أعملت الأول كان جائزاً حسناً.

فمما جاء من إعمال الآخر في الشعر قول الفرزدق:

وإن حراماً أن أسب مقاعساً ... بآبائي الشم الكرام الخضارم

ولك نصفاًً لو سببت وسبني ... بنو عبد شمس من مناف وهاشم

وقال الآخر:

ولقد نرى تغنى به سيفانة ... تصبي الحليم ومثلها أصباه

وقال:

وكمتاً مدماةً كأن متونها ... جرى فوقها واستشعرت لون مذهب

ومن أعمل الأول قال: ضربت وضربني زيداً، وضربت، وضرباني أخويك، لأنه أراد ضربت زيداً وضربني، وضربت أخويك وضرباني.

وعلى هذا تقول: مررت، ومر بي بزيد، وقصدت. وقصد إلي إلى زيد تريد: قصدت إلى زيد، وقصد إلى، ومررت بزيد، ومر بي.

ومن ذلك قول الشاعر:

فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال

فجعل القليل كافياً لو طلبه أو سعى له، وإنما المطلوب في الحقيقة الملك، وعليه معنى الشعر.

وقال آخر:

فرد على الفؤاد هوىً عميداً ... وسوئل لو يبين لنا السؤالا

وقد نغنى بها ونرى عصوراً ... بها يقتدينا الخرد الخدالا

معناه: ونرى الخرد الخدال يقتدننا. ولو أراد إعمال الآخر لقال: بها يقتادنا الخرد الخدال.

فقد بينت لك أصل هذا الباب، وسنزيد من المسائل ما يزداد به وضوحاً إن شاء الله.

تقول إذا سئلت كيف تقول: قام وقعد أخواك على إعمال الأول؟ فإن الجواب: قام وقعدا أخواك. أردت قام أخواك وقعدا.

فإن أعملت الثاني قلت: قاما، وقعد أخواك.

فإن قيل لك: ما بالك أضمرت في قاما الأخوين من قبل أن تذكرهما، والإضمار لا يكون قبل المذكور؟ فإنما جاز الإضمار هاهنا من قبل أن الأخوين ارتفعا بقعد، فخلا قام من الفاعل، ومحال أن يخلو فعل من فاعل، فأضمرت فيه ليصح الفعل على ما ذكرت لك من اتصال الفعل بالفاعل، وأضمر على شريطة التفسير، وتفسير المضمر أخواك، وما يضمر على شريطة التفسير أكثر من ذلك، وسنذكره في أبوابه إن شاء الله.

إن كان المبدوء به مفعولاً لم تضمره، لأن المفعول يستغني الفعل عنه كما ذكرت لك.

فمن ذلك ضربت فأوجعته زيداً. إذا أعملت الأول، لأنك أردت: ضربت زيداً فأوجعته.

فإن أعملت الثاني قلت: ضربت فأوجعت زيداً؛ لأنك أردت ضربت زيداً، فأوجعت زيداً، فلم تضمر الهاء في ضربت؛ ولولا أن الفعل لا بد له من الفاعل ما أضمرت في المسألة الأولى.

وتقول: ضرباني وضربت أخويك، إذا عملت الآخر على ما شرحت لك، وضربوني وضربت قومك.

فإن أعملت الأول قلت: ضربني، وضربتهما أخواك، وضربني وضربتهم قومك.

وتقول: ظننت زيداً منطلقاً، فتعديه إلى مفعولين، وكذلك جميع بابه، من علمت وحسبت وما أشبهه، فإذا عطفت شيئاً من هذه الأفعال قلت في إعمال الأول: ظن، أو علم إياه زيد منطلقاً؛ لأنك أردت: ظن زيد منطلقاً، أو علم إياه. فإياه ضمير منطلق وفي علم ضمير الذي يقوم مقام الفاعل مرفوع.

وإن شئت قلت: أو علمه. تجعل الهاء مكان إياه في هذا الباب.

وتقول: ظننت، أو قلت: زيد منطلق، إذا أعملت الآخر؛ لأن قلت إنما يقع بعدها الحكاية إذا كانت جملة؛ نحو الابتداء والخبر، وما أشبه ذلك.

فإن أعملت الأول قلت: ظننت، أو قلت هو هو زيداً منطلقاً تجعل هو ابتداء، وخبره هو الثاني، وهما ضمير زيد منطلق، إلا أنك رفعتهما؛ لأنهما بعد قلت، فصارت حكاية.

ألا ترى أنك تقول: قال زيد: عمرو أخوك، وقلت: قام عبد الله. ولو كان فعل لا يقع بعده الحكاية لم يجز أن يكون إلى جانب قام.

لو قلت: ضربت قام زيد، وما أشبهه لم يجز في معنى ولا لفظ.

نحو ذلك قول الله عز وجل: " إلا ما قالوا ساحر أو مجنون " وقال: " أم يقولون شاعر نتربص به و " وقالوا مجنون وازدجر " فهذا كله على الحكاية، والابتداء هو ولكنها محذوفة في القرآن لعلم المخاطب.

أما قوله: " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً " فإنما انتصب؛ لأنه مصدر عمل فيه فعله لا القول. والمعنى والله أعلم : وقالوا: سلمنا سلاماً، وتفسيره: تسلمنا منكم تسلماً، وبرئنا براءة؛ لأنهم لم يؤمروا أن يسلموا على المشركين إذ ذاك، والآية مكية. ونظيرها: لا تكن من فلان إلا سلاماً بسلام، أي: متاركاً مبارئاً.

ولو قلت: قلت حقاً، أو قال زيد باطلاً لأعملت القول؛ لأنك لم تحك شيئاً. إنما أعملت القول في ترجمة كلامه.

ألا ترى أنه إذا قال: لا إله إلا الله. قيل له: قلت حقاً، وهو لم يلفظ. بالحاء والقاف. إنما هذا معنى ما قال.

ومثل ذلك قول الله " إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً " .

هذا باب

إعراب ما يعرب من الأفعال

وذكر عواملها والإخبار عما بني منها

اعلم أن الأفعال أدوات للأسماء تعمل فيها؛ كما تعمل فيها الحروف الناصبة والجارة، وإن كانت الأفعال أقوى في ذلك.

وكان حدها ألا يعرب شيء منها؛ لأن الإعراب لا يكون إلا بعامل. فإذا جعلت لها عوامل تعمل فيها لزمك أن تجعل لعواملها عوامل، وكذلك لعوامل عواملها إلى ما لا نهاية. فهذا كان حدها في الأصل.

والأفعال ثلاثة أضرب: فضرب منها يعرب لعلة سأذكرها لك أوجبت له الإعراب. وضربان لا يعربان. بل يجريان على ما يجب في الفعل قبل أن تلحق النوع الثالث العلة التي أوجبت له الإعراب.

فأما ما كان ماضياً من الفعل فنحو: ضرب يا فتى، وذهب، وانطلق، وحمد، ومكث وما كان معناه فعل من غير هذه الأبنية فهذا النوع مبني على الفتح.

والضرب الثاني: وهو المعرب: ما لحقته في أوله زائدة من الزوائد الأربع: الهمزة، والياء، والنون، والتاء. وذلك قولك: أفعل أنا، وتفعل أنت أو هي، ونفعل نحن، ويفعل هو.

وإنما أعربت هذه الأفعال بعد أن كان حدها على ما وصفت لك؛ لمضارعتها الأسماء. ومعنى المضارعة: أنها تقع في مواقعها، وتؤدي معانيها. فمن ذلك قولك: زيد يضرب. فيجوز أن تريد أنه يضرب فيما يستقبل، ولم يقع منه ضرب في حال خبرك؛ كما تقول: زيد ضارب الساعة، وضارب غداً. قال الله عز وجل: " وإن ربك ليحكم بينهم " ؛ أي: حاكم، فدخلتها اللام على معنى دخولها في الاسم.

والأسماء تكون معرفة ونكرة. وهذه الأفعال المعربة تقع لا يعرف وقتها ما كان منه في الحال، وما يكون منه لما يستقبل. فإن أدخلت على الأسماء الألف واللام صارت معرفة. وإن أدخلت على هذه الأفعال السين أو سوف صارت لما يستقبل، وخرجت من معنى الحال، وذلك قولك: سأضرب، وسوف أضرب؛ فلما وقعت موقع الأسماء في المعنى، ودخلت عليها الزوائد للفصل؛ كما دخلت الزوائد على الأسماء أعربتها كما تعرب الأسماء. وغيرها من الأفعال لا علة فيه مما يوجب له الإعراب.

والنوع الثالث من الأفعال: ما كان يقع من الأمر للشاهد المخاطب؛ نحو: اضرب، واذهب، وانطلق. فهذا مبني على الوقف. وكذلك كل فعل كان في معنى افعل من غير هذه الأبنية.

فإن قلت: ما بالك بنيت هذا على الوقف، وبنيت ما كان معناه فعل على الفتح، هلا حركت ذاك وأسكنت ذاك؟

فالفصل بينهما: أنك إذا قلت: ضرب وما أشبهها، فقد تصف بها الأسماء؛ كما تصف بالمضارعة، نحو قولك: مررت برجل ضربنا.

وتقع موقع المضارعة في الجزاء، نحو قولك: من أتاني أتيته، وإن أعطيتني أكرمتك. فقد وقع في موقع: من يأتيني آته، وإن تعطني أكرمك.

فلما ضارعت المضارعة بنيت على الحركة، وجعلت لها مزية على ما لم يقع هذا الموقع.

ألا ترى أن كل ما كان معناه افعل لم يوصف به، ولم يقع في موقع المضارعة. فلما لم يجاوز لم يزد على السكون. وسنبين ما يبنى على الحركة لتصرفه، وما يلزمه السكون لامتناعه من التصرف في موضع المبنيات إن شاء الله.

فإعراب المضارع الرفع، والنصب، والجزم: فالرفع بضمة حرف الإعراب، والنصب بفتحته، والجزم يحذف الحركة منه.

وذلك قولك في الرفع: هو يذهب يا فتى، وفي النصب: لن يذهب، وفي الجزم: لم يذهب.

فإذا ثنيت الفاعل في الفعل المضارع ألحقته ألفاً ونوناً في الرفع، ولم تكن هذه الألف كالألف في تثنية الاسم لأنها علامة للإضمار والتثنية، والنون علامة الرفع.

فإذا أردت جزمه حذفت هذه النون، والنصب داخل هنا على الجزم؛ كما دخل في تثنية الاسم على الجر؛ لأن الجزم في الفعل نظير الجر في الاسم. وكانت النون مكسورة كحالها في الاسم، والعلة واحدة فيهما.

وذلك قولك: هما يضربان، وفي الجزم: لم يضربا، والنصب: لن يضربا.

فإن جمعت الاسم في الفعل ألحقته واواً ونوناً في الرفع، وكانت الواو علامة الإضمار والجمع، كالألف في التثنية. وكانت النون مفتوحة كحالها في الاسم.

فإن أردت جزمه حذفت النون، وكان النصب كالجزم؛ كما كان النصب كالجر في جمع الأسماء.

وذلك قولك في الرفع: هم يضربون، وفي الجزم: لم يضربوا، وفي النصب: لن يضربوا.

وكذلك المؤنث الواحدة في المخاطبة. تقول: أنت تضربين، أثبت النون في الرفع، وحذفتها في الجزم والنصب؛ كما وصفت لك من اجتماعهما في المعنى. وفتحت النون لأنها بمنزلة الأسماء المجموعة في النصب، والجر نحو: مسلمين، والعلة واحدة.

فإن جمعت المؤنث ألحقت لعلامة الجزم نوناً فقلت: أنتن تفعلن، وهن يفعلن. فتخت هذه النون؛ لأنها نون جمع، ولم تحذفها في الجزم والنصب؛ لأنها علامة إضمار وجمع.

ألا ترى أنك لو قلت: يفعل في الجزم لزالت علامة الجمع، وصار كالواحد المذكر.

ولو قلت في التثنية، أو جمع المذكر: لم يقوموا، ولم يقوما لعلم بالألف وبالواو المعنى، ولم تحتج إلى النون.

فهذه الأفعال مرفوعة لمضارعتها الأسماء، ووقوعها مواقعها، ولها عوامل تعمل فيها؛ كما كان ذلك للأسماء.

فمن عواملها التي تنصبها أن و لن و كي، واللام المكسورة وحتى و أو و إذن، وما كان من الجواب بالفاء والواو فإنه يذكر في موضعه، وكذلك إذن، وحتى.

فأما أن و لن وكي و إذن فيعملن فيها. وأما سائر ما ذكرنا فإنما ينتصب ما بعدها من الأفعال بإضمار أن، وسنفسر ما وقع فيه الضمير بتمثيله وحججه في موضعه إن شاء الله.

وأما ما يجزمها فلم، ولما، ولام الأمر؛ نحو: ليقم زيد، و لا في النفي، نحو: لا يقم زيد، وحروف المجازاة، وما صار معناه إليها من جواب الأمر، والنهي، والاستفهام، ونحو ذلك. فهذا ما يجزمها وينصبها.

تقول: أردت أن تقوم يا فتى، وأن تقوما، وأن تقوموا، وأن تقومي يا امرأة، ولن تضربا، وجئتك كي تضرب زيداً.

وفي الجزم لم يقم، ولم يقوما، ولم تقومي يا امرأة، وليقم عبد الله، ولا يقعد زيد. إذا أردت الأمر والنهي.

هذا باب

الفعل المتعدي إلى مفعول

واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد

وذلك الفعل: كان، وصار، وأصبح، وأمسى، وظل، وبات، وأضحى، وما دام، وما زال، وليس، وما كان في معناهن.

وهذه أفعال صحيحة كضرب، ولكنا أفردنا لها باباً، إذ كان فاعلها ومفعولها يرجعان إلى معنىً واحد.

وذلك أنك إذا قلت: كان عبد الله أخاك. فالأخ هو عبد الله في المعنى. وإنما مجاز هذه الأفعال، ومجاز الأفعال التي تقع للعلم والشك، وباب إن مجاز الابتداء والخبر.

وذلك أنك تقول: ظننت زيداً أخاك، فإنما أدخلت ظن على قولك. زيد أخوك، وكذلك علمت، وحسبت، وجميع هذا الباب. وكذلك قولك: إن زيداً منطلق، ولكن عبد الله أخوك.

وكان بهذه المنزلة، إنما أدخلت على قولك: زيد منطلق؛ لتوجب أن هذا فيما مضى. والأصل الابتداء والخبر، ثم تلحقها معان بهذه الحروف.

وكان فعل منصرف يتقدم مفعوله ويتأخر، ويكون معرفةً ونكرة. أي ذلك فعلت صلح. وذلك قولك: كان زيد أخاك، وكان أخاك زيد، وأخاك كان زيد، وكذلك جميع بابها في المعرفة والنكرة.

وتقول: كان القائم في الدار عبد الله، وكان الذي ضرب أخاه أخاك، وكذلك: ليس منطلقاً زيد.

فإن قال قائل: أما كان فقد علم أنها فعل بقولك: كان، ويكون وهو كائن، وكذلك أصبح، وأمسى، وليس لا يوجد فيها هذا التصرف، فمن أين قلتم إنها فعل؟ قيل له: ليس كل فعل متصرفاً. وإنما علينا أن نوجدك أنها فعل بالدليل الذي لا يوجد مثله إلا في الأفعال، ثم نوجدك العلة التي منعتها من التصرف.

أما الدليل على أنها فعل فوقوع الضمير الذي لا يكون إلا في الأفعال فيها، نحو: لست منطلقاً، ولست، ولستما، ولستم، ولستن، وليست أمة الله ذاهبة كقولك: ضربوا، وضربا، وضربت. فهذا وجه تصرفها.

وأما امتناعها من التصرف فإنك إذا قلت: ضرب، وكان دللت على ما مضى، فإذا قلت: يضرب ويكون دللت على ما هو فيه، وما لم يقع.

وأنت إذا قلت: ليس زيد قائماً غدا، أو الآن أردت ذلك المعنى الذي في يكون فلما كانت تدل على ما يدل عليه المضارع استغنى عن المضارع فيها، ولذلك لم يبن بناء الأفعال من بنات الياء مثل باع وسنذكر علتها مع أخواتها في الفعل الذي لا يتصرف نحو نعم، وبئس في باب التصريف. وإنما هذا موضع جمل، ثم نذكر بعده المسائل.

اعلم أنه إذا اجتمع في هذا الباب معرفة ونكرة فالذي يجعل اسم كان المعرفة؛ لأن المعنى على ذلك؛ لأنه بمنزلة الابتداء والخبر كما وصفت لك.

ألا ترى أنك لو قلت: كان رجل قائماً، وكان إنسان ظريفاً لم تفد بهذا معنىً، لأن هذا مما يعلم الناس أنه قد كان، وأنه مما يكون، وإنما وضع الخبر للفائدة.

فإذا قلت: كان عبد الله، فقد ألقيت إلى السامع اسماً يعرفه، فهو يتوقع ما تخبره عنه. وكذلك لو قربت النكرة من المعرفة بما تحملها من الأوصاف لجاز أن تخبر عنها، وكان فيها حينئذ فائدة؛ نحو قولك: كان رجل من بني فلان فارساً، وكان رجل من أهل البصرة شجاعاً. وذلك لأن هذا يجوز ألا يكون، أو يكون فلا يعلم. فلذلك ذكرنا أن الاسم المعروف هو الذي له هذا الموضع.

تقول: كان منطلقاً عبد الله، وكان منطلقاً اليوم عبد الله وكان أخاك صاحبنا، وزيد كان قائماً غلامه.

وكذلك أخوات كان فمن ذلك قول الله عز وجل: " وكان حقاً علينا نصر المؤمنين " وقال: " أكان للناس عجباً أن أوحينا " ؛ لأن قوله: " أن أوحينا " إنما هو وحينا.

فإن كان الاسم والخبر معرفتين فأنت فيها بالخيار، تقول: كان أخوك المنطلق، وكان أخاك المنطلق.

وتقول: من كان أخاك؟ إذا كانت من مرفوعة، ومن كان أخوك؟ إذا كانت من منصوبة. وكذلك من ضرب أخاك، ومن ضرب أخوك؟ والآيات كلها تقرأ على هذا " فما كان جواب قومه إلا أن قالوا " و " ما كان حجتهم إلا أن قالوا " كأنه قولهم. وإن شئت رفعت الأول.

وهذا البيت ينشد على وجهين:

فقد شهدت قيس فما كان نصرها ... قتيبة إلا عضها بالأباهم

فإن قلت: فقد تقول في النفي: ما كان أحد مثلك، وما كان أحد مجترئاً عليك، فقد خبرت عن النكرة.

فإنما جاز ذلك لأن أحداً في موضع الناس، فإنما أردت أن تعلمه أنه ليس في الناس واحد فما فوقه يجترئ عليه، فقد صار فيه معنىً بما دخله من هذا العموم.

ومن ذلك قول الله عز وجل: " ولم يكن له كفواً أحد " فلم يكن الخبر إلا نكرة كما وصفت لك.

وقال الراجز:

لتقربن قرباً جلذياً ... ما دام فيهن فصيل حيا

فقد أفادك معنىً بقوله فيهن. ولو حذف فيهن لكان هاهنا معنى آخر، وهو معنى الأبد كقولك: لا أكلمك ما طار طائر.

واعلم أن الشعراء يضطرون، فيجعلون الاسم نكرة، والخبر معرفة. وإنما حملهم على ذلك معرفتهم أن الاسم والخبر يرجعان إلى شيء واحد. فمن ذلك قول حسان بن ثابت:

كأن سلافة من بيت راس ... يكون مزاجها عسل وماء

وكان المازني يروي: يكون مزاجها عسلاً وماء. يريد: وفيه ماء.

قال الفرزدق:

أسكران كان ابن المراغة إذ هجا ... تميماً بجوف الشام أم متساكر

وقال القطامي:

قفي قبل التفرق يا ضباعاً ... ولا يك موقف منك الوداعا

وقال خداش بن زهير:

فإنك لا تبالي بعد حول ... أظبي كان أمك أم حمار

وكان موضع آخر لا يحتاج فيه إلى الخبر. ولك قولك: أنا أعرفه مذ كان زيد، أي: مذ خلق. وتقول: قد كان الأمر، أي وقع. فمن ذلك قول الله عز وجل: " إلا أن تكون تجارة حاضرة " فيمن رقع. قال الشاعر:

فدىً لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب

وكذلك أصبح، وأمسى: تكون مرة بمنزلة كان التي لها خبر. ومرة تكون بمنزلة استيقظ، ونام فإنما هي أفعال. وقد يكون لفظ الفعل واحداً وله معنيان أو ثلاثة معان، فمن ذلك: وجدت عليه، من من الموجدة، ووجدت تريد: وجدت الضالة، ويكون من وجدت في معنى علمت. وذلك قولك: وجدت زيداً كريماً.

وكذلك رأيت: تكون من رؤية العين، وتكون من العلم كقوله عز وجل: " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل " .

وقال الشاعر:

رأيت الله أكبر كل شيء ... محافظةً وأكثرهم جنودا

وهذا التصرف في الأفعال أكثر من أن يحصى، ولكن يؤتى منه ببعض ما يستدل به على سائره إن شاء الله.

هذا باب

مسائل كان وأخواتها

تقول: كان القائم إليه أخوه أخاك. وإن شئت نصبت الأول ورفعت الثاني. وتقول: كان ثوبك المزينه علمه عبد الله معجباً. وتقول: كان غلامه زيد ضارباً. فهو على وجه خطأ، وعلى وجه صواب: فأما الوجه الفاسد فأن تجعل زيداً مرتفعاً بكان، وتجعل الغلام منتصباً بضارب. فتكون قد فصلت بين كان وبين اسمها وخبرها بالغلام، وليس هو لها باسم ولا خبر، نما هو مفعول مفعولها. وكذلك لو قلت: كانت زيداً الحمى تأخذ.

والوجه الذي يصح فيه أن تضمر في كان الخبر أو الحديث، أو ما أشبهه على شريطة التفسير، ويكون ما بعده تفسيراً له. فيكون مثل الهاء التي تظهر في إن إلا أنه ضمير مرفوع، فلا يظهر، فيصير الذي بعده مرفوعاً بالابتداء والخبر. فتقول على صحة المسألة: كان غلامه زيد ضارب. فما جاء من الضمير في هذا الباب قوله:

فأصبحوا والنوى عالى معرسهم ... وليس كل النوى يلقى المساكين

أضمر في ليس.

وقال الآخر:

هي الشفاء لدائي إن ظفرت بها ... وليس منها شفاء الداء مبذول

وقال الفرزدق:

قنافذ هداجون حول بيوتهم ... بما كان إياهم عطية عودا

فهذا وجه ما ذكرت لك.

وتقول: الكائن أخاه غلامك كان زيداً يضرب؛ كما تقول: عمرو كان زيداً يضرب.

ولو قلت: غلامه كان زيد يضرب كان جيداً أن تنصب الغلام بيضرب؛ لأنه كل ما جاز أن يتقدم من الأخبار جاز تقديم مفعوله.

وكذلك لو قلت: غلامه كان زيد ضرب لكان جيداً؛ لأن كان بمنزلة ضرب. ألا ترى أنك تقول: ضارباً أخاك ضربت، ورجلاً قائماً أكرمت. فهذا بمنزلة ذلك، ولو رفعت الغلام لكان غير جائز، لأنه إضمار قبل الذكر.

فإن قال قائل: فأنت إذا نصبت فقد ذكرته قبل الاسم.

قيل له: إذا قدم ومعناه التأخير فإنما تقديره والنية فيه أن يكون مؤخراً. فإذا كان في موضعه لم يجز أن ينوى به غير موضعه.

ألا ترى أنك تقول: ضرب غلامه زيد؛ لأن الغلام في المعنى مؤخر، والفاعل في الحقيقة قبل المفعول.

ولو قلت: ضرب غلامه زيداً كان محالاً؛ لأن الغلام في موضعه. لا يجوز أن ينوى به غير ذلك الموضع.

وعلى هذا المعنى تقول: في بيته يؤتى الحكم، لأن الظرف حده أن يكون بعد الفاعل.

وما لم يسم فاعله بمنزلة الفاعل، وعلى هذا تقول: ضربته زيد، وفي داره عبد الله؛ لأن هذا إخبار، وحد المبتدأ أن يكون قبلهما.

وحد الظرف أن يكون بعد المفعول به، ومن ثمة جاز: لقيت في داره زيد.

قال الشاعر:

إن تلق يوماً على علاته هرماً ... تلق السماحة منه والندى خلقا

ولو قلت: كان الكائن أخواه قائمين منطلقاً أبواه كان جيداً. أفردت الانطلاق بأبويه.

ويجوز في هذه المسألة: كان الكائن أخواه قائمان منطلقاً أبواه. إذا جعلت اسمه مستكناً في الكائن، ف أخواه قائمان وإن كان ابتداء وخبراً فموضعهما خبر، كأنك قلت؛ كان الكائن هو أخواه قائمان منطلقاً أبواه. يكون في الكائن اسمها. ولو قلت: منطلقان أبواه جاز؛ لأنك أردت: كان هذا الرجل أبواه منطلقان، فجعلت المنطلقين خبراً مقدماً.

وتقول: كان زيد هو العاقل. تجعل هو ابتداء، والعاقل خبره. وإن شئت قلت: كان زيد هو العاقل يا فتى، فتجعل هو زائدة. فكأنك قلت: كان زيد العاقل.

وإنما يكون هو، وهما، وهم، وما أشبه ذلك زوائد بين المعرفتين، أو بين المعرفة وما قاربها من النكرات؛ نحو: خير منه، وما أشبهه مما لا تدخله الألف واللام.

وإنما زيدت في هذا الموضع؛ لأنها معرفة، فلا يجوز أن تؤكد إلا المعرفة.

ولا تكون زائدة إلا بين اسمين لا يستغني أحدهما عن الآخر؛ نحو اسم كان وخبرها، أو مفعول ظننت وعلمت وما أشبه ذلك، والابتداء والخبر، وباب إن.

فمما جاء من توكيدها في القرآن قوله: " وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين " وقال: " إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين " وقال: " تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً " وقد يجوز أن تكون هذه التي بعد تجدوه صفة للهاء المضمرة، وسنذكرها في موضع صفات المضمر مشروحاً إن شاء الله.

وقرأ بعضهم: " ولكن كانوا هم الظالمون " جعل هم ابتداء والظالمون خبره.

وينشد هذا البيت لقيس بن ذريح:

تبكي على ليلى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملا أنت أقدر

والقوافي مرفوعة.

ولو قلت: كان زيد أنت خير منه، أو: كان زيد أنت صاحبه لم يجز إلا الرفع، لأن أنت لو حذفته فسد الكلام. وفي المسائل الأول يصلح الكلام بحذف هؤلاء الزوائد.

أما قراءة أهل المدينة " هؤلاء بناتي هن أطهر لكم " فهو لحن فاحش، وإنما هي قراءة ابن مروان، ولم يكن له علم بالعربية.

وإنما فسد؛ لأن الأول غير محتاج إلى الثاني.

ألا ترى أنك تقول: هؤلاء بناتي، فيستغنى الكلام، وفيما تقدم إنما تأتي قبل الاستغناء لتوكيد المعرفتين وتدل على ما يجئ بعدها.

هذا باب

الأحرف الخمسة المشبهة بالأفعال

وهي: إن، وأن، ولكن، وكأن، وليت، ولعل.

وإن وأن مجازهما واحد؛ فلذلك عددناهما حرفاً واحداً. والفرق بينهما يقع في باب مفرد لهما إن شاء الله.

ف إن إنما معناها الابتداء؛ لأنك إذا قلت: إن زيداً منطلق كان بمنزلة قولك: زيد منطلق في المعنى، وإن غيرت اللفظ. وكذلك لكن، ولكنهما دخلتا لما أخبرك به.

أما إن فتكون صلة للقسم؛ لأنك لا تقول: والله زيد منطلق؛ لانقطاع المحلوف عليه من القسم. فإن قلت: والله إن زيداً منطلق اتصل بالقسم، وصارت إن بمنزلة اللام التي تدخل في قولك: والله لزيد خير منك.

ولكن للاستدراك وإن كانت ثقيلةً عاملة بمنزلتها، وهي مخففة كما كرت لك في باب العطف. وإنما يستدرك بها بعد النفي، نحو قولك: ما جاءني زيد لكن عمرو. ويقول القائل: ما ذهب زيد، فتقول: لكن عمراً قد ذهب.

ويجوز في الثقيلة والخفيفة أن يستدرك بهما بعد الإيجاب ما كان مستغنياً، نحو قولك: جاء زيد، فأقول: لكن عمراً لم يأت، وتكلم عمرو لكن خالد سكت.

فأما الخفيفة إذا كانت عاطفة اسماً على اسم لم يجز أن يستدرك بها إلا بعد النفي. لا يجوز أن تقول: جاءني عمرو لكن زيد، ولكن: ما جاءني عمرو لكن زيد. فإن عطفت بها جملة وهي الكلام المستغنى جاز أن يكون لك بعد الإيجاب؛ كما ذكرت لك. تقول: قد جاءني زيد لكن عمرو لم يأتني.

وأما كأن فمعناها التشبيه: تقول: كأن زيداً عمرو، وكأن أخاك الأسد.

ولعل معناها التوقع لمرجو أو مخوف، نحو: لعل زيداً يأتني، ولعل العدو يدركنا وليت. معناها: التمني؛ نحو: ليت زيداً أتانا.

فهذه الحروف مشبهة بالأفعال. وإنما أشبهتها؛ لأنها لا تقع إلا على الأسماء، وفيها المعاني من الترجي، والتمني، والتشبيه التي عباراتها الأفعال، وهي في القوة دون الأفعال؛ ولذلك بنيت أواخرها على الفتح كبناء الواجب الماضي.

وهي تنصب الأسماء، وترفع الأخبار، فتشبه من الفعل ما قدم مفعوله؛ نحو: ضرب زيداً عمرو.

ولا يجوز فيها التقديم والتأخير؛ لأنها لا تتصرف. فيكون منها يفعل، ولا ما يكون في الفعل من الأمثلة، والمصادر؛ فلذلك لزمت طريقةً؛ إذ لم تبلغ أن تكون في القوة كما شبهت به. وذلك قولك: إن زيداً منطلق، وإن أخاك قائم، وكأن القائم أخوك، وليت عبد الله صاحبك.

فإن اجتمعت في هذه الحروف معرفة، ونكرة فالذي يختار أن يكون منهما اسمها المعرفة؛ لأنها دخلت على الابتداء والخبر، وقصتها قصة كان في ذلك.

فأما التقديم والتأخير، نحو: إن منطلق زيداً فلا يجوز؛ لأنها حرف جامد. لا تقول فيه: فعل، ولا فاعل؛ كما كنت تقول في كان: يكون، وهو كائن، وغير هذا من الأمثلة. ولكن إن كان الذي يليها ظرفاً فكان خبراً، أو غير خبر جاز. وذلك: إن في الدار زيداً، وإن في الدار زيداً قائم. وإنما جاز ذلك لأن الظروف ليس مما تعمل فيه إن لوقوع غيرها فيه.

ون قال قائل فقل: إن يقوم زيداً؛ لأن يقوم ليس مما تعمل فيه إن فإن هذا محال من وجهين: أحدهما: أن إن مشبهة بالفعل، فلا يجوز أن تلي الفعل؛ كما لا يلي فعل فعلا، وليس فيها ضمير فيكون بمنزلة: كاد يقوم زيد؛ لأن في كاد ضميراً حائلً بينها وبين الفعل.

والجهة الأخرى: أن يقوم في موضع قائم، فلا يجوز أن يفصل بها بين إن واسمها؛ كما لا يجوز أن يفصل بقائم.

فإن قال قائل: فقل: إن قام زيداً. قيل له: هذا أبعد، وذاك أن موضع الإخبار إنما هو للأسماء؛ لأن الخبر إنما هو الابتداء في المعنى.

وإنما دخلت قام هاهنا كما دخلت على الصفات في مثل قولك: مررت برجل قائم، ومررت برجل صالح. فتقول: مررت برجل قام، وبرجل صلح.

وتقول: إن زيداً الظريف عاقل. فإن حذفت عاقلاً رفعت الظريف، وذلك أن الخبر لا بد منه، وله وضع الكلام والصفة تبين، وتركها جائز.

وتقول: إن زيداً منطلق وعمراً، وإن شئت: وعمرو.

فأما الرفع فمن وجهين، والنصب من وجه واحد، وهو أن تعطفه على الاسم المنصوب؛ كما قال:

إن الربيع الجود والخريفا ... يدا أبي العباس والصيوفا

وهذا على وجه الكلام، ومجراه؛ لأنك إذا عطفت شيئاً على شيء كان مثله. وأحد وجهي الرفع وهو الأجود منهما : أن تحمله على موضع إن؛ لأن موضعها الابتداء. فإذا قلت: إن زيداً منطلق، فمعناه: زيد منطلق.

ومثل إن في هذا الباب لكن الثقيلة. ونظير ذلك قولك: ليس زيد بقائم ولا قاعداً، على الموضع. ومثله: خشنت بصدره وصدر زيد.

وعلى هذا قراءة من قرأ " فأصدق وأكن من الصالحين " حمله على موضع الفاء، ولم يحمله على ما عملت فيه.

وقرئت هذه الآية على وجهين: " إن الله برئ من المشركين ورسوله " بالنصب، والرفع في الرسول. ومثل ما يحمل على الموضع قوله:

معاوي إننا بشر فأسجع ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا

وقال الآخر:

ألا حي ندماني عمير بن عامر ... إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدا

والوجه الآخر في الرفع إن زيداً منطلق، وعمرو: أن يكون محمولاً على المضمر في منطلق. وهذا أبعد الوجهين، إلا أن تؤكده فيكون وجهاً جيداً مختاراً؛ نحو: إن زيدا منطلق هو وعمرو.

وتقول: إن زيداً منطلق الظريف، وإن زيداً يقوم العاقل. الرفع والنصب فيما بعد الخبر جائزان. فالرفع من وجهين: أحدهما: أن تجعله بدلاً من المضمر في الخبر.

والوجه الآخر: أن تحمله على قطع وابتداء.

والنصب من وجهين: أحدهما: أن تتبعه زيداً.

والآخر: أن تنصبه بفعل مضمر على جهة المدح. وهذا الفعل يذكر إضماره في موضعه إن شاء الله.

والآية تقرأ على وجهين: " قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب " بالنصب والرفع.

فأما كأن وليت ولعل إذا قلت: كأن زيداً منطلق وعمرو، وليت زيداً يقوم وعبد الله فكل ما كان جائزاً في إن ولكن من رفع أو نصب فهو جائز في هذه الأحرف إلا الحمل على موضع الابتداء. فإن هذه الحروف خارجة من معنى الابتداء؛ لأنك إذا قلت: ليت، فإنما تتمنى، وكأن للتشبيه، ولعل للتوقع. فقد زال الابتداء، ولم يجز الحمل عليه.

هذا باب

من مسائل كان وإن في الجمع والتفرقة

تقول: إن القائم أبوه منطلقة جاريته. نصبت القائم ب إن، ورفعت الأب بفعله وهو القياس، ورفعت منطلقة لأنها خبر إن، ورفعت الجارية بالانطلاق. ويجوز أن تكون الجارية مرفوعة بالابتداء، وخبرها منطلقة. فيكون التقدير: إن القائم أبوه جاريته منطلقة، إلا أنك قدمت وأخرت.

فإن جعلت المسألة في باب كان قلت على القول الأول: كان القائم أبوه منطلقة جاريته. وعلى القول الثاني: منطلقة جاريته؛ لأنك تريد: كان القائم أبوه جاريته منطلقة.

وتقول: إن القائم وأخوه قاعد. فترفع الأخ بعطفك إياه على المضمر في قائم فهذا جائز. والوجه إذا أردت أن تعطفه على مضمر مرفوع : أن تؤكد ذلك المضمر فتقول: إن القائم هو وأخوه قاعد. وإنما قلت قاعد لأن الأخ لم يدخل في إن. وإنما دخل في صلة القائم فصار بمنزلة قولك: إن الذي قام مع أخيه قاعد.

ونظير هذا ذلك قولك: إن المتروك هو وأخوه مريضين صحيح، وغن المختصم هو وزيد جالس.

ولو أردت أن تدخل في إن الأخ لقلت: إن المتروك مريضاً وأخاه صحيحان. وإن المخاصم عمراً، وأخاه قائمان.

فعلى هذا تلخيص هذه المسائل. وإنما حالها في كان وإن. في الاحتياج والاستغناء، حال الابتداء.

ونقول: إن زيداً كان منطلقاً. نصبت زيداً بإن. وجعلت ضميره في. كان. وكان وما عملت فيه في موضع خبر إن.

وإن شئت رفعت منطلقاً. فيكون رفعه على وجهين: أحدهما: أن تجعل كان زائدة مؤكدة للكلام؛ نحو قول العرب: ولدت فاطمة بنة الخرشب الكملة من بني عبس لم يوجد كان مثلهم، على إلغاء كان. ومثله قول الفرزدق:

فكيف إذا رأيت ديار قوم ... وجيران لنا كانوا كرام

والقوافي مجرورة. وتأويل هذا سقوط كان على وجيران لنا كرام في قول النحويين أجمعين.

وهو عندي على خلاف ما قالوا من إلغاء كان. وذلك أن خبر كان لنا، فتقديره: وجيران كرام كانوا لنا.

وقوله: " كيف تكلم من كان في المهد صبياً " ، إنما معنى كان هاهنا التوكيد. فكأن التقدير والله أعلم: كيف نكلم من هو في المهد صبيا. ونصب صبياً على الحال. ولولا ذلك لم يكن عيسى بائناً من الناس، ولا دل الكلام على أنه تكلم في المهد؛ لأنك تقول للرجل: كان فلان في المهد صبياً. فهذا ما لا ينفك منه أحد أنه قد كان كذا ثم انتقل، وإنما المعنى: كيف نكلمه وهو الساعة كذا.

والوجه الآخر في جواز الرفع في قولك: إن زيداً كان منطلق على أن تضمر المفعول في كان وهو قبيح كأنك قلت: إن زيداً كأنه منطلق. وقبحه من وجهين: أحدهما: حذف هذه الهاء. كقولك: إن زيداً ضرب عمرو. وليس هذا من مواضع حذفها، وسنذكر ما حذفها فيه أحسن من إثباتها، وما يجوز من الحذف وليس بالوجه، في موضعه إن شاء الله.

وقبحها من الجهة الأخرى: أنك تجعل منطلقاً هو الاسم وهو نكرة، وتجعل الخبر الضمير وهو معرفة، فلو كان: إن زيداً كان أخوك كان أسهل، وهو مع ذلك قبيح لحذف الهاء.

فأما قولهم: كأنني أخوك، وكنت زيداً فمحال إن أردت به، الأنتقال وأنت تعني أخاه في النسب. ولكن لو قلت: كنت أخاك، أي: صديقك، وأنا اليوم عدوك، وكنت زيداً، وأنا الساعة عمرو، أي: غيرت اسمي كان جائزاً.

وجائز أن تقول: كنت أخاك وإن كان أخاه الساعة، تريد أن تعلمه ما كان، ولا تخبر عن وقته الذي هو فيه لعلم المخاطب ذاك، ولأن للقائل إذا كانت الأخبار حقاً أن يخبر عنها بما أراد، ويترك غيره. فمن ذلك قول الله " وكان الله غفوراً رحيماً " و " كان الله سميعاً عليماً " . فقول النحويين والمفسرين في هذا واحد، إن معناه والله أعلم : أنه خبرنا بمثل ما يعرف من فضله، وطوله، ورحمته، وغفرانه، وأنه علام الغيوب قبل أن تكون. فعلمنا ذلك، ودلنا عليه بهذا وغيره.

ومثل ذلك قوله: " والأمر يومئذ لله " ونحن نعلم أن الأمر أبداً لله.

وتقول: كان القائم القاعد أبواه إليه منطلقة جاريته. رفعت القائم ب كان، ورفعت القاعد بالقائم، ورفعت أبويه بالقاعد، ولولا قولك إليه لم تجز المسألة؛ وذلك أن تقديرها: كان الذي قام الرجل الذي قعد إليه أبواه. فلا بد من ضميرين يرجع أحدهما إلى الألف واللام في قاعد، والآخر إلى الألف واللام في القائم.

وتقول: إن الراغب فيه أبواه كان زيداً. وإن زيداً كان الراغب فيه أبواه ضاربه. ولو قلت: كان عبد الله زيد يضربه جعلت أيهما شئت فاعلا.

ولو قلت: كان عبد الله زيد ضاربه، فجعلت الضارب زيداً كان جيداً. فإن جعلت الضارب عبد الله قلت: ضاربه هو؛ لأن ضارباً اسم، فإذا جرى صفة أو حالاً أو خبراً لغير من هو له فلا بد من إظهار الفاعل والخبر فيه.

والفعل يحتمل أن يجري على غير من هو له؛ لما يدخله من الضمير المبين عمن هو له. ألا ترى أنك تقول: زيد تكرمه فيكون جيداً، ولو قلت: زيد مكرمه، فتضعه في موضع تكرمه لم يجز حتى تقول: أنت وكذلك: عبد الله زائره أنا. وتفسير هذا، وإجراء المسائل مستقصى في باب الابتداء إن شاء الله.

وتقول: إن أفضلهم الضارب أخاه كان زيداً. بنصب الضارب، ففي هذا وجوه: إن شئت أجريتها على هذا اللفظ، فجعلت الضارب نصباً صفة، وجعلت كان وما عملت فيه الخبر.

وإن شئت رفعت الضارب، فجعلته خبراً، وجعلت زيداً بدلاً منه فرفعته، وجعلت كان زائدة على ما كنت شرحت لك.

وإن شئت رفعت زيداً على هذه الشريطة، وجعلته هو الضارب للأخ، وكأنك قلت: إن أفضلهم الذي ضرب أخاه زيد.

وإن شئت رفعت الأخ، ونصبت زيداً، وترفع الضارب.

ولو قلت: إن أفضلهم الضارب أخاه كان زيداً. ترفع الضارب على أن تجعل كان صفة للأخ لم يجز؛ لأن الأخ معرفة، والأفعال مع فاعليها جمل، وإنما تكون الجمل صفات للنكرة، وحالات للمعرفة؛ لأن يفعل إنما هو مضارع فاعل، فهو نكرة مثله. ألا ترى أنك تقول: مررت برجل يضرب زيداً؛ كما تقول: مررت برجل ضارب زيدا.

وتقول: مررت بعبد الله يبني داره، فيصير يبني في موضع نصب لأنه حال؛ كما تقول: مررت بعبد الله بانياً داره.

ولكن لو قلت في هذه المسألة: إن أفضلهم الضارب أخا له، كان جيداً أن تصفه ب كان إذا جعلته نكرة.

فإن قلت: فأجر كان بعد المعرفة، وأجعلها حالاً لها فإن ذلك قبيح، وهو على قبحه جائز في قول الأخفش، وإنما قبحه أن الحال لما أنت فيه، وفعل لما مضى، فلا يقع في معنى الحال.

ألا ترى أنك إذا قلت: مررت برجل يأكل قلت على هذا: مررت بزيد يأكل، فكان معناه: مررت بزيد آكلاً.

وإذا قلت: أكل فليس يجوز أن تخبر بها عن الحال؛ كما تقول: هو يأكل، أي هو في حال أكل. فلما لم يجز أن يقع وهو على معناه في موضع الحال امتنع في هذا الموضع.

وقد أجاز قوم أن يضعوا فعل في موضعها. كما تقول: إن ضربتني ضربتك، والمعنى: إن تضربني أضربك.

وهذا التشبيه بعيد؛ لأن الحروف إذا دخلت حدثت معها معان تزيل الأفعال عن مواضعها.

ألا ترى أنك تقول: زيد يضرب غدا، فإذا أدخلت لم قلت لم يضرب أمس، فبدخول لم صارت يضرب في معنى الماضي. وتأولوا هذه الآية من القرآن على هذا القول، وهي قوله: " أو جاءوكم حصرت صدورهم " .

وليس الأمر عندنا كما قالوا. ولكن مخرجها والله أعلم إذا قرئت كذا الدعاء؛ كما تقول: لعنوا قطعت أيديهم. وهو من الله إيجاب عليهم.

فأما القراءة الصحيحة فإنما هي " أو جاءوكم حصرةً صدورهم " .

ومثل هذا من الجمل قولك: مررت برجل أبوه منطلق، ولو وضعت في موضع رجل معرفة لكانت الجملة في موضع حال. فعلى هذا تجري الجمل.

وإذا كان في الثانية ما يرجع إلى الأول جاز ألا تعلقه به بحرف عطف، وإن علقته به فجيد.

وإذا كان الثاني لا شيء فيه يرجع إلى الأول فلا بد من حرف العطف وذلك قولك: مررت برجل زيد خير منه، وجاءني عبد الله أبوه يكلمه.

وإن شئت قلت: مررت بزيد عمرو في الدار فهو محال إلا على قطع خبر واستئناف آخر. فإن جعلته كلاماً واحداً قلت: مررت بزيد وعمرو في الدار.

وهذه الواو التي يسميها النحويون واو الابتداء، ومعناها: غذ. ومثل ذلك قوله: " يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " والمعنى والله أعلم : إذ طائفة في هذه الحال، وكذلك قول المفسرين.

هذا باب

المسند والمسند إليه

وهما ما لا يستغني كل واحد من صاحبه

فمن ذلك: قام زيد، والابتداء وخبره، وما دخل عليه نحو كان وإن وأفعال الشك والعلم والمجازاة.

فالابتداء نحو قولك: زيد. فإذا ذكرته فإنما تذكره للسامع؛ ليتوقع ما تخبره به عنه فإذا قلت منطلق أو ما أشبهه صح معنى الكلام، وكانت الفائدة للسامع في الخبر؛ لأنه قد كان يعرف زيدا كما تعرفه، ولولا ذلك لم تقل له زيد، ولكنت قائلاً له: رجل يقال له زيد فلما كان يعرف زيدا، ويجهل ما تخبره به عنه أفدته الخبر، فصح الكلام؛ لأن اللفظة الواحدة من الاسم والفعل لا تفيد شيئاً، وإذا قرنتها بما يصلح حدث معنى، واستغنى الكلام.

فأما رفع المبتدأ فبالابتداء. ومعنى الابتداء: التنبيه والتعرية عن العوامل غيره، وهو أول الكلام وإنما يدخل الجار والناصب والرافع سوى الابتداء على المبتدأ.

والابتداء والمبتدأ يرفعان الخبر وسنبين هذا بالاحتجاج في موضعه إن شاء الله.

فإذا قلت: عبد الله أخوك، وعبد الله صالح لم تبل أكان الخبر معرفةً أو نكرة؟ لكل لفظة منهما معناهما.

فأما المبتدأ فلا يكون إلا معرفة، أو ما قارب المعرفة من النكرات.

ألا ترى أنك لو قلت: رجل قائم، أو رجل ظريف لم تفد السامع شيئاً؛ لأن هذا لا يستنكر أن يكون مثله كثيرا، وقد فسرنا هذا في باب إن وباب كان. ولو قلت: خير منك جاءني، أو صاحب لزيد عندي جاز وإن كانا نكرتين، وصار فيهما فائدة؛ لتقريبك إياهما من المعارف.

وتقول: منطلق زيد، فيجوز إذا أردت بمنطلق التأخير؛ لأن زيدا هو المبتدأ.

وتقول على هذا: غلام لك عبد الله، وظريفان أخواك، وحسان قومك.

واعلم أن خبر المبتدأ لا يكون إلا شيئاً هو الابتداء في المعنى؛ نحو: زيد أخوك، وزيد قائم.

فالخبر هو الابتداء في المعنى، أو يكون الخبر غير الأول، فيكون له فيه ذكر. فإن لم يكن على أحد هذين الوجهين فهو محال.

ونظير ذلك: زيد يذهب غلامه، وزيد أبوه قائم، وزيد قام عمرو إليه، ولو قلت: زيد قام عمرو لم يجز؛ لأنك ذكرت اسماً، ولم تخبر عنه بشيء، وإنما خبرت عن غيره.

فإذا قلت: عبد الله قام، ف عبد الله رفع بالابتداء، وقام في موضع الخبر، وضميره الذي في قام فاعل.

فإن زعم زاعم أنه إنما يرفع عبد الله بفعله فقد أحال من جهات: منها أن قام فعل، ولا يرفع الفعل فاعلين إلا على جهة الإشراك؛ نحو: قام عبد الله وزيد، فكيف يرفع عبد الله، وضميره؟ وأنت إذا أظهرت هذا الضمير بأن تجعل في موضعه غيره بان لك، وذلك قولك: عبد الله قام أخوه فإنما ضميره في موضع أخيه.

ومن فساد قولهم أنك تقول: رأيت عبد الله قام، فيدخل على الابتداء ما يزيله، ويبقى الضمير على حاله.

ومن ذلك أنك تقول: عبد الله هل قام؟ فيقع الفعل بعد حرف الاستفهام، ومحال أن يعمل ما بعد حرف الاستفهام فيما قبله.

ومن ذلك أنك تقول: ذهب أخواك ثم تقول: أخواك ذهبا. فلو كان الفعل عاملاً كعمله مقدماً لكان موحداً، وإنما الفعل في موضع خبر الابتداء رافعاً للضمير كان، أو خافضاً أو ناصباً. فقولك: عبد الله قائم بمنزلة قولك: عبد الله ضربته، وزيدت مررت به.

ولو قلت على كلام متقدم عبد الله، أو منطلق، أو صاحبك، أو ما أشبه هذا لجاز أن تضمر الابتداء إذا تقدم من ذكره ما يفهمه السامع. فمن ذلك أن ترى جماعة يتوقعون الهلال، فقال قائل منهم: الهلال والله، أي: هذا الهلال.

وكذلك لو كنت منتظراً رجلاً فقلت: زيد جاز على ما وصفت لك.

ونظير هذا الفعل الذي يضمر، إذا علمت أن السامع مستغن عن ذكره نحو قولك إذا رأيت رجلاً قد سدد سهماً فسمعت صوتاً : القرطاس والله، أي: أصاب القرطاس، أو رأيت قوماً يتوقعون هلالاً، ثم سمعت تكبيراً قلت: الهلال والله، أي: رأوا الهلال. ومثل هذا مررت برجل زيد، لما قلت: مررت برجل أردت أن تبين من هو؟ فكأنك قلت: هو زيد. وعلى هذا قول الله عز وجل " بشر من ذلكم النار " وتقول: البر بخمسين، والسمن منوان، فتحذف الكر والدرهم لعلم السامع، فإنهما اللذان يسعر عليهما.

ومما يحذف لعلم المخاطب بما يقصد له قولهم: لا عليك إنما يريدون: لا بأس عليك. وقولهم ليس إلا، وليس غير. إنما يريدون ليس إلا ذلك.

ويقول القائل: أما بقي لكم أحد فإن الناس ألب عليكم، فتقول: إن زيداً، وإن عمراً، أي: لنا. قال الأعشى:

إن محلاً وإن مرتحلا ... وإن في السفر إذ مضى مهلا

ويروى: إذ مضوا.

والمعرفة، والنكرة ها هنا واحد. وإنما تحذف إذا علم المخاطب ما تعني بأن تقدم له خبراً، أو يجري القول على لسانه كما وصفت لك.

فمن المعرفة قول الأخطل:

خلا أن حياً من قريش تفضلوا ... على الناس أو أن الأكارم نهشلا

والبيت آخر القصيدة.

وتقول: النازل في داره أخواك غلامك، والضارب أبواه أخويه عبد الله.

ولو قلت: أنا الذي قمت، وأنت الذي ذهبت لكان جائزاً ولم يكن الوجه . وإنما وجه الكلام: أنا الذي قام، وأنت الذي ذهب؛ ليكون الضمير في الفعل راجعاً إلى الذي. وإنما جاز بالتاء إذا كان قبله أنا وأنت؛ لأنك تحمله على المعنى.

ولو قلت: الذي قمت أنا لم يجز. وهذا قبيح. وإنما امتنع أن تحمل على المعنى؛ لأنه ليس في جملة الذي ما يرجع إليه. فمما جاء من هذا المعنى قول مهلهل:

وأنا الذي قتلت بكراً بالقنا ... وتركت تغلب غير ذات سنام

وقال أبو النجم:

يا أيها الذكر الذي قد سؤتني ... وفضحتني، وطردت أم عياليا

فإنما يصلح هذا بالمقدمات التي وصفت لك.

وتقول: زيد في الدار قائم. إذا جعلت قولك قائم مبنياً على زيد. فإن جعلت في الدار مبنياً على زيد نصبت قائماً على الحال.

وتقول: زيد يوم الجمعة قائم. لا يكون إلا ذلك؛ لأن ظروف الزمان لا تضمن الجثث. ألا ترى أنك تقول: زيد في الدار، فيصلح وتقيد به معنى، ولو قلت: زيد يوم الجمعة لم يصلح؛ لأن الزمان لا يخلو منه زيد ولا غيره، ولكن إن كان اسم فيه معنى الفعل جاز أن تكون أسماء الزمان ظروفاً له، نحو قولك: القتال يم الجمعة، ومقدم الحاج، والمحرم يا فتى؛ لأنك تخبر أنه في هذا الوقت يقع. فها هنا فعل قد كان يجوز أن يخلو منه هذا الوقت. فعلى هذا تجري الظروف من الأزمنة والأمكنة في الإخبار.

وتقول: عبد الله زيد الضاربه. إذا كانت الألف واللام والفعل لزيد. ف عبد الله ابتداء، وزيد ابتداء ثان، والضارب خبر عن زيد، وهما خبر عن عبد الله، والهاء التي في الضاربه راجعة إلى عبد الله.

فإن جعلت الألف واللام والفعل لعبد الله قلت: عبد الله زيد الضاربه هو تجعل الضارب ابتداء ثالثاً؛ لأن لا يكون خبراً عن زيد؛ لأنه غيره، وتجعل هو خبر الضاربه، والهاء المنصوبة ترجع إلى زيد، وهما جميعاً خبر عن زيد، وزيد وما بعده خبر عن عبد الله.

فإن جعلت الألف واللام لزيد والفعل لعبد الله قلت: عبد الله زيد الضاربه هو. ف هو ها هنا إظهار الفاعل؛ لأن الألف واللام لزيد، فقد صار خبراً عنه؛ وصار الفعل جارياً على غير نفسه، فأظهرت الفاعل كإظهارك إياه لو كان غير الأول؛ نحو قولك: عبد الله هند الضاربها أبوه.

ف هو في موضع أبيه هذا، والألف واللام في الضارب في معنى التي؛ لأنها لهند.

فإن كانت الألف واللام لعبد الله والفعل لزيد قلت: عبد الله زيد الضاربه هو هو. وذلك لأن الألف واللام لعبد الله، فقد صار ابتداء ثالثاً، وجرى الفعل على غير من هو له، فجعلت هو الأولى إظهار الفاعل، والثانية خبر الابتداء. وسنأتي على بقية هذا الباب في باب الألف واللام.

هذا باب

الإضافة

وهي في الكلام على ضربين: فمن المضاف إليه ما تضيف إليه حرف جر. ومنها ما تضيف إليه اسماً مثله.

وأما حروف الإضافة التي تضاف بها الأسماء والأفعال إلى ما بعدها فمن، وإلى، ورب، وفي، والكاف الزائدة، والباء الزائدة، واللام الزائدة. فهذه الحروف الصحيحة وما كان مثلها.

فأما ما وضعه النحويون نحو: على، وعن، وقبل، وبعد، وبين، وما كان مثل ذلك. فإنما هي أسماء وسنخبر عن ذلك بما يوضحه إن شاء الله.

أما من فمعناها ابتداء الغاية، وتكون للتبعيض، وتكون زائدة لتدل على أن الذي بعدها واحد في موضع جميع، ويكون دخولها كسقوطها.

فأما ابتداء الغاية فقولك: سرت من البصرة إلى الكوفة، فقد أعلمته أن ابتداء السير كان من البصرة. ومثله ما يجري في الكتب؛ نحو: من عبد الله إلى زيد. إنما المعنى أن ابتداء الكتاب من عبد الله.

وكذلك: أخذت منه درهماً، وسمعت منه حديثاً، أي: هو أول الحديث، وأول مخرج الدرهم.

وأما التي تقع للتبعيض فنحو قولك: أخذت مال زيد، فيقع هذا الكلام على الجميع. فإن قلت: أخذت من ماله، وأكلت من طعامه؛ أو لبست من ثيابه دلت من على البعض.

وأما الزائدة التي دخولها في الكلام كسقوطها فقولك: ما جاءني من أحد، وما كلمت من أحد. وكقول الله عز وجل: " أن ينزل عليكم من خير من ربكم " إنما هو خبر ولكنها توكيد. ومثل ذلك قول الشاعر:

جزيتك ضعف الود لما استثبته ... وما إن جزاك الضعف من أحد قبلي

فهذا موضع زيادتها. إلا أنك دللت فيه على أنه للنكرات دون المعارف.

ألا ترى أنك تقول: ما جاءني من رجل، ولا تقول: ما جاءني من زيد؛ لأن رجلاً في موضع الجميع، ولا يقع المعروف هذا الموقع؛ لأنه شيء قد عرفته بعينه.

ألا ترى أنك تقول: عشرون درهماً، ولا تقول: عشرون الدرهم؛ لأن درهماً في موضع جميع. إنما تريد به من الدراهم.

وكذلك: هذا أول رجل جاءني، إنما هو أول الرجال إذا عدوا رجلاً رجلاً، وكل رجل يأتيك فله درهم فهذا موضع هذا.

وأما قولهم: أهلك الناس الدينار والدرهم، وذهب الناس بالشاء والبعير فليس من هذا الباب. إنما هو تعريف الجنس. ألا ترى أن الرجل يعطيك ديناراً واحداً فتقول: أنا لا أقبل منك الدنانير. وكذلك لو أعطاك ثوباً قلت: فلان يبرني بالثياب. إنما تريد الواحد من هذا الجنس المعروف.

ونظير قولك: أهلك الناس الدينار والدرهم وأنت تريد الجميع قول الله عز وجل: " إن الإنسان لفي خسر " فإنما معناه والله أعلم : الناس. ألا تراه قال: " إلا الذين آمنوا " ، ولا يستثنى من الشيء إلا بعضه.

وأما إلى فإنما هي للمنتهى ألا ترى أنك تقول: ذهبت إلى زيد، وسرت إلى عبد الله، ووكلتك إلى الله. وحتى مثلها، ولكن تركنا ذكرها ها هنا لنفرد لها باباً.

وأما في فإنما هي للوعاء؛ نحو: زيد في الدار، واللص في الحبس، فهذا أصله.

وقد يتسع القول في هذه الحروف، وإن كان ما بدأنا به الأصل؛ نحو قولك: زيد ينظر في العلم، فصيرت العلم بمنزلة المتضمن. وإنما هذا كقولك: قد دخل عبد الله في العلم، وخرج مما يملك.

ومثل ذلك: في يد زيد الضيعة النفيسة. وإنما قيل ذلك؛ لأن ما كان محيطاً به ملكه بمنزلة ما أحيطت به يده.

ورب معناها الشيء يقع قليلاً، ولا يكون ذلك الشيء إلا منكوراً؛ لأنه واحد يدل على أكثر منه كما وصفت لك، ولا تكون رب إلا في أول الكلام لدخول هذا المعنى فيها. وذلك قولك: رب رجل قد جاءني، ورب إنسان خير منك.

وأما الكاف الزائدة فمعناها التشبيه؛ نحو: عبد الله كزيد، وإنما معناه: مثل زيد، وما أنت كخالد.

فلذلك إذا اضطر الشاعر جعلها بمنزلة مثل، وأدخل عليها الحروف؛ كما تدخل على الأسماء. فمن ذلك قوله:

وصاليات ككما يؤثفين

فدخلت الكاف على الكاف؛ كما تدخل على مثل في قوله عز وجل: " ليس كمثله شيء " . وقال الآخر:

فصيروا مثل كعصف مأكول

ووقعت فاعلة، ومفعولة على هذا المعنى، وذلك قوله:

أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

فالكاف ها هنا في معنى مثل. إنما أراد: شيء مثل الطعن.

وقال الأخطل:

قليل غرار النوم حتى تقلصوا ... على كالقطا الجوني أفزعها الزجر

أراد مثل القطا.

وأما الباء فمعناه الإلصاق بالشيء، وذلك قولك: مررت بزيد. فالباء ألصقت مرورك بزيد، وكذلك: لصقت به، وأشمت الناس به.

ومنذ في الأيام والليالي لابتداء الغايات بمنزلة من في سائر الأسماء. وذلك قولك لم أره منذ يومين، فالغاية في الرؤية مما يلي أول اليومين.

واللام الزائدة معناها الملك، والتحقيق.

وأما الأسماء المضافة إلى الأسماء بأنفسها فتدخل على معنى اللام، وذلك قولك: المال لزيد. كقولك: مال زيد، وكما تقول: هذا أخ لزيد، وجار لزيد، وصاحب له، فهذا بمنزلة قوله: جاره وصاحبه. فلا فصل بينهما إلا أن اللام إذا حالت بين الاسمين لم يكن الأول معرفة بالثاني من أجل الحائل. فإذا أضفت الاسم إلى الاسم بعده بغير حرف كان الأول نكرة ومعرفة بالذي بعده.

فإذا أضفت اسماً مفرداً إلى اسم مثله مفرد أو مضاف صار الثاني من تمام الأول، وصارا جميعاً اسماً واحداً، وانجر الآخر بإضافة الأول إليه، وذلك قولك: هذا عبد الله، وهذا غلام زيد، وصاحب عمرو. ولا تدخل في الأول ألفاً ولاماً، وتحذف منه التنوين. وذلك أن التنوين زائد في الاسم، وكذلك الإضافة والألف واللام، فلا يحتمل الاسم زيادتين.

ألا ترى أنك تقول: هذا غلام فاعلم. فإن زادت الألف واللام قلت: هذا الغلام يا فتى، وكذلك إن أدخلت الإضافة قلت: هذا غلام زيد، وهذه ثلاثة دراهم.

فإن أردت تعريف الأول عرفت الثاني؛ لأنه إنما يكون الأول معرفة بما أضفته إليه.

ألا ترى أنك تقول: هذا غلام رجل، فيكون نكرة. فإذا أردت تعريفه قلت: هذا غلام الرجل، وهذا صاحب المال.

وكذلك هذه ثلاثة الأثواب، وخمسة الدراهم. ومثل ذلك قول الشاعر:

وهل يرجع التسليم أو يدفع البكا ... ثلاث الأثافي والديار البلاقع

فإذا ثنيت الواحد، ثم أردت إضافته حذفت النون من الاثنين النون والألف واللام فقلت: هذان غلاماً زيد، وصاحبا عمرو، وحذفت الألف والنون؛ كما فعلت في الواحد. وكذلك الجمع؛ نحو: هؤلاء مسلمو زيد وصالحو قومهم.

فإن كان الاسم الذي تضيفه مشتقاً من الفعل عاملاً فيما بعده فإن الثاني يدخل في صلة الأول. وذلك قولك: هذا ضارب زيد، وهذان ضاربا زيد، وهؤلاء ضاربو زيد.

فإن أدخلت الألف واللام في الأول فهو جيد؛ لأن معناها معنى الذي؛ فذلك دخلتا.

فإذا قلت في الواحد: هذا الضارب زيداً، وهو القاتل الرجل فمعناه: الذي ضرب زيداً، والذي قتل الرجل، فتنصب ما بعده؛ لأن فيه معنى الفعل، ولا معنى للأسماء غير المشتقة في ذلك.

ألا ترى أنك لو قلت: هذا الغلام زيداً كان محالاً.

فإن ثنيت الاسم المشتق من الفعل لم تعاقب الإضافة الألف واللام؛ كما لا تعاقبها النون، ولكن تكون الإضافة معاقبة للنون. وذلك قولك: هذان الضاربان، فتثبت النون مع الألف واللام؛ لأنها أقوى من التنوين؛ وذلك أنها بدل من التنوين والحركة في الواحد؛ كما قلت: هذان الغلامان.

وتقول: هذان الضاربان زيداً، والشاتمان عمراً، والمكرمون أخاك والنازلون دارك. ومن ذلك قول الله عز وجل: " والمقيمين الصلاة، والمؤتون الزكاة " وقال القطامي:

الضاربون عميراً عن ديارهم ... بالتل يوم عمير ظالم عادي

فإذا أسقطت النون، أضفت وجررت، فقلت: هم الضاربو زيد، وهما الشاتما عمرو؛ كما قال الشاعر:

الفارجو باب الأمير المبهم

وقال الأنصاري، وأنشد هذا البيت منصوباً عنه، وهو:

الحافظو عورة العشيرة، لا ... يأتيهم من ورائنا نطف

فهذا لم يرد الإضافة، فحذف النون بغير معنى فيه. ولو أراد غير ذلك لكان غير الجر خطأ، ولكنه حذف النون لطول الاسم؛ إذ صار ما بعد الاسم صلة له. والدليل على ذلك حذفهم النون مما لم يشتق من فعل، ولا يجوز فيه الإضافة فيحذفون لطول الصلة. فمن ذلك قول الأخطل:

أبني كليب إن عمي اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا

فحذف النون من اللذين. وقال الأشهب بن رميلة:

إن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد

فإن قال قائل: ما بالك لا تقول في الاسم غير المشتق إذا ثنيته أو جمعته بالإضافة مع الألف واللام فتقول: هما الغلاما زيد؛ كما تقول: هما الضاربا زيد؟ قيل له: إنما يقع الحذف في المشتق؛ لأنه يجوز أن تقول: هما الضاربان زيداً، والضاربون عمراً، ولا يكون هذا في الغلام إذا ثنيته، فلما كففت النون عاقبها ما كان مستعملاً بعدها.

وما لم يشتق من الفعل لا معنى للاسم الثاني بعد النون فيه.

ألا ترى أنك لا تقول: هذان الغلامان زيداً، ولا هؤلاء الصاحبون محمداً.

هذا باب

اسم الفاعل الذي مع الفعل المضارع

وذلك نحو قولك: هذا ضارب زيداً. فهذا الاسم إن أردت به معنى ما مضى فهو بمنزلة قولك: غلام زيد.

تقول: هذا ضار بزيد أمس، وهما ضاربا زيد، وهم ضاربو عبد الله. وهن ضاربات أخيك. كل ذلك إذا أردت به معنى الماضي لم يجز فيه إلا هذا؛ لأنه اسم بمنزلة قولك: غلام زيد. وأخو عبد الله.

ألا ترى أنك لو قلت: هذا غلام زيداً كان محالاً.

فكذلك اسم الفاعل إذا كان ماضياً لا تنونه؛ لأنه اسم. وليست فيه مضارعة الفعل. ولا يجوز أن تدخل عليه الألف واللام وتضيفه؛ كما لم يجز ذلك في الغلام، فهو كالأسماء التي لا معنى للفعل فيها.

وتقول: هؤلاء حواج بيت الله أمس، ومررت برجل ضارباه الزيدان، ومررت بقوم ملازموهم إخوتهم، فتثنى وتجمع؛ لأنه اسم كما تقول: مررت برجل أخواه الزيدان، وأصحابه إخوتك.

فإن جعلت اسم الفاعل في معنى ما أنت فيه ولم ينقطع، أو ما تفعله بعد، ولم يقع جرى مجرى الفعل المضارع في عمله وتقديره؛ لأه في معناه وقد مضى تفسير هذا. وذلك قولك: زيد أكل طعامك الساعة إذا كان في حال أكل، وزيد آكل طعاماً غداً؛ كما تقول: زيد يأكل الساعة إذا كان في حال أكل، وزيد يأكل غداً.

وتقول على هذا: أخواك آكلان طعاماً، وقومك ضاربون زيداً، وأخواتك ضاربات عمر. وتقول: مررت برجل ضارب زيداً، فتصفه به؛ لأنه نكرة مثله؛ كما تقول: مررت برجل يضرب زيداً.

ولو قلت ذلك في اسم الفاعل إذا أردت ما مضى لم يقع ذا الموقع، وذلك أنك لا تقول: مررت برجل ضارب زيد إلا على البدل؛ كما لا تقول: مررت برجل غلام زيد.

وتقول: مررت بزيد ضارباً عمراً. إذا أردت التي تجري مجرى الفعل. فإن أردت الأخرى قلت: مررت بزيد ضارب عمرو؛ كما تقول: مررت بزيد غلام عمرو.

واعلم أنه قد يجوز لك أن تحذف النون والتنوين من التي تجري مجرى الفعل، ولا يكون الاسم إلا نكرة وإن كانا مضافاً إلى معرفة؛ لأنك إنما تحذف النون استخفافاً. فلما ذهب النون عاقبتها الإضافة، والمعنى معنى ثبات النون. فمن ذلك قول الله عز وجل: " هدياً بالغ الكعبة " فلو لم ترد التنوين لم يكن صفة لهدي وهو نكرة. ومن ذلك قوله تعالى: " هذا عارض ممطرنا " و " ثاني عطفه " ؛ لأنه نصب على الحال، ولا تكون الحال إلا نكرة.

ومن ذلك قول الله عز وجل: " إنا مرسلو الناقة " فإنما هذه حكاية قول الله عز وجل قبل إرسالها.

وكذلك " إلا آتي الرحمن عبداً " و " كل نفس ذائقة الموت " ومن نون قال: " آت الرحمن عبداً " ، و " ذائقة الموت " ؛ كما قال عز وجل: " ولا آمين البيت الحرام " . وهذا هو الأصل، وذاك أخف وأكثر، إذ لم يكن ناقضاً لمعنى، وكلاهما في الجودة سواء. قال جرير:

يا رب غابطنا لو كان يطلبكم ... لاقى مباعدةً منكم وحرمانا

ف رب لا تقع إلا على نكرة، وإنما حذف التنوين استخفافاً وهو يريد: رب غابط لنا. ومثله:

هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد رب أخا عون بن مخراق

أراد: باعث ديناراً؛ لأنه إنما يستفهمه عما سيقع.

ونصب الثاني لأنه أعمل فيه الفعل. كأنه قال: أو باعث عبد رب. ولو جره على ما قبله كان عربياً جيداً مثل النصب.

وذلك لأن من شانهم أن يحملوا المعطوف على ما عطف عليه، نحو: هذا ضارب زيد، وعمرو غداً، وينصبون عمراً، إلا أن الثاني كلنا تباعد من الأول قوي النصب، واختير. نحو قولك: هذا معطي زيد الدراهم، وعمراً الدنانير، والجر جيد بالغ.

ولو قلت: هذا معطي زيد اليوم الدراهم، وغداً عمراً الدنانير لم يصلح في عمرو إلا النصب، لأنك لم تعطف الاسم على ما قبله، وإنما أوقعت العطف على الظرف، فلم يقو الجر.

ألا ترى أنك تقول: مررت بزيد وعمرو، ولا تقول: مررت أمس بزيد، واليوم عمرو. فإذا أعملته عمل الفعل جاز؛ لأن الناصب ينصب ما تباعد منه.

ألا ترى أنك تقول: هذا ضارب اليوم زيداً. وغدا عمراً؛ كما تقول: هذا يضرب اليوم زيداً، وغدا عمراً.

وكذلك تقول: هذا ضاربك وزيداً غدا. لما لم يجز أن تعطف الظاهر على المضمر المجرور حملته على الفعل؛ كقول الله عز وجل: " إنا منجوك وأهلك " كأنه قال: ومنجون أهلك، ولم تعطف على الكاف المجررة.

ومما ينشده العرب نصباً وجراً لاشتمال المعنى عليهما جميعاً قول لبيد:

فإن لم تجد من دون عدنان والداً ... ودون معد، فلتزعك العواذل

ينصبون دون ويجرونها. وقال الفرزدق:

قعود لدى الأبواب طلاب حاجة ... عوان من الحاجات أو حاجةً بكرا

وقال جرير:

جيئوا بمثل بني بدر لقومهم ... أو مثل أسرة منظور بن سيار

يجرون مثل، وينصبونها. فمن جر فعلى الأول، ومن نصب فعلى: أو هاتوا مثل أسرة؛ لأن هذا إذا أضمر لم يخرج من معنى الأول. ومن قال هذا قال: خشنت بصدرك، وصدر زيد، على الموضع.

وعلى نحو من هذا أجازوا: مررت بزيد وعمراً؛ لأن معناه: أتيت، فحمله على المعنى؛ إذ كان قولك بزيد بعد مررت في موضع نصب. وقال الشاعر:

ألا حي ندماني عمير بن عامر ... إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدا

كأنه قال: أو تلاقينا غداً.

واعلم أن اسم الفاعل إذا كان لما مضى فقلت: هذا ضارب زيد أمس وعمرو، وهذا معطي الدراهم أمس وعمرو جاز لك أن تنصب عمراً على المعنى لبعده من الجار. فكأنك قلت: وأعطى عمراً فمن ذلك قول الله عز وجل: " جاعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً " على معنى: وجعل، فنصب.

هذا باب

مسائل الفاعل

تقول: مررت برجل قائم أبوه، فترفع الأب بفعله، وتجري قائماً على رجل؛ لأنه نكرة وصفته بنكرة، فصار كقولك: مررت برجل يقوم أبوه.

فإن قال قائل: قد علمنا أن القيام للأب، فكيف يجوز أن يجري على رجل؟ قيل له: لأن قولك: قائم أبوه إنما هو صفة للرجل في الحقيقة.

ألا ترى أنك قد حليت الرجل بقيام أبيه؛ كما تحليه بفعله، وفصلت بهذه الصفة بينه وبين رجل لم يقم أبوه؛ كما أنك إذا قلت: مررت برجل قائم فصلت بينه وبين من لم يقم. ولو قلت: مررت برجل قائم أبوه. تريد بقائم التأخير، كأنك قلت: مررت برجل أبوه قائم، ثم قدمت على هذه الجهة كان جيداً، وكنت تقول على هذا الشرط: مررت برجل قائمان أبواه، لأنك تريد: أبواه قائمان.

وعلى القول الأول وهو الأجود مررت برجل قائم أبواه، وقائم آباؤه؛ لأنه بمنزلة الفعل المقدم.

وتقول: مررت بزيد ضارباً عمراً أخواه، ومررت بجاريتك قائماً إليها أبواك، وهذا رجل ملازمه إخوته. أردت: ملازم له إخوته، فطرحت التنوين استخفافاً على ما وصفت لك في الذي قبله.

وتقول زيداً عمرو ضارب؛ كما تقول: زيداً عمرو يضرب.

ولو قلت: زيداً عمرو الضارب لم يجز؛ لأن الفعل صار في الصلة.

ولو قلت: عبد الله جاريتك أبوها ضارب كان بين النحويين فيها اختلاف. وذلك أن بعضهم يقول: إذا قلت: عبد الله زيد ضارب فإنما نصبت عبد الله بضارب الذي هو خبر زيد. فكأنك قلت: زيد يضرب عبد الله. وزيد ضارب عبد الله.

فإذا قلت: عبد الله جاريتك أبوها ضارب. فالجارية ابتداء. وأبوها ابتداء ثان، وضارب خبر أبيها، وهما جميعاً خبر الجارية، فقد تباعد آخر الكلام من أوله.

وليس ما قالوا في كراهية النصب بشيء. وذاك لأن ضارباً يجري مجرى الفعل في جميع أحواله من العمل. فالتقديم والتأخير في الفعل. وما كان خبراً للأول مفرداً أو مع غيره فمجراهما واحد.

وإنما يكره الفصل بين العامل والمعمول فيه بما ليس منه. نحو قولك: كانت زيداً الحمى تأخذ. فتنصب زيداً بتأخذ، وتأخذ خبر كان، وتفصل بزيد بين اسم كان وخبرها وليس زيد لها باسم ولا خبر. فهذا الذي لا يجوز.

أو يكون العامل غير متصرف فلا يجري مجرى الفعل، نحو: عندي عشرون اليوم درهماً، وإن منطلق زيداً، وزيداً إن منطلق. فهذا الذي لا يجوز.

فأما إذا كان العامل متصرفاً، ولم تفصل بينه وبين المعمول فيه بشيء ليس منه، ولا بسببه فعمله فيه كعمله إذا وليه. وقد فسرنا مثل هذا فيما مضى.

ومثل ذلك من المصادر: أعجبني اليوم ضرب زيد عمراً. إن جعلت اليوم نصباً بأعجبني فهو جيد.

وإن نصبته بالضرب كان محالاً، وذلك لأن الضرب في معنى أن فعل، وأن يفعل، فمحال أن ينصب ما قبله؛ لأن ما بعده في صلته ولا يعمل إلا فيما كان من تمامه، فيصير بعض الاسم ، ولا يقدم بعض الاسم على أوله.

فإن لم يكن في معنى أن أوصلتها أعملته عمل الفعل إذ كان نكرة مثله، فقدمت فيه وأخرت. وذلك قولك: ضرباً زيدا، وإن شئت قلت: زيدا ضربا؛ لأن ليس في معنى أن، إنما هو أمر.

فقولك: ضرباً زيدا ينتصب بالأمر، كأنك قلت: اضرب، إلا أنه صار بدلاً من الفعل لما حذفته.

ألا ترى أن قولك سقيا بمنزلة سقاك الله، ومرحباً بدل من قولك: رحبت بلادك. فعلى هذا يجري ما وصفت لك في الإعمال، والتقديم، والتأخير.

هذا باب

الصفة المشبهة بالفاعل

فيما يعمل فيه وإنما تعمل فيما كان من سببها وذلك كقولك: هذا حسن الوجه، وكثير المال.

اعلم أن هذه الصفة إنما حدها أن تقول: هذا رجل حسن وجهه، وكثير ماله. فترفع ما بعد حسن وكثير بفعلهما؛ لأن الحسن إنما هو للوجه، والكثرة إنما هي للمال فهذا بمنزلة قولك: هذا رجل قائم أبوه، وقاعد أخوه.

ويجوز أن تقول: هذا رجل حسن الوجه. فالوجه لم يجعل حسناً معرفة، وإن كان مضافاً إليه؛ وذلك لأن التنوين هو الأصل. ومعنى هذه الإضافة الانفصال؛ كما كان ذلك في قوله: " هدياً بالغ الكعبة " " وهذا عارض ممطرنا " لما كان التقدير: إنما هو التنوين ثبت الاسم نكرة، وصار بمنزلة ما لفظوا بتنوينه.

فيجوز في هذا أوجه:

منها الأصل، نحو: حسن وجهه، وحسن الوجه، وحسن وجه، وحسن وجهاً، وحسن الوجه. كل ذلك جائز ومعناه واحد في نكرته وأجود ذلك إذا لم تقل حسن وجهه : حسن الوجه، وذلك لأن وجهه كان معرفة وهو الأصل. فكان الأحسن أن يوضع في موضعه معرفة مثله.

لا تعرف الأول؛ كما كان ذلك في وجهه، وأنه لو عرفه لم يكن الأول معرفة، وإنما صار وجهه معرفة؛ لأنه علم أنه لا يعني من الوجوه إلا وجهه.

وأما حسن وجه فإنه أخف في اللفظ، فحذفوا الألف واللام تخفيفاً، فمن ذلك قولهم: هو حديث عهد بالوجع وأنشد:

لاحق بطن بقراً سمين

الأصل لا حق بطنه. وقال الآخر:

ولا سيئى زي إذا ما تلبسوا ... إلى حاجة يوماً مخيسةً بزلاً

وإنما جاز حذف الألف واللام لعلم السامع أنك لا تعني إلا وجهه، وأن الأول لا يكون به معرفة أبداً.

ومن قال: هو حسن وجها قال: هو الحسن يا فتى، وهما الحسنان الوجوه، فنصب؛ لأنه اضمر الفاعل في الأول، فجعل الثاني بمنزلة المفعول به، فصار كقولك: الضارب الرجل، والقائل الحق. وقال الحرث بن ظالم:

فما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعرى رقاباً

ويروى: الشعر الرقابا. فمن قال ذا يشبهه بالضارب الرجل.

ومن قال: الضارب الرجل يقول تشبيهاً بالحسن الوجه، ولا يجوز الضارب زيد؛ كما لا تقول الحسن وجه.

وإنما يجوز إذا كان في الثاني ألف ولام، وذلك لأنك تقول: هذا حسن الوجه، فيكون نكرة. فإذا أردت أن تعرفه أدخلت في الحسن الألف واللام ولم تعاقبا الإضافة؛ إذ كانت الإضافة ها هنا على خلاف المضاف؛ لأن ها هنا نية التنوين، فلذلك لم تعرف الأول وكان كقولك: الحسن وجهه.

فإذا قلت: هو الحسن وجها، والطيب خبرا، والحسان وجوهاً لم يكن إلا النصب؛ لأنك أبهمت الحسن، وأضمرت في الحسن الفاعل، فانتصب ما بعده لأنه تمييز إذا كان نكرة.

ويستقيم أن يكون انتصابه وهو نكرة كانتصابه إذا كانت الألف واللام على التشبيه بالمفعول به، وذلك قولك: هو الحسن الوجه؛ كما تقول: هو الضارب الرجل.

ألا ترى أن الحسن يجري على ما قبله مؤنثاً كان أو مذكراً؛ كما يجري الفاعل. فتقول مررت بامرأة حسنة الوجه، ومررت بأخويك الحسنين الوجوه. فعلى هذا تميز إذا حذفت الألف واللام، فقلت: مررت بأخويك الحسنين وجوها؛ كما قال الله عز وجل: " هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً " .

وقال رؤبة:

الحزن باباً والعقور كلباً

فهذه الأوجه عربية جيدة. وبيت الأعشى ينشد جراً:

الواهب المائة الهجان وعبدها ... عوذاً تزجي خلفها أطفالها

فإن قال قائل: ما بالك جررت عبدها وإنما يضاف في هذا الباب إلى ما فيه الألف واللام تشبيهاً بالحسن الوجه وأنت لا يجوز لك أن تقول: الواهب المائة، والواهب عبدها؟ فإنما جاز هذا في المعطوف على تقدير: واهب عبدها؛ كما جاز: رب رجل وأخيه. وأنت لا تقول: رب أخيه ولكنه على تقدير: وأخ له.

ومثل ذلك كل شاة وسخلتها بدرهم. وأنت لا تقول: كل سخلتها. ولكنه على التقدير الذي خبرتك به، وأخرت الاحتجاج عنه لنذكره في موضعه إن شاء الله.

واعلم أن هذه الصفة لا يجوز أن يتقدمها مفعولها؛ وذلك أنها ليست كالفاعل في الحقيقة.

ألا ترى أنك إذا قلت: زيد ضارب عمرا، وزيدا ضارب عمرو، وزيدا عمرو ضارب أن الثاني عمل في الأول. وأن ضارباً صار بمنزلة يضرب في المعنى.

ولو قلت: زيد الحسن وجها، أو الحسن الوجه لم يكن الحسن عمل في الوجه شيئاً، وإنما الحسن في المعنى للوجه، فمن ثم لم يجز أن تقول: وجها زيد حسن، ولا زيد وجها حسن.

ولذلك لم يجز لهذه الصفة أن تعمل إلا فيما كان من سببها.

ألا ترى أنك إذا قلت: زيد حسن وجه، أو حسن الوجه، أو الحسن وجها أنك لا تعني من الوجوه إلا وجهه؛ لأنه في الأصل زيد حسن وجهه، وكذلك كثير المال، وفاره العبد، وجيد الدار يجرين مجرىً واحدا.

لو قلت: عمرا زيد لضارب لم يجز، وليس امتناعه من حيث امتنعت الصفة المشبهة، ولكن معناه: زيد الضارب عمرا، أي: الذي ضرب عمرا. فلما قدمت عمرا على هذه الصفة لم يجز؛ لأنه بعض الاسم إذ كان من صلته. فإنما امتنع من هذا الوجه.

فإن جعلت ضارباً، وقائلا، وما أشبه ذلك بغير ألف ولام جاز التقديم والتأخير، والإظهار والإضمار، وجرى مجرى يضرب لما ذكرت لك من المضارعة.

هذا باب

المفعول

ولكنا عزلناه مما قبله، لأنه مفعول فيه وهو الذي يسميه النحويون الحال اعلم أنك إذا قلت: جاءني عبد الله، وقصد إلي زيد، فحذفت أن يعرف السامع اثنين، أو جماعة اسم كل واحد منهم عبد الله أو زيد قلت: الطويل، أو العاقل، أو الراكب، أو ما أشبه ذلك من الصفات؛ لتفصل بين من تعني، وبين من خفت أن يلتبس به. كأنك قلت: جاءني زيد المعروف بالركوب، أو المعروف بالطول، وكذلك جاءني زيد بن عمرو، وزيد النازل موضع كذا.

فإن لنم ترد هذا، وأردت الإخبار عن الحال التي وقع فيها مجيئه قلت: جاءني زيد راكباً، أو ماشياً، فحذفت بعده بنكرة لا تكون نعتاً له لأنه معرفة. وذلك أنك لم ترد: جاءني زيد المعروف بالركوب، والمشي، فيكون تحلية بما قد عرف وإنما أردت مجيئه وقع في هذه الحال.

وكذلك: رأيت عبد الله جالساً، ومررت بعبد الله ضاحكاً. خبرت أن رؤيتك إياه، ومرورك به وقعا في هذه الحال منه.

وتقول: زيد في الدار قائماً، فتنصب قائماً بمعنى الفعل الذي وقع في الدار؛ لأن المعنى: استقر عبد الله في الدار؛ ولذلك انتصبت الظروف.

ألا ترى أنك تقول: زيد خلفك، وزيد دونك، فتنصب الدون، والخلف بفعل زيد. كأنك تقول: استقر زيد خلفك، وثبت دونك ونفسر هذا في باب الظروف إن شاء الله.

فإن جعلت في الدار للقيام، ولم تجعله لزيد قلت: زيد في الدار قائم؛ لأنك إنما أردت: زيد قائم في الدار، فجعلت قائماً خبرا عن زيد، وجعلت في الدار ظرفاً لقائم.

فمن قال هذا قال: إن زيدا في الدار قائم.

ومن قال الأول قال: إن زيدا في الدار قائماً. فيكون في الدار الخبر، ثم خبر على أية حال وقع استقراره في الدار، فقال قائماً، أي: على هذه الحال ولما قال قائم إنما قال في الدار ليخبر أي موضع وقع قيامه.

فنظير ذلك قوله جل وعلا " إن المتقين في جنات وعيون آخذين " ، وقوله عز وجل: " إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين " .

وذلك أن قوله في جنات خبر إن، فنصب آخذين وفاكهين على الحال.

ولو كان الظرف هو الخبر لرفع الخبر؛ كما قال الله عز وجل " وفي النار هم خالدون " لأن المعنى: وهم خالدون في النار. فإنما في النار ظرف للخلود.

وتقول: هذا زيد راكبا، وذاك عبد الله قائماً.

فإن قال قائل: ما الذي ينصب الحال وأنت لم تذكر فعلا؟ قيل له: هذا إنما هو تنبيه. كأنك قلت: انتبه له راكباً.

وإذا قلت: ذاك عبد الله قائماً. ذاك للإشارة. كأنك قلت: أشير لك إليه راكباً. فلا يجوز أن يعمل في الحال إلا فعل أو شيء في معنى الفعل؛ لأنها مفعول فيها. وفي كتاب الله جل وعلا: " وهذا بعلي شيخاً " .

ولو قلت: زيد أخوك قائماً، وعبد الله أبوك ضاحكاً كان غير جائز؛ وذاك أنه ليس ها هنا فعل، ولا معنى فعل، ولا يستقيم أن يكون أباه في حال، ولا يكون أباه في حال أخرى، ولكنك إن قلت: زيد أخوك قائماً، فأردت أخوة الصداقة جاز؛ لأن فيه معنى فعل. كأنك قلت: زيد يؤاخيك قائماً. فعلى هذا يستقيم ويمتنع.

واعلم أن الحال إذا كان العامل فيها فعلاً صحيحاً جاز فيها كل ما يجوز في المفعول به من التقديم التأخير، إلا أنها لا تكون إلا نكرة.

وإنما جاز ذلك فيها؛ لأنها مفعولة، فكانت كغيرها مما ينتصب بالفعل. تقول: جاء راكباً زيد؛ كما تقول: ضرب زيدا عمرو، وراكباً جاء زيد؛ كما تقول: عمرا ضرب زيد، وقائماً زيدا رأيت؛ كما تقول: الدرهم زيدا أعطيت، وضربت قائماً زيدا.

ومن كلام العرب: رأيت زيدا مصعداً منحدراً، ورأيت زيدا راكباً ماشياً إذا كان أحدكما راكباً والآخر ماشياً، وأحدكما مصعدا والآخر منحدرا.

وقول الله عز وجل عندنا على تقديم الحال والله أعلم وذلك : " خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث " .

وكذلك هذا البيت:

مزبداً يخطر ما لم يرني ... وإذا يخلو له لحمى رتع

ولست تحتاج مع ما عرفتك من حالها، وإجرائها مجرى المفعول، وما لزم من ذلك من الاحتجاج إلى أن نوضح لك بأكثر منه.

وقال الشاعر:

ضاحكاً ما قبلتها حين قالوا ... نقضوا صكها، وردت عليا

وتقول: ضارباً عمرا رأيت زيدا، وأنت تريد رؤية العين، وشاتما أخاه أقبل عبد الله.

فإن كان العامل غير فعل ولكن شيء في معناه ، لم تتقدم الحال على العامل؛ لأن هذا شيء لا يعمل مثله في المفعول. وذلك قوله: زيد في الدار قائماً، ولا تقل: زيد قائماً في الدار. وتقول: هذا قائماً حسن، ولا تقل: قائماً هذا حسن. وتقول: مررت راكبا بزيد إذا كان راكباً لك. فإن أردت أن يكون لزيد لم يجز؛ لأن العامل الباء، فعلى ما ذكرت لك يجري هذا الباب.

فإن قال قائل: فما بالك تقدم الظروف وهي مفعول فيها والعامل معنى الفعل، ولا يجوز أن يعمل فيها التنبيه كما عمل في الحال، وكلاهما مفعول فيه، فمن أين اختلفا؟ قيل له: الفصل بين الحال والظرف أن الحال هي الاسم الأول، فاعلاً كان أو مفعولاً أو غير ذلك من الابتداء وخبره. والظرف متضمن للحال وغيرها. لا يقع شيء إلا في زمان ومكان. فالحال تقع في الظروف، والظروف لا يقال إنها واقعة في الحال.

فإذا قلت: يوم الجمعة زيد في الدار. ف يوم الجمعة غير زيد، وقد عمل فيه استقرار زيد.

وإذا قلت: جاءني زيد راكباً. فالراكب هو زيد، وكذلك ضربت زيداً قائماً، وزيد منطلق راكباً. فالقائم، والراكب، وما أشبه ذلك هو زيد، فلما كان إياه عمل فيه ما يعمل في المفعول به؛ لأه اسم مثله.

ولما كان الظرف متضمناً لهذا وغيره، وكان غيرهما في المعنى إنما هو اسم زمان أو مكان لا يخلو من كون فيها واستقرار كان الناصب لهما المعنى الذي جئ بهما من أجله.

فإن قيل: لم لا تقول: هذا زيد يوم الجمعة، وهذا زيد شهر رمضان فتعمل التنبيه؟ قيل له: إذا كان الظرف من المكان لم يمتنع من شيء من الأسماء؛ لأنها تفيد فيه معنى. وذلك أنك إذا قلت: زيد عندك أو في دارك، أو بالبصرة، فقد أفدت فيه ما قد كان يجوز أن يخلو منه.

وإذا قلت: زيد يوم الجمعة فلا معنى لهذا؛ لأن يوم الجمعة لا يخلو زيد ولا غيره منه، ولا حي ولا ميت، فلما لم تكن فيه فائدة قال النحويون: لا تكون ظروف الزمان المجثث.

وإنما امتنع قولك: هذا زيد يوم الجمعة من الجواز وإن كانت ها للتنبيه، وذا للإشارة ولم يكن مثل قولك: القتال شهر رمضان، ويوم الجمعة؛ لأنك إذا قلت: القتال يوم الجمعة، فقد خبرت بشيء يكون في الجمعة، قد كان يجوز أن يخلو منه.

وأنت إذا قلت: هذا زيد، فقد نبهت، وأعلمت في أي وقت هو؟ فلا معنى لقولك يوم الجمعة، ولا لذكر وقت، لأن السامع في الوقت وأنت سواء.

ألا ترى أنك إذا قلت: أنا آكل يوم الجمعة، وأنت تخبر عن أنك تفعل هذا إذا كان يوم الجمعة كان جيداً.

ولو قلت: أنا آكل يوم الجمعة تخبر عما أنت فيه لم يكن له معنى، فإن أردت أن تفيد السامع أن اليوم يوم الجمعة قلت: أنا آكل، وهذا يوم الجمعة؛ ليصير خبراً بعد خبر. فتفهم هذا فإن معرفة الأصول إحكا الباب، وإذا صحت جرت عليه المسائل على الاستقامة إن شاء الله.

هذا باب

الفعل الذي يتعدى إلى مفعول وفاعله مبهم

ولا يتصرف تصرف غيره من الأفعال ويلزم طريقة واحدة؛ لأن المعنى لزمه على ذلك وهو باب التعجب وذلك قولك: ما أحسن زيداً، وما أكرم عبد الله.

ف ما اسم مرتفع بالابتداء، وأحسن خبره، وهو فعل، وزيداً مفعول به، فتقديره: شيء أحسن زيداً إلا أن معنى التعجب دخله مع ما، ولا يكون ذلك في شيء غير ما.

فإن قال قائل: هل رأيت ما تكون اسماً بغير صلة إلا في الجزاء والاستفهام؟ قيل له: إنما كانت في الجزاء والاستفهام بغير صلة إذا قلت مجازياً: ما تصنع أصنع، أو مستفهماً: ما تصنع يا فتى؟ لأنك إنما تستفهم عما تنكر، ولو كنت تعرف كنت مخبراً لا مستخبراً، والصلة تعرفه.

وكذلك الجزاء إذا قلت: ما تصنع أصنع؛ لأنك أبهمته، ولم تقصد إلى شيء واحد بعينه، فالمعنى من الإبهام الذي يكون في الجزاء والاستفهام كذلك هو التعجب، لأنك إذا قلت: ما أحسن زيداً، فقد أبهمت ذاك فيه، ولم تخصص.

ومما جاء من ما بغير صلة في غير الجزاء والاستفهام، لمشاركتها إياهما في الإبهام: إني مما أن أفعل. فالمعنى: إني من الأمر أن أفعل.

وتقول: إني مما أفعل على معنى: ربما أفعل. كما قال:

وإنا لمما نضرب الكبش ضربةً ... على رأسه تلقى اللسان من الفم

وقال الآخر:

ألا غنياً بالزاهرية إنني ... على النأي مما أن ألم بها ذكر

ومن ذلك قولهم: دققته دقاً نعما، أي نعم الدق.

فإن قال قائل: فإذا قلت: ما أحسن زيدا فكان بمنزلة: شيء حسن زيدا، فكيف دخله معنى التعجب، وليس ذلك في قولك: شيء أحسن زيدا؟ قيل له: قد يدخل المعنى في اللفظ، ولا يدخل في نظيره. فمن ذلك قولهم: علم الله لأفعلن. لفظه لفظ: رزق الله، ومعناه القسم.

ومن ذلك قولهم: غفر الله لزيد، لفظه لفظ الخبر، ومعناه الدعاء.

ومن ذلك أنك تقول: تالله لأفعلن. فتقسم على معنى التعجب، ولا تدخل التاء على شيء من أسماء الله غير هذا الاسم؛ لأن المعنى الذي يوجب التعجب إنما وقع ها هنا.

وكل ما لزمه شيء على معنى لم يتصرف؛ لأنه إن تصرف بطل ذلك المعنى، وصار بمنزلة الأفعال التي تجري على أصولها، ولم يدخلها من المعنى أكثر من ذلك.

فإن قال قائل: أرأيت قولك: ما أحسن زيدا، أليس في التقدير والإعمال لا في التعجب بمنزلة قولك: شيء حسن زيدا، فكيف تقول في هذا في قولك: ما أعظم الله يا فتى، وما أكبر الله؟ قيل له: التقدير على ما وصفت لك. والمعنى: شيء عظم الله يا فتى، وذلك الشيء الناس الذين يصفونه بالعظمة، كقولك: كبرت كبيراً، وعظمت عظيماً. فإن قال قائل: فينتصب هذا من حيث انتصب زيد. قيل له: لا شيء من الأفعال ينتصب على معنى الآخر بأكثر من الفاعل والمفعول به.

ألا ترى أنك تقول: شتمت زيداً، وأكرمت عمراً فالفعل الناسب جنس واحد، والمعنى مختلف، وليس شيء يخبر به عن الله عز وجل إلا على خلاف ما تخبر به عن غيره في المعنى، وجنس الفعل واحد في الإعمال. فمن ذلك ما أذكره لك ليدل على سائره إن شاء الله.

وهو نحو قولك: رحم الله الناس، ورحم زيد عمرا، فالرحمة من زيد رقة وتحنن، والله عز وجل يجل عنها.

وكذلك علم الله، وهو العالم بنفسه. وتقول: علم زيد علماً، وإنما ذلك علم جعل فيه، وأدب اكتسبه. وكذلك جميع ما تخبر به.

وإذا كان زيد مفعولا قلت: لقيت زيداً، ورأيت عمرا، وتقول: ذكرت الله. فإنما تعني أن ذكرك كان لهذا الاسم، وكذلك دعوت الله. فمخارج الأفعال واحدة في الإعمال، والمعاني تختلف. فعلى هذا يجري التقدير فيما ذكرت لك.

وقد قال قوم: إن أحسن صلة ل ما، والخبر محذوف. وليس كما قالوا؛ وذلك أن الأخبار إنما تحذف إذا كان في الكلام ما يدل عليها.

وإنما هربوا من أن تكون ما وحدها اسماً، فتقديرهم: الذي حسن زيداً شيء، والقول فيها ما بدأنا به من أنها تجري بغير صلة، لمضارعتها الاستفهام والجزاء في الإبهام.

فإذا قلت: ما أحسن زيداً لم يجز أن تضع الفعل المضارع ها هنا فتقول: ما يحسن زيداً، وما محسن زيدا؛ لأن معنى التعجب إنما دخله على هيئة إن زال لفظها زال المعنى.

ألا ترى أنك تقول: العمر، والعمر، ولا يقع في القسم إلا مفتوحاً؛ لدخول المعنى على هذه الهيئة. ولو قلت: ما أحسن عندك زيدا، وما أجمل اليوم عبد الله، لم يجز، وكذلك لو قلت: ما أحسن اليوم وجه زيد، وما أحسن أمس ثوب زيد؛ لأن هذا الفعل لما لم يتصرف لزم طريقة واحدة، وصار حكمه كحكم الأسماء.

والدليل على ذلك أنك تقوم: أقام عبد الله زيدا، فتنقلب الواو ألفاً، لأنه فعل، وتقول في الاسم: هذا أقوم من ذا. فلا يعل. وتقول في التعجب: ما أقوم زيداً، وما أبيعه. فيكون هذا الفعل لاحقاً بالأسماء لما أخبرتك به من قلة تصرفه.

واعلم أن بناء فعل التعجب إنما يكون من بنات الثلاثة، نحو: ضرب، وعلم، ومكث، وذلك أنك تقول: دخل زيد، وأدخلته، وخرج، وأخرجته، فتلحقه الهمزة، إذا جعلته محمولاً على فعل.

وكذلك تقول: حسن زيد، ثم تقول: ما أحسنه: لأنك تريد: شيء أحسنه.

فإن قيل: فقد قلت : ما أعطاه للدراهم، وأولاه بالمعروف، وإنما هو من أعطى، وأولى. فهذا وإن كان قد خرج إلى الأربعة فإنما أصله الثلاثة والهمزة في أوله زائدة.

وعلى هذا جاء: " وأرسلنا الرياح لواقح " ولو كان على لفظه لكان ملاقح، لأنه يقال: ألفح فهي ملفحة، ولكنه على حذف الزوائد. ومن ذلك قوله:

يخرجن من أجواز ليل غاضي

وإنما هو مغض، واستعمل بحذف زيادته، ومثل ذلك:

تكشف عن جماته دلو الدال

يريد: المدلي.

ومن ذلك حذفك جميع الزوائد إذا احتجت إلى حذفها في تصغير، أو جمع، أو اضطر إليه شاعر؛ كما قال العجاج:

ومهمه هالك من تعرجا

إنما هو مهلك في بعض الأقاويل.

واعلم أن ما جاوز الثلاثة بغير زيادة لم يجز أن يقال فيه: ما أفعله. وذلك لأنك إن بنيته هذا البناء حذفت من الأصل حرفاً. وهذا مما لا يجوز؛ لأن معناه إنما كمل بحروفه؛ إذ كن كلهن أصولا، وإنما يستعمل فيما كان من هذا القبيل ما يدل عليه من فعل غيره وذلك انك إذا قلت: دحرج، واحرنجم، وما أشبه ذلك من الأفعال من غير هذا الجنس قلت: ما أشد دحرجته، وما أشد احرنجامه. لأنك لو أدخلت على هذا الهمزة لخرج من بناء الأفعال، ولا يجوز الحذف لما وصفت لك.

وكذلك ما كان من الألوان والعيوب، نحو: الأعور والأحمر، لا يقال: ما أحمره، ولا ما أعوره. وإنما امتنع هذا لشيئين: أحدهما: أن أصل فعله أن يكون أفعل، وافعال. نحو: احمر واحمار. ودخول الهمزة على هذا محال.

والقول الآخر قول الخليل: وهو أن هذا شيء قد ثبت واستقر، فليس يجوز فيه الزيادة والنقصان. فهو وإن كان مشتقاً من الفعل بمنزلة اليد، والرجل لا تقوله؛ كما لا تقول: ما أيداه، ولا ما أرجله. وإنما أقول: ما أشد يده. فعلى هذا: ما أشد حمرته، وما أشد عوره، وكذلك جميع بابها.

ومثل هذا قوله: هذا أحسن من هذا، وهذا أضرب من ذا، وهذا أشد عوراً من ذا، وأشد حولاً من ذا؛ لأن هذا والتعجب من باب واحد.

فإن قال قائل: فقد جاء في القرآن: " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً " .

قيل له: في هذا جوابان، كلاهما مقنع: أحدهما: أن يكون من عمى القلب، وإليه ينسب أكثر الضلال؛ لأنه حقيقته كما قال: " فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " . فعلى هذا تقول: ما أعماه؛ كما تقول: ما أحمقه.

والوجه الآخر: أن يكون من عمى العين، فيكون " فهو في الآخرة أعمى " لا تريد به أعمى من كذا، ولكنه في الآخرة أعمى، كما كان في الدنيا، وهو في الآخرة أضل سبيلا.

وتقول: يا هند أحسن بزيد، ويا رجلان أحسن بزيد؛ لأنك لست تأمرهم أن يصنعوا شيئاً، وإنما المعنى: ما أحسنه فإذا كان من الألوان، والعيوب قلت يا هند، أشدد بحمرة زيد، ويا رجال، أشدد بحمرة زيد. ومن هذا الباب قول الله عز وجل " أسمع بهم وأبصر " .

ولا يقال لله عز وجل تعجب. ولكنه خرج على كلام العباد. أي هؤلاء ممن يجب أن يقال لهم: ما أسمعهم، وأبصرهم في ذلك الوقت.

ومثل هذا قوله: " فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى " ولعل إنما هي للترجي. ولا يقال ذلك لله ولكن المعنى والله أعلم ، إذهبا أنتما على رجائكما، وقولا القول الذي ترجوان به. ويرجو به المخلوقون تذكر من طالبوه.

وأما قوله: " فما أصبرهم على النار " فليس من هذا. ولكنه والله أعلم التقرير والتوبيخ. وتقديره: أي شيء أصبرهم على النار؟ . أي دعاهم إليها، واضطرهم إليها؛ كما تقول: صبرت زيداً على القتل. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر الروح. ومثل ذلك قوله:

قلت له: أصبرها دائناً ... أمثال بسطام بن قيس قليل

فهذا مجازه، ولا يقال لله عز وجل؛ لأنه إنما يعجب من يرد عليه ما لا يعلمه، ولا يقدره، فيتعجب كيف وقع مثله؟ وعلام الغيوب يجل عن هذا.

نقول في شيء من مسائل هذا الباب

ما أحسن، وأجمل زيداً. إذا نصبت بأجمل. فإن نصبته بأحسن قلت: ما أحسن، وأجمله زيداً؛ لأنك تريد: ما أحسن زيداً، وأجمله.

وتقول: ما أحسن ما كان زيد. فترفع زيد بكان، وتجعل ما مع الفعل في معنى المصدر، وتوقع التعجب على ما، وما بعدها صلة لها. فالتقدير: ما أحسن كون زيد.

وقد يجوز وهو بعيد ما أحسن ما كان زيداً. تجعل ما بمنزلة الذي، فيصير ما أحسن الذي كان زيداً. كأنه كان اسمه زيداً، ثم انتقل عنه. وإنما قبح هذا لجعلهم ما للآدميين. وإنما هذا من مواضع من، لأن ما إنما هي لذات غير الآدميين، وصفات الآدميين.

ألا ترى أنك تقول: ما عندك.؟ فتقول: فرس، أو حمار، ولو قلت: من عندك لقال: زيد، أو عمرو. والصفات للآدميين التي تقع عليها ما فهي نحو قولك: عندي زيد، فأقول: وما زيد؟ فيكون جوابه: طويل، أو قصير، أو شريف، أو وضيع.

وإنما أجزناه على بعد؛ لأن الصفة قد تحل محل الموصوف، تقول: مررت بالعاقل، وجاءني الظريف.

وقال بعض المفسرين في قوله عز وجل: " والسماء وما بناها " قال: ومن بناها.

وكان أبو زيد يروي عن العرب أنها تقول: سبحان ما سبح الرعد بحمده. فعلى هذا أجزناه.

وتقول: ما أحسن ما كان زيد وأجمله، وما أحسن ما كانت هند وأجمله؛ لأنك ترد إلى ما. ولو قلت: وأجملها جاز على أن تجعل ذلك لها.

وإذا قلت: ما أحسن زيداً. فرددت ذلك إلى نفسك قلت: ما أحسنني؛ لأن أحسن فعل فظهر المفعول بعده، كما يظهر بعد ضرب، ولو كان اسماً لظهرت بعده ياء واحدة إذا أراد المتكلم نفسه نحو قولك: هذا غلامي.

وتقول في الاستفهام: ما أحسن زيد؟ إذا أردت: أي أحسن من زيد؟.

فإذا جعلت المسألة منك قلت: ما أحسني؛ كما تقول: من غلامي؟ فإنما يجري المضمر مجرى الظاهر.

ألا ترى أن إذا قلت: ما أحسن زيد، فرددت ذلك إلى نفسك قلت: ما أحسنت.

وتقول: ما أحسن زيداً، ولولا قولك معه لم يكن للكلام معنى. وذلك أنك إذا قلت: ما أحسن رجلاً. فليس هذا مما يفيد به السامع شيئاً؛ لأنه لا يستنكر أن يكون في الناس من هو كذا كثير.

ولو قلت: ما أحسن رجلاً من بني فلان. أو رجلاً رأيته عندك حتى تقويه بشيء يوجد فيه. معنى يخرج من باب الإشاعة لصلح.

وهذا بمنزلة قولك: كان رجل عاقلاً، وإن رجلاً عاقل يجوز فيه ما جاز فيهما، ويمتنع فيه ما امتنع فيهما.

وتقول: ما أحسن إنساناً قام إليه زيد، وما أقبح بالرجل أن يفعل كذا فالرجل الآن شائع، وليس التعجب منه، وإنما التعجب من قولك: أن يفعل كذا، كنحو: ما أقبح بالرجل أن يشتم الناس، تقديره: ما أقبح شتم الناس بمن فعله من الرجال.

ولو قلت: ما أحسن رجلاً إذا طلب ما عنده أعطاه كان هذا الكلام جائزاً، ولم يكن أحسن وإن نصب رجلاً واقعاً عليه إنما هو واقع على فعله. وإنما جاز أن يوقع التعجب عليه وهو يريد فعله؛ لأن فعله به كان وهو المحمود عليه في الحقيقة والمذموم، كقولك: رأيت زيداً يضرب عمراً؛ ثم تقول: رأيت ضرب زيد عمراً. فالضرب لا يرى، وإنما رأيت الفاعل والمفعول به، ورأيت الفاعل يتحرك وذلك المتحرك يدل على نوع الحركة، فأما الحركة نفسها فلا ترى، لأن المرئي لا يكون إلا حسبما ملونا.

ولو قلت: ما أكثر هبتك الدنانير، وإطعامك المساكين كنت قد أوقعت التعجب بالفعل، واتصل به التعجب من كثرة المفعول، وهو الطعام والدنانير التي يهبها. فكأنك قلت: ما أكثر الدنانير التي تهبها، والطعام الذي تطعمه. إن أردت هذا التقدير.

وإن أردت أن هبته أو طعامه يفعلها كثيراً، إلا أن ذلك يكون نزراً في كل مرة جاز، وكان وجه الكلام ألا يقع التعجب على هذا؛ لأن هذا شبيه بالإلغاز؛ لأن قصد التعجب الكثرة فإذا تؤول على القلة فقد زال معنى التعجب. ولكن بعض الأشياء يدل على بعض.

ألا ترى أنك تقول: ما جاءني غير زيد، وتريد: ما جاءني إلا زيد.

وقد يجوز ألا يكون زيد جاءك، ويكون الكلام مستوياً. ولك أنك إذا قلت: ما جاءني غير زيد فإنما زعمت أن غيره لم يأتك، فجائز أن يكون أيضاً ما جاءك إلا أنك أمسكت عن الخبر فيه. ولهذا مسائل غامضة تأتي في موضعها إن شاء الله.

هذا باب

ما جرى في بعض اللغات مجرى الفعل

لوقوعه في معناه وهو حرف جاء لمعنى، ويجري في غير تلك اللغة مجرى الحروف غير العوامل وذلك الحرف ما النافية.

تقول: ما زيد قائماً، وما هذا أخاك. كذلك يفعل أهل الحجاز. وذلك أنهم رأوها في معنى ليس، تقع مبتدأة، وتنفي ما يكون في الحال، وما لم يقع. فلما خلصت في معنى ليس ودلت على ما تدل عليه، ولم يكن بين نفييهما فصل البتة حتى صارت كل واحدة تغني عن الأخرى أجروها مجراها.

فمن ذلك قول الله عز وجل: " ما هذا بشراً " و " ما هن أمهاتهم " .

وأما بنو تميم فيقولون: ما زيد منطلق، يدعونها حرفاً على حالها بمنزلة إنما إذا قلت: إنما زيد منطلق.

وأهل الحجاز إذا أدخلوا عليها ما يوجبها، أو قدموا خبرها على اسمها ردوها إلى أصلها فقالوا: ما زيد إلا منطلق، وما منطلق زيد؛ لأنها حرف لا يتصرف تصرف الأفعال، فلم يقو على نقض النفي، كما لم يقو على تقديم الخبر، وذلك لما خبرتك به في الأفعال والحروف، وأن الشيء إنما يتصرف عمله كما يتصرف هو في نفسه. فإذا لزم طريقة واحدة لزم ما يعمل فيه طريقة واحدة.

وتقول في قول أهل الحجاز: ما زيد منطلقاً أبوه، ولا خارجاً أبوه، وما زيد قائماً إليه عبد الله؛ لأنك تجري عليه ما كان لشيء من سببه؛ كما يجري عليه ما كان له خاصةً.

ألا ترى أنك تقول: مررت برجل قائم أبوه؛ كما تقول: مررت برجل قائم.

وتقول إن شئت ما زيد قائماً، ولا خارج أبوه. جعلت أباه بمنزلة الأجنبي، فصار خارج خبراً مقدماً. كأنك قلت: ما زيد منطلقاً، ولا أبوه خارج.

وتقول: ما زيد خارجاً غلامه، ولا منطلقه جاريته. يكون في العطف على حاله.

فأما قول بني تميم فعلى أنهم أدخلوا ما على المبتدأ، وقد عمل في خبره؛ كما يعمل الفعل في فاعله، فكأن قولهم: ما زيد عاقل، بمنزلة: ما قام زيد؛ لأنهم أدخلوها على كلام قد عمل بعضه في بعض، فلم يغير؛ لأنه لا يدخل عامل على عامل.

وأما أهل الحجاز فإنهم لما رأوها في معنى ليس في جميع مواقعها: تغني كل واحدة منهما عن صاحبتها أجروها مجراها في العمل ما دام الكلام على وجهه فقالوا: ما زيد منطلقاً؛ كما يقولون: ليس زيد منطلقاً. فإن أدخلوا عليها ما يوجبها أو قدموا خبرها رجعت إلى أنها حرف، فقالوا: ما منطلق زيد؛ لأنها ترجع إلى أن الكلام ابتداء وخبر، فصار بمنزلة قولك: قائم زيد، وأنت تريد: زيد قائم. لا يكون التقديم إلا على ذلك؛ لأن ليس فعل، وهذه ليست بفعل. تقول: لست، ولسنا، وليسوا، ولسن، ولا يكون شيء من هذه الإضمار في ما، ولكن لما أشبهت الفعل جرت مجراه ما كان على مجراه وفي موضعه، فلما فارقت ذلك لم يجز النقض فيها والتصرف؛ لأنها في نفسها غير متصرفة، ولا محتملة ضميراً.

ألا ترى أنك تقول: إن زيداً منطلق، ولو قدمت الخبر لم تقل: إن منطلق زيداً، لأنك لا تجعل الحروف غير المتصرفة كالأفعال المتصرفة، ولو فعلت ذلك للزمك أن تصرفها في أنفسها، وهذا محال.

فأما تقديم الخبر فقولك: ما منطلق زيد، وما مسئ من أعتب.

فإنما قدمت على حد قولك: ما زيد منطلق، ولو أردت التقديم على قولك: ما زيد منطلقاً لم يجز؛ كما لا يجوز: إن منطلق زيداً.

وهذا قول مغن في جميع العربية: كل ما كان متصرفاً عمل في المقدم والمؤخر، وإن لم يكن متصرفاً لم يفارق موضعه، لأنه مدخل على غيره.

وأما نقض الخبر فقولك: ما زيد إلا منطلق؛ لأنك نفيت عنه كل شيء إلا الانطلاق. فلم تصلح ما أن تكون عاملة في نقض النفي؛ كما لم تعمل في تقديم الخبر.

قال الله عز وجل: " وما أمرنا إلا واحدة كلمح " و " ما هذا إلا بشر مثلكم " وقال حيث كانت في موضعها " ما هذا بشراً " و " ما هن أمهاتهم " .

فهذا أصلها الذي شرحنا، وسنفرد باباً للمسائل؛ إذ كانت لا تصح إلا بعد الفراغ من الأصول.

فأما قول الفرزدق:

فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ... إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر

فالرفع الوجه، وقد نصبه بعض النحويين، وذهب إلى أنه خبر مقدم، وهذا خطأ فاحش. وغلط بين. ولكن نصبه يجوز على أن تجعله نعتاً مقدماً، وتضمر الخبر. فتنصبه على الحال. مثل قولك: فيها قائماًً رجل، وذلك أن النعت لا يكون قبل المنعوت، والحال مفعول فيها، والمفعول يكون مقدماً ومؤخراً، وقد فسرنا الحال بالعامل إذا كان فعلاً، وإذا كان على معنى الفعل بما يستغنى عن إعادة القول فيه.

هذا باب

من مسائل ما

تقول: ما زيد منطلقاً، ولا قائم عمرو. رفعت قائماً لأنه خبر مقدم، فكأنك قلت: وما قائم عمرو.

وتقول: ما زيد منطلقاً، ولا قائماً أبوه، وإن شئت قلت: ولا قائم أبوه.

أما النصب فلأنك أجريت على زيد الخبر، لأنه لما هو من سببه فهو بمنزلة ما كان له.

ألا ترى أنك تقول: ما زيد قائماً أبوه، كما تقول: ما زيد قائماً، ولو قلت: ما زيد قائماً عمرو كان محالاً.

وأما الرفع فعلى أنك جعلته خبراً للأب، ثم قدمته على ذلك. فكأنك قلت: ما زيد أبوه قائم، فكان بمنزلة الأجنبي في الانقطاع من الأول، ومبايناً للأجنبي في وقوعه خبر الأول، رفعت أو نصبت.

أما قولنا: بمنزلة الأجنبي، فإنك إذا قلت: ما زيد منطلقاً، ولا قائم أبوه فهو كقولك: ولا قائم عمرو؛ لأنك عطفت جملة على جملة، فاستوى ما له سبب وما لا سبب له.

وأما قولنا: إذا كان حبراً بان من الأجنبي، رفعت أو نصبت فذلك قولك: ما زيد منطلقاً أبوه، وما زيد أبوه منطلق، لا يجوز أن يكون الأجنبي في هذا الموضع لو. قلت: ما زيد منطلقاً عمرو، أو ما زيد عمرو منطلق كان خطأ ولم يكن للكلام معنى؛ لأنك ذكرت زيداً ولم تصل له خبراً.

فإن قلت: ما زيد منطلقاً عمرو إليه، أو ما زيد منطلقاً رجل يحبه، أو نحو ذلك من الرواجع إليه صح الكلام، وصح معناه، وهذا بين جداً.

وتقول: ما أبو هند قائماً، ولا منطلقةً أمه، على ما وصفت لك. ولو قلت: ما أبو هند قائماً، ولا منطلقة أمها كان خطأ؛ لأنك لم ترد إلى الأب شيئاً، وهو الذي عنه تخبر وإنما جئت بالهاء لغيره.

ألا ترى أنك لا تقول: ما أبو هند منطلقة أمها.

فأما قول الشاعر:

فليس بمعروف لنا أن نردها ... صحاحاً ولا مستنكر أن تعقرا

فإن هذا البيت إنما جاء في ليس، وليس تقديم الخبر وتأخيره فيها سواء. ولكنا نشرحه على ما يصلح مثله في ما وما يمتنع: إنما كان في ذكر الخيل فقال: فليس بمعروف لنا أن نردها، أي فليس بمعروف لنا ردها. ف ردها اسم ليس، وبمعروف لنا الخبر. ثم قال: ولا مستنكر أن تعقرا، وتأويله: ولا مستنكر عقرها. فهذا لا يكون إلا منقطعاً عن الأول؛ لأن العقر مضاف إلى ضمير الخيل، وليس يرجع إلى الرد، والرد غير الخيل. فهذا بمنزلة قولك: ما أبو زينب قائماً، ولا ذاهبة أمها؛ لأن الأم ترجع إلى زينب لا إلى من خبر عنه وهو الأب.

ولو قلت في ليس خاصة: ولا مستنكراً أن تعقرا، على الموضع كان حشناً؛ لأن ليس يقدم فيها الخبر، فكأنك قلت: ليس بمنطلق عمرو، ولا قائماً بكر، على قولك وليس قائماً بكر.

وأما الخفض فيمتنع؛ لأنك تعطف بحرف واحد على عاملين، وهما الباء وليس. فكأنك قلت: زيد في الدار، والحجرة عمرو. فتعطف على في والمبتدأ.

وكان أبو الحسن الأخفش يجيزه. وقد قرأ بعض القراء: " واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون " فعطف على إن وعلى في. وهذا عندنا غير جائز.

ومثل البيت المتقدم قوله:

هون عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها

فليس بآتيك منهيها ... ولا قاصر عنك مأمورها

لأن المأمور راجع إلى الأمور. ومنهيها بعضها.

فالرفع على مثل قولك: ليس زيد قامتاً، ولا عمرو منطلق، قطعته من الأول، وعطفت جملة على جملة. والنصب قد فسرناه على الموضع.

وكان سيبويه يجيز الجر في هذا وفي الذي قبله، فيقول: ولا قاصر، ولا مستنكر ويذهب إلى أن الرد متصل بالخيل، وأن المنهي متصل بالأمور، فإذا رد إلى المنهي، فكأنه قد رد إلى الأمور، ويحتج بهذه الأبيات التي أذكرها، وهي قول الشاعر:

وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم

فأنث؛ لأن الصدر من القناة. وكذلك قوله:

لما أتى خير الزيبر تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع

ومثله:

مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم

ومثله:

إذا مر السنين تعرقتنا ... كفى الأيتام فقد أبى اليتيم

وفي كتاب الله عز وجل: " فظلت أعناقهم لها خاضعين " ومثل هذا كثير جداً.

وليس القول عندي كما ذهب إليه، وسنفصل بين هذا وبين ما ذكر إن شاء الله.

أما قوله: " فظلت أعناقهم لها خاضعين " ففيه قولان: أحدهما: أنه أراد بأعناقهم جماعاتهم. من قولك: أتاني عنق من الناس، أي جماعة وإلى هذا كان يذهب بعض المفسرين، وهو رأي أبي زيد الأنصاري.

وأما ما عليه جماعة أهل النحو، وأكثر أهل التفسير فيما أعلم فإنه أضاف الأعناق إليهم، يريد الرقاب، ثم جعل الخبر عنهم؛ لأن خضوعهم بخضوع الأعناق. ومن ذلك قول الناس: ذلت عنقي لفلان، وذلت رقبتي لك. قال عمارة:

فإني امرؤ من عصبة خندقية ... أبت للأعادي أن تذيخ رقابها

جعل للأعادي تبييناً، ولم يدخله في صلة أن.

وأما قوله: كما شرقت صدر القناة من الدم: فإن صدر القناة قناة، وكذلك سور المدينة؛ لأنها إنما مدنت بسورها.

وأما قوله:

طول الليالي أسرعت في نقضي

فإن الطول غير منفكة الليالي منه. فتقديره: الليالي أسرعت في نقضي.

وقريب منه قوله:

رأت مر السنين أخذن مني

لأن السنين إنما تعقل. بمرورها وتصرفها.

والذي قال خارج من هذا؛ لأنه إنما يجوز أن تخبر عن المضاف إذا ذكرت المضاف إليه إذا كان الأول بعضه، أو كان المعنى مشتملاً عليه. فأما قوله:

فليس بمعروف لنا أن نردها

فإن الرد غير الخيل، والعقر راجع إلى الخيل في قوله:

ولا مستنكر أن تعقرا

فليس بمتصل بشيء من الرد، ولا داخل في المعنى. فأما قوله:

فليس بآتيك منهيها

فهو أقرب قليلاً، وليس منه؛ لأن المأمور بعضها، والمنهي بعضها، وقربه أنهما قد أحاطا بالأمور. وليس يجوز الخفض عندنا إلا على عاملين فيمن أجازه، وقد ذكرنا ذلك.

وتقول: ما زيد قائماً إلا أبوه، أردت: ما زيد قائماً أحد إلا أبوه، فجاز ذلك؛ لأن أحداً منفي عنه القيام، وكذلك: ما زيد آكلاً إلا الخبز، أردت: ما زيد آكلاً شيئاً إلا الخبز، وما زيد إلا طعامك آكل. رفعت آكلاً؛ لأنه وقع موجباً. فعلى هذا يجري أصول هذا الباب ومسائله.

هذا باب

النداء

اعلم أنك إذا دعوت مضافاً نصبته، وانتصابه على الفعل المتروك إظهاره. وذلك قولك: يا عبد الله؛ لأن يا بدل من قولك: أدعو عبد الله، وأريد، لا أنك تخبر أنك تفعل، ولكن بها وقع أنك قد أوقعت فعلاً. فإذا قلت: يا عبد الله، فقد وقع دعاؤك بعبد الله، فانتصب على أنه مفعول تعدى إليه فعلك.

وكذلك كل ما كان نكرة؛ نحو: يا رجلاً صالحاً، ويا قوماً منطلقين، والمعنى واحد. وعلى هذا يا حسرةً على العباد.

وقال الشاعر:

أداراً بحزوى هجت للعين عبرةً ... فماء الهوى يرفض أو يترقرق

وقال الشاعر:

لعلك يا تيسا نزا في مريرة ... تعذب ليلى أن تراني أزورها

وقال الآخر:

فيا راكباً إما عرضت فبلغن ... نداماي من نجران أن لا تلاقيا

وأما المضاف فكقوله: " يا قومنا أجيبوا داعي الله " ، وما أشبهه.

فإن كان المنادى واحداً مفرداً معرفة بني على الضم، ولم يلحقه تنوين؛ وإنما فعل ذلك به؛ لخروجه عن الباب، ومضارعته ما لا يكون معرباً. وذلك أنك إذا قلت: يا زيد، ويا عمرو، فقد أخرجته من بابه؛ لأن حد الأسماء الظاهرة أن تخبر بها واحد عن واحد غائب، والمخبر عنه غيرها فتقول: قال زيد، فزيد غيرك وغير المخاطب، ولا تقول: قال زيد وأنت تعنيه، أعني المخاطب. فلما قلت: يا زيد خاطبته بهذا الاسم، فأدخلته في باب ما لا يكون إلا مبنياً نحو: أنت، وإياك، والتاء في قمت، والكاف في ضربتك، ومررت بك. فلما أخرج من باب المعرفة، وأدخل في باب المبنية لزمه مثل حكمها، وبنيته على الضم؛ لتخالف به جهة ما كان عليه معرباً؛ لأنه دخل في باب الغايات.

ألا ترى أنك تقول: جئت قبلك، ومن قبلك. فلما صار غاية لما أذكره في موضعه قلت: جئت قبل يا فتى، وجئت من قبل قال الله عز وجل: " لله الأمر من قبل ومن بعد " .

وكذلك تقول: جئت في أول الناس. وتقول: ابدأ بهذا أول يا فتى. لما خرج من باب الإعراب، فصار غايةً خولف به عن جهته، ولهذا موضع يذكر فيه مستقصى بحججه إن شاء الله.

فن قال قائل: فالمضاف والنكرة مخاطبان، كما كان في المفرد المعرفة، وقد كان حقهما أن يخبر عنهما، ولا يخاطبا.

قيل له: قد علمنا أن المضاف معرفة بالمضاف إليه، كما كان قبل النداء والنكرة في حال النداء؛ كما كان قبل ذلك.

وزيد وما أشبهه في حال النداء معرفة بالإشارة منتقل عنه ما كان قبل ذلك فيه من التعريف.

ألا ترى أنك تقول إذا أردت المعرفة : يا رجل أقبل. فإنما تقديره: يا أيها الرجل أقبل، وليس على معنى معهود، ولكن حدثت فيه إشارة النداء، فلذلك لم تدخل فيه الألف واللام، وصار معرفة بما صارت به المبهمة معارف.

والمبهمة مثل: هذا، وذاك، وهذه، وتلك، وأولئك وذاك، وذاكن، وذلكن. إلا أنك إذا ناديته فهو معرفة بالإشارة؛ كما كانت هذه الأسماء، غير أنه مخاطب، وهي مخبر عنها. فهذا يوضح لك أمر الواحد المفرد.

ومع ذلك أن المضاف تمنعه الإضافة من البناء: كما كان ذلك في قبل، وبعد، وأمس، وما أشبههن.

تقول: ذهب أمس بما فيه، وقد ذهب أمسنا، وكذلك تقول: جئت من قبل، ومن بعد يا فتى. كما قال الله عز وجل: " ومن قبل ما فرطتم في يوسف " فلما أضاف قال: " من بعد أن أظفركم عليهم " و " من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي " .

والفصل بين قولك: يا رجل أقبل إن أردت به المعرفة، وبين قولك: يا رجلاً أقبل إذا أردت النكرة أنك إذا ضممت فإنما تريد رجلاً بعينه تشير إليه دون سائر أمته.

وإذا نصبت ونونت فإنما تقديره يا واحداً ممن له هذا الاسم، فكل من أجابك من الرجال فهو الذي عنيت، كقولك: لأضربن رجلاً. فمن كان له هذا الاسم بر به قسمك.

ولو قلت: لأضربن الرجل لم يكن إلا واحداً معلوماً بعينه، إلا أن هذا لا يكون إلا على معهود. فأعربت النكرة؛ لأنها في بابها لم تخرجها منه. ومع هذا أن التنوين الذي فيه مانع من البناء، كما كان ذلك في المضاف.

ومن جعل قبل وبعد نكرتين نون، وأجراهما على وجوه الإعراب. وقد قرأ بعض القراء " لله الأمر من قبل ومن بعد " .

فمن جعلهما نكرتين فتقديره والله أعلم لله الأمر أولاً وآخراً.

ومن جعلهما معرفتين فتقدير ذلك: قبل ما نعلم وبعجه، وقبل كل شيء وبعده. تقول: يا زيد وعمرو أقبلا، ويا هند وزيد أقبلا. تجري كل مفرد معرفة وإن اختلفت أجناسه مجرى واحداً؛ لأن النداء يخرجه إلى طريقة واحدة.

فإن نعت مفرداً بمفرد فأنت في النعت بالخيار: إن شئت رفعته، وإن شئت نصبته.

تقول: يا زيد العاقل أقبل، ويا عمرو الظريف هلم. وإن شئت قلت: العاقل، والظريف. أما الرفع فلأنك أتبعته مرفوعاً.

فإن قال: فهذا المرفوع في موضع منصوب فلم لا يكون بمنزلة قولك: مررت بعثمان الظريف؟ لم تتبعه الاسم لأن الاسم في موضع مخفوض وأنه منعه أنه لا ينصرف، فجرت صفته على ما كان ينبغي أن يكون عليه؟ فالفصل بينهما اطراد البناء في كل منادى مفرد حتى يصير البناء علة لرفعه. وإن كان ذلك الرفع غير إعراب، وليس كل اسم ممنوعاً من الصرف.

فمن ذلك قوله:

يا حكم الوارث عن عبد الملك

فهو الأكثر في الكلام. وأما النصب فعلى الموضع؛ لأن موضع زيد منصوب.

فتقدير هذا إذا رفعت تقدير قولك: ليس زيد بقائم، ولا قاعد على اللفظ وإن كانت الباء زائدة. وتقدير المنصوب تقدير قولك: ليس زيد بقائم، ولا قاعداً حملت قاعداً على الموضع إلا أن هذا معرب في موضعه وزيد مبني في النداء، ولكني مثلت لك بما اختلف وجهاه كاختلاف نعت زيد المفرد ومما جاء من نعت المنادى المفرد منصوباً قول جرير:

فما كعب بن مامة وابن سعدى ... بأجود منك يا عمر الجوادا

وإذا نعت مفرداً بمضاف لم يكن المضاف إلا منصوباً تقول: يا زيد ذا الجمة، ويا زيد غلام عمرو.

والفصل بين هذا وبين المفرد أنك إذا نعت شيئاً بشيء فهو بمنزلته لو كان في موضعه. فقولك: مررن بزيد الظريف كقولك: مررت بالظريف، وكذلك مررت بعمرو العاقل.

فأنت إذا قلت: يا زيد الظريف فتقديره: يا ظريف على ما حددت لك.

وقولك: يا زيد ذا الجمة، بمنزلة: يا ذا الجمة. فلذلك لم يكن المضاف إذا كان نعتاً إلا نصباً.

أما المضاف المنادى فنعته لا يكون إلا نصباً، مفرداً كان أو مضافاً، وذلك قولك: يا عبد الله العاقل؛ لأنك إن حملته على اللفظ. فهو منصوب، والموضع موضع نصب. فأما قوله:

إني وأسطار سطرن سطرا ... لقائل: يا نصر نصر نصرا

فإن هذا البيت ينشد على ضروب: فمن قال: يا نصر نصراً نصراً فإنه جعل المنصوبين تبييناً لمضموم، وهو الذي يسميه النحويون عطف البيان، ومجراه مجرى الصفة، فأجراه على قولك: يا زيد الظريف وتقديره تقدير قولك: يا رجل زيداً أقبل. جعلت زيداً بياناً للرجل على قول من نصب الصفة.

وينشد: يا نصر نصر نصراً. جعلهما تبييناً، فأجرى أحدهما على اللفظ، والآخر على الموضع؛ كما تقول: يا زيد الظريف العاقل، ولو حمل العاقل على أعني كان جيداً.

ومنهم من ينشد: يا نصر نصر نصراً. يجعل الثاني بدلاً من الأول، وينصب الثاني على التبيين. فكأنه قال: يا نصر نصراً.

وأما الأصمعي فزعم أن هذا الشعر: " يا نصر نصراً نصراً " وأنه إنما يريد: المصدر؛ أي: انصرني نصراً.

وقال أبو عبيدة: هذا تصحيف إنما قاله لنصرين سيار: يا نصر نصراً نصراً إغراء، أي: عليك نصرا، يغريه به.

اعلم أن البدل في جميع العربية يحل محل المبدل منه، وذلك قولك: مررت برجل زيد، وبأخيك أبي عبد الله. فكأنك قلت: مررت بزيد، ومررت بأبي عبد الله. فعلى هذا تقول: يا زيد أبا عبد الله، فتنصب أبا عبد الله نعتاً كان أو بدلاً؛ لأنك إذا أبدلته منه فكأنك قلت: يا أبا عبد الله. وتقول: يا أخانا زيداً أقبل؛ لأن البيان يجري مجرى النعت. فكأنك قلت: يا أخانا الظريف أقبل. لا يكون في الظريف إلا النصب، ولا في زيد إذا كان تبييناً.

واعلم أن المعطوف على الشيء يحل محله؛ لأنه شريكه في العامل. نحو: مررت بزيد وعمرو، وجاءني زيد وعمرو.

فعلى هذا تقول: يا زيد وعمرو أقبلا، ويا زيد وعبد الله أقبلا؛ لأن عبد الله إذا حل محل زيد في النداء لم يكن إلا نصباً. تقول: مررت بعمرو ومحمد يا فتى؛ لأن محمداً إذا حل هذا المحل لم يكن إلا مخفوضاً منوناً.

وتقول: يا عبد الله وزيد أقبلا، لا يكون إلا ذلك لما ذكرت لك. فإن عطفت اسماً فيه ألف ولام على مضاف أو منفرد فإن فيه اختلافاً: أما الخليل، وسيبويه، والمازني فيختارون الرفع، فيقولون: يا زيد، والحارث أقبلا. وقرأ الأعرج: " يا جبال أوبي معه والطير " .

وأما أبو عمرو، وعيسى بن عمر، ويونس، وأبو عمر الجرمي فيختارون النصب، وهي قراءة العامة. وحجة من اختار الرفع أن يقول إذا قلت: يا زيد والحارث: فإنما أريد: يا زيد، ويا حارث.

فيقال لهم: فقولوا: يا الحارث. فيقولون: هذا لا يلزمنا؛ لأن الألف واللام لا تقع إلى جانب حرف النداء. وأنتم إذا نصبتموه لم توقعوه أيضاً ذلك الموقع. فكلانا في هذا سواء.

وإنما جوزت لمفارقتها حرف الإشارة؛ كما تقول: كل شاة وسخلتها بدرهم، ورب رجل وأخيه، ولا تقول: كل سخلتها، ولا رب أخيه حتى تقدم النكرة.

وحجة الذين نصبوا أنهم قالوا: نرد الاسم بالألف واللام إلى الأصل؛ كما نرده بالإضافة والتنوين إلى الأصل. فيحتج عليهم بالنعت الذي فيه الألف واللام. وكلا القولين حسن. والنصب عندي حسن على قراءة الناس.

مثل ذلك اختلافهم في الاسم المنادى إذا لحقه التنوين اضطراراً في الشعر. فإن الأولين يرون رفعه، ويقولون: هو بمنزلة مرفوع لا ينصرف، فلحقه التنوين على لفظه.

وأبو عمرو بن العلاء وأصحابه يلزمونه النصب، وحجتهم في ذلك ما ذكرت لك، ويقولون: هو بمنزلة قولك: مررت بعثمان يا فتى، فمتى لحقه التنوين رجع إلى الخفض.

فمما جاء على ذلك قول مهلهل:

رفعت رأسها إلي وقالت ... يا عدياً لقد وقتك الأواقي

والأحسن عندي النصب، وأن يرده التنوين إلى أصله؛ كما كان ذلك في النكرة والمضاف. وكذلك بيت الأحوص:

سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطر السلام

وقال الآخر:

يا عدياً لقلبك المهتاج

وأما قول الصلتان:

أيا شاعراً لا شاعر اليوم مثله ... جرير ولكن في كليب تواضع

فكان الخليل يزعم أن هذا ليس نداء من أجل المعنى. وذلك أنه لو ناداه كان قد نادى منكوراً، وكان كل من أجابه ممن له هذا الاسم فهو الذي نادى، كقولك: إذا جاء رجل فأعلمني. فإنما أخبرته بأن يعلمك إذا جاء واحد ممن له هذه البنية. قال: فكيف يكون نكرة وهو يقصد إلى واحد بعينه، فيفضله. ولكن مجازاه أنه قال: يا، فنبه، ثم قال: عليكم شاعراً لا شاعر اليوم مثله وفيه معنى التعجب. كأنه قال: حسبك به شاعراً؛ لما فيه من المعنى، واللفظ على ما شرحت لك.

وإذا كانت الصفة لازمة تحل محل الصلة في أنه لا يستغنى عنها لإبهام الموصوف لم يكن إلا رفعاً، لأنها وما قبلها بمنزلة الشيء الواحد؛ لأنك إنما ذكرت ما قبلها لتصل به إلى ندائها. فهي المدعو في المعنى. وذلك قولك: يا أيها الرجل أقبل: أي مدعو، والرجل نعت لها، وها للتنبيه؛ لأن الأسماء التي فيها الألف واللام صفات للمبهمة، مبينة عنها، ونفسر ذلك مستقصىً، ثم نعود إلى موضعه من النداء إن شاء الله.

تقول: جاءني هذا الرجل. فالرجل في غير هذا الموضع لا يذكر إلا على معهود. نحو قولك: جاءني الرجل. فمعناه الذي عرفته، والذي كان بيني وبينك فيه ذكر.

فإذا قلت: جاءني هذا الرجل لم يكن على معهود، ولكن معناه الذي ترى. فإنما هذا اسم مبهم بقع على كل ما أومأت إليه بقربك، وإنما توضحه بما تنعته به، ونعته الأسماء التي فيها الألف واللام، ويجوز أن تنعته بالصفات التي فيها الألف، واللام إذا أقمت الصفة مقام الموصوف، فتقول: مررت بهذا الطويل إذا أشرت إليه، فعلم ما تعني بالطويل.

وأصل النعت بهذه الأسماء كما وصفت لك.

فإذا قلت: يا أيها الرجل لم يصلح في الرجل إلا الرفع؛ لأنه المنادى في الحقيقة، وأي مبهم متوصل به إليه.

وكذلك: يا هذا الرجل. إذا جعلت هذا سبباً إلى نداء الرجل، فإذا أردت أن تقف على هذا؛ كما تقف على زيد، فتنادى تقول: يا هذا، ثم تنعته كنت في النعت مخيراً؛ كما كنت في نعت زيد.

والفصل بين أي، وبين هذا أن هذا اسم للإشارة فهو يكتفي بما فيه من الإيماء.

وأي مجازها مجاز ما ومن، تكون اسماً في الخبر بصلة، وتكون استفهاماً ومجازاة، فتقول: أيهم في الدار؟ كما تقول: من في الدار؟ وما عندك؟. إلا أن أياً يسأل بها عن شيء من شيء تقول: أي القوم زيد؟ فزيد واحد منهم. وأي بنيك أحب إليك.

ومن لا تكون إلا لما يعقل. تقول: من في الدار؟ فالجواب: زيد، أو عمرو، وما أشبه ذلك، وليس جوابه أن تقول: فرس أو حمار، أو طعام، أو شراب.

ولو قلت: أي الآلة عندك؟ أو أي الظهر عندك؟ أجبت عن هذا على مقدار المسألة.

وما تقع على كل شيء، وحقيقتها أن يسأل بها عن ذوات غير الآدميين، وعن صفات الآدميين. تقول: ما عندك؟ فتجيب عن كل شيء ما خلا من يعقل.

فأما وقوعها على صفات الآدميين فأن تقول: ما زيد؟ فيقول لك: طويل، أو شريف، أو نحو ذلك. فإذا أقمت الصفة مقام الموصوف أوقعتها على من يعقل، وإقامة الصفة مقام الموصوف كقولك: مررت بظريف، ومررت بعاقل، فإنما حد هذا أن يكون تابعاً للاسم، وأقمته مقامه.

فمما وقعت ما فيه على الآدميين قول الله: " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أوما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين " .

وقال قوم: ما وصلتها مصدر، فمعناه: أو ملك أيمانهم، وهذا أقيس في العربية. وقال الله عز وجل: " والسماء وما بناها " ، فقال قوم: إنما هو: والسماء وبنائها، وقال قوم: معناه: ومن بناها على ما قيل فيما قبله.

فأما وقوع هذه الأسماء في الجزاء، وفي معنى الذي فبين واضح، نحو: من يأتني آته وما " يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها " و " أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " فلذلك أخرنا شرحه حتى نذكره في موضعه إن شاء الله.

فأما قوله:

يا أيها الجاهل ذو التنزي

ويا أيها الرجل ذو المال فإن الذي يختار الرفع. وذلك لأن الرجل مرفوع غير مبني، و ذو التنزي نعت له فهو بمنزلة قولك: جاءني الرجل ذو المال.

والنصب يجوز على أن تجعله بدلاً من أي. فكأنك قلت: يا أيها الرجل يا ذا التنزي.

وتقول: يا زيد العاقل ذو المال، إن جعلت ذا المال من نعت العاقل.

فإن جعلته من نعت زيد، أو بدلاً من زيد فالنصب.

وتقديره إذا كان نعتاً : يا زيد ذا المال، وإذا كان بدلاً فتقديره، يا ذا المال. وأما قوله: يا أيها الرجل ذو الجمة، فلا يجوز أن يكون ذو الجمة من نعت أي لا تقول: يا أيها ذا الجمة، وذلك لأن المبهمة معارف بأنفسها، فلا تكون نعوتها معارف بغيرها، لأن النعت هو المنعوت في الحقيقة. لا تقول: مررت بهذا ذي المال على النعت؛ كما تقول: بهذا الرجل، ورأيت غلام هذا الرجل.

ونظير ما ذكرت لك قوله:

ألا أيهذا المنزل الدارس الذي ... كأنك لم يعهد بك الحي عاهد

تجعل هذا نعتاً لأي لأنه مبهم مثله. فهذا ما ذكرت لك من أن نعت الشيء على منهاجه. وتقول: يا هذا الطويل أقبل، في قول من قال: يا زيد الطويل.

ومن قال: يا زيد الطويل قال: يا هذا الطويل وليس بنعت لهذا ولكنه عطف عليه، وهو الذي يسمى عطف البيان.

ألا ترى أنك إذا قلت: جاءني زيد، فخفت أن يلتبس الزيدان على السامع، أو الزيود قلت: الطويل، وما أشبهه؛ لتفصل بينه وبين غيره، ولا تذكر إلا ما يخصه ممن له مثل اسمه.

وإذا قلت: جاءني هذا فقد أومأت له إلى واحد بحضرتك، وبحضرتك أشياء كثيرة فإنما ينبغي أن تبين له عن الجنس الذي أومأت إليه؛ ليفصل ذلك من جميع ما بحضرتك مما يراه. فأنت هناك إنما تخص له شيئاً من شيء مما يعرفه بقلبه، وأنت هاهنا إنما تبين له واحداً من جماعة تلحقها عينه.

فأما الطويل وما أشبهه، فإنما حده أن يكون تابعاً لما يلحق المبهمة من الجواهر. تقول: جاءني هذا الرجل الطويل، واشتريت هذا الحمار الفاره يا هذا.

واعلم أن كل موضع يقع فيه المضاف منصوباً في النداء فهو الموضع الذي يقع فيه المفرد مضموماً غير منون.

وكل موضع يرتفع فيه المضاف فهو الموضع الذي يقع فيه المفرد منوناً. تقول: يا أيها الرجل زيد على قولك: يا أيها الرجل ذو المال، لأن زيداً تبيين للرجل؛ كما كان ذو المال نعتاً للرجل.

وإنما منعنا أن نقول: زيد نعت، لأن النعت تحلية، وليست الأسماء الأعلام مما يحلى بها ولكنه تبيين لأي وشرح.

وتقول: يا أيها الرجل زيد أقبل على البدل من أي؛ كما تقول: يا أيها الرجل ذا الجمة. فالبدل من الشيء يحل محله. فكأنك قلت: يا زيد، ويا ذا الجمة.

وتقول: يا أيها الرجل الضارب زيداً؛ كما تقول: يا أيها الرجل الظريف، وكذلك يا أيها الرجل الحسن الوجه، ويا زيد الحسن الوجه. ترفع لأنه مفرد، وإن كنت قد خفضت الوجه لأن تقديره: يا زيد الحسن وجهه، ويا زيد الحسن. لأنك نعته بالحسن، ثم بلغت به موضعاً منه أو بسببه فهو يجري في كل ذلك مجرى الظريف.

فإن قال قائل: فنحن نجده في اللفظ مضافاً. تقول: هذا الحسن الوجه، كما تقول: هذا صاحب الدار يا فتى.

قيل له: الفصل بين هذا وذاك أنك تقول: هذا حسن وجهه، فترفع الوجه بأن الفعل له. فإذا أدخلت الألف واللام قلت: هذا الحسن وجهه، فتقديره: هذا الذي حسن وجهه؛ كما تقول: هذا القائم أبوه. فلا معنى للإضافة ها هنا.

فإذا قلت: هذا الحسن الوجه فإنما هو منقول من هذا؛ كما ينقل النصب من قولك: الحسن وجهاً، فليس بخارج من معنى الذي.

وعلى هذا ينشد هذا البيت:

يا صاح يا ذا الضامر العنس ... والرحل والأقتاب والحلس

يريد الذي ضمرت عنسه. وسنذكر حال هذه الأسماء إذا كانت مناداة، وما يصلح أن يعرف منها وينكر إن شاء الله.

هذا باب

الأسماء التي يلحقها ما يلحق الأسماء المضافة

من النصب لما يضم إليه

تقول: يا خيراً من زيد أقبل، ويا حسناً وجهه، ويا عشرين رجلاً، ويا ضارباً زيداً، ويا قائماً في الدار، ويا ضارباً رجلاً.

أما كون هذه الأسماء نكرات فقد قلنا في النكرات، وكيف يجب فيها النصب. وإنما نذكر هذه الأسماء إذا كانت معارف، وإنما تكون معارف على ضربين: إما سميت به رجلاً، وإما دعوتها في مواضعها على حد قولك: يا رجل أقبل. تريد: يا أيها الوجل أقبل. وأي ذلك كان فلفظها واحد منصوب.

أما قولك: يا ضارباً زيداً فإنما أردت: يا أيها الضارب. فلما حذفت الألف واللام لحق التنوين للمعاقبة، فرده إلى الأصل، لأنك لم تنون مضطراً كما قال:

سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطر السلام

فيكون دخول التنوين ها هنا كدخوله على اسم مرفوع لا ينصرف، ولكنه دخل لأن ما بعده من تمام الاسم الذي قبله، فصار التنوين كحرف في وسط الاسم. فلم يكن إلا النصب بما دخل الاسم من التنوين والتمام.

وكذلك إن سميت رجلاً ثلاثةً وثلاثين لقت: يا ثلاثةً وثلاثين أقبل وليس بمنزلة قولك للجماعة: يا ثلاثة وثلاثون أقبلوا؛ لأنك أردت: يا أيها الثلاثة، ويا أيها الثلاثون.

ولو قلت: يا ثلاثة والثلاثين لجاز الرفع والنصب، مثل: يا زيد والحارث، والحارث ولكنك أردت: يا من يقال له ثلاثة وثلاثون. فكل ما لحق هذه الأسماء من تنوين، أو اسم يضم إليها فهو بمنزلة الإضافة.

وكذلك لو سميت رجلاً بقولك: زيد وعمرو لقلت: يا زيداً، وعمراً، أقبل. ولو سميته طلحة وزيداً قلت: يا طلحة وزيداً، أقبل. فإن أردت بطلحة الواحدة من الطلح قلت: يا طلحة وزيداً، أقبل؛ لأنك سميته بهما منكورة، ولم تكن جميع الاسم، فيصير معرفة. إنما هي من حشو الاسم؛ كما كانت فيما نقلتها عنه.

فأما قولك: يا زيد منطلق إذا سميته بقولك: زيد منطلق فلا يجوز غيره؛ لأن زيداً مبتدأ، ومنطلق خبره. فقد عمل زيد في منطلق عمل الفعل، ولا يجوز أن يدخل عامل على عامل، ولكنك تحكيه، كما أنك لو سميت رجلاً قام زيد لقلت: يا قام زيد، وجاءني قام زيد كما قال:

كذبتم وبيت الله لا تأخذونها ... بنى شاب قرناها تصر وتحلب

والفصل بين هذا وبين ما قبله أن قولك: زيد منطلق كلام تام، وقولك: طلحة وزيد، وضارب رجلاً، وخير منك بمنزلة قولك زيد يحتاج إلى خبر أو فعل حتى يتم.

وقولك: يا خيراً من زيد إذا أردت المعرفة على معنى: يا رجل يكون على ضربين: إن شئت قلت: يا خيراً من زيد فنونت وأنت تريد الألف واللام، كما كان ذلك فيما قبله. وإن شئت قلت: يا خير أقبل، وذلك لأن قولك: زيد أفضل من عمرو، من وما بعدها تعاقبان الألف واللام؛ كما تفعل الإضافة. فمن لم يقل: هذا خير من زيد قال: هذا الأخير قد جاء، وهذا الأفضل، وما أشبهه. ومن لم يقل: يا أفضل من زيد قال: يا أفضل أقبل على معنى: يا أيها الأفضل. فعلى هذا يجري أفعل الذي معه من كذا.

وقولك: يا حسن الوجه إذا لم ترد النكرة إنما معناه: يا أيها الحسن. فهو وإن كان مضافاً في تقدير: يا حسناً وجهه إذا أردت: يا أيها الحسن وجهه كما وصفت لك في بابه في أول الكتاب.

هذا باب

الاسمين اللذين لفظهما واحد والآخر منهما مضاف

وذلك قولك: يا زيد زيد عمرو، ويا تيم تيم عدي.

فالأجود في هذا أن نقول: يا تيم تيم عدي، ويا زيد زيد عمرو.

وذلك لأنك أردت بالأول: يا زيد عمرو فإما أقحمت الثاني تأكيداً للأول، وإما حذفت من الأول المضاف استغناءً بإضافة الثاني. فكأنه في التقدير: يا تيم عدي يا تيم عدي؛ كما قال:

إلا علالة أو بدا هة قارح نهد الجزارة

أراد: إلا علالة قارح، أو بداهة قارح فحذف الأول لبيان ذلك في الثاني، فيكون الكلام على هذا: مررت بخير وأفضل من ثم. وقال الفرزدق:

يا من رأى عارضاً أكفكفه ... بين ذراعي وجبهة الأسد

أراد: بين ذراعي الأسد، وجبهة الأسد. وينشدون هذا البيت لجرير على الوجهين، وهو قوله:

يا تيم تيم عدي لا أبا لكم ... لا يلقينكم في سوأة عمر

والأجود: يا تيم تيم عدي، لأنه لا ضرورة فيه، ولا حذف. ولا إزالة شيء عن موضعه.

وكذلك:

يا زيد زيد اليعملات الذبل ... تطاول الليل عليك فانزل

هذا باب

الاسمين اللذين يجعلان بمنزلة اسم واحد

وإنما الثاني في الحقيقة نعت للأول، ولكنهما جعلا بمنزلة الأسماء التي يتبع آخر حرف منها ما قبله.

وتلك الأسماء نحو قولك: أخوك، فتضم الخاء من أجل الواو في الرفع، وتفتح في النصب، وتكسر في الخفض إتباعاً لما بعدها، وكذلك ذو مال.

وامرؤ يا فتى. تقول: هذا امرؤ، ومررت بامرئ، ورأيت امرأ فتكون الراء تابعة للهمزة. وذلك قولك: يا زيد بن عمرو، فجعلت زيداً وابناً بمنزلة اسم واحد، وأضفته إلى ما بعده.

والأجود أن تقول: يا زيد بن عمرو على النعت، والبدل.

وإنما يجوز أن تقول: يا زيد بن عمرو إذا ذكرت اسمه الغالب، وأضفته إلى اسم أبيه، أو كنيته؛ لأنه لا ينفك من ذلك، فهو بمنزلة اسمه الذي هو له.

فإن قلت: ابن أخينا، ويا زيد ابن ذي المال لم يكن إلا كقولك: يا زيد ذا الجمة، وكذلك يا رجل ابن عبد الله. كأنك قلت: يا رجل يا ابن عبد الله. وعلى هذا ينشد هذا البيت:

يا حكم بن المنذر بن الجارود

ولو أنشد: يا حكم بن المنذر كان أجود على ما وصفنا في صدر الباب.

هذا باب

الحروف التي تنبه بها المدعو

وهي: يا، وأيا، وهيا، وأي، وألف الاستفهام.

فهذه الحروف سوى الألف تكون لمد الصوت.

وتقع وا في الندبة، وفيما مددت به صوتك؛ كما تمده بالندبة وإنما أصلها للندبة. وقد تبتدئ الاسم منادى بغير حرف من هذه الحروف. وذلك قوله:

حار بن عمرو ألا أحلام تزجركم ... عنا وأنتم من الجوف الجماخير

وقال الله عز وجل: " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض " . فأما الألف فكقوله:

أحار بن عمرو كأني خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر

وكقول الآخر:

أحار أرى برقاً أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل

وهذه الحروف فاشية في النداء. فإذا كان صاحبها قريباً منك، أو بعيداً ناديته ب يا. تقول: يا زيد، ويا أبا فلان.

وأما أيا، وهيا فلا يكونان إلا للنائم، والمستثقل، والمتراخي عنك؛ لأنهما لمد الصوت.

واعلم أن للنداء أسماءً يخص بها، فمنها قولهم: يا هناه أقبل، ولا يكون ذلك في غير النداء؛ لأنه كناية للنداء. وكذلك يا نومان، ويا فسق، ويا لكاع. وهذه كلها معارف.

وزعم سيبويه أنه لا يجيز نعت شيء منها لا تقول: يا لكاع الخبيثة أقبلي؛ لأنها علامات بمنزلة الأصوات.

ومنها قولهم: يا فل أقبل، وليس بترخيم فلان، ولو كان كذلك لقلت: يا فلا أقبل.

ومما يزيده إيضاحاً أنك تقول: يا فلة أقبلي.

وقد يضطر الشاعر، فيستعمل هذا في غير النداء؛ لأنها في النداء معارف، فينقلها على ذلك. وذلك قوله:

في لجة أمسك فلاناً عن فل

وقال الآخر:

أجول ما أجول ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع

وزعم أن مثله اللهم إنما الميم المشددة في آخره عوض عن يا التي للتنبيه، والهاء مضمومة لأنه نداء.

ولا يجوز عنده وصفه. ولا أراه كما قال؛ لأنها إذا كانت بدلاً من يا فكأنك قلت: يا الله، ثم تصفه؛ كما تصفه في هذا الموضع.

فمن ذلك قوله: " قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة " .

وكان سيبويه يزعم أنه نداء آخر كأنه قال: يا فاطر السموات والأرض.

واعلم أن الاسم لا ينادى وفيه الألف واللام، لأنك إذا ناديته فقد صار معرفة بالإشارة بمنزلة هذا، وذاك، ولا يدخل تعريف على تعريف؛ فمن ثم لا تقول: يا الرجل، تعال.

وأما قولهم يا ألله اغفر فإنما دعى وفيه الألف واللام؛ لأنهما كأحد حروفه. ألا ترى أنهما غير بائنتين منه. وليستا فيه بمنزلتهما في الرجل؛ لأنك في الرجل تثبتهما وتحذفهما، وهما في اسم الله ثابتتان. وهو اسم علم.

وزعم سيبويه أن أصل هذا: إلاه. وأن الألف واللام بدل من همزة إله، فقد صارا بمنزلة ما هو من نفس الحرف إذ كانا بدلاً منه وإنما إثباتهم الألف في قولهم: يا ألله فكما ثبت من ألف الاستفهام في قولك: آلرجل قال ذاك؟. وهذا يبين في موضع ألفات القطع والوصل إن شاء الله.

وليس هذا الاسم بمنزلة الذي والتي، لأنهما نعت بائن من الاسم.

وقد اضطر الشاعر فنادى بالتي؛ إذ كانت الألف واللام لا تنفصلان منها، وشبه ذلك بقولك: يا ألله اغفر لي فقال:

من اجلك يا التي تيمت قلبي ... وأنت بخيلة بالود عني

كما اضطر فأدخل يا في اللهم لما كان العوض في آخر الاسم فقال:

إني إذا ما حدث ألما ... دعوت يا اللهم يا اللهما

وأما هذا البيت الذي ينشده بعض النحويين:

فيا الغلامان اللذان فرا ... إياكما أن تكسبانا شرا

فإن إنشاده على هذا غير جائز، وإنما صوابه: فيا غلامان اللذان فرا؛ كما تقول: يا رجل العاقل، أقبل.

وأما قولهم: يا صاح أقبل، فإنما رخموه لكثرته في الكلام؛ كما رخموا ما فيه هاء التأنيث إذ قالوا: يا نخل ما أحسنك، يريد: يا نخلة، فرخم قال الشاعر:

صاح هل أبصرت بالخيتين من أسماء نارا

يريد: صاحب، فأسقط النداء، ورخم النكرة.

هذا باب

المضاف إلى المضمر في النداء

اعلم أن إضافة المنادى إلى الكاف التي تقع على المخاطب محال. وذلك لأنك إذا قلت: يا غلامك أقبل، فقد نقضت مخاطبة المنادى بمخاطبتك الكاف.

فإن أضفت إلى الهاء صلح على معهود؛ كقول القائل إذ ذكر زيداً: يا أخاه أقبل، ويا أباه، ونحو ذلك، وكذلك: يا أخانا، ويا أبانا.

فأما في الندبة فيجوز يا غلامك، ويا أخاك؛ لأن المندوب غير مخاطب، وإنما هو متفجع عليه، وهذا يحكم في باب الندبة إن شاء الله.

فإن أضفت المنادى إلى نفسك ففي ذلك أقاويل: أجودها حذف الياء، وذلك كقولك: يا غلام أقبل، ويا قوم لا تفعلوا، ويا جاريت أقبلي. قال الله عز وجل: " يا قوم لا أسألكم عليه أجراً " ، وقال: " يا عباد فاتقون " .

وكذلك كل ما كان في القرآن من ذا. كقوله: " رب لا تذر على الأرض " و " رب إني أسكنت من ذريتي " . وإنما كان حذفها الوجه؛ لأنها زيادة في الاسم غير منفصلة منه معاقبة للتنوين حالة في محله، فكان حذفها ها هنا كحذف التنوين من قولك: يا زيد، ويا عمرو، وكانت أحرى بذلك؛ إذ كانت تذهب في الموضع الذي يثبت فيه التنوين. وذلك إذا التقى ساكنان وهي أحدهما. تقول جاءني غلامي العاقل، وجاءني زيد العاقل، فتحرك التنوين لالتقاء الساكنين، وتحذف الياء لالتقاء الساكنين، ومع ذا فإن الياء والكسرة تستثقلان، والكسرة تدل على الياء، فإذا حذفتها دلت عليها كسرتها، وأوضحت لك المعنى. فهذا القول المختار.

والقول الثاني أن تثبتها فتقول: يا غلامي أقبل، ويا صاحبي هلم، وقد قرئ: " يا عبادي فاتقون " .

وحجة من أثبتها أنها اسم بمنزلة زيد. فقولك: يا غلامي بمنزلة: يا غلام زيد، فلما كانت اسماً، والمنادى غيرها ثبتت. ومع هذا أنه من قال: يا غلام في الوصل فإنما يقف على الميم ساكنة، فيلتبس المفرد بالمضاف، وإن رام الحركة فإن ذلك دليل غير بين؛ لأنه عمل كالإيماء. فمن ذلك قوله:

فكنت إذ كنت إلهي وحدكا ... لم يك شيء يا إلهي قبلكا

والوجه الثالث أن تثبت الياء متحركة. تقول: يا غلامي أقبل، ويا صاحبي هلم، فتثبت الياء على أصلها، وأصلها الحركة.

والدليل على ذلك أنها اسم على حرف، ولا يكون اسم على حرف إلا وذلك الحرف متحرك لئلا يسكن وهو على أقل ما يكون عليه الكلم فيختل. ألا ترى أن الكاف متحركة من ضربتك، ومررت بك، وقمت، وقمت يا فتى، وقمت يا امرأة، التاء متحركة لأنها اسم.

فأما الألف في ضربا، ويضربان، والواو في ضربوا، ويضربون، والياء في تضربين فتلك في درج الكلام، وليست في موضع هذه التي تقع موقع الظاهرة؛ لأنها جعلت بحذاء الحركات التي يعرب بها كالضمة والفتحة والكسرة.

ألا ترى أن قولك: قمت التاء في موضع زيد إذا قلت: قام زيد، وكذلك ضربتك الكاف في موضع زيداً إذا قلت: ضربت زيداً، وكذلك هذه الياء.

وإنما كانت حركتها الفتحة؛ لأن هذه الياء تكسر ما قبلها. تقول: هذا غلامي، ورأيت غلامي، فتكسر المرفوع والمنصوب. والياء المكسور ما قبلها لا يدخلها خفض ولا رفع لثقل ذلك، نحو ياء القاضي، ويدخلها الفتح في قولك: رأيت القاضي؛ فلذلك بنيت هذه الياء على الفتح.

وإنما جاز إسكانها في قولك: هذا غلامي، وزيد ضربني؛ لأن ما قبلها معها بمنزلة شيء واحد، فكان عوضاً مما يحذف منها، والحركات مستثقلة في حروف المد واللين؛ فلذلك أسكنت استخفافاً.

فمما حركت فيه على الأصل قول الله عز وجل: " يا ليتني لم أوت كتابه، ولم أدر ما حسابيه " حركت الياء على الأصل، وألحقت الهاء لبيان الحركة في الوقف.

فإن وصلت حذفتها؛ لأن حركة الياء تظهر في ماليه وسلطانيه، وما كان مثل هذا إنما هو بمنزلة قولك " فبهداهم اقتده " فإن وصلت حذفت. وكذلك يقرأ: " لكم دينكم ولي دين " على الإسكان والحركة.

فإن كان ما قبل هذه الياء ساكناً فالحركة فيها لا غير لئلا يلتقي ساكنان، وذلك قولك: هذه عشري يا فتى، وهذه رحاي فاعلم. و " يا بني لا تدخلوا من باب واحد " حذفت النون للإضافة، وأدغمت الياء التي كانت في ياء الإضافة. فحركت ياء الإضافة لئلا يلتقي ساكنان على أصلها، وكذلك قولك: " هي عصاي أتوكأ عليها " لا يكون إلا ذلك لما ذكرت لك من سكون ما قبلها.

وأما قوله: " يا بني إنها إن تك " فإنما أضاف قوله بني فاعلم، الياء ثقيلة فتصرف في الكلام؛ لأن الواو والياء إذا سكن ما قبل كل واحد منهما جريا مجرى غير المعتل. نحو: دلو، وظبي، ومغزو، ومرمي. لا يكون ذلك إلا معرباً.

هذا باب

ما لا يجوز فيه إلا إثبات الياء

وذلك إذا أضفت اسماً إلى اسم مضاف إليك. نحو قولك: يا غلام غلامي، ويا صاحب صاحبي، ويا ضارب أخي، وإنما كان ذلك كذلك؛ لأنك إنما حذفت الأول كحذفك التنوين من زيد، فكان يا غلام بمنزلة يا زيد. فإذا قلت: يا غلام زيد لم يكن في زيد إلا إثبات النون؛ لأنه ليس بمنادى، فكذلك يا غلام غلامي.

قال الشاعر:

يا ابن أمي، ويا شقيق نفسي ... أنت خليتني لدهر شديد

وقال آخر:

يا ابن أمي ولو شهدتك إذ تد عو تميماً وأنت غير مجاب

فهذا حكم جميع هذا الباب، ومجراه أن تثبت الياء في كل موضع يثبت فيه التنوين في زيد، ونحوه.

وأما قولهم: يا ابن أم، ويا ابن عم فإنهم جعلوهما اسماً واحداً بمنزلة خمسة عشر، وإنما فعلوا ذلك لكثرة الاستعمال.

ألا ترى أن الرجل منهم يقول لمن لا يعرف، ولمن لا رحم بينه وبينه: يا ابن عم، ويا ابن أم حتى صار كلاماً شائعاً مخرجاً عمن هو له فلما كان كذلك خفف، فجعل اسماً واحداً. قال الله عز وجل: " يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي " ولم يكن ذلك في غير هذا؛ إذ لم يكن فيه من الاستعمال ما في هذا.

وقد قالوا: يا ابن أم لا تفعل. وذلك أنه لما جعلهما اسماً واحداً صارت بمنزلة زيد، ثم أضافه كما تضيف زيداً فتقول: يا زيد لا تفعل.

ومن أثبت الياء في زيد أثبتها ها هنا، إلا أن الأجود إذا أثبتت الياء أن يكون إثباتها كإثبات الياء في قولك: يا غلام غلامي، فتجعل ابناً مضافاً إلى مضاف إلى الياء.

والوجه الآخر جائز على ما وصفت لك. وأما قول رؤبة:

إما تريني اليوم أم حمز ... قاربت بعد عنقي وجمزى

فليس من هذا، ولكنه قدر حمزة أولاً مرخماً على قولك: يا جار، فجعله اسماً على حياله، فأضاف إليه؛ كما تضيف إلى زيد. وجملة هذا الباب على ما صدرنا به.

وهذان الاسمان أعني يا ابن أم، ويا ابن عم دخلتهما العلة التي دخلت في قولك: هو جاري بيت بيت، ولقيته كفة كفة. وهذا يشرح في باب ما يجري وما لا يجري. وإجراؤهما على أصل الباب في الجودة على ما ذكرت لك، قال الشاعر:

يا ابنة عمي لا تلومي واهجعي

وبعضهم ينشد: يا ابنة عما. فيبدل من الكسرة فتح، ومن الياء ألفاً؛ لأن الياء والكسرة مستثقلتان، وليس هذا موضع لبس.

وكل مضاف إلى يائك في النداء يجوز فيه قلب الياء ألفاً؛ لأنه لا لبس فيه وهو أخف، وباب النداء باب تغيير.

ألا ترى أنهم يحذفون فيه تنوين زيد، ويدخل فيه مثل يا تيم تيم عدي، ومثل يا بؤس للحرب، ويصلح فيه الترخيم.

ونظير قلبهم هذه الياء ألفاً ما قالوا في مدارى وعذارى وبابه، إذا لم يخافوا التباساً، ولم يقولوا مثل ذلك في قاض، لأن الكلام مثل فاعل، فكرهوا الالتباس.

هذا باب

لام المدعو المستغاث به ولام المدعو إليه

فإذا دعوت شيئاً على جهة الاستغاثة فاللام معه مفتوحة. تقول: يا للناس، ويا لله، وفي الحديث: لما طعن العلج، أو العبد عمر رحمه الله صاح: يا لله للمسلمين.

فإن دعوت إلى شيء فاللام معه مكسورة، تقول: يا للعجب. ومعناه: يا قوم تعالوا إلى العجب. فالتقدير: يا قوم للعجب أدعو، ونحن مفسرو هاتين لم اختلفتا؟ أما قولهم: يا للعجب، ويا للماء. فإنما كسروا اللام، كما كسروا مع كل ظاهر نحو قولك: للماء أدعو، ولزيد الدار، ولعبد الله الثوب.

وأما المفتوحة التي للمستغاث فإنما فتحت على الأصل ليفرق بينها وبين هذه التي وصفنا، وكان التغيير لها ألزم؛ لأن هذه الأخرى في موضعها الذي تلحق هذه اللام له. وتلك إنما هي بدل من قولك: يا زيداه إذا مددت الصوت تستغيث به، فيا لزيد بمنزلة يا زيداه إذا كان غير مندوب.

فأما قولنا: فتحت على الأصل فلأن أصل هذه اللام الفتح، تقول: هذا له، وهذا لك. وإنما كسرت مع الظاهر فراراً من اللبس؛ لأنك لو قلت: إنك لهذا وأنت تريد: لهذا لم يدر السامع أتريد لام الملك أم اللام التي للتوكيد؟ وكذلك يلزمك في الوقف في جميع الأسماء إذا قلت في موضع إن هذا لزيد: إن هذا لزيد. لم يدر السامع أتريد: أن هذا زيد أم هذا له؟ فلذلك كسرت اللام.

فأما في المكنى فهي على أصلها. تقول: إن هذا لك. فإن أردت لام التوكيد قلت: إن هذا لأنت: لأن الاسم الذي وضع للرفع ليس في لفظ الاسم الذي وضع للخفض.

وتقول: يا للرجال وللنساء. تكسر اللام في النساء. لأنك إنما فتحتها في الأول فراراً من اللبس، فلما عطفت عليه الثاني علم أنه يراد به ما أريد بما قبله، فأجريتها مجراها في الظاهر.

ألا ترى أن من يقول إذا قلت له: رأيت زيد : من زيدا؟ إنما أراد أن يحكي ما قلت ليعلم أنه إنما يسأل عن زيد الذي ذكرته. فإن قال: ومن زيد رفع، لأنه لما أدخل الواو أعلمك أنه يعطف على كلامك، فاستغنى عن الحكاية.

فمما قيل في ذلك قوله:

يبكيك ناء بعيد الدار مغترب ... يا للكهول وللشبان للعجب

فهذا نظير ما وصفت لك في العطف.

فأما ما جاء في فتح لام المستغاث به، وكسر لام المدعو له فأكثر من أن يحصى. منه ما أّكره: قال الحارث بن خالد:

يا للرجال ليوم الأربعاء، أما ... ينفك يبعث لي بعد النهي طرباً

وقال آخر:

يا لقوم من للنهى والمساعي ... يا لقومي من للندى والسماح؟

يا لعطافنا ويا لرياح ... وأبى الحشرج الفتى الوضاح

هذا باب

ما يجوز أن تحذف منه علامة النداء

وما لا يجوز ذلك فيه

تقول: زيد أقبل، وتقول: من لا يزال محسناً، تعال، وغلام زيد، هلم، رب اغفر لنا كما قال جل وعز: " رب قد آتيتني من الملك " وقال عز وجل: " فاطر السموات والأرض " .

فجملة هذا: أن كل شيء من المعرفة يجوز أن يكون نعتاً لشيء، فدعوته أن حذف يا منه غير جائز؛ لأنه لا يجمع عليه أن يحذف منه الموصوف وعلامة النداء، وذلك أنه لا يجوز أن تقول: رجل أقبل، ولا: غلام، تعال، ولا: هذا، هلم، وأنت تريد النداء، وذلك أنه لا يجوز أن تقول: رجل أقبل؛ لأن هذه نعوت أي. تقول: يا أيها الرجل، ويا أيها الغلام، ويا أيهذا؛ لأن أيا مبهم، والمبهمة إنما تنعت بما كان فيه الألف واللام، أو بما كان مبهماً مثلها، وهذا يفسر في باب المعرفة والنكرة إن شاء الله.

قال الشاعر:

ألا أيها المنزل الدارس الذي ... كأنك لم يعهد بك الحي عاهد

وقال:

ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه ... لشيء نحته عن يديه المقادر

وقال الأعشى:

ألا أيهذا السائلي أين يممت؟ ... فإن لها في أهل يثرب موعدا

فهذا تقدير يا أيها إلا أن يضطر شاعر، فإن اضطر كان له أن يحذف منها علامة النداء، وأحسن ذلك ما كانت فيه هاء التأنيث؛ لما يلزمها من التغيير، على أن جوازه في الجميع لا يكون إلا ضرورة.

وقال الشاعر، وهو العجاج:

جاري لا تستنكري عذيري

وقالوا في مثل من الأمثال والأمثال يستجاز فيها ما يستجاز في الشعر لكثرة الاستعمال لها: اقتد مخنوق، وأصبح ليل، وأطرق كرا. يريدون ترخيم الكروان فيمن قال: يا حار، وكذلك قوله:

صاح هل أبصرت بالخبتتين من أسماء نارا

وتقول: حافر زمزم أقبل، لأن هذا لا يكون من نعت أي. وكذلك أمير المؤمنين أعطني، كما قال:

أمير المؤمنين جمعت ديناً ... وحلماً فاضلاً لذوي الحلوم

والنكرة أصلها لا يجوز هذا فيها، ولا يجوز أن تقول: رجلاً أقبل، ولا رجلاً من أهل البصرة أقبل؛ لأنها شائعة، فتحتاج إلى أن يلزمها الدليل على النداء وإلا فالكلام ملتبس.

هذا باب

ما يلزمه التغيير في النداء

وهو في الكلام على غير ذلك

فمن ذلك قولهم: يا أبت لا تفعل، ويا أمت لا تفعلي. فهذه الهاء إنما دخلت بدلاً من ياء الإضافة، والدليل على ذلك أنك إن جئت بالياء حذفتها فقلت: يا أبي لا تفعل، ويا أمي لا تفعلي.

فأما الكسرة التي فيها فدلالة على الإضافة. وكانت الهاء داخلة على الأم؛ لأنها مؤنثة، وعلى الأب: كما دخلت في راوية وعلامة للمبالغة، ولأن الشيئين إذا جريا مجرىً واحداً سوي بين لفظهما.

ألا ترى أنك تقول: فعل أبواي، وهذان أبواك تعني الأب والأم، وإنما أخرجته مخرج قولك: أب وأبة، كما تقول: صاحب وصاحبة، لأن كل جار على الفعل من الأسماء فتأنيثه جار على تذكيره. وما كان من غير فعل، أو كان على غير بناء الفعل نحو: أحمر، وعطشان، وما أشبه ذلك اختلف تأنيثه وتذكيره؛ لأن الفعل تلحقه الزيادة للتأنيث، فيكون الاسم عليه كذلك. تقول: ضرب، فإن عنيت المؤنث قلت: ضربت. فعلى هذا تقول: ضارب وضاربة.

وما كان من قولك: أحمر فالاسم منه محمر. فأما قولك: أحمر فمشتق وليس بجار على الفعل. فهذا الذي وصفت لك.

وتقول: يا أم لا تفعلي، ويا أب لا تفعل إذا لم ترد قول من يثبت الياء، أو يعوض منها الهاء التي هي تاء في الوصل، فإن جئت بالتاء، ووقفت عليها كانت بمنزلة قولك: يا عمى، ويا خالة، ويجوز الترخيم فيها؛ كما جاز في حمدة ونحوها؛ لأنها وإن كانت بدلاً فإنما هي علامة تأنيث في وصلها ووقفها سواء.

وقد قرئ " رب احكم بالحق " . فتقول إذا رخمت : يا أم لا تفعلي، فيمن قال: يا حار، وترفع فيمن قال: يا حار.

والعلم بأنها بدل من ياء الإضافة كالعلم بذلك إذا أثبتها، لأن قولك: يا أم غير مستعمل إلا مضافاً؛ لأنها من الأسماء المضمنة. فإذا لم تكن موصولة بظاهر ولا مضمر له علامة الغائب فهي للمتكلم.

فأما المخاطب فمحال أن تكون له في الدعاء. لا تقول: يا أمك أقبلي؛ لأن المخاطبة لا تجمع اثنين إلا على جهة الإشراك.

والترخيم داخل على المعارف؛ لأنها مثبتة مقصود إليها مبينة من غيرها، والنكرات شائعة غير معلوم واحدها.

هذا باب

المبهمة وصفاتها

اعلم أنك إذا قلت: يا هذا الرجل فإنما أبنت المنادى بذكرك الرجل، وليس الرجل على معهود. فإن قلت: يا هذا ذا الجمة لم يصلح أن يكون ذا الجمة نعتاً؛ لأن المبهمة لا تنعت بالمضاف، لأن المضاف إنما هو معرفة بما بعده، والمبهمة لا يجوز أن تضاف إلى شيء؛ لأنها لا تكون إلا معارف بالإشارة التي فيها، فلم تكن نعوتها إلا مثلها، ولكن يجوز هذا على وجهين: على أن يكون ذا الجمة نداء ثانياً، فيكون التقدير: يا هذا يا ذا الجمة. وعلى أن يكون منصوباً بأعني. فإن قلت: يا هذا الطويل جاز أن يكون الطويل عطفاً على هذا مبيناً له، ويجوز أن يكون نعتاً وليس بوجه الكلام، وإنما ينبغي أن يوضح هذا باسم فيه ألف ولام لا بنعت؛ لأن هذا مبهم، فإنما ينبغي أن يفسر بما يقصد إليه.

وتقول: يا هذان زيد وعمرو، وإن شئت قلت: زيداً وعمراً، وإن شئت قلت: زيد وعمرو.

أما الرفع بغير تنوين فعلى البدل. كأنك قلت: يا زيد، ويا عمرو.

وأما الرفع بتنوين فعلى عطف البيان على اللفظ.

وأما قولك: زيداً وعمراً، فعلى عطف البيان على الموضع.

ولو قلت: يا هذا، وهذا الطويل والقصير لم يجز أن يكون الطويل والقصير نعتاً؛ لأن المبهمة وما بعدها كالشيء الواحد.

ألا ترى أنك إذا قلت: يا هذا الرجل أنك إنما توسلت بهذا إلى دعاء الرجل، فصار المعنى أنك تريد به الرجل الذي أرى، فالرجل على غير معهود. فإذا قلت: يا هذا وهذا خرج الطويل والقصير من الاتصال بهذا وهذا ولكنه يصلح على عطف البيان، وعلى أعني إذا نصبت، وفي العطف تنصب إن شئت وترفع إن شئت. ولكن إن قلت: يا هذان الرجلان، ويا هذان الطويلان كان نعتاً بمنزلة يا هذا الرجل.

فأما أي في قولك: يا أيها الرجل فلا يجوز الوقف على أي كما وقفت على هذا فأنت في هذا مخير: إن شئت أن تقول: يا هذا الرجل جاز، وذلك لأنك تقول: يا هذا، وتقف فإذا وقفت عليه كنت في النعت مخيراً كما كان ذلك في قولك: يا زيد.

فإن كنت تقدر هذا تقدير أي في أنها توسل إلى نداء الرجل لم يجز إلا الرفع، لأنك قدرتها تقدير أي وإنما حلت هذا المحل؛ لأنها إذا لم تكن استفهاماً أو جزاءً لم تكن اسماً إلا بصلة، فإنما حذفت منها الصلة في النداء، لأن النعت قام مقامها.

فإذا قلت: يا أيها الرجل كانت أي والرجل بمنزلة شيء واحد.

ألا ترى أنك لا تقول: يا أي وتسكت؛ كما تقول: يا هذا وتقف؛ لأن هذا مجراها في الكلام أن تتكلم بها وحدها وأي ليس كذلك.

فعلى هذا تقول: يا هذا ذا الجمة، فتبدل منها لأنها تامة، أو تستأنف نداء بعدها. فأما يا أيها ذا الجمة فلا يصلح، لأن أيا لا يوقف عليها فتبدل منها، ولذلك امتنع يا أيها الرجل، لأنها وأي بمنزلة الشيء الواحد.

فإن قلت: يا أيها الرجل ذو المال، فجعلت ذا المال من نعت الرجل لم يكن فيه إلا الرفع على ما وصفت لك. وإن جعلته من نعت أي فخطأ، لأنك لا تقول: يا أيها ذا المال، وإن جعلته بدلاً من أي نصبت.

هذا باب

الندبة

وهو يجري في الكلام على ضربين: أما من أراد أن يفصلها من النداء، وألحق في آخرها ألفاً، وألحق الألف في الوقف هاءً لخفاء الألف. فتبينها بالهاء؛ كما تبين بها الحركة، فإن وصل حذفها.

والوجه الآخر: أن تجري مجرى النداء البتة، وعلامته يا و وا ولا يجوز أن تحذف منها العلامة؛ لأن الندبة لإظهار التفجع ومد الصوت.

واعلم أنك لا تندب نكرة ولا مبهماً ولا نعتاً. لا تقول: يا هذاه، ولا: يا رجلاه إذا جعلت رجلاً نكرة، ولا يا زيد الظريفاه؛ لأن الندبة عذر للتفجع، وبها يخبر المتكلم أنه قد ناله أمر عظيم، ووقع في خطب جسيم.

ألا ترى أنك لا تقول: وامن لا يعنيني أمره، ولا: وامن لا أعرفه وذلك قولك: وازيداه. فإن أتبعته النعت قلت: وازيد الظريف. سقطت الهاء؛ لأنك قد اتبعته كلاماً. وأنت في الظريف مخير: إن شئت رفعت، وإن شئت نصبت؛ لأنه نعت للمنادى.

وتقول: واغلام زيداه، واعبد اللهاه؛ لأن ما قبل الألف لا يكون إلا مفتوحاً، وسقط التنوين من زيد؛ لأن ألف الندبة زيادة في الاسم، والتنوين زيادة، فعاقبت التنوين.

فأما من أجرى المندوب مجرى المنادى فإنه يقول: واغلام زيد؛ لأنه إذا لم يكن أحدهما كان الآخر. وكذلك كل متعاقبين. وتقول: وازيدا واعمراه، تلحق الهاء بعد الذي تقف عليه لما ذكرت لك.

هذا باب

ما كان من المندوب مضافاً إليك

ففي ذلك أقاويل: أما من قال في النداء: يا غلام أقبل، فإنه يقول في الندبة: يا غلاماه، وذلك لأن الألف لحقت هذه الميم المكسورة، فأبدلت من كسرتها فتحة للألف؛ كما أنك أبدلت من ضمة زيد فتحة في قولك: يا زيداه.

ومن رأى أن يثبت الياء ساكنة فيقول: يا غلامي أقبل، فهو فيها بالخيار: إن شاء قال: واغلاماه، فحرك لالتقاء الساكنين، وأثبت الياء لأنها علامة، وكانت فتحتها هاهنا مستخفة، كفتحة الياء في القاضي ونحوه للنصب.

وإن شاء حذفها لالتقاء الساكنين؛ كما تقول: جاء غلام العاقل ومن رأى أن يثبتها متحركة قال: واغلامياه ليس غير.

فإن أضفته إلى مضاف إليك وندبت قلت في قول من جعل الندبة علامة: واغلام غلامياه، لا يكون إلا ذلك، وكذلك: وانقطاع ظهرياه لا بد من إثبات الياء كما ذكرت لك في النداء؛ لأنه الموضع الذي ثبت فيه التنوين في زيد.

وإنما حذفت الياء في النداء؛ لأنها شبهت بالتنوين في زيد وهي مع ذلك يجوز ثباتها. فإذا كان موضع يثبت فيه التنوين لم يكن إلا إثباتها.

ومن لم ير أن يجعل للندبة علامة قال: يا غلام غلامي، ويا غلامي وإن شاء قال: يا غلام وهو الوجه؛ لأنه من لم يجعل للندبة علامة جعلها بمنزلة النداء الصحيح.

وهذا البيت ينشد على وجهين:

بكاء ثكلى فقدت حميما ... فهي ترثى بأبي وابنيما

فلم يجعل للندبة علامة. وبعضهم ينشد: فهي ترثي بأبا وابنيما. وأما قوله:

تبكيهم دهماء معولةً ... وتقول سعدى: وارزيتيه

فإنه لم يجعل للندبة علامة، وأجري مجرى قول من دعا وحرك الياء، فقال: واغلامى، أقبل، فأثبت الهاء لبيان الحركة.

فإن كان ما قبل ياء الإضافة ساكناً فلا بد من حركة الياء، ولا يجوز حذفها كما قلت: يا غلام أقبل؛ لأن هذا يدل على ذهاب يائه الكسرة، ولو حذفت الياء وقبلها ساكن لم يكن عليها دليل، وذلك إذا لم تجعل للندبة علامة، وأضفت قاضياً إلى نفسك قلت: يا قاضي، ويا غلامي، ويا مسلمي. فإن جعلت للندبة علامة قلت: يا قاضياه، ويا مسلمياه، ويا عشرياه.

هذا باب

ما تكون ألف الندبة تابعة فيه

لغيرها فراراً من اللبس بين المذكر والمؤنث، وبين الاثنين والجمع وذلك قولك إذا ندبت غلاماً لامرأة، وأنت تخاطب المرأة : واغلا مكيه، واذهاب غلامكيه؛ لأنك تقول للمذكر: واغلامكاه، وواذهاب غلامكاه، وانقطاع ظهرهيه فيمن قال: مررت بظهرهي يا فتى.

ومن قال: مررت بظهرهو يا فتى قال: وانقطاع ظهرهوه؛ لأنه يقول في المؤنث: وانقطاع ظهرهاه. وتقول في التثنية والجمع كذلك.

فإن ندبت غلاماً لجماعة قلت: واغلامكموه، وواذهاب غلامكموه؛ لأنك تقول للاثنين: واذهاب غلامكماه وفي كل هذا قد حذفت من الاثنين والجمع، الألف والواو لالتقاء الساكنين.

وتقول: واذهاب غلامهموه في قول من قال: مررت بغلامهمو. ومن قال: مررت بغلامهمي يا فتى قال: واذهاب غلامهميه وهذه الهاء والميم والهاء لعلامة المضمر الذي يقع في رأيته، ومررت به تبين في مواضعهن إن شاء الله.

وكان يونس يجيز أن يلقي علامة الندبة على النعت فيقول: وازيد الظريفاه، وازيداه أنت الفارس البطلاه.

وهذا عند جميع النحويين خطأ؛ لأن العلامة إنما تلحق ما لحقه تنبيه النداء لمد الصوت والنعت خارج من ذا.

ولو قلت: وامن حفر زمزماه، و أمير المؤمنيناه كان جيداً؛ لأنك قد ندبت معروفين، ولو قلت: وا أميراه لم يجز؛ لأنك لم تدل على المندوب. وكذلك لو قلت: واهذاه لم يجز؛ لأنك إنما ندبت اسماً معروفاً بالإشارة إليه، ولن تدل عليه بإضافة، وإنما تتفجع له باسم أو إضافة تجمع عليه، أو بشيء من أسمائه يعرف به يكون عذراً للتفجع، كقولك: واسيد العرباه. إذا كان المندوب معروفاً بذلك.

هذا باب

المعرفة والنكرة

وأصل الأسماء النكرة وذلك لأن الاسم المنكر هو الواقع على كل شيء من أمته. لا يخص واحداً من الجنس دون سائره، وذلك نحو: رجل، وفرس، وحائط، وأرض. وكل ما كان داخلاً بالبنية في اسم صاحبه فغير مميز منه؛ إذ كان الاسم قد جمعهما. والمعرفة تدخل على أضرب. جماعها خمسة اشياء.

فمن المعرفة الاسم الخاص؛ نحو: زيد، وعمرو؛ لأنك إنما سميته بهذه العلامة؛ ليعرف بها من غيره. فإذا قلت: جاءني زيد علم أنك لقيت به واحداً ممن كان داخلاً في الجنس لبيان من سائر ذلك الجنس.

فإن عرف السامع رجلين، أو رجالاً كل واحد منهم يقال له زيد فصلت بين بعضهم وبعض بالنعت فقلت: الطويل، والقصير؛ لتميز واحداً ممن تعرفه، فتعلمه أنه المقصود إليه منهم.

فإن كان هناك طويلان أبنت أحدهما من صاحبه بما لا يشاركه صاحبه فيه. وهذا نوع من التعريف.

ونوع آخر وهو ما أدخلت عليه ألفاً ولاماً من هذه الأسماء المشتركة؟ وذلك قولك: جاءني الرجل، ولقيت الغلام؛ لأن معناه: الرجل الذي تعلم، والغلام الذي قد عرفت.

وما أضفته إلى معرفة فهو معرفة. نحو قولك: غلام زيد، وصاحب الرجل. وإنما صار معرفة بإضافتك إليه إلى معروف.

ومن المعرفة الأسماء المبهمة، وإنما كانت كذلك لأنها لا تخلو من أحد أمرين: إما كانت للإشارة نحو: هذا، وذاك، وتلك، وأولئك، وهؤلاء.

أما ما كان مما يدنو منك من المذكر فإنك تقول فيه هذا، والأصل ذا، وها للتنبيه. وتقول للأنثى: ذه، وته، وتا. فإن ألحقت التنبيه قلت: هذه، وهاتا، وهاته، كما قال:

ونبأتماني أنما الموت بالقرى ... فكيف وهاتا هضبة وقليب

وكما قال الآخر:

وليس لعيشنا هذ مهاه ... وليست دارنا ها تا بدار

وما كان من هذا متراخياً عنك من المذكر فهو ذاك وذلك، والكاف لا موضع لها، وهذا يذكر في بابه. وما كان من المؤنث فهو تلك، وتيك، وهاتيك، وهاتاك.

فإن ثنيت، أو جمعت قلت: هذان، وفي المؤنث: هاتان.

ومن قال في الواحدة هذه لم يجز أن يثنى إلا على قولك هاتا؛ لئلا يلتبس المذكر بالمؤنث.

وتقول في الجمع الحاضر: هؤلاء، وأولاء، وهؤلاء، وأولا يمد جميعاً ويقصر، والمد أجود، نحو قوله عز وجل: " ها أنتم هؤلاء تدعون " ، وكقوله: " هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه " . والقصر يجوز، وليس هذا موضع تفسيره.

قال الأعشى:

هاؤلا ثم هؤلا كلً أعطيت نعالا محذوةً بمثال

وها في جميع هذا زائدة. والمتراخي تقول فيه: أولئك، ومن قصر هؤلاء قال: أولاك؛ لأن الكاف إنما تلحق للمخاطبة على ما كان للحاضر؛ لتكون فصلاً بينهما. وإنما صارت هذه معارف بما فيها من الإشارة.

ومن المعرفة المضمر، نحو: الهاء في ضربته ومررت به، والكاف في ضربتك ومررت بك، والتاء في قمت، وقمت، وقمت يا امرأة.

والمضمر المنفصل نحو: هو، وأنت، وإياه، وإياك. وما لحقته التثنية من جميع ما وصفنا، نحو: مررت بكما، ومررت بهما، ومررت بها، وضربتها، وضربتهما، وكذلك مررت بهم، وضربتهم.

والمنفصل في قولهم: هو، وهما، وإياك، وإياكما، وإياكم، وإياه، وإياهما، وإياها، وإياهم، وإياها، وإياهن.

ومررت بها، ومررت بهما، وبهن.

والمضمر الذي لا علامة له نحو قولك: زيد قام، وهند قامت وهو الذي يظهر الألف في تثنيته فتقول: قاما، وقامتا والواو في قاموا الرجال والنون في قمن النساء والياء في قولك: أنت تقومين، وما أشبه هذا.

وإنما صار الضمير معرفة لأنك لا تضمره إلا بعد ما يعرفه السامع؛ وذلك أنك لا تقول: مررت به، ولا ضربته، ولا ذهب، ولا شيئاً من ذلك حتى تعرفه وتدري إلى من يرجع هذا الضمير؟ وهذه المعارف بعضها أعرف من بعض، ونحن مميزو ذلك إن شاء الله؛ كما أن النكرة بعضها أنكر من بعض.

فالشيء أعم ما تكلمت به، والجسم أخص منه، والحيوان أخص من الجسم، والإنسان أخص من الحيوان، والرجل أخص من الإنسان، ورجل ظريف أخص من رجل.

واعتبر هذا بواحدة: بأنك تقول: كل رجل إنسان، ولا تقول: كل إنسان رجل. وتقول: كل إنسان حيوان، ولا تقول: كل حيوان إنسان.

وما كان من النكرات لا تدخله الألف واللام فهو أقرب إلى المعارف، نحو قولك: هذا خير منك، وأفضل من زيد، وسنذكر هذا مبيناً إن شاء الله.

فعلى قدر هذا المعارف، وكلما كان الشيء أخص فهو أعرف. فأخص المعارف بعد ما لا يقع عليه القول إضمار المتكلم؛ نحو أنا، والتاء في فعلت، والياء في غلامي، وضربتني؛ لأنه لا يشركه في هذا أحد، فيكون لبساً، وقد يكون بحضرته اثنان، أو أكثر فلا يدري أيهما المخاطب؟.

فالمضمرة لا تنعت؛ لأنها لا تكون إلا بعد لا يشوبها لبس.

وما كان من الأسماء علماً فهو ينعت بثلاثة أشياء:

ينعت بما فيه الألف واللام، نحو: الظريف، والعاقل. تقول: مررت بزيد العاقل، ورأيت زيداً الكريم. وبما كان مضافاً، نحو قولك: مررت بزيد أخيك، وبعبد الله ذي المال. وبالأسماء المبهمة، نحو: رأيت زيداً هذا، ومررت بعمرو ذاك.

وما كان مضافاً إلى غير ما فيه الألف واللام فكذلك نعته. تقول: مررت بأخيك الطويل، وجاءني غلام زيد العاقل، ومررت بأخيك ذي المال، ورأيت أخاك ذا الجمة، وجاءني أخوك هذا.

وما كان من المبهمة فبابه أن ينعت بالأسماء التي فيها الألف واللام، ثم بالنعوت التي فيها الألف واللام إذا جعلتها كالأسماء، ولا يجوز أن تنعت بالمضاف لعلة نذكرها.

وذلك قولك مررت بهذا الرجل، ورأيت هذا الفرس يا هذا، فالفرس وما قبله بمنزلة اسم واحد وإن كان نعتاً له؛ لأنك إذا أومأت وجب أن تبين، فالبيان كاللازم له.

وتقول: مررت بهذا الظريف. إذا جعلت الظريف كالاسم له؛ لأنه إنما ينبغي أن تبين عن النوع الذي تقصده؛ لأن هذا يقع على كل ما أومأت إليه.

ولا يجوز أن تنعتها بما أضيف إلى الألف واللام، لأن النعت فيها بمنزلة شيء واحد معها. فلما كانت هي لا تضاف؛ لأنها معرفة بالإشارة لا يفارقها التعريف لم يجز أن تضاف. لأن المضاف إنما يقدر نكرة حتى يعرفه أو ينكره ما بعده.

فلذلك لا تقول: جاءني هذا ذو المال، ورأيت ذاك غلام الرجل إلا على البدل، أو تجعل رأيت من رؤية القلب فتعديها إلى مفعولين.

وأما الأسماء التي فيها الألف واللام فتنعت بما كان فيه الألف واللام، وبما أضيف إلى ما فيه الألف واللام، وذلك قولك: مررت بالرجل النبيل، وبالرجل ذي المال.

والمضمر لا يوصف به؛ لأنه ليس بتحلية ولا نسب. ولا يوصف لأنه لا يضمر حتى يعرف، ولأن الظاهر لا يكون نعتاً؛ كما لا ينعت به، ولكنه يؤكد، ويبدل منه.

وزعم سيبويه أن الشيء لا يوصف إلا بما هو دونه في التعريف، فإذا قلت هذا فقد عرفته المخاطب بعينه وقلبه. وإذا قلت: الرجل، أو الظريف فإنما تعرفه شيئاً بقلبه دون عينه.

وأما الأسماء التي هي أعلام؛ نحو: زيد، وعمرو فلا ينعت بها؛ لأنها ليست بتحلية ولا نسب، ولا يكون النعت إلا بواحد منهما، أو بما كان في معناه. ونحن مفسرون ذلك حرفاً حرفاً في هذا الباب إن شاء الله.

إذا قلت: مررت برجل عاقل، أو طويل فمن الفعل أخذته فحليته به.

فإذا قلت: مررت برجل مثلك؛ أو حسبك من رجل، أو مررت برجل أيما رجل فمعنى مثلك إنما هو يشبهك. وأيما رجل معناه: كامل، وقولك: حسبك إنما معناه: يكفيك. يقال: أحسبني الأمر، أي كفاني، وقوله عز وجل: " عطاءً حساباً " أي كافياً.

فهذا ما كان من التحلية التي لا تكون إلا عن فعل، وما ضارع ذلك فراجع إلى معناه. وأما النسب فقولك: مررت برجل تميمي، وقيسي، وكذلك نسب القرابة، نحو: مررت بزيد أخيك، وبزيد بن عبد الله.

هذا باب

مجرى نعت النكرة عليها

وذلك قولك: مررت برجل ظريف. فوجه هذا الخفض، لأنك جعلته وصفاً لما قبله؛ كما أجريت نعت المعرفة عليها.

وإن نصبت على الحال جاز، وهذا يفسر في باب الحال إن شاء الله.

وتقول: مررت برجل ذي مال، فقولك ذي مال نكرة؛ لأن ذا مضافة إلى مال، ومال نكرة. ومررت برجل مثلك. فإن قال قائل: كيف يكون المثل نكرة وهو مضاف إلى معرفة. هلا كان كقولك: مررت بعبد الله أخيك؟ فالجواب في ذلك: أن الأخوة مخطورة، وقولك مثلك مبهم مطلق. يجوز أن يكون مثلك في أنكما رجلان، أو في أنكما أسمران، وكذلك كل ما تشابهتما به، فالتقدير في ذلك التنوين. كأنه يقول: مررت برجل شبيه بك، وبرجل مثل لك.

فإن أردت بمثلك الإجراء على أمر متقدم حتى يصير معناه: المعروف بشبهك لم يكن إلا معرفة، فتقول على هذا: مررت بزيد مثلك؛ كما تقول: مررت بزيد أخيك، ومررت بزيد المعروف بشبهك.

ومثل ذلك في الوجهين مررت برجل شبهك، ومررت برجل نحوك. فأما مررت برجل غيرك فلا يكون إلا نكرة؛ لأنه مبهم في الناس أجمعين، فإنما يصح هذا ويفسد بمعناه.

فأما شبيهك فلا يكون إلا معرفة لأنه مأخوذ من شابهك، فمعناه ما مضى، كقولك: مررت بزيد جليسك. فإن أردت النكرة قلت: مررت برجل شبيه بك؛ كما تقول: مررت برجل جليس لك.

فأما حسبك، وهدك، وشرعك، وكفيك فكلها نكرات، لأن معناها: يكفي.

وقد يجوز أن تقول: مررت برجل هدك من رجل تجعله فعلاً، ومررت بامرأة هدتك من امرأة، وتقول على هذا: مررت برجل كفاك من رجل، ومررت بامرأة كفتك من امرأة.

واعلم أن كل مضاف تريد به معنى التنوين، وتحذف التنوين للمعاقبة منه فهو باق على نكرته؛ لأن المعنى معنى التنوين؛ فلذلك تقول: مررت برجل حسن الوجه؛ لأن معناه حسن وجهه، وكذلك مررت برجل ضارب زيد إذا أردت به ما أنت فيه، أو ما لم يقع؛ لأن معناه: ضارب زيداً.

وكذلك هذه المضافات التي لا تخص، نحو مثلك وشبهك، وغيرك؛ لأنك تريد: هو مثل لك، ونحو لك، ونحو منك.

فأما غيرك إذا قلت: مررت برجل غيرك فإنما هو: مررت برجل ليس بك، فهذا شائع في كل من عدا المخاطب.

ف رب تدخل على كل نكرة؛ لأنها لا تخص شيئاً، فإنما معناه أن الشيء يقع ولكنه قليل. فمن ذلك قوله:

يا رب مثلك في النساء غريرة ... بيضاء قد متعتها بطلاق

وقوله:

يا رب غابطنا لو كان يطلبكم ... لاقى مباعدة منكم وحرمانا

يريد: غابط لنا؛ لأنه لو عنى واحداً بعينه لم يكن للكلام معنى؛ كما لا تقول: رب عبد الله، ولا رب غلام أخيك.

وتقول: مررت برجلين صالحين، فتجري النعت على المنعوت. وقد بينت لك جواز الحال، ونستقصيه في بابه إن شاء الله.

وتقول: مررت برجلين: مسلم وكافر، ومسلم وكافر، كلاهما جيد بالغ.

وكذلك مررت برجلين: رجل مسلم، ورجل كافر، وإن شئت قلت: رجل مسلم ورجل كافر.

أما الخفض فعلى النعت، ورددت الاسم توكيداً.

وأما الرفع فعلى التبعيض، وتقديره: أحدهما مسلم، والآخر كافر. والآية تقرأ على وجهين، وهو قول الله عز وجل: " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة " بالرفع والخفض.

وكذلك قول الشاعر:

فكنت كذي رجلين: رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت

ينشد رفعاً وخفضاً. وقال آخر:

وكنت كذي رجلين: رجل صحيحة ... ورجل رماها صائب الحدثان

وقال آخر:

بكيت وما بكا رجل حزين ... على ربعين: مسلوب وبالى

وتقول: مررت بثلاثة رجال قيام يا فتى، لا يكون إلا الخفض، إلا على ما يجوز من الحال.

فإن قلت: مررت بثلاثة رجال: صريع، وجريح يا فتى لم يجز إلا الرفع؛ لأنك لم تأت على علتهم. فإنما االتقدير: منهم كذا، ومنهم كذا، لا يكون إلا كذلك.

ولو قلت: مررت بثلاثة: قائم، وقاعد، ونائم لكان جيداً؛ لأنك أحطت بعدتهم، والرفع جيد بالغ؛ لأنك إذا أتيت على العدة صلح التبعيض والنعت، وإن لم تأت عليها لم يكن إلا التبعيض.

وتقول: مررت برجل وامرأة، وحمار قيام. فرقت الاسم وجمعت النعت؛ كما فرقت هناك النعت، والاسم مجموع، ولو أردت ها هنا التبعيض لم يجز؛ لأن قياما لفظة واحدة فليس فيه إلا الخفض، إلا جواز الحال.

وتقول: مررت برجل مثلك غيرك. ف غير ها هنا توكيد. لأن غيرا يتكلم بها على وجهين: أحدهما للفائدة، والآخر للتوكيد.

فإذا قلت: مررت برجل غير زيد فقد أفادك أن الرجل الذي مررت به سوى زيد، وكذلك: مررت برجل غيرك: كأنه قال: مررت برجل آخر. لئلا يتوهم السامع أنه بعينه.

فإذا قال: مررت برجل مثلك فقد أعلمه أنه غيره، فإن أتبعه غيرا فإنما هو توكيد وتشديد للكلام. وهذه النكرات كلها تقع حالات وتبييناً، وتجري في جميع مجاري النكرة. تقول: عندي عشرون مثلك، ومائة مثلك، وعشرون غيرك.

فأما عشرون أيما رجل فلا يجوز. وإنما امتنع من أنك لا تقيم الصفة مقام الموصوف حتى تتمكن في بابها، نحو: مررت بظريف، ومررت بعاقل؛ لأنها أسماء جارية على الفعل.

وأيما رجل إنما معناه: كامل فليس بمأخوذ من فعل. وما زائدة. فإنما معناه: مرت برجل أي رجل. فعلى هذا تقع الصفات موقع الموصوف وتمتنع، والمرفوع والمنصوب كالمخفوض.

والمعرفة يجري نعتها كمجرى نعت النكرة. تقول: مررت بعبد الله العاقل، وبأخويك الكريمين، وبأخويك: الكريم واللئيم، على أنك تريد: أحدهما الكريم، وأحدهما اللئيم. وإن شئت خفضت على النعت.

وكذلك كان إخوتك: كريم ولئيم، أي منهم كذا ومنهم كذا إذا لم ترد الجنس. وكان إخوتك قائماً، وقاعداً، ونائماً، وترفع إن شئت.

وكذلك بالألف واللام إلا أن ما كان من هذا بالألف واللام فهو شيء معروف. تقول: كان زيد القائم، أي كان زيد ذلك الذي رأيته قائماً. وإن قلت: كان زيد قائماً لم تقصد إلى واحد رأيته قبل قائماً.

واعلم أن البدل في الكلام يكون على أربعة أضرب: فضرب من ذلك أن تبدل الاسم من الاسم إذا كانا لشيء واحد، معرفتين كانا، أو معرفة ونكرة، أو مضمراً ومظهراً أو مضمرين أو مظهرين، وذلك نحو قولك: مررت بأخيك زيد. أبدلت زيداً من الأخ. نحيت الأخ، وجعلته في موضعه في العامل، فصار مثل قولك: مررت بزيد. وإنما هو في الحقيقة تبيين. ولكن قيل بدل؛ لأن الذي عمل في الذي قبله قد صار يعمل فيه بأن فرغ له.

ولم يجز أن يكون نعتاً؛ لأن زيداً ليس مما ينعت به. فإن قلت: مررت بزيد أخيك جاز في الأخ أن يكون بدلاً، وأن يكون نعتاً، والنعت أحسن؛ لأنه مما ينعت به، والبدل جيد بالغ؛ لأنه هو الأول. فهذا شأن المعرفتين.

فأما المعرفة والنكرة. فإن أبدلت معرفة من نكرة قلت: مررت برجل زيد ومررت بذي مال أخيك. قال الله عز وجل: " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله " . فهذا بدل المعرفة من النكرة.

وفي المعرفتين قوله: " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم " .

وفي بدل النكرة من المعرفة قوله: مررت بزيد صاحب مال، ومررت بالرجل رجل صالح. قال الله عز وجل: " كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية ناصية " .

فأما المضمر والمظهر فكقولك: زيد مررت به أخيك. وتقول: رأيت زيداً إياه، وأخوك رأيته زيداً، والمضمران: رأيتك إياه. فهذا ضرب من البدل.

والضرب الآخر أن تبدل بعض الشيء منه؛ لتعلم ما قصدت له، وتبينه للسامع. وذلك قولهم: ضربت زيداً رأسه. أردت أن تبين موضع الضرب منه، فصار كقولك: ضربت رأس زيد.

ومنه: جاءني قومك أكثرهم. بينت من جاءك منهم. قال الله عز وجل: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " من في موضع خفض؛ لأنه على من استطاع إليه سبيلاً.

ومن ذلك إلا أنه أعيد معه حرف الخفض: " قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم " . كان أيضاً جيداً كالآية التي ذكرنا قبل. فهذان ضربان.

والضرب الثالث أن يكون المعنى محيطاً بغير الأول الذي سبق له الذكر لالتباسه بما بعده، فتبدل منه الثاني المقصود في الحقيقة. وذلك قولك: مالي بهم علم أمرهم، فأمرهم غيرهم. وإنما أراد : مالي بأمرهم علم. فقال: مالي بهم علم وهو يريد أمرهم. ومثل ذلك: أسألك عن عبد الله متصرفه في تجارته؛ لأن المسألة عن ذلك. قال الله عز وجل: " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه " لأن المسألة عن القتال، ولم يسألوا أي الشهر الحرام؟ وقال: " قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود " لأنهم أصحاب النار التي أوقدوها في الأخدود. قال الأعشى:

لقد كان في حول ثواء ثويته ... تقضي لبانات ويسأم سائم

لأنه أراد ثواءه حولاً.

فهذه ثلاثة أوجه تكون في القرآن وفي الشعر وفي كل كلام مستقيم.

ووجه رابع لا يكون مثله في قرآن، ولا شعر، ولا كلام مستقيم وإنما يأتي في لفظ الناسي أو الغالط. وذلك قولك: رأيت زيداً داره، وكلمت زيداً عمراً، ومررت برجل حمار. أراد أن يقول: مررت بحمار فنسي ثم ذكر، فنحى الرجل، وأوصل المرور إلى ما قصد إليه، أو غلط، ثم استدرك. فهذه أربعة أوجه في البدل.

ولو قال في هذا الموضع: مررت برجل بل حمار، ولقيت زيداً بل عمراً كان كذلك إلا أن بل، ولا بل من حروف الإشراك، وقد ذكرنا أحوالها فيما تقدم.

واعلم أن المعارف توصف بالمعارف. فإن وقع بعدها شيء نكرة، والعامل فعل أو شيء في معناه انتصبت النكرة على الحال، ونحن واصفو ذلك في الباب الذي يلي هذا الباب إن شاء الله.

هذا باب

الحالات والتبيين وتفسير معناهما

اعلم أنه لا ينتصب شيء إلا على أنه مفعول، أو مشبه بالمفعول في لفظ أو معنى. والمفعول على ضروب: فمن ذلك المصدر، وهو اسم الفعل، وهو مفعول صحيح؛ لأن الإنسان يفعل، واسم فعله ذلك المصدر. تقول: ضربت ضرباً، وقمت قياماً. فأنت فعلت الضرب والقيام. ولو قلت: ضربت وقمت لدللت على أنك فعلت الضرب والقيام، وكذلك كل فعل تعدى أو لم يتعد.

فإذا قلت: ضربت زيداً، أو كلمت عمراً فأنت لم تفعل زيداً ولا عمراً، إنما فعلت الضرب والكلام، فأوقعت الضرب بزيد، وأوصلت الكلام إلى عمرو. فزيد وعمرو مفعول بهما؛ لأنك فعلت فعلاً أوقعته بهما، وأوصلته إليهما.

فإن قلت: سرت يوم الجمعة، وجلست مكان زيد فإنما فعلت السير والجلوس في هذا الزمان وهذا المكان. فالزمان والمكان مفعول فيهما. والفصل بينهما وبين زيد أنك أوصلت إلى زيد شيئاً. ولم تعمل في الزمان شيئاً، إنما عملت عملاً احتوى عليه الزمان والمكان.

تقول: ضربت زيداً يوم الجمعة في الدار. فأنت لم تصنع بالدار واليوم شيئاً. ولكن لو قلت: هدمت الدار، وبنيت الدار لكانت مفعولة بمنزلة زيد؛ لأنك فعلت فعلاً أوصلته إليها.

وكذلك الحال هي مفعول فيها. تقول: جاءني زيد الطويل. فالطويل نعت، وكذلك مررت بأخيك الكريم. إنما معناه بأخيك الموصوف بالكرم المعروف به.

فإذا قلت: جاءني زيد ماشياً لم يكن نعتاً؛ لأنك لو قلت: جاءني زيد الماشي لكان معناه المعروف بالمشي، وكان جارياً على زيد؛ لأنه تحلية له وتبيين أنه زيد المعروف بهذه السمة؛ ليفصل ممن اسمه مثل اسمه بهذا الوصف.

فإذا قلت: جاءني زيد ماشياً لم ترد أنه يعرف بأنه ماش، ولكن خبرت بأن مجيئه وقع في هذه الحال، ولم يدلل كلامك على ما هو فيه قبل هذه الحالة أو بعدها.

فالحال مفعول فيها. إنما خبرت أن مجيئه وقع في حال مشى، وكذلك مررت بزيد ضاحكاً، وصادفت أخاك راكباً.

فالحال لا يعمل فيها إلا الفعل، أو شيء يكون بدلاً منه، دالاً عليه. وسنبين جميع ذلك إن شاء الله. فإذا كان العامل في الحال فعلً صلح تقديمها وتأخيرها؛ لتصرف العامل فيها، فقلت: جاء زيد راكباً، وراكباً جاء زيد، وجاء راكباً زيد. قال الله عز وجل: " خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث " . وكذلك قائماً لقيت زيداً، وقائماً أعطيت زيداً درهماً، وذاهباً إليك رأيت زيداً.

وإن كان العامل غير فعل لم تكن الحال إلا بعده، وذلك قولك: زيد في الدار قائماً، وفي الدار قائماً زيد، وفي الدار زيد قائماً. إذا كان قائماً بعد قولك في الدار انتصب. ولا يصلح قائماً في الدار زيد، ولا زيد قائماً في الدار، ولا قائماً زيد في الدار. لما أخرت العامل، ولم يكن فعلاً لم يتصرف الفعل، فينصب ما قبله. وهذا إذا جعلت في الدار خبراً فقلت: زيد في الدار، وفي الدار زيد، فاستغنى زيد بخبره قلت: قائماً ونحوه، لتدل على أية حال استقر.

فإن جعلت قائماً هو الخبر رفعته، وكان قولك في الدار فضلةً مستغنىً عنها؛ لأنك إنما قلت: زيد قائم، فاستغنى زيد بخبره، ثم خبرت أين محل قيامه؟، فقلت في الدار، ونحوه. وكل ما كان في الابتداء من هذا فكذلك مجراه في باب إن وأخواتها، وظننت وأخواتها، وكان وأخواتها.

إلا أنه ما كان من ذلك فعلاً، أو دخله معنى تصلح عليه الحال، وتنصبه عليه إذا أردت ذلك، نحو: ظننت زيداً قائماً أخاك، لأنك إنما ظننته في حال قيامه وكأن زيداً قائماً أخوك، أنه أشبهه في حال قيامه. ولو قلت: إن زيداً قائماً في الدار لم يجز؛ لأنك لا تنصبه بقولك في الدار، وهو قبله، ولم يحدث معنى مع إن يجب به نصب الحال لأن هذه العوامل كلها داخلة على الابتداء. قال الله عز وجل: " إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون " ، فجعل قوله " فاكهون " ، فجعل قوله فاكهون الخبر، وفي شغل تبيين كقولك في الدار، وقال: " إن المتقين في جنات وعيون آخذين " وقال: " إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين " على ما وصفنا.

وتقول: زيد بك مأخوذ، وزيد عليك نازل، وزيد فيك راغب، وزيد بك كفيل، وزيد إليك مائل، وزيد عنك محدث، ولا يكون في جميع ذلك إلا الرفع؛ لأنه لا يكون شيء مما ذكرنا ظرفاً لزيد. لو قلت: زيد فيك، أو زيد عنك أو زيد بك لم يصلح؛ لأن بك إنما هي ظرف لمأخوذ، وعليك ظرف لنازل. فاعتبر ما ورد عليك من هذا وشبهه بما ذكرت لك.

وتقول: زيد علينا أمير وأميراً لأنك لو قلت: زيد علينا وأنت تريد الإمارة كان مستقيماً. وتقول: زيد في الدار أبوه قائماً، على أن تجعل قائماً حالاً لأبيه وإن شئت رفعت. فإن جعلته حالاً لزيد لم يستقم؛ لأن زيداً ليس له في الظرف ضمير، ولا يستقيم زيد قائماً في الدار أبوه بوجه من الوجوه لأن الحال قبل العامل، وليس بفعل.

وتقول: مررت راكباً بزيد إذا جعلت الحال لك. فإن جعلتها لزيد لم يستقم؛ لأن العامل في زيد الباء، ولكن لو قلت: ضربت قائماً زيداً كان جيداً لأيكما جعلت الحال، وكذلك رأيت راكبةً هنداً.

فإن قلت: هذا ابن عمي دنيا، وهذه الدراهم وزن سبعة، وهذا الثوب نسج اليمن، وهذا الدرهم ضرب الأمير نصبت ذلك كله، وليس نصبه على الحال. لو كان كذلك لامتنع قولك: نسج اليمن، وضرب الأمير؛ لأن المعرفة لا تكون حالاً. ولكنها مصادر على قولك: ضرب ضرباً، ونسج نسجاً. وكذلك إن كان الذي قبله نكرة قلت: هذا درهم وزن سبعة، وهذا ثوب نسج اليمن، وهذا درهم ضرب الأمير.

وإن شئت رفعت فقلت: هذا درهم وزن سبعة، وهذا درهم ضرب الأمير، فنعته بالمصدر؛ لأن المصدر مفعول، فكأنك قلت: هذا درهم مضروب للأمير؛ وهذا ثوب منسوج باليمن.

فإن قلت: هذا درهم ضرب الأمير لم يجز أن يكون نعتاً، لأن النكرة لا تنعت بالمعرفة ولكن بينت. كأنك جعلته جواباً. لما قلت: هذا ثوب، وهذا درهم قيل: ما هو؟ فقلت: ضرب الأمير على الابتداء والخبر.

وعلى هذا تقول: مررت برجل زيد. وقال: " بشر من ذلكم النار " وقرئت الآية على وجهين " في أربعة أيام سواءً للسائلين " على المصدر فكأنه قال: استواءً. وقرأ بعضهم " أربعة أيام سواء " على معنى مستويات، وقال جل وعز: " قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً " فالمعنى والله أعلم غائراً، فوضع المصدر موضع الاسم. وقالت الخنساء:

ترتع ما عقلت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار

فالمصدر في كل هذا في موضع الاسم. وقال لقيط بن زرارة:

شتان هذا، والعناق والنوم ... والمشرب البارد، والظل الدوم

يريد: الدائم.

فأما قولهم: هو عربي محضاً، وهو صميم قلباً، وهو عربي حسبةً، وهو شريف جداً فإنها مصادر مؤكدة لما قبلها. والأجود: هو عربي محض، وعربي قلب؛ لأن هذه أسماء وإن كانت تكون على هذا اللفظ مصادر، لأن المصدر ينعت به، والاسم لا يكون إلا نعتاً من هذا الضرب، إلا أن تجعله حالاً للنكرة. وأما هو أعرابي قح فلا يكون إلا رفعاً؛ لأنه ليس بمصدر.

فإذا قلت: هو عربي حسبةً فمعناه: اكتفاءً. يقال: أعطاني فأحسبني، أي كفاني. قال الله عز وجل: " عطاءً حساباً " ، أي كافياً.

هذا باب

تبيين الحال في العوامل

التي في معنى الأفعال، وليست بأفعال، وما يمتنع من أن تجري معه الحال

تقول: هذا لك كافياً، فتنصب الحال، لما في الكلام من معنى الفعل لأن معنى لك معنى تملكه.

فإن أردت أن تلغى لك قلت: هذا لك كاف يا فتى، تريد: هذا كاف لك، فتجعل كافياً خبر الابتداء، وتجعل لك ظرفاً للكفاية.

والآية تقرأ على وجهين: " قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة " وخالصة على ما ذكرنا. وتقول: هذا عبد الله قائماً، فتنصب قائماً لأن قولك ها للتنبيه فالمعنى: انتبه له قائماً. وقال الله عز وجل " هذه ناقة الله لكم آية " و " وهذا بعلي شيخاً " فإن قلت: هذا زيد قائم صلح من أربعة أوجه: منها أنك لما قلت: هذا زيد استغنى الكلام بالابتداء وخبره، فجعلت قولك قائم خبر ابتداء محذوف. كأنك قلت: هو قائم، أو هذا قائم. فهذا وجه.

ويجوز أن تجعل زيداً بدلاً من هذا، أو تبييناً له، فيصير المعنى: زيد قائم. ويجوز أن تجعل زيداً، وقائماً كليهما الخبر، فتخبر بأنه قد جمع ذا وذا، كما تقول: هذا حلو حامض. تخبر أنه قد جمع الطعمين، ولا تريد أن تنقض الحلاوة بالحموضة. فهذه أربعة أوجه في الرفع.

تقول: زيد في الدار قائماً. إذا جعلت في الدار الخبر فمعناه استقر.

فإن قلت: زيد أبوك قائم. فلا معنى لنصب قائم إذا أردت بأبيك النسب، لأنه ليس ها هنا فعل، ولا معنى فعل، فلست تخبر أنه أبوك في حال دون حال.

فإن أردت معنى التبني جاز النصب فقلت: زيد أبوك قائماً، أي يتبناك في هذه الحال، ولا تبال بأيهما كان القيام.

والمسألة الأولى تقول فيها: زيد أبوك قائم. تجعل الأب نعتاً لزيد، أو بدلاً منه. وكذلك أخوك إذا أردت النسب كان كالأب. وإن أردت الصداقة دخل معنى الفعل، وصلح النصب.

وإن جعلت الأخ نعتاً، أو بدلاً كان الرفع في قائم لا غير. فعلى هذا وما أشبهه تصلح الحال، وتمتنع.

هذا باب

ما كانت الحال فيه مؤكدة لما قبلها

وذلك ما لم يكن مأخوذاً من الفعل.

تقول: زيد أبوك حقاً، وهو زيد معروفاً، وأنا عبد الله أمراً واضحاً. وذاك لأن هذه الحالات إنما تؤكد ما قبلها؛ لأنك إذا قلت: هو زيد، وأنا عبد الله فإنما تخبر بخبرين، فإذا قلت معروفاً، أو بيناً فإنما المعنى أني قد بينت لك هذا وأوضحته، وفيه الإخبار لأنه عليه يدل.

ولو قلت: أنا عبد الله منطلقاً لم يجز؛ لأن المنطلق لا يؤكدني.

ألا ترى أنك لو قلت: أنا عبد الله منطلقاً لكان المعنى فاسداً؛ لأن هذا الاسم لا يكون لي في حال الانطلاق ويفارقني في غيره، ولكن يجوز أن تقول: أنا عبد الله مصغراً نفسك لربك، ثم تقول: آكلاً كما يأكل العبيد، وشارباً كما يشرب العبيد؛ لأن هذا يؤكد ما صدرت به.

وكذلك لو قلت مفتخراً، أو موعداً: أنا عبد الله شجاعاً بطلاً، وهو زيد كريماً حليماً، أي فاعرفه بما كنت تعرفه به كان جيداً.

وهذا باب إنما يصلحه ويفسده معناه، فكل ما صلح به المعنى فهو جيد، وكل ما فسد به المعنى فمردود.

هذا باب

ما يكون من المصادر حالاً لموافقته الحال

وذلك قولك: جاء زيد مشياً. إنما معناه: ماشياً، لأن تقديره: جاء زيد يمشي مشياً، وكذلك جاء زيد عدواً، وركضاً، وقتلته صبراً لما دخله من المعنى؛ كما أن الحال قد تكون في معنى المصدر، فتحمل عليه. وذلك قولك: قم قائماً. إنما المعنى قم قياماً.

وتقول: هنيئاً مريئاً وإنما معناه: هنأك هناءً، ومرأك مراءً، ولكنه لما كان حالاً كان تقديره: وجب ذلك لك هنيئاً، وثبت لك هنيئاً.

ومثله قول الفرزدق:

ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لبين رتاج قائماً، ومقام

على حلفة لا أشتم الدهر مسلماً ... ولا خارجاً من في زور كلام

وإنما التقدير: لا أشتم شتماً، ولا أخرج خروجاً؛ لأنه على ذلك أقسم. فهذا وجه صحيح يصح عليه معنى هذا الشعر.

وأما عيسى بن عمر فإنه كان يجعل خارجاً حالاً، ولا يذكر ما عاهد عليه، ولكنه يقول: عاهدت ربي وأنا غير خارج من في زور كلام.

هذا باب

اشتراك المعرفة والنكرة

تقول: هذا رجل وعبد الله منطلق، إذا جعلت المنطلق صفة لرجل فإن جعلته صفة لعبد الله قلت: هذا رجل وعبد الله منطلقاً. كأنك قلت: هذا رجل، وهذا عبد الله منطلقاً.

فإن جعلت الشيء لهما جميعاً قلت: هذا رجل وعبد الله منطلقين، لا يكون إلا ذلك؛ لأنك لو قلت: منطلقاً لم يجز؛ لأنك لا تقول على معنى الحال: هذا عبد الله منطلق، ويجوز أن تقول: هذا رجل منطلقاً، فالحال يجوز لهما، والنعت لا يصلح من أجل عبد الله.

وتقول: هذان رجلان وعبد الله منطلقان، وهذان رجلان وعبد الله منطلقاً.

فإن جمعتهم قلت: هذا رجلان وعبد الله منطلقين على ما ذكرت لك.

وتقول: عندي عبد الله، ومررت برجل قائمين، فتنصب، وليس النصب ها هنا على الحال لاختلاف المعنيين، وكذلك لو كانا معرفتين، أو نكرتين.

تقول: هذا عبد الله، وجاءني زيد فارسين. إنما تنصب على أعني. ولو قلت: فارسان جاز على قولك هما لاختلاف العاملين.

وكان سيبويه يجيز: جاء عبد الله، وذهب زيد العاقلان على النعت؛ لأنهما ارتفعا بالفعل، فيقول: رفعهما من جهة واحدة. وكذلك هذا زيد، وذاك عبد الله العاقلان؛ لأنهما خبر ابتداء.

وليس القول عندي كما قال؛ لأن النعت إنما يرتفع بما يرتفع به المنعوت. فإذا قلت: جاء زيد، وذهب عمرو العاقلان لم يجز أن يرتفع بفعلين فإن رفعتهما بجاء وحدها فهو محال؛ لأن عبد الله إنما يرتفع بذهب، وكذلك لو رفعتهما بذهب لم يكن لزيد فيها نصيب.

وإذا قلت: هذا زيد فإنما يرتفع ومعناه الإشارة إلى ما قرب منك وذاك لما بعد، فقد اختلفا في المعنى.

وكذلك لو قلت: مررت بغلام زيد العاقلين. تريد أن تنعت الغلام، وزيداً لم يجز؛ لأن زيداً من تمام اسم الغلام وهذا قول الخليل، ولا يجوز غيره.

وكل ما كان في النعت فكذلك مجراه في الحال، فالنصب فيما كان كذلك على أعني، والرفع على هما، أو هم، والمعرفة والنكرة في ذلك سواء. فأما قوله:

إن بها أكتل أو رزاما ... خويربين ينقفان الهاما

فإنه إنما ذكر واحداً لقوله أو. فلو أراد الحال لقال خويربا ولكنه على أعني، ولو رفعه على هما لكان جيداً.

وتقول هذا رجل مع عبد الله قائمين على الحال؛ لأنك إذا قلت مع فقد أشركتهما في شيء واحد؛ كما تقول: هذا عبد الله وزيد. وتقول: هذا رجل مع رجل قائمين على الحال؛ لأن الوصف لا يصلح، لاختلاف إعرابهما، فصار الحال لا يجوز ها هنا غيره. وهذا مما إذا وقفت على معناه جرت لك ألفاظه على حقيقتها إن شاء الله.

هذا باب

دخول الحال فيما عملت فيه كان وأخواتها

وما أشبهها من باب العوامل

اعلم أن باب كان، وباب علمت وظننت داخلة كلها على الابتداء وخبره. فكل ما صلح في الابتداء صلح في هذه الأبواب، وما امتنع هناك امتنع هنا.

تقول: كان زيد في الدار قائماً. فإن شئت نصبت، وإن شئت جعلت في الدار الخبر، ونصبت قائماً على الحال.

وتقول: إن زيداً في الدار قائماً على الحال، وعلى القول الآخر: إن زيداً في الدار قائم. وكذلك ظننت زيداً في الدار قائماً. وإن كررت الظرف فكذلك تقول: إن زيداً في الدار قائم فيها، وكان زيد في الدار قائماً فيها.

وإن شئت قلت: إن زيداً في الدار قائماً فيها. يجري مجراه قبل التثنية. قال الله جل وعز: " فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها " وقال " وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها " فكان ذلك بمنزلة هذا في الابتداء.

هذا باب

المعرفة الداخلة على الأجناس

اعلم أن الأشياء التي لا نستصحب فتحتاج إلى الفصل بين بعضها وبعض، تلحقها ألقاب تميز جنسها من جنس غيرها. وذلك قولك: هذه أم حبين، وهذا سام أبرص، وأبو بريص، وهذا أبو جخادب لضرب من الجنادب.

وكذلك: هذا أبو الحارث للأسد، وهذا أسامة، وهذا ثعالة للثعلب.

وهذه بنات أوبر لضرب من الكمأة، وهذا ابن قترة لضرب من الحيات، وهذه أم عامر، وحضاجر، وجيأل ونحو ذلك للضبع، وهذا حمار قبان، وهذا ابن عرس، وابن آوى. فهذه الأشياء معارف، وهذه الأسماء موضوعة عليها كزيد وعمرو، وليس معناها معنى زيد وعمرو؛ لأنك إذا قلت زيد فقد فصلت بهذا الاسم الرجل ممن هو مثله. فإذا قلت: هذا سام أبرص، وابن عرس فلست تفصل به واحداً من هذا النوع من صاحبه؛ لأنه ليس مما يتخذ فتقصد إلى تعريف بعضه من بعض؛ كما تفعل بالخيل والشاء والكلاب، ولكنما معناه: هذا الضرب من السباع، وهذا الضرب من الأجناس التي رأيتها وسمعت بها.

وزعم سيبويه أن قولك أسد، ثم تقول الأسد بمنزلة رجل، والرجل وأسامة، وأبو الحارث بمنزلة زيد، وأبي عمرو. وأن ابن عرس بمنزلة رجل كان اسمه كنيته لا أسماء له غيرها، وكذلك تقدير هذا، ومعناه ما ذكرت لك. يدلك على أنه معرفة أن آوى غير مصروف، وأنك لا تدخل في عرس ألفاً ولاماً، ولا تصرف قترة، وأسامة، وقبان، ولو كن نكرات لا نصرفن.

فأما ابن لبون، وابن مخاض فنكرة؛ لأنه مما يتخذ الناس، فهو نكرة إذا لم تعرف ما تضيف إليه. فإن أردت تعريفه عرفت ما تضيفه إليه؛ كما قال:

وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس

وقال:

وجدنا نهشلاً فضلت فقيماً ... كفضل ابن المخاض على الفصيل

وكذلك ابن ماء. إن أردت أن تعرفه عرفت الماء فقلت: هذا ابن الماء يا فتى: كما قال:

مفدمةً قزاً كأن عيونها ... عيون بنات الماء أفزعها الرعد

وقال آخر:

وردت اعتسافاً والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماء محلق

فنعته بالنكرة لأنه نكرة. فأخبار هذا كأخبار رجل ونحوه، وأخبار الأوائل كأخبار زيد وعمرو ونحوهما.

تقول: هذا ابن عرس مقبلاً، وهذا سام أبرص مقبلاً، ويجوز فيه الرفع من حيث جاز في زيد. ويجوز أن تقول: هذا ابن عرس مقبل؛ كما تقول: هذا زيد مقبل، إذا أردت زيداً من الزيدين، نحو: جاءني زيد وزيد آخر، وجاءني عثمان وعثمان آخر.

فإذا أردت أن تنكر ابن عرس جعلت عرساً نكرة، وكذلك نظراؤه تقول: هذا حمار قبان آخر، وهذا أسامة آخر.

هذا باب

ما كان من الأسماء نعتاً للمبهمة

وذلك ما كان من الأسماء فيه الألف واللام. نقول: هذا الرجل مقبل من خمسة أوجه: فأربعة مثل الذي ذكرنا في زيد ونحوه.

والوجه الخامس أن تجعل الاسم نعتاً للمبهم فنقول: هذا الرجل زيد. تجعل الرجل نعتاً: فيكون بمنزلة هذا زيد؛ كما تقول: زيد الطويل قائم، قال الشاعر:

توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام، وذا العام سابع

وإن جعلت الاسم خبراً فالنصب. تقول: هذا الرجل قائماً كقولك: هذا زيد قائماً.

هذا باب

تثنية الأسماء التي هي أعلام خاصةً

اعلم أنك إذا ثنيت منها شيئاً أو جمعته صار نكرة، وذلك قولك: هذان زيدان، وهؤلاء زيدون. وإنما صار نكرة وإن كان الواحد معرفة لأنك حيث قلت: هذان زيدان أخرجته مخرج اثنين من جماعة كلهم زيد. كأنك قلت: هذان زيدان من الزيدين.

ألا ترى أنك لم تسم واحداً منهما زيدين، ولا سميتهم جميعاً بزيدين، ولكنك ثنيت زيداً وزيداً. فجعلتهما بمنزلة رجلين.

فإن أردت تعريفهما قلت: هذان الزيدان؛ لأنك جعلتهما من أمة كل واحد منهم زيد نكرة، فصار بمنزلة قولك رجلين والرجلين. وكذلك قولك العمران، ومضت سنة العمرين، إنما جعلتهما من أمة كل واحد منهم عمر، فعرفتهما بالألف واللام.

وليس هذا بمنزلة قولك أبانان للجبلين؛ لأنك سمتهما جميعاً بهذا الاسم؛ كما تسمي الواحد بالاسم العلم. وجاز هذا في الأماكن لأنك تومئ إليها إيماءًً واحداً. ولأن كل واحد منهما لا يفارق صاحبه. ولا يكون مثل هذا الأناسي؛ لأن الواحد يفارق صاحبه، فتخبر عنه على حياله، ويزول ويتصرف.

ومثل أبانين عرفات. تقول: هؤلاء عرفات مباركاً فيها؛ لأن عرفات اسم مواضع، وليست مما يزول، أو يفارق منه شيء شيئاً.

فأما قولهم النجم إذا أردت الثريا فإنه معرفة بالألف واللام مجعول بهما علماً. فإن فارقتاه رجع إلى أنه نجم من النجوم.

والدليل على أنه علم، وأنه على غير مجاز قولك: الرجل أنك تأتي به على غير معهود، فتعلم أنك تعني الثريا، ولو قلت لغيره: رأيت النجم الذي تعلم في أول وهلة على هذا الوجه لكان على معهود كالرجل.

وكذلك الدبران لأنه مشتق من أنه يدبر النجم الذي يليه فإنما هو بمنزلة الغريين اللذين بالكوفة. كل واحد من هذين الاسمين معرفة بالألف واللام. فإن فارقتاه رجع نكرةً.

فإن قال قائل: فلم لا يكون الدبران معرفة بهذا الاشتقاق الذي هو له، وليس يقال لغيره؛ لأنه لا يقال لكل شيء دبر شيئاً دبران؟ قيل: هذا مشتق كالعدل والعديل. فالعدل للمتاع، والعديل لا يكون إلا للناس وكلاهما نكرة.

ويقال: أصابه دبران الشوق، ودبران المرض لما يأتي بعد. وكذلك الثريا إنما هو تصغير ثروى، وهي فعلى من الكثرة، فهذا يتهيأ في كل شيء. يقال: رجل ثروان وامرأة ثروى، فأما قوله:

لنا قمراها والنجوم الطوالع

يريد الشمس والقمر، فإنه جعل ذلك نكرة، وعرفه بالألف واللام، كما جاز أن يسميها قمرين. وهذا على التمثيل، كشيء يسمى به الرجل لجماله وبهائه.

وكذلك قول الشاعر:

جزاني الزهدمان جزاء سوء ... وكنت المرء أجزى بالكرامه

لأنه جعلهما من أمة كل واحد منهما زهدم على ما وصفت لك في زيد. وإنما هما زهدم وكردم. فجمعهما على اسم كما جمع الشمس والقمر على القمر.

وكذلك العمران، إنما هما أبو بكر وعمر. إلا أنه رد ذلك إلى مثل حكم الزيدين إذا جمعهما على اسم واحد.

وأنت إذا قلت: هذا زيد مقبل تريد: هذا واحد ممن له هذا الاسم، ولا تقصد إلى علم بعينه كان ذلك على منهاج ما ذكرنا في التثنية. فأما المضاف من الأسماء الأعلام فإنه لا يكون في التثنية والجمع إلا معرفة. تقول: هذا عبد الله، وهذان عبدا الله، وهؤلاء عبدو الله، وعبيد الله، وعباد الله، ولأدنى العدد أعبد الله؛ لأن هذا تعرفه بأنه مضاف إلى معرفة. فالذي يعرفه معه.

كذلك هذا غلام زيد، وهذان غلاما زيد. وكذلك ما كان منه كنية. تقول: هذا أبو زيد؛ لأنك تريد: هذان المعروفان بهذا الاسم، وصاحبا هذه الكنية، وهؤلاء أبو زيد، وآباء زيد. لا يكون إلا ذلك.

ومثله: هذان ابنا عم. وهذان ابنا خالة: أي كل واحد منهما مضاف إلى هذه القرابة. فإن أردت ألا تخبر عن الكنية نفسها، ولكن تخبر أن كل واحد منهما أو منهم له ابن يقال له زيد قلت: هذان أبوا الزيدين وهؤلاء آباء الزيدين. تخبر أنهم آباء هؤلاء القوم. كقولك: هاتان دارا الرجلين، ومنزلا أخويك.

والفصل بين هذا والأول، أنك تومئ في هذا الموضع إلى شخصين أو إلى شخوص تضيف إليها. وأنت في الأول إنما تقصد إلى كنية يعرف بها واحد أو اثنان أو ثلاثة، ولا تومئ إلى شخص هذا الاسم له. فعلى هذين المعنيين مجرى هذا.

هذا باب

الظروف من الأمكنة والأزمنة ومعرفة قسمها

وتمكنها، وامتناع ما يمتنع منها من التصرف، ويقال من الصرف

اعلم أن الظروف متضمنة للأشياء. فما كان منها معه فعل أو شيء في معنى الفعل فمجراه مجرى المفعول. فإن أطلقت الفعل عليه نصبته، وإن جعلته له أو شغلته عنه رفعته، ونصبه إذا انتصب على أنه مفعول فيه.

وذلك قولك: سرت يوم الجمعة، وجلست خلف زيد، ودون عبد الله، وقدام أخيك. فهذه كلها مفعول فيها بأنك جلست في هذا الموضع، وسرت في هذا الحين.

فإن شغلت الفعل قلت: يوم الجمعة سرت فيه، ومكانكم قمت فيه؛ كما تقول: عبد الله تكلمت فيه، وزيد شفعت فيه، وأخوك مررت به.

من رأى نصب هذا نصب الظروف بما سنذكره بعد هذا الباب إن شاء الله.

وذلك أن قولك: زيد مررت به ابتداء وخبر، ومررت به في موضع قولك منطلق إذا قلت: زيد منطلق. وكذلك: مكانكم قمت فيه، ويوم الجمعة سرت فيه بمنزلة قولك: يوم الجمعة مبارك ومكانكم حسن.

وإذا كان الفعل له فكذلك. تقول: مضى يوم الجمعة، وحسن مكانكم؛ لأنها أسماء كزيد وعمرو، وإن كانت مواضع للأشياء.

فأما ما يكون في معنى الفعل. فينتصب به فنحو قولك: المال لك يوم الجمعة؛ لأن معناه: تملك، وزيد في الدار يومنا هذا؛ لأن معناه الاستقرار، وزيد صديق عبد الله اليوم؛ لأن معناه أنه يؤاخيه في هذا اليوم.

واعلم أن الظروف من المكان تقع للأسماء والأفعال فأما وقوعها للأسماء فلأن فيها معنى الاستقرار. تقول: زيد خلفك، وزيد أمامك، وعبد الله عندكم؛ لأن فيه معنى استقر عبد الله عندك.

فأما الظروف من الزمان فإنها لا تتضمن الجثث؛ لأن الاستقرار فيها لا معنى له.

ألا ترى أنك تقول: زيد عندك يوم الجمعة لأن معناه زيد استقر عندك في هذا اليوم. ولو قلت: زيد يوم الجمعة لم يستقم، لأن يوم الجمعة لا يخلو منه زيد ولا غيره فلا فائدة فيه، ولكن القتال يوم الجمعة، واجتماعكم يوم الجمعة، واجتماعكم يوم كذا، وموعدكم اليوم يا فتى؛ لأنها أشياء تكون في هذه الأوقات، وقد كان يجوز أن تخلو منها.

ولو قلت: زيد أخوك يوم الجمعة، وأنت تريد االنسب لم يجز؛ لأنه ليس فيه معنى فعل، فلا يكون له وجه فائدة، ولكن إن قلت: زيد أخوك يوم الجمعة، تريد به الصداقة كان جيداً؛ لأنك قلت: يؤاخيك في هذا اليوم، فعلى هذا تجري هذه الأشياء.

واعلم أن هذه الظروف المتمكنة يجوز أن تجعلها أسماء فتقول: يوم الجمعة قمته، في موضع قمت به، والفرسخ سرته، ومكانكم جلسته، وإنما هذا اتساع، والأصل ما بدأنا به لأنها مفعول فيها، وليست مفعولاً بها. وإنما هذا على حذف حرف الإضافة.

ألا ترى أن قولك: مررت بزيد لو حذفت الباء قلت: مررت زيداً، إلا أنه فعل لا يصل إلا بحرف إضافة. وعلى هذا قول الله عز وجل: " واختار موسى قومه سبعين رجلاً " إنما هو والله أعلم من قومه. فلما حذف حرف الإضافة، وصل الفعل فعمل. وقال الشاعر:

منا الذي اختير الرجال سماحةً ... وجوداً إذا هب الرياح الزعازع

يريد: من الرجال، وقال الآخر:

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب

يريد: بالخير. وقال:

أستغفر الله ذنباً لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل

يريد من ذنب. فهذا على هذا. فمما جاء مثل ما وصفت لك في الظروف قوله:

ويوم شهدناه سليماً وعامراً ... قليلاً سوى الطعن النهال نوافله

يريد: شهدنا فيه.

فأما قول الله عز وجل: " بل مكر الليل والنهار " فإن تأويله والله أعلم بل مكركم في الليل والنهار، فأضيف المصدر إلى المفعول؛ كما تقول: رأيت بناء دارك جيداً، فأضفت البناء إلى الدار، وإنما البناء فعل الباني.

وكذلك: ما أحسن خياطة ثوبك، والفعل إنما هو للفاعل، وجازت إضافته إلى المفعول، لأنه فيه يحل، والمفعول فيه كالمفعول به، قال الشاعر:

لقد لمتني يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم

والمعنى: بنائم المطي فيه. ومثله:

فنام ليلى وتقضى همي

ويروى: وتجلى وقال:

أما النهار ففي قيد وسلسلة ... والليل في جوف منحوت من الساج

فهذه الظروف من الزمان والمكان، ما كان يقع منها معرفة ونكرة، ويتصرف فهو كزيد وعمرو، يجوز أن تجعله فاعلاً ومفعولاً مصححاً، وعلى السعة.

فأما المصحح فنحو قولك: شهدت يوم الجمعة، ووافيت يوم السبت ويوم الأحد، وقاسيت يوماً طويلاً. وأما على السعة فقولك: يوم الجمعة ضربته زيداً، تريد: ضربت فيه زيداً، فأوصلت الفعل إليه. فإن أجريته إذا جعلته مفعولاً مجرى ما لم يسم فاعله قلت: سير بزيد يومان، وسير على فرسك ليلتان. أقمت ذلك مقام الفاعل؛ كما تقول: دخل بزيد الدار.

وما أجريته من هذه الأسماء ظرفاً انتصب في هذا الموضع بأنه مفعول فيه، فقلت: سير بزيد يومين، لأنك أردت أن السير وقع في يومين، وأقمت بزيد مقام الفاعل وإن كان معه حرف خفض؛ لأن قولك: سير بزيد، بمنزلة قولك: ضرب زيد. ولهذا موضع نذكره فيه سوى هذا إن شاء الله.

وما كان من هذا من أسماء المكان فذلك مجراه. تقول: سير بزيد فرسخان، وسير زيد خلفك، وسير بزيد أمامك، وسير بزيد المكان الذي تعلم.

واعلم أن من هذه الظروف ظروفاً لا يجوز أن يكون العمل إلا في جميعها، وإنما ذلك على مقدار القصد إليها.

فمما لا يكون العمل في بعضه دون بعض قولك: صمت يوماً. لا يكون الصوم إلا منتظماً لليوم؛ لأنه حكم الصوم، وإنما معناه: أمسكت عن الطعام والشراب يوماً.

وكذلك: سرت فرسخاً، وميلاً لأنك موقت، وإنما تريد أن تخبر بمبلغ سيرك.

وتقول: لقيت زيداً يوم الجمعة فيكون اللقاء في بعض اليوم؛ لأنك لست بموقت، إنما أنت مؤرخ.

ولو قيل لك: كم يوماً لقيت زيداً؟ فقلت: شهراً لجرى جواباً ل كم؛ لأن معناه ثلاثون يوماً. وإنما كما سؤال عن عدد.

وإن قيل: متى لقيت زيداً؟ فقلت شهراً لم يجز؛ لأن اللقاء لا يكون إلا في بعض شهر. وإنما قال لك: متى لتوقت له فتعرفه. فإنما جواب ذلك يوم الجمعة، أو شهر رمضان، أو ما أشبه ذلك. وأين في المكان بمنزلة متى في الزمان، وكم داخلة على كل عدد؛ كما أن كيف مسألة عن كل حال.

فأما الظروف التي لا تتمكن فنحو: ذات مرة، وبعيدات بين، وسحر إذا أردت سحر يومك، وبكراً، وكذلك عشية، وعتمة، وذا صباح، وكل ما كان من معنى عشية، وضحوة، وكذلك أمس.

ومن المكان نحو: عند، وحيث وكل ما كان في معناهما مما لا يخص موضعاً. وهذه جمل يؤتى على تفصيلها إن شاء الله.

فمثل خلف، وأمام، وقدام يجوز أن تقع أسماء غير ظروف وذلك فيها قليل لما أذكره. ومثل اليوم، والليلة، والفرسخ، والميل، والنحو والناحية.

وما كان اسماً ليوم نحو: الثلاثاء، والأربعاء فأكثر تصرفاً في الأسماء لما أذكره لك إن شاء الله.

اعلم أن كل فعل تعدى، أو لم يتعد فإنه متعد إلى ثلاثة أشياء: إلى المصدر؛ لأنه منه مشتق وعليه يدل، وذلك قولك: قمت قياماً، وقعدت قعوداً؛ لأنك إذا قلت: قمت قياماً فإنما ذكرت أنك قد فعلت القيام فهو لازم للفعل.

وإذا قلت: قمت لم تدل على مفعول؛ فلذلك لم يتعد.

ألا ترى أنك تقول: ضربت، فتدل على أن لفعلك من قد وقع به؛ فلذلك تعدى إلى مفعول. فالفعل لا يتعدى إلا بما فيه من الدلالة عليه. فكل فعل لا يخلو من مصدره.

ويلي المصدر الزمان. فكل فعل يتعدى إلى الزمان، وذلك أنك إذا قلت: قمت دللت على أن فعلك فيما مضى من الدهر.

وإذا قلت: أقوم، وسأقوم دللت على انك ستفعل فيما يستقبل من الدهر. فالفعل إنما هو مبني للدهر بأمثلته، ف فعل لما مضى منه. ويفعل يكون لما أنت فيه ولما لم يقع من الدهر؛ فلذلك تقول: سرت يوماً، وسأسير يوم الجمعة لأنه لا ينفك منه.

والمكان لا يخلو فعل منه، وهو أبعد الثلاثة، لأن الفعل ليس بمبني من لفظه، ولا للمكان ماض ومستقبل فيكون الفعل لما مضى منه ولما لم يمض. ولكنك إذا قلت: فعلت، أو أفعل علم أن للحدث مكاناً؛ كما علم أنه في زمان.

فإن كان المكان مما لا يخلو الحدث منه حصره حصر الزمان، وتعدى الفعل إليه وإن كان المكان مخصوصاً، لم يتعد إلا كما يتعدى إلى زيد وعمرو.

فأما المكان الذي لا ينفك الحدث منه فنحو جلست مجلساً، وقمت مكاناً صالحاً؛ لأنه لا يقوم إلا في مكان، وإنما نعته بعد أن أعمل فيه الفعل، ولا يجلس إلا في مجلس.

وكذلك: سرت فرسخاً؛ لأن السير لا يخلو من أن يكون فرسخاً أو بعضه. وجلست خلفك لا ينفك منه شيء أن يكون خلف واحد، وإنما أضافه بعد أن كان مطلقاً، وكذلك: قمت أمامك، ونحوه.

فإن قال: جلست الدار يا فتى، أو قمت المسجد، أو قمت البيت لم يجز؛ لأن هذه مواضع مخصوصة ليس في الفعل عليها دليل. فكل ما كان في الجملة مما يدل عليه الفعل فهو متعد إليه، وما امتنع من ذلك فهو ممتنع منه.

فأما دخلت البيت فإن البيت مفعول. تقول: البيت دخلته. فإن قلت: فقد أقول: دخلت فيه. قيل: هذا كقولك: عبد الله نصحت له ونصحته، وخشنت صدره، وخشنت بصدره فتعديه إن شئت بحرف، وإن شئت أوصلت الفعل؛ كما تقول: نبأت زيداً يقول ذاك، ونبأت عن زيد. فيكون نبأت زيداً مثل أعلمت زيداً، ونبأت عن زيد مثل خبرت عن زيد.

ألا ترى أن دخلت إنما هو عمل فعلته، وأوصلته إلى الدار، لا يمتنع منه ما كان مثل الدار. تقول: دخلت المسجد، ودخلت البيت. قال الله عز وجل، " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله " . فهو في التعدي كقولك: عمرت الدار، وهدمت الدار، وأصلحت الدار لأنه فعل وصل منك إليها، مثل ضربت زيداً. فعلى هذا تجري هذه الأفعال في المخصوص والمبهم.

فأما ما لا يتمكن من ظروف المكان والزمان، فسأصف لك حروفاً تدل على العلة فيما جرى مجراها، لتتناول القياس من قرب إن شاء الله.

فأما عند فالذي منعها من التمكن أنها لا تخص موضعاً، ولا تكون إلا مضافة. فإذا قلت: جلست عند زيد فإنما معناه: الموضع الذي فيه زيد، فحيث انتقل زيد فذلك الموضع يقال له عند زيد. فهي بمنزلة حيث في أنها لا تخص موضعاً، إلا أن حيث توضح بالابتداء والخبر، وبالفعل والفاعل، لعلة نذكرها إن شاء الله.

وهذه تضاف إلى ما بعدها، ولا يجوز أن تدخل عليها من حروف الإضافة إلا من تقول: جئت من عند زيد، ولا يجوز أن تقول: ذهبت إلى هند زيد؛ لأن المنتهى غاية معروفة، وليس عند موضعاً معروفاً.

ومن للابتداء، وليست للمستقر. فهذا أصل عند. وإن اتسعت، واتساعها نحو قولك: أنت عندي منطلق؛ لأن عند للحضرة، وإنما أراد: فيما يحضرني في نفسي.

وإنما هذا بمنزلة قولك: على زيد ثوب. فإنما يريد أنه قد علاه، ثم تقول: عليه دين، تريد أنه قد علاه وقهره. وكقولك: زيد في الدار، أي يحل فيها، ثم تقول: في زيد خصلة حسنة، فجعلته كالوعاء لها. فلقلة تمكن عند لا يجوز أن تجري مجرى الأسماء غير الظروف. لو قلت: سير بزيد عندك؛ كما تقول: سير بزيد أمامك لم يجز ولا تقول: إن عندك حسن، كما تقول: إن مكانك حسن.

وكذلك لدن لأن معناها معنى عند. فكل ما كان غير متمكن في بابه فغير مخرج منه على جهة الاتساع إلى باب آخر.

ألا ترى أن خلف، وأمام، وقدام، ونحو ذلك يتصرفن؛ لأن الأشياء لا تخلو منها، وليس الوجه مع ذلك رفعها حتى تضيفها فتقول: خلف كذا، وأمام كذا، حتى تعرف الشيء بالإضافة.

ولو قلت: سير بزيد خلف للدار، أو أمام للدار جاز على بعد؛ لأنه نكرة، وإن كانت اللام توجب معنى الإضافة، ولكنك إذا قلت: خلف لها جعلته مبهماً، ثم علقته بها كقولك: هذا غلام لزيد. فقد علمنا أنه في ملك زيد، وليس المعروف به. فإذا قلت: غلام زيد فهو مثل أخو زيد، أي المعروف به؛ كما قال لبيد بن ربيعة:

فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها، وأمامها

والأجود في هذا ألا يجري إلا ظرفاً لإبهامه وإن كان مضافاً. فإذا قلت: خلفك واسع فالرفع لا غير، لأنه ليس بظرف، وإنما خبرت عن الخلف؛ كما تقول: زيد منطلق.

وكذلك يوم الجمعة يوم مبارك. وإنما الظروف أسماء الأمكنة والأزمنة، فإن وقع فيها فعل نصبها؛ كما ينصب زيداً إذا وقع به، إلا أن زيداً مفعول به وهذه مفعول فيها.

وتقول: وسط رأسك دهن يا فتى؛ لأنك خبرت أنه استقر في ذلك الموضع، فأسكنت السين ونصبت لأنه ظرف.

وتقول: وسط رأسك صلب؛ لأنه اسم غير ظرف، وتقول: ضربت وسطه؛ لأنه المفعول به بعينه. وتقول: حفرت وسط الدار بئراً إذا جعلت الوسط كله بئراً؛ كقولك: خرب وسط الدار.

وكل ما كان معه حرف خفض فقد خرج من معنى الظرف، وصار اسماً صح كقولك: سرت في وسط الدار؛ لأن التضمن ل في.

وتقول: قمت في وسط الدار، كما تقول: قمت في حاجة زيد، فتحرك السين من وسط؛ لأنها هنا ليست بظرف.

وتقول فيما كان من الأماكن مرسلاً: أنت مني عدوة الفرس، وأنت مني دعوى الرجل؛ لأنه أراد: بيني وبينك، ولم يرد: أنت في هذا المكان، فإنما ينبئ عن هذا معناه.

وتقول: موعدك باب الأمير، إذا جعلته هو الموعد، وتنصب إذا أردت أن تجعله ظرفاً كأنك قلت: موعدك حضرة باب الأمير أي في ذلك الموضع؛ لأنك إذا أردت حضرة كانت شيئاً عاماً.

وكذلك ما كان من المصادر حيناً فإن تقديره حذف المضاف إليه وذلك قولك: موعدك مقدم الحاج، وخفوق النجم، وكان ذلك خلافة فلان، فالمعنى في كل ذلك: وقت خفوق النجم، وزمن مقدم الحاج، وزمن خلافة فلان. وعلى هذا قال الشاعر:

وما هي إلا في إزار وعلقة ... معار ابن همام على حي خثعما

أي في هذا الوقت. فأما قولهم: هو مني مقعد القابلة، ومنزلة الولد، فإنما أراد أن يقرب ما بينهما. وإذا قال: هو مني مناط الثريا فإنما معنى هذا أبعد البعد.

قال الشاعر:

وإن بنى حرب كما قد علمتم ... مناط الثريا قد تعلت نجومها

فجملة هذا الباب أنه: كل ما تصرف جاز أن يجعل اسماً، ويكون فاعلاً ومفعولاً، وكل ما امتنع من ذلك لم يزيدوا به على الظرف. وأما قوله:

فوردن والعيوق مقعد رابئ الضرباء خلف النجم لا يتتلع

فإنما أراد التقريب، وأراد: مقعد رابئ الضرباء من الضرباء.

وأما قوله:

عزمت على إقامة ذي صباح ... لشيء ما يسود من يسود

فإنما اضطر، فأجراه اسماً. ولو جاز مثله في الضرورة لجاز سير به ذو صباح.

وأما قولنا في حيث إنها لا تتمكن فإنها تحتاج إلى تفسير على حيالها. فذلك لأن حيث في الأمكنة بمنزلة حين في الأزمنة، تجري مجراها، وتحتاج إلى ما يوضحها؛ كما يكون ذلك في الحين. إلا أن حين في بابها، وهذه مدخلة عليها؛ فلذلك بنيت، وذلك قولك: قمت حيث زيد قائم، وقمت حيث قام زيد، ولا يجوز قمت حيث زيد؛ كما تقول: قمت في مكان زيد، وإنما يوضحها ما يوضح الأزمنة.

ألا ترى أنك تقول: آتيك إذا قام زيد، وجئتك إذا قام زيد، وحين قام زيد، وجئتك حين زيد أمير، ويوم عبد الله منطلق. فهذا تأويل بنائها؟

هذا باب

إضافة الأزمنة إلى الجمل

اعلم أنه ما كان من الأزمنة في معنى إذ فإنه يضاف إلى الفعل والفاعل، وإلى الابتداء والخبر؛ كما يكون ذلك في إذ.

وذلك قولك: جئتك إذ قام زيد، وجئتك إذ زيد في الدار. فعلى هذا تقول: جئتك يوم زيد في الدار، وجئتك حين قام زيد.

وإن كان الظرف في معنى إذا لم يجز أن يضاف إلا إلى الأفعال؛ كما كان ذلك في إذا.

ألا ترى أنك تقول: آتيك إذا قام زيد، وإذا طلعت الشمس، ولا يجوز. آتيك إذا زيد منطلق؛ لأن إذا فيها معنى الجزاء، ولا يكون الجزاء إلا بالفعل. تقول: إذا أعطيتني أكرمتك، وإذا قدم زيد أتيتك.

وقول الله عز وجل: " إذا السماء انفطرت " و " إذا السماء انشقت " معناه: إذا انشقت السماء، ولولا هذا الفعل لم يصلح أن يقع بعد إذا لما فيها من معنى الجزاء. فعلى هذا تقول: آتيك يوم يقوم زيد، ولا يجوز: آتيك يوم زيد منطلق، لما ذكرت لك. قال الله عز وجل: " هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " وقال " هذا يوم لا ينطقون " .

فأما إذ فإنما يقع بعدها الجمل؛ لأنه لا معنى للجزاء فيها؛ لأنها ماضية لا تحتاج إلى الجواب. تقول: جئتك إذ قام زيد، وكان هذا إذ زيد أمير؛ كما تقول: هذا كان يوم الجمعة. فإذا كان بعدها فعل ماض قبح أن يفرق بينها وبينه.

تقول: جئتك إذ يقوم زيد، فإنما وضعت يقوم في موضع قائم لمضارعته إياه، وقام لا يضارع الأسماء. وإذ إنما تضاف إلى فعل وفاعل، أو ابتداء وخبر.

فإذا أضيفت إلى الفعل قدم، وإذا أضيفت إلى الابتداء قدم ولم يكن الخبر إلا اسماً أو فعلاً مما يضارع الأسماء.

ومما لا يجوز أن يكون ظرفاً: ناحية الدار، وجوف الدار؛ لأنها بمنزلة اليد والرجل. فكما لا تقول: زيد الدار، لا تقول: زيد جوف الدار حتى تقول في جوفها.

فإن قلت: زيد ناحية من الدار، أو زيد ناحية عن الدار، لا تريد بعضها حسن ذلك.

ومما لا يكون إلا ظرفاً ويقبح أن يكون اسماً سوى، وسواء ممدودة بمعنى سوى. وذلك أنك إذا قلت: عندي رجل سوء زيد فمعناه: عندي رجل مكان زيد، أي يسد مسده، ويغني غناءه.

وقد اضطر الشاعر فجعله اسماً؛ لأن معناه معنى غير، فحمله عليه، وذلك قوله:

تجانف عن جل اليمامة ناقتي ... وما قصدت من أهله لسوائكا

وقال آخر:

ولا ينطق الفحشاء من كان منهم ... إذا جلسوا منا، ولا من سوائنا

وإنما اضطر، فحملها على معناها؛ كما أن الشاعر حيث اضطر إلى الكاف التي للتشبيه أن يجعلها اسماً أجراها مجرى مثل؛ لأن المعنى واحد؛ نحو قولك: زيد كعمرو، إنما معناه: مثل عمرو. فلما اضطر قال:

وصاليات ككما يؤثفين

يريد: كمثل ما. وقال آخر:

فصيروا مثل كعصف مأكول

وأما قوله:

وأنت مكانك من وائل ... مكان القراد من است الجمل

فإنه لم يجعل أحدهما ظرفاً للآخر، وإنما شبه مكاناً بمكان، كقولك: مكانك مثل مكان زيد. وتقول: آتيك يوم الجمعة غدوة. نصبت يوم الجمعة؛ لأنه ظرف، ونصبت غدوة على البدل؛ لأنك أردت أن تعرفه في أي وقت؛ كما تقول: ضربت زيداً رأسه. أردت أن تبين موضع الضرب.

وتقول: سير بزيد يوم الجمعة غدوة، على البدل. وإن شئت نصبت اليوم فجعلته ظرفاً لقولك غدوة، لأن الغداة في اليوم. وإن شئت رفعت اليوم، فأقمته مقام الفاعل، ثم أضمرت فعلاً، فنصبت به غدوة؛ لأن المعنى على ذلك. فلما قام الأول مقام الفاعل كان التقدير: ساروا غدوةً يا فتى.

فأما قولهم: الليلة الهلال، ولا يجوز الليلة زيد؛ لأن ظروف الزمان لا تتضمن الجثث، وإنما استقام هذا؛ لأن فيه معنى الحدوث. إنما يريد: الليلة يحدث الهلال. فللمعنى صلح.

ولو قلت: الليلة الهلال كان جيداً. تريد: الليلة ليلة الهلال، فلما حذفت ليلة أقمت الهلال مقامها. مثل قول الله عز وجل: " واسأل القرية " . تريد أهل القرية. وكذلك زيد عمرو وأردت مثل عمرو، فلما حذفت مثلا قام عمرو مقامه.

هذا باب

من الإخبار

نبين ما يستعمل من هذه الظروف أسماءً، وما لا يكون إلا ظرفاً لقلة تصرفه

ونبدأ قبل ذلك بشيء عن الإخبار عن الأسماء غير الظروف؛ لتستدل بذلك على الظروف إذا وردت عليك إن شاء الله.

تقول: قام زيد. فإن قيل لك: أخبر عن زيد فإنما يقال لك: اجعل زيداً خبراً، واجعل هذا الفعل في صلة الاسم الذي زيد خبره. فإن خبرت عنه ب الذي قلت: الذي قام زيد.

وإن أخبرت عنه بالألف، واللام اللتين في معنى الذي قلت: القائم زيد. فإن قلت: ضرب زيد عمراً، فأخبرت عن زيد قلت: الذي ضرب عمراً زيد. جعلت في ضرب ضميراً في موضع زيد فاعلاً، وجعلت زيداً خبر الابتداء.

وإن قلته بالألف واللام فكذلك تقول: الضارب عمراً زيد.

وإن قيل لك: أخبر عن عمرو قلت: الضاربه زيد، عمرو جعلت الهاء المنصوبة في موضع عمرو، وجعلت عمراً خبر الابتداء، لأنك عنه تخبر. والظروف تجري هذا المجرى.

تقول: القتال يوم الجمعة. فإن أخبرت عن القتال وضعت مكانه ضميراً يكون يوم الجمعة ظرفاً له، وجعلته خبر الابتداء، ولا يكون بالذي؛ لأن الألف واللام إنما تلحقان الفعل؛ لأنك تبني من الفعل فاعلاً، ثم تدخلهما عليه.

وذلك قولك: الذي هو يوم الجمعة القتال. كان القتال ابتداء، فجعلت هو في موضعه. فإن أخبرت عن يوم الجمعة قلت: الذي القتال فيه يوم الجمعة، تكنى عن يوم الجمعة إذا كان ظرفاً بقولك فيه.

وكذلك إذا قلت: زيد خلفك، فقيل له: أخبر عن الخلف قلت: الذي فيه زيد خلفك، والذي فيه زيد أمامك.

ومن جعله مفعولاً على السعة قال: يوم الجمعة صمته، وخلفك قمته، تريد فيه أجراه مجرى زيد وعمرو، فقال في قوله: قمت يوم الجمعة إذا أخبر عن اليوم: القائمه أنا يوم الجمعة، والجالسه أنا خلفك.

هذا لما كان منها متصرفاً. فأما ما لا يتصرف فنحو: عند، وسوى، وذات مرة، وبعيدات بين، وسحر، وبكرا إذا أردت سحر يومك، وبكرة، وعشية، وعتمة، وصباح مساء فلا يجوز الإخبار عن شيء منها، لأنك إذا جعلت شيئاً منها خبر ابتداء، أردت أن ترفعه، والرفع فيها محال؛ لأنها لا تكون أسماء غير ظروف لأنك تقول: مكان واسع، ولا تقول: عندك. واسع، ولا: ذات مرة خير من مرتين؛ لفساد ذلك في المعنى.

ولو قيل لك: أخبر عن عند في قولك: جلست عندك لقلت: الجالس فيه أنا عندك، وهذا لا يجوز لما ذكرت لك في صدر الكتاب.

هذا باب

ما كان من أسماء الأوقات غير متصرف

نحو: سحر إذا أردت به سحر يومك، وبكرا وما كان مثلهما في قلة التمكن

أما غدوة، وبكرة فاسمان متمكنان معرفة، لا ينصرفان من أجل التأنيث. تقول: سير عليه بكرة يا فتى، وغدوة إذا أقمت بكرة مقام الفاعل، وإن أردت نصبه على الظرف فكذلك تقول: سير عليه بكرة يا فتى، وغدوة يا فتى.

وإنما صارا معرفة؛ لأنك بنيت غدوة اسماً لوقت بعينه، وبكرة في معناها.

ألا ترى أنك تقول: هذه غداة طيبة، وجئتك غداةً طيبة، ولا تقول على هذا الوجه: جئتك غدوةً طيبة، ولكن تقول: آتيك يوم الجمعة غدوة يا فتى.

فإن ذكرت صرفت، فقلت: سير عليه غدوة من الغدوات، وبكرة من البكر؛ نحو قولك: رأيت عثماناً آخر، وجاءني زيد من الزيدين.

قال الله عز وجل: " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً " وقرأ بعضهم " بالغدوة والعشي " فأدخل الألف واللام على غدوة.

وأما ضحىً، وضحى تصغير ضحى، وعشية، وعتمة، وعشاء، وبصر، وظلام، وصباح مساء فإن أردت بهن النكرات فهن متصرفات. تقول: سير عليه عشية من العشايا، وضحوة من الضحوات، وتنصب إن شئت على الظرف. وكذلك سير به عتمة، وعشاء.

فإن عنيت اليوم الذي أنت فيه والليلة التي أنت فيها لم ترفع من ذلك شيئاً، وتنون؛ لأنهن نكرات.

وتقول: سير عليه عشيةً، وعشاءً، وعتمةً، ومساءً. وإنما قل تصرفه؛ لأنك وضعته وهو نكرة في موضع المعرفة إذا عنيت به يومك وليلتك. فإن صيرته نكرة رددته إلى بابه وأصله فتصرف.

وأما سحر فمعدول لا ينصرف، وإنما عدل عن الألف واللام كأخر. وهذا يفسر فيما ينصرف وما لا ينصرف. وكذلك إن صغرته فقلت: سير به سحيراً صرفته؛ لأن فعيلاً لا يكون معدولاً. ولكن ترفعه بما ذكرت من قلة تمكنه. فإن نكرته انصرف، وجرى على الوجوه؛ لأنه في بابه، فقلت: سير عليه سحرا، أي سحر من الأسحار، ويجوز نصبه على الظرف، قال الله عز وجل: " إلا آل لوط نجيناهم بسحر " فهذا جملة هذا الباب.

هذا باب

لا التي للنفي

اعلم أن لا إذا وقعت على نكرة نصبتها بغير تنوين؛ وإنما كان ذلك لما أذكره لك: إنما وضعت الأخبار جوابات للاستفهام. إذا قلت: لا رجل في الدار لم تقصد إلى رجل بعينه، وإنما نفيت عن الدار صغير هذا الجنس وكبيره. فهذا جواب قولك: هل من رجل في الدار؟ لأنه يسأل عن قليل هذا الجنس وكثيره.

ألا ترى أن المعرفة لا تقع ها هنا؛ لأنها لا تدل على الجنس، ولا يقع الواحد منها في موضع الجميع. فلو قلت: هل من زيد؟ كان خلفاً. فلما كانت لا كذلك كان دخولها على الابتداء والخبر كدخول إن وأخواتها عليهما، فأعملت عمل إن.

فأما ترك التنوين، فإنما هو لأنها جعلت وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد كخمسة عشر.

فإن قيل: أيكون الحرف مع الاسم اسماً واحداً؟ قيل: هذا موجود معروف. تقول: قد علمت أن زيداً منطلق ف أن حرف، وهي وما عملت فيه اسم واحد، والمعنى: علمت انطلاق زيد، وكذلك: بلغني أن زيداً منطلق. فالمعنى: بلغني انطلاق زيد.

وكذلك أن الخفيفة مع الفعل إذا قلت: أريد أن تقوم يا فتى إنما هو: أريد قيامك، وكذلك يسرني أن تقوم، معناه: يسرني قيامك.

ف لا والاسم الذي بعدها المنكور بمنزلة قولك: يا ابن أم جعل اسماً واحداً؛ كما جعل خمسة عشر، والثاني في موضع خفض بالإضافة، وكذلك لا رجل في الدار. رجل في موضع نصب منون، إلا أنهما جعلا اسماً واحداً بمنزلة ما ذكرت لك.

والدليل على أن لا وما عملت فيه اسم قولهم: غضبت من لا شيء يا فتى، وجئت بلا مال كقوله:

حنت قلوصي حين لا حين محن

جعلهما اسماً واحداً.

ولا يجوز أن يكون هذا النفي إلا عاماً. من ذلك قول الله عز وجل " لا عاصم اليوم من أمر الله " وقال " لا ريب فيه " وقال: " لا ملجأ من الله إلا إليه " .

فإن قدرت دخولها على شيء قد عمل فيه غيرها لم تعمل شيئاً، وكان الكلام كما كان عليه؛ لأنك أدخلت النفي على ما كان موجباً، وذلك قولك: أزيد في الدار أم عمرو؟ فتقول: لا زيد في الدار ولا عمرو.

وكذلك تقول: أرجل في الدار أم امرأة؟ فالجواب: لا رجل في الدار ولا امرأة. لا تبالي معرفةً كانت أم نكرةً. وعلى هذا قراءة بعضهم: " لا خوف عليهم " ومن قرأ: " لا خوف عليهم " فعلى ما ذكرت لك.

وأما قوله: " ولا هم يحزنون " فلا يكون هم إلا رفعاً؛ لأن لا لا تعمل في المعارف. وسأبين لك هذا إن شاء الله.

وكذلك إن جعلتها جواباً لقولك: رجل في الدار، أو هل رجل في الدار؟ قلت: لا رجل في الدار. وهذا أقل الأقاويل، لأنها لا تخلص لمعرفة دون نكرة، ولا نكرة دون معرفة إذ كان التكرير والبناء أغلب.

فالتكرير: لا زيد في الدار ولا عمرو، ولا رجل في الدار ولا امرأة. والبناء لا رجل في الدار ولا امرأة، على جواب من قال: هل من رجل أو امرأة في الدار؟ فمما جاء على قوله: لا رجل في الدار قوله:

وأنت امرؤ منا خلقت لغيرنا ... حياتك لا نفع وموتك فاجع

وقوله:

من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح

فإن كانت معرفة لم تكن إلا رفعاً؛ لأن لا لا تعمل في معرفة، وذلك قولك: لا زيد في الدار. إنما هو جواب: أزيد في الدار؟ فمن ذلك قوله:

قضت وطراً واسترجعت ثم آذنت ... ركائبها أن لا إلينا رجوعها

واعلم أن لا إن فصلت بينها وبين النكرة لم يجز أن تجعلها معها اسماً واحداً؛ لأن الاسم لا يفصل بين بعضه وبعض.

فنقول: لا في الدار أحد، ولا في بيتك رجل. وقوله عز وجل " لا فيها غول " لا يجوز غيره؛ لأن لا وإن لم تجعلها اسماً واحداً مع ما بعدها لا تعمل لضعفها إلا فيما يليها.

ألا ترى أنها تدخل على الكلام فلا تغيره. ولو كانت كإن وأخواتها لأزالت الابتداء، ولا تعمل إلا في نكرة البتة، ولو كانت كغيرها من العوامل لعملت في المعرفة؛ كما تعمل في النكرة. فإن قلت: فما قوله؟

أرى الحاجات عند أبي خبيب ... نكدن ولا أمية في البلاد

فقد عملت في أمية، وكذلك قوله:

لا هيثم الليلة للمطي

فليس كما قال؛ لأن الشاعر إنما أراد: لا أمثال أمية، ولا من يسد مسدها، والمعنى: ولا ذا فضل. فدخلت أمية في هؤلاء المنكورين.

وكذلك لا هيثم الليلة، أي: لا مجري ولا سائق كسوق هيثم. ومثل ذلك قولهم في المثل: قضية ولا أبا حسن لها، أي قضية ولا عالم بها، فدخل علي رضي الله عنه فيمن يطلب لهذه المسألة.

هذا باب

ما تعمل فيه لا وليس باسم معها

تقول: لا مثل زيد لك، ولا غلام رجل لك، ولا ماء سماء في دارك. وإنما امتنع هذا من أن يكون اسماً واحداً مع لا لأنه مضاف، والمضاف لا يكون مع ما قبله اسماً. ألا ترى أنك لا تجد اسمين جعلا اسماً واحداً وهما مضاف، إنما يكونان مفردين كحضرموت وبعلبك، وخمسة عشر، وبيت بيت.

ألا ترى أن قوله: يا ابن أم لما جعل أم مع ابن اسماً واحداً حذفت ياء الإضافة. فلذلك امتنع هذا من أن يكون مع ما قبله اسماً واحداً. وعملت فيه لا فنصبته. وكذلك قول ذي الرمة:

هي الدار إذمي لأهلك جيرة ... ليالي لا أمثالهن لياليا

فأمثالهن نصب ب لا، وليس معها بمنزلة اسم واحد.

ومما لا يكون معها اسماً واحداً ما وصل بغيره؛ نحو قولك: لا خيرا من زيد لك، ولا آمراً بالمعروف لك. ثنيت التنوين؛ لأنه ليس منتهى الاسم؛ لأن ما بعده من تمامه، فصار بمنزلة حرف من حروف الاسم.

ولو قلت: لا خير عند زيد، ولا آمر عنده لم يكن إلا بحذف التنوين؛ لأنك لم تصله بما يكمله اسماً ولكنه اسم تام، فجعلته مع لا اسماً واحداً.

وتقول: لا آمر يوم الجمعة لك. إذا نفيت جميع الآمرين، وزعمت أنهم ليسوا له يوم الجمعة.

فإن أردت أن تنفي آمراً يوم الجمعة قلت: لا آمراً يوم الجمعة لك. جعلت يوم الجمعة من تمام الاسم، فصار بمنزلة قولك لا آمراً معروفاً لك. فهذا يبين ما يرد من مثل هذا.

وكان الخليل وسيبويه يزعمان أنك إذا قلت: لا غلامين لك، أن غلامين مع لا اسم واحد وثبت النون؛ كما تثبت مع الألف واللام، وفي تثنية ما لا ينصرف وجمعه، نحو قولك: هذان أحمران، وهذان المسلمان، فالتنوين لا يثبت في واحد من الموضعين. فرقوا بين النون والتنوين، واعتلوا بما ذكرت لك. وليس القول عندي كذلك، لأن الأسماء المثناة والمجموعة بالواو، والنون لا تكون مع ما قبلها اسماً واحداً. لم يوجد ذلك؛ كما لم يوجد المضاف ولا الموصول مع ما قبله بمنزلة اسم واحد.

هذا باب

ما ينعت من المنفي

اعلم أنك إذا نعت اسماً منفياً فأنت في نعته بالخيار: إن شئت نونته، فقلت: لا ماء بارداً لك، ولا رجل ظريفاً عندك وهو أقيس الوجهين وأحسن.

وإن شئت جعلت المنفي ونعته اسماً واحداً فقلت: لا رجل ظريف عندك، ولا ماء بارد لك. فأما ما لم يرد أن يجعله اسماً فحجته أن النعت منفصل من المنعوت مستغنىً عنه فإنما جاء به بعد أن مضى الاسم على حاله، ولو لم يأت به لم تحتج إليه.

وحجة من رأى أن يجعله مع المنعوت اسماً واحداً أنه يقول: لما كان موضع يصلح فيه بناء الاسمين اسماً واحداً كان بناء اسم مع اسم أكثر من بناء اسم مع حرف. وكل قد ذهب مذهباً.

إن قلت: لا رجل ظريفاً عاقلاً، فأنت في النعت الأول بالخيار. فأما الثاني فليس فيه إلا التنوين؛ لأنه لا يكون ثلاثة أشياء اسماً واحداً.

وكذلك المعطوف. لو قلت: لا رجل وغلاماً عندك لم يصلح في الغلام إلا التنوين من أجل واو العطف؛ لأنه لا يكون في الأسماء مثل حضرموت اسماً واحداً إذا كانت بينهما واو العطف. فعلى هذا يجري هذا الباب.

هذا باب

ما كان نعته على الموضع

وما كان مكرراً فيه الاسم الواحد اعلم أن النعت على اللفظ، و التكرير بمنزلة واحدة وذلك قولك في النعت: لا رجل ظريف لك، ولا رجل ظريفاً لك على ما ذكرت لك. والتكرير على ذلك يجري، تقول: لا ماء ماء بارداً يا فتى. وإن شئت قلت: لا ماء ماء بارداً.

فإن جعلت النعت على الموضع قلت: لا ماء ماء بارد. وإن شئت جعلت الاسمين اسماً واحداً قلت: لا ماء ماء بارد، وجعلت ماء الأول والثاني اسماً واحداً، وجعلت بارداً نعتاً على الموضع؛ لأن ماء وما عملت فيه في موضع اسم مبتدأ، والخبر محذوف، كأنه أراد: لا ماء لنا، وبارد نعت على الموضع. والنعت على اللفظ أحسن.

فمما جاء نعتاً على الموضع وهو ها هنا أحسن قول الله عز وجل: " ما لكم من إله غيره " . إن شئت كان غيره استثناء، وإن شئت كان نعتاً على الموضع، وإنما كان هو الوجه؛ لأن من زائدة لم تحدث في المعنى شيئاً ولا ليست كذلك؛ لأنها أزالت ما كان موجباً، فصار بها منفياً. فمن ذلك قوله:

ورد جازرهم حرفاً مصرمة ... ولا كريم من الولدان مصبوح

والعطف يجري هذا المجرى. فمن جعل المعطوف على الموضع قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. حمل الثاني على الموضع.

ونظير هذا قوله:

فلسنا بالجبال، ولا الحديدا

حمل الثاني على الموضع، كأنه قال: فلسنا الجبال ولسنا الحديدا.

ومثله قول الله عز وجل: " فأصدق وأكن " لولا الفاء كان أصدق مجزوماً؛ كما أنه لولا الباء لكانت الجبال منصوبة لأنه خبر ليس.

ومثله قولك: إن زيداً منطلق وعمرو، وقول الله عز وجل: " أن الله برئ من المشركين ورسوله " .

فالأجود في الثاني أن تحمل على الموضع؛ لأن إن دخلت على ما لو لم تدخل عليه لكان مبتدأ، ولم تغير المعنى بدخولها. فعلى هذا تقول: لا رجل في الدار ولا امرأة، ومثله قوله:

هذا لعمركم الصغار بعينه ... لا أم لي إن كان ذاك ولا أب

والحمل على اللفظ أجود، كقوله:

لا أب وابناً مثل مروان وابنه ... إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا

هذا باب

ما يقع مضافاً بعد اللام

كما وقع في النداء في قولك: يا بؤس للحرب إذا كانت اللام تؤكد الإضافة؛ كما يؤكدها الاسم إذا كرر كقولك: يا تيم تيم عدي. وذلك قولك: لا أبالك. ولا مسلمى لك.

أما قولك: لا أبا لك فإنما تثبت اللام؛ لأنك تريد الإضافة. ولولا ذلك لحذفتها. ألا ترى أنك تقول: هذا أب لزيد، ومررت بأب لزيد، فيكون على حرفين.

فإن قلت: هذا أبوك رددت، وكذلك رأيت أباك، ومررت بأبيك. إنما رددت للإضافة. فإن أردت الإفراد قلت: لا أب لزيد، جعلت لزيد خبراً أو أضمرت الخبر، وجعلته تبييناً.

فإن قلت: لا أبا له فالتقدير: لا أباه، ودخلت اللام لتوكيد الإضافة، كدخولها في يا بؤس للحرب، وكذلك الأصل في هذا كقوله:

أبالموت الذي لا بد أني ... ملاق لا أباك تخوفيني

وقال الآخر:

فقد مات شماخ ومات مزرد ... وأي كريم لا أبا ك يخلد

وعلى هذا تقول: لا مسلمى لك، ولا مسلمى لك.

فإن قلت: لا مسلمين في دارك، ولا مسلمين عندك لم يكن من إثبات النون بد؛ لأن في، وعند وسائر حروف الإضافة لا تدخل على معنى اللام؛ لأن دخول اللام بمنزلة سقوطها.

ألا ترى أن قولك: هذا غلامك، بمنزلة قولك: هذا غلام لك. وتقول: لا مسلمين هذين اليومين لك، ولا مسلمين اليوم لك؛ لأنه لا يفصل بين المضاف والمضاف إليه، إلا أن يضطر شاعر، فيفصل بالظروف وما أشبهها؛ لأن الظرف لا يفصل بين العامل والمعمول فيه، تقول: إن في الدار زيداً، وإن اليوم زيداً قائم. فمما جاء في الشعر فصل بينه وبين ما عمل فيه قوله:

كأن أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس أصوات الفراريج

وقال آخر:

كما خط الكتاب بكف يوماً ... يهودي يقارب أو يزيل

ونظير الظرف في ذلك المصدر، وما كان مثله من حشو الكلام، كقوله:

أشم كأنه رجل عبوس ... معاود جرأة وقت الهوادي

أراد: معاود وقت الهوادي جرأةً. وقال آخر:

لما رأت ساتيدما استعبرت ... لله در اليوم من لامها

هذا باب

ما لا يجوز أن يحمل من المنفي على الموضع

تقول: لا غلام لك ولا العباس، ولا غلام لك ولا زيد، ولا غلام لك وزيد. لم يجز أن يحمل زيد على لا، ولكن ترفعه على الموضع؛ لأن لا وما عملت فيه في موضع رفع؛ لأن لا لا تعمل في معرفة.

ومثله: كل رجل في الدار وزيد فله درهم، وكل رجل في الدار وعبد الله لأكرمنهم؛ لأنه لا يجوز: كل عبد الله، فعطف على كل نفسها؛ كما لا يجوز: لا عبد الله في الدار. فعلى هذا يجري ما ذكرت لك.

هذا باب ما إذا دخلت عليه لا لم تغيره عن حاله لأنه قد عمل فيه الفعل. فلم يجز أن يعمل في حرف عاملان وذلك قولك: لا سقياً ولا رعباً، ولا مرحباً ولا أهلاً، ولا كرامةً ولا مسرةً؛ لأن الكلام كان قبل دخول لا أفعل هذا وكرامةً، ومسرةً، أي وأكرمك، وأسرك. فإنما نصبه الفعل، فلما دخلت عليه لا لم تغيره. وكذلك لا سلام عليك، وهو ابتداء وخبره، ومعناه الدعاء.

على ذلك قول الشاعر:

ونبئت جواباً وسكناً يسبني ... وعمرو بن عفرا لا سلام على عمرو

هذا باب

لا إذا دخلها ألف الاستفهام أو معنى التمني

أما كونها للاستفهام فعلى حالها قبل أن يحدث فيها علامته. تقول: ألا رجل في الدار؟ على قول من قال: لا رجل في الدار.

ومن قال: لا رجل في الدار ولا امرأة، قال: ألا رجل في الدار ولا امرأة؟ ومن قال: لا رجل ظريفاً في الدار، قال: ألا رجل ظريفاً؟ ومن لم ينون ظريفاً قبل الاستفهام لم ينونه ها هنا.

وقد تجعل لا بمنزلة ليس لاجتماعهما في المعنى، ولا تعمل إلا في النكرة، فتقول: لا رجل أفضل منك. ولا تفصل بينها وبين ما تعمل فيه؛ لأنها تجري رافعة مجراها ناصبة. فعلى هذا تستفهم عنها.

فإن دخلها معنى التمني فالنصب لا غير في قول سيبويه، والخليل وغيرهما إلا المازني وحده. تقول: ألا ماء أشربه، ألا ماء وعسلا، كما كان في قولك: لا رجل وغلاماً في الدار.

وتقول: ألا ماء بارد إن شئت، وإن شئت نونت بارداً، وإن شئت لم تنون كقولك: لا رجل ظريفاً وإن شئت نونت ظريفاً، وإن شئت لم تنون.

ومن قال: لا رجل وامرأة، لم يقل هنا إلا بالنصب.

واحتجاج النحويين: أنه لما دخله معنى التمني زال عنه الابتداء، وموضعه نصب؛ كقولك: اللهم غلاماً، أي هب لي غلاماً.

وكقولهم: إن زيداً في الدار وعمرو، حمل عمرو على الموضع. فإن قالوا: ليست زيداً في الدار وعمراً لم يكن موضع عمرو الابتداء؛ لأن إن تدخل على معنى الابتداء، وليت تدخل للتمني فلها معنى سوى ذلك، فلذلك لم يكن في ليت ولعل وكأن ما في إن ولكن من الحمل على موضع الابتداء؛ لأن لهن معاني غير الابتداء. فكأن للتشبيه، وليت للتمني، ولعل للتوقع.

وكان المازني يجري هذا مع التمني مجراه قبل ويقول: يكون اللفظ على ما كان عليه وإن دخله خلاف معناه؛ ألا ترى أن قولك: غفر الله لزيد معناه الدعاء، ولفظه لفظ ضرب، فلم يغير لما دخله من المعنى، وكذلك قولك: علم الله لأفعلن، لفظه لفظ رزق الله، ومعناه القسم، فلم يغيره. وكذلك: حسبك رفع بالابتداء، ومعناه النهي.

ومن قوله: ألا رجل أفضل منك. ترفع أفضل لأنه خبر الابتداء، كما كان في النفي وكذا يلزمه. والآخرون ينصبونه، ولا يكون له خبر.

هذا باب

مسائل لا في العطف من المعرفة والنكرة

العم أنك لا تعطف اسماً على اسم، ولا فعلاً على فعل في موضع من العربية إلا كان مثله. تقول: مررت بزيد وعمرو، ورأيت زيداً وعمراً، وأنا آتيك وأكرمك، ولا تذهب فتندم، أي: لا تذهب ولا تندم، ولم يرد الجواب.

وتقول: لا رجل وغلاماً. عطفت غلاماً على رجل. وحق الرجل أن ينون، ولكن البناء منعه من ذلك؛ كما تقول: مررت بعثمان وزيد، فموضع عثمان خفض، غير أنه لا ينصرف. فجرى المنصرف على موضعه.

فإن قلت: لا رجل ولا غلام في الدار ولا حول ولا قوة إلا بالله فإنما عطفت الثاني على لا وما عملت فيه؛ لأنها والذي عملت فيه في موضع اسم مرفوع مبتدأ، ولا بد للمبتدأ من خبر، مضمر أو مظهر.

ونظير ذلك: كل رجل ظريف في الدار، إن جعلت ظريفاً نعتاً للرجل، وإن جعلته لكل رفعت فقلت: كل رجل ظريف في الدار.

وتقول: كل رجل وغلام عندك فإن حملت الغلام على كل رفعت، وصار واحداً؛ لأن ما بعد كل إذا كان واحداً نكرة فهو في معنى جماعة إذا أفردوا واحداً واحداً. يدلك على ذلك قولهم: جاءني كل اثنين في الدار؛ لأن معناه: إذا جعلوا اثنين اثنين.

وتقول: لا رجل في الدار ولا غلام يا فتى. إن جعلت لا الثانية للنفي كقولك: ليس رجل في الدار وليس غلام.

وإن جعلت لا للعطف مثل: ما مررت بزيد ولا عمرو وقلت: لا رجل في الدار ولا غلاماً إن عطفته على رجل، وإن عطفته على لا رفعت.

وتقول: لا أخا لك، ولا أبا لزيد. إن كانت لا للنفي. وإن كانت للعطف قلت: ولا أباً لزيد. لا يجوز غير ذلك؛ لأن اللام دخلت على المنفي لا في المعطوف عليه؛ كما دخلت في النداء، ولم تدخل في المعطوف عليه لأنك تقول: يا بؤس للحرب. ولا تقول: يا بؤس زيد. وبؤس للحرب، لأن النداء يحتمل ما لا يحتمله المعطوف، وكذلك المنفي، تقول: يا زيد والحارث رفعاً ونصباً، ولو ولى الحارث حرف النداء لم يجز إلا أن تحذف منه الألف واللام؛ لأن الإشارة تعريف، فلا يدخل الألف واللام على شيء معرف بغيرهما.

ألا ترى أن تقدير من قال: الحارث والعباس إنما يحكي حالهما نكرة، وهما وصف؛ لأنه يريد الشيء بعينه، ولا تقول على هذا: جاءني العمر، إلا أن تسميه بجمع عمرة، فتحكي تلك الحال.

والنفي بمنزلة النداء فيما يحتمل. تقول: لا رجل في الدار، ولا تقول: وغلام في الدار، حتى تنون الغلام على ما وصفت لك.

وتقول: لا رجلين مسلمين لك. لا بد من إثبات النون؛ لأن مسلمين نعت، وليس بالمعتمد عليه بالنفي، وإنما يحذف من المنفي لا من نعته؛ كما تقول في النداء: يا رجل الظريف أقبل، فإنما تحذفان من المنادى؛ ولا تحذفان من وصفه لما ذكرت لك.

هذا باب

الاستثناء

والاستثناء على وجهين: أحدهما: أن يكون الكلام محمولاً على ما كان عليه قبل دخول الاستثناء. وذلك قولك: ما جاءني إلا زيد، وما ضربت إلا زيداً، وما مررت إلا بزيد.؟ فإنما يجري هذا على قولك: جاءني زيد، ورأيت زيد، ومررت بزيد، وتكون الأسماء محمولة على أفعالها.

وإنما احتجت إلى النفي والاستثناء؛ لأنك إذا قلت: جاءني زيد فقد يجوز أن يكون معه غيره. فإذا قلت: ما جاءني إلا زيد نفيت المجيء كله إلا مجيئه، وكذلك جميع ما ذكرنا.

والوجه الآخر: أن يكون الفعل أو غيره من العوامل مشغولاً، ثم تأتي بالمستثنى بعد. فإذا كان كذلك فالنصب واقع على كل مستثنى، وذلك قولك: جاءني القوم إلا زيداً، ومررت بالقوم إلا زيداً.

وعلى هذا مجرى النفي. وإن كان الأجود فيه غيره؛ نحو: ما جاءني أحد إلا زيد، وما مررت بأحد إلا زيد، وذلك لأنك لما قلت: جاءني القوم وقع عند السامع أن زيداً فيهم، فلما قلت: إلا زيداً كانت إلا بدلاً من قولك: أعني زيداً، وأستثني فيمن جاءني زيداً، فكانت بدلاً من الفعل.

وهي حرف الاستثناء الأصلي. وحروف الاستثناء غيرها ما أذكره لك: أما ما كان من ذلك اسماً فغير وسوى، وسواء. وما كان حرفاً سوى إلا فحاشا، وخلا. وما كان فعلاً فحاشا، وخلا وإن وافقا لفظ الحروف، وعدا، ولا يكون.

هذا باب

المستثنى من المنفي

تقول: ما جاءني أحد إلا زيد، وإلا زيداً. أما النصب فعلى ما فسرت لك، وأما الرفع فهو الوجه لما أذكره لك إن شاء الله.

تقول: ما جاءني أحد إلا زيد. فتجعل زيد بدلاً من أحد، فيصير التقدير ما جاءني إلا زيد؛ لأن البدل يحل محل البدل منه.

ألا ترى أن قولك: مررت بأخيك زيد إنما هو بمنزلة قولك: مررت بزيد؛ لأنك لما رفعت الأخ قام زيد مقامه. فعلى هذا قلت: ما جاءني أحد إلا زيد.

فإن قال قائل: فما بال زيد موجباً، وأحد كان منفياً، ألا حل محله؟ قيل: قد حل محله في العامل، وإلا لها معناها.

ولو قلت: جاءني إخوتك إلا زيداً لم يجز إلا النصب؛ لأنك لو حذفت الإخوة بطل الكلام، وذلك أنه كان يكون: جاءني إلا زيد. فلا يقع الاستثناء على شيء، فمن ثم بطل لفظ إلا من النصب لفساد البدل.

فمن ذلك قول الله عز وجل: " ما فعلوه إلا قليل منهم " لأنك لو قدرته على حذف الضمير، وهو الواو في فعلوه لكان: ما فعله إلا قليل منهم.

وقال في الإيجاب: " فشربوا منه إلا قليلاً منهم " وقال: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس " . وأما قوله عز وجل: " ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك " وامرأتك فالوجهان جائزان جيدان.

فمن قال: إلا امرأتك فهو مستثنى من يلتفت، وكأنه قال: ولا يلتفت إلا امرأتك. ويجوز هذا النصب على غير هذا الوجه، وليس بالجيد، على ما أعطيتك في أول الباب. جودة النصب على قوله: " فأسر بأهلك " إلا امرأتك. فلا يجوز إلا النصب على هذا القول لفساد البدل لو قيل: أسر إلا بامرأتك لم يجز. فإنما باب الاستثناء إذا استغنى الفعل بفاعله، أو الابتداء بخبره النصب، إلا أن يصلح البدل، فيكون أجود، والنصب على حاله في الجواز. وإنما كان البدل أجود؛ لأنه في اللفظ والمعنى، والنصب بالاستثناء إنما هو للمعنى لا للفظ.

وبيان ذلك أنك إذا قلت: جاءني إخوتك إلا زيداً، وزيد أحد إخوتك أوقعت عند السامع من قبل الاستثناء أنه فيمن جاء. فإذا قلت: إلا زيداً فإنما وقعت في موضع: لا أعني زيداً منهم، أو استثنى زيداً منهم، فهذا معنى.

وإذا قلت: ما جاءني أحد إلا زيد. فإنما رفعت، وإنما نحيت أحداً عن الفعل، وأحللت زيداً بعد الاستثناء محله، فصار التقدير: ما جاءني إلا زيد. فكل موضع صلح فيه البدل فهو الوجه، وإذا لم يصلح البدل لم يكن إلا النصب، كما يجوز فيما صلح فيه البدل النصب على الاستثناء.

هذا باب

ما لا يجوز فيه البدل

وذلك الاستثناء المقدم. نحو: ما جاءني إلا زيداً أحد، وما مررت إلا زيداً بأحد. وإنما امتنع البدل؛ لأنه ليس قبل زيد ما تبدله منه، فصار الوجه الذي كان يصلح على المجاز لا يجوز ها هنا غيره.

وذلك أنك كنت تقول: ما جاءني أحد إلا زيد، وتجيز: ما جاءني أحد إلا زيداً، فلما قدمت المستثنى بطل وجه البدل، فلم يبق إلا الوجه الثاني.

ومثال هذا قولك: جاءني رجل ظريف، فتجعل ظريفاً نعتاً لرجل، ويجوز: جاءني رجل ظريفاً، على الحال. فإذا قلت: جاءني ظريفاً رجل بطل الوجه الجيد؛ لأن رجلاً لا يكون نعتاً، فصار الذي كان هناك مجازاً لا يجوز غيره. فمن ذلك قوله:

الناس ألب علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوف، وأطراف القنا وزر

وقال:

وما لي إلا آل أحمد، شيعة ... ومالي إلا مشعب الحق مشعب

وتقول: من لي إلا أباك صديق. إذا أردت أن تجعل صديق خبراً من. كأنك قلت: من صديق لي؟ فإن أردت غير هذا الوجه قلت: من لي إلا أبوك صديقاً. جعلت من ابتداء، وقولك أبوك خبره، وجعلت صديقاً حالاً.

وإن شئت قلت: من لي إلا أبوك صديق؟ جعلت الأب بدلاً من من، فصار التقدير: أبوك لي صديق؛ لأن من اسم مستفهم عنه، فتقديره: أحد إلا أبوك لي صديق. فإذا أبدل طرح أحداً، وجعل أباك بدلاً منه: مالي إلا أبوك صديق.

وتقول في باب منه، وهو أن تؤخر صفة الأول. تقول: ما جاءني أحد إلا زيد خير منك. التقدير: ما جاءني أحد خير منك إلا زيد.

فأنت في هذا مخير: إن شئت نصبت زيداً؛ لأن الأول بمنزلة المتأخر لتأخر نعته، فلم تقدم المستثنى لتبدله من شيء لم يتم إذا كان لا يعرف إلا بوصفه فقد صار صفة بمنزلة ما هو موصول به.

ألا ترى أنك لو قلت: رأيت زيداً الأحمر، وهو لا يعرف إلا بهذا النعت لم يكن قولك: رأيت زيداً مغنياً. وأما من أبدل منه فيقول: الوصف تابع مستغنىً عنه، وإنما أبدل من الموصوف لا من وصفه، وليس المبدل منه بمنزلة ما ليس في الكلام إنما أبدلت للتبيين، ولم تقل إنه نعت، لأنه جوهر لا ينعت به.

ولو كان البدل يبطل المبدل منه لم يجز أن تقول: زيد مررت به أبي عبد الله؛ لأنك لو لم تعتد بالهاء، فقلت: زيد مررت بأبي عبد الله كان خلفاً؛ لأنك جعلت زيداً ابتداء، ولم ترد إليه شيئاً، فالمبدل منه مثبت في الكلام.

وإنما سمي البدل بدلاً؛ لدخوله لما عمل فيه ما قبله على غير جهة الشركة. وكان سيبويه يختار: ما مررت بأحد إلا زيد خير منك؛ لأن البدل إنما هو من الاسم لا من نعته، والنعت فضلة يجوز حذفها.

وكان المازني يختار النصب ويقول: إذا أبدلت من الشيء فقد اطرحته من لفظي، وإن كان في المعنى موجوداً، فكيف أنعت ما قد سقط؟ والقياس عندي قول سيبويه؛ لأن الكلام إنما يراد لمعناه. والمعنى الصحيح أن البدل والمبدل منه موجودان معاً، لم يوضعا على أن يسقط أحدهما إلا في بدل الغلط، فإن المبدل منه بمنزلة ما ليس في الكلام.

وتقول: ما منهم أحد اتخذت عنده يداً إلا زيد كريم، على البدل من أحد، وإن شئت خفضت زيداً فأبدلته من الهاء التي في عنده؛ لأن المعنى: ما اتخذت يداً عند أحد منهم كريم إلا عند زيد، فهذا يدلك على جميع البدل.

هذا باب

ما لا يكون المستثنى فيه إلا نصباً

وذلك قولك: جاءني إخوتك إلا زيداً، ومررت بإخوتك إلا زيداً، ولا يكون البدل ها هنا لما ذكرت لك.

ألا ترى أنك لو طرحت الإخوة من الكلام لتبدل زيداً منهم لفسد. لو قلت: جاءني إلا زيداً كان محالاً، وكذلك مررت إلا بزيد محال.

هذا باب

ما يصلح فيه البدل على وجهين

تقول: ما ظننت أحداً يقول ذاك إلا زيداً، وإن شئت قلت: إلا زيد. أما النصب فعلى البدل من أحد، وإن شئت فعلى أصل الاستثناء. وأما الرفع فعلى أن تبدله من المضمر في يقول؛ لأن معناه: ما أظنه يقول ذاك أحد إلا زيد. فالذي أضمرته في يقول منفي عنه القول.

ومثله قول الشاعر:

في ليلة لا نرى بها أحداً ... يحكى علينا إلا كواكبها

أبدل الكواكب من المضمر في يحكي، ولو أبدله من أحد كان أجود؛ لأن أحداً منفي في اللفظ والمعنى والذي في الفعل بعده منفي في المعنى.

ومثل ذلك: ما علمت أحداً دخل الدار إلا زيداً، وإلا زيد إن شئت على ما تقدم من قولنا.

فأما ما ضربت أحداً يقول ذاك إلا زيداً فالنصب لا غير؛ لأنك لم تنف القول. إنما ذكرت أن القول واقع ولكنك لم تضرب ممن قال إلا زيداً.

والفصل بين علمت وظننت وبابهما، وبين سائر الأفعال أن علمت وبابها ليست أفعالاً واصلة منك إلى غيرك، وإنما هي إخبار بما هجس في نفسك من يقين أو شك.

فإذا قلت: علمت زيداً قائماً فإنما أثبت القيام في علمك، ولم توصل إلى ذات زيد شيئاً. وإذا قلت: ما علمت زيداً قائماً فإنما أخبرت أنه لم يقع في علمك.

وضربت وبابها أفعال واصلة إلى الذات مكتفية بمفعولاتها، فما كان بعدها فله معناه، وكذلك أعطيت وبابها. نحو: أعطيت زيداً درهماً، وكسوت زيداً ثوباً. إنما هي أفعال حقيقة ودفع كان منك إلى زيد، ونقل لمفعول إلى مفعول به، فالدرهم والثوب منقولان، وزيد منقول إليه.

فإذا قلت: ما أعطيت أحداً درهماً إلا ديناراً أبدلت الدينار مما قبله؛ لأن درهماً في معنى الجميع. كأنه قال: ما أعطيت أحداً شيئاً.

ومما يدلك على أنهما مفعولان بائن أحدهما من صاحبه، أنك لو حذفت الفعل لتعتبر، لم يقع أحد المفعولين بصاحبه لو قلت في قولك: أعطيت زيداً درهماً، وكسوت زيداً ثوباً: زيد درهم، أو زيد ثوب كان محالاً.

وباب كان، وإن، وعلمت داخل على ابتداء وخبر. وذاك أنك لو حذفت كان من قولك: كان زيد منطلقاً، أو إن من هذا، أو علمت لكان الكلام الباقي: زيد منطلق. وإنما هذه الأفعال والعوامل داخلة على ابتداء وخبر.

وتقول: ما أعطيت أحداً يقول ذاك درهماً إلا زيداً، ورفع زيد خطأ لما ذكرت لك. وتقول: ما منهم أحد إلا قد قال ذاك إلا زيداً. لا يصلح فيه إلا النصب، وذاك لأن الاستثناء إنما وقع من القول؛ لأن التقدير: كلهم قال ذاك إلا زيداً.

وتقول: أقل رجل رأيته إلا زيد. إذا أردت النفي بأقل. كأنك قلت: ما رجل رأيته إلا زيد. والتقدير: ما رجل مرثي إلا زيد. وإن أردت أنك قد رأيت قوماً رؤية قليلة نصبت زيداً؛ لأنه مستثنى من موجب. وأن يكون أقل في موضع نفي أكثر وكذلك: كل رجل رأيته يصلح فيه الوجهان.

وتقول: ما علمت أن أحداً يقول ذاك إلا زيداً؛ لأن المعنى: ما علمت إلا أن أحداً إلا زيداً يقول ذاك. ف زيد بدل من أحد الذي عملت فيه إن، ولو جعلت إلا تلي أن لم يصلح؛ لأن الحروف لا تقوى قوة الأفعال.

تقول: ما جاءني إلا زيداً قومك، وما جاءني إلا زيداً أحد، ولا يجوز: ما علمت أن إلا زيداً أحداً في الدار. فهذا يبين لك حال الموجب، والمنفي في الاستثناء.

وما الحجازية بمنزلة إن في العمل وإن اختلف عملاهما. واستواؤهما في أنهما حرفان ليسا بفعل. تقول: ما القوم فيها إلا زيد؛ لأن فيها مستقر، وتقديره: ليس القوم فيها. إلا أن ليس يجوز أن تنصب بها ما بعد إلا لأنها فعل، فتقدم خبرها وتؤخره، وقد مضى هذا التفسير في باب ما وباب ليس.

ولو قلت: ما إلا زيداً فيها أحد لم يجز؛ لأن ما ليست بفعل. وتقول: ليس إلا زيداً فيها أحد؛ لأن ليس فعل.

وأما قول الله عز وجل: " ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم " فإن أنفسهم بدل من شهداء لأن لهم الخبر.

ولو نصبت أنفسهم ورفعت شهداء لصلح، ولم يكن أجود الوجوه؛ لأن شهداء نكرة، ولكن لو نصبت الشهداء ورفعت أنفسهم كان جيداً. وقد بينت هذا في باب كان.

ومما يستوي فيه الأمران قول الله عز وجل: " فما كان جواب قومه إلا أن قالوا " ف أن قالوا مرفوع إذا نصبت الجواب، وهو منصوب إذا رفعت الجواب؛ لأنهما معرفتان، والأحسن أن ترفع ما بعد إلا لأنه موجب والوجه الآخر حسن جميل.

فأما قوله جل ذكره: " ما كان حجتهم إلا أن قالوا " فالوجه نصب حجتهم لأنه ذكر الفعل.

والوجه الآخر أعني رفع حجتهم جيد، لأن الحجة هي القول في المعنى.

هذا باب

ما تقع فيه إلا وما بعدها نعتاً بمنزلة غير

وما أضيفت إليه

وذلك قولك: لو كان معنا رجل إلا زيد لهلكنا. قال الله عز وجل: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " المعنى والله أعلم: لو كان فيهما آلهة غير الله، ولو كان معنا رجل غير زيد. وقال الشاعر:

أنيخت فألقت بلدةً فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها

كأنه قال: قليل بها الأصوات غير بغامها، ف إلا في موضع غير. ومثل ذلك قوله:

وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان

كأنه قال: وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه.

وقد تقع غير في موضع إلا؛ كما وقعت إلا في موضع غير. وقال الآخر:

وإذا أوليت قرضاً فاجزه ... إنما يجزي الفتى غير الجمل

فغير هذه في موضع إلا.

وتقول على هذا: جاءني القوم إلا زيد، ولا يكون إلا نعتاً إلا لما ينعت بغير، وذلك النكرة، والمعرفة بالألف واللام على غير معهود؛ نحو: ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذاك، وقد أمر بالرجل غيرك فيكرمني.

هذا باب

ما يقع في الاستثناء

من غير نوع المذكور قبله وذلك قولك: ما جاءني أحد إلا حماراً، وما في القوم أحد إلا دابةً. فوجه هذا وحده النصب؛ وذلك لأن الثاني ليس من نوع الأول، فيبدل منه، فتنصبه بأصل الاستثناء على معنى ولكن، واللفظ النصب لما ذكرت لك في صدر الباب.

فمن ذلك قول الله عز وجل: " وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى " .

ومن ذلك: " لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم " . فالعاصم الفاعل، ومن رحم معصوم، فهذا خاصةً لا يكون فيه إلا النصب.

وأما الأول فقد يجوز فيه الرفع، وهو قول بني تميم. وتفسير رفعه على وجهين: أحدهما: أنك إذا قلت: ما جاءني رجل إلا حمار فكأنك قلت: ما جاءني إلا حمار، وذكرت رجلاً وما أشبهه توكيداً. فكأنه في التقدير: ما جاءني شيء رجل ولا غيره، إلا حمار.

والوجه الآخر: أن تجعل الحمار يقوم مقام من جاءني من الرجال على التمثيل، كما تقول: عتابك السيف، وتحيتك الضرب، كما قال:

وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع

وقال الآخر:

ليس بيني وبين قيس عتاب ... غير طعن الكلى وضرب الرقاب

وبنو تميم تقرأ هذه الآية: " إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى " ويقرءون " ما لهم به من علم إلا اتباع الظن " . يجعلون اتباع الظن علمهم.

والوجه النصب على ما ذكرت لك، وهو القياس اللازم، ووجه الرفع ما بيناه. كما قال:

وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير، وإلا العيس

فجعل اليعاقير أنيس ذلك المكان وينشد بنو تميم قول النابغة:

وقفت فيها أصيلالاً أسائلها ... عيت جواباً، وما بالربع من أحد

إلا أواري لأباً ما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد

والوجه النصب، وهو إنشاد أكثر الناس.

وقوله جل وعز: " فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا " من هذا الباب؛ لأن لولا في معنى هلا. والنحويون يجيزون الرفع في مثل هذا من الكلام، ولا يجيزونه في القرآن لئلا يغير خط المصحف. ورفعه على الوصف كما ذكرت لك في الباب الذي قبله. فأما قول الشاعر:

من كان أسرع في تفرق فالج ... فلبونه جربت معاً، وأغدت

إلا كناشرة الذي ضيعتم ... كالغصن في غلوائه المتنبت

فإنما الكاف زائدة، وهو استثناء ليس من الأول. ولو حذفت الكاف لكان الموضع نصباً ومثل ذلك:

لولا ابن حارثة الأمير لقد ... أغضبت من شتمي على رغمي

إلا كمعرض المحسر بكره ... عمداً يسببني على ظلم

وكذا قوله:

إلا كخارجة المكلف نفسه ... وابني قبيصة أن أغيب ويشهدا

الكاف زائدة مؤكدة كتوكيدها في قول الله جل وعز " ليس كمثله شيء " . ومثل ذلك قوله:

لواحق الأقراب فيها كالمقق

أي فيها مقق وهو الطول. والكاف زائدة.

هذا باب

ما لا يكون الاستثناء فيه

إذا أبدل إلا على الموضع لامتناع اللفظ منه.

وذلك قولك: ما جاءني من أحد إلا زيد على البدل؛ لأن من زائدة. وإنما تزاد في النفي، ولا تقع في الإيجاب زائدة؛ لأن المنفي المنكور يقع واحده في معنى الجميع، فتدخل من لإبانة هذا المعنى، وذلك قولك: ما جاءني رجل. فيجوز أن تعني رجلاً واحداً. وتقع المعرفة في هذا الموضع. تقول: ما جاءني عبد الله. فإذا قلت: ما جاءني من رجل لم يقع ذلك إلا للجنس كله، ولو وضعت في موضع المنكور معروفاً لم يجز لو قلت: ما جاءني من عبد الله ، كان محالاً؛ لأنه معروف بعينه فلا يشيع في الجنس.

فإذا قلت: جاءني لم تقع من ها هنا زائدة؛ لأن معنى الجميع ها هنا ممتنع لإحاطته بالناس أجمعين؛ كما كان هناك نفياً لجميعهم.

فإذا قلت: ما جاءني من رجل إلا زيد كان خلفاً أن تقول: إلا زيد؛ لأنك لو أبدلته من رجل على اللفظ قلت: ما جاءني إلا من زيد؛ فلذلك قلت: ما جاءني من أحد إلا زيد؛ لأن من وما بعدها في موضع رفع، ولولا ذلك لكان يخلو الفعل من فاعل.

وكذلك ما رأيت من أحد إلا زيداً، وليس زيد بشيء إلا شيئاً لا يعباً به. ولو قلت: إلا شيء لم يصلح؛ لأن التقدير: لست إلا بشيء، وهذا محال، لأن الباء إنما تزاد في غير الواجب توكيداً. تقول: ما زيد بقائم، وليس زيد بمنطلق.

وعلى هذا ينشد هذا الشعر، وليس يجوز غيره:

أبني لبيني لستم بيد ... إلا يداً ليست لها عضد

وتقول على هذا: ما زيد بشيء إلا شيء لا يعباً به، فكأنك قلت: ما زيد إلا شيء لا يعبأ به. فهذا وجه هذا الباب.

هذا باب

الاستثناء بغير

اعلم أن كل موضع جاز أن تستثنى فيه ب إلا جاز الاستثناء فيه بغير.

وغير اسم يقع على خلاف الذي يضاف إليه. ويدخله معنى الاستثناء، لمضارعته إلا. وكل موضع وقع الاسم فيه بعد إلا على ضرب من الإعراب كان ذلك حالاً في غير إلا أن يكون نعتاً، فيجري على المنعوت الذي قبلها، وذلك قولك: جاءني القوم غير زيد؛ لأنك كنت تقول: جاءني القوم إلا زيداً.

وتقول: هذا درهم غير قيراط كقولك: هذا درهم إلا قيراطاً. وتقول: هذا درهم غير جيد؛ لن غيراً نعت. ألا ترى أنه لا يستقيم: هذا درهم إلا جيد.

فأما الموضع الذي يرتفع فيه، فتقول: ما جاءني أحد غير زيد، على الوصف وعلى البدل، فالبدل كقولك: ما جاءني أحد إلا زيد.

وتقول: لقيت القوم غير زيد، على النعت، إذا كان القوم على غير معهود، وعلى البدل. والوجه إذا لم يكن ما قبل غير نكرة محضة ألا يكون نعتاً.

فأما قول الله عز وجل: " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " ، فإن غيراً تكون على ضروب: تكون نعتاً للذين لأنها مضافة إلى معرفة. وتكون حالاً، فتنصب؛ لأن غيراً وأخواتها يكن نكرات، وهن مضافات لا معارف. هذا الوجه فيهن جمع. وهو في غير خاصة واجب لما تقدم ذكره.

ويكون بدلاً فكأنه قال: صراط غير المغضوب عليهم، ويكون نصباً على استثناء ليس من الأول، وهو: جاءني الصالحون إلا الطالحين.

هذا باب

تكرير الاستثناء بغير عطف

تقول: ما جاءني أحد إلا زيد إلا عمراً. وإن شئت قلت: إلا زيداً إلا عمرو. فالمعنى فيهما جميعاً واحد، وإن اختلف الإعراب؛ لأنك إذا شغلت الفعل بأحدهما انتصب الآخر بالاستثناء ولم يصلح البدل؛ لأن المرفوع منهما موجب.

وتقول: ما جاءني إلا زيداً إلا عمراً أحد؛ لأن التقدير: ما جاءني إلا زيداً أحد إلا عمرو فلما قدمت عمراً صار كقولك: ما جاءني إلا عمراً أحد؛ لأنك لو أخرته كان الوجه: ما جاءني أحد إلا عمرو وتقول: ما جاءني إلا زيداً غير عمرو أحد، لأن غير عمرو بمنزلة قولك إلا عمراً. ومن ذلك قوله:

فمالي إلا الله لا شيء غيره ... ومالي إلا الله غيرك ناصر

كأنه قال: إلا إياك.

وهذا البيت ينشد على غير وجه، وهو قول الشاعر:

ما بالمدينة دار غير واحدة ... دار الخليفة إلا دار مروانا

تجعل غير نعتاً. يخبر أنها غير واحدة بل هي أدؤر، ودار الخليفة تبيين وتكرير، وإلا دار مروان بدل، وإن شئت جعلت دار مروان منصوبة بالاستثناء، على قولك: ما جاءني أحد إلا زيداً.

وإن شئت قلت: ما لمدينة دار غير واحدة إلا دار مروان، فتنصب غيراً لأنه استثناء، وإن شئت رفعت غيراً، ونصبت دار مروان، أيهما شئت جعلته بدلاً ونصبت الآخر.

هذا باب

الجمع بين إلا وغير، والحمل على المعنى إن شئت

تقول: ما جاءني غير زيد وإلا عمرو، لأن التقدير: ما يفسر في موضعه إن شاء الله.

وأما عدا، وخلا فهما فعلان ينتصب ما بعدهما، وذلك قولك: جاءني القوم عدا زيد؛ لأنه لما قال: جاء القوم وقع عند السامع أن بعضهم زيداً، فقال: عدا زيداً، أي جاوز بعضهم زيداً. فهذا تقديره، إلا أن عدا فيها معنى الاستثناء، وكذلك خلا. فمعنى عدا: جاوز، من قولك: لا يعدونك هذا، أي لا يجاوزونك.

وخلا من قولهم: خلا يخلو. وقد تكون خلا حرف خفض. فتقول: جاءني القوم خلا زيد، مثل سوى زيد. فإن قلت: فكيف يكون حرف خفض، وفعلاً على لفظ واحد؟ فإن ذلك كثير، منه حاشا وقد مضى تفسيرها.

ومثل ذلك على: تكون حرف خفض على حد قولك: على زيد درهم، وتكون فعلاً نحو قولك: علا زيد الدابة، وعلى زيد ثوب، وعلا زيداً ثوب، والمعنى قريب.

فإذا قلت: ما عدا، وما خلا لم يكن إلا النصب؛ وذاك لأن ما اسم فلا توصل إلا بالفعل، نحو: بلغني ما صنعت، أي صنيعك إذا أردت بها المصدر فصلتها الفعل لا غير، وكأنه قال مجاوزتهم زيداً، إلا أن في عدا وخلا معنى الاستثناء.

هذا باب

الاستثناء بليس ولا يكون

اعلم أنهما لا يكونان استثناء إلا وفيهما ضمير كما وصفت لك في عدا وخلا، وذلك قولك: جاءني القوم لا يكون زيداً، وجاءني القوم ليس زيداً. كأنه قال: ليس بعضهم ولا يكون بعضهم.

وكذلك أتاني النساء لا يكون فلانةً، يريد لا يكون بعضهن إلا أن هذا في معنى الاستثناء وإن جعلته وصفاً فجيد. وكان الجرمي يختاره، وهو قولك: أتاني القوم ليسوا إخوتك، وأتتني امرأة لا تكون فلانة.

هذا باب

ما حذف من المستثنى تخفيفا

واجتزئ بعلم المخاطب

وذلك قولك: عندي درهم ليس غير، أردت: ليس غير ذلك، فحذفت وضممت؛ كما ضممت قبل وبعد؛ لأنه غاية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الجنة دار الأبرار والطريق الموصل اليها

  ➌ الجنة ومتاعها والنار وسوء جحيمها عياذا بالله الواحد. {{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِ...