Translate

الأربعاء، 14 يونيو 2023

ج3وج4. اصول الشوكاني {ارشاد الفحول في علم الاصول للامام الشوكاني وورد}

ج3وج4. اصول الشوكاني {ارشاد الفحول في علم

 الاصول للامام الشوكاني وورد} 

 ج3وج4. اصول الشوكاني
قال الزركشي في"البحر": وهو قول أكثر الحنفية والمعتزلة ونقله القاضي وابن الصباغ عن الصيرفي والقفال الكبير، قال الروياني5: هو قول الأكثرين. وقال ابن القشيري: في كلام الشافعي ما يدل عليه.
قلت: هو الحق؛ لأن فعله صلى الله عليه وسلم وإن لم يظهر فيه قصد القربة فهو لا بد أن يكون لقربة، وأقل ما يتقرب به هو المندوب، ولا دليل يدل على زيادة على الندب، فوجب القول به ولا يجوز القول بأنه يفيد الإباحة فإن الإباحة الشيء بمعنى استواء طرفيه موجودة قبل ورود الشرع به. فالقول بها إهمال للفعل الصادر منه صلى الله عليه وسلم، فهو تفريط كما أن حمل فعله المجرد على الوجوب إفراط الحق بين المقصر والغالي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو سليم بن أيوب بن سليم، الإمام شيخ الإسلام، أبو الفتح، الرازي الشافعي، ولد سنة نيف وستين وثلاثمائة هـ، وتوفي غريقًا سنة سبع وأربعين وأربعمائة هـ، من آثاره: "الإشارة في الفروع" "التقريب في الفروع" وغيرها. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 645"، هدية العارفين "1/ 409".
2 هو أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي، أبو الحسين، من كبراء الشافعية، له مصنفات في أصول الفقه وفروعه، توفي سنة تسع وخسمين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 159"، شذرات الذهب وفروعه. توفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 159، شذرات الذهب "3/ 28"، هدية العارفين "1/ 65".
3 واسمه "المعالم في أصول الفقه" للإمام فخر الدين الرازي، وعليه شروح كثيرة، منها شرح لأبي الحسين علي بن الحسين الأرموي، وللإمام فخر الدين الرازي ثلاثة كتب باسم المعالم واحد في أصول الدين، والثاني في أصول الفقه، و الثالث في الكلام. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1726".
4 هو أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن، أبو العباس، شهاب الدين، نسبته إلى القرافة محلة الإمام الشافعي في مصر، له مصنفات جليلة، منها: "أنوار البروق في أنواء الفروق" "الخصائص" "شرح المحصول" وغيرها كثير، توفي سنة أربع وثمانين وستمائة هـ، ا. هـ. الأعلام "1/ 94"، معجم المؤلفين "1/ 158"، كشف الظنون "1/ 186".
5 هو عبد الواحد بن إسماعيل الروياني، أبو المحاسن، الطبري الشافعي القاضي العلامة، فخر الإسلام، شيخ الشافعية، ولد سنة خمس عشرة وأربعمائة هـ، وتوفي قتيلًا سنة إحدى وخمسمائة هـ، من آثاره: "بحر المذهب" "حلية المؤمن في الفروع". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "19/ 260"، هدية العارفين "1/ 634"، إيضاح المكنون "2/ 130".
ج / 1 ص -111- القول الثالث: أنه مباح
نقله الدبوسي في "التقويم"1، عن أبي بكر الرازي، وقال: إنه الصحيح، واختاره الجويني في "البرهان" وهو الراجح عند الحنابلة، ويجاب عنه بما ذكرناه2 قريبا.
القول الرابع: الوقف حتى يقوم دليل
نقله ابن السمعاني عن أكثر الأشعرية، قال واختاره الدقاق وأبو القاسم، بن كج3 قال الزركشي: وبه قال جمهور أصحابنا، وقال ابن فورك: إنه الصحيح، وكذا صححه القاضي أبو الطيب في "شرح الكفاية"4، واستدلوا بأنه لما كان محتملًا للوجوب والندب والإباحة مع احتمال أن يكون من خصائصه كان التوقف متعينًا، ويجاب عنهم بمنع احتماله للإباحة لما قدمنا5، منع احتمال الخصوصية؛ لأن أفعاله كلها محمولة على التشريع، ما لم يدل دليل على الاختصاص وحينئذ فلا وجه للتوقف والعجب من اختيار مثل الغزالي والرازي له.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه "تقويم الأدلة في الأصول" للقاضي الإمام أبي زيد، عبد الله "وقيل: عبيد الله" بن عمر الدبوسي، مجلد واحد، أوله الحمد لله رب العالمين وشرحه فخر الإسلام البزدوي. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 467".
2 انظر صفحة: "109".
3 هو يوسف بن أحمد بن كج الدينوري، أبو القاسم، القاضي العلامة، شيخ الشافعية، توفي سنة خمس وأربع مائة هـ، من آثاره: "التجريد". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 184"، هدية العارفين "2/ 550". شذرات الذهب "3/ 177".
4 لم أجد أحدًا ممن ترجم له، ينسب إليه شرح الكفاية، ولكن له شرح على مختصر المزني في فروع الشافعية، وله مصنفات في الأصول والجدل والخلاف أيضًا، ا. هـ. انظر صفحة "110" حيث تقدمت ترجمته هناك.
5 انظر صفحة: "109".
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
البحث الخامس: في تعارض الأفعال
اعلم أنه لا يجوز التعارض بين الأفعال، بحيث يكون البعث منها ناسخًا لبعض أو مخصصًا له، لجواز أن يكون الفعل في ذلك الوقت واجبًا وفي مثل ذلك الوقت بخلافه؛ لأن الفعل لا عموم له، فلا يشمل جميع الأوقات المستقبلة، ولا يدل على التكرار، هكذا قال جمهور أهل الأصول على اختلاف طبقاتهم وحكى ابن العربي1 في كتاب "المحصول"2 ثلاثة أقوال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن عبد الله بن محمد، أبو بكر، الإمام العلامة، الحافظ القاضي، الأندلسي الإشبيلي المالكي، ولد سنة ثمان وستين وأربعمائة هـ، من آثاره: "أحكام القرآن" "العواصم من القواصم" "عارض الأحوذي" "الأصناف" وغيرها، توفي سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة هـ، سير أعلام النبلاء "20/ 197"، شذرات الذهب "4/ 141"، كشف الظنون "553"، هدية العارفين "20 90" الأعلام "6/ 230".
2 واسمه "المحصول على علم الأصول". ا. هـ. إيضاح المكنون "2/ 442".
ج / 1 ص -112- الأول التخيير.
الثاني: تقديم المتأخر، كالأقوال إذا تأخر بعضها.
الثالث: حصول التعارض وطلب الترجيح من خارج، قال: كما اتفق في صلاة الخوف صليت على أربع وعشرين صفة، قال مالك والشافعي: إنه يرجح من هذه الصفات ما هو أقرب إلى هيئة الصلاة وقدم بعضهم الأخير منها إذا علم، انتهى.
وحكي عن ابن رشد1 أن الحكم في الأفعال كالحكم في الأقوال، وقال القرطبي2: يجوز التعارض بين الفعلين عند من قال بأن الفعل يدل على الوجوب فإن علم التاريخ فالمتأخر ناسخ، وإن جهل فالترجيح وإلا فهما متعارضان كالقولين.
وأما على القول بأنه يدل على الندب أو الإباحة فلا تعارض، وقال الغزالي في "المنخول": إذا نقل فعل وحمل على الوجوب ثم نقل فعل يناقضه فقال القاضي3: لا يقطع بأنه ناسخ لاحتمال أنه انتهى "لمدة"* الفعل الأول. قال: وذهب ابن مجاهد4 إلى أنه نسخ وتردد في القول الطارئ على الفعل وجزم إلكيا بعدم تصور تعارض الفعلين ثم استثنى من ذلك ما إذا علم بدليل أنه أريد به إدامته في المستقبل، بأنه يكون ما بعده ناسخًا له، قال: وعلى مثله بنى الشافعي مذهبه في سجود السهو قبل السلام وبعده.
والحق أنه لا يتصور تعارض الأفعال، فإنه لا صيغ لها يمكن النظر فيها والحكم عليها، بل هي مجرد أكوان متغايرة واقعة في أوقات مختلفة، وهذا إذا لم تقع بيانات للأقوال، أما إذا وقعت بيانات للأقوال فقد تتعارض في الصورة ولكن التعارض في الحقيقة راجع إلى المبينات من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": مدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن أحمد بن رشد المالكي، أبو الوليد، قاضي الجماعة بقرطبة، توفي سنة عشرين وخمسمائة هـ، وكان من أوعية العلم، وله تصانيف مشهورة. منها: "حجب المواريث" "المقدمات" ا. هـ. شذرات الذهب "4/ 62"، معجم المؤلفين "8/ 228"، سير أعلام النبلاء "19/ 501"، هدية العارفين "2/ 85".
2 هو محمد بن أحمد بن أبي بكر: الأنصاري الخزرجي الأندلسي، أبوعبد الله، من كبار المفسرين، توفي سنة إحدى وسبعين وستمائة هـ، من آثاره: "الجامع لأحكام القرآن" "التذكرة بأحوال الموتى والآخرة". ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 335"، كشف الظنون "1/ 534"، الأعلام "5/ 322"، معجم المؤلفين "8/ 239".
3 ستأتي ترجمته في الصفحة "119" حيث صرح به هناك.
4 هو محمد بن أحمد بن محمد، أبو عبد الله، الأستاذ، ابن مجاهد، الطائي البصري، توفي سنة سبعين وثلاثمائة هـ، وله من التصانيف الكثير. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 305"، هدية العارفين "2/ 49".
ج / 1 ص -113- الأقوال، لا إلى بيانها من الأفعال، وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"1 فإن آخر الفعلين ينسخ الأول كآخر القولين؛ لأن هذا الفعل بمثابة القول قال الجويني: وذهب كثير من الأئمة فيما إذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلان مؤرخان مختلفان أن الواجب التمسك بآخرهما، واعتقاد كونه ناسخًا للأول، قال: وقد ظهر ميل الشافعي إلى هذا، ثم ذكر ترجيحه للمتأخر من صفات صلاة الخوف.
وينبغي حمل هذا على الأفعال التي وقعت بيانًا كما ذكرنا فإن صلاة الخوف على اختلاف صفاتها واقعة بيانا، وهكذا ينبغي حمل ما نقله المازري2 عن الجمهور من أن المتأخر من الأفعال ناسخ على ما ذكرنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في الصفحة: "105".
2 هو محمد بن علي بن عمر، أبو عبد الله، الشيخ الإمام العلامة، المازري المالكي، توفي سنة ست وثلاثين وخمس مائة هـ, من آثاره: "المعلم بفوائد شرح مسلم" "إيضاح المحصول" "شرح التلقين". ا. هـ. سير أعلام البنلاء "20/ 104"، هدية العارفين "2/ 88" ذيل تذكرة الحفاظ لابن فهد المكي "72-73".
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
البحث السادس: في حكم التعارض بين القول والفعل
إذا وقع التعارض بين قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وفيه صور.
وبين ذلك: أن ينقسم أولًا إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يعلم تقدم القول على الفعل.
ثانيها: أن يعلم تقدم الفعل على القول.
ثالثهما: أن يجهل التاريخ.
وعلى الأولين: إما أن يتعقب الثاني الأول، بحيث لا يتخلل بينهما زمان أو يتراخى أحدهما عن الآخر، وهذان قسمان إلى الثلاثة المتقدمة يكون الجميع خمسة أقسام.
وعلى الثلاثة الأول: إما أن يكون القول عامًا للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته، أو خاصًا به، أو خاصًا بأمته فتكون الأقسام ثمانية:
ثم الفعل إما أن يدل دليل على وجوب تكراره في حقه صلى الله عليه وسلم، ووجوب تأسي الأمة به، أو لا يدل دليل على واحد منهما أو يقوم دليل على التكرار دون التأسي، أو يقوم دليل على التأسي دون التكرار. فإذا ضربت الأقسام الأربعة، وهي التي يعلم فيها تعقب الفعل للقول وتراخيه عنه وتعقب القول للفعل وتراخيه عنه، في الثلاثة التي ينقسم إليها القول، من كونه يعم النبي صلى الله عليه وسلم
ج / 1 ص -114- وأمته، أو يخصه، أو يخص أمته، حصل منها اثنا عشر قسما، نضربها في أقسام الفعل الأربعة بالنسبة إلى التكرار والتأسي، أو عدمهما أو وجود أحدهما دون الآخر، فيحصل ثمانية وأربعون قسمًا، وقد قيل: إن الأقسام تنتهي إلى ستين قسمًا وما ذكرناه أولى، وأكثر هذه الأقسام غير موجود في السنة فلنتكلم هاهنا على ما يكثر وجوده فيها وهي أربعة عشر قسمًا:
الأول:
أن يكون القول مختصًا به، مع عدم وجود دليل على التكرار والتأسي، وذلك نحو أن يفعل صلى الله عليه وسلم فعلًا ثم يقول بعد: لا يجوز لي مثل هذا الفعل، فلا تعارض بين القول والفعل؛ لأن القول في هذا الوقت لا تعلق به بالفعل في الماضي، إذ الحكم يختص بما بعده ولا في المستقبل، إذ لا حكم للفعل في المستقبل؛ لأن الغرض عدم التكرار له.
القسم الثاني:
أن يتقدم القول مثل أن يقول: لا يجوز لي الفعل في وقت كذا ثم يفعله فيه، فيكون الفعل ناسخًا لحكم القول.
القسم الثالث:
أن يكون القول خاصًا به، ويجهل التاريخ فلا تعارض في حق الأمة وأما في حقه صلى الله عليه وسلم ففيه خلاف وقد رجح الوقف.
القسم الرابع:
أن يكون القول مختصًا بالأمة وحينئذ فلا تعارض؛ لأن القول والفعل لم يتواردا على محل واحد.
القسم الخامس:
أن يكون القول عامًا له وللأمة، فيكون الفعل على تقدير تأخره مخصصًا له من عموم القول، وذلك كنهيه عن الصلاة بعد العصر1 ثم صلاته الركعتين بعدها قضاء لسنة الظهر2، ومداومته عليهما3 وإلى ما ذكرنا من اختصاص الفعل به صلى الله عليه وسلم ذهب الجمهور، قالوا:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد، كتاب مواقيت الصلاة، باب لا يتحر الصلاة قبل غروب الشمس "586"، مسلم، كتاب صلاة المسافر، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها "827". النسائي، كتاب المواقيت، باب النهي عن الصلاة بعد العصر "566" "1/ 278". والإمام أحمد "3/ 95". والنسائي في السنن الكبرى "390". وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب النهي عن الصلاة بعد الفجر. وبعد العصر "1249".
2 أخرج أحمد في مسنده من حديث أم سلمة قالت: لما شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الركعتين بعد الظهر صلاهما بعد العصر "6/ 306". وابن حبان في صحيحه برقم "1574". الطبراني في المعجم برقم "584"، "23/ 273" وعبد الرزاق في مصنفه في كتاب الصلاة، باب الساعة التي يكره فيها الصلاة. برقم "3970".
والنسائي "1/ 282" من كتاب المواقيت، باب الرخصة في الصلاة بعد العصر برقم "578". والبيهقي في السنن، كتاب الصلاة، باب ذكر البيان أن هذا النهي مخصوص ببعض الصلاة دون البعض وأنه يجوز في هذه الساعات كل صلاة لها سبب "2/ 457".
3 أخرج البخاري "عن الأسود ومسروق قالا: نشهد على عائشة أنها قالت: ما من يوم كان يأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صلى بعد العصر ركعتين"، كتاب مواقيت الصلاة، باب ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها برهم "593"، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي ينهى عن الصلاة فيها "835"، والنسائي، كتاب المواقيت، باب الرخصة في الصلاة بعد العصر "573" "1/ 281"، وابن حبان في صحيحه برقم "1570" أحمد في مسنده "6/ 134"، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الصلاة بعد العصر "1279".
ج / 1 ص -115- وسواء تقدم الفعل أو تأخر.
وقال الأستاذ أبو منصور1: إن تقدم الفعل دل على نسخه القول عند القائلين بدخول المخاطب في عموم خطابه، هذا إذا كان القول شاملًا له صلى الله عليه وسلم بطريق الظهور، كأن يقول: لا يحل لأحد، أو لا يجوز لمسلم، أو لمؤمن، وأما إذا كان متناولًا له على سبيل التنصيص، كأن يقول: لا يحل لي ولا لكم، فيكون الفعل ناسخًا للقول في حقه صلى الله عليه وسلم لا في حقنا فلا تعارض.
القسم السادس:
أن يدل دليل على تكرار الفعل وعلى وجوب التأسي فيه ويكون القول خاصًا به وحينئذ فلا معارضة في حق الأمة، وأما في حقه فالمتأخر من القول أو الفعل ناسخ، فإن جهل التاريخ، فقيل: يؤخذ بالقول في حقه، وقيل: بالفعل، وقيل: بالوقف.
القسم السابع:
أن يكون القول خاصًا بالأمة، مع قيام دليل التأسي والتكرار في الفعل، فلا تعارض في حقه صلى الله عليه وسلم، وأما في حق الأمة، فالمتأخر من القول أو الفعل ناسخ، وإن جهل التاريخ، فقيل: يعمل بالفعل وقيل: بالقول وهو الراجح؛ لأن دلالته أقوى من دلالة الفعل، وأيضًا هذا القول "الخاص"* أخص من الدليل العام الدال على التأسي، والخاص مقدم على العام ولم يأت من قال بتقدم الفعل بدليل يصلح للاستدلال به.
القسم الثامن:
أن يكون القول عامًا له وللأمة، مع قيام الدليل على التكرار والتأسي، فالمتأخر ناسخ في حقه صلى الله عليه وسلم وكذلك في حقنا، وإن جهل التاريخ، فالراجح تقدم القول لما تقدم.
القسم التاسع:
أن يدل الدليل على التكرار في حقه صلى الله عليه وسلم دون التأسي به، ويكون القول خاصًا بالأمة، وحينئذ فلا تعارض أصلًا لعدم التوارد على محل واحد.
القسم العاشر:
أن يكون خاصًا به صلى الله عليه وسلم مع قيام الدليل على عدم التأسي به فلا تعارض أيضًا.
القسم الحادي عشر:
أن يكون القول عامًا له وللأمة، مع عدم قيام الدليل على التأسي به في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الخاص بأمته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد القاهر بن طاهر، الأستاذ أبو منصور البغدادي، أحد أعلام الشافعية، توفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة هـ، وله مصنفات في النظر والتعليقات، منها: "بلوغ المدى في أصول الهدى" "تأويل متشابه الأخبار" التحصيل في الأصول". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 572"، هدية العارفين "1/ 606"، كشف الظنون "1/ 254".
ج / 1 ص -116- الفعل، فيكون الفعل مخصصًا له من العموم، ولا تعارض بالنسبة إلى الأمة لعدم وجود دليل يدل على التأسي به، وأما إذا جهل التاريخ، فالخلاف في حقه صلى الله عليه وسلم كما تقدم1 في ترجيح القول على الفعل، أو العكس، أو الوقف.
القسم الثاني عشر:
إذا دل الدليل على التأسي دون التكرار أو يكون القول مخصصًا به فلا تعارض في حق الأمة وأما في حقه، فإن تأخر القول فلا تعارض وإن تقدم فالفعل ناسخ في حقه وإن جهل فالمذاهب الثلاثة في حقه كما تقدم2.
القسم الثالث عشر:
أن يكون القول خاصًا بالأمة ولا تعارض في حقه صلى الله عليه وسلم، وأما في حق الأمة فالمتأخر ناسخ لعدم الدليل على التأسي.
القسم الرابع عشر:
أن يكون القول عامًا له وللأمة مع قيام الدليل على التأسي دون التكرار، ففي حق الأمة المتأخر ناسخ. وأما في حقه صلى الله عليه وسلم فإن تقدم الفعل فلا تعارض، وإن تقدم القول فالفعل ناسخ.
ومع جهل التاريخ فالراجح القول في حقنا وفي حقه صلى الله عليه وسلم لقوة دلالته وعدم احتماله "ولقيام"* الدليل هاهنا على عدم التكرار.
واعلم أنه لا يشترط وجود دليل خاص يدل على التأسي، بل يكفي ما ورد في الكتاب العزيز من قوله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُولُ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}3 أسوة حسنة، وكذلك سائر الآيات الدالة على الائتمار بأمره والانتهاء بنهيه ولا يشترط وجود دليل خاص يدل على التأسي به في كل فعل من أفعاله بل مجرد فعله لذلك الفعل بحيث يطلع عليه غيره من أمته ينبغي أن يحمل على قصد التأسي به إذا لم يكن من الأفعال التي لا يتأسى به فيها كأفعال الجبلة كما قررناه في البحث الذي قبل هذا البحث4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": أو لقيام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "114".
2 انظر صفحة: "115".
3 جزء من الآية "21" من سورة الأحزاب.
4 انظر صحفة: "102".
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
ج / 1 ص -117- البحث السابع: في التقرير
وصورته أن يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار قول قيل بين يديه أو في عصره وعلم به. أو "يسكت"* عن إنكار فعل فعل بين يديه أو في عصره وعلم به، فإن ذلك يدل على الجواز وذلك كأكل العنب بين يديه قال ابن القشيري: وهذا مما لا خلاف فيه وإنما اختلفوا في شيئين أحدهما أنه إذا دل التقرير على انتفاء الحرج فهل يختص بمن قرر أو يعم سائر المكلفين؟ فذهب القاضي إلى الأول؛ لأن التقرير ليس له صيغة تعم ولا يتعدى إلى غيره.
وقيل يعم للإجماع على أن التحريم إذا ارتفع في حق واحد ارتفع في حق الكل وإلى هذا ذهب الجويني، وهو الحق؛ لأنه في حكم خطاب الواحد وسيأتي1 أنه يكون غير المخاطب بذلك الحكم من المكلفين كالمخاطب به ونقل هذا القول المازري عن الجمهور هذا إذا لم يكن التقرير مخصصًا لعموم سابق أما إذا كان مخصصًا لعموم سابق فيكون لمن قرر من واحد أو جماعة وأما إذا كان التقرير في شيء قد سبق تحريمه فيكون ناسخًا لذلك التحريم كما صرح به جماعة من أهل الأصول وهو الحق.
ومما يندرج تحت التقرير إذا قال الصحابي كنا نفعل كذا أو كانوا يفعلون كذا، وأضافه إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مما لا يخفى مثله عليه. وإن كان مما يخفى مثله عليه فلا ولا بد أن يكون التقرير على القول والفعل منه صلى الله عليه وسلم مع قدرته على الإنكار كذا قال جماعة من الأصوليين. وخالفهم جماعة من الفقهاء، فقالوا: إن من خصائصه صلى الله عليه وسلم عدم سقوط وجوب تغيير المنكر بالخوف على النفس لإخبار الله سبحانه بعصمته في قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس}2 ولا بد أن يكون المقرر منقادًا للشرع، فلا يكون تقرير الكافر على قول أو فعل دالًا على الجواز.
قال الجويني: ويلحق بالكافر المنافق وخالفه المازري، وقال: إنا نجري على المنافق أحكام الإسلام ظاهرًا؛ لأنه من أهل الإسلام في الظاهر. وأجيب عنه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيرًا ما يسكت عن المنافقين لعلمه أن الموعظة لا تنفعهم.
وإذا وقع من النبي صلى الله عليه وسلم الاستبشار بفعل أو قول، فهو أقوى في الدلالة على الجواز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": أو سكت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "324".
2 جزء من الآية "67" من سورة المائدة.
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
ج / 1 ص -118- البحث الثامن: فيما هَمَّ بفعله ولم يفعله صلى الله عليه وسلم
ما هَمَّ به -صلى الله عليه وسلم- كما روي "أنه"* هم بمصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة1. ونحو ذلك فقال الشافعي ومن تابعه: إنه يستحب الإتيان بما هم به صلى الله عليه وسلم، ولهذا جعل أصحاب الشافعي الهم من جملة أقسام السنة، وقالوا: يقدم القول، ثم الفعل، ثم التقرير، ثم الهم.
والحق أنه ليس من أقسام السنة؛ لأنه مجرد خطور شيء على البال من دون تنجيز له، وليس ذلك مما آتانا الرسول، ولا مما أمر الله سبحانه بالتأسي به فيه وقد يكون إخباره صلى الله عليه وسلم بما هم به للزجر كما صح عنه أنه قال: "لقد هممت أن أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": عنه بأنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة "3/ 430". وذكره ابن هشام في سيرته "3/ 176".
2 أخرج البخاري من حديث أبي هريرة بنحو من لفظه في كتاب الأذان باب وجوب صلاة الجماعة برقم "644" ومسلم في كتاب المساجد باب فضل صلاة الجماعة برقم "651". ومالك في الموطأ بنفس اللفظ المذكور في كتاب صلاة الجماعة باب فضل صلاة الجماعة "1/ 129" والنسائي في كتاب الإمامة باب التشديد في التخلف عن الجماعة برقم "847" وابن ماجه في سننه في كتاب المساجد والجماعات باب التغليظ في التخلف عن الجماعة رقم "791" وأبو داود في كتاب الصلاة باب في التشديد في ترك الجماعة برقم "548" وابن حبان في صحيحه برقم "2098". وأحمد في مسنده "2/ 244".
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
البحث التاسع: في حكم إشارته وكتابته صلى الله عليه وسلم
الإشارة والكتابة، كإشارته صلى الله عليه وسلم بأصابعه العشر إلى أيام الشهر ثلاث مرات، وقبض في الثالثة واحدة من أصابعه1، وككتابته صلى الله عليه وسلم إلى عماله في الصدقات2 ونحوها، ولا خلاف في أن ذلك من جملة السنة ومما تقوم به الحجة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن ماجه من حديث سعد بن أبي وقاص، كتاب الصيام، باب ما جاء في الشهر تسع وعشرون برقم "1656"، أحمد في المسند "1/ 184، والنسائي، كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على إسماعيل في خبر سعد بن مالك رقم "2134" 4/ 138. وأبو يعلى في مسنده "رقم "807".
2 أخرجه ابن حبان في صحيحه: برقم "6558". والبيهقي في سننه، كتاب الزكاة، باب كيف فرض الصدقة "4/ 89" وقال ورويناه عن سالم ونافع موصولًا ومرسلًا. ومن حديث عمرو بن حزم موصولًا، وجميع ذلك يشد بعضه بعضًا. والحاكم في المستدرك في كتاب الزكاة "1/ 394". والنسائي مختصرًا في السنن كتاب القسامة "4868" 8/ 58.
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
ج / 1 ص -119- البحث العاشر: فيما تركه صلى الله عليه وسلم والقول في الحوادث التي لم يحكم بها
تركه صلى الله عليه وسلم للشيء، كفعله له في التأسي به فيه، قال ابن السمعاني: إذا ترك الرسول صلى الله عليه وسلم شيئًا وجب علينا متابعته فيه، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم إليه الضب فأمسك عنه، وترك أكله: أمسك عنه الصحابة وتركوه إلى أن قال لهم: "إنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه" وأذن لهم في أكله1، وهكذا تركه صلى الله عليه وسلم لصلاة الليل جماعة، خشية أن تكتب على الأمة2.
ويتفرع على هذا البحث إذا حدثت حادثة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحكم فيها بشيء، هل يجوز لنا أن نحكم في نظائرها؟ "
فقال القاضي أبو يعلى"*3: الصحيح: أنه يجوز خلافًا لبعض المتكلمين في قولهم: تركه صلى الله عليه وسلم للحكم في حادثة يدل على وجوب ترك الحكم في نظائرها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري من حديث خالد بن الوليد، كتاب الذبائح، باب الضب، رقم "5537". ومسلم، كتاب صيد الذبائح، باب إباحة الضب، رقم "1945". وأبو داود كتاب الأطعمة، باب أكل الضب رقم "3794". وابن ماجه في كتاب الصيد، باب الضب "3241". والنسائي، كتاب الصيد، باب الضب "4327". وابن حبان في صحيحه "5263".
2 أخرجه البخاري: من حديث عائشة مطولًا، كتاب التهجد، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل بلفظ: فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم" رقم "1129". ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح برقم "761". وأبو داود، كتاب الصلاة، باب في قيام شهر رمضان "1373". والنسائي، كتاب الصلاة، باب قيام شهر رمضان "1603" "3/ 202"، وابن حبان في صحيحه "2542".
3 هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء، أبو يعلى، القاضي، شيخ الحنابلة، ولد سنة ثمانين وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة هـ، كان له تصانيف كثيرة، منها: "الإيمان" "الأحكام السلطانية" "العدة" "الكفاية" "عيون المسائل" وغيرها. ا. هـ. شذرات الذهب "3/ 306"، الأعلام "6/ 99"، سير أعلام النبلاء "18/ 89".
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
البحث الحادي عشر: في الأخبار وفيه أنواع
النوع الأول: في معنى الخبر لغة واصطلاحًا
أما معناه لغة: فهو مشتق من الخبار، وهي الأرض الرخوة؛ لأن الخبر يثير الفائدة، كما أن
ج / 1 ص -120- الأرض الخبار تثير الغبار إذا قرعها الحافر ونحوه وهو نوع مخصوص من القول، وقسم من الكلام اللساني وقد يستعمل في غير القول كقول الشاعر:
تخبرك العينان ما القلب كاتم1
وقول المعري2:
نبي من الغربان ليس على شرع يخبرنا أن الشعوب إلى صدع3
ولكنه استعمال مجازي لا حقيقي؛ لأن من وصف غيره بأنه أخبر بكذا لم يسبق إلى فهم السامع إلا القول.
وأما معناه اصطلاحًا: فقال الرازي في "المحصول": ذكروا في حده أمور ثلاثة:
الأول: أنه الذي يدخله الصدق أو الكذب.
والثاني: أنه الذي يحتمل التصديق والتكذيب.
والثالث: ما ذكره أبو الحسين البصري أنه كلام مفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور، إلى أمر من الأمور نفيًا أو إثباتًا قال: واحترزنا بقولنا بنفسه عن الأمر فإنه يفيد وجوب الفعل لكن لا بنفسه لأن ماهية الأمر استدعاء الفعل والصيغة لا تفيد إلا هذا القدر ثم إنها تفيد كون الفعل واجبًا تبعًا لذلك وكذلك القول في دلالة النهي على قبح الفعل.
قال الرازي: واعلم أن هذه التعريفات دورية أما الأول، فلأن الصدق والكذب نوعان تحت جنس الخبر والجنس جزء من ماهية النوع وأعرف منها فإذًا لا يمكن تعريف الصدق والكذب إلا بالخبر فلو عرفنا الخبر بهما لزم الدور.
وأجيب عن هذا: بمنع كونهما لا يعرفان إلا بالخبر بل هما ضروريان.
ثم قال: واعترضوا عليه أيضًا في ثلاثة أوجه:
الأول: أن كلمة أو للترديد وهو ينافي التعريف، ولا يمكن إسقاطها ههنا لأن الخبر الواحد لا يكون صدقًا وكذبًا معا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو صدر بيت وعجزه: "ولا جن بالبغضاء والنظر الشزار" ونسب البيت في شرح التوحيدي لديوان المتنبي 112، والتبيان1/ 253 لابن الرومي وليس في ديوانه. ونسب العجز في اللسان "خبن" للهذلي وليس في ديوان الهذليين.
2 هو أحمد بن عبد الله بن سليمان، الشيخ العلامة، شيخ الآداب، أبو العلاء، ولد سنة ثلاث وستين وثلاثمائة هـ، وتوفي بالإسكندرية سنة تسع وأربعين وأربعمائة هـ، من آثاره: "رسالة الغفران" "سقط الزند" "لزوم ما لا يلزم" وغيرها كثير. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 23"، هدية العارفين "1/ 77"، معجم البلدان "5/ 156".
3 من البحر الطويل، وهو مطلع قصيدة قالها وهو يودع بغداد "انظر شروح سقط الزند 1332".
ج / 1 ص -121- الثاني: أن كلام الله تعالى لا يدخله الكذب فكان خارجًا عن هذا التعريف.
الثالث: من قال محمد صلى الله عليه وسلم ومسيلمة صادقان، فهذا خبر مع أنه ليس بصدق ولا كذب.
ويمكن أن يجاب عن الأول: بأن المعرف لماهية الخبر أمر واحد وهو إمكان تطرق هذين الوصفين إليه وذلك لا ترديد فيه.
وعن الثاني أن المعتبر إمكان تطرق أحد هذين الوصفين إليه، وخبر الله تعالى كذلك؛ لأنه صدق.
وعن الثالث: بأن قوله محمد ومسيلمة صادقان خبران، وإن كانا في اللفظ خبرًا واحدًا لأنه يفيد إضافة الصدق إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإضافته إلى مسيلمة وأحد الخبرين صادق والثاني كاذب، سلمنا أنه خبر واحد لكنه كاذب لأنه يقتضي إضافة الصدق إليهما معًا وليس الأمر كذلك فكان كاذبًا لا محالة.
وأما التعريف الثاني: فالاعتراض عليه: أن التصديق والتكذيب عبارة عن كون الخبر صدقًا أو كذبًا فقولنا الخبر ما يحتمل التصديق والتكذيب جارٍ مجرى قولنا الخبر هو الذي يحتمل الإخبار عنه بأنه صدق أو كذب فيكون هذا تعريفًا للخبر بالخبر وبالصدق والكذب والأول هو تعريف الشيء بنفسه والثاني تعريف الشيء بما لا يعرف إلا به.
وأما التعريف الثالث: فالاعتراض عليه من ثلاثة وجوه:
الأول: أن وجود الشيء عند أبي الحسين عين ذاته، فإذا قلنا: السواد موجود فهذا خبر مع أنه لا يفيد إضافة الشيء إلى شيء آخر.
والثاني: إنا إذا قلنا الحيوان الناطق يمشي فقولنا الحيوان الناطق يقتضي نسبة الناطق إلى الحيوان مع أنه ليس بخبر؛ لأن الفرق بين النعت والخبر معلوم بالضرورة.
والثالث: أن قولنا نفيًا وإثباتًا يقتضي الدور لأن النفي هو الإخبار عن عدم الشيء والإثبات هو الإخبار عن وجوده فتعريف الخبر بهما دور.
قال الرازي: وإذا بطلت هذه التعريفات، فالحق عندنا أن تصور ماهية الخبر غني عن الحد والرسم بدليلين:
الأول: أن كل أحد يعلم بالضرورة إما أنه موجود وإما أنه ليس بمعدوم وأن الشيء الواحد لا يكون موجودًا ومعدومًا، ومطلق الخبر جزء من الخبر الخاص والعلم بالكل موقوف على العلم بالجزء فلو كان تصور ماهية مطلق الخبر موقوفًا على الاكتساب لكان تصور الخبر الخاص أولى بأن يكون كذلك فكان يجب أن لا يكون فهم هذه الأخبار ضروريًّا ولما لم يكن كذلك علمنا صحة ما ذكرنا.
الثاني: أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر ويميزه عن الموضع الذي
ج / 1 ص -122- يحسن فيه، الأمر ولولا أن هذه الحقائق متصورة تصورًا بديهيًّا لم يكن الأمر كذلك.
فإن قلت: الخبر نوع من أنواع الألفاظ وأنواع الألفاظ ليست تصوراتها بديهية، فكيف قلت: أن ماهية الخبر متصورة تصورًا بديهيًّا؟
قلت: حكم الذهن بين أمرين بأن أحدهما له الآخر وليس له الآخر معقول واحد، لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وكل واحد يدرك من نفسه ويجد تفرقة بينه وبين سائر أحواله النفسانية من ألمه ولذته وجوعه وعطشه. وإذا ثبت هذا فنقول إن كان المراد من الخبر هو الحكم الذهني فلا شك أن تصوره في الجملة بديهي مركوز في فطرة العقل وإن كان المراد منه اللفظة الدالة على هذه الماهية فالإشكال غير وارد أيضًا. لأن مطلق اللفظ الدال على المعنى بديهي التصور، انتهى.
ويجاب عنه: بأن المراد اللفظ الدال والإشكال وارد، ولا نسلم أن مطلق اللفظ الدال بديهي التصور.
وقد أجيب عما ذكره بأن كون العلم ضروريًّا كيفية لحصوله، وأنه يقبل الاستدلال عليه والذي لا يقبله هو نفس الحصول الذي هو معروض الضرورة فإنه يمتنع أن يكون حاصلًا بالضرورة والاستدلال لتنافيهما.
وأجيب أيضًا: بأن المعلوم ضرورة إنما هو نسبة الوجود إليه إثباتًا، وهو غير تصور النسبة التي هي ماهية الخبر، فلا يلزم أن تكون ماهية الخبر ضرورية.
وقيل: إن الخبر لا يحد لتعسره وقد تقدم بيانه في تعريف العلم1.
وقيل: الأولى في حد الخبر أن يقال هو الكلام المحكوم فيه بنسبة خارجية، والمراد بالخارج ما هو خارج عن كلام النفس المدلول عليه بذلك اللفظ فلا يرد عليه قم لأن مدلوله الطلب نفسه، وهو المعنى القائم بالنفس من غير أن يشعر بأن له متعلقًا واقعًا في الخارج. وكذا يخرج جميع المركبات التقييدية2 والإضافية.
واعترض على هذا الحد بأنه إن كان المراد أن النسبة أمر موجود في الخارج لم يصح في مثل اجتماع الضدين وشريك الباري*.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ف "أ" زيادة وهي: معدوم محال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة "17" وما بعدها.
2 ليعلم: أن المركب نوعان: تام وهو ما يصح السكوت عليه، وغير تام: وهو ما لا يصح السكوت عليه، وهو إما تقييدي، إن كان الثاني قيدًا للأول نحو: حيوان ناطق، وإما غير تقييدي، كالمركب من اسم وأداة نحو: في الدار. ا. هـ. التعريفات "269".
ج / 1 ص -123- وأجيب بأن المراد: النسبة الخارجية عن المدلول، سواء قامت تلك النسبة الخارجية بالذهن كالعلم أو بالخارج عن الذهن، كالقيام، أو لم تقم بشيء منهما نحو شريك الباري ممتنع.
والأولى أن يقال في حد الخبر هو ما يصح أن يدخله الصدق والكذب لذاته، وهذا الحد لا يرد عليه شيء مما سبق.
وقد اختلف هل الخبر حقيقة في اللفظي والنفسي، أم حقيقة في اللفظي مجاز في النفسي أم العكس كما وقع الخلاف في الكلام على هذه الثلاثة أقوال لأن الخبر قسم من أقسامه وإذا عرفت الاختلاف في تعريف الخبر عرفت بأن ما لا يكون كذلك ليس بخبر ويسمونه إنشاءً وتنبيهًا ويندرج فيه الأمر والنهي والاستفهام والنداء والتمني والعرض والترجي والقسم.
النوع الثاني: أقسام الخبر من حيث الصدق والكذب
النوع الثاني: أن الخبر ينقسم إلى صدق وكذب، وخالف في ذلك القرافي، وادعى أن العرب لم تضع الخبر إلا للصدق وليس لنا خبر كذب واحتمال الصدق والكذب إنما هو من جهة المتكلم لا من جهة الواضع ونظيره قولهم الكلام يحتمل الحقيقة والمجاز، وقد أجمعوا على أن المجاز ليس من الوضع الأول.
ثم استدل على ذلك باتفاق اللغويين والنحاة على أن معنى قولنا: قام زيد، حصول القيام له في الزمن الماضي، ولم يقل أحد إن معناه صدور القيام أو عدمه، وإنما احتماله له من جهة المتكلم لا من جهة اللغة.
وأجيب عنه: بأنه مصادم للإجماع على أن الخبر موضوع لأعم من ذلك، وما ادعاه من أن معنى قام زيد حصول القيام له في الزمن الماضي باتفاق أهل اللغة والنحو ممنوع فإن مدلوله الحكم بحصول القيام وذلك يحتمل الصدق والكذب.
ويجاب عن هذا الجواب: بأن هذا الاحتمال إن كان من جهة المتكلم، فلا يقدح على القرافي بل هو معترف به، كما تقدم عنه وإن كان من جهة اللغة فذلك مجرد دعوى ويقوي ما قاله القرافي إجماع أهل اللغة قبل ورود الشرع وبعده على مدح الصادق وذم الكاذب ولو كان الخبر موضوعًا لهما لما كان على من تكلم بما هو موضوع من بأس.
ثم اعلم أنه قد ذهب الجمهور إلى أنه لا واسطة بين الصدق والكذب لأن الحكم إما مطابق للخارج أو لا، والأول الصدق والثاني الكذب وأثبت الجاحظ1 الواسطة بينهما، فقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عمرو بن بحر بن محبوب، أبو عثمان، البصري المعتزلي، صاحب التصانيف، توفي سنة خمس وخمسين ومائتين هـ، من آثاره: "الحيوان" "البيان والتبيين" "البخلاء" وغيرها كثير. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 527" معجم الأدباء "16/ 74".
ج / 1 ص -124- الخبر إما مطابق للخارج أو لا مطابق والمطابق إما مع اعتقاده أنه مطابق أو لا، وغير المطابق إما مع اعتقاد أنه غير مطابق أو لا والثاني منهما وهو ما ليس مع الاعتقاد ليس بصدق ولا كذب واستدل بقوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّة}1.
ووجه الاستدلال بالآية: أنه حصر ذلك في كونه افتراء، أو كلامَ مجنونٍ، فعلى تقدير كونه كلام مجنون لا يكون صدقًا لأنهم لا يعتقدون كونه صدقًا وقد صرحوا بنفي الكذب عنه لكونه قسيمة وما ذاك إلا "لأن"* المجنون لا يقول عن قصد واعتقاد.
وأجيب: بأن المراد من الآية أفترى أم لم يفتر، فيكون مجنونًا لأن المجنون لا افتراء له والكذب من غير قصد يكون مجنونًا أو المراد أقصد فيكون مجنونًا أم لم يقصد فلا يكون خبرًا.
والحاصل: أن الافتراء أخص من الكذب، ومقابله قد يكون كذبًا وإن سلم فقد لا يكون خبرًا فيكون هذا حصرًا للكذب في نوعيه الكذب عن عمد والكذب لا عن عمد.
قال الرازي في "المحصول": والحق أن المسألة لفظية؛ لأنا نعلم بالبديهة أن كل خبر "إما"** أن يكون مطابقًا للمخبر عنه أو لا يكون مطابقًا فإن أريد بالصدق الخبر المطابق كيف كان وبالكذب الخبر الغير مطابق كيف كان وجب القطع بأنه لا واسطة بين الصدق والكذب وإن أريد بالصدق ما يكون مطابقًا مع أن المخبر يكون عالمًا بكونه مطابقًا وبالكذب الذي لا يكون مطابقًا مع أن المخبر يكون عالمًا بأنه غير مطابق كان هناك قسم ثالث بالضرورة وهو الخبر الذي لا يعلم قائله أنه مطابق أم لا فثبت أن المسألة لفظية؛ انتهى.
وقال النظام2 ومن تابعه من أهل الأصول والفقهاء: إن الصدق مطابقة الخبر للاعتقاد، والكذب عدم مطابقته للاعتقاد واستدل بالنقل والعقل.
أما النقل: فبقوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": أن المجنون.
** في "أ": فإما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "8" سورة سبأ.
2 إبراهيم بن سيار مولى آل الحارث، أبو أسحاق، شيخ المعتزلة، صاحب التصانيف توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين هـ، من آثاره: "الطفرة" "الجواهر والأعراض" "الوعيد". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 541"، الأعلام "1/ 43".
ج / 1 ص -125- لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون}1 فإن الله سبحانه حكم "عليهم"* في هذه الآية حكمًا مؤكدًا بأنهم كاذبون في قولهم {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} مع مطابقته للواقع فلو كان للمطابقة للواقع أو لعدمها مدخل في الصدق والكذب لما كانوا كاذبين لأن خبرهم هذا مطابق للواقع ولا واسطة بن الصدق والكذب.
وأجيب: بأن التكذيب راجع إلى خبر تضمنه معنى: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} وهو أن شهادتهم هذه من صميم القلب وخلوص الاعتقاد لأن ذلك معنى الشهادة سيما بعد تأكيده بـ"إن واللام والجملة الاسمية".
وأجيب أيضًا: بأن التكذيب راجع إلى زعمهم الفاسد واعتقادهم الباطل؛ لأنهم يعتقدون أنه غير مطابق للواقع.
وأجيب أيضًا: بأن التكذيب راجع إلى حلفهم المدلول عليه بقوله تعالى: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَل}2.
ولا يخفى ما في الأجوبة من مزيد التكلف، ولكنه ألجأ إلى المصير إليها الجمع بين الأدلة. وأما العقل فمن وجهين:
الأول: أن من غلب على ظنه أن زيدًا في الدار "فأخبر عن كونه في الدار"**، ثم ظهر أنه ما كان كذلك لم يقل أحد أنه كذب في هذا الخبر، بل يقال: أخطأ أو وهم.
الثاني: أن أكثر العمومات والمطلقات مخصصة ومقيدة فلو كان الخبر الذي لا يطابق المخبر عنه كذبًا لتطرق الكذب إلى كلام الشارع.
واحتج الجمهور على ما قالوه من أن صدق الخبر مطابقته "للواقع"*** وكذبه عدمها بقوله سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِد}3 فكذبهم الله سبحانه مع كونهم يعتقدون ذلك وبقوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينْ}4، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الآية 1 من سورة "المنافقون".
2 جزء من الآية "8" من سورة "المنافقون".
3 جزء من الآية "73" من سورة "المائدة".
4 جزء من الآية "39" من سورة "النحل".
ج / 1 ص -126- ويدل لذلك من السنة ما ثبت في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع، وقد قال: للنبي صلى الله عليه وسلم إن جماعة من الصحابة قالوا: بطل عمل عامر1 لما رجع سيفه على نفسه فقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: "كذب من قال ذلك بل له أجر مرتين"2. فكذبهم صلى الله عليه وسلم مع أنهم أخبروا بما كان في اعتقادهم.
وفي البخاري وغيره أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: إن سعد بن عبادة قال: اليوم تستحل الكعبة، فقال صلى الله عليه وسلم: "كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة"3.
واحتجوا بالإجماع على تكذيب اليهود والنصارى في كفرياتهم مع أنا نعلم أنهم يعتقدون صحة تلك الكفريات، وكذلك وقع الإجماع على تكذيب الكافر إذا قال الإسلام باطل مع مطابقته لاعتقاده.
والذي يظهر لي: أن الخبر لا يتصف بالصدق إلا إذا جمع بين مطابقة الواقع والاعتقاد، فإن خالفهما أو أحدهما فكذب فيقال في تعريفهما هكذا الصدق ما طابق الواقع والاعتقاد. والكذب ما خالفهما أو أحدهما ولا يلزم على هذا ثبوت واسطة؛ لأن المعتبر هو كلام العقلاء، فلا يرد كلام الساهي والمجنون والنائم وجميع أدلة الأقوال المتقدمة تصلح للاستدلال بها على هذا، ولا يرد عليه شيء مما ورد عليها.
فإن قلت: من جملة ما استدل به الجمهور الإجماع على تصديق الكافر إذا قال: الإسلام حق وهو إنما طابق الواقع لا الاعتقاد، قلت ليس النزاع إلا في مدلول الصدق والكذب لغة لا شرعًا، وهذا الإجماع إنما هو من أهل الشرع لا من أهل اللغة والدليل الذي "مستند"* إجماعهم شرعي لا لغوي، ولكن الكذب المذموم شرعًا هو المخالف للاعتقاد سواء طابق الواقع أو خالفه، وذلك لا يمنع من صدق وصف ما خالف الواقع وطابق الاعتقاد بالكذب "لغة"**.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عامر بن سنان، الصحابي، المشهور، ومقتله كان في غزوة خيبر ا. هـ. الإصابة "2/ 241".
2 أخرجه البخاري، في المغازي، باب غزوة خيبر "4196" ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر "1802" والنسائي، كتاب الجهاد، باب من قاتل في سبيل الله فارتد عليه سيفه فقتله برقم "3150" "6/ 31" وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في الرجل يموت بسلاحه بلفظ: "كذبوا مات جاهدًا مجاهدًا فله أجره مرتين" "2538".
3 أخرجه البخاري مطولًا من طريق هشام عن أبيه في كتاب المغازي باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح رقم "4280". وابن كثير في البداية والنهاية "4/ 333". والبيهقي في الدلائل "5/ 98" وابن عبد البر من رواية ابن عقبة في الدرر "217".
[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]
إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
ج / 1 ص -127- النوع الثالث: في تقسيم الخبر
اعلم أن الخبر لغة من حيث هو محتمل للصدق والكذب، لكن قد يقطع بصدقه وقد يقطع بكذبه لأمور خارجة وقد لا يقطع بواحد منهما لفقدان ما يوجب القطع فهذه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المقطوع بصدقه
وهو إما أن يعلم بالضرورة أو النظر فالمعلوم بالضرورة بنفسه وهو المتواتر أو بموافقة العلم الضروري وهي الأوليات كقولنا: الواحد نصف الاثنين. وأما المعلوم بالنظر فهو ضربان:
الأول: أن يدل الدليل على صدق الخبر نفسه فيكون كل من يخبر به صادقًا كقولنا: العالم حادث.
والضرب الثاني: أن يدل الدليل على صدق المخبر فيكون كل ما يخبر به "صدقًا"* وهو ضروب.
الأول: خبر من دل الدليل على أن الصدق وصف واجب له وهو الله عز وجل.
الثاني: من دلت المعجزة على صدقه وهم الأنبياء صلوات الله عليهم.
الثالث: من صدقه الله سبحانه أو رسوله وهو خبر كل الأمة على القول بأن الإجماع حجة قطعية.
القسم الثاني: المقطوع بكذبه
وهو ضروب:
الأول: المعلوم خلافه إما بالضرورة كالإخبار باجتماع النقيضين أو ارتفاعهما.
الثاني: المعلوم خلافه إما بالاستدلال كالإخبار بقدم العالم أو بخلاف ما هو من قطعيات الشريعة.
الثالث: الخبر الذي لو كان صحيحًا لتوفرت الدواعي على نقله متواترًا إما لكونه من أصول الشريعة وإما لكونه أمر غريبًا كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة.
الرابع: خبر مدعي الرسالة من غير معجزة.
الخامس: كل خبر استلزم باطلًا ولم يقبل التأويل، ومن ذلك الخبر الآحادي إذا خالف القطعي كالمتواتر.
القسم الثالث: ما لا يقطع بصدقه ولا كذبه
وذلك كخبر المجهول فإنه لا يترجح صدقه ولا كذبه، وقد يترجح صدقه ولا يقطع بصدقه وذلك كخبر العدل وقد يترجح كذبه ولا يقطع بكذبه، كخبر الفاسق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": متحققًا.
ج / 1 ص -128- النوع الرابع: أقسام الخبر من حيث التواتر وعدمه
إن الخبر باعتبار آخر ينقسم إلى متواتر وآحاد.
القسم الأول: المتواتر
وهو في اللغة عبارة عن مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما مأخوذ من الوتر.
وفي الاصطلاح: خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم.
وقيل في تعريفه: هو خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه.
وقيل: خبر جمع عن محسوس يمتنع تواطؤهم على الكذب من حيث كثرتهم فقولهم من حيث كثرتهم لإخراج خبر قوم يستحيل كذبهم بسبب أمر خارج عن الكثرة كالعلم بمخبرهم ضرورة أو نظرًا، وكما يخرج من هذا الحد بذلك القيد ما ذكرنا كذلك يخرج من قيد بنفسه في الحد الذي قبله.
وقد اختلف في العلم الحاصل بالتواتر هل هو ضروري أو نظري؟
فذهب الجمهور إلى أنه ضروري.
وقال الكعبي1 وأبو الحسن البصري: إنه نظري.
وقال الغزالي: إنه قسم ثالث ليس أوليًّا ولا كسبيًّا، بل من قبيل القضايا التي قياساتها معها "وقالت السمنية2 والبراهمة3: إنه لا يفيد العلم أصلًا"*، وقال المرتضى4 والآمدي بالوقف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد الله بن أحمد بن محمود، أبو القاسم البلخي، شيخ المعتزلة، العلامة، المعروف بالكعبي، من نظراء أبي علي الجبائي، توفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "المقالات" "الجدل" "السنة والجماعة"، وذكر صاحب الشذرات: أنه توفي سنة تسع عشرة وثلاثمائة هـ، والصواب على ما ذكره الذهبي: من أنه سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 313 "، الكامل في التاريخ "6/ 217".
2 وهم أصحاب سمن، وهم عبدة أوثان، يقولون بقدم الدهر، وبتناسخ الأرواح، وأن الأرض تهوي سفلًا أبدًا، وكان الناس على وجه الدهر سمنيين وكلدانيين وبقايا السمنية بالهند والصين. ا. هـ. مفاتيح العلوم للخوارزمي "55".
3 هم الذين ينتسبون إلى رجل منهم يقال له براهم، وقد مهد لهم نفي النبوات أصلًا، وقرر استحالة ذلك من وجوه، والبراهمية هم من أمم الهند، لعض الناس يظن أنهم سموا براهمة لانتسابهم إلى إبراهيم عليه السلام، وهذا خطأ لما ذكرنا. ا. هـ. الملل والنحل "2/ 251".
4 هو علي بن حسين بن موسى، القرشي العلوي، العلامة الشريف المرتضى، أبو القاسم، من ولد موسى الكاظم، ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة ست وثلاثين وأربعمائة هـ. من آثاره: "الشافي في الإمامة" "الذخيرة في الأصول" "التنزية" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 588"، معجم الأدباء "13/ 143"، هدية العارفين "1/ 688".
ج / 1 ص -129- والحق قول الجمهور، للقطع بأنا نجد نفوسنا جازمة بوجود البلاد الغائبة عنا، ووجود الأشخاص الماضية قبلنا، جزمًا خاليًا عن التردد، جاريًا مجرى جزمنا بوجود المشاهدات، فالمنكر لحصول العلم الضروري بالتواتر كالمنكر لحصول العلم الضروري بالمشاهدات وذلك سفسطة1 لا يستحق صاحبها المكالمة.
وأيضًا: لو لم يكن ضروريًّا لافتقر إلى توسيط2 المقدمتين3، واللازم4 منتفٍ؛ لأنا نعلم بذلك قطعًا مع انتفاء المقدمتين لحصوله بالعادة لا بالمقدمتين فاستغنى عن الترتيب.
واستدل القائل بأنه لا يفيد العلم بقولهم: لا ننكر حصول الظن القوي بوجود ما ذكرتم لكن لا نسلم حصول اليقين وذلك لأنا إذا عرضنا على عقولنا وجود المدينة الفلانية أو الشخص الفلاني مما جاء التواتر بوجودهما وعرضنا على عقولنا أن الواحد نصف الاثنين وجدنا الجزم بالثاني أقوى من الجزم بالأول، وحصول التفاوت بينهما يدل على تطرق النقيض إلى المرجوح.
وأيضًا: جزمنا بهذه الأمور المنقولة بالتواتر ليس بأقوى من جزمنا بأن هذا الشخص الذي رأيته اليوم هو الذي رأيته أمس، مع أن هذا الجزم ليس بيقين ولا ضروري؛ لأنه يجوز أن يوجد شخص مساوٍ له في الصورة من كل وجه.
ويجاب عن هذا: بأنه تشكيك في أمر ضروري فلا يستحق صاحبه الجواب، كما أن من أنكر المشاهدات لا يستحق الجواب، فإنا لو جوزنا أن هذا الشخص المرئي اليوم غير الشخص المرئي أمس لكان ذلك مستلزمًا للتشكيك في المشاهدات. و"استدل"* والقائلون بأنه نظري بقولهم: لو كان ضروريًّا لعلم بالضرورة أنه ضروري.
وأجيب: بالمعارضة بأنه لو كان نظريًّا لعمل بالضرورة كونه نظريًّا كغيره من النظريات "وبالحس"**، وذلك أن الضرورية والنظرية صفتان للعمل، ولا يلزم من ضرورية العلم ضرورية صفته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": بالحل. وهو تحريف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قياس مركب من الوهميات، والغرض منه: تغليط الخصم، وإسكاته كقولنا: الجوهر موجود في الذهن، وكل موجود في الذهن قائم بالذهن عرض، لينتج أن الجوهر عرض. ا. هـ. التعريفات "158".
2 توسيط: التوسيط والواسطة هي المقدمة الغربية التي لا تكون مذكورة في القياس.
3 المقدمتين: تثنية مقدمة: وهي قضية جعلت جزء قياس أو يتوقف عليه صحة دليل القياس.
4 اللازم: هو كون العلم بالتواتر غير ضروي.
ج / 1 ص -130- الجمهور أيضًا: بأن العلم الحاصل بالتواتر لو كان نظريًّا لما حصل لمن لا يكون من أهل النظر كالصبيان المراهقين وكثير من العامة، فلما حصل ذلك لهم علمنا أنه ليس بنظري.
وكما يندفع بأدلة الجمهور قول من قال إنه نظري، يندفع أيضًا قول من قال إنه قسم ثالث، وقول من قال بالوقف؛ لأن سبب وقفه ليس إلا تعارض الأدلة عليه، وقد اتضح بما ذكرنا أنه لا تعارض فلا وقف.
واعلم أنه لم يخالف أحد من أهل الإسلام ولا من العقلاء في أن خبر التواتر يفيد العلم، وما روي من الخلاف في ذلك عن السمنية، والبراهمة فهو خلاف باطل لا يستحق قائله الجواب عليه.
شروط إفادة الخبر المتواتر للعلم الضروي:
ثم اعلم أن الخبر المتواتر لا يكون مفيدًا للعلم الضروري إلا بشروط، منها ما يرجع إلى المخبرين، ومنها ما يرجع إلى السامعين:
فالتي ترجع إلى المخبرين أمور أربعة:
الأول:
أن يكونوا عالمين بما أخبروا به غير مجازفين، فلو كانوا ظانين لذلك فقط لم يفد القطع، هكذا اعتبر هذا الشرط جماعة من أهل العلم منهم القاضي أبو بكر الباقلاني.
وقيل: إنه غير محتاج إليه؛ لأنه إن أريد وجوب علم الكل به فباطل؛ لأنه لا يمتنع أن يكون بعض المخبرين به مقلدًا فيه أو ظانًّا له أو مجازفًا وإن أريد وجوب علم البعض فمسلم، ولكنه مأخوذ من شرط كونهم مستندين إلى الحس.
الشرط الثاني:
أن يعلموا ذلك عن ضرورة من مشاهدة أو سماع؛ لأن ما لا يكون كذلك يحتمل دخول الغلط فيه.
قال الأستاذ أبو منصور: فأما إذا تواترت أخبارهم عن شيء قد علموه، واعتقدوه بالنظر والاستدلال، أو عن شبهة فإن ذلك لا يوجب علمًا ضروريًّا لأن المسلمين مع تواترهم يخبرون الدهرية1 بحدوث العالم وتوحيد الصانع، ويخبرون أهل الذمة بصحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلا يقع لهم العلم الضروري بذلك؛ لأن العلم به من طريق الاستدلال دون الاضطرار انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هم فرقة خالفت ملة الإسلام، وادعت قدم الدهر، وأسندت الحوادث إليه كما حدث القرآن الكريم عنهم فقال: {إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]، وذهبوا أيضًا إلى ترك العبادات لزعمهم أنها لا تفيد، والدهر بما يقتضيه مجبول من حيث الفطرة على ما هو عليه فما ثم إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وسماء تقلع، وسحاب يقشع، وهواء يقمع. نعوذ بالله من ذلك. ا. هـ. الفصل في الملل والأهواء والنحل "1/ 47".
ج / 1 ص -131- ومن تمام هذا الشرط: أن لا تكون المشاهدة، والسماع على سبيل غلط الحس، كما في أخبار النصارى بصلب المسيح عليه السلام، وأيضًا لا بد أن يكونوا على صفة يوثق معها بقولهم، فلو أخبروا متلاعبين أو مكرهين على ذلك، لم يوثق بخبرهم ولا يلتفت إليه.
الشرط الثالث:
أن يبلغ عددهم إلى مبلغ يمنع في العادة تواطؤهم على الكذب، ولا يقيد ذلك بعدد معين، بل ضابطه: حصول العلم الضروري به، فإذا حصل ذلك علمنا أنه متواتر، وإلا فلا، وهذا قول الجمهور.
وقال قوم منهم القاضي أبو الطيب الطبري: يجب أن يكونوا أكثر من الأربعة؛ لأنه لو كان خبر الأربعة يوجب العلم لما احتاج الحاكم إلى السؤال عن عدالتهم إذا شهدوا عنده.
وقال ابن السمعاني: ذهب أصحاب الشافعي إلى أنه لا يجوز أن يتواتر الخبر بأقل من خمسة فما زاد، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن الجبائي. واستدل بعض أهل هذا القول بأن الخمسة عدد أولي العزم1 من الرسل "وهم"* على الأشهر، نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه.
ولا يخفى ما في هذا الاستدلال من الضعف، مع عدم تعلقه بمحل النزاع بوجه من الوجوه.
وقيل: يشترط أن يكونوا سبعة، بعدد أهل الكهف، وهو باطل.
وقيل: يشترط عشرة، وبه قال الاصطخري، واستدل على ذلك بأن ما دونها جمع قلة، وهذا استدلال ضعيف أيضًا.
وقيل: يشترط أن يكونوا اثني عشر بعدد النقباء لموسى عليه السلام لأنهم جعلوا كذلك لتحصيل العلم بخبرهم وهذا استدلال ضعيف أيضًا. وقيل: يشترط أن يكونوا عشرين لقوله سبحانه: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُون}2، وهذا مع كونه في غاية الضعف خارج عن محل النزاع، وإن قال المستدل به بأنهم إنما جعلوا كذلك ليفيد خبرهم العلم بإسلامهم، فإن المقام ليس مقام "إخبار"**، خبر ولا استخبار وقد روي هذا القول عن أبي الهذيل3 وغيره من المعتزلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": خبر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أولو العزم: أصحاب الحزم والصبر واختلف في عددهم فقيل خمسة أنبياء وقيل ثمانية عشر وقيل كل الأنبياء. ا. هـ. انظر تفسير القرطبي "16/ 220".
2 جزء من الآية "65" من سورة الأنفال.
3 محمد بن الهذيل بن عبيد الله البصري، العلاف، شيخ الكلام، رأس الكلام، رأس الاعتزال، صاحب التصانيف والذكاء البارع، عاش قريبًا من مائة سنة، وخرف وعمي، توفي سنة خمس وثلاثين ومائتين هـ، وكان مولده سنة خمس وثلاثين ومائة هـ، من آثاره: "الرد على المجوس ورد على الملحدين" و"رد على السوفسطائية". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 173" "10/ 542" الأعلام "7/ 171".
ج / 1 ص -132- وقيل: يشترط أن يكونوا أربعين كالعدد المعتبر في الجمعة، وهذا مع كونه خارجًا عن محل النزاع باطل الأصل، فضلًا عن الفرع.
وقيل: يشترط أن يكونوا سبعين لقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا}1، وهذا أيضًا استدلال باطل.
وقيل: يشترط أن يكونوا ثلاثمائة وبضعة عشر، بعدد أهل بدر، وهذا أيضًا استدلال باطل، خارج عن محل النزاع.
وقيل: يشترط أن يكونوا خمس عشرة مائة، "بعدد أهل بيعة الرضون"*، وهذا أيضًا باطل.
وقيل: سبع عشرة مائة؛ لأنه عدد أهل بيعة الرضوان.
وقيل: أربع عشرة مائة؛ لأنه عدد أهل بيعة الرضوان.
وقيل: يشترط أن يكونوا جميع الأمة كالإجماع، حُكي هذا القول عن ضرار بن عمرو2، وهو باطل.
وقال جماعة من الفقهاء: لا بد أن يكونوا بحيث لا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد.
ويا لله العجب من جري أقلام العلم بمثل هذه الأقوال التي لا ترجع إلى عقل ولا نقل، ولا يوجد بينها وبين محل النزاع جامع، وإنما ذكرناه ليعتبر بها المعتبر ويعلم أن القيل والقال قد يكون من أهل العلم في بعض الأحوال من جنس الهذيان فيأخذ عند ذلك حذره من التقليد ويبحث عن الأدلة التي هي من شرع الله الذي شرعه لعباده، فإنه لم يشرع لهم إلا ما في كتابه وسنة رسوله.
الشرط الرابع:
وجود العدد المعتبر في كل الطبقات، فيروي ذلك العدد عن مثله إلى أن يتصل بالمخبر عنه، وقد اشترط عدالة النقلة لخبر التواتر فلا يصح أن يكونوا أو بعضهم غير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": بعدد بيع أهل الرضوان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "155" من سورة الأعراف.
2 هو ضرار بن عمرو الغطفاني، شيخ الضرارية، من رءوس المعتزلة، وكان ينكر الجنة والنار أن تكونا خلقتا، وقال عنه ابن حزم: كان ينكر عذاب القبر، فأبيح دمه، وأمر القاضي سعيد بن عبد الرحمن بضرب عنقه، توفي سنة تسعين ومائة هـ، ا.هـ, سير أعلام النبلاء "10/ 215".
ج / 1 ص -133- عدول، وعلى هذا لا بد أن لا يكونوا كفارًا ولا فساقًا. ولا وجه لهذا الاشتراط، فإن حصول العلم الضروري بالخبر المتواتر لا يتوقف على ذلك، بل يحصل بخبر الكفار والفساق، والصغار المميزين، والأحرار والعبيد، وذلك هو المعتب.
وقد اشترط أيضًا: اختلاف أنساب أهل التواتر.
واشترط أيضًا: اختلاف أديانهم.
واشترط أيضًا: اختلاف أوطانهم.
واشترط أيضًا: كون المعصوم منهم كما يقول الإمامية1.
ولا وجه لشيء من هذه الشروط.
وأما الشروط التي ترجع إلى السامعين فلا بد أن يكونوا عقلاء؛ إذ يستحيل حصول العلم لمن لا عقل له.
والثاني: أن يكونوا عالمين بمدلول الخبر.
والثالث: أن يكونوا خالين عن اعتقاد ما يخالف ذلك الخبر لشبهة تقليد أو نحوه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هم القائلون بإمامة سيدنا على رضي الله عنه بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نصًّا ظاهرًا، وتعيينًا صادقًا، ويستشهدون لذلك بنصوص متعددة، منها: مبايعته لسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: "من الذي يبايعني على روحه وهو وصي وولي هذا الأمر من بعدي" وقوله عليه الصلاة والسلام: "من كنت مولاه فعلي..." وغير ذلك. ا. هـ. الملل والنحل "1/ 162".
القسم الثاني: الآحاد
وهو خبر لا يفيد بنفسه العلم سواء كان لا يفيد أصلًا، أو يفيده بالقرائن الخارجة عنه، فلا واسطة بين المتواتر والآحاد، وهذا قول الجمهور.
وقال أحمد بن حنبل1: إن خبر الواحد يفيد بنفسه العلم، وحكاه ابن حزم في كتاب "الإحكام"2 عن داود الظاهري3، والحسين بن علي الكرابيسي4، والحارث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو شيخ الإسلام، صاحب المذهب المعروف، ولد سنة أربع وستين ومائة هـ، كان أصبر الناس على الوحدة، وحج حجتين أو ثلاثًا ماشيًا، توفي سنة إحدى وأربعين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 177"، تذكرة الحفاظ "1/ 431".
2 واسمه: "الإحكام لأصول الأحكام" لأبي محمد على بن أحمد الظاهري المعروف بابن حزم، وتقدمت ترجمته في الصفحة "99". ا. هـ. كشف الظنون "1/ 21".
3 هو داود بن علي بن خلف، الإمام البحر، الحافظ العلامة، عالم الوقت أبو سليمان البغدادي، رئيس أهل الظاهر، ولد سنة مائتين هـ، وتوفي سنة سبعين ومائيتن. من آثاره: "الإيضاح" "الإفصاح" "الأصول" وغيرها كثير. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 97"، شذرات الذهب "2/ 158-159".
4 هو الحسين بن علي بن يزيد، الفقيه الشافعي العلامة، أبو علي، الكرابيسي: نسبة إلى بيع الكرباس وهي: الثياب الغليظة، توفي سنة ثمان وأربعين ومائتين هـ، وله تصانيف كثيرة في الأصول والفروع ا.هـ سير أعلام النبلاء "12/ 80"، تهذيب التهذيب "2/ 359".
ج / 1 ص -134- المحاسبي1. قال: وبه نقول.
وحكاه ابن خويزمنداد2 عن مالك بن أنس واختاره، وأطال في تقريره، ونقل الشيخ في "التبصرة"3 عن بعض أهل الحديث أن منها ما يوجب العلم كحديث مالك، عن نافع4 عن ابن عمر، وما أشبهه. وحكى صاحب "المصادر"5 عن أبي بكر القفال أنه يوجب العلم الظاهر.
وقيل في تعريفه: هو ما لم ينته بنفسه إلى التواتر، سواء كثر رواته أو قلوا، وهذا كالأول في نفي الواسطة بين التواتر والآحاد.
وقيل في تعريفه: هو ما يفيد الظن واعترض عليه بما لم يفد الظن من الأخبار.
ورد بأن الخبر الذي لا يفيد الظن لا يراد دخوله في التعريف إذ لا يثبت به حكم والمراد تعريف ما يثبت به الحكم.
وأجيب عن هذا الرد: بأن الحديث الضعيف الذي لم ينته تضعيفه إلى حد يكون به باطلًا موضوعًا يثبت به الحكم، مع كونه لا يفيد الظن. ويرد هذا الجواب: بأن الضعيف الذي يبلغ ضعفه إلى حد لا يحصل معه الظن لا يثبت به الحكم، ولا يجوز الاحتجاج به في إثبات شرع عام وإنما يثبت الحكم بالصحيح والحسن لذاته أو لغيره لحصول الظن بصدق ذلك وثبوته عن الشارع.
وقد ذهب الجمهور إلى وجوب العمل بخبر الواحد وأنه "قد"* وقع التعبد به، وقال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الإمام الحارث بن أسد الغدادي المحاسبي، الزاهد العارف شيخ الصوفية، أبو عبد الله، قيل له المحاسبي لأنه كان يحاسب نفسه، توفي سنة ثلاثة وأربعين ومائتين هـ، له كتب كثيرة في الزهد، وأصول الديانة، والرد على المعتزلة، من آثاره: "رسالة المسترشدين" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 110"، تهذيب التهذيب "1/ 113".
2 هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن خويز المالكي، العراقي، فقيه أصولي، من آثاره: كتاب كبير في "الخلاف" "كتاب في أصول الفقه". توفي سنة تسعين وثلاثمائة هـ، ا. هـ.معجم المؤلفين "8/ 280".
3 واسمه "التبصرة في أصول الفقه" للشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، وعليه شرح لأبي الفتح عثمان بن جني. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 339".
4 هو أبو عبد الله القرشي العدوي العمري، الإمام المفتي، الثبت، عالم المدينة، توفي سنة سبع عشرة ومائة هجرية، خدم عبد الله بن عمر ثلاثين سنة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 95"، تذكرة الحفاظ "1/ 99"، شذرات الذهب "1/ 154".
5 واسمه "المصادر في الأصول"، لمحمود بن علي الحمصي الرازي. ا. هـ. ذيل كشف الظنون "2/ 491".
ج / 1 ص -135- "القاساني"*1 والرافضة وابن داود2. لا يجب العمل به، وحكاه الماوردي3 عن الأصم4 وابن علية5 وقال: إنهما قالا لا يقبل خبر الواحد في السنن والديانات، ويقبل في غيره من أدلة الشرع.
وحكى الجويني6 في "شرح الرسالة" عن هشام7 والنظام أنه لا يقبل خبر الواحد إلا بعد قرينة تنضم إليه، وهو علم الضرورة، بأن يخلق الله في قلبه ضرورة الصدق، وقال: وإليه ذهب أبو الحسين بن اللبان الفرضي8 قال بعد حكاية هذا عنه: فإن تاب فالله يرحمه وإلا فهو مسألة التكفير لأنه إجماع فمن أنكره يكفر.
قال ابن السمعاني: واختلفوا، يعني القائلين بعدم وجوب العمل بخبر الواحد في المانع من القبول فقيل: منع منه العقل، وينسب إلى ابن علية والأصم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": القاشاني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبو بكر محمد بن إسحاق القاساني، نسبة إلى قاسان، ويعرف عند جل العلماء بالقاشاني، ولكن الصواب أنه القاساني بالسين المهملة، كما قاله ابن حجر في تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، وهو داوودي المذهب. ا. هـ. تبصير المنتبه بتحرير المشتبه "3/ 1147" هدية العارفين "2/ 20".
2 هو محمد بن داود بن علي الظاهري، العلامة البارع، ذو الفنون، أبو بكر، توفي سنة سبع وتسعين ومائتين هـ، من مؤلفاته: "كتاب "الزهرة" "كتاب في الفرائض" كان أحد من يضرب المثل بذكائه. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 109"، شذرات الذهب "2/ 226".
3 هو علي بن محمد الماوردي، والبصري، الشافعي، الإمام العلامة، أقضى القضاة، أبو الحسن، من آثاره: "الحاوي" "النكت" "أدب الدنيا والدين"، توفي سنة خمسين وخمسمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 64"، هدية العارفين "1/ 689"، شذرات الذهب "3/ 385".
4 لعله محمد بن يعقوب بن يوسف، الأموي بالولاء، أبو العباس الأصم، محدث من أهل نيسابور، ووفاته بها سنة ست وأربعين وثلاثمائة هـ، حدث ستا وسبعين سنة. ا. هـ. تذكرة الحفاظ "3/ 860" الأعلام "7/ 145".
5 هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، الإمام العلامة، الحافظ الثبت، أبو بشر الأسدي، وعُلَيَّة هي أمة، ولد سنة عشر ومائة هـ، وتوفي سنة ثلاث وتسعين ومائة هـ، قال زياد بن أيوب: ما رأيت لابن علية كتابًا قط. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 114"، شذرات الذهب "1/ 333".
6 هو أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني، والد إمام الحرمين، أبي المعالي، وهو من علماء التفسير والفقه واللغة، توفي سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة هـ. انظر: تبيين كذب المفتري "ص257"، ومفتاح السعادة "2/ 325" حيث ذكر من مؤلفاته "شرح الرسالة"، والأعلام "4/ 146".
7 لعله هشام بن الحكم الشيباني بالولاء، الكوفي، أبو محمد، متكلم مناظر، توفي حوالي سنة تسعين ومائة هـ. انظر الأعلام "8/ 85" ومراجعه.
8 هو محمد بن عبد الله بن الحسن، ابن اللبان، الفرضي، الشافعي، أبو الحسين توفي سنة اثنتين وأربعمائة هـ، كان إمام الفرضيين في زمانه، له مصنفات كثيرة في الفرائض ليس لأحد مثلها، أخذ عنه أئمة وعلماء ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 217"، هدية العارفين "2/ 59".
ج / 1 ص -136- وقال "القاساني"* من أهل الظاهر، والشيعة: منع منه الشرع، فقالوا: إنه لا يفيد إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا.
ويجاب عن هذا: بأنه عام مخصص، لما ثبت في الشريعة من العلم بأخبار الآحاد.
ثم اختلف الجمهور في طريق إثباته، فالأكثر منهم قالوا يجب بدليل السمع.
وقال أحمد بن حنبل، والقفال، "وابن سريج"**، وأبو الحسين البصري من المعتزلة، وأبو جعفر الطوسي1 من الإمامية، والصيرفي من الشافعية: إن الدليل العقلي دل على وجوب العمل، لاحتياج الناس إلى معرفة بعض الأشياء، من جهة الخبر الوارد عن الواحد.
وأما دليل السمع: فقد استدلوا من الكتاب بمثل قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ}2، وبمثل قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَة}3، ومن السنة بمثل قصة أهل قباء لما أتاهم واحد فأخبرهم أن القبلة قد تحولت فتحولوا وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليهم4.
وبمثل بعثه صلى الله عليه وسلم لعماله واحدًا بعد واحد وكذلك بعثه بالفرد من الرسل يدعو الناس إلى الإسلام.
ومن الإجماع بإجماع الصحابة والتابعين على الاستدلال بخبر الواحد وشاع ذلك وذاع، ولم ينكره أحد، ولو أنكره منكر لنقل إلينا وذلك يوجب العلم العادي باتفاقهم كالقول الصريح.
قال ابن دقيق العيد5: ومن تتبع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين، وجمهور الأمة ما عدا هذه الفرقة اليسيرة علم ذلك قطعًا انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": القاشاني.
** في "أ": ابن شريح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن الحسن بن علي الطوسي، شيخ الشيعة، تفقه أولًا للشافعي ثم أخذ الكلام وأصول القوم عن الشيخ المفيد، رأس الإمامية، توفي سنة ستين وأربعمائة هـ، من آثاره: "تهذيب الأحكام" "المفصح في الإمامية". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 334" إيضاح المكنون "1/ 223".
2 جزء من الآية "6" من سورة الحجرات.
3 جزء من الآية "122" من سورة التوبة.
4 أخرج بنحوه البخاري، كتاب الصلاة باب ما جاء في القبلة "403". ومسلم، كتاب المساجد، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة "5026". والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في ابتداء القبلة "341" بنحوه وقال: حسن صحيح. والنسائي، كتاب المساجد، باب استبانة الخطأ بعد الاجتهاد "744" 2/ 61. والإمام أحمد في المسند "2/ 105". وابن حبان في صحيحه "1715".
5 هو محمد بن علي بن وهب، قاض من أكابر العلماء بالأصول، مجتهد، ولد سنة خمس وعشرين وستمائة هـ، وتوفي سنة اثنتين وسبعمائة هـ، من آثاره: "الإمام في شرح الإلمام" ا. هـ. كشف الظنون "1/ 158"، شذرات الذهب "6/ 5"، الأعلام "6/ 283".
ج / 1 ص -137- وعلى الجملة: فلم يأتِ من خالف في العلم بخبر الواحد بشيء يصلح للتمسك به، ومن تتبع عمل الصحابة، من الخلفاء وغيرهم وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد وجد ذلك في غاية الكثرة بحيث لا يتسع له إلا مصنف بسيط وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل به في بعض الأحوال فذلك لأسباب خارجة عن كونه خبر واحد من ريبة الصحة أو تهمة للراوي أو وجود معارض راجح أو نحو ذلك.
أقسام الآحاد:
واعلم: أن الآحاد تنقسم إلى أقسام:
فمنها: خبر الواحد، وهو هذا الذي تقدم ذكره1.
والقسم الثاني: المستفيض، وهو ما رواه ثلاثة فصاعدًا، وقيل: ما زاد على الثلاثة، وقال أبو إسحاق الشيرازي: أقل ما تثبت به الاستفاضة اثنان، قال السبكي2: والمختار عندنا أن المستفيض ما يعده الناس شائعًا.
القسم الثالث: المشهور، وهو ما اشتهر ولو في القرن الثاني، أو الثالث، إلى حد ينقله ثقات لا يتوهم تواطؤهم على الكذب، ولا يعتبر الشهرة بعد القرنين.
هكذا "قالت"* قال الحنفية، فاعتبروا التواتر في بعض طبقاته، وهي الطبقة التي روته في القرن الثاني أو الثالث فقط، فبينه وبين المستفيض عموم وخصوص من وجه، لصدقهما على ما رواه الثلاثة فصاعدًا، ولم يتواتر في القرن الأول، ثم تواتر في أحد القرنين المذكورين، وانفرد المستفيض إذا لم ينته في أحدهما إلى التواتر وانفراد المشهور فيما رواه اثنان في القرن الأول ثم تواتر في الثاني والثالث وجعل الجصاص3 المشهور قسمًا من المتواتر ووافقه جماعة من أصحاب الحنفية. وأما جمهورهم فجعلوه قسيمًا للمتواتر لا قسمًا منه كما تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": قال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "133".
2 هو عبد الوهاب بن علي، أبو نصر السبكي، قاضي القضاة تاج الدين، ولد في القاهرة، سنة سبع وعشرين وسبعمائة هـ، وتوفي فيها سنة إحدى وسبعين وسبعمائة هـ، من آثاره: "طبقات الشافعية الكبرى" "جمع الجوامع". ا. هـ. الأعلام "4/ 184"، هدية العارفين "1/ 639".
3 هو أحمد بن علي الرازي، الإسفراييني، الحافظ الزاهد الثبت، أبو بكر الجصاص، انتهت إليه رياسة الحنفية في بغداد، ولد سنة خمس وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة سبعين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "أحكام القرآن" "كتاب في أصول الفقه". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 522"، كشف الظنون "1/ 20-562"، الأعلام "1/ 171".
ج / 1 ص -138- واعلم: أن الخلاف الذي ذكرناه1 في أول هذا البحث من إفادة خبر الآحاد الظن أو العلم، مقيد بما إذا كان خبر واحد لم ينضم إليه ما يقويه، وأما إذا انضم إليه ما يقويه، أو كان مشهورًا، أو مستفيضًا، فلا يجري فيه الخلاف المذكور ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل بمقتضاه فإنه يفيد العلم لأن الإجماع عليه قد صيره من المعلوم صدقه وهكذا خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول فكانوا بين عامل به ومتأول له.
ومن هذا القسم أحاديث صحيحي "البخاري2 ومسلم3" فإن الأمة تلقت ما فيهما بالقبول، ومن لم يعلم بالبعض من ذلك فقد أوله والتأويل فرع القبول والبحث مقرر بأدلته في غير هذا الموضع.
قيل: ومن خبر الواحد المعلوم صدقه أن يخبر به في حضور جماعة هي نصاب التواتر، ولم يقدحوا في روايته مع كونهم ممن يعرف علم الرواية ولا مانع يمنعهم من القدح في ذلك، وفي هذا نظر.
واختلفوا في خبر الواحد المحفوف بالقرائن، فقيل يفيد العلم، وقيل: لا يفيده، وهذا خلاف لفظي لأن القرائن إن كانت قوية بحيث يحصل لكل عاقل عندها العلم كان من المعلوم صدقه "وإلا فلا، وجه لما قاله الأكثرون من أنه لا يحصل العلم به لا بالقرائن ولا بغيرها. ومن المعلوم صدقه"* أيضًا إذا أخبر مخبر بحضرته صلى الله عليه وسلم بخبر يتعلق بالأمور الدينية، وسمعه صلى الله عليه وسلم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "135-136.
2 هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، أبو عبد الله البخاري، ولد سنة أربع وتسعين ومائة هـ، وكان يقول أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، توفي سنة ست وخمسين ومائتين هـ، من آثاره: "الجامع الصحيح" "تاريخ البخاري". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 391"، تذكرة الحفاظ "1/ 555"، شذرات الذهب "2/ 134".
وصحيح البخاري: اسمه "الجامع الصحيح" وهو أول الكتب الستة في الحديث وأفضلها، قال الإمام النووي: اتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن الكريم الصحيحان، صحيح البخاري، وصحيح مسلم، له شروح كثيرة جدًّا، منها: "شرح لابن حجر العسقلاني". ا. هـ. كشف الظنون "1/ 541".
3 هو الإمام، مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، الحافظ الكبير، المجود الحجة، الصادق، أبو الحسين، صاحب الصحيح، ولد سنة أربع ومائتين هـ، وتوفي سنة إحدى وستين ومائتين هـ، بنيسابور، من آثاره: "المسند الكبير" "المسند الصحيح" "التمييز" وغيرهما من الكتب كثير. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 557" تهذيب التهذيب "10/ 126"، تذكرة الحفاظ "2/ 588".
وصحيح مسلم. اسمه: "الجامع الصحيح" وهو ثاني أصح الكتب في الحديث، قال عنه الحسين بن علي النيسابوري: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم، وعلى هذا الكتاب شروح كثيرة أيضًا، أهمها: "شرح الإمام النووي". ا. هـ. كشف الظنون "1/ 555".
ج / 1 ص -139- ولم ينكر عليه، لا إذا كان الخبر بغير الأمور الدينية.
شروط العمل بخبر الواحد:
العمل بخبر الواحد له شروط:
منها ما هو في المخبِر، وهو الراوي، ومنها ما هو في المخبَر عنه، وهو مدلول الخبر، ومنها ما هو في الخبر نفسه وهو اللفظ الدال.
أما الشروط الراجعة إلى الراوي فخمسة:
الأول: التكليف
فلا تقبل رواية الصبي والمجنون، ونقل القاضي الإجماع على رد رواية الصبي.
واعترض عليه العنبري1. وقال: بل هما قولان للشافعي في إخباره عن القبلة، كما حكاه القاضي حسين في تعليقه2، قال: ولأصحابنا خلاف مشهور في قبول روايته في هلال رمضان وغيره.
قال الفوراني3: الأصح قبول روايته، والوجه في رد روايته أنه قد يعلم أنه غير آثم لارتفاع قلم التكليف عنه فيكذب. وقد أجمع الصحابة على عدم الرجوع إلى الصبيان مع أن فيهم من كان يطلع على أحوال النبوة، وقد رجعوا إلى النساء وسألوهن من وراء حجاب.
قال الغزالي في "المنخول": محل الخلاف في المراهق المتثبت في كلامه، أما غيره فلا يقبل قطعًا.
وهذا الاشتراط إنما هو باعتبار وقت الأداء للرواية، أما لو تحملها صبيًّا وأداها مكلفا، فقد أجمع السلف على قبولها كما في رواية ابن عباس، والحسنين4 ومن كان مماثلًا لهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله إبراهيم بن إسماعيل العنبري الطوسي، الإمام القدوة، الرباني الحافظ المجود أبو إسحاق، توفي بعد سنة ثمانين ومائتين هـ، وهو من أئمة الهدى، من آثاره: كتاب "المسند" في مائتين وتسعين جزءًا. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 377"، شذرات الذهب "2/ 205".
2 اسمها "التعليقة الكبرى في الفروع". كشف الظنون "1/ 424". "وانظر هنا 1/ 100 هامش3".
3 هو عبد الرحمن بن محمد بن فوران المروزي، العلامة الكبير، الشافعية، أبو القاسم له المصنفات الكبيرة في المذهب، كان سيد فقهاء مرو وتوفي سن إحدى وستين وأربع مائة هـ من آثاره: "أسرار الفقه" "شرح فروع ابن الحداد". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 264"، هدية العارفين "1/ 517"، الكامل في التاريخ "8/ 110".
4 وهما الحسن والحسين، ابنا سيدنا علي بن أبي طالب، والسيدة فاطمة الزهراء، رضي الله عنهم أجمعين.
ج / 1 ص -140- كمحمود بن الربيع فإنه روى حديثًا: "أنه صلى الله عليه وسلم مج في فيه مجة وهو ابن خمس سني"1، واعتمد العلماء روايته.
وقد كان من بعد الصحابة من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم يحضرون الصبيان مجالس الروايات ولم ينكر ذلك أحد وهكذا لو تحمل وهو فاسق أو كافر ثم روى وهو عدل مسلم، ولا أعرف خلافًا في عدم قبول رواية المجنون في حال جنونه، أما لو سمع في حال جنونه ثم أفاق فلا يصح ذلك؛ لأنه وقت الجنون غير ضابط.
وقد روى جماعة إجماع أهل المدينة على قبول رواية الصبيان بعضهم على بعض في الدماء، لمسيس الحاجة إلى ذلك لكثرة وقوع الجنايات فيما بينهم إذا انفردوا ولم يحضرهم من تصح شهادته وقيدوه بعدم تفرقهم بعد الجناية حتى يؤدوا الشهادة والأولى عدم القبول وعمل أهل المدينة لا تقوم به الحجة على ما سيأتي على أنَّا نمنع ثبوت هذا الإجماع الفعلي عنهم.
الشرط الثاني: الإسلام
فلا تقبل رواية الكافر؛ من يهودي أو نصراني، أو غيرهما إجماعًا، قال الرازي في "المحصول": أجمعت الأمة على أنه لا تقبل روايته سواء علم من دينه الاحتراز عن الكذب أو لم يعلم، قال والمخالف من أهل القبلة إذا كفرناه كالمجسم وغيره هل تقبل روايته أم لا؟ الحق أنه إن كان مذهبه جواز الكذب لا تقبل روايته وإلا قبلناها وهو قول أبي الحسين البصري.
وقال القاضي أبو بكر، والقاضي عبد الجبار: لا تقبل روايتهم.
لنا: أن المقتضى للعمل بها قائم، ولا معارض، فوجب العمل بها.
بيان أن المقتضى قائم: أن الاعتقاد لحرمة الكذب يزجره عن الإقدام عليها، فيحصل ظن الصدق، فيجب العمل بها، وبيان أنه لا معارض: أنهم أجمعوا على أن الكافر الذي ليس من أهل القبلة لا تقبل روايته وذلك الكفر منتفٍ ههنا، قال واحتج المخالف بالنص والقياس أما النص فقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}2 فأمر بالتثبت عند نبأ الفاسق، وهذا الكافر فاسق فوجب التثبت عند خبره.
وأما القياس: فقد أجمعنا على أن الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة لا تقبل روايته، فكذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب من لم يَرَ رد السلام على الإمام واكتفى بتسليم الصلاة "839". ومسلم، في المساجد، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة لعذر "657". وابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب المساجد في الدور "754". الطبراني في الكبير "18/ 54". وابن حبان في صحيحه "4534".
2 جزء من الآية "6" من سورة الحجرات.
ج / 1 ص -141- هذا الكافر، والجامع أن قبول الرواية تنفيذ لقوله على كل المسلمين، وهذا منصب شريف، والكفر يقتضي الإذلال، وبينهما منافاة أقصى ما في الباب أن يقال: هذا الكافر جاهل لكونه كافرًا لكنه لا يصلح عذرًا.
والجواب عن الأول: أن اسم الفاسق في عرف الشرع مختص بالمسلم المقدم على الكبيرة.
وعن الثاني: الفرق بين الموضعين أن الكفر الخارج عن الملة أغلظ من كفر صاحب التأويل، وقد رأينا الشرع فرق بينهما في أمور كثيرة، ومع ظهور الفرق لا يجوز الجمع هكذا قال الرازي.
والحاصل: أنه إن علم من مذهب المبتدع جواز الكذب مطلقًا لم تقبل روايته قطعًا، وإن علم من مذهبه جوازه في أمر خاص كالكذب فيما يتعلق بنصرة مذهبه، أو الكذب فيما هو ترغيب في طاعة، أو ترهيب عن معصية، فقال الجمهور ومنهم القاضيان: أبو بكر وعبد الجبار، والغزالي والآمدي، لا يقبل، قياسًا على الفاسق، بل هو أولى، وقال أبو الحسين البصري: يقبل، وهو رأي الجويني وأتباعه.
والحق: عدم القبول مطلقًا في الأول، وعدم قبوله في ذلك الأمر الخاص في الثاني، ولا فرق في هذا بين المبتدع الذي يكفر ببدعته.
وبين المبتدع الذي لا يكفر ببدعته وأما إذا كان ذلك المبتدع لا يستجيز الكذب فاختلفوا فيه على أقوال:
الأول:
رد روايته مطلقًا لأنه قد فسق ببدعته فهو كالفاسق بفعل المعصية، وبه قال القاضي، والأستاذ أبو منصور، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي.
والقول الثاني:
أنه يقبل وهو ظاهر مذهب الشافعي، وابن أبي ليلى1 والثوري2 وأبي يوسف3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، العلامة الإمام، مفتي الكوفة وقاضيها، ولد سنة نيف وسبعين هـ، كان نظيرًا للإمام أبي حنيفة في الفقه، توفي سنة ثمان وأربعين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 310"، تهذيب التهذيب "9/ 301"، الجرح والتعديل "7/ 322".
2 هو سفيان بن سعيد بن مسروق، أبو عبد الله، الشيخ الإمام الحافظ، أمير المؤمنين في الحديث، سيد العلماء العاملين في زمانه، ولد سنة سبع وتسعين هـ، وتوفي سنة إحدى وستين ومائة هـ. من آثاره: "الجامع الكبير والجامع الصغير" كلاهما في الحديث، وله "كتاب في الفرائض". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 229"، الأعلام "3/ 104".
3 هو يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، الكوفي، الإمام المجتهد، المحدث العلامة، قاضي القضاة، صاحب الإمام أبي حنيفة، ولد سنة ثلاث عشرة ومائة هـ، وتوفي في خلافة الرشيد ببغداد سن اثنتين وثمانين ومائة هـ، من آثاره: "الخراج" "الآثار" "اختلاف الأمصار". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 535"، شذرات الذهب "1/ 298"، الأعلام "8/ 193".
ج / 1 ص -142- والقول الثالث:
أنه إذا كان داعية إلى بدعته لم يقبل، وإلا قبل وحكاه القاضي عبد الوهاب1 في "المخلص" عن مالك وبه جزم سليم.
قال القاضي عياض: وهذا يحتمل أنه إذا لم يدع يقبل، ويحتمل أنه لا يقبل مطلقًا انتهى.
والحق: أنه لا يقبل فيما يدعو إلى بدعته ويقويها، لا في غير ذلك. قال الخطيب2: وهو مذهب أحمد، ونسبه ابن الصلاح3 إلى الأكثرين. قال وهو أعدل المذاهب وأولاها.
وفي الصحيحين كثير من أحاديث المبتدعة غير الدعاة احتجاجًا واستشهادًا، كعمران بن حطان4 وداود بن الحصين5 وغيرهما ونقل أبو حاتم بن حبان6 في كتاب "الثقات" الإجماع على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد الوهاب بن علي بن نصر، الثعلبي، البغدادي، أبو محمد، قاضٍ من فقهاء المالكية، ولد سنة اثنتين وستين وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة هـ، من آثاره: "التلقين" "عيون المسائل" "النصرة لمذهب مالك". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 429"، هدية العارفين "2/ 637"، كشف الظنون "1/ 481".
أما كتابه "الملخص" فلعله هو كتاب "التخليص" الذي سيأتي ذكره "ص298".
2 هو أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، أبو بكر، الإمام الأوحد، العلامة المفتي، الحافط الناقد، ولد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة هـ، توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة هـ، من آثاره: "تاريخ بغداد" "اقتضاء العلم العمل" "التبيين لأسماء المدلسين" وغيرها كثير. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 270"، هدية العارفين "1/ 79"، تذكرة الحفاظ "3/ 1135".
3 هو عثمان بن صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان، الموصلي الشافعي، أبو عمرو، الإمام الحافظ العلامة، شيخ الإسلام، تقي الدين، ولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة هـ، وتوفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة هـ، كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث، والفقه، وأسماء الرجال، وما يتعلق بعلم الحديث واللغة، وإذا أطلق الشيخ في علماء الحديث فالمراد هو، من آثاره: "علوم الحديث" المعروف بمقدمة ابن الصلاح. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "23/ 140"، تذكرة الحفاظ "4/ 1430".
4 هو من أعيان العلماء، لكنه من رءوس الخوارج، حدث عن عائشة، وأبي موسى، وابن عباس، توفي سنة أربع وثمانين هـ، وكان سبب انتقاله إلى الخوارج: أن تزوج امرأة ليردها عن ذلك فصرفته إلى مذهبها، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 214"، تهذيب التهذيب "8/ 127"، شذرات الذهب "1/ 95".
5 الفقيه الأموي، أبو سليمان، روى عن أبيه وعكرمة، ونافع وأبي سفيان، توفي سنة خمس وثلاثين ومائة هـ، وهو ثقة، وقد ترك بعضهم حديثه لو هم منهم. ا. هـ. سير أعلام البنلاء "6/ 106"، الجرح والتعديل "3/ 408، تهذيب التهذيب "3/ 181".
6 هو محمد بن حبان بن أحمد، التميمي، البستي، الشافعي، صاحب الصحيح، العلامة المحدث أبو حاتم، شيخ خراسان، ولد سنة بضع وسبعين ومائتين هـ، وهو مؤرخ جغرافي، توفي سنة أربع وخمسين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "المسند الصحيح" "الصحابة" "التابعين" وله أيضًا كتاب "الثقات". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 92"، الأعلام "6/ 78"، تذكرة الحافظ "3/ 920".
ج / 1 ص -143- قال ابن دقيق العيد: جعل بعض المتأخرين من أهل الحديث هذا المذهب متفقًا عليه، وليس كما قال.
وقال ابن القطان في كتاب "الوهم والإيهام"1: الخلاف إنما هو في غير الداعية، أما الداعية، فهو ساقط عند الجميع.
قال أبو الوليد الباجي2: الخلاف في الداعية بمعنى أنه يظهر بدعته بمعنى حمل الناس عليها فلم يختلف في ترك حديثه.
الشرط الثالث: العدالة
قال الرازي في "المحصول": هي هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعًا حتى يحصل ثقة النفس بصدقة ويعتبر فيها الاجتناب عن الكبائر وعن بعض الصغائر كالتطفيف بالحبة، وسرقة باقة من البقل، وعن المباحات القادحة في المروءة، كالأكل في الطريق، والبول في الشارع، وصحبة الأرذال والإفراط في المزاح، والضابط فيه أن كل ما لا يؤمن "معه"* جراءته على الكذب يرد الرواية وما لا فلا، انتهى.
وأصل العدالة في اللغة: الاستقامة، يقال: طريق عدل أي مستقيم، وتطلق على استقامة السيرة والدين، قال الزركشي في "البحر": واعلم أن العدالة شرط بالاتفاق ولكن اختلف في معناها فعند الحنفية عبارة عن الإسلام مع عدم الفسق. وعندنا ملكة في النفس تمنع عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة والرذائل المباحة كالبول في الطريق والمراد جنس الكبائر والرذائل الصادق بواحدة.
قال ابن القشيري: والذي صح عن الشافعي أنه قال: في الناس من يمحض الطاعة فلا يمزجها بمعصية وفي المسلمين من يمحض المعصية ولا يمزجها بالطاعة فلا سبيل إلى رد الكل ولا إلى قبول الكل، فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته وروايته، وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة رددتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": من.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه: "بيان الوهم والإيهام في الحديث" للشيخ أبي الحسن، علي بن محمد بن عبد الملك المعروف بابن القطان، الفاسي، الفقيه، الأصولي، المحدث المتوفى سنة ثمان وعشرين وستمائة هـ، وهو غير ابن القطان المتقدم في الصفحة "110"، صحح في كتابه هذا عدة أحاديث. ا. هـ. معجم المؤلفين "7/ 213"، كشف الظنون "1/ 262".
2 هو سليمان بن خلف، الإمام العلامة الحافظ، القاضي، أبو الوليد، ولد سنة ثلاث وأربعمائة هـ، من آثاره: "الاستيفاء" "الإيماء في الفقه" وغيرهما، توفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة هـ، ا. هـ. أعلام النبلاء "18/ 535"، تذكرة الحفاظ "3/ 1178"، معجم الأدباء "11/ 246".
ج / 1 ص -144- قال ابن السمعاني: لا بد في العدل من أربع شرائط: المحافظة على فعل الطاعة واجتناب المعصية، وأن لا يرتكب من الصغائر ما يقدح في دين أو عرض، وأن لا يفعل من المباحات ما يسقط القدر ويكسب الندم، وأن لا يعتقد من المذاهب ما يرده أصول الشرع.
قال الجويني: الثقة هي المعتمد عليها في الخبر، فمتى حصلت الثقة بالخبر قبل.
وقال ابن الحاجب في حد العدالة: هي محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة فزاد قيد عدم البدعة، وقد عرفت ما هو الحق في أهل البدع في الشرط الذي مر قبل هذا.
والأولى أن يقال في تعريف العدالة: إنها التمسك بآداب الشرع فمن تمسك بها فعلًاوتركا فهو العدل المرضي، ومن أخل بشيء منها فإن كان الإخلال بذلك الشيء يقدح في دين فاعله أو تاركه، كفعل الحرام وترك الواجب فليس بعدل، وأما اعتبار العادات الجارية بين الناس المختلفة باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال، فلا مدخل لذلك في هذا الأمر الديني الذي تنبني عليه قنطرتان عظيمتان وجسران كبيران وهما الرواية والشهادة.
نعم من فعل ما يخالف ما يعده الناس مروءة عرفًا لا شرعًا فهو تارك للمروءة العرفية ولا يستلزم ذلك ذهاب مروءته الشرعية.
وقد اختلف الناس هل المعاصي منقسمة إلى صغائر وكبائر أم هي قسم واحد؟
فذهب الجمهور إلى أنها منقسمة إلى صغائر وكبائر، ويدل على ذلك قوله سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم}1 وقوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَان}2، ويدل عليه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم متواترًا من تخصيص بعض الذنوب باسم الكبائر وبعضها بأكبر الكبائر.
وذهب جماعة إلى أن المعاصي قسم واحد ومنهم الأستاذ أبو إسحاق، والجويني وابن فورك، ومن تابعهم قالوا: إن المعاصي كلها كبائر. وإنما يقال لبعضها صغيرة بالنسبة إلى ما هو أكبر كما يقال الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا وكلها كبائر.
قالوا: ومعنى قوله {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْه}: إن تجتنبوا الكفر كفرت عنكم سيئاتكم التي هي دون الكفر، والقول الأول راجح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 31 من سورة النساء.
2 جزء من الآية 7 من سورة الحجرات.
ج / 1 ص -145- وههنا مذهب ثالث ذهب إليه الحلمي1 فقال: إن المعاصي "تنقسم"* إلى ثلاثة أقسام:
صغيرة، وكبيرة، وفاحشة؛ فقتل النفس بغير حق كبيرة، فإن قتل ذا رحم له ففاحشة، فأما الخدشة والضربة مرة أو مرتين فصغيرة وجعل سائر الذنوب هكذا.
ثم اختلفوا في الكبائر هل تعرف بالحد أو لا تعرف إلا بالعدد، فقال الجمهور: إنها تعرف بالحد، ثم اختلفوا في ذلك فقيل إنها المعاصي الموجبة للحد. وقال بعضهم هي ما يلحق صاحبها وعيد شديد. وقال آخرون ما يشعر بقلة اكتراث مرتكبها بالدين. وقيل: ما كان فيه مفسدة.
وقال الجويني: ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في حقه حد، وقيل: ما ورد الوعيد عليه مع الحد، أو لفظ يفيد الكبر.
وقال جماعة: إنها لا تعرف إلا بالعدد، ثم اختلفوا هل تنحصر في عدد معين أم لا؟ فقيل: هي سبع، وقيل: تسع، وقيل: عشر، وقيل: اثنتا عشرة، وقيل: أربع عشرة، وقيل: ست وثلاثون، وقيل: سبعون. وإلى السبعين أنهاها الحافظ الذهبي2 في "جزء صنفه" في ذلك.
وقد جمع ابن حجر الهيتمي3 فيها مصنفًا حافلًا سماه الزواجر في الكبائر" وذكر فيه نحو أربعمائة معصية.
وبالجملة فلا دليل يدل على انحصارها في عدد معين، ومن المنصوص عليه منها: القتل، والزنا، واللواطة، وشرب الخمر، والسرقة، والغصب، والقذف، والنميمة، وشهادة الزور،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": تنقسم حد الكبائر إلى ثلاثة أقسام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم، القاضي العلامة، رئيس المحدثين، أبو عبد الله البخاري الشافعي، أحد الأذكياء الموصوفين، ولد سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة هـ، توفي سنة ثلاث وأربعمائة هـ، من آثاره: "منهاج الدين في شعب الإيمان". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 231"، هدية العارفين "1/ 308"، تذكرة الحفاظ "3/ 1030"، شذرات الذهب "3/ 165".
2 هو محمد بن أحمد بن عثمان، شمس الدين، أبو عبد الله، الحافظ المؤرخ، العلامة المحقق، ولد في دمشق سنة ثلاث وسبعين وستمائة هـ، وأقام في دمشق وغوطتها، وأقام مدة في قرية كفر بطنا من قرى الغوطة وهي قرية هادئة غناء ألف فيها خيرة كتبه، توفي سنة ثمان وأربعين وسبعمائة هـ، من آثاره: "سير أعلام النبلاء" "الكبائر" "تذكرة الحفاظ" وغيرها كثير من الكتب. ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 153"، ذيل تذكرة الحفاظ "34"، سير أعلام النبلاء "المقدمة"، الأعلام "5/ 326".
3 هو أحمد بن محمد بن علي بن حجر التميمي، السعدي، الأنصاري، شهاب الدين، أبو العباس، فقيه، مصري، باحث، ولد بمحلة أبي الهيتم بمصر سنة تسع وتسعمائة هـ، وتوفي سنة أربع وسبعين وتسعمائة هـ، من آثاره: "الخيرات الحسان" "تحفة المحتاج لشرح المنهاج" "الزواجر عن اقتراب الكبائر". ا. هـ. الأعلام "1/ 224"، خلاصة الأثر "2/ 166".
ج / 1 ص -146- واليمين الفاجرة، وقطيعة الرحم، والعقوق والفرار من الزحف، وأخذ مال اليتيم، وخيانة الكيل، والوزن، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقديم الصلاة وتأخيرها وضرب المسلم وسب الصحابة وكتمان الشهادة والرشوة والدياثة1، ومنع الزكاة، واليأس من الرحمة وأمن المكر والظهار وأكل لحم الخنزير والميتة وفطر رمضان والربا والغلول والسحر وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونسيان القرآن بعد تعلمه وإحراق الحيوان بالنار وامتناع الزوجة عن زوجها بلا سبب.
وقد قيل: إن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة، وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به، وإنما هي مقالة لبعض الصوفية فإنه قال لا صغيرة مع إصرار. وقد روى بعض من لا يعرف علم الرواية هذا اللفظ وجعله حديثًا ولا يصح ذلك، بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه فالإصرار على الصغيرة صغيرة والإصرار على الكبيرة كبيرة.
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أنه لا عدالة لفاسق.
وقد حكى مسلم في "صحيحه"2 الإجماع على رد خبر الفاسق فقال: إنه غير مقبول عند أهل العلم كما أن شهادته مردودة عند جميعهم. قال الجويني: والحنفية وإن باحوا بقبول شهادة الفاسق فلم "يبوحوا"* بقبول روايته، فإن قال به قائل فهو مسبوق بالإجماع.
قال الرازي في "المحصول": إذا أقدم على الفسق فإن علم كونه فسقًا لم تقبل روايته وإن لم يعلم كونه فسقًا فإما أن يكون مظنونا، أو مقطوعًا فإن كان مظنونًا قبلت روايته بالاتفاق، قال وإن كان مقطوعًا به قبلت أيضا.
لنا: أن ظن صدقه راجح، والعلم بهذا الظن واجب والمعارض المجمع عليه منتفٍ فوجب العمل به.
احتج الخصم: بأن منصب الرواية لا يليق بالفاسق أقصى ما في الباب: أنه جهل فسقه، لكن جهله بفسقه فسق آخر، فإذا منع أحد الفسقين عن قبول الرواية فالفسقان أولى بذلك المنع.
والجواب: أنه إذا علم كونه فسقًا دل إقدامه عليه على اجترائه على المعصية بخلاف إذا لم يعلم ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": يوجبوا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدياثة: القيادة "إدخال الرجال على الحرم للزنا"، والديوث هو الذي لا يغار على أهله.
2 صحيح مسلم شرح النووي "1/ 62".
ج / 1 ص -147- ويجاب عن هذا الجواب: أن إخلاله بأمور دينه إلى حد يجهل معه ما يوجب الفسق يدل أبلغ دلالة على اجترائه على دينه وتهاونه بما يجب عليه من معرفته.
واختلف أهل العلم في رواية المجهول، أي: مجهول الحال مع كونه معروف العين برواية عدلين عنه، فذهب الجمهور كما حكاه ابن الصلاح وغيره عنهم: أن روايته غير مقبولة، وقال أبو حنيفة1: تقبل روايته اكتفاء بسلامته من التفسيق ظاهرًا، وقال جماعة إن كان الراويان أو الرواة عنه لا يروون عن غير عدل قبل وإلا فلا، وهذا الخلاف فيمن لا يعرف حاله ظاهرًا ولا باطنًا، وأما من كان عدلًا في الظاهر ومجهول العدالة في الباطن. فقال أبو حنيفة يقبل ما لم يعلم الجرح.
وقال الشافعي: لا يقبل ما لم تعلم العدالة، وحكاه إلكيا عن الأكثرين، وذكر الأصفهاني أن المتأخرين من الحنفية قيدوا القول بالقبول بصدر الإسلام، بغلبة العدالة على الناس إذ ذاك، قالوا وأما المستور في زماننا فلا يقبل لكثرة الفساد وقلة الرشاد.
وقال الجويني: بالوقف -إذا روى التحريم- إلى ظهور حاله، "وأما"* مجهول العين وهو من لم يشتهر ولم يروِ عنه إلا راوٍ واحد فذهب جمهور أهل العلم أنه لا يقبل ولم يخالف في ذلك إلا من لم يشترط في الراوي إلا مجرد الإسلام.
وقال ابن عبد البر: إن كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل كابن مهدي وابن معين ويحيى القطان2 فإنه "يكفي"** وترتفع عنه الجهالة العينية وإلا فلا.
وقال أبو الحسين بن القطان: إن زكاه أحد من أئمة الجرح والتعديل، مع روايته، عنه وعمله بما رواه قبل، وإلا فلا، وهذا هو ظاهر تصرف ابن حبان في "ثقاته" فإنه يحكم برفع الجهالة برواية واحدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ولنا.
** في "أ": تنتفي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو النعمان بن ثابت، الإمام الفقيه، عالم العراق، ولد سنة ثمانين هـ، ورأى أنس بن مالك، وعامر بن الطفيل، وسهل بن سعد الساعدي من الصحابة، كان يسمى بالوتد لكثرة صلاته، توفي في السجن ببغداد سنة خمسين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 390"، شذرات الذهب "1/ 237"، تذكرة الحفاظ "1/ 168".
2 هو يحيى بن سعيد بن فروخ، الإمام الكبير، أمير المؤمنين في الحديث أبو سعيد، التميمي، ولد سنة عشرين ومائة هـ، توفي سنة تسعين ومائة هـ، كان عشرين سنة يختم كل ليلة، قال عنه ابن مهدي: لا ترى بعينك مثل يحيى القطان. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 175"، تهذيب التهذيب "11/ 216"، شذرات الذهب "1/ 355".
ج / 1 ص -148- وحكي ذلك عن النسائي1 أيضًا قال أبو الوليد الباجي: ذهب جمهور أصحاب الحديث إلى أن الراوي إذا روى عنه اثنان فصاعدًا انتفت عنه الجهالة، وهذا ليس بصحيح عند المحققين من أصحاب الأصول لأنه قد يروي الجماعة عن الواحد لا يعرفون حاله ولا يخبرون شيئًا من أمره ويحدثون بما رووا عنه "ولا يخرجه روايتهم عنه"* "عن"** على الجهالة؛ إذ لم يعرفوا عدالته؛ انتهى.
وفيه نظر؛ لأنهم إنما يقولون بارتفاع جهالة العين برواية الاثنين فصاعدًا عنه لا بارتفاع جهالة الحال كما سبق.
والحق لأنها لا تقبل رواية مجهول العين ولا مجهول الحال؛ لأن حصول الظن بالمروي لا يكون إلا إذا كان الراوي عدلًا وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على المنع من العمل بالظن كقوله سبحانه: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}2 وقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم}3؛ وقام الإجماع على قبول رواية العدل فكان كالمخصص لذلك العموم، فبقي من ليس بعدل داخلًا تحت العمومات وأيضًا قد تقرر عدم قبول رواية الفاسق ومجهول العين أو الحال يحتمل أن يكون فاسقًا وأن يكون غير فاسق فلا تقبل روايته مع هذا الاحتمال لأن عدم الفسق شرط في جواز الرواية عند فلا بد من العلم بوجود هذا الشرط وأيضًا وجود الفسق مانع من قبول روايته فلا بد من العلم بانتفاء هذا المانع.
وأما استدلال من قال بالقبول بما يروونه من قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن نحكم بالظاهر"4. فقال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين القوسين ساقط من "أ".
** في "أ": على.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أحمد بن شعيب الإمام الحافظ الثبت، شيخ الإسلام، ناقد الحديث، أبو عبد الرحمن، صاحب السنن، ولد في نسا سنة خمس عشرة ومائتين هـ، وتوفي في طريقه إلى الحج شهيدًا بعد أن امتحن بدمشق سنة ثلاث وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 125"، شذرات الذهب "2/ 239"، تذكرة الحفاظ "2/ 698".
2 جزء من الآية "28" من سورة النجم.
3 جزء من الآية "36" من سورة الإسراء.
4 قال السخاوي في المقاصد الحسنة "178": اشتهر بين الأصوليين والفقهاء، ولا وجود له في كتب الحديث المشهور ولا الأجزاء المنثورة، وجزم العراقي بأنه لا أصل له، وكذا أنكره المزي وغيره، وتبعه على ذلك العجلوني في كشف الخفاء "1/ 192"، وزاد نقله على الزركشي، فقد قال: لا يعرف بهذا اللفظ، وابن كثير قال: لم أقف له على سند، وأنكره القاري والحافظ ابن الملقن.
انظر المصنوع في معرفة الحديث الموضوع رقم "38" بتحقيق مولانا الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، فقد نبه فيه على غلط وقع للسخاوي وتبعه بعض العلماء.
ج / 1 ص -149- الذهبي والمزي1 وغيرهما من الحفاظ لا أصل له، وإنما هو من كلام بعض السلف ولو سلمنا أن له أصلًا لم يصلح للاستدلال به على محل النزاع لأن صدق المجهول غير ظاهر، بل صدقه وكذبه مستويان وإذا عرفت هذا فلا يصدهم ما استشهدوا به لهذا الحديث الذي لم يصح بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أقضي بنحو ما أسمع"2 وهو في الصحيح وبما روي من قوله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس يوم بدر لما اعتذر بأنه أكره على الخروج فقال: "كان ظاهرك علينا"3، وبما في صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه: "إنما نؤاخذكم بما ظهر لنا من أعمالكم"4.
الشرط الرابع: الضبط
فلا بد أن يكون الراوي ضابطًا لما يرويه ليكون المروي له على ثقة منه في حفظه وقلة غلطه وسهوه، فإن كان كثير الغلط والسهو ردت روايته إلا فيما علم أنه لم يغلط فيه ولا سها عنه، وإن كان قليل الغلط قبل خبره إلا فيما يعلم أنه غلط فيه، كذا قال ابن السمعاني وغيره، قال أبو بكر الصيرفي: من أخطأ في حديث فليس بدليل على الخطأ في غيره، ولم يسقط لذلك حديثه، ومن كثر بذلك خطؤه وغلطه لم يقبل خبره لأن المدار على حفظ الحكاية.
قال الترمذي5 في "العلل"6: كل من كان متهمًا في الحديث بالكذب، أو كان مغفلًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف القضاعي، الكلبي الحلبي الدمشقي، الحافظ جمال الدين أبو الحجاج، محدث، حافظ، مشارك في الأصول والفقه والنحو، ولد سنة أربع وخمسين وستمائة هـ، وتوفي سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة هـ، من آثاره: "أطراف الكتب الستة" خمس مجلدات "تهذيب الكمال في أسماء الرجال". ا. هـ. معجم المؤلفين "13/ 308"، هدية العارفين "1/ 556"، الأعلام "8/ 236"، شذرات الذهب "6/ 136".
2 أخرجه البخاري: من حديث أم سلمة، كتاب المظالم والغصب، باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه "2458" ومسلم، كتاب الأقضية باب بيان أن حكم الحاكم لا يغير الباطن "1713" وابن ماجة كتاب الأحكام، باب قضية الحاكم لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالًا "2317". والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في التشديد على من يُقضى له بشيء ليس له أن يأخذه "1339" بنحوه وقال: حسن صحيح.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه "5070"، والبيهقي في السنن، كتاب آداب القاضي، باب من قال: ليس للقاضي أن يقضي بعلمه "10/ 143". والنسائي، كتاب آداب القاضي، باب الحكم بالظاهر "5416" 8/ 233.
3 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة بلفظ: "فأما ظاهرًا منك كان علينا فافد نفسك" "3/ 142" وابن كثير في "البداية والنهاية" "3/ 299" بلفظ: "أما ظاهرك فكان علينا والله أعلم بإسلامك".
4 أخرجه البخاري، كتاب الشهادات باب الشهداء العدول "2641" وذكره الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة موقوفًا على سيدنا عمر ر ضي الله عنه "178". وقال ابن حجر في التلخيص الحبير عن عمر رضي الله عنه قال: "إنما كانوا يؤخذون بالوحي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم" وفي الباب من حديث أبي سعيد الخدري "2100".
5 هو محمد بن عيسى بن سورة، الترمذي، الحافظ، الإمام البارع، الضرير، ولد سنة عشر ومائتين هـ، وحدث عن إسحاق بن راهويه، ومحمود بن غيلان، وغيرهم، توفي في ترمذ سنة تسع وسبعين ومائتين هـ.
ا. هـ. تذكرة الحافظ "2/ 635"، شذرات الذهب "2/ 174"، سير أعلام النبلاء "13/ 273".
6 واسمه: "العلل في الحديث"، وهو مطبوع. انظر كشف الظنون "2/ 1440".
ج / 1 ص -150- يخطئ الكثير فالذي اختاره أكثر أهل الحديث من الأئمة أن لا يشتغل بالرواية عنه انتهى.
والحاصل أن الأحوال ثلاثة: إن غلب خطؤه وسهوه على حفظه فمردود إلا فيما علم أنه لم يخطئ فيه وإن غلب حفظه على خطئه وسهوه فمقبول إلا فيما علم أنه أخطأ فيه وإن استويا بالخلاف، قال القاضي عبد الجبار يقبل لأن جهة التصديق راجحة في خبره لعقله ودينه، وقال الشيخ أبو إسحاق: إنه يرد وقيل إنه يقبل خبره إذا كان مفسرًا وهو أن يذكر من روى عنه ويعين وقت السماع منه وما أشبه ذلك وإلا فلا يقبل وبه قال القاضي حسين وحكاه الجويني عن الشافعي في الشهادة، ففي الرواية أولى، وقد أطلق جماعة من المصنفين في علوم الحديث: أن الراوي إن كان تام الضبط مع بقية الشروط المعتبرة فحديثه من قسم الصحيح، وإن خف ضبطه فحديثه من قسم الحسن، وإن كثر غلطه فحديثه من قسم الضعيف، ولا بد من تقييد هذا بما إذا لم يعلم بأنه لم يخطئ فيما رواه.
قال إلكيا الطبري: ولا يشترط انتفاء الغفلة ولا يوجب لحوق الغفلة له رد حديثه إلا أن يعلم أنه قد لحقته الغفلة فيه بعينه، وما ذكره صحيح إذا كان ممن تعتريه الغفلة في غير ما يرويه كما وقع ذلك لجماعة من الحفاظ فإنهم قد تلحقهم الغفلة في كثير من أمور الدنيا فإذا رووا كانوا من أحذق الناس بالرواية وأنبههم فيما يتعلق بها وليس من شرط الضبط أن يضبط اللفظ بعينه كما سيأتي1.
الشرط الخامس: أن لا يكون الراوي مدلسًا
وسواء كان التدليس في المتن أو في الإسناد.
أما التدليس في المتن فهو أن يزيد في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام غيره فيظن السامع أن الجميع من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما التدليس في الإسناد فهو على أنواع:
أحدها: أن يكون في إبدال الأسماء فيعبر عن الراوي وعن أبيه بغير اسميهما وهذا نوع من الكذب.
وثانيهما: أن يسميه بتسمية غير مشهورة فيظن السامع أنه رجل آخر غير من قصده الراوي وذلك مثل من يكون مشهورًا باسمه فيذكره الراوي بكنيته أو العكس إيهامًا للمروي له بأنه رجل آخر غير ذلك الرجل، فإن كان مقصد الراوي بذلك التغرير على السامع بأن المروي عنه غير ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "158".
ج / 1 ص -151- الرجل فلا يخلو إما أن يكون ذلك الرجل المروي عنه ضعيفًا وكان العدول إلى غير المشهور من اسمه أو كنيته ليظن السامع أنه رجل آخر غير ذلك الضعيف. فهذا التدليس قادح في عدالة الراوي، وإما أن يكون مقصد الراوي مجرد الإغراب على السامع مع كون المروي عنه عدلًا على كل حال فليس هذا النوع من التدليس بجرح كما قال ابن الصلاح وابن السمعان،ي وقال أبو الفتح بن برهان هو جرح.
وثالثهما: أن يكون التدليس باطراح اسم الراوي الأقرب وإضافة الرواية إلى من هو أبعد منه مثل أن يترك شيخه ويروي الحديث عن شيخ شيخه، فإن كان المتروك ضعيفًا فذلك من الخيانة في الرواية ولا يفعله إلا من ليس بكامل العدالة، وإن كان المتروك ثقة وترك ذكره لغرض من الأغراض التي لا تنافي الأمانة والصدق ولا تتضمن التغرير على السامع فلا يكون ذلك قادحًا في عدالة الراوي، لكن إذا جاء في الرواية بصيغة محتملة نحو أن يقول: قال فلان أو رُوي عن فلان أو نحو ذلك، أما لو قال حدثنا فلان أو أخبرنا وهو لم يحدث ولم يخبره بل الذي حدثه أو أخبره هو من ترك ذكره فذلك كذب يقدح في عدالته. والحاصل أن من كان ثقة واشتهر بالتدليس فلا يقبل إلا إذا قال حدثنا أو أخبرنا أو سمعت لا إذا لم يقل كذلك لاحتمال أن يكون قد أسقط من لا تقوم الحجة بمثله.
أما الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر:
فالأول:
منها أن لا يستحيل وجوده في العقل فإن أحاله العقل رد.
الشرط الثاني:
أن لا يكون مخالفًا لنص مقطوع به على وجه لا يمكن الجمع بينهما بحال.
الشرط الثالث:
أن لا يكون مخالفًا لإجماع الأمة عند من يقول بأنه حجة قطعية. وأما إذا خالف القياس القطعي فقال الجمهور: إنه مقدم على القياس. وقيل: إن كانت مقدمات القياس قطعية قدم القياس وإن كانت ظنية قدم الخبر، وإليه ذهب أبو بكر الأبهري1، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: إنهما متساويان، وقال عيسى بن أبان2: إن كان الراوي ضابطًا عالمًا قدم خبره وإلا محل اجتهاد، وقال أبو الحسين البصري: إن كانت العلة ثابتة بدليل قطعي فالقياس مقدم وإن كان حكم الأصل مقطوعًا به خاصة دون العلة فالاجتهاد فيه واجب حتى يظهر ترجيح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن عبد الله التميمي، الأبهري المالكي، أبو بكر، الإمام العلامة، القاضي المحدث شيخ المالكية، ولد سنة تسعين ومائتين، وتوفي سنة خمس وسبعين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "شرح مختصر عبد الله بن الحكيم". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 332"، هدية العارفين "2/ 50"، شذرات الذهب "3/ 85".
2 هو عيسى بن أبان بن صدقة، القاضي، أبو موسى البغدادي، الحنفي توفي بالبصرة سنة عشرين ومائتين هـ، من آثاره: "إثبات القياس" "اجتهاد الرأي"، وغيرها، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 440"، هدية العارفين "1/ 806"، الفوائد البهية "151".
ج / 1 ص -152- أحدهما فيعمل به، وإلا فالخبر مقدم.
وقال أبو الحسين الصيمري1: لا خلاف في العلة المنصوص عليها، وإنما الخلاف في المستنبطة قال إلكيا: قدم الجمهور خبر الضابط على القياس لأن القياس عرضه الزلل انتهى.
والحق: تقديم الخبر الخارج من مخرج صحيح أو حسن على القياس مطلقًا، إذا لم يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه، كحديث المصراة2 وحديث العرايا3 فإنهما مقدمان على القياس، وقد كان الصحابة التابعون إذا جاءهم الخبر لم يلتفتوا إلى القياس ولا ينظروا فيه، وما روي عن بعضهم من تقديم القياس في بعض المواطن فبعضه غير صحيح، وبعضه محمول على أنه لم يثبت الخبر عند من قدم القياس بوجه من الوجوه.
ومما يدل على تقديم الخبر على القياس حديث معاذ4 فإنه قدم العمل بالكتاب والسنة على اجتهاده.
ومما يرجح تقديم الخبر على القياس أن الخبر يحتاج إلى النظر في أمرين: وهما دلالته، عدالة الراوي ودلالة الخبر، والقياس يحتاج إلى النظر في ستة أمور: حكم الأصل وتعليله في الجملة، وتعين الوصف الذي به التعليل ووجود ذلك الوصف في الفرع ونفي المعارض في الأصل ونفيه في الفرع هذا إذا لم يكن دليل الأصل خبرًا، فإن كان خبرًا كان النظر في ثمانية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبو الحسين البصري: وقد سبق ترجمته، ونسبه هنا إلى نهر صيمر في البصرة.
2 وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصروا الغنم ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر". والبخاري عن أبي هريرة، كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يجعل الإبل والغنم والبقر "2150"، وأخرجه مسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه "1515"، كتاب البيوع، باب من اشترى مصراة فكرهها "3443". ومالك في الموطأ، كتاب البيوع، باب ما ينهى عن المساومة والمبايعة "2/ 683"، والبيهقي، كتاب البيوع، باب الحكم فيمن اشترى مصراة "5/ 318". وعبد الرزاق في مصنفه "14858"، وأحمد في مسنده "2/ 259"، وابن حبان في صحيحه "4970".
3 أخرجه البخاري عن زيد بن ثابت بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها من التمر". كتاب البيوع، باب بيع المزابنة "2188". ومسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا العرايا "1539". والطبراني "4767". وعبد الرزاق، كتاب البيوع، باب اشتراء التمر بالتمر في رءوس النخل "14486"، وأحمد في مسنده "5/ 182" وابن حبان في صحيحه "5001".
4 ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟" قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟"، قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟" قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله".
أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء "3592". الترمذي، كتاب الأحكام، باب ماجاء في القاضي كيف يقضي "1227". وأخرجه أحمد "5/ 530". الطبراني في معجمه "20/ 170" برقم "362". والدارمي في سننه، في المقدمة برقم "168".
ج / 1 ص -153- أمور الستة المذكورة مع الاثنين المذكورين في الخبر ولا شك أن ما كان يحتاج إلى النظر في أمور كثيرة كان احتمال الخطأ فيه أكثر مما يحتاج إلى النظر في أقل منها.
واعلم أنه لا يضر الخبر عمل أكثر الأمة بخلافة لأن قول الأكثر ليس بحجة.
ولا يضره عمل أهل المدينة بخلافه خلافًا لمالك وأتباعه لأنهم بعض الأمة ولجواز أنه لم يبلغهم الخبر.
ولا يضره عمل الراوي له بخلافه خلافًا لجمهور الحنفية وبعض المالكية لأنا متعبدون بما بلغ إلينا من الخبر ولم نتعبد بما فهمه الراوي ولم يأت من قدم عمل الراوي على روايته بحجة تصلح للاستدلال بها، وسيأتي لهذا البحث مزيد بسط في الشروط التي ترجع إلى لفظ الخبر1.
ولا يضره كونه مما تعم به البلوى خلافًا للحنفية وأبي عبد الله البصري2 لعمل الصحابة والتابعين بأخبار الآحاد في ذلك.
ولا يضره كونه في الحدود والكفارات خلافًا للكرخي من الحنفية وأبي عبد الله البصري في أحد قوليه ولا وجه لهذا الخلاف فهو خبر عدل في حكم شرعي ولم يثبت في الحدود والكفارات دليل يخصها من عموم الأحكام الشرعية واستدلالهم بحديث: "ادرءوا الحدود بالشبهات"3 باطل فالخبر الموجب للحد يدفع الشبهة على فرض وجودها.
ولا يضره أيضًا كونه زيادة على النص القرآني أو السنة القطعية خلافًا للحنفية فقالوا إن خبر الواحد إذا ورد بالزيادة في حكم القرآن أو السنة القطعية كان نسخًا لا يقبل.
والحق: القبول لأنها زيادة غير منافية للمزيد، فكانت مقبولة، ودعوى أنها ناسخة ممنوعة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "165".
2 هو الحسين بن علي بن إبراهيم البصري، الفقية المتكلم، أبو عبد الله، الحنفي المعروف بالجعل، ولد سنة ثلاث وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة تسع وستين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "تحريم المتعة":شرح مختصر الكرخي في الفروع". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 224"، شذرات الذهب "3/ 38"، الفوائد البهية "67"، هدية العارفين "1/ 307".
3 أخرجه الحاكم بلفظ: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم..." إلخ، كتاب الحدود "4/ 384"، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات "8/ 238". والترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود "1424".
وأما لفظ: "ادرءوا الحدود بالشبهات" فقد ذكره ابن حجر في التلخيص الحبير وقال: فيه يزيد بن زياد الدمشقي وهو ضعيف، وقال عنه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، ورواه وكيع عنه موقوفًا، وهو أصح قاله الترمذي والبيهقي في سننه، ورواية وكيع أقرب إلى الصواب. وروي عن عدة من الصحابة كما ذكره الترمذي موقوفًا انظر التخليص الحبير "4/ 56" "1755".
ج / 1 ص -154- وهكذا إذا ورد الخبر مخصصًا للعام من كتاب أو سنة فإنه مقبول ويبنى العام على الخاص خلافًا لبعض الحنفية، وهكذا إذا ورد مقيدًا لمطلق الكتاب أو السنة القطعية. وقسم الهندي خبر الواحد إذا خصص عموم الكتاب أو السنة المتواترة أو قيد مطلقهما إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: أن ما لا يعلم مقارنته له ولا تراخيه عنه فقال القاضي عبد الجبار: يقبل لأن الصحابة رفعت كثيرًا من أحكام القرآن بأخبار الآحاد ولم يسألوا عنها هل كانت مقارنة أم لا؟ قال: وهو أولى لأن حمله على كونه مخصصًا مقبولًا أولى من حمله على كونه ناسخًا مردودًا.
الثاني: أن يعلم مقارنته له فيجوز عند من يجوز تخصيص المقطوع بالمظنون.
الثالث: أن يعلم تراخيه عنه وهو ممن لم يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب. لم يقبله؛ لأنه لو قبله لقبل ناسخًا وهو غير جائز ومن جوزه قبله إن كان ورد قبل حضور وقت العمل به وأما إذا ورد بعده فلا يقبل بالاتفاق انتهى. وسيأتي تحقيق البحث في التخصيص للعام والتقييد للمطلق1.
حكم زيادة الثقة:
ولا يضره كون راويه انفرد بزيادة فيه على ما رواه غيره إذا كان عدلًا فقد يحفظ الفرد ما لا يحفظه الجماعة، وبه قال الجمهور إذا كانت تلك الزيادة غير منافية للمزيد. أما إذا كانت منافية فالترجيح ورواية الجماعة أرجح من رواية الواحد، وقيل: لا نقبل رواية الواحد إذا خالفت رواية الجماعة "بزيادة عليها"* وإن كانت تلك الزيادة غير منافية للمزيد إذا كان مجلس السماع واحدًا وكانت الجماعة بحيث لا "تجوز"** عليهم الغفلة عن مثل تلك الزيادة وأما إذا تعدد مجلس السماع فتقبل تلك الزيادة بالاتفاق.
ومثل انفراد العدل بالزيادة انفراده برفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وقفه الجماعة وكذا انفراده بإسناد الحديث الذي أرسلوه وكذا انفراده بوصل الحديث الذي قطعوه فإن ذلك مقبول منه؛ لأنه زيادة على ما رووه وتصحيح لما أعلوه.
ولا يضره أيضًا كونه خارجًا مخرج ضرب الأمثال. وروي عن إمام الحرمين أنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** "أ": لا يجوز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "354".
ج / 1 ص -155- موضع تجوز، فأجيب عنه: بأنه وإن كان موضع تجوز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقًّا لمكان العصمة.
وأما الشروط التي ترجع إلى لفظ الخبر:
"فاعلم"* أن للراوي في نقل ما يسمعه أحوالا:
الحال الأولى:
أن يرويه بلفظه فقد أدى الأمانة كما سمعها، ولكنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله جوابًا عن سؤال سائل فإن كان الجواب مستغنيًا عن ذكر السؤال كقوله صلى الله عليه وسلم في ماء البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"1 فالراوي مخير بين أن يذكر السؤال أو يتركه وإن كان الجواب غير مستغنٍ عن ذكر السؤال كما في سؤاله صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر، فقال: "أينقص إذا جف": فقيل: نعم. فقال: "فلا إذًا"2، فلا بد من ذكر السؤال، وهكذا لو كان الجواب يحتمل أمرين، فإذا نقل الراوي السؤال لم يحتمل إلا أمرًا واحدًا فلا بد من ذكر السؤال وعلى كل حال فذكر السؤال "والسبب"** مع ذكر الجواب وما ورد على سبب أولى من الإهمال.
الحال الثانية:
أن يرويه بغير لفظه بل بمعناه، وفيه ثمانية مذاهب:
الأول منها: أن ذلك جائز من عارف بمعاني الألفاظ، لا إذا لم يكن عارفًا. فإنه لا يجوز له الرواية بالمعنى. قال القاضي في "التقريب": بالإجماع، ومنهم من شرط أن يأتي بلفظ مرادف، كالجلوس مكان القعود أو العكس، ومنهم من شرط أن يكون ما جاء به مساويًا للأصل في الجلاء والخفاء فلا يأتي مكان الجلي بما هو دونه في الجلاء ولا مكان العام بالخاص ولا مكان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": فإنه علم.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الطهارة باب الطهور للوضوء "1/ 22"، وأبو داود كتاب الطهارة: باب الوضوء بماء البحر "83" والترمذي كتاب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور "69"، وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي كتاب الطهارة، باب ماء البحر "59" "1/ 50"، وابن ماجه كتاب الطهارة باب الوضوء بماء البحر رقم "386"، وابن حبان في صحيحه "1243"، وابن خزيمة "111"، والحاكم في المستدرك "1/ 140"، كتاب الطهارة وصححه ووافقه الذهبي.
2 أخرج ابن ماجه بنحوه من حديث سعد بن أبي وقاص في كتاب التجارات باب بيع الرطب بالتمر "2264".
والنسائي، كتاب البيوع، باب اشتراء التمر بالرطب "4559". والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة "1225". وأبو داود، كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر "3359". والحاكم في المستدرك بلفظ "إذا جف" كتاب البيوع "2/ 38" ووافقه الذهبي. وأخرجه مالك في الموطأ، كتاب البيوع، باب ما يكره من بيع التمر "2/ 624". وابن حبان في صحيحه "5003".
ج / 1 ص -156- المطلق بالمقيد، ولا مكان الأمر بالخبر ولا عكس ذلك.
وشرط بعضهم أن لا يكون الخبر مما تعبدنا بلفظه، كألفاظ الاستفتاح، والتشهد، وهذا الشرط لا بد منه، وقد قيل إنه مجمع عليه.
وشرط بعضهم أن لا يكون الخبر من باب المتشابه، كأحاديث الصفات. وحكى إلكيا الطبري الإجماع على هذا؛ لأن اللفظ الذي تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم لا يدري هل يساويه اللفظ الذي تكلم به الراوي، ويحتمل ما يحتمله من وجوه التأويل أم لا.
وشرط بعضهم أن لا يكون الخبر من جوامع الكلم، فإن كان من جوامع الكلم، كقوله: "إنما الأعمال بالنيات"1 "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"2، "الحرب خدعة"3، "الخراج بالضمان"4، "العجماء جبار"5، "البينة على المدعي"6: لم تجز روايته بالمعنى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري كتاب بدء الوحي، باب كيفية كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقم1، ومسلم بزيادة: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله"، رقم "1907" كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات". ورواه النسائي بلفظ: "إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى" برقم "75" باب النية في الوضوء، كتاب الطهارة.
2 أخرجه مالك في الموطأ من حديث على بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقال: إنه حديث حسن بل صحيح، في كتاب حسن الخلق، باب ما جاء في حسن الخلق "2/ 903"، والطبراني في الأوسط "8397"، والترمذي من حديث أبي هريرة، كتاب الزهد "2317". وابن ماجه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة" "3967". وذكره البغوي في المصابيح، كتاب الآداب، باب حفظ اللسان "3769".
3 أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب الحرب خدعة من حديث جابر بن عبد الله "3030" ومسلم، كتاب الجهاد، باب جواز الخداع في الحرب "1739". والبيهقي في السنن، كتاب النكاح، باب من حرم عليه من خائنة الأعين دون المكيدة في الحرب "7/ 40"، والترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في الرخصة في الكذب والخديعة في الحرب "1675"، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب المكر في الحرب "2636"، وأحمد في مسنده "3/ 308"، وابن حبان في صحيحه "4763".
4 أخرجه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها، في البيوع، باب ما جاء فيمن يشتري العبد يستغله ثم يجد به عيبًا "1285" وقال حسن صحيح، وأبو داود كتاب البيوع، باب فيمن اشترى عبدًا فاستعمله ثم وجد به عيبًا "3508". وابن ماجه في التجارات، باب الخراج بالضمان "2242". والحاكم، كتاب البيوع "2/ 15". وابن حبان في صحيحه "4927".
5 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، كتاب الشرب والمساقاة، باب من حفر بئرًا في ملكه لم يضمن "2355". ومسلم، كتاب الحدود، باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار "1710". والنسائي، كتاب الزكاة، باب المعدن "2494" 5/ 45. والبيهقي في السنن، كتاب الزكاة، باب زكاة الركاز "4/ 155".
والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في العجماء جرحها جبار "1377". وابن ماجه كتاب الديات، باب الجبار "2673". وابن حبان في صحيحه "6005".
6 أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، كتاب الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه "1341". والدارقطني، كتاب الأقضية، باب في المرأة تقتل إذا ارتدت "51". والبيهقي، كتاب الدعوى بنحوه، باب المتداعيين يتداعيان "10/ 256"، وذكره البغوي في المصابيح "2838".
ج / 1 ص -157- وشرط بعضهم أن يكون الخبر من الأحاديث الطوال. وأما الأحاديث القصار فلا يجوز روايتها بالمعنى ولا وجه لهذا. قال الأبياري1 في شرح البرهان للمسألة ثلاث صور:
أحدها: أن يبدل اللفظ بمرادفه كالجلوس بالقعود "فهذا"*وهذا جائز بلا خلاف.
وثانيها: أن يظن دلالته على مثل ما دل عليه الأول من غير أن يقطع بذلك فلا خلاف في امتناع التبديل.
ثالثها: أن يقطع بفهم المعنى ويعبر عما فهم بعبارة يقطع بأنها تدل على ذلك المعنى الذي فهمه من غير أن تكون الألفاظ مترادفة فهذا موضع الخلاف. والأكثرون على أنه متى حصل القطع بفهم المعنى مستندًا إلى اللفظ إما بمجرده أو إليه مع القرائن التحق بالمترادف.
المذهب الثاني: المنع من الرواية بالمعنى مطلقًا بل يجب نقل اللفظ بصورته من غير فرق بين العارف وغيره. هكذا نقله القاضي عن كثير من السلف وأهل التحري في الحديث. وقال إنه مذهب مالك ونقله الجويني والقشيري عن معظم المحدثين وبعض الأصوليين. وحكي عن أبي بكر الرازي من الحنفية وهو مذهب الظاهرية نقله عنهم القاضي عبد الوهاب ونقله ابن السمعاني عن عبد الله بن عمر وجماعة من التابعين منهم ابن سيرين2 وبه قال الأستاذ أبو إسحق الإسفراييني. ولا يخفى ما في هذا المذهب من الحرج البالغ والمخالفة لما كان عليه السلف والخلف من الرواة كما تراه في كثير من الأحاديث التي يرويها جماعة "من الصحابة"** فإن غالبها بألفاظ مختلفة مع الاتحاد في المعنى المقصود بل قد ترى الواحد من الصحابة فمن بعدهم يأتي في بعض الحالات بلفظ في "رواية"*** وفي أخرى بغير ذاك اللفظ مما يؤدي معناه وهذا أمر لا شك فيه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": وهذا.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "ب": الرواية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو علي بن إسماعيل بن علي بن حسن الأبياري، شمس الدين، أبو الحسن، فقيه، أصولي، متكلم، توفي سنة ست عشرة وستمائة هـ، من آثاره: "شرح البرهان للجويني" "سفينة النجاة على طريقة الإحياء". ا. هـ. معجم المؤلفين "7/ 37".
2 هو محمد بن سيرين البصري الأنصاري، أبو بكر، إمام وقته في علوم الدين بالبصرة، نشأ بزازًا في أذنه صمم، اشتهر بالحديث وتعبير الرؤيا، توفي سنة عشر ومائة هـ، من آثاره: "تعبير الرؤيا" "منتخب الكلام في تفسير الأحلام". ا. هـ. تهذيب التهذيب "9/ 214"، الأعلام "6/ 154".
ج / 1 ص -158- المذهب الثالث: الفرق بين الألفاظ التي لا مجال للتأويل فيها، وبين الألفاظ التي للتأويل فيها مجال فيجوز: النقل بالمعنى في الأول دون الثاني، حكاه أبو الحسين بن القطان عن بعض أصحاب الشافعي، واختاره إلكيا الطبري.
المذهب الرابع: التفصيل بين أن يحفظ الراوي اللفظ أم لا، فإن حفظه لم يجز له أن يرويه بغيره؛ لأن في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفصاحة ما لا يوجد في غيره وإن لم يحفظ اللفظ جاز له الرواية بالمعنى، وبهذا جزم الماوردي والروياني.
المذهب الخامس: التفصيل بين الأوامر والنواهي وبين الأخبار، فتجوز الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني، قال الماوردي والروياني: أما الأوامر والنواهي فيجوز روايتها بالمعنى، كقوله: "لا تبيعوا الذهب بالذهب"1 وروى أنه نهى بيع الذهب بالذهب2، وقوله: صلى الله عليه وسلم: "اقتلوا الأسودين في الصلاة"3، وروى أنه "أمر بقتل الأسودين في الصلاة"4؛ قال: هذا جائز بلا خلاف لأن افعل أمر ولا تفعل نهي فيتخير الراوي بينهما. "وإن كان اللفظ خفي المعنى محتملًا كقوله: "لا طلاق في إغلاق"5* وجب نقله بلفظه ولا يعبر عنه بغيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": إن كان اللفظ في المعنى محتملًا لا طلاق في إغلاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري، كتاب البيوع، باب الفضة بالفضة "177". ومسلم، كتاب المساقاة، باب الربا "1584". والنسائي، كتاب البيوع، باب بيع الذهب بالذهب "4584" "7/ 278". وابن الجارود "649". وابن حبان في صحيحه "5016".
2 أخرجه مسلم، من حديث عبادة، كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا "1587". وأبو داود، كتاب البيوع، باب في الصرف "3349"، وابن ماجه، كتاب التجارات، باب الصرف وما لا يجوز متفاضلًا يدًا بيد "4454". والبيهقي في السنن، كتاب البيوع، باب الاجناس التي ورد النص بجريان الربا فيها "5/ 277"، وابن حبان في صحيحه "5015".
3 أخرجه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة، كتاب جماع أبواب الأفعال المباحة في الصلاة، باب الأمر بقتل الحية والعقرب في الصلاة "869". والنسائي كتاب السهو، باب قتل الحية والعقرب في الصلاة "1201" "3/ 10". وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قتل الحية والعقرب في الصلاة "1245". وأبو داود. كتاب الصلاة، باب العمل في الصلاة "921". والحاكم في المستدرك، كتاب الصلاة "1/ 256"، ووافقه الذهبي عليه. وابن حبان في صحيحه "2352".
4 أخرجه الإمام أحمد في مسنده "2/ 233". وعبد الرزاق في مصنفه "1754". الدارمي "1/ 354"، وأخرجه ابن الجارود "213" والبيهقي، كتاب الطهارة، باب قتل الحية والعقرب في الصلاة "2/ 266"، وابن ماجه بنفس رقم الحديث المتقدم.
5 أخرجه أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها كتاب الطلاق، باب الطلاق على غلط "2193". والحاكم في المستدرك، كتاب الطلاق "2/ 198"، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي "2046". والدارقطني، كتاب الصلاق "4/ 36"، والبيهقي، كتاب الخلع والطلاق، باب ما جاء في طلاق المكره "7/ 357". وأبو يعلي في مسنده "4444". والإغلاق: قال أبو داود: أظنه الغضب، وفسره أحمد أيضًا بالغضب، وقال الزيلعي في نصب الراية: قال شيخنا: والصواب والإكراه والجنون وكل أمر انغلق على صاحبه علمه وقصده. ا. هـ. نصب الراية "3/ 233".
ج / 1 ص -159- المذهب السادس: التفصيل بين المحكم وغيره فتجوز الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني كالمجمل والمشترك والمجاز الذي لم يشتهر.
المذهب السابع: أن يكون المعنى مودعًا في جملة لا يفهمه العامي إلا بأداء تلك الجملة فلا يجوز روايته إلا بأداء تلك الجملة بلفظها، كذا قال أبو بكر الصيرفي.
المذهب الثامن: التفصيل بين أن يورده على قصد الاحتجاج والفتيا أو يورده لقصد الرواية "فتجوز"* الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني. فهذه ثمانية مذاهب. ويتخرج من الشروط التي اشترطها أهل المذاهب الأُوَل مذاهب غير هذه المذاهب.
الحال الثالثة:
أن يحذف الراوي بعض لفظ الخبر فينبغي أن ينظر فإن كان المحذوف متعلقًا بالمحذوف منه تعلقًا لفظيًّا أو معنويًّا لم يجز بالاتفاق. حكاه الصفي الهندي وابن الأبياري فالتعلق اللفظي كالتقييد بالاستثناء والشرط والغاية والصفة والتعلق المعنوي كالخاص بالنسبة إلى العام والمقيد بالنسبة إلى المطلق والمبين بالنسبة إلى المجمل والناسخ بالنسبة إلى المنسوخ، ويشكل على هذا المحكي من الاتفاق ما نقله الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع والقاضي في التقريب من الجواز مطلقًا سواء تعلق بعضه ببعض أم لا، وفي هذا ضعف. فإن ترك الراوي لما هو متعلق بما رواه لا سيما ما كان متعلقًا به تعلقًا لفظيًّا خيانة في الرواية. وإن لم يكن كذلك فاختلفوا على أقوال:
أحدها: إن كان قد نقل ذلك هو أو غيره مرة بتمامه جاز أن ينقل البعض وإن لم ينقل ذلك لا هو ولا غيره لم يجز، كذا قال القاضي في "التقريب"1 والشيخ الشيرازي في "اللمع"2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": فيجوز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو القاضي أبو بكر الباقلاني، واسم الكتاب "التقريب والإرشاد في أصول الفقه" وهو أجل كتاب مصنف في الأصول كما قال ابن السبكي: اختصر في التقريب والإرشاد الأوسط والصغير. ا. هـ. تبين كذب المفترى "217" الديباج المذهب "267"، وفيات الأعيان: "3/ 400".
2 وهو "اللمع في أصول الفقه"، للشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الشيرازي، وله شرح عليه، وعليه شرحان أيضًا الأول: لعثمان بن عيسى الهمذاني في مجلدين: والثاني: لعبد الله بن أحمد البغدادي ولم يكمله. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1562".
ج / 1 ص -160- ثانيها: أنه يجوز إذا لم يتطرق إلى الراوي التهمة ذكره الغزالي.
وثالثها: أن الخبر إذا كان لا يعلم إلا من طريق الراوي وتعلق به حكم شرعي لم يجز له أن يقتصر على بعضه دون بعض وإن لم يتعلق به حكم فإن كان الراوي فقيهًا جاز له ذلك وإن كان غير فقيه لم يجز. قاله ابن فورك وأبو الحسين بن القطان.
ورابعها: إن كان الخبر مشهورًا بتمامه جاز الاقتصار من الراوي على البعض وإلا فلا، قاله بعض شراح اللمع لأبي إسحاق.
وخامسها: المنع مطلقًا.
وسادسها: التفصيل بين أن يكون المحذوف حكمًا متميزًا عما قبله والسامع فقيه عالم بوجه التميز* فيجوز الحذف وإلا لم يجز قال إلكيا الطبري: وهذا التفصيل هو المختار. قال الماوردي والروياني: لا يجوز إلا بشرط أن يكون الباقي مستقلًّا بمفهوم الحكم كقوله في ماء البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"1 فيجوز للراوي أن يقتصر على رواية إحدى هاتين الجملتين وإن كان الباقي لا يفهم معناه فلا يجوز وإن كان مفهومًا ولكن ذكر المتروك يوجب خلاف ظاهر الحكم المذكور كقوله صلى الله عليه وسلم في الأضحية لمن قال له ليس عندي إلا جذعة من المعز فقال: "تجزئك ولا تجزئ أحدًا بعدك"2 فلا يجوز الحذف لأنه لو اقتصر على قوله تجزئك لفهم من ذلك أنها تجزئ عن جميع الناس.
هذا حاصل ما قيل في هذه المسألة وأنت خبير بأن كثيرًا من "الصحابة و"** التابعين والمحدثين يقتصرون على رواية بعض الخبر عند الحاجة إلى رواية بعضه لا سيما في الأحاديث الطويلة كحديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم3 ونحوه من الأحاديث وهم قدوة لمن بعدهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": التميز.
** ما بين القوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في الصفحة "155".
2 أخرجه البخاري من حديث البراء بن عازب، كتاب الأضاحي، باب قول النبي صلى اله عليه وسلم لأبي بردة "ضح بالجذع من المعز ولن تجزي عن أحد بعدك" "5557". ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقت الأضاحي "1961".
والترمذي، كتاب الأضاحي، باب ما جاء في الذبح بعد الصلاة "1508". والنسائي، كتاب الضحايا، باب ذبح الضحية قبل الإمام "406" 7/ 222. وأبو داود، كتاب الضحايا،باب ما يجوز في الضحايا من السن "2800".
3 أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم "1218"، وهو طويل. وأبو داود، كتاب المناسك، باب صفة حج النبي صلى الله عليهوسلم "1905". كتاب المناسك، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم "3074".
وابن خزيمة "2755". وأحمد في مسنده "3/ 320". وعبد بن حميد "1135".
ج / 1 ص -161- في الرواية لكن بشرط أن لا يستلزم ذلك الاقتصاد على البعض مفسدة.
الحال الرابع: أن يزيد الراوي في روايته للخبر على ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان ما زاده يتضمن بيان سبب الحديث أو تفسير معناه فلا بأس بذلك لكن بشرط أن يبين ما زاده حتى يفهم السامع أنه من كلام الراوي.
قال المارودي والروياني: يجوز من الصحابي زيادة بيان السبب لكونه مشاهدًا للحال ولا يجوز من التابعي.
وأما تفسير المعنى: فيجوز منهما، ولا وجه للاقتصار على الصحابي والتابعي في تفسير معنى الحديث، فذلك جائز لكل من يعرف معناه معرفة صحيحة على مقتضى اللغة العربية بشرط الفصل بين الخبر المروي وبين التفسير الواقع منه بما يفهمه السامع.
الحال الخامس: إذا كان الخبر محتملًا لمعنيين متنافيين فاقتصر الراوي على تفسيره بأحدهما فإن كان المقتصر على أحد المعنيين هو الصحابي كان تفسيره كالبيان لما هو المراد، وإن كان المقتصر غير صحابي ولم يقع الإجماع على أن المعنى الذي اقتصر عليه هو المراد فلا يصار إلى تفسيره، بل يكون لهذا اللفظ المحتمل للمعنيين المتنافيين حكم هو المراد المشترك أو المجمل فيتوقف العمل به على ورود دليل يدل على أن المراد أحدهما بعينه، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق بما يحتمل المعنيين المتنافيين لقصد التشريع ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية بحيث لا يفهم الراوي لذلك عنه من الصحابة ما أراده بذلك اللفظ، بل لا بد من بيانه بما يتضح به المعنى المراد، فقد كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم إذا أشكل عليهم شيء من أقواله أو أفعاله فكيف لا يسألونه عن مثل هذا، وقد نقل القاضي أبو بكر والجويني عن الشافعي: أن الصحابي إذا ذكر خبرًا وأوله وذكر المراد منه فذلك مقبول، قال ابن القشيري: إنما أراد والله أعلم إذا أول الصحابي أو خصص من غير ذكر دليل وإلا فالتأويل المعتضد بالدليل مقبول من كل إنسان؛ لأنه اتباع للدليل لا اتباع لذلك التأويل.
الحال السادس: أن يكون الخبر ظاهرًا في شيء فيحمله الراوي من الصحابة على غير ظاهره إما بصرف اللفظ عن حقيقته "إلى مجازه"*، أو بأن يصرفه عن الوجوب إلى الندب أو عن التحريم إلى الكراهة ولم يأت بما يفيد صرفه عن الظاهر فذهب الجمهور من أهل الأصول إلى أنه يعمل بالظاهر ولا يصار إلى خلافه لمجرد قول الصحابي أو فعله. وهذا هو الحق لأنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ج / 1 ص -162- متعبدون بروايته لا برأيه كما تقدم1.
وذهب أكثر الحنفية: إلى أنه يعمل بما حمله عليه الصحابي؛ لأنه أخبر بمراد النبي صلىالله عليه وسلم .
ويجاب عن هذا بأنه قد يحمله "على"* على ذلك على خلاف ظاهره اجتهادًا منه، والحجة إنما هي روايته لا في رأيه، وقد يحمله "على ذلك"** وهمًا منه.
وقال بعض المالكية: إن كان ذلك مما لا يمكن أن يدرى إلا بشواهد الأحوال والقرائن المقتضية لذلك، وليس للاجتهاد فيه مساغ كان العمل بما حمله عليه متعينًا، وإن كان صرفه عن ظاهره يمكن أن يكون بضرب من الاجتهاد، كان الرجوع إلى الظاهر متعينًا لاحتمال أن لا يكون اجتهاده مطابقًا لما في نفس الأمر فلا يترك الظاهر بالمحتمل.
ويجاب عنه: بأن ذلك الحمل على خلاف الظاهر فيما ليس من مسارح الاجتهاد قد يكون وهمًا، فلا يجوز اتباعه على الغلط، بخلاف العمل بما يقتضيه الظاهر فإنه عمل بما يقتضيه كلام الشارع، فكان "الحمل"*** عليه أرجح.
وقال القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري إن علم أنه لم يكن لمذهب الراوي وتأويله وجه سوى علمه بقصد النبي صلى الله عليه وسلم لذلك التأويل وجب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر، وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك.
وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا2 الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه "يحتمل أنه"**** قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضًا "ربما"***** ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": يحمله على ذلك على خلاف.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": العمل.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** في "أ": فربما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "154".
2 انظر صفحة: "155".
فصل: في ألفاظ الرواية
اعلم أن الصحابي إذا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أخبرني، أو حدثني، فذلك لا يحتمل
ج / 1 ص -163- الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان مرويًّا بهذه الألفاظ "أو ما يؤدي معناها"1 كشافهني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو رأيته يفعل كذا فهو حجة بلا خلاف، وأما إذا جاء الصحابي بلفظ يحتمل الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو أمر بكذا أو نهى عن كذا أو قضى بكذا، فذهب الجمهور إلى أن ذلك حجة سواء كان الراوي من صغار الصحابة أو من كبارهم لأن الظاهر أنه روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى تقدير أن ثَمَّ واسطة فمراسيل الصحابة مقبولة عند الجمهور وهو الحق وخالف في ذلك داود الظاهري فقال: إنه لا يحتج به حتى ينقل لفظ الرسول ولا حجة لهذا؛ فإن الصحابي عدل عارف بلسان العرب، وقد أنكر هذه الرواية عن داود بعض أصحابه فإن قال الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا بصيغة "الفعل"2 المبني للمفعول، فذهب الجمهور إلى أنه حجة لأن الظاهر أن الآمر والناهي هو صاحب الشريعة. وقال أبو بكر الصيرفي والإسماعيلي3 والجويني والكرخي وكثير من المالكية إنه لا يكون حجة لأنه يحتمل أن يكون الآمر أو الناهي بعض الخلفاء "أو"4 الأمراء.
ويجاب عنه: بأن هذا الاحتمال بعيد لا يندفع به الظهور.
وحكى ابن السمعاني قولًا ثالثًا وهو الوقف ولا وجه له؛ لأن رجحان ما ذهب إليه الجمهور وظهور وجه يدفع الوقف إذ لا يكون إلا مع تعادل الأدلة من كل وجه وعدم وجدان مرجح لأحدهما.
وحكى ابن الأثير في "جامع الأصول"5 قولًا رابعًا، وهو التفصيل بين أن يكون قائل ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين قوسين ساقط "أ".
2 ما بين قوسين ساقط من "أ".
3 هو الإمام، أحمد بن إبراهيم، الجرجاني الإسماعيلي، الشافعي، شيخ الإسلام أبو بكر، الحافظ الحجة، شيخ الشافعية، ولد سنة سبع وسبعين ومائتين هـ، وتوفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 292"، تذكرة الحافظ "3/ 947"، شذرات الذهب "3/ 72".
4 في "أ": والأمراء.
5 هو المبارك بن محمد بن محمد الشيباني الجزري، أبو السعادات، مجد الدين المحدث، اللغوي، الأصولي ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة هـ، وتوفي سنة ست وستمائة هـ، من آثاره: "الإنصاف في الجمع بين الكشف والكشاف" "المختار في مناقب الأخيار"، ومن مؤلفاته "جامع الأصول لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم" وهو كتاب بناه على ثلاثة أركان، الأول: في المبادئ والثاني: في المقاصد والثالث: في الخواتيم، ولهذا الكتاب مختصرات كثيرة، منها: مختصر لهبة الله ابن البارزي. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "21/ 488"، كشف الظنون "1/ 535"، شذرات الذهب "5/ 22"، الأعلام "5/ 272".
ج / 1 ص -164- هو أبو بكر الصديق فيكون ما رواه بهذه الصيغة حجة لأنه لم يتأمر عليه أحد وبين أن يكون القائل غيره فلا يكون حجة ولا وجه لهذا التفصيل لما عرفناه من ضعف احتمال كون الآمر "أو"1 الناهي غير صاحب الشريعة.
وذكر ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام"2 قولًا خامسًا وهو الفرق بين كون قائله من أكابر الصحابة كالخلفاء الأربعة وعلماء الصحابة كابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأنس وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس فيكون حجة وبين كون قائله من غيرهم فلا يكون حجة ولا وجه لهذا أيضًا تقدم، وأيضًا فإن الصحابي إنما يورد ذلك مورد الاحتجاج والتبليغ للشريعة التي يثبت بها التكليف لجميع الأمة ويبعد كل البعد أن يأتي بمثل هذه العبارة ويريد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا حجة في قول غيره ولا فرق بين أن يأتي الصحابي بهذه العبارة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعد موته فإن لها حكم الرفع وبها تقوم الحجة.
ومثل هذا إذا قال من السنة كذا فإنه لا يحمل إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه قال الجمهور وحكى ابن فورك عن الشافعي أنه قال في قوله القديم أنه يحمل على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظاهر وإن جاز خلافه. وقال في الجديد: يجوز أن يقال ذلك على معنى سنة البلد وسنة الأئمة ويجاب عنه بأن هذا احتمال بعيد والمقام مقام تبليغ للشريعة إلى الأمة ليعملوا بها. فكيف يرتكب مثل ذلك من هو من خير القرون؟ قال الكرخي والرازي والصيرفي أنه ليس بحجة لأن المتلقي من القياس قد يقال إنه سنة لاستناده إلى الشرع، وحكى هذا الجويني عن المحققين ويجاب عنه بأن إطلاق السنة على ما هو مأخوذ من القياس مخالف لاصطلاح أهل الشرع فلا يحمل عليه ونقل ابن الصلاح والنووي عن أبي بكر الإسماعيلي الوقف ولا وجه له. وأما التابعي إذا قال من السنة كذا فله حكم مراسيل التابعين هذا أرجح ما يقال فيه واحتمال كونه "أراد"3 مذاهب الصحابة وما كان عليه العمل في عصرهم خلاف الظاهر، فإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "أ": والناهي.
2 واسمه: "الإمام في شرح الإلمام في أحاديث الأحكام"، للإمام محمد بن علي، المعروف بابن دقيق العيد، قيل: إنه لم يؤلف في هذا النوع أعظم منه لما فيه من الاستنباطات والفوائد. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 158".
3 ما بين قوسين ساقط من "أ".
ج / 1 ص -165- إطلاق ذلك في مقام الاحتجاج وتبليغه إلى الناس يدل على أنه أراد سنة صاحب الشريعة.
قال ابن عبد البر إذا أطلق الصحابي السنة فالمراد به سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك إذا أطلقها غيره ما لم تضف إلى صاحبها كقولهم سنة العمرين، ونحو ذلك.
فإن قال الصحابي: كنا نفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو كانوا يفعلون كذا فأطلق الآمدي وابن الحاجب والصفي الهندي أن الأكثرين على أنه حجة، ووجه أنه نقل لفعل جماعتهم مع تقرير النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولا بد أن يعتبر في هذا أن يكون مثل ذلك مما لا يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم فتكون الحجة في التقرير، وأما كونه في حكم نقل الإجماع فلا، فقد يضاف فعل البعض إلى الكل.
وحكى القرطبي في قول الصحابي كنا نفعل في عهده صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال فقال قبله أبو الفرج1 من أصحابنا ورده أكثر أصحابنا وهو الأظهر من مذهبهم، قال القاضي أبو محمد2 والوجه التفصيل بين أن يكون شرعًا "مستقرًا"3 كقول أبي سعيد: كنا نخرج صدقة عيد الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير. الحديث4، فمثل هذا يستحيل خفاؤه عليه صلى الله عليه وسلم فإن كان يمكن خفاؤه فلا يقبل كقول رافع بن خديج كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى روى لنا بعض عمومتي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك5 ورجح هذا التفصيل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وقيل إن "ذكر الصحابي ذلك"6 في معرض الحجة حمل على الرفع وإلا فلا، وأما لو قال الصحابي: كانوا يفعلون أو كنا نفعل ولا يقول على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلا تقوم بمثل هذه الحجة؛ لأنه ليس بمسند إلى تقرير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا هو حكاية للإجماع، "وقالت الحنفية والحنابلة: إنه إجماع، قال الغزالي: إذا قال التابعي: كانوا يفعلون كذا فلا يدل على فعل جميع الأمة، ولا حجة فيه، إلا أن يصرح بنقل الإجماع"7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ترجمته في الصفحة "175" حيث هو نفسه أبو الفرج المالكي.
2 هو القاضي عبد الوهاب بن علي الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "142"
3 في "أ": مستقلًّا.
4 أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر "985". وأبو داود، كتاب الزكاة، باب كم يؤدي في صدقة الفطر "1616". والنسائي، كتاب الزكاة، باب الزبيب "2512" "5/ 51". والبيهقي في السنن، كتاب الزكاة، باب من قال لا يخرج من الحنطة في صدقة الفطر إلا صاعًا "4/ 165". والدارقطني "2/ 146". وأحمد في مسنده "3/ 98". وابن خزيمة "2418". وابن حبان "3305".
5 أخرجه مسلم، كتاب البيوع، باب كراء الأرض "1543". والنسائي، بنحوه في كتاب الأيمان، باب ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض "3909" "7/ 44". وابن ماجه، كتاب الرهون، باب المزارعة بالثلث والربع "2450". وأحمد في مسنده "2/ 463". والحميدي في مسنده "405". وذكره البغوي في المصابيح "2188". والمخابرة هي مزارعة الأرض على الثلث أو الربع أو بعض ما يخرج منها.
6 ما بين قوسين ساقط من "أ".
7 في "أ": ذكره الصحابي.
ج / 1 ص -166- وأما ألفاظ الرواية من غير الصحابي:
فلها مراتب بعضها أقوى من بعض
المرتبة الأولى:
أن يسمع الحديث من لفظ الشيخ، وهذه المرتبة هي الغاية في التحمل لأنها طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي كان يحدث أصحابه وهم يسمعون وهي أبعد من الخطأ والسهو.
وقال أبو حنيفة: إن قراءة التلميذ على الشيخ أقوى من قراءة الشيخ على التلميذ لأنه إذا قرأ التلميذ على الشيخ كانت المحافظة من الطرفين وإذا قرأ الشيخ كانت المحافظة منه وحده، وهذا ممنوع فالمحافظة في الطريقين كائنة من الجهتين، قال الماوردي والرويان:ي ويصح تحمل التلميذ عن الشيخ سواء كانت القراءة عن قصد أو اتفاقًا أو مذاكرة ويجوز أن يكون الشيخ أعمى "يملي من"* حفظه، ويجوز أن يكون أصم ويجوز أن يكون التلميذ أعمى ولا يجوز أن يكون أصمَّ، وكما تجوز الرواية من حفظ الشيخ يجوز أن تكون من كتابه إذا كان واثقًا به ذاكرًا لوقت سماعه له.
وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا تجوز الرواية من الكتاب ولا وجه لذلك فإن يستلزم بطلان فائدة الكتاب ولا يبعد أن تكون الرواية من الكتاب الصحيح المسموع أثبت من الرواية من الحفظ لأن الحفظ مظنة السهو والنسيان والاشتباه.
وللتلميذ في هذه المرتبة التي هي أقوى المراتب أن يقول حدثني وأخبرني وأسمعني وحدثنا وأخبرنا وأسمعنا، إذا كان الشيخ قاصدًا لإسماعه وحده أو مع جماعة فإن لم يقصد ذلك فيقول: سمعته يحدث.
المرتبة الثانية:
أن يقرأ التلميذ والشيخ يسمع وأكثر المحدثين يسمعون هذا عرضًا وذلك لأن التلميذ بقراءته على الشيخ. كأنه يعرض عليه ما يقرؤه، ولا خلاف أن هذه طريقة صحيحة ورواية معمول بها، ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد بخلافه.
قال الجويني: وشرط صحة هذه الطريقة أن يكون الشيخ عالمًا بما يقرؤه التلميذ عليه ولو فرض منه تصحيف أو تحريف لرده عليه. وإلا لم "تصح"** الرواية عنه.
قال: وأي فرق بين شيخ يسمع أصواتًا وأجراسًا ولا يأمن تدليسًا وإلباسًا وبين شيخ لا يسمع ما يقرأ عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": على ما حفظه.
** في "أ": لم يصح.
ج / 1 ص -167- قال أبو نصر القشيري: وهذا الذي ذكره الإمام لم أره في كلام القاضي، فإنه صرح بأن الصبي المميز يصح منه التحمل وإن لم يعرف معناه. وتصح رواية الحديث عمن لم يعلم معناه، وهذا فيما أظن إجماع من أئمة الحديث، وكيف لا وفي الحديث: "رب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"1. ولو شرطنا علم الراوي بمعنى الحديث لشرطنا معرفة جميع وجوهه وينسد بذلك باب "الحديث"*.
قال: وقد صرح الإمام بجواز الإجازة والتعويل عليها، وقد يكون المجيز غير محيط بجملة ما في الكتاب المجاز، وقد وافق الجويني على ذلك الشرط الذي ذكره إلكيا الطبري والمازري.
ويقول التلميذ في هذه الطريقة: قرأت على فلان، أو أخبرني أو حدثني قراءة عليه، وأما إطلاق أخبرني أو حدثني بدون "تقييد"** تقييده بقوله: قراءة عليه فمنع من ذلك جماعة منهم ابن المبارك2 ويحيى بن يحيى3، وأحمد بن حنبل والنسائي؛ لأن ظاهر ذلك يقتضي أن الشيخ هو الذي قرأ بنفسه.
وقال الزهري4 ومالك وسفيان الثوري وابن عيينة5 ويحيى بن سعيد القطان،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الحديث.
** في "أ": تقييده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود عن زيد بن ثابت، كتاب العلم، باب فضل نشر العلم "3660". الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع "2656". وأحمد في مسنده "5/ 183". والدارمي في سننه "1/ 175". وابن حبان في صحيحه "67". والطبراني "4890". وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 39".
2 هو عبد الله بن المبارك، أبو عبد الرحمن، المروزي، الحنظلي، تليمذ الإمام أبي حنيفة، وعد جماعة من أصحابه خصاله فقالوا: العلم والفقه والأدب واللغة والنحو والزهد والشعر والفصاحة والورع والإنصاف وقيام الليل والعبادة والشدة في رأيه وقلة الكلام فيما لا يعنيه وقلة الخلاف على أصحابه، توفي سنة إحدى وثمانين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 378"، الجواهر المضية "2/ 324"، الفوائد البهية "103".
3 هو ابن بكير "أبو بكر" بن عبد الرحمن، شيخ الإسلام، عالم خراسان، أبو زكريا التميمي الحافظ، ولد سنة اثنتين وأربعين ومائة هـ، وأدرك صغار التابعين وروى عن بعضهم، وتوفي سنة ست وعشرين ومئتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 512"، تهذيب التهذيب "11/ 396"، تذكرة الحافظ "2 / 415" تدريب الراوي: "2/ 16".
4 هو محمد بن مسلم بن عبيد الله، الزهري، المدني، نزيل الشام، المشهور بابن شهاب، ولد سنة ثمانٍ وخمسين هـ، وهو أول من دون الحديث، وأحد أكابر الحفاظ الفقهاء، توفي سنة أربع وعشرين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 326"، شذرات الذهب "1/ 162"، الأعلام "7/ 97".
5 هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون، الإمام الكبير، حافظ العصر شيخ الإسلام، ولد بالكوفة سنة سبع ومائة هـ، قال عنه يحيى بن آدم: ما رأيت أحدًا يختبر الحديث إلا ويخطئ إلا سفيان بن عيينة، توفي سنة ثمانٍ وتسعين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 454". تذكرة الحفاظ "1/ 262"، تهذيب التهذيب "4/ 117".
ج / 1 ص -168- والبخاري أنه يجوز لأن القراءة على الشيخ كالقراءة منه ونقله الصيرفي والماوردي والروياني عن الشافعي. وروي عن الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح أنه يجوز في هذه الطريقة أن يقول أخبرنا ولا يجوز أن يقول حدثنا.
قال الربيع1: قال الشافعي: إذا قرأت على العالم فقل: أخبرنا. وإذا قرأ عليك فقل: حدثنا.
قال ابن دقيق العيد: وهو باصطلاح المحدثين في الآخر والاحتجاج له ليس بأمر لغوي وإنما هو اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين.
قال ابن فورك: بين حدثني وأخبرني فرق لأن أخبرني يجوز أن يكون بالكتابة إليه وحدثني لا يحتمل "غير"* السماع.
المرتبة الثالثة:
الكتابة المقترنة بالإجازة نحو أن يكتب الشيخ إلى التلميذ سمعت من فلان كذا وقد أجزت لك أن ترويه عني وكان خط الشيخ معروفًا، فإن تجردت الكتابة عن الإجازة فقد أجاز الرواية بها كثير من المتقدمين حتى قال ابن السمعاني: إنها أقوى من مجرد الإجازة. وقال إلكيا الطبري: إنها بمنزلة السماع قال لأن الكتابة أحد اللسانين. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبلغ بالكتابة "للغائبين"** كما يبلغ بالخطاب للحاضرين. وكان صلى الله عليه وسلم يكتب إلى عماله تارة ويرسل أخرى. قال البيهقي في "المدخل"2: الآثار في هذا كثيرة من التابعين فمن بعدهم وفيها دلالة على أن جميع ذلك واسع عندهم وكتب النبي صلى الله عليه وسلم "إلى عماله بالأحكام"*** شاهدة لقوله، قال: إلا أن ما سمعه من الشيخ فوعاه "أو قرئ"**** عليه وأقر به أولى بالقبول مما كتب به إليه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": إلا.
** في "أ": إلى الغائبين.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": وقرأ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل، الإمام المحدث، الفقيه الكبير، صاحب الإمام الشافعي، وناقل علمه، ولد سنة أربع وسبعين ومائة هـ، توفي سنة سبعين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 587"، تذكرة الحفاظ "2/ 586"، تهذيب التهذيب "3/ 245".
2 هو أحمد بن الحسين بن علي، الخسروجردي، الخراساني، الحافظ العلامة، الثبت، الفقيه، شيخ الإسلام، أبو بكر، ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة هـ، من تآليفه: "السنن" في عشر مجلدات، وكتاب "المدخل"، توفي سنة ثمانٍ وخمسين وأربعمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 163"، كشف الظنون "2/ 1007-1644".
ج / 1 ص -169- لما يخاف على الكتاب من التغيير.
وكيفية الرواية أن يقول: كتب إلي، أو أخبرني كتابة، فإن كان "الكاتب"* قد ذكر الأخبار في كتابه فلا بأس بقوله أخبرنا، وجوز الرازي أن يقول التلميذ أخبرني مجردًا عن قوله كتابة.
قال ابن دقيق العيد: وأما تقييده بقوله كتابة فينبغي أن يكون هذا أدبًا. لأن القول إذا كان مطابقًا جاز إطلاقه ولكن العمل مستمر على ذلك عند الأكثرين، وجوز الليث بن سعد1 إطلاق حدثنا وأخبرنا في الرواية بالكتابة.
قال القاضي عياض: إن الذي عليه الجمهور من أرباب النقل وغيرهم جواز الرواية لأحاديث الكتابة، ووجوب العمل بها وأنها داخلة في المسند، وذلك بعد ثبوت صحتها عند المكتوب إليه ووثوقه بأنها عن كاتبها، ومنع قوم من الرواية بها، منهم المازري والروياني، وممن نقل إنكار قبولها الحافظ الدارقطني2 والآمدي.
المرتبة الرابعة:
المناولة وهو أن يناول الشيخ تلميذه صحيفة، وهي على وجهين:
"الوجه"** الأول:
أن تقترن بالإجازة، وذلك بأن يدفع أصله أو فرعًا مقابلًا عليه ويقول هذا سماعي فاروه عني، أو يأتي التلميذ إلى الشيخ بجزء فيه سماعه فيعرضه على الشيخ ثم يعيده إليه ويقول هو من مروياتي فاروه عني.
قال القاضي عياض في "الإلماع"3: أنها تجوز الرواية بهذه الطريقة بالإجماع.
قال المازري: لا شك في وجوب العمل بذلك، ولا معنى للخلاف "فيه"***.
قال الصيرفي: ولا نقول حدثنا ولا أخبرنا في كل حديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": في ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإمام، الحافظ، شيخ الإسلام، عالم الديار المصرية، أبو الحارث، ولد بقلقشنده، قرية من أعمال مصر سنة أربع وتسعين هـ، كان فقيه مصر، ومحدثها، ومحتشمها، توفي سنة خمس وسبعين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 136"، الأعلام "5/ 248".
2 هو علي بن عمر بن أحمد، البغدادي، الدارقطني، الحافظ الكبير، شيخ الإسلام إليه النهاية في معرفة الحديث، ولد سنة ست وثلاثمائة هـ، في محلة دار قطن ببغداد، وهو أول من صنف القراءات وعقد لها بابا، من تصانيفه "كتاب السنن"، توفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة هـ ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 449"، شذرات الذهب "3/ 116"، الأعلام "4/ 314".
3 واسمه "الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع، للقاضي عياض بن موسى اليحصبي. ا. هـ كشف الظنون "1/ 158".
ج / 1 ص -170- وروي عن أحمد وإسحاق1 ومالك: أن هذه المناولة المقترنة بالإجازة كالسماع وحكاه الخطيب عن ابن خزيمة2.
الوجه الثاني:
أن لا تقترن بالإجازة. بل يناوله الكتاب ويقتصر على قوله: هذا سماعي من فلان ولا يقول: أروه عني، فقال ابن الصلاح والنووي: لا تجوز الرواية بها على الصحيح عند الأصوليين والفقهاء، وحكى الخطيب عن قوم أنهم جوزوا الرواية بها وبه، قال ابن الصباغ والرازي،
قال البخاري: واحتج بعض أهل الحجاز للمناولة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كتب لأمير السرية كتابًا وقال: "لا تقرأه حتى تبلغ "مكان"* كذا وكذا"، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم3، وأشار البيهقي إلى أنه لا حجة في ذلك. قال العبدري4: لا معنى لإفراد المناولة حتى يقول أجزت لك أن تروي عني، وحينئذ فهو قسم من أقسام الإجازة.
المرتبة الخامسة:
الإجازة "وهي"** أن يقول: أجزت لك أن تروي عني هذا الحديث بعينه، أو هذا الكتاب، أو هذه الكتب، فذهب الجمهور إلى جواز الرواية بها ومنع ذلك الجماعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": وهو.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو إسحاق بن راهوية، الإمام الكبير، شيخ المشرق، سيد الحفاظ، أبو يعقوب، وهو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد، الحنظلي، ولكنه غلب عليه اسم ابن راهويه، ولد سنة إحدى وستين ومائة هـ، قال عن نفسه: أحفظ سبعين ألف حديث عن ظهر قلبي، توفي سنة ثمانٍ وثلاثين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 358"، شذرات الذهب "2/ 89"، تهذيب التذيب "1/ 216".
2 هو محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة، الحافظ، الحجة، الفقية، شيخ الإسلام، ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين هـ، توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة هـ، رحل إلى العراق والشام والجزيرة ومصر، تزيد مصنفاته على "140" مصنفًا منها: "التوحيد وإثبات صفة الرب" "صحيح ابن خزيمة" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 365" شذرات الذهب "2/ 286"، الأعلام "6/ 29".
3 ذكره البخاري تعليقًا في كتاب العلم باب ما يذكر في المناولة. وذكره ابن هشام في سيرته "2/ 601" تحت سرية عبد الله بن جحش. وقد ذكر ابن حجر أن ابن إسحاق خرجها مرسلة، انظر فتح الباري "1/ 155".
وأخرجه الطبراني في الكبير "1670". وقال ابن حجر في فتح الباري: أخرجه الطبراني من طريق جندب البجلي بإسناد حسن، ثم وجدت له شاهدًا من حديث ابن عباس عند الطبري في التفسير فبمجموع هذه الطرق يكون صحيحًا.
4 لعله رزين بن معاوية عمار، الإمام المحدث الشهير، أبو الحسن العبدري الأندلسي، توفي بمكة سنة خمس وثلاثين وخمسمائة هـ، من تآليفه: كتاب "تجريد الصحاح" قال الذهبي عنه: أدخل في كتابه زيادات لو تنزه عنها لأجاد. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "20/ 204"، تذكرة الحفاظ "4/ 1281"، كشف الظنون "1/ 345".
ج / 1 ص -171- قال شعبة1: لو صحت الإجازة لبطلت الرحلة.
وقال أبو زرعة الرازي2 لو صحت الإجازة لذهب العلم.
ومن المانعين إبراهيم الحربي3، وأبو الشيخ الأصفهاني4، والقاضي حسين، والماوردي، والروياني، من الشافعية، وأبو طاهر الدباس5 من الحنفية، وقال: من قال لغيره: أجزت لك أن تروي عني فكأنه قال: أجزت لك أن تكذب علي.
ويجاب عمن قال هؤلاء المانعون: بأن الإجازة لا تستلزم بطلان الرحلة، وأيضًا المراد من الرحلة تحصيل طريق الرواية وقد حصلت بالإجازة ولا تستلزم ذهاب العلم غاية ما في الباب من روى بالإجازة ترك ما هو أقوى منها من طرق الرواية وهي طريقة السماع والكل طرق للرواية والعلم محفوظ غير ذاهب بترك ما هو الأقوى.
وأما قول الدباس: إن الإجازة بمنزلة قول الشيخ لتلميذه: أجزت لك أن تكذب علي فهذا خلف من القول، وباطل من الكلام، فإن المراد من تحصيل طريق الرواية هو حصول الثقة بالخبر وهي هنا حاصلة وإذا تحقق سماع الشيخ وتحقق إذنه للتلميذ بالرواية فقد حصل المطلوب من الإسناد ولا فرق بين الطريق المقتضية للرواية "جملة، وبين الطريق المقتضية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو شعبة بن الحجاج، الإمام، الحافظ، أمير المؤمنين في الحديث، أبو بسطام الأزدي، قيل إنه ولد سنة ثمانين هـ، قال يحيى بن معين: شعبة إمام المتقين، فلما توفي شعبة قال سفيان: مات الحديث، كانت وفاته ستين ومائة هـ. بالبصرة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 202"، تذكر الحفاظ "1/ 193"، تهذيب التهذيب "4/ 338".
2 هو عبيد الله بن عبد الكريم الرازي، سيد الحفاظ، محدث الري، ولد سنة نيف ومائتين هـ، حدث عنه كبار أئمة الحديث منهم الإمام مسلم. قال ابن أبي شيبة: ما رأيت أحفظ من أبي زرعة، وتوفي سنة ستين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 65"، تهذيب التهذيب "7/ 30"، شذرات الذهب "2/ 148".
3 هو إبراهيم بن إسحاق البغدادي الحربي، الإمام، الحافظ، العلامة، شيخ الإسلام أبو إسحاق، ولد سنة ثمانٍ وتسعين ومائة وتوفي سنة خمس وثمانين ومائتين هـ، من آثاره: "غريب الحديث" في اللغة. ا. هـ.
سير أعلام النبلاء "13/ 356"، شذرات الذهب "2/ 190"، تذكرة الحفاظ "2/ 584".
4 هو عبد الله بن محمد بن جعفر، المعروف بأبي الشيخ، محدث أصبهان، أبو محمد، ولد سنة أربع وسبعين ومائتين هـ، من آثاره: كتاب "ثواب الأعمال" الذي عرضه على الطبراني فاستحسنه، توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة هـ، وله مصنفات كثيرة في الأحكام والتفسير. ا. هـ. سير أعلام النبلا "16/ 276"، هدية العارفين "1/ 447"، تذكرة الحفاظ "3/ 945".
5 هو محمد بن محمد بن سفيان، الفقيه، إمام أهل الرأي بالعراق، أخذ عن القاضي أبي حازم، وكان يوصف بالحفظ، ومعرفة الروايات، ولي القضاء بالشام، وخرج منها إلى مكة فمات بها، ولم نجد في تراجمه من ذكر له سنة وفاة. ا. هـ. تاج التراجم "336"، الجواهر المضية "3/ 323".
ج / 1 ص -172- للرواية"* تفصيلًا في اتصاف كل واحدة منها بأنها طريق، وإن كان بعضها أقوى من بعض.
وإذا عرفت هذا علمت أنه لا وجه لما قاله ابن حزم في كتاب الأحكام أنه بدعة غير جائزة.
واختلفوا هل يجوز للتلميذ أن يقول في الإجازة حدثني أو أخبرني أو حدثنا أو أخبرنا من غير تقييد بكون ذلك إجازة فمنهم من أجازه ومنهم من منعه إلا بالقيد المذكور وهو أن يقول حدثني إجازة أو أخبرني إجازة. قال ابن دقيق العيد وأجود العبارات في الإجازة أن يقول أجاز لنا "قيل"**: ويجوز أن يقول أنبأني بالاتفاق.

ج4.----------------------

وهذه الطريقة على أنواع:
النوع الأول: أن يجيز في معين لمعين، نحو أن يقول: أجزت لك أو لكم رواية الكتاب الفلاني عني؛ وهذه الطريقة أعلى "أنواع"*** الإجازة.
النوع الثاني: أن يجيز "لمعين"**** في غير معين، نحو أن يقول: أجزت لك أو لكم جميع مسموعاتي، فجوز هذا الجمهور ومنعه جماعة منهم الجويني.
النوع الثالث: أن يجيز غير معين بغير معين "لغير"***** معين نحو أن يقول: أجزت للمسلمين، أو لمن أدرك حياتي، جميع مروياتي، وقد جوز هذا جماعة منهم الخطيب وأبو الطيب الطبري، ومنعه آخرون وهذا فيما إذا كان المجاز له أهلًا للرواية. وأما إذا لم يكن أهلًا لها كالصبي فجوز ذلك قوم ومنعه آخرون.
واحتج الخطيب للجواز: بأن الإجازة إباحة المجيز للمجاز له أن يرو ي عنه، والإباحة تصح للمكلف وغيره، ولا بد من تقييد قول من قال بالجواز بأن لا يروي من ليس بمتأهل للرواية إلا بعد أن يصير متأهلًا لها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": وقيل يجوز.
*** في "أ": طرق.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** في "أ": بغير.
فصل: الحديث الصحيح والمرسل
الصحيح من الحديث: هو ما اتصل إسناده بنقل عدل ضابط من غير شذوذ ولا علة قادحة.
فما لم يكن متصلًا ليس بصحيح، ولا تقوم به الحجة. ومن ذلك المرسل، وهو أن يترك التابعي.

ج / 1 ص -173- الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا اصطلاح جمهور أهل الحديث.
وأما جمهور أهل الأصول فقالوا: المرسل، قول من لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان من التابعين أو من تابعي التابعين أو ممن بعدهم.
وإطلاق المرسل على هذا وإن كان اصطلاحا،ً ولا مشاحة فيه لكن محل الخلاف هو المرسل باصطلاح أهل الحديث فذهب الجمهور إلى ضعفه، وعدم قيام الحجة به لاحتمال أن يكون التابعي سمعه من بعض التابعين فلم يتعين أن الواسطة صحابي لا غير حتى يقال قد تقرر أن الصحابة عدول فلا يضر حذف الصحابي، وأيضًا يحتمل أنه سمعه من مدع يدعي أن له صحبة ولم تصح صحبته.
وذهب جماعة منهم أبو حنيفة، وجمهور المعتزلة، واختاره الآمدي إلى قبوله وقيام الحجة به، حتى قال بعض القائلين بقبول المرسل: إنه أقوى من المسند لثقة التابعي بصحته ولهذا أرسله وهذا غلو خارج عن الإنصاف.
والحق عدم القبول لما "ذكرنا"* من الاحتمال.
قال الآمدي: وفصل عيسى بن أبان، فقبل مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين دون من عداهم ولعله يستدل على هذا بحديث "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب"1، وقيل هذا من قال به بأن يكون "ذلك"** الراوي من أئمة النقل، واختاره ابن الحاجب فإنه قال: فإن كان من أئمة النقل قبل وإلا فلا.
قال ابن عبد البر: لا خلاف "في"*** أنه لا يجوز العمل بالمرسل إذا كان مرسله غير محترز، يرسل عن غير الثقات، قال: وهذا الاسم واقع بالإجماع على حديث التابعي الكبير عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل أن يقول عبيد الله بن عدي بن الخيار2 أو أبو أمامة بن سهل بن حنيف3، أو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ذكرت.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ "خير الناس قرني": في الأيمان باب إذا قال أشهد بالله أو شهدت بالله "6658" ومسلم في الفضائل باب فضل الصحابة "2533" وأحمد في مسنده "1/ 434"، والترمذي في المناقب، باب ما جاء في فضل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه "3859" وقال: حسن صحيح. وابن ماجه: في الأحكام باب كراهية الشهادة لمن لم يستشهد "2362" وابن حبان في صحيحه "4330".
2 ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبوه من الطلقاء، حدث عن عمر، وعثمان، وعلي، وكعب، وطائفة، كان من فقهاء قريش وعلمائهم، وهو ثقة، قليل الحديث مات في خلافة الوليد بن عبد الملك. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "3/ 514"، تهذيب التهذيب "7/ 36"، الجرح والتعديل "5/ 329".
3 الأنصاري الأوسي المدني، الفقيه، المعمر، الحجة، واسمه أسعد باسم جده لأمه، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ورآه فيما قيل، توفي سنة مائة هـ، على ما اتفقوا عليه. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "3/ 517"، تهذيب التهذيب "1/ 263".

ج / 1 ص -174- عبد الله بن عامر بن ربيعة1 ومن كان مثلهم عن النبي صلىالله عليه وسلم كذلك من دون هؤلاء كسعيد بن المسيب2 وسالم بن عبد الله3 وأبي سلمة بن عبد الرحمن4 والقاسم بن محمد5 ومن كان مثلهم وكذلك علقمة6 ومسروق بن الأجدع7 والحسن8 وابن سيرين والشعبي9

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبو عبد الرحمن الأموي، الذي افتتح إقليم خراسان، رأى سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن خال سيدنا عثمان، ولي البصرة لعثمان، تزوج بهند بنت معاوية، توفي سنة تسع وخمسين هـ، فقال معاوية: بمن نفاخر وبمن نباهي بعده. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "3/ 18"، تهذيب التهذيب "5/ 272".
2 هو ابن حزن بن أبي وهب المخرومي، القرشي، أبو محمد، سيدنا التابعين، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع، كان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب، وأقضيته، حتى سمي راوية عمر، توفي بالمدينة سنة أربع وتسعين هـ. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 217"، تهذيب التهذيب "4/ 84"، الأعلام "3/ 102".
3 هو ابن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، الإمام الزاهد، الحافظ، مفتي المدينة، أبو عمر، وأبو عبد الله، القرشي العدوي المدني، توفي بالمدينة سنة ست ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 457"، الأعلام "3/ 71"، تهذيب التهذيب "3/ 436"، شذرات الذهب "1/ 133".
4 القرشي الزهري، الحافظ، أحد الأعلام بالمدينة، قيل: اسمه عبد الله وقيل: إسماعيل، ولد سنة بضع وعشرين هـ، وتوفي بالمدينة سنة أربع وتسعين هـ، في خلافة الوليد، كان قاضيًا في إمارة سعيد بن العاص على المدينة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 287"، تهذيب التهذيب "12/ 115"، تذكرة الحفاظ "1/ 59".
5 حفيد أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الإمام القدوة، الحافظ الحجة، ولد في خلافه علي رضي الله عنه، واختلف في وفاته، فقيل سنة خمس ومائة هـ، وقيل سبع وقيل اثنتي عشرة ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 53"، تهذيب التهذيب "8/ 333"، شذرات الذهب "1/ 135".
6 هو ابن قيس بن عبد الله، فقيه الكوفة، وعالمها ومقرئها، الإمام، الحافظ المجود، المجتهد الكبير، أبو شبل، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم،وعداده في المخضرمين، وتوفي سنة اثنتين وستين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 53"، تهذيب التهذيب "7/ 276"، شذرات الذهب "1/ 70".
7 هو ابن مالك بن أمية الإمام، القدوة، العلم، أبو عائشة الوداعي الهمذاني، عداده في كبار التابعين والمخضرمين الذين أسلموا في حياة سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم توفي سنة اثنتين وستين وقيل ثلاث وستين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 63"، تذكرة الحفاظ "1/ 49"، شذرات الذهب "1/ 71".
8 هو الحسن بن يسار البصري، أبو سعيد، تابعي كان إمام أهل البصرة وحبر الأمة في زمنه، مولى زيد بن ثابت، له كتاب في "فضائل مكة"، توفي بالبصرة سنة عشرة ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 563"، الأعلام "2/ 226"، شذرات الذهب "1/ 136"، تهذيب التهذيب "2/ 236".

9 هو عامر بن شراحيل الشعبي، علامة عصره، أبو عمرو، راوية من التابعين، يضرب المثل بحفظه، ولد سنة تسع عشرة هـ، في الكوفة، وتوفي فيها سنة ثلاث ومائة هـ، ا. هـ، سير أعلام النبلاء "4/ 294"، الأعلام "3/ 251"، تذكرة الحفاظ "1/ 79"، شذرات الذهب "1/ 126".

ج / 1 ص -175- وسعيد بن جبير1 ومن كان مثلهم الذين صح لهم لقاء جماعة من الصحابة، ومجالستهم ونحوه مرسل من دونهم كحديث الزهري وقتادة2، وأبي حازم3، ويحيى بن سعيد4 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمى مرسلًا، كمرسل كبار التابعين، وقال آخرون: حديث هؤلاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يسمى منقطعًا؛ لأنهم لم يلقوا من الصحابة إلا الواحد والاثنين وأكثر روايتهم عن التابعين انتهى.
وفي هذا التمثيل نظر فأبو أمامة بن سهل بن حنيف وعبد الله بن عامر معدودان في الصحابة.
وأيضًا قوله في آخر كلامه: أن الزهري، ومن ذكر معه لم يلقوا إلا الواحد والاثنين من الصحابة غير صحيح فقد لقي الزهري أحد عشر رجلًا من الصحابة.
قال ابن عبد البر أيضًا، وأصل مذهب مالك وجماعة من أصحابه أن مرسل الثقة يجب به الحجة ويلزم به العمل كما يجب بالمسند سواء، قال طائفة من أصحابنا: مراسيل الثقات مقبولة بطريق أولى واعتلوا بأن من أسند لك فقد أحالك على البحث عن أحوال من سماه لك ومن أرسل من الأئمة حديثًا مع علمه ودينه وثقته فقد قطع لك بصحته.
قال: والمشهور أنهما سواء في الحجة؛ لأن السلف فعلوا الأمرين قال وممن ذهب إليه أبو الفرج عمر بن محمد المالكي5 وأبو بكر الأبهري وهو قول أبي جعفر الطبري، وزعم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الكوفي المقرئ الفقيه، أحد الأعلام، المفسر، الحافظ، الشهيد، أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله، ولد في خلافة سيدنا علي رضي الله عنه، توفي سنة خمس وتسعين شيهدًا على يدي الحجاج بن يوسف الثقفي. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 231"، تذكرة الحفاظ "1/ 76"، شذرات الذهب "1/ 108".
2 هو قتادة بن دعامة، حافظ العصر، قدوة المفسرين والمحدثين، أبو الخطاب السدوسي البصري الضرير الأكمه، ولد سنة ستين هـ، جاء إلى سعيد بن المسيب ومكث عنده ثمانية أيام، فقال له في اليوم الثالث: ارتحل يا أعمى فقد أنزفتني "أي أخذت علمي كله". توفي سنة ثماني عشرة ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 269"، شذرات الذهب "1/ 153".
3 هو سلمة بن دينار، المخزومي، المديني، الإمام القدوة، الأعرج، ولد في أيام الزبير، روى عن سعيد بن المسيب، ووثقه ابن معين، وروى عنه ابن عيينة، وتوفي سنة أربعين و مائة، وكانت أمه رومية وهو فارسي. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 96"، تذكرة الحفاظ "1/ 133".
4 هو ابن قيس بن عمرو، الإمام، العلامة المجود، عالم المدينة في زمانه، تلميذ الفقهاء السبعة، سمع من أنس بن مالك، وأبي أمامة بن سهل، توفي سنة ثلاث وأربعين هـ، ولي قضاء المنصور، ومات بالهاشمية. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 468"، تهذيب التهذيب "11/ 221"، شذرات الذهب "1/ 212".
5 هو عمر "أبو عمرو" بن محمد الليثي، البغدادي "أبو الفرج"، لغوي فقيه، أصولي، أصله من البصرة نشأ ببغداد، توفي سنة ثلاثين وثلاثمائة هـ وقيل إحدى وثلاثين هـ، من آثاره: "الحاوي في مذهب مالك". "اللمع في أصول الفقه" اهـ. معجم المؤلفين "8/ 12".

ج / 1 ص -176- الطبري أن التابعين بأسرهم أجمعوا على قبول المرسل ولم يأت عنهم إنكاره ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين انتهى.
ويجاب عن قوله من أرسل مع علمه ودينه
وثقته فقد قطع لك بصحته أن الثقة قد يظن من ليس بثقة ثقة عملًا بالظاهر ويعلم غيره من حاله ما يقدح فيه والجرح مقدم على التعديل ويجاب عن قول الطبري إنه لم ينكره أحد إلى رأس المائتين بما رواه مسلم في مقدمة "صحيحه" عن ابن عباس أنه لم يقبل مرسل بعض التابعين مع كون ذلك التابعي ثقة محتجًا به في الصحيحين وبما نقله مسلم أيضًا عن ابن سيرين أنه قال: كانوا لا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قيل سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ عنهم وإلى أهل البدع فلا يؤخذ عنهم.
ونقل الحافظ أبو عبد الله الحاكم1: أن المرسل ليس بحجة عن إمام التابعين سعيد بن المسيب، وعن مالك بن أنس، وجماعة من أهل الحديث، ونقله غيره عن الزهري والأوزاعي. وصح ذلك عن عبد الله بن المبارك وغيره.
قال الخطيب: لا خلاف بين أهل العلم أن إرسال الحديث الذي ليس بتدليس هو رواية الراوي عمن لم يعاصره أو لم يلقه كرواية سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير2 ومحمد بن المنكدر3 والحسن البصري وقتادة وغيرهم من التابعين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قيل: هو مقبول إذا كان المرسل ثقة عدلًا، وهو قول مالك وأهل المدينة وأبي حنيفة وأهل العراق وغيرهم.
وقال الشافعي: لا يجب العمل وعليه أكثر الأئمة.
واختلف مسقطو العمل بالمرسل في قبول رواية الصحابة خبرًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمعه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه، الإمام الحافظ، العلامة النيسابوري الناقد، شيخ المحدثين، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة خمس وأربعمائة هـ، له تآليف تبلغ نحو "1500" مؤلفًا، منها: "تاريخ نيسابور" "المستدرك على الصحيحين" "الإكليل" "المدخل". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 162"، معجم المؤلفين "10/ 238"، الأعلام "6/ 227".
2 هو ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته صفية: ابن الزبير بن العوام. عالم المدينة، أبو عبد الله القرشي، أحد الفقهاء السبعة، ولد سنة ثلاث وعشرين وتوفي سنة ثلاث وتسعين هـ، من كلامه: رب كلمة ذل احتملتها فأورثتني عزًّا طويلًا ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 421"، تهذيب التهذيب "7/ 180"، شذرات الذهب "1/ 103".
3 هو ابن عبد الله، الإمام الحافظ القدوة، شيخ الإسلام، أبو عبد الله القرشي التيمي المدني، ولد سنة بضع وثلاثين هـ، حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم وسلمان وعائشة وغيرهم، وتوفي سنة ثلاثين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 353"، شذرات الذهب "1/ 177"، تذكرة الحفاظ "1/ 127".

ج / 1 ص -177- منه، كقول أنس بن مالك ذكر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة" الحديث1، فقال بعض من لا يقبل مراسيل الصحابة: لا نشك في عدالتهم، ولكنه قد يروي الراوي عن تابعي أو عن أعرابي لاتعرف صحبته ولو قال: لا أروي لكم إلا من سماعي أو من صحابي لوجب علينا قبول مرسله.
وقال آخرون: مراسيل الصحابة كلهم مقبولة، لكون جميعهم عدولًا، وأن الظاهر فيما أرسلوه أنهم سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وأما ما رووه عن التابعين فقد بينوه، وهو أيضًا قليل نادر لا اعتبار به، قال: وهذا هو الأشبه بالصواب ثم رجح عدم قبول مراسيل غير الصحابة فقال: والذي نختاره سقوط فرض الله بالمرسل بجهالة راويه ولا يجوز قبول الخبر إلا عمن عرفت عدالته ولو قال المرسِل: حدثني العدل الثقة عندي بكذا لم يقبل حتى يذكر اسمه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك في كتاب العلم باب من خص بالعلم قومًا دون قوم برقم "129". ومسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه بنحوه في الإيمان باب من مات لا يشرك بالله دخل الجنة "93". وأحمد في مسنده 3/ 344. وعبد بن حميد في مسنده برقم "1063" "1060".
حكم الحديث المنقطع والمعضل:
مسألة: ولا تقوم الحجة بالحديث المنقطع، وهو الذي سقط من رواته واحد ممن دون الصحابة ولا بالمعضل، وهو الذي سقط من رواته اثنان ولا بما سقط من رواته أكثر من اثنين لجواز أن يكون الساقط أو الساقطان أو الساقطون أو بعضهم غير ثقات، ولا عبرة بكون الراوي لما هذا حال ثقة متثبتًا؛ لأنه قد يخفى عليه من حال من يظنه ثقة ما هو جرح فيه.
ولا تقوم الحجة أيضًا بحديث يقول فيه بعض رجال إسناده: عن رجل، أو عن شيخ، أو عن ثقة أو نحو ذلك، لما ذكرنا من العلة، وهذا مما لا ينبغي أن يخالف فيه أحد من أهل الحديث ولا اعتبار بخلاف غيرهم؛ لأن من لم يكن من أهل الفن لا يعرف ما يجب اعتباره.
فصل: طرق ثبوت العدالة
وإذ قد تقرر لك أن العدالة شرط فلا بد من معرفة الطريقة التي تثبت بها، وأقوى الطرق المفيدة لثبوتها: الاختبار في الأحوال بطول الصحابة والمعاشرة والمعاملة، فإذا لم يعثر عليه "على"* فعل كبيرة، ولا على ما يقتضي التهاون بالدين والتساهل في الرواية،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".

ج / 1 ص -178- فهو ثقة، وإلا فلا.
ثم التزكية، وهي إما أن تكون بخبر عدلين مع ذكر السبب، ولا خلاف أن ذلك تعديل أو بدون ذكره والجمهور على قبوله، ويكفي أن يقول: هو عدل.
قال القرطبي: لا بد أن يقول "هو"* عدل رضي، ولا يكفي الاقتصار على أحدهما، ولا وجه لهذا بل الاقتصار على أحدهما أو على ما يفيد مفاد أحدهما يكفي عند من يقبل الإجمال، وأما التعديل من واحد فقط، فقيل: لا يقبل من غير فرق بين الرواية والشهادة، وحكاه القاضي أبو بكر، عن أكثر الفقهاء، قال الأبياري: وهو قياس مذهب مالك، وقيل: يقبل.
قال القاضي: والذي يوجبه القياس وجوب قبول كل عدل مرضي، ذكرًا أو أنثى، حرًا أو عبدًا، شاهدًا أو مخبرًا، وقيل: يشترط في الشهادة اثنان، ويكفي في الرواية واحد كما يكفي في الأصل؛ لأن الفرع لا يزيد على الأصل، وهو قول الأكثرين كما حكاه الآمدي والصفي الهندي قال ابن الصلاح: وهو الصحيح الذي اختاره الخطيب وغيره؛ لأن العدد لا يشترط في قبول الخبر فلا يشترط في جرح رواته ولا في تعديلهم بخلاف الشهادة وأطلق في المحصول قبول تزكية المرأة، وحكى القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء أنه لا يقبل النساء في التعديل لا في الشهادة ولا في الرواية ثم اختار قبول "قولها"** لها فيهما كما "تقبل"***روايتها وشهادتها انتهى.
ولا بد من تقييد هذا بكونها ممن "يتمكن"**** من اختيار أحوال من زكته، كأن تكون ممن تجوز لها مصاحبته والاطلاع على أحواله أو يكون الذي وقعت تزيكة المرأة له "امرأة"***** مثلها، ويدل على هذا سؤاله صلى الله عليه وسلم للجارية في قصة الإفك عن حال أم المؤمنين عائشة1.
وقد تكون التزكية بأن يحكم حاكم بشاهدته، كذا قال الجويني، والقاضي أبو بكر، وغيرهما، قال القاضي: وهو أقوى من تزكيته باللفظ. وحكى الصفي الهندي الاتفاق على هذا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": هذا.
** في "أ": قومه لها.
*** في "أ": يقبل.
**** في "أ": تمكن.
***** في "أ": له مثلها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضًا "2661". ومسلم في التوبة، باب حديث الإفك "2770". وأبو يعلى في مسنده "4927". وعبد الرزاق في المصنف "9748". وابن حبان في صحيحه "4212". والطبراني في المعجم الكبير "23/ 134".

ج / 1 ص -179- قال: لأنه لا يحكم بشهادته إلا وهو عدل عنده، وقيده الآمدي بما إذا لم يكن الحاكم ممن يرى قبول الفاسق الذي لا يكذب قال ابن دقيق العيد: وهذا إذا منعنا حكم الحاكم بعلمه أما إذا أجزناه فعمله بالشهادة ظاهرًا يقوم معه احتمال أنه حكم بعلمه باطنًا.
ومن طرق التزكية الاستفاضة فيمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة فإن ذلك يكفي.
قال ابن الصلاح: وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي، وعليه الاعتماد في أصول الفقه، وممن ذكره من المحدثين الخطيب "ونقله عن"* مالك، وشعبة، والسفيانين1، وأحمد، وابن معين، وابن المديني2 وغيرهم قال القاضي أبو بكر: الشاهد والمخبر إنما يحتاجان إلى التزكية متى لم يكونا مشهورين بالعدالة "الرضا"** وكأن أمرهما متشكلًا ملتبسًا، وصرح بأن الاستفاضة أقوى من "تزكية"*** الواحد والاثنين.
قال ابن عبد البر: كل حامل علم معروف العناية به، فهو عدل محمول في أمره على العدالة حتى يتبين جرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين"3، وتبعه على ذلك جماعة من المغاربة، وهذا الحديث رواه العقيلي في "ضعفائه"4 من جهة ابن رفاعة السلامي5 عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري6 وقال: لا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ومثله بنحو مالك.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": تقويه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهما سفيان الثوري الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "141"، وسفيان بن عيينة الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "167".
2 وهو الإمام علي بن المدني بن عبد الله، أبو الحسن، أحد الأعلام، الحافظ، سمع من حماد بن زيد، قال البخاري: ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند ابن المديني، وقال ابن مهدي: علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 41"، شذرات الذهب "2/ 81"، تهذيب التهذيب "7/ 349".
3 أخرجه البزار في كتاب العلم برقم "86" وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما "601".
4 هو محمد بن عمرو بن موسى، العقيلي، الإمام الحافظ، الناقد، أبو جعفر، كان جليل القدر، عظيم الخطر، كان كثير التصانيف، من آثاره:"كتاب الضعفاء"، توفي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 236"، تذكرة الحفاظ "3/ 833".
5 هو معان بن رفاعة، السلامي، الدمشقي، وقيل الحمصي، وثقه ابن المديني، وقال الجوزجاني: ليس بحجة، وهو صاحب حديث ليس بمتقن. ا. هـ. روى عن إبراهيم العذري وعن الخراساني. ا. هـ. تهذيب التهذيب "10/ 182"، الكامل في الضعفاء "6/ 328"، ميزان الاعتدال "4/ 134".
6 تابعي مقل في الرواية، قال صاحب لسان الميزان: ما علمته واهيًا، أرسل حديث: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله". وذكره باسم العبدي. ا. هـ. ميزان الاعتدال "1/ 45".

ج / 1 ص -180- يعرف إلا به وهو مرسل أو معضل ضعيف وإبراهيم قال فيه القطان لا نعرفه ألبتة في شيء من العلم غير هذا وقال الخلال في كتاب "العلل"1: سئل أحمد عن هذا الحديث. فقيل له: ترى أنه موضوع؟ فقال: لا هو صحيح. قال ابن الصلاح: وفيما قاله اتساع غير مرضي.
ومن طرق التزكية العمل بخبر الراوي حكاه أبو الطيب الطبري عن الشافعية ونقل فيه الآمدي الاتفاق واعترض عليه بأنه قد حكى الخلاف فيه القاضي في "التقريب"* والغزالي في المنخول.
وقال الجويني فيه أقوال:
أحدها: أنه تعديل له.
والثاني: أن ليس بتعديل.
والثالث: قال وهو الصحيح أنه إن أمكن أنه عمل بدليل آخر. ووافق "عمله"** الخبر الذي رواه فعمله ليس بتعديل وإن كان العمل بذلك الخبر من غير أن يمكن تجويز أنه عمل بدليل آخر فهو تعديل، واختار هذا القاضي في التقريب.
قال وفرق بين قولنا عمل بالخبر وبين قولنا "عمل"*** بموجب الخبر فإن الأول يقتضي أنه مستنده والثاني لا يقتضي ذلك لجواز أن يعمل به لدليل آخر، وقال الغزالي: إن أمكن حمله عمله"**** على الاحتياط فليس بتعديل وإلا فهو تعديل، وكذا قال إلكيا الطبري ويشترط في هذه الطريقة أن لا يوجد ما يقوي ذلك الخبر، فإن وجد ما يقويه من عموم أو قياس وعلمنا أن العمل بخبره لم يكن لاعتضاده بذلك فليس بتعديل.
ومن طريقة التزكية أن يروي عنه من عرف من حاله أنه لا يروي إلا عن عدل كيحيى بن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": عليه.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": حمله على.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أحمد بن محمد بن هارون، أبو بكر البغدادي الخلال، الإمام العلامة الحافظ الفقيه، ولد سنة أربع وثلاثين ومائة هـ، من آثاره: "الجامع في الفقه" "العلل" "السنة وألفاظ أحمد والدليل على ذلك من الأحاديث"، توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة هـ، وهو شيخ الحنابلة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 297"، شذرات الذهب "2/ 261"، الأعلام "1/ 206".

ج / 1 ص -181- سعيد القطان، وشعبة، ومالك فإن ذلك تعديل كما اختاره الجويني، وابن القشيري والغزالي، والآمدي والصفي الهندي، وغيرهم. قال الماوردي: هو قول "الحذاق"*، ولا بد في هذه الطريقة من أن يظهر أن الراوي عنه لا يروي إلا عن عدل ظهورًا بينًا إما بتصريحه بذلك أو بتتبع عادته بحيث لا تختلف في بعض الأحوال فإن لم يظهر ذلك ظهورًا بينًا فليس بتعديل فإن كثيرًا من الحفاظ يروون أحاديث الضعفاء للاعتبار ولبيان حالها، ومن هذه الطريقة قولهم: رجاله رجال الصحيح وقولهم: روى عنه البخاري ومسلم أو أحدهما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الحذق.
فرع: الخلاف في عدالة المبهم
اختلف أهل العلم في تعديل المبهم، كقولهم: حدثني الثقة أو حدثني العدل، فذهب جماعة إلى عدم قبوله، ومنهم أبو بكر القفال الشاشي والخطيب البغدادي والصيرفي، والقاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ والماوردي، والروياني، وقال أبو حنيفة: يقبل، والأول أرجح لأنه وإن كان عدلًا عنده فربما لو سماه "لكان"* مجروحًا عند غيره، قال الخطيب: لو صرح بأن جميع شيوخه ثقات ثم روى عمن لم يسمعه لم نعمل بروايته لجواز أن نعرفه إذا ذكره بخلاف العدالة قال نعم لو قال العالم كل ما أروي عنه وأسميه فهو عدل رضي مقبول الحديث، كان هذا القول تعديلًا لكل من روى عنه وسماه كما سبق. انتهى.
ومن هذا قول الشافعي في مواضع كثيرة: حدثني الثقة، وكذا كان يقول مالك، وهذا إذا لم يعرف من لم يسمه، أما إذا عرف بقرينة حال أو مقال كان كالتصريح باسمه فينظر فيه.
قال أبو حاتم: إذا قال الشافعي: أخبرني الثقة عن ابن أبي ذئب1، فهو ابن أبي فديك2، وإذا قال: أخبرني الثقة عن الليث بن سعد فهو يحيى بن حسان3 وإذا قال: أخبرني الثقة عن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": كان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب، شيخ الإسلام، أبو الحارث القرشي العامري، المدني، الفقيه، من آثاره: كتاب كبير في "السنن"، توفي سنة وثمان وخمسين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 139"، شذرات الذهب "1/ 245"، تهذيب التهذيب "9/ 303".
2 هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك، واسمه دينار الديلي، الإمام الثقة، المحدث، توفي سنة مائتين هـ، وقيل سنة تسع ومائتين هـ، له أحاديث بأسانيد عالية. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 486"، شذرات الذهب "1/ 359" تهذيب التهذيب "9/ 61".
3 هو يحيى بن حسان، الإمام الحافظ، القدوة، أبو زكريا، البصري، وقيل المصري، أصله من دمشق، ولد سنة أربع وأربعين ومائة هـ، روى عن مالك بن أنس والليث بن سعد وغيرهما، توفي سنة ثمانٍ ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 127"، تهذيب التهذيب "11/ 197"، والجرح والتعديل "9/ 135".

ج / 1 ص -182- الوليد بن كثير1، فهو [أبو أسامة2، وإذا قال: أخبرني الثقة عن الأوزاعي فهو]* عمرو بن أبي سلمة3، وإذا قال: أخبرني الثقة عن ابن جريح4، فهو مسلم بن خالد الزنجي5، وإذا قال: أخبرني الثقة عن صالح مولى التوءمة6، فهو إبراهيم بن أبي يحيى7.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* زيادة ضرورية استدركناها عن هامش النسخة "ب".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو محمد المخزومي، المدني، الحافظ، كان أخباريًّا، علامة، ثقة، بصيرًا بالمغازي، حدث عن الأعرج وبشير بن يسار وغيرهما، وحدث عنه ابن عيينة والواقدي وجماعة، توفي سنة إحدى وخمسين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 63"، تهذيب التهديب "11/ 148"، شذرات الذهب "1/ 231".
2 هو حماد بن أسامة بن زيد، الكوفي، الحافظ، الثبت، كان من أئمة العلم، توفي سنة إحدى ومائتين هـ، وهو ابن ثمانين سنة فيما قبل. وحديثه في جميع الصحاح والدواوين. انظر: الجرح والتعديل: "2/ 132"، ميزان الاعتدال: "1/ 588"، سير أعلام النبلاء "9/ 277".
3 أبو حفص التنيسي الإمام، الحافظ، الصدوق، دمشقي سكن تنيس فنسب إليها، حدث عن الأوزاعي ومالك بن أنس وجماعة، وحدث عنه أبو عبد الله الشافي وابن محمد المسندي وجماعة، حديثه في الكتب الستة، توفي سنة أربع عشرة ومائتين هـ، ا. هـ، سير أعلام النبلاء "10/ 213"، الجرح والتعديل "6/ 235".
4 هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، الإمام، العلامة، الحافظ شيخ الحرم، أبو خالد صاحب التصانيف، أول من دون العلم بمكة، توفي سنة خمسين ومائة هـ، ولد هو وأبو حنيفة في عام واحد وماتا في عام واحد. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 325"، الجرح والتعديل "5/ 356"، تهذيب التهذيب "6/ 402".
5 هو الإمام الفقيه، أبو خالد، فقيه مكة، المخزومي، ولد سنة مائة هـ، حدث عن الزهري، وعمرو بن دينار وجماعة، وحدث عنه الحميدي، ومسدد وجماعة، توفي سنة ثمانين ومائة هـ، ا. هـ، سير أعلام النبلاء "8/ 177"، الجرح والتعديل "8/ 183"، تهذيب التهذيب "10/ 128".
6 هو صالح مولى التوءمة، المدني، وقد توفي سنة خمس وعشرين ومائة هـ، بعد أن هرم وخرف، لقيس أبا هريرة وجماعة. ا.هـ شذرات الذهب "1/ 166"، تهذيب التهذيب "4/ 408".
7 هو أبو إسحاق الأسلمي، الشيخ، العالم، المحدث، أحد الأعلام المشاهير، الفقيه ولد سنة مائة هـ، من آثاره: "الموطأ" وهو كتاب كبير أضعاف موطأ الإمام مالك، له أحاديث في مسند الشافعي، وتوفي سنة أربع وثمانين ومائة هـ, ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 450"، الجرح والتعديل "2/ 125"، تهذيب التهذيب "1/ 158.
فرع آخر: الخلاف في قبول الجرح والتعديل من دون ذكر السبب
هل يقبل الجرح والتعديل من دون ذكر السبب أم لا؟

ج / 1 ص -183- فذهب جماعة إلى أنه لا بد من ذكر السبب فيهما، وذهب آخرون إلى أنه لا يجب ذكر السبب فيهما، إذا كان بصيرًا بالجرح والتعديل، واختار هذا القاضي أبو بكر، وذهب جماعة إلى أنه يقبل التعديل من غير ذكر السبب بخلاف الجرح "فلا يقبل إلا بذكر السبب؛ لأن أسباب التعديل كثيرة فيشق ذكرها"* بخلاف الجرح فإنه يحصل بأمر واحد، وأيضًا سبب الجرح مختلف فيه، بخلاف سبب التعديل، وإلى هذا ذهب الشافعي.
قال القرطبي: وهو الأكثر من قول مالك، قال الخطيب: وذهب إليه الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده كالبخاري ومسلم، وذهب جماعة إلى أنه يقبل الجرح من غير ذلك السبب، ولا يقبل التعديل إلا بذكر السبب، قالوا: لأن مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة؛ لتسارع الناس إلى الظاهر، والحق أنه لا بد من ذكر السبب في الجرح والتعديل؛ لأن الجارح والمعدل قد يظنان ما ليس بجارح جارحًا وقد يظنان ما لا يستقل بإثبات العدالة تعديلًا، ولا سيما مع اختلاف المذاهب في الأصول والفروع، فقد يكون ما أبهمه الجارح من الجرح هو مجرد كونه على غير مذهبه، وعلى خلاف ما يعتقده، وإن كان حقًّا وقد يكون ما أبهمه من التعديل هو مجرد كونه على مذهبه، وعلى ما يعتقده، وإن كان في الواقع مخالفًا للحق كما وقع ذلك كثيرًا.
وعندي: أن الجرح المعمول به هو أن يصفه بضعف الحفظ أو بالتساهل في الرواية أو بالإقدام على ما يدل على تساهله بالدين. والتعديل المعمول به: هو أن يصفه بالتحري في الرواية والحفظ لما يرويه، وعدم الإقدام على ما يدل على تساهله بالدين فاشدد على هذا يديك تنتفع به عند اضطراب أمواج الخلاف.
فإن قلت: إذا ورد الجرح المطلق كقول الجارح: ليس بثقة أو ليس بشيء أو هو ضعيف، فهل يجوز العمل بالمروي مع هذا أم لا؟ قلت: يجب حينئذ التوقف حتى يبحث المطلع على ذلك على حقيقة الحال في مطولات المصنفات في هذا الشأن "كتهذيب الكمال" للمزي1 وفروعه وكذا "تاريخ الإسلام"2،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه: "تهذيب الكمال في معرفة الرجال" للحافظ يوسف بن الزكي المزي، و"الكمال في معرفة الرجال"، للإمام محب الدين بن النجار محمد بن محمود البغدادي.
2 وهو المعروف بـ"تاريخ الذهبي"، للإمام الحافظ شمس الدين أبي عبد الله الدمشقي، وهو تاريخ كبير، على السنوات، جمع فيه بين الحوادث والوفيات وانتهى إلى آخر سنة إحدى وأربعين وسبعمائة هـ، ا. هـ. كشف الظنون "1/ 294".

ج / 1 ص -184- و"تاريخ النبلاء"1، و"الميزان" للذهبي2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو "سير أعلام النبلاء" للحافظ الذهبي، وهو من جملة ما اختصره من تاريخه الكبير، مرتبًا على التراجم بحسب الوفيات، وله عليه ذيل، وسماه صلاح الدين الصفدي وابن دقماق "بتاريخ النبلاء"، وابن شاكر الكتبي "بتاريخ العلماء النبلاء" وتاج الدين السبكي "كتاب النبلاء" أما "سير أعلام النبلاء" فقد جاء مخطوطًا على طرر المجلدات. ا. هـ.
كشف الظنون "2/ 1015"، سير أعلام النبلاء المقدمة 91.
2 واسمه "ميزان الاعتدال في نقد الرجال"، للإمام الحافظ الذهبي، وهو مجلدان، وهو كتاب جليل في إيضاح نقله العلم، وألفه كتابه "المغني" وزاد عليه زيادات حسنة من الرواة المذكورين في الكتاب المذيل على الكامل لابن عدي. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1917".
فرع ثالث: تعارض الجرح والتعديل والجمع بينهما
وفيه أقوال:
القول الأول:
أن الجرح مقدم على التعديل وإن كان المعدلون أكثر من الجارحين وبه قال الجمهور كما نقله عنهم الخطيب والباجي، ونقل القاضي فيه الإجماع، قال الرازي والآمدي وابن الصلاح: إنه الصحيح لأن مع الجارح زيادة علم لم يطلع عليها المعدل، قال ابن دقيق العيد: وهذا إنما يصح على قول من قال إن الجرح لا يقبل إلا مفسرًا. وقد استثنى أصحاب الشافعي من هذا ما إذا جرحه بمعصية وشهد الآخر أنه قد تاب منها، فإنه يقدم في هذه الصورة التعديل؛ لأن معه زيادة علم.
القول الثاني:
أنه يقدم التعديل على الجرح؛ لأن الجارح قد يجرح بما ليس في نفس الأمر جارحًا، والمعدل إذا كان عدلًا لا يعدل إلا بعد تحصيل الموجب لقبوله جرحًا، حكى هذا الطحاوي1 عن أبي حنيفة وأبي يوسف ولا بد من تقييد هذا القول بالجرح المجمل؛ إذ لو كان الجرح مفسرًا لم يتم ما علل به من أن الجارح قد يجرح بما ليس في نفس الأمر جارحًا إلخ.
القول الثالث:
أنه يقدم الأكثر من الجارحين والمعدلين.
قال في "المحصول": وعدد المعدل إذا زاد قيل إنه يقدم على الجارح وهو ضعيف لأن سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على زيادة ولا ينتفي ذلك بكثرة العدد.
القول الرابع:
أنهما يتعارضان فلا يقدم أحدهما على الآخر إلا بمرجح حكى هذا القول

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، أبو جعفر، فقيه، انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر، ولد سنة تسع وثلاثين ومائتين هـ، في طحا بمصر، وتوفي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "مشكل الآثار" "بيان السنة".ا. هـ. الجواهر المضية "1/ 102"، معجم المؤلفين "2/ 107".

ج / 1 ص -185- ابن الحاجب وقد جعل القاضي في "التقريب" محل الخلاف فيما إذا كان "عدد"* المعدلين أكثر فإن استووا قدم الجرح بالإجماع وكذا قال الخطيب في "الكفاية"1 وأبو الحسين بن القطان وأبو الوليد الباجي وخالفهم أبو نصر القشيري فقال: محل الخلاف فيما إذا استوى عدد المعدلين والجارحين قال: فإن كثر عدد المعدلين وقل عدد الجارحين فقيل: العدالة في هذه الصورة أولى انتهى.
والحق الحقيق بالقبول: أن ذلك محل اجتهاد للمجتهد وقد قدمنا أن الراجح أنه لا بد من التفسير في الجرح والتعديل، فإذا فسر الجارح ما جرح به والمعدل ما عدل به لم يخف على المجتهد الراجح منهما من المرجوح، وأما على القول بقبول الجرح والتعديل المجملين من عارف فالجرح مقدم على التعديل؛ لأن الجارح لا يمكن أن يستند في جرحه إلى ظاهر الحال بخلاف المعدل فقد يستند إلى ظاهر الحال وأيضًا حديث من تعارض فيه الجرح والتعديل المجملان قد دخله الاحتمال فلا يقبل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في: "أ" عدم وهو تحريف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه: "الكفاية في معرفة أصول الرواية"، للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1499".
فصل: عدالة الصحابة
القول الأول:
اعلم أن ما ذكرناه من وجوب تقديم البحث عن عدالة الراوي، إنما هو في غير الصحابة، فأما فيهم فلا؛ لأن الأصل فيهم العدالة فتقبل روايتهم من غير بحث عن أحوالهم، حكاه ابن الحاجب عن الأكثرين، قال القاضي: هو قول السلف وجمهور الخلف، وقال الجويني بالإجماع.
ووجه هذا القول ما ورد من العمومات المقتضية لتعديلهم كتابًا وسنة، كقوله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}1 وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}2 أي: عدولا وقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِين}3، وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ}4*، وقوله:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": و{وَالسَّابِقُونَ} فقط.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "110" من سورة آل عمران.
2 جزء من الآية "143" من سورة البقرة.
3 جزء من الآية "18" من سورة الفتح.
4 جزء من الآية "100" من سورة التوبة.

ج / 1 ص -186- {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني"2، وقوله في حقهم: "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدكم ولا نصيفه"3 وهما في الصحيح، وقوله: "أصحابي كالنجوم"4 على مقال فيه معروف.
قال الجويني: ولعل السبب في قبولهم من غير بحث عن أحوالهم أنهم نقلة الشريعة، ولو ثبت التوقف في روايتهم، لانحصرت الشريعة على عصر الرسول ولما استرسلت على سائر الأعصار.
قال إلكيا الطبري: وأما ما وقع بينهم من الحروب والفتن فتلك أمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب أو المصيب واحد، والمخطئ معذور بل مأجور، وكما قال عمر بن عبد العزيز5: تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا نخضب بها ألسنتنا.
القول الثاني:
أن حكمهم في العدالة حكم غيرهم، فيبحث عنها، قال أبو الحسين بن القطان: فوحشي قتل حمزة وله صحبة، والوليد6 شرب الخمر، فمن ظهر عليه خلاف العدالة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "29" من سورة الفتح.
2 تقدم تخريجه في الصفحة "173".
3 أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري في فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذًا خليلًا" "3637". ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة "2541"، وأحمد في المسند "3/ 54". والترمذي، كتاب المناقب،باب "59" برقم "3861". والنسائي، كتاب فضائل الصحابة "203". وابن حبان في صحيحه "7255". والبغوي في شرح السنة "3859". والطيالسي "2183".
4 أخرجه ابن عدي في الكامل، "2/ 376"، وعبد بن حميد في المسند "المنتخب ص250" وابن عبد البر في جامع بيان العلم "2/ 90"، وحكم عليه الحافظ الذهبي بالوضع واتهم بعض رواة الأسانيد انظر الميزان "1/ 413"، "2/ 102". ووهن الحافظ ابن حجر، جميع طرقه، ونقل عن ابن حزم قوله: هذا خبر مكذوب موضع باطل. وعن البزار: هذا الكلام لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ا. هـ. التلخيص الحبير "4/ 191". ويغني عنه ما في مسلم: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلى معه العشاء... فقال: "النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتى فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" رقمه "2531".
5 هو ابن مروان بن الحكم، كان من أئمة الاجتهاد، وبعد خامس الخلفاء الراشدين، ولي إمارة المدينة في عهد الوليد، دامت خلافته سنتين وستة أشهر وأيام. كخلافة الصديق، توفي سنة إحدى ومائة هـ، ودفن بدير سمعان من أرض المعرة ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 114"، شذرات الذهب "1/ 119".
6 هو الخليفة، أبو العباس، الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي، الدمشقي، الذي أنشأ جامع بني أمية، بويع بعهد من أبيه، فتح بوابة الأندلس وبلاد الترك، قيل: كان يختم في كل ثلاث، وختم في رمضان سبع عشرة ختمة، توفي سنة ست وتسعين هـ.ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 347"، شذرات الذهب "1/ 111".

ج / 1 ص -187- لم يقع عليه اسم الصحبة والوليد ليس بصحابي؛ لأن الصحابة إنما هم الذين كانوا على الطريقة. انتهى.
وهذا كلام ساقط جدًّا فوحشي قتل حمزة، وهو كافر ثم أسلم، وليس ذلك مما يقدح به فالإسلام يجب ما قبله، بلا خلاف.
وأما قوله: والوليد ليس بصحابي إلخ، فلم يقل قائل من أهل العلم إن ارتكاب المعصية يخرج من كان صحابيًّا عن صحبته.
قال الرازي في "المحصول": وقد بالغ إبراهيم النظام في الطعن فيهم، على ما نقله "الجاحظ"* عنه في كتاب "الفتيا"1، ونحن نذكر ذلك مجملًا ومفصلًا، أما مجملًا فإنه روى من طعن بعضهم في بعضٍ أخبارًا كثيرة يأتي تفصيلها، وقال رأينا بعض الصحابة يقدح في بعض وذلك يقتضي توجه القدح إما في القادح إن كان كاذبًا وإما في المقدوح فيه إن كان القادح صادقا.
والجواب مجملًا: أن آيات القرآن دالة على سلامة أحوال الصحابة، وبراءتهم عن المطاعن، وإذا كان كذلك، وجب علينا أن نحسن الظن بهم إلى أن يقوم دليل قاطع على الطعن فيهم إلى آخر كلامه.
القول الثالث:
أنهم كلهم عدول قبل الفتن لا بعدها فيجب البحث عنهم، وأما بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقًا أي: من الطرفين؛ لأن الفاسق من الفريقين غير معين، وبه قال عمرو بن عبيد2 من المعتزلة، وهذا القول في غاية الضعف لاستلزامه إهدار غالب السنة، فإن المعتزلين لتلك الحروب هم طائفة يسيرة بالنسبة إلى الداخلين فيها، وأيضًا فيه أن الباغي من الفريقين غير معي وهو معين بالدليل الصحيح وأيضًا التمسك بما تمسكت به طائفة يخرجها من إطلاق اسم البغي عليها على تسليم أن الباغي من الفريقين غير معين.
القول الرابع:
أنهم كلهم عدول إلا من قاتل عليًّا، وبه قال جماعة من المعتزلة والشيعة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الحافظ: وهو الصواب لأننا لم نعثر على كتاب اسمه الفتيا للجاحظ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انتشرت مقدمة رسالة "الفتيا" للجاحظ في الجزء الأول من مجموعة رسائله التي حققها عبد السلام هارون، أما الرسالة نفسها فتعتبر بحكم المفقودة.
2 هو الزاهد، العابد، القدري، شيخ المعتزلة، وأولهم، أبو عثمان البصري، قال حفص بن غياث: ما رأيت أزهد منه وانتحل ما انتحل. وقال ابن المبارك: دعا إلى القدر فتركوه، مات بطريقه إلى مكة سنة ثلاث وأربعين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 104"، تهذيب التهذيب "8/ 30"، شذرات الذهب "1/ 210".

ج / 1 ص -188- ويجاب عنه بأن تمسكهم بما تمسكوا به من الشبه يدل على أنهم لم يقدموا على ذلك جرأة على الله وتهاونًا بدينه، وجناب الصحابة أمر عظيم فمن انتهك أعراض بعضهم فقد وقع في هوة لا ينجو منها سالما، وقد كان في أهل الشام صحابة صالحون عرضت لهم شبه لولا عروضها لم يدخلوا في تلك الحروب، ولا غمسوا فيها أيديهم وقد عدلوا تعديلًا عامًّا بالكتاب والسنة فوجب علينا البقاء "على..."* والتأويل لما يقتضي خلافه.
القول الخامس: أن من كان مشتهرًا منهم بالصحبة، والملازمة فهو عدل لا يبحث عن عدالته، دون من قلت صحبته، ولم يلازم، وإن كانت له رواية، كذا قال الماوردي، وهو ضعيف لاستلزامه إخراج جماعة من خيار الصحابة الذين أقاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم قليلًا ثم انصرفوا كوائل بن حجر ومالك بن الحويرث، وعثمان بن أبي العاص وأمثالهم، قال المزي: إنها لم توجد رواية عمن يلمز بالنفاق، وقال الأبياري: وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية عليهم، وإنما المراد: قبول رواياتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية إلا أن يثبت ارتكاب قادح، ولم يثبت ذلك ولله الحمد فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يثبت خلافه، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير فإنه لا يصح، وما "صح"** فله تأويل صحيح. انتهى.
وإذا تقرر لك عدالة جميع من ثبتت له الصحبة، علمت أنه إذا قال الراوي عن رجل من الصحابة، ولم يسمه كان ذلك حجة ولا يضر الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في هامش "أ" قال كذا بالأصل وظاهره سقوطه ولعل الأصل على عموم التعديل.
** في "أ": يصح.
فرع: التعريف بالصحابي
إذا عرفت أن الصحابة كلهم عدول، فلا بد من بيان من يستحق اسم الصحبة، وقد اختلفوا في ذلك.
فذهب الجمهور إلى أنه من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ولو ساعة، سواء روى عنه أم لا.
وقيل: هو من طالت صحبته، وروى عنه، فلا يستحق اسم الصحبة إلا من "جمع"* بينهما.
وقيل: هو من ثبت له أحدهما إما طول الصحبة أو الرواية.
والحق ما ذهب إليه الجمهور، وإن كانت اللغة تقتضي أن الصاحب هو من كثرت ملازمته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": يجمع.

ج / 1 ص -189- فقد ورد ما يدل على إثبات الفضيلة لمن لم يحصل له منه إلا مجرد اللقاء القليل أو الرؤية ولو مرة.
وقد ذكر بعض أهل العلم اشتراط الإقامة مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة فصاعدًا، أو الغزو معه، روي ذلك عن سعيد بن المسيب.
وقيل: ستة أشهر، ولا وجه لهذين القولين لاستلزامهما خروج جماعة من الصحابة، الذين رووا عنه ولم يبقوا لديه إلا دون ذلك.
وأيضًا: لا يدل عليهما دليل من لغة ولا شرع.
وحكى القاضي عياض عن الواقدي1 أنه يشترط أن يكون بالغًا، وهو ضعيف لاستلزامه "خروج"* كثير من الصحابة الذين أدركوا عصر النبوة ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغوا إلا بعد موته.
ولا تشترط الرؤية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من كان أعمى مثل ابن أم مكتوم قد وقع الاتفاق على أنه من الصحابة.
وقد ذكر الآمدي وابن الحاجب وغيرهما من أهل الأصول أن الخلاف في مثل هذه المسألة لفظي، ولا وجه لذلك فإن من قال بالعدالة على العموم لا يطلب تعديل أحد منهم، ومن اشترط في شروط الصحبة شرطًا لا يطلب التعديل مع وجود ذلك الشرط ويطلبه مع عدمه فالخلاف معنوي لا لفظي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": لخروج.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، المدني، القاضي، العلامة، أبو عبد الله، أحد أوعية العلم، ولد بعد سنة عشرين ومائة هـ، سمع من صغار التابعين، قال عنه الذهبي: جمع فأوعى، وخلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمين، توفي سنة سبع ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 454"، شذرات الذهب "2/ 18"، تهذيب التهذيب "9/ 363".
فرع آخر: طريق معرفة الصحابي
ويعرف كون الصحابي صحابيًّا بالتواتر، والاستفاضة، وبكونه من المهاجرين، أو من الأنصار، وبخبر صحابي آخر معلوم الصحبة.
واختلفوا هل يقبل قوله: إنه صحابي أم لا؟
فقال القاضي، أبو بكر: يقبل؛ لأن وازع العدالة يمنعه من الكذب، إذا لم يروَ عن غيره ما

ج / 1 ص -190- يعارض قوله، وبه قال ابن الصلاح، والنووي وتوقف ابن القطان في قبول قوله بأنه صحابي، وروي عنه ما يدل على الجزم بعدم القبول. فقال: ومن يدع الصحبة لا يقبل منه حتى نعلم صحبته وإذا علمناها فما رواه فهو على السماع حتى نعلم غيره. انتهى.
واعلم: أنه لا بد من تقييد قول من قال بقبول خبره إنه صحابي، بأن تقوم القرائن الدالة على صدق دعواه وإلا لزم قبول خبر كثير من الكذابين الذين ادعوا الصحبة.


















[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]


إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
ج / 1 ص -193- المقصد الثالث: الإجماع
البحث الأول: في مسماه لغة واصطلاحًا
قال في "المحصول": الإجماع يقال بالاشتراك على معنيين:
أحدهما: العزم. قال الله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ}1.
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل"2.
وثانيهما: الاتفاق. يقال: أجمع القوم على كذا أي صاروا ذوي جمع كما يقال ألبن، وأتمر إذا صار ذا لبن، وذا تمر. انتهى.
واعترض على هذا بأن إجماع الأمة يتعدى بعلى، والإجماع بمعنى العزيمة لا يتعدى بعلى، وأجيب عنه بما حكاه ابن فارس في "المقاييس"3 فإنه قال: يقال: أجمعت على الأمر إجماعًا وأجمعته.
وقد جزم بكونه مشتركًا بين المعنيين أيضًا الغزالي.
وقال القاضي: العزم يرجع إلى الاتفاق؛ لأن من اتفق على شيء فقد عزم عليه.
وقال ابن برهان وابن السمعاني: الأول أي: العزم أشبه باللغة، والثاني أي: الاتفاق أشبه بالشرع. انتهى.
ويجاب عنه: بأن الثاني وإن كان أشبه بالشرع فذلك لا ينافي كونه معنى لغويا، وكون اللفظ مشتركًا بينه وبين العزم قال أبو علي الفارسي: يقال: أجمع القوم إذا صاروا ذوي جمع كما يقال: ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وتمر. وأما في الاصطلاح: فهو اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في عصر من الأعصار على أمر من الأمور.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "71" من سورة يونس.
2 أخرجه النسائي من حديث حفصة رضي الله عنها في كتاب الصيام باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة في ذلك "2334" 4/ 197. والترمذي في كتاب الصوم باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل "730". وأبو داود كتاب الصيام باب النية في الصيام "2454". وابن ماجه في كتاب الصيام باب ما جاء في فرض الصوم من الليل والخيار في الصوم "1700". والدارمي في سننه في كتاب الصيام باب من لم يجمع الصيام من الليل "1650". وابن خزيمة في صحيحه برقم "1933".
3 واسمه: "مقاييس اللغة"، لأحمد بن فارس بين زكريا، وهو كتاب كما وصفه ياقوت الحموي: كتاب جليل، لم يصنف مثله، ويعني ابن فارس بكلمة مقاييسه "الاشتقاق الكبير"، الذي يرجع مفردات كل مادة إلى معنى أو معانٍ تشترك فيها هذه المفردات. ا. هـ. مقاييس اللغة مقدمة النشر.


ج / 1 ص -194- والمراد بالاتفاق الاشتراك: إما في الاعتقاد أو في القول، أو في الفعل.
ويخرج بقوله: مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، اتفاق العوام، فإنه لا عبرة بوفاتهم ولا بخلافهم. ويخرج منه أيضًا اتفاق بعض المجتهدين.
وبالإضافة إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم خرج اتفاق الأمم السابقة.
ويخرج بقوله بعد وفاته الإجماع في عصره صلى الله عليه وسلم فإنه لا اعتبار به.
ويخرج بقوله في عصر من الأعصار ما يتوهم من أن المراد بالمجتهدين جميع مجتهدي الأمة في جميع الأعصار إلى يوم القيامة فإن هذا توهم باطل؛ لأنه يؤدي إلى عدم ثبوت الإجماع؛ إذ لا إجماع يوم القيامة وبعد يوم القيامة لا حاجة للإجماع.
والمراد بالعصر عصر من كان من أهل الاجتهاد في الوقت الذي حدثت فيه المسألة فلا يعتد بمن صار مجتهدًا بعد حدوثها وإن كان المجتهدون فيها أحياء.
وقوله: على أمر من الأمور يتناول الشرعيات والعقليات والعرفيات، واللغويات.
ومن اشترط في حجية الإجماع انقراض عصر المجتهدين المتفقين على ذلك الأمر زاد في الحد قيد الانقراض.
ومن اشترط عدم سبق خلاف مستقر، زاد في الحد قيد عدم كونه مسبوقًا بخلاف.
ومن اشترط عدالة المتفقين أو بلوغهم عدد التواتر زاد في الحد ما يفيد ذلك.
البحث الثاني: في إمكان الإجماع في نفسه
المقام الأول:
فقال قوم منهم النظام وبعض الشيعة: بإحالة إمكان الإجماع.
قالوا: إن اتفاقهم على الحكم الواحد، الذي لا يكون معلومًا بالضرورة محال، كما أن اتفاقهم في الساعة الواحدة، على المأكول الواحد والتكلم بالكلمة الواحدة محال.
وأجيب: بأن الاتفاق إنما يمتنع فيما يستوي فيه الاحتمال كالمأكول المعين والكلمة المعينة أما عند الرجحان بقيام الدلالة أو الأمارة الظاهرة فذلك غير ممتنع وذلك كاتفاق الجمع العظيم على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قالوا ثانيًا: إن اتفاقهم فرع تساويهم في نقل الحكم إليهم، وانتشارهم في الأقطار يمنع نقل الحكم إليهم.
وأجيب: بمنع كون الانتشار يمنع ذلك من جدهم في الطلب، وبحثهم عن الأدلة، وإنما

ج / 1 ص -195- يمتنع ذلك على من قعد في قعر بيته لا يبحث ولا يطلب.
قالوا ثالثًا: الاتفاق إما عن قاطع أو ظني وكلاهما باطل أما القاطع فلأن العادة تحيل عدم نقله فلو كان لنقل، فلما لم ينقل علم أنه لم يوجد، كيف ولو نقل لأغنى عن الإجماع.
وأما الظني: فلأنه يمتنع الاتفاق عادة لاختلاف الأفهام وتباين الأنظار.
وأجيب: بمنع ما ذكر في القاطع؛ إذ قد يستغني عن نقله بحصول الإجماع، الذي هو أقوى منه.
وأما الظني فقد يكون جليًّا لا تختلف فيه الأفهام ولا تتباين فيه الأنظار، فهذا -أعني منع إمكان الإجماع في نفسه- هو المقام الأول.
المقام الثاني:
على تقدير تسليم إمكانه في نفسه منع إمكان العلم به.
فقالوا: لا طريق لنا إلى العلم بحصوله لأن العلم بالأشياء إما أن يكون وجدانيًّا، أو لا يكون وجدانيًّا.
أما الوجداني: فكما يجد أحدنا من نفسه من جوعه وعطشه ولذته، وألمه ولا شك أن العلم باتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ليس من هذا الباب.
وأما الذي لا يكون وجدانيًّا فقد اتفقوا على أن الطريق إلى معرفته لا مجال للعقل فيها؛ إذ كون الشخص الفلاني قال بهذا القول أو لم يقل به ليس من حكم العقل بالاتفاق، ولا مجال أيضًا للحس فيها لأن الإحساس بكلام الغير لا يكون إلا بعد معرفته، فإذًا العلم باتفاق الأمة لا يحصل إلا بعد معرفة كل واحد منهم، وذلك متعذر قطعًا ومن ذلك الذي يعرف جميع المجتهدين من الأمة في الشرق والغرب وسائر البلاد الإسلامية فإن العمر يفنى دون مجرد البلوغ إلى كل مكان من الأمكنة التي يسكنها أهل العلم فضلًا عن اختبار أحوالهم، ومعرفة من هو من أهل الإجماع منهم، ومن لم يكن من أهله ومعرفة كونه قال بذلك أو لم يقل به، والبحث عمن هو خامل من أهل الاجتهاد بحيث لا يخفى على الناقل فرد من أفرادهم فإن ذلك قد يخفى على الباحث في المدينة الواحدة، فضلًا عن الإقليم الواحد، فضلًا عن جميع الأقاليم التي فيها أهل الإسلام، ومن أنصف من نفسه علم أنه لا علم عند علماء الشرق بجملة علماء الغرب والعكس فضلًا عن العلم بكل واحد منهم على التفصيل وبكيفية مذهبه وبما يقوله في تلك المسألة بعينها

ج / 1 ص -196- وأيضًا: قد يحمل بعض من يعتبر في الإجماع على الموافقة، وعدم الظهور بالخلاف التقية والخوف على نفسه، كما أن ذلك معلوم في كل طائفة من طوائف أهل الإسلام فإنهم قد يعتقدون شيئًا إذا خالفهم فيه مخالف خشي على نفسه من مضرتهم.
وعلى تقدير إمكان معرفة ما عند كل واحد من أهل بلد وإجماعهم على أمر فيمكن أن يرجعوا عنه أو يرجع بعضهم قبل أن يجمع "عليه"* أهل بلدة أخرى بل لو فرضنا حتمًا اجتماع العالم بأسرهم في موضع واحد ورفعوا أصواتهم دفعة واحدة قائلين قد اتفقنا على الحكم الفلاني فإن هذا مع امتناعه لا يفيد العلم بالإجماع؛ لاحتمال أن يكون بعضهم مخالفًا فيه وسكت تقية وخوفًا على نفسه.
وأما ما قيل: من أنا نعلم بالضرورة اتفاق المسلمين على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن أراد الاتفاق باطنًا وظاهرًا فذلك مما لا سبيل إليه ألبتة والعلم بامتناعه ضروري، وإن أراد ظاهرًا فقط استنادًا إلى الشهرة والاستفاضة، فليس هذا هو المعتبر في الإجماع، بل المعتبر فيه: العلم بما يعتقده كل واحد من المجتهدين في تلك المسألة بعد معرفة أنه لا حاصل له على الموافقة، وأنه يدين الله بذلك ظاهرًا وباطنًا، ولا يمكنه معرفة ذلك منه إلا بعد معرفته بعينه ومن ادعى أنه يتمكن الناقل للإجماع من معرفة كل من يعتبر فيه من علماء الدنيا، فقد أسرف في الدعوى وجازف في القول لما قدمنا من تعذر ذلك تعذرًا ظاهرًا واضحًا.
ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل فإنه قال: من ادعى "وجود"** الإجماع فهو كاذب.
والعجب من اشتداد نكير القاضي أبي بكر على من أنكر تصور وقوع الإجماع عادة فإن إنكاره على المنكر هو المنكر.
وفصل الجويني بين كليات الدين، فلا يمتنع الإجماع عليها وبين المسائل المظنونة قلا يتصور الإجماع عليها عادة.
ولا وجه لهذا التفصيل، فإن النزاع إنما هو في المسائل التي دليلها الإجماع وكليات الدين معلومة بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة.
وجعل الأصفهاني الخلاف في غير إجماع الصحابة، وقال: الحق تعذر الاطلاع على الإجماع لا إجماع الصحابة حيث كان المجمعون وهم العلماء منهم في قلة، وأما الآن وبعد انتشار الإسلام وكثرة العلماء فلا مطمع للعلم به.
قال: وهو اختيار أحمد مع قرب عهده من الصحابة، وقوة حفظه وشدة اطلاعه على الأمور

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ" وجوب.

ج / 1 ص -197- الأمور النقلية. قال: والمنصف يعلم أنه لا خبر له من الإجماع إلا ما يجده مكتوبًا في الكتب، ومن البين أنه لا يحصل"الاطلاع"* إلا بالسماع منهم أو بنقل أهل التواتر إلينا، ولا سبيل إلى ذلك إلا في عصر الصحابة، وأما من بعدهم فلا. انتهى.
المقام الثالث: النظر في نقل الإجماع إلى من يحتج به
قالوا: لو سلمنا إمكان ثبوت الإجماع عند الإجماع عند الناقلين له لكان نقله إلى من يحتج به من بعدهم مستحيل؛ لأن طريق نقله إما التواتر أو الآحاد، والعادة تحيل النقل تواترًا لبعد أن يشاهد أهل التواتر كل واحد من المجتهدين شرقًا وغربًا "ويسمعون"** ذلك منهم، ثم "ينقلونه"*** إلى عدد متواتر ممن بعدهم، ثم كذلك في كل طبقة إلى أن يتصل "بنا"****.
وأما الآحاد: فغير معمول به في نقل الإجماع كما سيأتي1.
وأجيب: بأنه تشكيك في ضروري للقطع بإجماع أهل كل عصر على تقديم القاطع على المظنون، ولا يخفاك ما في هذا الجواب من المصادرة على المطلوب وأيضًا كون ذلك معلومًا ليس من جهة نقل الإجماع عليه، بل من جهة كون كل متشرع لا يقدم الدليل الظني على القطعي ولا يجوز منه ذلك لأنه إيثار للحجة الضعيفة على الحجة القوية، وكل عاقل لا يصدر منه ذلك.
المقام الرابع:
اختلف على تقدير تسليم إمكانه في نفسه وإمكان العلم به وإمكان نقله إلينا، هل هو حجة شرعية؟
فذهب الجمهور إلى كونه حجة.
وذهب النظام والإمامية، وبعض الخوارج إلى أنه: ليس بحجة، وإنما الحجة مستندة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الاطلاع عليه.
** في "أ": يسمعوا.
*** في "أ": ينقلوا.
**** في "أ": به.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "210".

ج / 1 ص -198- إن ظهر لنا، وإن لم يظهر لم نقدر للإجماع دليلًا تقوم به الحجة.
واختلف القائلون بالحجية، هل الدليل على حجيته العقل والسمع، أم السمع فقط؟
فذهب أكثرهم إلى أن الدليل على ذلك إنما هو السمع فقط، ومنعوا ثبوته من جهة العقل.
قالوا: لأن العدد الكثير وإن بعد في العقل اجتماعهم على الكذب فلا يبعد اجتماعهم على الخطأ كاجتماع الكفار على جحد النبوة.
وقال جماعة منهم أيضًا: إنه لا يصح الاستدلال على ثبوت الإجماع بالإجماع، كقولهم: إنهم أجمعوا على تخطئة المخالف للإجماع؛ لأن ذلك إثبات للشيء بنفسه وهو باطل فإن قالوا: إن الإجماع دل على نص قاطع في تخطئة المخالف ففيه إثبات الإجماع بنص يتوقف على الإجماع وهو دور.
وأجيب: بأن ثبوت هذه الصورة من الإجماع ودلالتها على وجود النص لا يتوقف على كون الإجماع حجة فلا دور ولا يخفاك ما في هذا الجواب من التعسف الظاهر.
ولا يصح أيضًا الاستدلال عليه بالقياس لأنه مظنون ولا يحتج بالمظنون على القطعي فلم يبق إلا دليل النقل من الكتاب والسنة.
فمن جملة ما استدلوا به قوله سبحانه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}1.
ووجه الاستدلال بهذه الآية أنه سبحانه جمع بين مشاقة الرسول وأتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين مباحًا لما جمع بينه وبين المحظور فثبت أن متابعة غير سبيل المؤمنين "محظورة، ومتابعة غير سبيل المؤمنين"* عبارة عن متابعة قول أو فتوى يخالف قولهم أو فتواهم وإذا كانت تلك محظورة وجب أن تكون متابعة قولهم وفتواهم واجبة.
وأجيب: بأنا لا نسلم أن المراد بسبيل المؤمنين في الآية هو إجماعهم لاحتمال أن يكون المراد سبيلهم في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أو في مناصرته أو في الاقتداء به أو فيما به صاروا مؤمنين وهو الإيمان به ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال.
قال في "المحصول": إن المشاقة عبارة عن الكفر بالرسول وتكذيبه، وإذا كان كذلك لزم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "115" من سورة النساء.

ج / 1 ص -199- وجوب العمل بالإجماع عند تكذيب الرسول وذلك باطل؛ لأن العلم بصحة الإجماع متوقف على العلم بالنبوة.
ويجاب: بأن العمل به حال عدم العلم بالنبوة يكون تكليفًا بالجمع بين الضدين، وهو محال، ثم قال: لا نسلم أنه إذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حرامًا عند المشاقة كان اتباع سبيل المؤمنين، واجبًا عند المشاقة لأن بين القسمين ثالثًا وهو عدم الاتباع أصلًا.
سلمنا أنه يجب اتباع سبيل المؤمنين عند المشاقة، ولكن لا نسلم أنه ممتنع.
قوله: المشاقة لا تحصل إلا عند الكفر، وإيجاب العمل عند حصول الكفر محال.
قلنا: لا نسلم أن المشاقة لا تحصل إلا مع الكفر، بيانه: أن المشاقة مشتقة من كون أحد الشخصين في شق والآخر في الشق الآخر، وذلك يكفي فيه أصل المخالفة سواء بلغ حد الكفر أو لم يبلغه.
سلمنا أن المشاقة لا تحصل إلا عند الكفر فلمَ قلتم: إن حصول الكفر ينافي العمل بالإجماع؟ فإن الكفر بالرسول كما يكون بالجهل بكونه صادقًا فقد يكون أيضًا بأمور أخر كشد الزنار1 ولبس الغيار2 وإلقاء المصحف في القاذورات، والاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم، مع الاعتراف بكونه نبيًّا وإنكار نبوته باللسان مع العلم بكونه نبيًّا وشيء من هذه الأنواع "كفر"* لا ينافي العلم بوجوب الإجماع.
ثم قال: سلمنا أن الآية تقتضي المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين، لا بشرط مشاقة الرسول لكن بشرط تبين الهدى أولًا. بهذا الشرط الأول مسلم، والثاني ممنوع؛ لأنه ذكر مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم و شرط فيها تبين الهدى، ثم عطف عليها اتباع غير سبيل المؤمنين، فيجب أن يكون تبين الهدى شرطًا في التوعد على "اتباع"** غير سبيل المؤمنين "لأن ما كان شرطًا في المعطوف عليه يجب أن يكون شرطًا في المعطوف، واللام في الهدي للاستغراق، فليزم أن لا يحصل التوعد على"*** اتباع غير سبيل المؤمنين إلا عند تبين جميع أنواع الهدى، ومن جملة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "ب": من الكفر.
** في "ب": متابعة.
*** مابين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الزنار: علامة للكفار، وهو خيط رفيع غليظ على أوساطهم خارج الثياب، وليس لهم إبداله بما يلطف كالمنديل "شفاء الغليل: 145".
2 الغيار: هو علامة للكفار كالزنار؛ وفي شرح المهذب: أن يخطوا على ثيابهم الظاهرة ما يخالف لونه لونها، وتكون الخياطة على الكتف دون الذيل، والأشبه أن لا تختص بالكتف "شفاء الغليل للخفاجي: 145".

ج / 1 ص -200- أنواع الهدى ذلك الدليل الذي لأجله ذهب أهل الإجماع إلى ذلك الحكم وعلى هذا التقدير لا يبقى للتمسك بالإجماع فائدة، "وأيضًا"* فالإنسان إذا قال لغيره: إذا تبين لك صدق فلان فاتبعه، فهم منه تبين صدق قوله بشيء غير قوله، فكذا هنا وجب أن يكون تبين صحة إجماعهم بشيء وراء الإجماع، وإذا كنا لا نتمسك بالإجماع إلا بعد دليل منفصل على صحة ما أجمعوا عليه لم يبق للتمسك بالإجماع فائدة.
سلمنا أنها تقتضي المنع "من"** متابعة غير سبيل المؤمنين ولكن هل المراد عن كل ما كان غير سبيل المؤمنين أو عن متابعة بعض ما كان كذلك. الأول "ممتنع"*** وبتقدير التسليم فالاستدلال ساقط أما المنع فلأن لفظ الغير ولفظ السبيل كل واحد منهما لفظ مفرد فلا يفيد العموم، وأما بتقدير التسليم فالاستدلال ساقط لأنه يصير معنى الآية: أن من اتبع كل ما كان مغايرًا لكل ما كان سبيل المؤمنين يستحق العقاب، والثاني مسلم ونقول بموجبه فإن عندنا يحرم بعض ما غاير بعض سبيل المؤمنين وهو السبيل الذي صاروا به مؤمنين والذي يغايره هو الكفر بالله وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا التأويل متعين لوجهين:
"أحدهما"****: "أنا"***** إذا قلنا: لا تتبع غير سبيل الصالحين فهم منه المنع من متابعة غير سبيل الصالحين فيما صاروا به صالحين، ولا يفهم منه المنع من متابعة سبيل غير الصالحين في كل شيء حتى الأكل والشرب.
والثاني: أن الآية نزلت في رجل ارتد وذلك يدل على أن الغرض منها المنع من الكفر.
"سلمنا خطر اتباع"****** غير سبيلهم مطلقًا لكن لفظ السبيل حقيقة في الطريق الذي يحصل فيه المشي وهو غير مراد هنا بالاتفاق فصار الظاهر متروكًا ولا بد من صرفه إلى المجاز، وليس البعض أولى من البعض فتبقى الآية مجملة.
وأيضًا: فإنه لا يمكن جعله مجازًا عن اتفاق الأمة على الحكم لأنه لا مناسبة ألبتة بين الطريق المسلوك وبين اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم على شيء من الأحكام، وشرط حسن التجوز حصول المناسبة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": أيضًا.
** في "أ": عن.
*** في "أ": ممنوع.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** في "أ": لأنا.
****** في "أ": الثاني أن الآية غير سبيلهم إلخ وهو تحريف كما هو في هامشها.


ج / 1 ص -201- سلمنا أنه: يجوز جعله مجازًا عن ذلك الاتفاق، لكن يجوز أيضًا جعله مجازًا عن الدليل الذي لأجله اتفقوا على ذلك الحكم فإنهم إذا أجمعوا على الشيء فإما أن يكون الإجماع عن استدلال "أو لا عن استدلال فإن كان عن استدلال"* فقد حصل لهم سبيلان: الفتوى والاستدلال عليه فلم كان حمل الآية على الفتوى أولى من حملها على الاستدلال؟ بل هذا أولى فإن بين الدليل الذي يدل على ثبوت الحكم، وبين الطريق الذي يحصل فيه المشي مشابهة فإنه كما أن الحركة البدنية في الطريق المسلوكة توصل البدن إلى المطلوب هكذا الحركة الذهنية في مقدمات ذلك الدليل موصلة للذهن إلى المطلوب والمشابهة إحدى جهات حسن المجاز.
وإذا كان كذلك كانت الآية تقتضي إيجاب اتباعهم في سلوك الطريق الذي لأجله اتفقوا على الحكم ويرجع حاصله إلى إيجاب الاستدلال، بما استدلوا به على ذلك الحكم وحينئذ يخرج الإجماع عن كونه حجة.
وأما إن كان إجماعهم لا عن استدلال فالقول لا عن استدلال خطأ فيلزم إجماعهم على الخطأ وذلك يقدح في صحة الإجماع.
ثم قال: سلمنا دلالة الآية على وجوب المتابعة، لكنها إما أن تدل على "وجوب"** متابعة بعض المؤمنين أو كلهم الأول باطل لأن لفظ المؤمنين جمع فيفيد الاستغراق لأن إجماع البعض غير معتبر بالإجماع ولأن أقوال الفرق متناقضة، والثاني مسلم ولكن كل المؤمنين هم الذين يوجدون إلى يوم القيامة فلا يكون الموجودون في العصر كل المؤمنين فلا يكون إجماعهم إجماع كل المؤمنين.
فإن قلت: المؤمنون هم المصدقون "وهم"*** والموجودون، وأما الذين لم يوجدوا بعد فليسوا المؤمنين.
قلت: إذا وجد أهل العصر الثاني لا يصح القول بأن أهل العصر الأول هم كل المؤمنين فلا يكون إجماع أهل العصر الأول عند حضور أهل العصر الثاني. قولًا لكل المؤمنين فلا يكون إجماع أهل العصر الأول حجة على أهل العصر الثاني.
سلمنا أن أهل العصر هم كل المؤمنين، لكن الآية إنما نزلت في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم فتكون الآية مختصة بمؤمني ذلك الوقت، وهذا يقتضي أن يكون إجماعهم حجة لكن التمسك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".

ج / 1 ص -202- بالإجماع إنما ينفع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فمهما لم يثبت أن الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية بقوا بأسرهم إلى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها اتفقت كلمتهم على الحكم الواحد لم تدل هذه الآية على صحة ذلك الإجماع، ولكن ذلك غير معلوم في شيء من الاجماعات الموجودة في المسائل، بل المعلوم خلافه لأن كثيرًا منهم مات زمان حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فسقط الاستدلال بهذه الآية.
ثم قال: سلمنا دلالة الآية على كون الإجماع حجة، لكن دلالة قطعية أم ظنية؟ الأول ممنوع والثاني مسلم. لكن المسألة قطعية فلا يجوز التمسك فيها بالأدلة الظنية.
قال: فإن قلت: إنا نجعل هذه المسألة ظنية.
قلت: إن أحدًا من الأئمة لم يقل إن الإجماع المنعقد بصريح القول دليل ظني، بل كلهم نفوا ذلك فإن منهم من نفى كونه دليلًا أصلًا، ومنهم من جعله دليلًا قاطعًا فلو اثبتناه دليلًا ظنيًّا لكان هذا تخطئة لكل الأمة وذلك يقدح في الإجماع.
والعجب من الفقهاء أنهم أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات والأخبار، وأجمعوا على أن المنكر لما تدل عليه العمومات لا يكفر، ولا يفسق إذا كان ذلك الإنكار لتأويل ثم يقولون الحكم الذي دل عليه الإجماع مقطوع، ومخالفه كافر وفاسق فكأنهم قد جعلوا الفرع أقوى من الأصل وذلك غفلة عظيمة.
سلمنا دلالة هذه الآية على أن الإجماع حجة لكنها معارضة بالكتاب والسنة والعقل.
أما الكتاب: فكل ما فيه منع لكل الأمة من القول "بالباطل"* والفعل الباطل كقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُون}1 {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلْ}2؛ والنهي عن الشيء لا يجوز، إلا إذا كان المنهي عنه متصورا.
وأما السنة فكثير، منها: قصة معاذ فإنه لم يجر فيها ذكر الإجماع، ولو كان ذلك مدرجًا شرعيًّا لما جاز الإخلال بذكره عند اشتداد الحاجة إليه؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الباطل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "169" البقرة والآية "33" من سورة الأعراف.
2 جزء من الآية "188" من سورة البقرة.
3 أجرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو، كتاب الإمارة، باب قوله: صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم" "1924". وأخرجه الطبراني عن عقبة "17/ 870" عن أحمد بن رشدين عن أحمد بن صالح عن ابن وهب وأيضًا من طريق سعيد بن أبي مريم عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب "17/ 869". وابن حبان في صحيحه "6836".

ج / 1 ص -203- ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"1.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جهالًا فسألوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"2.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا الفرائض، وعلموها الناس؛ فإنها أول ما ينسى"3.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أشراط الساعة أن يرتفع العلم ويكثر الجهل"4.
وهذه الأحاديث بأسرها تدل على خلو الزمان عمن يقوم بالواجبات.
وأما المعقول فمن وجهين:
الأول: أن كل واحد من الأمة جاز الخطأ عليه، فوجب جوازه على الكل كما أنه لما كان كل واحد من الزنج أسود، كان الكل أسود.
الثاني: أن ذلك الإجماع إما أن يكون لدلالة أو لأمارة، فإن كان لدلالة فالواقعة التي أجمع عليها كل علماء العالم تكون واقعة عظيمة، ومثل هذه الواقعة مما تتوفر الدواعي على نقل الدليل القاطع الذي لأجله أجمعوا وكان ينبغي اشتهار تلك الدلالة، وحينئذ لا يبقى في التمسك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري من حديث ابن عمر، كتاب الديات، باب قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} "6868". ومسلم، كتاب الإيمان، باب معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارًا" "66". وأبو داود كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان "4686". وابن أبي شيبة "15/ 30". والإمام أحمد في مسنده "2/ 85". وابن حبان في صحيحه "187". والنسائي، كتاب تحريم الذم، باب تحرير القتل "7/ 126". وابن ماجه، كتاب الفتن، باب لا ترجعوا بعدي كفارًا "3943".
2 أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو، كتاب العلم، باب كيف يطلب العلم "100"، ومسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه "2673". والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في ذهاب العلم "2652". وابن ماجه، المقدمة "52". الدارمي "1/ 77". وأحمد في مسنده "2/ 162، 190". وابن عبد البر في كتاب "جامع بيان العلم وفضله" "1/ 148-149". وابن حبان في صحيحه "4571".
3 أخرج الترمذي في حديث أبي هريرة بنحوه، كتاب الفرائض، باب ما جاء في تعليم الفرائض "2091" وابن ماجه، كتاب الفرائض، باب الحث على تعليم الفرائض "2719". والحاكم في المستدرك، كتاب الفرائض "4/ 332". وفي الباب من طريق عبد الله بن مسعود. وقال الذهبي: فيه حفص وهو واهٍ وذكره الحافظ المناوي في فيض القدير "3326". وقال ابن حجر: مدراه على حفص هذا وهو متروك.
4 أخرجه مسلم من حديث أنس بن مالك، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه "2671". وابن ماجه، كتاب الفتن، باب أشراط الساعة "4045". وعبد الرزاق في المصنف "20801". وأحمد في المسند "3/ 176". وأبو يعلى في مسنده "2892".

ج / 1 ص -204- بالإجماع فائدة، وإن كان لأمارة فهو محال؛ لأن الأمارات يختلف حال الناس فيها، فيستحيل اتفاق الخلق على مقتضاها، ولأن في الأمة من لم يقل بقول الأمارة حجة، لا يمكن اتفاقهم لأجل الأمارة على الحكم وإن كان لا لدلالة ولا لأمارة كان ذلك خطأ بالإجماع فلو اتفقوا عليه لكانوا متفقين على الباطل، وذلك قادح في الإجماع، هذا كلام صاحب المحصول وقد أسقطنا منه ما فيه ضعف وما اشتمل على تعسف وفي الذي ذكرناه ما يحتمل المناقشة.
وقد أجاب عن هذا الذي ذكرناه عنه بجوابات متعسفة، يستدعي ذكرها ذكر الجواب عليها منا فيطول البحث جدًّا، ولكنك إذا عرفت ما قدمناه1 كما ينبغي، علمت أن الآية لا تدل على مطلوب المستدلين منها.
ومن جملة ما استدلوا به قوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}2.
فأخبر سبحانه عن كون هذه الأمة وسطًا، والوسط من كل شيء خياره فيكون تعالى قد أخبر عن خيرية هذه الأمة، فلو أقدموا على شيء من المحظورات لما اتصفوا بالخيرية، وإذا ثبت أنهم لم يقدمون على شيء من المحظورات وجب أن يكون قولهم حجة.
لا يقال: الآية متروكة الظاهر؛ لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحد منهم بها، وخلاف ذلك معلوم بالضرورة لأنا نقول يتعين تعديلهم فيما يجتمعون عليه وحينئذ تجب عصمتهم عن الخطأ قولًا وفعلا، هذا تقرير الاستدلال بهذه الآية.
وأجيب: بأن عدالة الرجل عبارة عن قيامه بأداء الواجبات واجتناب المقبحات وهذا من فعله، وقد أخبر سبحانه أنه جعلهم وسطًا فاقتضى ذلك أن كونهم وسطًا من فعل الله، وذلك يقتضي أن يكون غير عدالتهم التي ليست من فعل الله.
وأجيب أيضًا: بأن الوسط اسم لما يكون متوسطًا بين شيئين، فجعله حقيقة في العدل يقتضي الاشتراك، وهو خلاف الأصل.
سلمنا أن الوسط من كل شيء خياره فلمَ قلتم: بأن خبر الله تعالى عن "خيرية قوم"* يقتضي اجتنابهم لكل المحظورات، ولِمَ لا يقال: إنه يكفي فيه اجتنابهم للكبائر وأما الصغائر فلا، وإذا كان كذلك فيحتمل أن الذي أجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقدح ذلك في خيريتهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": عن خيرتهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة "201-202".
2 جزء من الآية "143" من سورة البقرة.

ج / 1 ص -205- ومما يؤيد هذا أنه سبحانه حكم بكونهم عدولًا ليكونوا شهداء على الناس، وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة.
سلمنا أن المراد اجتنابهم الصغائر والكبائر لكنه سبحانه قد بين أن اتصافهم بذلك ليكونوا شهداء على الناس، ومعلوم أن هذه الشهادة إنما تكون في الآخرة "فيلزم"* فيجب وجوب تحقق عدالتهم هنالك؛ لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حال الأداء، لا حال التحمل.
سلمنا وجوب كونهم عدولًا في الدنيا، لكن المخاطب بهذا الخطاب هم الذين كانوا موجودين عند نزول الآية وإذا كان كذلك فهذا يقتضي عدالة أولئك دون غيرهم.
وقد أجيب عن هذا الجواب: بأن الله سبحانه عالم بالباطن والظاهر، فلا يجوز أن يحكم بعدالة أحد إلا والمخبر عنه مطابق للخبر، فلما أطلق الله سبحانه القول بعدالتهم، وجب أن يكونوا عدولًا في كل شيء بخلاف شهود الحاكم حيث تجوز شهادتهم وإن جازت عليهم الصغيرة؛ لأنه لا سبيل للحاكم إلى معرفة الباطن، فلا جرم اكتفى بالظاهر.
وقوله: الغرض من هذه العدالة أداء هذه الشهادة في الآخرة وذلك يوجب عدالتهم في الآخرة لا في الدنيا.
يقال: لو كان المراد صيرورتهم عدولًا في الآخرة، لقال: سنجعلكم أمة وسطًا، ولأن جميع الأمم عدول في الآخرة، فلا يبقى في الآية تخصيص لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، بهذه الفضيلة وكونه الخطاب لمن كان موجودًا عند نزول الآية ممنوع وإلا لزم اختصاص التكاليف الشرعية بمن كان موجودًا عند النزول، وهو باطل.
ولا يخفاك ما في هذه الأجوبة من الضعف، وعلى كل حال فليس في الآية دلالة على محل النزاع أصلًا فإن ثبوت كون أهل الإجماع بمجموعهم عدولًا لا يستلزم أن يكون قولهم حجة شرعية تعم بها البلوى، فإن ذلك أمر "متروك"** إلى الشارع لا إلى غيره، وغاية ما في الآية أن يكون قولهم مقبولًا إذا أخبرونا عن شيء من الأشياء، وأما كون اتفاقهم على أمر ديني يصيره دينًا ثابتًا عليهم، وعلى من بعدهم إلى يوم القيامة فليس في الآية ما يدل على هذا ولا هي مسوقة لهذا المعنى ولا تقتضيه بمطابقة ولا تضمن ولا التزام.
ومن جملة ما استدلوا به قوله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر}1، "وتقرير الاستدلال بالآية: أنه سبحانه وصفهم بالخيرية المفسرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": فيجب.
** ما بين قوسين ساقط من "1".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "110" من سورة آل عمران.

ج / 1 ص -206- على طريق الاستدلال بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"*.
وهذه الخيرية توجب "الحقية"** لما أجمعوا عليه وإلا كان ضلالًا، فماذا بعد الحق إلا الضلال.
وأيضًا لو أجمعوا على الخطأ لكانوا آمرين بالمنكر وناهين عن المعروف وهو خلاف المنصوص والتخصيص بالصحابة لا يناسب وروده في مقابلة أمم سائر الأنبياء.
وأجيب: بأن الآية مهجورة الظاهر؛ لأنها تقتضي اتصاف كل واحد منهم بهذا الوصف والمعلوم خلافه، ولو سلمنا ذلك لم نسلم أنهم يأمرون بكل معروف.
هكذا قيل في الجواب، ولا يخفاك أن الآية لا دلالة لها على محل النزاع ألبتة، فإن اتصافهم بكونهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر لا يستلزم أن يكون قولهم حجة شرعية تصير دينًا ثابتًا على كل الأمة بل المراد أنهم يأمرون، بما هو معروف في هذه الشريعة وينهون عما هو منكر فيها فالدليل على كون ذلك الشيء معروفًا أو منكرًا هو الكتاب أو السنة لا إجماعهم غاية ما في الباب إن إجماعهم يصير قرينة على أن في الكتاب والسنة ما يدل على ما أجمعوا عليه، وإما إنه دليل بنفسه فليس في هذه الآية ما يدل على ذلك.
ثم الظاهر: أن المراد من الأمة هذه الأمة بأسرها، لا أهل عصر من العصور، بدليل مقابلتهم بسائر أمم الأنبياء فلا يتم الاستدلال بها على محل النزاع، وهو إجماع المجتهدين في عصر من العصور.
ومن جملة ما استدلوا به من السنة، ما أخرجه الطبراني في "الكبير" من حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لن تجتمع أمتي على الضلالة"1.
وتقرير الاستدلال بهذا الحديث: أن عمومه ينفي وجود الضلالة، والخطأ ضلالة، فلا يجوز الإجماع عليه فيكون ما أجمعوا عليه حقا.
وأخرج أبو داود عن أبي مالك الأشعري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: $"إن الله أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": الحقيقة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة "2167". وبنحوه أخرج الطبراني في الكبير "12/ 342" "13623". والحاكم، كتاب العلم "1/ 115". وروي أيضًا بنحوه عن ابن عباس عند الحاكم "1/ 116". والترمذي "2166" وقال: حسن غريب. وابن أبي عاصم في السنة "9".

ج / 1 ص -207- على ضلالة"1.
وأخرجه الترمذي عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجتمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار". وأخرج ابن أبي عاصم عن أنس مرفوعًا نحوه بدون قوله: "ويد الله مع الجماعة" إلخ.
ويجاب عنه بمنع كون الخطأ المظنون ضلالة.
وأخرج البخاري ومسلم من حديث المغيرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون"2.
وأخرج نحوه مسلم والترمذي وابن ماجة من حديث ثوبان.
وأخرج نحوه مسلم أيضًا من حديث عقبة بن عامر.
ويجاب عن ذلك بأن غاية ما فيه: أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن طائفة من أمته بأنهم يتمسكون بما هو الحق ويظهرون على غيرهم فأين هذا من محل النزاع.
ثم قد ورد تعيين هذا الأمر الذي يتمسكون به، ويظهرون على غيرهم بسببه، فأخرج مسلم من حديث عقبة مرفوعًا: "لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون عن أمر الله قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك"3. "ومن جملة ما استدلوا به حديث: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله" وقد قدمنا4 أنه غير صحيح"*.
وأخرجه بنحو هذا اللفظ أحمد، وأبو داود، من حديث عمران بن حصين5، وأخرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة مرفوعًا لزهير6: "لا يزال هذا الدين قائمًا تقاتل عنه عصابة من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود، كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها "4253" وأشارالسيوطي في الجامع الصغير لضعفه.
2 أخرجه البخاري في المناقب، باب "28" برقم "3640". مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة.." "1921" وأخرجه الطبراني في الكبير "20/ 402 "959". والإمام أحمد "4/ 244".
3 أخرجه مسلم من حديث عقبة، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتى..." "1925". والطبراني في الكبير 17/ 314 "870". وابن حبان في صحيحه "6836".
4 انظر صفحة: "179".
5 أخرجه أبو داود كتاب الجهاد، باب في دوام الجهاد "2484" وأحمد "3/ 345".
6 هو زهير بن حرب بن شداد، الحرشي، النسائي، الحافظ، الحجة، أحد أعلام الحديث أبو خثيمة، ولد سنة ستين ومائة هـ، حدث عن ابن عيينة وهشيم وجماعة، وحدث عنه الشيخان، أبو داود، وابن ماجه، وجماعة توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 489"، تهذيب التهذيب "3/ 342" شذرات الذهب "2/ 80".

ج / 1 ص -208- المسلمين حتى تقوم الساعة"1.
ومن جملة ما استدلوا به حديث: "من فارق الجماعة شبرًا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"2، أخرجه أحمد وأبو داود، والحاكم في "مستدركه" من حديث أبي ذر. وليس فيه إلا المنع من مفارقة الجماعة، فأين هذا من محل النزاع؟ وهو كون ما أجمعوا عليه حجة ثابتة شرعية "لا يجوز مخالفتها إلى آخر الدهر، وأي ملجئ إلى التمسك بالإجماع وجعله حجة شرعية"* وكتاب الله وسنة رسوله موجودان بين أظهرنا، وقد وصف الله سبحانه كتابه بقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}3، فلا يرجع في تبيين الأحكام إلا إليه وقوله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول}4 والرد إلى الله الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول الرد إلى سنته.
والحاصل أنك إذا تدبرت ما ذكرناه في هذه المقامات، وعرفت ذلك حق معرفته تبين لك ما هو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة.
ولو سلمنا جميع ما ذكره القائلون بحجية الإجماع، وإمكانه، وإمكان العلم به، فغاية ما يلزم من ذلك أن يكون ما أجمعوا عليه حقًّا، ولا يلزم من كون الشيء حقًّا وجوب اتباعه، كما قالوا إن كل مجتهد مصيب، ولا يجب على مجتهد آخر "بل ولا يجب على المقلد"** اتباعه في ذلك الاجتهاد بخصوصه.
وإذا تقرر لك هذا علمت ما هو الصواب، وسنذكر ما ذكره أهل العلم في مباحث الإجماع من غير تعرض لدفع ذلك اكتفاء بهذا الذي حررناه هنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم، من حديث جابر بن سمرة، كتاب الإمارة، باب قوله: "لا تزال طائفة من أمتي.." "1922". وأحمد في مسنده "5/ 98" من طريق أسباط وأيضًا في "5/ 103". وابن حبان في صحيحه "6837".
2 أخرجه الترمذي من حديث الحارث الأشعري، كتاب الأمثال، باب ما جاء في مثل الصلاة والصوم والصدقة "2863". وابن خزيمة في صحيحه "1895". وأبو يعلى في مسنده "1571". والحاكم في المستدرك "1/ 118" ومن حديث أبي ذر في "1/ 117". والطيالسي "1161". والطبراني من طريق أبان بن يزيد "3427". وأبو داود من حديث أبي ذر "4758"، وأحمد في مسنده "4/ 130".
3 جزء من الآية "89" من سورة النحل.
4 جزء من الآية "59" من سورة النساء.

ج / 1 ص -209- البحث الثالث: في ظنية الإجماع أو قطعيته
اختلف القائلون بحجية الإجماع هل هو حجة قطعية أو ظنية؟ فذهب جماعة منهم إلى أنه حجة قطعية، وبه قال الصيرفي وابن برهان، وجزم به من الحنفية الدبوسي وشمس الأئمة. وقال الأصفهاني: إن هذا القول هو المشهور، وأنه يقدم الإجماع على الأدلة كلها، ولا يعارضه دليل أصلا، ونسبه إلى الأكثرين، قال: بحيث يكفر مخالفه أو يضلل يبدع.
وقال جماعة، منهم الرازي، والآمدي: إنه لا يفيد إلا الظن.
وقال جماعة بالتفصيل بين ما اتفق عليه المعتبرون فيكون حجة قطعية، وبين ما اختلفوا فيه كالسكوتي، وما ندر مخالفه فيكون حجة ظنية. وقال البزدوي1 وجماعة من الحنفية: الإجماع مراتب، فإجماع الصحابة مثل الكتاب والخبر المتواتر، وإجماع من بعدهم بمنزلة المشهور من الأحاديث، والإجماع الذي سبق فيه الخلاف في العصر السابق بمنزلة خبر الواحد واختار بعضهم في الكل أنه ما يوجب العمل لا العلم فهذه مذاهب أربعة.
ويتفرع عليها الخلاف في كونه يثبت بأخبار الآحاد والظواهر أم لا، فذهب الجمهور إلى أنه لا يثبت بهما، قال القاضي في "التقريب": وهو الصحيح، وذهب جماعة إلى ثبوته بهما في العمل خاصة ولا ينسخ به قاطع كالحال في أخبار الآحاد "فإنها تقبل في العمليات لا في العلمانيات"* وقال: دل الدليل على قبولها في العمليات.
وأجاب الجمهور عن هذا بأن أخبار الآحاد قد دل الدليل على قبولها، ولم يثبت مثل ذلك في الإجماع، فإن ألحقناه بها كان إلحاقًا بطريق القياس "ولا يجري ذلك في الأصول لأنها قواعد الشريعة فلا تنعقد لمجرد القياس"** وصحح هذا القول عبد الجبار والغزال. قال الرازي في "المحصول": الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة، خلافًا لأكثر الناس؛ لأن ظن وجوب العمل به حاصل فوجب العمل به دفعًا للضرر المظنون، ولأن الإجماع نوع من الحجة، فيجوز

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو علي بن محمد بن الحسين، البزدوي، أبو الحسن "فخر الدين"، فقيه أصولي، محدث، مفسر، ولد سنة أربعمائة هـ، وتوفي سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة هـ، من آثاره: "المبسوط" "شرح الجامع الكبير للشيباني" "كتاب في أصول الفقه" مشهور بأصول البزودي. ا.هـ, سير أعلام النبلاء "18/ 602"، الجواهر المضية "2/ 594"، الفوائد البهية "124"، معجم المؤلفين "7/ 192".

ج / 1 ص -210- التمسك بمظنونه، كما يجوز بمعلومه، قياسًا على السنة ولأنا قد بينا أن أصل الإجماع فائدة ظنية، فكيف القول في تفاصيله. انتهى.
قال الآمدي: والمسألة دائرة على اشتراط كون دليل الأصل مقطوعًا به، وعلى عدم اشتراطه، فمن شرط القطع منع أن يكون خبر الواحد مفيدًا في نقل الإجماع، ومن لم يشترط لم يمنع، وكلام الجويني يشعر بأن الخلاف ليس مبنيًا على هذا الأصل، بل هو جار مع القول بأن أصل الإجماع ظني.
وإذا قلنا بالاكتفاء بالآحاد في نقله كالسنة، فهل ينزل الظن المتلقى من أمارات، وحالات منزلة الظن الحاصل من نقل العدول؟ قال الأبياري: فيه خلاف.
البحث الرابع: فيما ينعقد به الإجماع
اختلفوا فيما ينعقد به الإجماع، فقال جماعة: لا بد له من مستند؛ لأن أهل الإجماع ليس لهم الاستقلال بإثبات الأحكام، فوجب أن يكون عن مستند، ولأنه لو انعقد عن غير مستند لاقتضى إثبات "شرع"*بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو باطل.
وحكى عبد الجبار عن قوم: أنه يجوز أن يكون عن غير مستند، وذلك بأن يوفقهم الله لاختيار الصواب من دون مستند، وهو ضعيف؛ لأن القول في دين الله لا يجوز بغير دليل.
وذكر الآمدي أن الخلاف في الجواز لا في الوقوع، ورد عليه بأن ظاهر الخلاف في الوقوع، قال الصيرفي: ويستحيل أن يقع الإجماع بالتواطؤ ولهذا كانت الصحابة لا يرضى بعضهم من بعض بذلك، بل يتباحثون حتى أحوج بعضهم القول في الخلاف إلى المباهلة1، فثبت أن الإجماع لا يقع منهم إلا عن دليل.
وجعل الماوردي والروياني أصل الخلاف، هل الإلهام دليل أم لا؟ وقد اتفق القائلون بأنه لا بد له من مستند، إذا كان عن دلالة، واختلفوا فيما إذا كان عن أمارة فقيل بالجواز مطلقا، سواء كانت الأمارة جلية أو خفيفة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ" نوع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي الملاعنة، وأصل الابتهال: الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره.
يقال بهله الله: أي لعنه، وفي النتزيل: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}. ا. هـ. القرطبي "4/ 104"

ج / 1 ص -211- قال الزركشي في "البحر": ونص عليه الشافعي فجوز الإجماع عن قياس، وهو قول الجمهور.
قال الروياني: وبه قال عامة أصحابنا، وهو المذهب. قال ابن القطان: لا خلاف بين أصحابنا في جواز وقوع الإجماع عنه، في قياس المعنى على المعنى وأما قياس الشبه فاختلفوا فيه على وجهين، وإذا وقع عن الأمارة وهي: المفيد للظن وجب أن يكون الظن صوابًا للدليل الدال على العصمة.
والثاني: المنع مطلقًا، وبه قال الظاهرية ومحمد بن جرير الطبري، فالظاهرية منعوه لأجل إنكارهم القياس، وأما ابن جرير فقال: القياس حجة ولكن الإجماع إذا صدر عنه لم يكن مقطوعًا بصحته، واحتج ابن القطان على ابن جرير بأنه قد وافق على وقوعه عن خبر الواحد، وهم مختلفون فيه فكذلك القياس.
ويجاب عنه: بأن خبر الواحد قد أجمعت عليه الصحابة بخلاف القياس.
والمذهب الثالث: التفصيل بين كون الأمارة جلية فيجوز انعقاد الإجماع عنها أو خفية فلا يجوز حكاه ابن الصباغ عن بعض الشافعية.
والمذهب الرابع: أنه لا يجوز الإجماع إلا عن أمارة ولا يجوز عن دلالة للاستغناء بها عنه حكاه السمرقندي1 في "الميزان" عن مشايخهم، وهو قادح فيما نقله البعض من الإجماع على جواز انعقاد الإجماع عن دلالة.
ثم اختلف القائلون بجوز انعقاد الإجماع عن غير دليل، هل يكون حجة؟
فذهب الجمهور: إلى أنه حجة.
وحكى ابن فورك، وعبد الوهاب وسليم الرازي، عن قوم منهم: أنه لا يكون حجة.
ثم اخنلفوا: هل يجب على المجتهد أن يبحث عن مستند الإجماع أم لا؟
فقال الأستاذ أبو إسحاق: لا يجب على المجتهد طلب الدليل الذي وقع الإجماع به، فإن ظهر له ذلك أو نقل إليه كان أحد أدلة المسألة قال أبو الحسن السهيلي2: إذا أجمعوا على حكم ولم يعلم أنهم أجمعوا عليه من دلالة آية أو قياس أو غيره، فإنه يجب المصير إليه لأنهم لا يجمعون إلا عن دلالة ولا يجب معرفتها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن أحمد، أبو منصور، الحنفي، الأصولي، شيخ كبير، فاضل، جليل القدر، صاحب تحفة الفقهاء، توفي سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة هـ، واختلف في كنيته فذكره في الفوائد البهية بأبي بكر، وفي تاج التراجم، والجواهر المضية أبو منصور. ا. هـ. تاج التراجم "252"، الفوائد البهية "158"، الجواهر المضية "3/ 18".
وكتابه الميزان: اسمه ميزان الأصول في نتائج العقول، وهو في أصول الفقه. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1916".
2 هو علي بن أحمد، أبو الحسن الإسفراييني، فقيه، متكلم، جدلي، محدث، خطب في جامع دمشق سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة هجرية، من آثاره: "أدب الجدل"، وكتاب في الرد على المعتزلة وبيان عجزهم "معجم المؤلفين: 7/ 17". ولم تعرف سنة وفاته.

ج / 1 ص -212- البحث الخامس: في اعتبار المجتهد المبتدع في الإجماع
هل يعتبر في الإجماع المجتهد المبتدع، إذا كانت بدعته تقتضي تكفيره؟
فقيل: لا يعتبر في الإجماع. قال الزركشي: بلا خلاف لعدم دخوله في مسمى الأمة المشهود لهم بالعصمة وإن لم يعلم هو كفر نفسه، قال الصفي الهندي: لو ثبت لكان لا يمكن الاستدلال بإجماعنا على كفره، بسبب ذلك الاعتقاد لأنه إنما ينعقد إجماعنا وحده على كفره "لو ثبت كفره"* وإثبات كفره بإجماعنا وحده دور. وأما إذا وافقنا هو على أن ما ذهب إليه كفر فحينئذ يثبت كفره؛ لأن قوله معتبر في الإجماع "على أنه كافر، لا لإجماعنا وحده.
وأما إذا اعتقد ما لا يقتضي التكفير، بل التضليل والتبديع فاختلفوا فيه على أقوال:
الأول:
اعتبار قوله في الإجماع"** لكونه من أهل الحل والعقد، قال الهندي: وهو الصحيح.
الثاني:
لا يعتبر، قال الأستاذ أبو منصور: قال أهل السنة: لا يعتبر في الإجماع وفاق القدرية1، والخوارج2، والرافضة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهم المعتزلة يسمون بالقدرية، والعدلية، وأصحاب العدل والتوحيد، وهم قد جعلوا لفظ القدر مشتركًا وقالوا: لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله تعالى، احترازًا من وصمة اللقب، إذ كان الذم به متفقًا عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "القدرية مجوس هذه الأمة" ا. هـ. الملل والنحل "1/ 43".
2 هو اسم لكل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم، وشارع هذا الاسم على الذين خرجوا على سيدنا علي رضي الله عنه، وأولهم: الأشعت بن قيس الكندي، وهو أشد الناس خروجًا ومروقًا من الدين. ا. هـ. الملل والنحل "1/ 114".

ج / 1 ص -213- وهكذا رواه أشهب1 عن مالك، ورواه العباس بن الوليد2 عن الأوزاعي، ورواه أبو سليمان الجوزجاني3 عن محمد بن الحسن4.
وحكاه أبو ثور5 عن أئمة الحديث.
قال أبو بكر الصيرفي: ولا يخرج عن الإجماع من كان من أهل العلم، وإن اختلفت بهم الأهواء كمن قال بالقدر، ومن رأى الإرجاء، وغير ذلك من اختلاف آراء أهل الكوفة، والبصرة6، إذا كان من أهل الفقه.
فإذا قيل: قالت الخطابية7، والرافضة: كذا، لم يلتفت إلى هؤلاء في الفقه؛ أنهم ليسوا من أهله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو ابن عبد العزيز القيسي، أبو عمرو، الفقيه المصري، قيل اسمه مسكين، وأشهب لقبه كان صاحب الإمام مالك، ولد سنة خمس وأربعين ومائة هـ، وتوفي سنة أربع ومائتين. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 500" شذرات الذهب "2/ 12"، تهذيب التهذيب "1/ 359.
2 هو الإمام الحجة، المقرئ، الحافظ، أبو الفضل، العذري، البيروتي، ولد سنة تسع وستين ومائة هـ، حدث عنه أبو داود، والنسائي، وجماعة، وسمع من أبيه وتفقه به، وذكر أحاديث عن أبيه عن الأوزعي، توفي سنة سبعين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 471"، شذرات الذهب "2/ 160"، تهذيب التهذيب "5/ 131".
3 هو موسى بن سليمان، أبو سليمان، الإمام العلامة، الحنفي البغدادي، صاحب أبي يوسف ومحمد، من آثاره: "السير الصغير" "الصلاة" "الرهن" "نوادر الفتاوى"، عرض المأمون القضاء عليه فاعتذر، توفي سنة مائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 194" معجم المؤلفين "13/ 38"، هدية العارفين "2/ 477"، الفوائد البهية "216".
4 هو ابن فرقد الشيباني بالولاء، أبو عبد الله، الحنفي، العلامة، فقيه العراق صاحب أبي حنيفة، ولي القضاء للرشد بعد أبي يوسف، أصله من قرية حرسته في غوطة، من آثاره: "المبسوط" "الزيادات" "الآثار" وغيرها، توفي سنة تسع وثمانين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 134"، معجم المؤلفين "9/ 207"، شذرات الذهب "1/ 322".
5 هو إبراهيم بن خالد البغدادي، يكنى بأبي ثور، وأبي عبد الله الفقيه، صاحب الإمام الشافعي، قال ابن حبان: كان أحد أئمة الدنيا فقهًا، وعلمًا، وورعًا، وفضلًا، صنف الكتب، وفرع السنن، وذب عنها، توفي ببغداد سنة أربعين ومائتين هـ، ا. هـ. تذكرة الحفاظ "2/ 512"، سير أعلام النبلاء "12/ 72"، شذرات الذهب "2/ 93".
6 أهل الكوفة: هم أصحاب أبي حنيفة، وأهل البصرة: هم أهل الاعتزال.
7 هم أصحاب أبي الخطاب، محمد بن أبي زينب الأسدي، الذي عزا نفسه إلى جعفر بن محمد الصادق، فلما وقف الصادق على غلوه الباطل في حقه تبرأ منه، ولعنه، وأمر أصحابه بالبراءة منه، فلما اعتزل عنه ادعى الإمامة لنفسه، زعم أن الأئمة أنبياء ثم آلهة، وقال بإلهية جعفر بن محمد، وإلهيه آبائه رضي الله عنهم. ا. هـ. الملل والنحل "1/ 179".

ج / 1 ص -214- قال ابن القطان: الإجماع عندنا إجماع أهل العلم. فأما من كان من أهل الأهواء فلا مدخل له فيه.
قال: قال أصحابنا في الخوارج: لا مدخل لهم في الإجماع، والاختلاف؛ لأنهم ليس لهم أصل ينقلون عنه؛ لأنهم يكفرون سلفنا الذين أخذنا عنهم أصل الدين.
وممن اختار أنه لا يعتد به من الحنفية أبو بكر الرازي، ومن الحنابلة القاضي أبو يعلى واستقرأه من "كلام"* أحمد لقوله: لا يشهد عندي رجل ليس هو عندي بعدل، وكيف أجوز حكمه. قال القاضي يعني: الجهمي1.
القول الثالث:
أنه لا ينعقد عليه الإجماع، وينعقد على غيره، يعني أنه يجوز له مخالفة من عداه إلى ما أدى إليه اجتهاده، ولا يجوز لأحد أن يقلده، كذا حكاه الآمدي وتابعه المتأخرون.
القول الرابع:
التفصيل بين من كان من المجتهدين المبتدعين داعية، فلا يعتبر في الإجماع، وبين من لم يكن داعية فيعتبر، حكاه ابن حزم في كتاب "الأحكام" ونقله عن جماهير سلفهم من المحدثين، قال: وهو قول فاسد؛ لأنا نراعي العقيدة.
قال القاضي أبو بكر، والأستاذ أبو إسحاق: أنه لا يعتد بخلاف من أنكر القياس، ونسبه الأستاذ إلى الجمهور، وتابعهم إمام الحرمين، والغزالي قالوا: لأن من أنكره لا يعرف طرق الاجتهاد، وإنما هو متمسك بالظواهر فهو كالعامي، الذي لا معرفة له.
ولا يخفاك أن هذا التعليل يفيد خروج من عرف القياس، وأنكر العمل به كما كان من كثير من الأئمة، فإنهم أنكروه عن علم به، لا عن جهل له.
قال النووي في باب السواك من "شرح مسلم": إن مخالفة داود لا تقدح في انعقاد الإجماع، على المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون.
وقال صاحب "المفهم"2: جل الفقهاء والأصوليين أنه لا يعتد بخلافهم، بل هم من جملة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": قول.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو جهم بن صفوان، أبو محرز الراسبي، السمرقندي، الكاتب المتكلم، رأس الضلالة، ورأس الجهمية، كان صاحب ذكاء، وجدل، كان ينكر الصفات، وينزه الباري عنها بزعمه، ويقول بخلق القرآن، ومات سنة ثمانٍ وعشرين ومائة هـ. ا.هـ، سير أعلام البنلاء "6/ 26" الكامل في التاريخ "5/ 394" الأعلام "2/ 141".
2 واسمه: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس، أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي، المتوفى سنة ست وخمسين وستمائة هـ، وهو شرح على مختصر مسلم له، ذكر فيه: أنه لما لخصه ورتبه، وبوبه، شرح غريبه، ونبه على نكت من إعرابه، وعلى وجوه الاستدلال بأحاديثه. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 557".

ج / 1 ص -215- العوام، وأن من اعتد بهم فإنما ذلك؛ لأن مذهبه أنه يعتبر خلاف العوام في انعقاد الإجماع والحق خلافه.
وقال القاضي عبد الوهاب في "الملخص": يعتبر كما يعتبر خلاف من ينفي المراسيل، ويمنع العموم، ومن حمل الأمر على الوجوب؛ لأن مدار الفقه على هذه الطرق.
وقال الجويني: المحققون لا يقيمون لخلاف الظاهرية وزنًا؛ لأن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد، ولا تفي النصوص بعضر معشارها.
ويجاب عنه: بأن من عرف نصوص الشريعة حق معرفتها وتدبر آيات الكتاب العزيز، وتوسع في الاطلاع على السنة المطهرة، علم بأن نصوص الشريعة "تفي بجميع ما تدعو الحاجة إليها في جميع الحوادث، وأهل الظاهر فيهم من أكابر الأئمة وحفاظ الشريعة المتقيدين بنصوص الشريعة"*
جمع جم، ولا عيب لهم إلا ترك العمل بالآراء الفاسدة التي لم يدل عليها كتاب، ولا سنة ولا قياس مقبول.
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها1
نعم قد جمدوا في مسائل كان ينبغي لهم ترك الجمود عليها، ولكنها بالنسبة إلى ما وقع في مذهب غيرهم، من العمل بما لا دليل عليه ألبتة قليلة جدًّا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عجز بيت وصدره: وعيرها الواشون أني أحبها وهو لأبي ذؤيب الهذلي انظر الهذلين "1/ 21".
البحث السادس: اعتبار التابعي المجتهد في الإجماع
إذا أدرك التابعي عصر الصحابة وهو من أهل الاجتهاد، لم ينعقد إجماعهم إلا به،كما حكاه جماعة منهم: القاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ، وابن السمعاني وأبو الحسن السهيلي.
قال القاضي عبد الوهاب: إنه الصحيح، ونقله السرخسي -من الحنفية- عن أكثر أصحابهم. قال: ولهذا قال أبو حنيفة: لا يثبت إجماع الصحابة في الإشعار1؛ لأن إبراهيم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أن يطعن في أسفل سنام الناقة ويجرحها من الجانب الأيمن أو الأيسر ا. هـ. الهداية "1/ 190".

ج / 1 ص -216- النخعي1 كان يكرهه، وهو ممن أدرك عصر الصحابة فلا يثبت إجماعهم بدون قوله.
والوجه في هذا القول: أن الصحابة عند إدراك بعض مجتهدي التابعين "لهم"* هم بعض الأمة لا كلها، وقد سئل ابن عمر عن فريضة. فقال اسألوا ابن جبير فإنه أعلم بها، وكان أنس يُسأل فيقول: سلوا مولانا الحسن فإنه سمع وسمعنا وحفظ ونسينا.
وسئل ابن عباس عن "ذبح"** الولد فأشار إلى مسروق. فلما بلغه جوابه تابعه عليه.
وقال جماعة: إنه لا يعتبر المجتهد التابعي، الذي أدرك عصر الصحابة في إجماعهم، وهو مروي عن إسماعيل بن علية، ونفاه القياس وحكاه الباجي عن ابن خويز منداد واختاره ابن برهان في "الوجيز"2.
وقيل: إن بلغ التابعي رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة، ثم وقعت حادثة فأجمعوا عليها، وخالفهم لم ينعقد إجماعهم، وإن أجمعوا قبل بلوغه رتبة الاجتهاد، فمن اعتبر انقراض العصر اعتد بخلافه ومن لم يعتبره لم يعتد بخلافه.
وقال القفال: إذا عاصرهم، وهو غير مجتهد، ثم اجتهد ففيه وجهان: يعتبر "أو"*** لا يعتبر.
قال بعضهم: إنه إذا تقدم "إجماع"**** الصحابة على اجتهاد التابعي، فهو محجوج بإجماعهم قطعًا.
قال الآمدي: القائلون بأنه لا ينعقد إجماعهم "دونه"***** اختلفوا: فمن لم يشترط انقراض العصر، قال: إن كان من أهل الاجتهاد قبل إجماع الصحابة لم ينعقد إجماعهم "مع مخالفته، وإن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": فيهم.
** في "أ": دلج وهو تحريف.
*** في "أ": ولا.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** في "أ": دونهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الإمام، الحافظ، فقيه العراق، أبو عمران، إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود، من أكابر التابعين صلاحًا، وصدقًا، ورواية، وحفظًا للحديث، توفي سنة ست وتسعين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 520" تهذيب التهذيب "1/ 177"، تذكرة الحفاظ "1/ 73".
2 واسمه: "الوجيز في الأصول" لأبي الفتح أحمد بن على المعروف: بابن برهان. الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "98". ا. هـ. كشف الظنون "2/ 2001".

ج / 1 ص -217- بلغ رتبة الاجتهاد بعد انعقاد إجماعهم"* "لم"** يعتد بخلافه. قال: وهذا مذهب الشافعي، وأكثر المتكلمين وأصحاب أبي حنيفة، وهي رواية عن أحمد، ومن اشترط انقراض العصر قال: لا ينعقد إجماع الصحابة به مع مخالفته "سواء كان مجتهدًا حال إجماعهم أو صار مجتهدًا بعد ذلك في عصرهم"*** وإن بلغ الاجتهاد حال انعقاد إجماعهم أو بعد ذلك في عصرهم.
قال: وذهب قوم إلى أنه لا عبرة بمخالفته أصلًا، وهو مذهب بعض المتكلمين وأحمد بن حنبل في الرواية الأخرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": وإلا لم يعتد.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
البحث السابع: حكم إجماع الصحابة
إجماع الصحابة حجة بلا خلاف، ونقل القاضي عبد الوهاب عن قوم من المبتدعة أن إجماعهم ليس بحجة.
وقد ذهب إلى اختصاص حجية الإجماع بإجماع الصحابة داود الظاهري، وهو ظاهر كلام ابن حبان في صحيحه، وهذا هو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل فإنه قال في رواية أبي داود عنه: الإجماع أن يتبع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، وهو في التابعين مخير.
وقال أبو حنيفة: إذا أجمعت الصحابة على شيء سلمنا، وإذا أجمع التابعون زاحمناهم.
قال أبو الحسن السهيلي في "أدب الجدل"1: النقل عن داود بما إذا أجمعوا على نص كتاب أو سنة، فأما إذا أجمعوا على حكم من جهة القياس فاختلفوا فيه.
وقال ابن وهب2 ذهب: داود وأصحابنا إلى أن الإجماع إنما هو إجماع الصحابة فقط وهو قول لا يجوز خلافه؛ لأن الإجماع إنما يكون عن توقيف والصحابة هم الذين شهدوا التوقيف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر في ترجمة أبي الحسن السهيلي السابقة، ص212.
2 لعله عبد الله بن وهب، الحافظ الكبير، أبو محمد الدينوري، روى عن أبي سعيد الأشج وطبقته، طوف الأقاليم، قال النيسابوري، كان أبو زرعة يعجز عن مذاكرته توفي سنة ثمانٍ وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام البنلاء "14/ 400"، شذرات الذهب "2/ 252"، تذكرة الحفاظ "2/ 754".

ج / 1 ص -218- فإن قيل: فما تقولون في إجماع من بعدهم؟ قلنا: هذا لا يجوز لأمرين:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنبأ عن ذلك فقال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين"1.
والثاني: أن سعة أقطار الأرض وكثرة العدد لا تمكن من ضبط أقوالهم، ومن ادعى هذا لا يخفى على أحد كذبه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في الصفحة "207".

ج / 1 ص -219- البحث الثامن: حكم إجماع أهل المدينة
إجماع أهل المدينة على انفرادهم ليس بحجة عند الجمهور؛ لأنهم بعض الأمة.
وقال مالك: إذا أجمعوا لم يعتد بخلاف غيرهم.
قال الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث"1: قال بعض أصحابنا: إنه حجة، وما سمعت أحد ذكر قوله إلا عابه وأن ذلك عندي معيب. وقال الجرجاني: إنما أراد مالك الفقهاء السبعة2 وحدهم، والمشهور عنه الأول.
ويشكل على ما روي عن مالك من حجية إجماع أهل المدينة "أنه نقل في الموطأ3 في باب: العيب في الرقيق إجماع أهل المدينة"*على أن البيع بشرط البراءة لا يجوز، ولا يبرئ من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو للإمام محمد بن إدريس، الشافعي، ذكره ابن الجمع المؤسس. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 32".
2 وهم: أ- سعيد بن المسيب: المولود قبل موت عمر بأربع سنين المتوفى سنة أربع وتسعين هـ.
ب- عروة بن الزبير: ولد سنة تسع وعشرين هـ، وتوفي سنة أربع وتسعين هـ.
ج- أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث: الملقب براهب قريش لعبادته توفي سنة أربع وتسعين هـ.
د- القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي: توفي سنة سبع ومائة هـ.
هـ- عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: توفي سنة ثمانٍ وتسعين هـ.
و- سليمان بن يسار: توفي سنة سبع ومائة هـ.
ز- خارجة بن زيد بن ثابت: توفي سنة "مائة هـ".
وسموا بالفقهاء السبعة: لأنهم كانوا في المدينة في عصر واحد، ينشر عنهم العلم، والفتيا، وكان في عصرهم جماعة من الفقهاء التابعين، فلم يكن لهم مثل ما لهم. ا. هـ. شذرات الذهب "1/ 104".
3 وهو في الحديث للإمام مالك بن أنس، وهو كتاب قديم، مبارك، قصد فيه: جمع الصحيح لكن إنما جمع الصحيح عنده، لا على اصطلاح أهل الحديث، لأنه: يرى المراسيل والبلاغات صحيحة وللكتاب شروح كثيرة منها: شرح للسيوطي سماه: "كشف المغطا في شرح الموطا". ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1907".

ج / 1 ص -220- العيب أصلًا علمه أو جهله، ثم خالفهم فلو كان يرى أن إجماعهم حجة لم تسع مخالفته.
وقال الباجي: إنما أراد ذلك بحجية إجماع أهل المدينة، فيما كان طريقه النقل المستفيض، كالصاع والمد والأذان والإقامة وعدم وجوب الزكاة في الخضراوات مما تقتضي العادة بأن يكون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لو تغير عما كان عليه لعلم، فأما مسائل الاجتهاد فهم وغيرهم سواء، وحكاه القاضي في التقريب عن شيخه الأبهري، وقيل: يرجح نقلهم عن نقل غيرهم، وقد أشار الشافعي إلى هذا في القديم ورجح رواية "أهل المدينة على غيرهم"*، وحكى يونس بن عبد الأعلى1 قال: قال الشافعي: إذا وجدت متقدمي أهل المدينة على شيء فلا يدخل في قلبك شك أنه الحق وكلما جاءك شيء غير ذلك فلا تلتفت إليه ولا تعبأ به.
وقال القاضي عبد الوهاب: إجماع أهل المدينة على ضربين نقلي واستدلالي.
فالأول على ثلاثة أضرب، منه نقل شرع مبتدأ من جهة النبي صلى الله عليه وسلم "من"** قول أو فعل أو إقرار فالأول: كنقلهم الصاع والمد والأذان والإقامة والأوقات والأجناس ونحوه.
والثاني: نقلهم المتصل كعهدة الرقيق وغير ذلك كتركهم أخذ الزكاة من الخضراوات مع أنها كانت تزرع بالمدينة وكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده لا "يأخذونها منها"*** قال: وهذا النوع من إجماعهم حجة يلزم عندنا المصير إليه وترك الأخبار والمقاييس به لا اختلاف بين أصحابنا فيه قال:
والثاني: وهو إجماعهم من طريق الاستدلال فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ليس بإجماع ولا بمرجح، وهو قول أبي بكر، وأبي يعقوب الرازي2، والقاضي أبي بكر، وابن فورك، والطيالسي3، وأبي الفرج والأبهري وأنكر كونه مذهبًا لمالك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": إما.
*** في "أ": يأخذون منها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو ابن ميسرة بن حفص بن حيان، الإمام، شيخ الإسلام، المصري ولد سنة سبعين ومائة هـ، حدث عن ابن عيينة، وابن وهب، توفي سنة أربع وستين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النيلاء "12/ 348"، شذرات الذهب "2/ 149"، تهذيب التهذيب "11/ 440".
2 لم أجد بعد البحث المطول في كتب التراجم التي بين أيدينا أحدًا يعرف بأبي يعقوب الرازي سوى يوسف بن الحسين، الإمام العارف، أبي يعقوب، الصوفي، المكثر من الترحال، الذي أخذ عن أحمد بن حنبل وذي النون المصري المتوفى سنة أربع وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 248"، شذرات الذهب "2/ 245"، والله أعلم.
3 سليمان بن داود بن الجارود، الحافظ الكبير، صاحب المسند، أبو داود الفارسي البصري، كان يقول: كتبت عن ألف شيخ، وكان يسرد من حفظه ثلاثين ألف حديث توفي سنة ثلاث ومائيتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 338"، شذرات الذهب "2/ 12"، تهذيب التهذيب "4/ 176".
ثانيها: أنه مرجح، وبه قال بعض أصحاب الشافعي.
ثالثها: أنه حجة "وإن لم"* ولم يحرم خلافه، وإليه ذهب قاضي القضاة أبو الحسين بن عمر1 قال أبي العباس القرطبي2: أما الضرب الأول فينبغي أن لا يختلف فيه لأنه من باب النقل المتواتر، ولا فرق بين القول والفعل والإقرار كل ذلك نقل محصل للعلم القطعي فإنهم عدد كثير وجم غفير تحيل العادة عليهم التواطؤ على خلاف الصدق، ولا شك أن ما كان هذا سبيله أولى من أخبار الآحاد والأقيسة والظواهر.
ثم قال: والنوع الاستدلالي أن عارضه خبر فالخبر أولى عند جمهور أصحابنا. وقد صار جماعة "من أصحابنا"** إلى أنه أولى من الخبر، بناء منهم على أنه إجماع وليس بصحيح لأن المشهود له بالعصمة إجماع كل الأمة لا بعضها.
وإجماع أهل الحرمين مكة والمدينة وأهل المصرين البصرة والكوفة ليس بحجة لأنهم بعض الأمة، وقد زعم بعض أهل الأصول أن إجماع أهل الحرمين و"أهل"*** المصرين حجة ولا وجه لذلك، وقد قدمنا قول من قال بحجية إجماع أهل المدينة، فمن قال بذلك فهو قائل بحجية إجماع أهل مكة والمدينة والمصرين بالأولى، قال القاضي: وإنما خصوا هذه المواضع يعني: القائلين بحجية إجماع أهلها لاعتقادهم تخصيص الإجماع بالصحابة، وكانت هذه البلاد مواطن الصحابة ما خرج منها إلا الشذوذ، قال الزركشي: وهذا صريح بأن القائلين بذلك لم يعمموا في كل عصر، بل في عصر الصحابة فقط. قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي قيل: إن المخالف أراد زمن الصحابة والتابعين، فإن كان هذا مراده فمسلم لو اجتمع العلماء في هذه البقاع وغير مسلم أنهم اجتمعوا فيها. وذهب الجمهور "إلى أن إجماع الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ليس بحجة لأنهم بعض الأئمة"**** وذهب "الجمهور أيضًا إلى أن إجماع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ولم.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم أجد ترجمته فيما بين يدي من المصادر.
2 هو أحمد بن عمر بن إبراهيم، الأنصاري، القرطبي، فقيه مالكي، من رجال الحديث يعرف بابن المزين ولد سنة ثمانٍ وسبعين وخمسمائة هـ، وتوفي سنة ست وخمسين هـ، من آثاره: "المفهم" وقد تقدم. ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 273".

ج / 1 ص -221- الخلفاء الأربعة ليس بحجة لأنهم بعض الأمة"*.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه حجة لما ورد ما يفيد ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين"1، وقوله: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر"2 وهما حديثان صحيحان، ونحو ذلك.
وأجيب: بأن في الحديثين دليلًا على أنهم أهل للاقتداء بهم، لا على أن قولهم حجة على غيرهم، فإن المجتهد "متعبد"** بالبحث عن الدليل حتى يظهر له ما يظنه حقًّا، ولو كان مثل ذلك يفيد حجية قول الخلفاء أو بعضهم لكان حديث: "رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد"3 يفيد حجية قول ابن مسعود، وحديث: "إن أبا عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة"4 يفيد حجية قوله وهما، حديثان صحيحان.
وهكذا حديث: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"5 يفيد حجية قول كل واحد منهم وفيه مقال معروف؛ لأن في رجاله عبد الرحيم "بن زيد6"*** العمي عن أبيه وهما ضعيفان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين متكرر من "أ".
** في "أ": مستعبد.
*** ما ين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في الصفحة "95".
2 أخرجه الترمذي من حديث حذيفة، كتاب المناقب، باب مناقب أبي بكر وعمر "3663". وأحمد في المسند "5/ 399". وابن أبي شيبة "12/ 11". ابن سعد عن وكيع "2/ 324". وابن حبان في صحيحه "2/ 690". وذكره الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" "2/ 85".
3 أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عبد الله بن مسعود، كتاب معرفة الصحابة "3/ 317". وقال: هذا إسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي على ذلك. المناوي في فيض الكبير "4458". وصححه السيوطي. البزار "مختصر زوائد المسند" "2016". والطبراني في المعجم الكبير "8458".
4 أخرجه ابن ماجه من حديث أنس بلفظ: "وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" المقدمة، باب فضائل أصحاب رسول اله صلى الله عليه وسلم "154". والنيهقي، كتاب الفرائض، باب ترجيح قول زيد بن ثابت على غيره من الصحابة في الفرائض "6/ 210". والحاكم في المستدرك، كتاب معرفة الصحابة "3/ 422"، وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وأحمد في المسند "3/ 184".
وابن حبان في صحيحه "7131".
5 تقدم في الصفحة "186".
6 هو ابن الحواري العمي، البصري، أحد المتروكين، وهو من طبقة الرازي، يروي عن مالك بن دينار، وعن والده، قال عنه أبو زرعة: مضعف الحديث، والنسائي قال عنه: ليس بثقة، ولا مأمون، ولا يكتب حديثه. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 358" تهذيب التهذيب "6/ 305" وسمي أبوه بالعمي: لأنه كلما سئل عن شيء قال: حتى أسال عمي.

ج / 1 ص -222- جدًّا، بل قال ابن معين: إن عبد الرحيم كذاب، وقال البخاري: متروك وكذا قال أبو حاتم وله طريق أخرى فيها حمزة النصيبي1 وهو ضعيف جدًّا. قال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن معين: لا يساوي فلسًا. وقال ابن عدي2: عامة مروياته موضوعة، وروي أيضًا من طريق جميل بن زيد3 وهو مجهول.
وذهب الجمهور أيضًا إلى أن إجماع العترة وحدها ليس بحجة، وقالت الزيدية4 والإمامية: هو حجة، واستدلوا بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}5، والخطأ رجس فوجب أن يكونوا مطهرين عنه.
وأجيب: بأن سياق الآية يفيد أنه في نسائه صلى الله عليه وسلم.
ويجاب عن هذا الجواب: بأنه قد ورد الدليل الصحيح أنها نزلت في علي وفاطمة والحسنين، وقد أوضحنا الكلام في هذا في تفسيرنا الذي سميناه "فتح القدير"6 فليرجع إليه ولكن لا يخفاك أن كون الخطأ رجس لا يدل عليه لغة ولا شرع فإن معناه في اللغة القذر، ويطلق في الشرع على العذاب كما في قوله سبحانه وتعالى: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَب}7 وقوله: {مِنْ رِجْزٍ أَلِيم}8 والرجز الرجس. واستدلوا بمثل قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}9، وبأحاديث كثيرة جدًّا تشتمل على مزيد شرفهم وعظيم فضلهم، ولا دلالة فيها على حجية قولهم وقد أبعد من استدل بها على ذلك، وقد عرفناك في حجية إجماع أهل الأمة ما هو الحق، ووروده على القول بحجية بعضها أولى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو حمزة بن أبي حمزة، ميمون، الجعفي، الجزري، النصيبي، نسبة إلى بلدة نصيبين في الجزيرة، روى عن عمر بن دينار وابن أبي مليكة، وجماعة، وروى عنه حمزة الزيات ويحيى بن أيوب وجماعة. ا. هـ. تهذيب التهذيب "3/ 28".
2 هو الإمام الحافظ الناقد، الجوال، عبد الله بن عدي بن عبد الله، أبو أحمد صاحب كتاب "الكامل" في الجرح والتعديل، ولد سنة سبع وسبعين ومائتين، وتوفي سنة خمس وستين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 154"، شذرات الذهب "3/ 51"، هدية العارفين "1/ 447".
3 هو الطائي، الكوفي، روى عن ابن عمر وكعب بن زيد، وروى عنه الثوري، وابن عياش، ذكره العقيلي في الضعفاء، قال عنه ابن حبان: واهي الحديث. ا. هـ. تهذيب التهذيب "2/ 114".
4 هى فرقة من الشيعة وهم أتباع زيد بن علي بن الحسين، ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة رضي الله عنها، ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم. ا. هـ. الملل والنحل "1/ 154".
5 جزء من الآية "33" من سورة الأحزاب.
6 واسمه: "فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من التفسير" للقاضي أبي عبد الله محمد بن علي الشوكاني. ا. هـ. ذيل كشف الظنون "2/ 169".
7 جزء من الآية "71" من سورة الأعراف.
8 جزء من الآية "5" من سورة سبأ، والآية "11" من سورة الجاثية.
9 جزء من الآية "23" من سورة الشورى.

ج / 1 ص -223- البحث التاسع: في عدم اعتبار من سيوجد في الإجماع
اتفق القائلون بحجية الإجماع أنه لا يعتبر من سيوجد، ولو اعتبر ذلك لم يكن ثَمَّ إجماع إلا عند قيام الساعة، وعند ذلك لا تكليف فلا يكون في الإجماع فائدة، وقد روي الخلاف في ذلك عن أبي عيسى "الوراق1"* وأبي عبد الرحمن الشافعي، كما حكاه الأستاذ أبو منصور.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الوراث وهو تحريف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن هارون، الوراق، أبو عيسى، باحث معتزلي، من أهل بغداد توفي فيها سنة سبع وأربعين ومائتين هـ، له تصانيف منها "المقالات في الإمامة" "المجالس". ا. هـ. الأعلام "7/ 128" معجم المؤلفين "12/ 85"، وعزاه إلى مروج الذهب "7/ 236".
البحث العاشر: في حكم انقراض عصر أهل الإجماع في حجية إجماعهم
اختلفوا هل يشترط انقراض عصر أهل الإجماع في حجية إجماعهم أم لا؟
فذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط، وذهب جماعة من الفقهاء، ومنهم أحمد بن حنبل وجماعة من المتكلمين منهم الأستاذ أبو بكر بن فورك إلى أنه يشترط.
وقيل: إن كان الإجماع بالقول والفعل أو بأحدهما فلا يشترط، وإن كان الإجماع بالسكوت عن مخالفة القائل فيشترط، روي هذا عن أبي علي الجبائي، وقال الجويني: إن كان عن قياس كان شرطًا وإلا فلا.
البحث الحادي عشر: الإجماع السكوتي
وهو أن يقول بعض أهل الاجتهاد بقول، وينتشر في المجتهدين من أهل ذلك العصر فيسكتون، ولا يظهر منهم اعتراف، ولا إنكار.

ج / 1 ص -224- وفيه مذاهب:
الأول:
أنه ليس بإجماع ولا حجة، قاله داود الظاهري، وابنه والمرتضى وعزاه القاضي إلى الشافعي واختاره وقال: إنه آخر أقوال الشافعي. وقال الغزالي، والرازي، والآمدي: إنه نص الشافعي في الجديد، وقال الجويني: إنه ظاهر مذهبه.
والقول الثاني:
أنه إجماع وحجة وبه قال جماعة من الشافعية، وجماعة من أهل الأصول، وروي نحوه عن الشافعي.
قال الأستاذ أبو إسحاق: اختلف أصحابنا في تسميته إجماعا، مع اتفاقهم على وجوب العمل به.
وقال أبو حامد الإسفراييني1: هو حجة مقطوع بها، وفي تسميته إجماعًا "وجهان"* أحدهما المنع وإنما هو حجة كالخبر، والثاني يسمى إجماعًا وهو قولنا. انتهى.
واستدل القائلون بهذا القول، بأن سكوتهم ظاهر في الموافقة إذ يبعد سكوت الكل مع اعتقاد المخالفة عادة فكان ذلك محصلًا للظن بالاتفاق.
وأجيب باحتمال أن يكون سكوت من سكت على الإنكار لتعارض الأدلة عنده، أو لعدم حصول ما يفيده الاجتهاد في تلك الحادثة إثباتًا أو نفيًا أو للخوف على نفسه أو ذلك من الاحتمالات.
القول الثالث:
أنه حجة وليس بإجماع، قاله أبو هاشم، وهو أحد الوجهين عند الشافعي كما سلف، وبه قال الصيرفي واختاره الآمدي، قال الصفي الهندي: ولم يصر أحد إلى عكس هذا القول يعني أنه اجتماع لا حجة، ويمكن القول به كالإجماع المروي بالأحاديث عند من لم يقل بحجيته.
القول الرابع:
أنه إجماع بشرط انقراض العصر؛ لأنه يبعد مع ذلك أن يكون السكوت لا عن رضا، وبه قال أبو علي الجبائي، وأحمد في رواية عنه، ونقله ابن فورك "كتابه"2 في كتاب عن أكثر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": قولان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أحمد بن أبي طاهر، الأستاذ، العلامة، شيخ الإسلام، أبو حامد، ولد سنة أربع وأربعين وثلاثمائة هـ، توفي سنة ست وأربعمائة هـ، كان يفتي وهو ابن سبع عشرة سنة، ا.هـ، سير أعلام النبلاء "17/ 193". شذرات الذهب "3/ 178".
2 لعل المراد هو "شرحه على أوائل الأدلة في أصول الدين" للإمام أبي القاسم البلخي، الذي أملاه ابن فورك إملاء، وهي عبارة عن مسائل على طريقة الإملاء، لا كالشروح المعهودة. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 200".

ج / 1 ص -225- أصحاب الشافعي، ونقله الأستاذ أبو طاهر البغدادي1 عن الحذاق منهم، واختاره ابن القطان والروياني. قال الرافعي2: إنه أصح الأوجه عند أصحاب الشافعي، وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "اللمع": إنه المذهب قال: فأما قبل الانقراض ففيه طريقان إحداهما: أنه ليس بحجة قطعًا والثانية على وجهين.
القول الخامس:
أنه إجماع إن كان فتيا لا حكمًا، وبه قال ابن أبي هريرة كما حكاه عنه الشيخ أبو إسحاق والماوردي والرافعي وابن السمعاني والآمدي وابن الحاجب.
ووجه هذا القول أنه لا يلزم من صدوره عن الحاكم أن يكون قاله على وجه الحكم.
وقيل: وجهه أن الحاكم لا يعترض عليه في حكمه، فلا يكون السكوت دليل الرضا، ونقل ابن السمعاني عن ابن أبي هريرة أنه احتج لقوله هذا بقوله: إنا نحضر مجلس بعض الحكام ونراهم يقضون بخلاف مذهبنا ولا ننكر ذلك عليهم فلا يكون سكوتنا رضا منا بذلك.
القول السادس:
أنه إجماع إن كان صادرًا عن "حكم، لا إن كان صادرًا عن"* فتيا، قاله أبو إسحاق المروزي، وعلل ذلك بأن الأغلب أن الصادر من الحاكم يكون عن مشاورة، وحكاه ابن القطان عن الصيرفي.
القول السابع:
أنه إن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم، أو استباحة فرج كان إجماعًا وإلا فهو حجة وفي كونه إجماعًا، وجهان حكاه الزركشي، ولم ينسبه إلى قائل.
القول الثامن:
إن كان الساكتون أقل كان إجماعا، وإلا فلا، قاله أبو بكر الرازي، وحكاه شمس الأئمة السرخسي عن الشافعي قال: الزركشي، وهو غريب لا يعرفه أصحابه.
القول التاسع:
إن كان في عصر الصحابة كان إجماعًا وإلا فلا، قال الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر": إن كان عصر الصحابة فإذا قال الواحد منهم قولًا أو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر، الإمام مقرئ العصر ابن سوار، الضرير، أحد الحذاق، ولد سنة اثنتي عشرة وأربعمائة هـ، توفي سنة ست وتسعين وأربعمائة هـ، ببغداد. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "19/ 225" شذرات الذهب "3/ 403"، معجم الأدباء "4/ 46".
2 هو عبد الكريم بن محمد، الرافعي القزويني، أبو القاسم، شيخ الشافعية، كان له مجلس بقزوين للتفسير والحديث، ولد سنة خمس وخمسين وخمسمائة هـ، وتوفي سنة ثلاث وعشرين وستمائة هـ، من آثاره: "التدوين في ذكر أخبار قزوين". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "22/ 252"، شذرات الذهب "5/ 108"، الأعلام "4/ 55".

ج / 1 ص -226- حكم به فأمسك الباقون فهذا ضربان:
أحدهما: مما يفوت استدراكه كإراقة دم واستباحة فرج، فيكون إجماعًا لأنهم لو اعتقدوا خلافه لأنكروه؛ إذ لا يصح منهم أن يتفقوا على ترك إنكار منكر. والثاني* إن كان مما لا يفوت استدراكه كان حجة لأن الحق لا يخرج عن غيرهم وفي كونه إجماعًا يمنع الاجتهاد وجهان لأصحابنا: أحدهما: يكون إجماعًا لا يسوغ معه الاجتهاد، والثاني: لا يكون إجماعًا سواء كان القول فتيا أو حكمًا على الصحيح.
القول العاشر:
أن ذلك إن كان مما يدوم ويتكرر وقوعه والخوض فيه فإنه يكون السكوت إجماعًا، وبه قال إمام الحرمين الجويني.
قال الغزالي في "المنخول": المختار أنه لا يكون حجة إلا في صورتين:
أحدهما: سكوتهم وقد قطع بين أيديهم قاطع لا في مظنة القطع والدواعي تتوفر على الرد عليه.
الثاني: ما يسكتون عليه على استمرار العصر، وتكون الواقعة بحيث لا يبدي أحد خلافًا فأما إذا حضروا مجلسًا فأفتى واحد وسكت آخرون فذلك اعتراض لكون المسألة مظنونة، والأدب يقتضي أن لا يعترض على القضاة والمفتين.
القول الحادي عشر:
أنه إجماع بشرط إفادة القرائن العلم بالرضا، وذلك بأن يوجد من قرائن الأحوال ما يدل على رضا الساكتين بذلك القول، واختار هذا الغزالي في المستصفى1، وقال بعض المتأخرين: إنه أحق الأقوال لأن إفادة القرائن العلم بالرضا، كإفادة النطق له فيصير كالإجماع القطعي.
القول الثاني عشر:
أنه يكون حجة قبل استقرار المذاهب لا بعدها، فإنه لا أثر للسكوت، لما تقرر عند أهل المذاهب من عدم إنكار بعضهم على بعض إذا أفتى أو حكم بمذهبه مع مخالفته لمذاهب غيره، وهذا التفصيل لا بد منه على جميع المذاهب السابقة هذا في الإجماع السكوتي إذا كان سكوتًا عن قول "لمذهب"**.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* زيادة يقتضيها السياق.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه: "المستصفى في أصول الفقه" للإمام أبي حامد الغزالي، وصفه بأنه بسيط كالإحياء، ووجيز كجواهر القرآن، ووسيط ككيمياء السعادة، عليه تعاليق لسليمان بن محمد الغرناطي، ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1673".

ج / 1 ص -227- وأما لو اتفق أهل الحل والعقد على عمل، ولم يصدر منهم قول واختلفوا في ذلك، فقيل إنه كفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن العصمة ثابتة لإجماعهم كثوبتها للشارع، فكانت أفعالهم كأفعاله وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره. وقال الغزالي في المنخول: إنه المختار، وقيل بالمنع ونقله الجويني عن القاضي إذ لا يتصور تواطؤ قوم لا يحصون عددًا على فعل واحد من غير "أرب"* فالتواطؤ عليه غير ممكن.
وقيل: إنه ممكن، ولكنه محمول على الإباحة حتى يقوم دليل على الندب أو الوجوب، وبه قال الجويني.
قال القرافي: وهذا تفصيل حسن، وقيل إن كل فعل خرج مخرج البيان أو مخرج الحكم لا ينعقد به الإجماع، وبه قال ابن السمعان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": أرباب وهو تحريف.
البحث الثاني عشر: حكم الإجماع على شيء بعد الإجماع على خلافه
هل يجوز الإجماع على شيء قد وقع الإجماع على خلافه؟
فقيل: إن كان الإجماع الثاني من المجمعين على الحكم الأول كما لو اجتمع أهل "عصر"* على حكم ثم ظهر لهم ما يوجب الرجوع عنه وأجمعوا على ذلك الذي ظهر لهم ففي جواز الرجوع خلاف مبني على الخلاف المتقدم في اشتراط انقراض عصر أهل الإجماع، فمن اعتبره جوز ذلك ومن لم يعتبره لم يجوزه، أما إذا كان الإجماع من غيرهم فمنعه الجمهور؛ لأنه يلزم تصادم الإجماعين، وجوزه أبو عبد الله البصري، قال الرازي: وهو الأولى، واحتج الجمهور بأن كون الإجماع "الأول"** حجة يقتضي امتناع حصول إجماع آخر مخالف له. وقال أبو عبد الله البصري: إنه لا يقتضي ذلك، لإمكان تصور كونه حجة إلى غاية هي حصول إجماع آخر، قال الصفي الهندي: ومأخذ أبي عبد الله قوي. وحكى أبو الحسن السهيلي في"أدب*** الجدل" له في هذه المسألة أنها إذا أجمعت الصحابة على قول ثم أجمع التابعون على قول آخر، فعن الشافعي جوابان:
أحدهما: وهو الأصح أنه لا يجوز وقوع مثله لأن النبي صلىالله عليه وسلم أخبر أن أمته لا تجتمع على ضلالة
والثاني: لو صح وقوعه فإنه يجب على التابعين الرجوع إلى قول الصحابة، قال: وقيل: إن كل واحد منهما حق وصواب، على قول من يقول: إن كل مجتهد مصيب، وليس بشيء. انتهى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": مصر.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": آداب الجدل.

ج / 1 ص -228- البحث الثالث عشر: في حدوث الإجماع بعد سبق الخلاف
قال الرازي في "المحصول": إذا اتفق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول كان ذلك إجماعًا لا تجوز مخالفته خلافًا لكثير من المتكلمين وكثير من "فقهاء"* الشافعية والحنفية.
وقيل: هذه المسألة على وجهين:
أحدهما: أن لا يستقر الخلاف، وذلك بأن يكون أهل الاجتهاد في مهلة النظر، ولم يستقر لهم قول كخلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في قتال مانعي الزكاة، وإجماعهم عليه بعد ذلك. فقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "اللمع" صارت المسألة إجماعية بلا خلاف، وحكى الجويني والهندي أن الصيرفي خالف في ذلك.
الوجه الثاني: أن يستقر الخلاف ويمضي عليه مدة، فقال القاضي أبو بكر بالمنع وإليه مال الغزالي ونقله ابن برهان في "الوجيز" عن الشافعي، وجزم به الشيخ أبو إسحاق في "اللمع"، ونقل الجويني عن أكثر أهل الأصول الجواز، واختاره الرازي والآمدي، وقيل بالتفصيل، وهو الجواز فيما كان دليل خلافه "الأمارة والاجتهاد دون ما كان دليل خلافه"** القاطع عقليًّا كان أو نقليًّا، ونقل الأستاذ أبو منصور إجماع أصحاب الشافعي على أنه حجة، وبذلك جزم الماوردي والروياني.
فأما لو وقع الخلاف بين "أهل"*** عصر ثم ماتت إحدى الطائفتين من المختلفين وبقيت الطائفة الأخرى، فقال الأستاذ أبو إسحاق: إنه يكون قول الباقين إجماعًا واختاره الرازي والهندي، قال الرازي في "المحصول": لأن بالموت ظهر اندراج قول ذلك القسم وحده تحت أدلة الإجماع، ورجح القاضي في التقريب أنه لا يكون إجماعًا قال: لأن الميت في حكم الباقي الموجود، والباقون هم بعض الأمة لا كلها، وجزم به الأستاذ أبو منصور البغدادي في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الفقهاء.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".

ج / 1 ص -229- كتاب "الجدل"1، وكذا الخوارزمي في "الكافي"2، وحكى أبو بكر الرازي في هذه المسألة قولًا ثالثًا، فقال: إن لم يسوغوا فيه الاختلاف صار حجة؛ لأن قول الطائفة المتمسكة بالحق لا يخلو منه زمان، وقد شهدت ببطلان قول المنقرضة فوجب أن يكون قولها حجة، وإن سوغوا فيه الاجتهاد لم يصر إجماعًا لإجماع الطائفتين على تسويغ الخلاف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 للبغدادي كتاب اسمه "معيار النظر" ولعله مراد المؤلف؛ لأننا لم نجد له كتابًا مسمى باسم "الجدل"، ا. هـ. هدية العارفين "1/ 606".
2 هو محمد بن محمد بن العباس بن أرسلان، أبو محمد، الخوارزمي الشافعي، ظهير الدين، فقيه، محدث، مؤرخ، صوفي، واعظ، كان يعظ بالمدرسة النظامية، ثم رجع إلى بلده، وتوفي فيها سنة ثمانٍ وستين وخمسمائة هـ، من آثاره: "تاريخ خوارزم" في ثمانية أجزاء و"الكافي" في الفقه. ا. هـ. هدية العارفين "2/ 403" معجم المؤلفين "12/ 196".
البحث الرابع عشر: إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين
فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث
اختلفوا في ذلك على أقوال:
الأول:
المنع مطلقًا؛ لأنه كاتفاقهم على أنه لا قول سوى هذين القولين، قال الأستاذ أبو منصور، وهو قول الجمهور، قال إلكيا: إنه صحيح وبه الفتوى، وجزم به القفال الشاشي والقاضي أبو الطيب الطبري والروياني، والصيرفي ولم يحكيا خلافه إلا عن بعض المتكلمين، وحكى ابن القطان الخلاف في ذلك عن داود.
القول الثاني:
الجواز مطلقًا حكاه ابن برهان وابن السمعاني عن بعض الحنفية والظاهرية، ونسبه جماعة منهم القاضي عياض إلى داود وأنكر ابن حزم على من نسبه إلى داود.
القول الثالث:
أن ذلك القول الحادث بعد القولين إن لزم منه رفعهما لم يجز إحداثه وإلا جاز، وروي هذا التفصيل عن الشافعي واختاره المتأخرون من أصحابه، ورجحه جماعة من الأصوليين منهم ابن الحاجب، واستدلوا له بأن القول الحادث الرافع للقولين مخالف لما وقع الإجماع عليه، والقول الحادث الذي لم يرفع القولين غير مخالف لهما، بل موافق لكل واحد منهما من بعض الوجوه.
ومثل الاختلاف على قولين: الاختلاف على ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك، فإنه يأتي في القول الزائد على الأقوال التي اختلفوا فيها ما يأتي في القول الثالث من الخلاف.
ثم لا بد من تقييد هذه المسألة بأن يكون الخلاف فيها على قولين أو أكثر قد استقر أما إذا لم يستقر فلا وجه للمنع من إحداث قول آخر.

ج / 1 ص -230- البحث الخامس عشر: في حكم إحداث دليل أو تأويل من غير إلغاء الدليل أو التأويل الأول
إذا استدل أهل العصر بدليل وأولوا بتأويل فهل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل آخر من غير إلغاء للأول، أو إحداث تأويل غير التأويل الأول؟
فذهب الجمهور: إلى جواز ذلك؛ لأن الإجماع والاختلاف إنما هو في الحكم على الشيء بكونه كذا، وأما في الاستدلال بالدليل أو العمل بالتأويل فليس من هذا الباب.
قال ابن القطان: وذهب بعض أصحابنا إلى أنه ليس لنا أن نخرج عن دلالتهم، ويكون إجماعًا على الدليل لا على الحكم.
وأجيب عنه: بأن المطلوب من الأدلة أحكامها لا أعيانها، نعم إن أجمعوا على إنكار الدليل الثاني لم يجز إحداثه لمخالفة الإجماع، وذهب بعض أهل العلم إلى الوقف، وذهب ابن حزم إلى التفصيل بين النص فيجوز الاستدلال به وبين غيره فلا يجوز، "وذهب ابن برهان إلى تفصيل آخر بين الدليل الظاهر فلا يجوز"* إحداثه وبين الخفي فيجوز، لجواز اشتباهه على الأولين.
قال أبو الحسين البصري: إلا أن يكون في صحة ما استدلوا به إبطال ما أجمعوا عليه. وقال سليم الرازي: إلا أن يقولوا ليس فيها دليل إلا الذي ذكرناه فيمتنع.
وأما إذا عللوا الحكم بعلة فهل يجوز لمن بعدهم أن يعلله بعلة أخرى؟ فقال الأستاذ أبو منصور وسليم الرازي: هي كالدليل في جواز إحداثها، إلا إذا قالوا: لا علة إلا هذه، أو تكون العلة الثانية مخالفة للعلة الأولى في بعض الفروع فتكون حينئذ الثانية فاسدة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
البحث السادس عشر: في وجود دليل لا معارض له لم يعلمه أهل الإجماع
هل يمكن وجود دليل لا معارض له اشتراك أهل الإجماع في عدم العلم به؟
قيل: بالجواز إن كان عمل الأمة موافقًا له، وعدمه إن كان مخالفًا له، واختار هذا الآمدي، وابن الحاجب، والصفي الهندي، وقيل: بالجواز مطلقًا، وقيل: بالمنع مطلقًا. قال الرازي في "المحصول": يجوز اشتراك الأمة في عدم العلم بما لم يكفلوا به؛ لأن عدم العلم بذلك الشيء


ج / 1 ص -231- إذا كان صوابًا لم يلزم من إجماعهم عليه محذور.
وللمخالف أن يقول: لو اجتمعوا على عدم العلم بذلك الشيء لكان عدم العلم به سبيلًا لهم، وكان يجب اتباعهم فيه حتى يحرم تفصيل العلم به.
قال الزركشي في "البحر": هما مسألتان:
إحداهما: هل يجوز اشتراك الأمة في الجهل بما لم يكلفوا به؟ فيه قولان.
الثانية: هل يمكن وجود خبر أو دليل لا معارض له وتشترك الأمة في عدم العلم به.
وأما "إذا ذكر"* واحد من المجمعين خبرًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم يشهد بصحة الحكم الذي انعقد عليه الإجماع.
فقال ابن برهان في "الوجيز": إنه يجب عليه ترك العمل بالحديث "والإصرار على الإجماع، وقال قوم من الأصوليين: بل يجب عليه الرجوع إلى موجب ا لحديث"**، وقال قوم: إن ذلك يستحيل وهو الأصح من المذاهب فإن الله سبحانه عصم الأمة عن نسيان حديث في الحادثة، ولولا ذلك خرج الإجماع عن أن يكون قطعيًّا، وبناه في "الأوسط"1 على الخلاف في انقراض العصر، فمن قال: ليس بشرط منع الرجوع، ومن اشترط جوزه، والجمهور على الأول لأنه يتطرق إلى الحديث احتمالات من النسخ، والتخصيص ما لا يتطرق إلى الإجماع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ذكر.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه "الأوسط في أصول الفقه"، للشهاب أحمد بن علي المعروف بابن برهان الشافعي، المتوفى سنة ثماني عشرة وخمسمائة. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 201".
البحث السابع عشر: قول العوام في الإجماع
لا اعتبار بقول العوام في الإجماع، ولا وفاقًا ولا خلافا، عند الجمهور لأنهم ليسوا من أهل النظر في الشرعيات، ولا يفهمون الحجة ولا يعقلون البرهان.
وقيل: يعتبر قولهم لأنهم من جملة الأمة، وإنما كان قول الأمة حجة لعصمتها من الخطأ ولا يمتنع أن تكون العصمة لجميع الأمة عالمها وجاهلها، حكى هذا القول ابن الصباغ وابن برهان عن بعض المتكلمين، واختاره الآمدي ونقله الجويني، وابن السمعاني، والصفي الهندي عن القاضي أبي بكر

ج / 1 ص -232- قال في "مختصر التقريب"1: فإن قال قائل: فإذا أجمع "علماء"* الأمة على حكم من الأحكام "فهل يطلقون القول بأن الأمة أجمعت عليه؟ قلنا: من الأحكام"** مما يحصل فيه اتفاق الخاص والعام، كوجوب الصلاة والزكاة، وغيرهما فما هذا سبيله يطلق القول بأن الأمة أجمعت عليه، وأما ما أجمع عليه العلماء من أحكام الفروع التي تشذ عن العوام فقد اختلف أصحابنا في ذلك، فقال بعضهم: العوام يدخلون في حكم الإجماع، وذلك أنهم وإن لم يعرفوا تفاصيل الأحكام فقد عرفوا على الجملة أن ما أجمع عليه علماء الأمة في تفاصيل الأحكام فهو مقطوع به فهذا مساهمة منهم في الإجماع وإن لم يعلموا على التفصيل.
ومن أصحابنا من زعم "أنهم"*** لا يكونون مساهمين في الإجماع، فإنه إنما يتحقق الإجماع في التفاصيل بعد العلم بها، فإذا لم يكونوا عالمين بها فلا يتحقق كونهم من أهل الإجماع.
قال أبو الحسين في "المعتمد"2: اختلفوا في اعتبار قول العامة في المسائل الاجتهادية، فقال قوم العامة وإن وجب عليها اتباع العلماء، فإن إجماع العلماء لا يكون حجة على أهل العصر حتى لا تسوغ مخالفتهم إلا بأن يتبعهم العامة من أهل عصرهم، فإن لم يتبعوهم لم يجب على أهل العصر الثاني من العلماء اتباعهم.
وقال آخرون: بل هو حجة مطلقا، وحكى القاضي عبد الوهاب، وابن السمعاني أن العامة معتبرة في الإجماع في العام دون الخاص.
قال الروياني في "البحر"3: إن اختص بمعرفة الحكم العلماء كنصب الزكوات، وتحريم نكاح المرأة وعمتها وخالتها لم يعتبر، وفاق العامة معهم وإن اشترك في معرفته الخاصة والعامة كأعداد الركعات وتحريم بنت البنت فهل يعتبر إجماع العوام معهم فيه وجهان أصحهما لا يعتبر لأن الإجماع إنما يصح عن نظر واجتهاد والثاني يعم لاشتراكهم في العلم به.
قال سليم الرازي: إجماع الخاصة هل يحتاج معهم فيه إلى إجماع العامة، فيه وجهان والصحيح أنه لا يحتاج فيه إليهم. قال الجويني: حكم المقلد حكم العامي في ذلك؛ إذ لا واسطة بين المقلد والمجتهد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو للإمام أبي المعالي، عبد الملك بن عبد الله الجويني، الشافعي، لخصه من كتاب "التقريب في الفروع" للإمام قاسم بن محمد القفال الشاشي. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 466".
2 واسمه: "المعتمد في أصول الفقه". لأبي الحسين محمد بن علي، البصري، المعتزلي، الشافعي وهو كتاب كبير، ومنه أخذ فخر الدين الرازي كتاب "المحصول". ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1732".
3 واسمه: "بحر المذهب في الفروع" للشيخ الإمام عبد الواحد بن إسماعيل الروياني، وهو بحر كاسمه. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 226".
فرع: إجماع العوام
إجماع العوام عند خلو الزمان عن مجتهد عند من قال بجواز خلوه عنه هل يكون حجة أم لا؟ فالقائلون باعتبارهم في الإجماع، مع وجود المجتهدين يقولون بأن إجماعهم حجة، والقائلون بعدم اعتبارهم لا يقولون بأنه حجة، وأما من قال بأن الزمان لا يخلو عن قائم بالحجة فلا يصح عنده هذا التقدير.

ج / 1 ص -233- البحث الثامن عشر: الإجماع المعتبر
الإجماع المعتبر في فنون العلم هو إجماع أهل ذلك الفن العارفين به دون من عداهم، فالمعتبر في الإجماع في المسائل الفقهية قول جميع الفقهاء، وفي المسائل الأصولية قول جميع الأصوليين، وفي المسائل النحوية قول جميع النحويين ونحو ذلك، ومن عدا أهل ذلك الفن هو في حكم العوام فمن اعتبرهم في الإجماع اعتبر غير أهل الفن ومن لا فلا.
وخالف في ذلك ابن جني فقال في كتاب "الخصائص"1: إنه لا حجة في إجماع النحاة. قال الزركشي في "البحر": ولا خلاف في اعتبار قول المتكلم في الكلام، والأصولي في الأصول وكل واحد يعتبر قوله إذا كان من أهل الاجتهاد في ذلك الفن، وأما الأصولي الماهر المتصرف في الفقه ففي اعتبار خلافه في الفقه وجهان حكاهما الماوردي، وذهب القاضي إلى أن خلافه معتبر، قال الجويني: وهو الحق.
وذهب معظم الأصوليين منهم أبو الحسن ابن القطان إلى أن خلافه لا يعتبر لأنه ليس من المفتين، ولو وقعت له واقعة لزم أن يستفتي المفتي فيها، قال إلكيا: والحق قول الجمهور لأن من أحكم "الأصلين"* الأصوليين فهو مجتهد فيهما، قال الصيرفي في كتاب "الدلائل"2: إجماع العلماء لا مدخل لغيرهم فيه سواء المتكلم وغيره وهم الذين تلقنوا العلم من الصحابة وإن اختلفت آراؤهم وهم القائمون بعلم الفقه، وأما من انفرد بالكلام لم يدخل في جملة العلماء فلا يعد خلافًا على من ليس مثله وإن كانوا حذاقًا بدقائق الكلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الأصولين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو كتاب في النحو لأبي الفتح عثمان بن جني، قال السيوطي في اقتراحه، وضعه في أصول النحو وجدله، ولكن أكثره خارج عن هذا. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 706".
2 واسمه: "دلائل الإعلام على أصول الأحكام" للإمام أبي بكر محمد بن عبد الله، الصيرفي، البغدادي، وهو كتاب في أصول الفقه. ا. هـ. ذيل كشف الظنون "1/ 476".

ج / 1 ص -234- البحث التاسع عشر: مخالفة واحد من المجتهدين لأهل الإجماع
إذا خالف أهل الإجماع واحد من المجتهدين فقط فذهب الجمهور إلى أنه لا يكون إجماعًا ولا حجة، قال الصيرفي: ولا يقال لهذا شاذ؛ لأن الشاذ من كان في الجملة ثم شذ "عنهم"* كيف يكون محجوجًا بهم ولا يقع اسم الإجماع إلا به قال: إلا أن يجمعوا على شيء من جهة الحكاية فيلزمه قبول قولهم أما من جهة الاجتهاد فلا لأن الحق قد يكون معه. وقال الغزالي: والمذهب انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل ونقله الآمدي عن محمد بن جرير الطبري وأبي الحسين الخياط1 من معتزلة بغداد.
قال الشيخ أبو محمد الجويني2 والد إمام الحرمين والشرط أن يجمع جمهور تلك الطبقة ووجوههم ومعظمهم ولسنا نشترط قول جميعهم، وكيف نشترط ذلك وربما يكون في أقطار الأرض من المجتهدين من لم نسمع به فإن السلف الصالح كانوا "يعلمون"** ويتسترون بالعلم فربما كان الرجل قد أخذ الفقه الكثير ولا يعلم به جاره قال: والدليل على هذا أن الصحابة لما استخلفوا "أبا بكر" انعقدت خلافته بإجماع الحاضرين ومعلوم أن من الصحابة من غاب قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض البلدان ومن حاضري المدينة من لم يحضر البيعة، ولم يعتبر ذلك مع اتفاق الأكثرين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": يعلمون.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد الرحيم بن محمد، أبو الحسن، شيخ المعتزلة البغداديين، له الذكاء المفرط، والتصانيف المهذبة، كان من بحور العلم، وهو من نظراء الجبائي، تنسب إليه فرقة الخياطية، من آثاره: "الانتصار" "الاستدلال"، توفي نحو سنة ثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 220"، الأعلام "3/ 347".
2 هو عبد الله بن يوسف بن عبد الله، شيخ الشافعية، أبو محمد، الطائي الجويني، والد إمام الحرمين، كان فقيهًا، مدققًا، محققًا، من آثاره: "التبصرة" "التذكرة" "التعليقة" "التفسير الكبير"، توفي سنة ثمانٍ وثلاثين وأربعمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 617".

ج / 1 ص -235- قال الصفي الهندي والقائلون بأنه إجماع مرادهم أنه ظني لا قطعي.
واحتج ابن جرير على عدم اعتبار قول الأقل بارتكابه الشذوذ المنهي عنه.
وأجيب عنه: بأن الشذوذ المنهي عنه هو ما يشق عصا المسلمين لا في أحكام الاجتهاد.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: إن ابن جرير قد شذ عن الجماعة في هذه المسألة، فينبغي أن لا يعتبر خلافه.
وقيل: إنه حجة، وليس بإجماع، ورجحه ابن الحاجب فإنه قال: لو قدر المخالف مع كثرة المجمعين، لم يكن إجماعًا قطعيًّا، والظاهر: أنه حجة لبعد أن يكون الراجح متمسك المخالف.
وقيل: إن عدد الأقل أن بلغ عدد التواتر لم ينعقد إجماع غيرهم، وإن كانوا دون عدد التواتر انعقد الإجماع دونهم كذا حكاه الآمدي.
قال القاضي أبو بكر: إنه الذي يصح عن ابن جرير.
وقيل: أتباع الأكثر أولى ويجوز خلافه حكاه الهندي.
وقيل: إنه لا ينعقد "الإجماع"* مع مخالفة الاثني دون الواحد.
وقيل: لا ينعقد مع مخالفة الثلاثة دون الاثنين والواحد، حكاهما الزركشي في "البحر".
وقيل: إن استوعب الجماعة الاجتهاد فيها يخالفهم، كان خلاف المجتهد معتدًا به، كخلاف ابن عباس في العول1 وإن أنكروه لم يعتد بخلافه، وبه قال أبو بكر الرازي، وأبو عبد الله الجرجاني2 من الحنفية، قال شمس الأئمة السرخسي: إنه الصحيح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": إجماع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لغة هو الميل إلى الجور، أو الغلبة، أو الرفع.
وفي الاصطلاح: هو أن يزاد على المخرج شيء من أجزائه إذا ضاق عن فرض، وقد أفتى الصحابة بالعول كعمر بن الخطاب، فإنه شاور الصحابة في مسألة وقعت في عهده، فأشار العباس بالعول، وقال: أعيلوا الفرائض، وتابعوه على ذلك، ولم ينكر أحد إلا ابنه بعد موت أبيه العباس، ا. هـ. شرح السراجية للجرجاني "117".
2 هو محمد بن يحيى بن مهدي، أبو عبد الله، الفقيه، الجرجاني، أحد الأعلام، تفقه على أبي بكر الرازي، توفي سنة ثمانٍ وتسعين وثلاثمائة هـ، ذفن بجانب قبر الإمام أبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين. ا. هـ. الفوائد البهية "202" الجواهر المضية "3/ 397".

ج / 1 ص -236- البحث الموفي عشرين: الإجماع المنقول بطريق الآحاد وحجيته
الإجماع المنقول بطريق الآحاد حجة، وبه قال الماوردي، وإمام الحرمين والآمدي، ونقل عن الجمهور اشتراط عدد التواتر، وحكى الرازي في "المحصول" عن الأكثر أنه ليس بحجة.
فقال: الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة "خلافًا"* لأكثر الناس؛ لأن ظن وجوب العمل به حاصل، فوجب العمل به دفعًا للضرر المظنون، ولأن الإجماع نوع من الحجة، فيجوز التمسك بمظنونه، كما يجوز بمعلومه، قياسًا على السنة ولأنا بينا أن أصل الإجماع فائدة ظنية، فكذا القول في تفاصيله انتهى.
وأما عدد أهل الإجماع: فقيل: لا يشترط بلوغهم عدد التواتر خلافًا للقاضي، ونقل ابن برهان عن معظم العلماء: أنه يجوز انحطاط عددهم عقلًا عن عدد التواتر: وعن طوائف من المتكلمين أنه لا يجوز عقلًا، وعلى القول بالجواز فهل يكون إجماعهم حجة أم لا؟ فذهب جماعة من أهل العلم: إلى أنه حجة، وهو قول الأستاذ أبي إسحاق. وقال إمام الحرمين الجويني: يجوز ولكن لا يكون إجماعهم حجة. "قال الصفي الهندي: المشترطون اختلفوا فقيل: إنه لا يتصور أن ينقص عدد"** المجمعين عن عدد التواتر ما دام التكليف بالشريعة باقيا، ومنهم من زعم أن ذلك وإن كان يتصور، لكن يقطع بأن ما ذهب إليه دون عدد التواتر ليس سبيل المؤمنين؛ لأن إخبارهم عن إيمانهم لا يفيد القطع فلا تحرم مخالفته، ومنهم من زعم أنه وإن أمكن أن يعلم إيمانهم بالقرائن لا يشترط "فيه ذلك"*** بل يكفي فيه الظهور، لكن الإجماع إنما يكون حجة لكونه كاشفًا عن دليل قاطع، وهو يوجب كونه متواترًا، وإلا لم يكن قاطعًا فيما يقوم مقام نقله متواترًا وهو الحكم بمقتضاه يجب أن يكون صادرًا عن عدد التواتر، وإلا لم يقطع بوجوده.
قال الأستاذ: وإذا لم يبق في العصر إلا مجتهد واحد فقوله حجة "كالإجماع"****، ويجوز أن يقال للواحد أمة كما قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّة}1 ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": ذلك فيه.
**** في "أ": كإجماع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "120" من سورة النحل.

ج / 1 ص -237- قال الزركشي في "البحر": وبه جزم ابن سريج في كتاب "الودائع"1 فقال: وحقيقة الإجماع، هو القول بالحق ولو من واحد فهو إجماع وكذا إن حصل من اثنين أو ثلاثة.
والحجة على أن الواحد إجماع ما اتفق عليه الناس في أبي بكر رضي الله عنه "لما منعت بنو حنيفة من الزكاة"* فكانت "بمطالبة"** أبي بكر لها حقًّا عند الكل، وما انفرد لمطالبتها غيره، هذا كلامه، وخلاف إمام الحرمين فيه أولى، وهو الظاهر لأن الإجماع لا يكون إلا من اثنين فصاعدا، ونقل ابن القطان عن أبي هريرة أنه حجة.
قال إلكيا: المسألة مبنية على تصور اشتمال العصر على المجتهد الواحد، والصحيح تصوره، وإذا قلنا به ففي انعقاد الإجماع بمجرد قوله خلاف، وبه قال الأستاذ أبو إسحاق. قال: والذي حمله على ذلك أنه "لم ير في اختصاص"*** الإجماع بمحل معنى يدل عليه، فسوى بين العدد والفرد. وأما المحققون سواء فإنهم يعبرون العدد، ثم يقولون: المعتبر عدد التواتر، فإذًا مستند الإجماع مستند إلى طرد العادة بتوبيخ من يخالف العصر الأول، وهو يستدعي وفور عدد من الأولين وهذا لا يتحقق فيما إذا كان في العصر إلا مجتهد واحد، فإنه لا يظهر فيه استيعاب مدارك الاجتهاد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": لما امتنعت بنو حنيفة من الزكاة.
** في "أ": مطالبة.
*** في "أ": لم يكن لاختصاص الإجماع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه: "الوادئع لمنصوص الشرائع" لأبي العباس بن سريج، أحمد بن عمر، الشافعي، في مجلد متوسط يشتمل على أحكام مجردة عن الأدلة.
خاتمة:
قول القائل: لا أعلم خلافًا بين أهل العلم في كذا، قال الصيرفي: لا يكون إجماعا، لجواز الاختلاف، وكذا قال ابن حزم في "الأحكام"؛ وقال في كتاب "الإعراب"1: إن الشافعي نص عليه في "الرسالة"2، وكذلك أحمد بن حنبل، وقال ابن القطان: قول القائل لا أعلم خلافًا إن كان من أهل العلم فهو حجة، وإن لم يكن من الذين كشفوا الإجماع والاختلاف فليس بحجة.
وقال الماوردي: إذا قال لا أعرف بينهم خلافا، فإن لم يكن من أهل الاجتهاد وممن أحاط

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو لابن حزم، علي بن أحمد بن سعيد، وهو مخطوط، يتألف من "214" ورقة، كتب سنة إحدى وستين وسبعمائة في شستربتي "3482" ا. هـ. الأعلام "4/ 255".
2 وهي في أصول الفقه، للإمام محمد بن إدريس، الشافعي، صاحب المذهب، منها نسخة كتبت سنة "265" هـ في دار الكتب. ا. هـ. الأعلام "6/ 26".

ج / 1 ص -238- بالإجماع والاختلاف، لم يثبت الإجماع بقوله، وإن كان من أهل الاجتهاد فاختلف أصحابنا فأثبت الإجماع "به قوم، ونفاه آخرون"*.
"قال ابن حزم"**: وزعم قوم أن العالم إذا قال لا أعلم خلافًا فهو إجماع، وهو قول فاسد، و"لو"*** قال ذلك محمد بن نصر المروزي1 فإنا لا نعلم أحدًا منه لأقاويل أهل العلم، ولكن فوق كل ذي علم عليم. وقد قال الشافعي في زكاة البقر لا أعلم خلافًا في أنه ليس في أقل من ثلاثين منها تبيع، والخلاف في ذلك مشهور فإن قومًا يرون الزكاة على خمس كزكاة الإبل.
وقال مالك في "موطئه" -وقد ذكر الحكم برد اليمين-: وهذا مما لا خلاف فيه بين أحد من الناس، ولا بلد من البلدان. والخلاف فيه شهير. وكان عثمان رضي الله عنه لا يرى رد اليمين، ويقضي بالنكول، وكذلك ابن عباس، ومن التابعين الحكم2 وغيره، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة وأصحابه، وهم كانوا القضاة في ذلك الوقت، فإذا كان مثل من ذكرنا يخفى عليه الخلاف فما ظنك بغيره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": تكرار حاصل في العبارة وأيضًا ما بين قوسين ساقط منها.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن نصر بن الحجاج، المروزي، شيخ الإسلام، أبو عبد الله ولد ببغداد في سنة اثنتين ومائتين هـ، من آثاره: "تعظيم قدر الصلاة" "رفع اليدين" توفي سنة أربع وتسعين ومائتين هـ. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 33" تهذيب التهذيب "9/ 489"، شذرات الذهب "2/ 216".
2 الحكم بن عتيبة، الإمام الكبير عالم أهل الكوفة، أبو محمد الكندي ويقال: أبو عمرو وأبو عبد الله، ولد نحو سنة ست وأربعين هـ، وتوفي سنة خمس عشرة ومائة هـ، "وترجح عندنا على غيره لتقدمه على غيره في الولادة والله أعلم" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 208"، تهذيب التهذيب "2/ 432"، شذرات الذهب "1/ 151".


















[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]


إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
ج / 1 ص -241- المقصد الرابع: في الأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، والإجمال والتبيين، والناسخ والمنسوخ، والمؤول والمنطوق والمفهوم.
الفصل الأول: حقيقة لفظ الأمر
قال في "المحصول": اتفقوا على أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص، واختلفوا في كونه حقيقة في غيره، فزعم بعض الفقهاء أنه حقيقة في الفعل أيضًا، والجمهور على أنه مجاز فيه، وزعم أبو الحسين أنه مشترك بين القول المخصوص، وبين الشيء، وبين الصفة، وبين الشأن والطريق، والمختار أنه حقيقة في القول المخصوص فقط. لنا أجمعنا على أنه حقيقة في القول المخصوص، فوجب أن لا يكون حقيقة في غيره دفعًا للاشتراك. انتهى.
ويجاب عنه: بأن مجرد الإجماع على كون أحد المعاني حقيقة لا ينفي حقيقة ما عداه، والأولى أن يقال: إن الذي سبق إلى الفهم من لفظ ألف، ميم، راء، عند الإطلاق هو القول المخصوص، والسبق إلى الفهم دليل الحقيقة، والأصل عدم الاشتراك، ولو كان مشتركًا لتبادر إلى الفهم جميع ما هو مشترك فيه ولو كان متواطئًا لم يفهم منه القول المخصوص على انفراده "واستدل أيضًا"* على أنه حقيقة في القول المخصوص: بأنه لو كان حقيقة في الفعل لاطرد و"كان"** يسمى الأكل أمرًا، والشرب أمرًا، ولكان يشتق للفاعل اسم الأمر وليس كذلك لأن من قام أو قعد لا يسمى آمرًا.
وأيضًا الأمر له لوازم، ولم يوجد منها شيء في الفعل، فوجب أن لا يكون الأمر حقيقة في الفعل.
وأيضًا يصح نفي الأمر عن الفعل، فيقال: ما أمر به ولكن فعله.
وأجيب: بمنع كون من شأن الحقيقة الاطراد، وبمنع لزوم الاشتقاق في كل الحقائق، وبمنع عدم وجود شيء من اللوازم في الفعل وبمنع تجويزهم لنفيه مطلقًا.
واستدل القائلون بأنه حقيقة في الفعل بوجهين:
الأول:
أن أهل اللغة يستعملون لفظ الأمر في الفعل، وظاهر الاستعمال الحقيقة، ومن ذلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": واستدلاله.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".

ج / 1 ص -242- قوله سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّور}1 والمراد منه هنا العجائب التي أظهرها الله عز وجل وقوله: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله}2 أي: من فعله، وقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَر}3 وقوله: {تَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِه}4 وقوله: {مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِه}5، ومن ذلك قول الشاعر:
لأمر ما يسود من يسود6
وقول العرب في أمثالها المضروبة: لأمر ما جدع قصير أنفه7، والأصل في الإطلاق الحقيقة.
الوجه الثاني:
أنه قد خولف بين جمع الأمر بمعنى القول "وبين جمعه بمعنى الفعل"* فقيل في الأول: أوامر وفي الثاني أمور، والاشتقاق علامة الحقيقة.
وأجيب عن الأول: بأنا لا نسلم استعمال اللفظ في الفعل، من حيث إنه فعل أما قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} فلا مانع من أن يراد منه القول أو الشأن، وإنما يطلق اسم الأمر على الفعل لعموم كونه شأنًا لا لخصوص كونه فعلًا، وكذا الجواب عن الآية الثانية.
وأما قوله سبحانه: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيد}8 فلمَ لا يجوز أن يكون المراد هو القول، بل الأظهر ذلك لما تقدم من قوله: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْن} أي أطاعوه فيما أمرهم به.
سلمنا أنه ليس المراد القول فلم لا يجوز أن يكون المراد شأنه وطريقته، وأما قوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَة} فلمَ لا يجوز إجراؤه على الظاهر ويكون معناه: أن من شأنه سبحانه أنه إذا أراد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "40" من سورة هود.
2 جزء من الآية "73" من سورة هود.
3 الآية "50" من سورة القمر.
4 جزء من الآية "65" من سورة الحج.
5 جزء من الآية "54" من سورة الأعراف.
6 عجز بيت وصدره.
عزمت على إقامة ذي صباح ..................................
والبيت لأنس بن مدركة. ا. هـ. شرح المفصل "3/ 12".
7 "لأمر ما جدع قصير أنفه" قالته الزباء عندما قيل لها إن قصيرًا بالباب فأمرت به فأدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع، وظهره وقد ضرب، وذلك عندما أراد عمرو بن الظرب الملك المعروف أن يغزوها فجدع أنف قصير وضرب ظهره وأرسله إلى الزباء ليدخل عليها بحيلة أنه قد آذاه الملك، ولجأ إليها ومعه هدايا فإذا هذه الهدايا مليئة بجنود مختفين فاستطاع بهذه الحيلة أن يغزوها ا. هـ. الكامل لابن الأثير "1/ 200".
8 جزء من الآية "97" من سورة هود.

ج / 1 ص -243- شيئًا وقع كلمح البصر.
وأما قوله: {تَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِه} وقوله: {مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِه} فلا يجوز حمل الأمر فيهما على الفعل؛ لأن الجري والتسخير إنما حصل بقدرته لا بفعله، فوجب حمله على الشأن والطريق، وهكذا قول الشاعر المذكور والمثل المشهور.
وأما قولهم: إن الأصل الحقيقة فمعارض بأن الأصل عدم الاشتراك.
وأجيب عن الوجه الثاني بأنه يجوز أن يكون الأمور جمع الأمر بمعنى الشأن، لا بمعنى الفعل، سلمنا لكن لا نسلم أن الجمع من علامات الحقيقة.
واستدل أبو الحسين بقوله: بأن من قال هذا أمر لم يدر السامع أي هذه الأمور أراد، فإذا قال هذا أمر بالفعل، أو أمر فلان مستقيم، أو تحرك هذا الجسم لأمر، وجاء زيد لأمر، عقل السامع من الأول القول، ومن الثاني الشأن، ومن الثالث أن الجسم تحرك "بشيء"*. ومن الرابع أن زيدًا جاء لغرض من الأغراض، وتوقف الذهن عند السماع يدل على أنه متردد بين الكل.
وأجيب: بأن هذا التردد ممنوع، بل لا يفهم ما عدا القول إلا بقرينة مانعة من حمل اللفظ عليه، كما إذا استعمل في موضع لا يليق بالقول

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": لشيء.
الفصل الثاني: الخلاف في حد الأمر بمعنى القول
اختلف في حد الأمر بمعنى القول، فقال القاضي أبو بكر، وارتضاه جماعة من أهل الأصول: إنه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به، قال في "المحصول": وهذا خطأ لوجهين:
أما أولًا: فلأن لفظي المأمور، والمأمور به مشتقان من الأمر، فيمتنع تعريفهما إلا بالأمر، فلو عرفنا الأمر بهما لزم الدور.
وأما ثانيًا: فلأن الطاعة عند أصحابنا موافقة الأمر، وعند المعتزلة موافقة الإرادة فالطاعة على قول أصحابنا لا يمكن تعريفها إلا بالأمر، فلو عرفنا الأمر بها لزم الدور.
وقال أكثر المعتزلة في حده: إنه قول القائل لمن دونه افعل أو ما يقوم مقامه.
قال في "المحصول": وهذا خطأ من وجوه:

ج / 1 ص -244- الأول: أنا لو قدرنا أن الواضع ما وضع لفظه "افعل" لشيء أصلا، حتى كانت هذه اللفظة من المهملات، ففي تلك الحالة لو تلفظ الإنسان بها مع دونه لا يقال فيه إنه أمر، ولو أنها صدرت عن النائم أو الساهي، أو على سبيل انطلاق اللسان بها إتفاقًا أو على سبيل الحكاية"لا"* يقال فيه: إنه أمر، ولو قدرنا أن الواضع وضع بإزاء معنى لفظ افعل وبإزاء معنى "الخبر"** لفظة "افعل"***، لكان المتكلم بلفظ "افعل"**** آمرًا وبلفظ افعل مخبرًا، فعلمنا أن تحديد ماهية الأمر بالصيغة المخصوصة باطل.
الوجه الثاني: أن تحديد ماهية الأمر من حيث هو أمر، وهي حقيقة لا تختلف باختلاف اللغات، فإن التركي قد يأمر وينهي، وما ذكروه لا يتناول "إلا"***** الألفاظ العربية.
فإن قلت: قولنا: أو ما يقوم مقامه احتراز عن هذين الإشكالين الذين ذكرتهما.
قلت: قوله أو ما يقوم مقامه يعني به كونه قائمًا مقامه في الدلالة على كونه طلبًا للفعل، أو يعني به شيئًا آخر، فإن كان المراد هو الثاني فلا بد من بيانه، وإن كان المراد هو الأول صار معنى حد الأمر هو قول القائل لمن دونه افعل أو ما يقوم مقامه في الدلالة على طلب الفعل "وإذا ذكرناه على هذا الوجه كان قولنا: الأمر هو اللفظ الدال على طلب الفعل"****** كافيا، وحينئذ يقع التعرض بخصوص صيغة افعل ضائعا.
الوجه الثالث: "أنا"******* سنبين أن الرتبة غير معتبرة، وإذا ثبت فساد هذين الحدين فنقول: الصحيح أن يقال: الأمر طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء، ومن الناس من لم يعتبر هذا القيد الأخير. انتهى.
ولا يخفاك أن ما أجاب به من هذه الوجوه الثلاثة لا يرد على ذلك الحد. أما الوجه الأول فتقدير الإهمال أو الصدور لا عن قصد ليس مما يقتضي النقض به لخروجه عن الكلام المعتبر عند أهل اللغة، وأما النقض بغير لغة العرب فغير وارد فإن مراد من حد الأمر بذلك الحد ليس إلا باعتبار ما يقتضيه لغة العرب لا غيرها، وأما عدم اعتبار الرتبة فمصادرة على المطلوب ويرد على الحد الذي ارتضاه آخر وقال إنه الصحيح النهي فإن طلب الفعل بالقول؛ لأن الكف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": فعل.
**** في "أ": فعل.
***** ما بين قوسين ساقط من "أ".
****** ما بين قوسين ساقط من "أ".
******* ما بين قوسين ساقط من "أ".

ج / 1 ص -245- فعل، ويرد على قيد الاستعلاء، قوله تعالى حكاية عن فرعون {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}1 والأصل الحقيقة.
وقد أورد على الحد الذي ذكرته المعتزلة أنه يرد على طرده قول لقائل لمن دونه فعل "تهديدًا أو تعجيزًا أو غيرها، فإنه يرد لمعان كثيرة كما سيأتي2، ويرد في طرده قول القائل لمن دونه افعل"* إذا صدر عن مبلغ لأمر الغير، أو حاك له، ويرد على عكسه افعل إذا صدر من الأدنى على سبيل الاستعلاء، ولذلك يذم بأنه أمر من هو أعلى منه.
وأجيب عن الإيراد الأول: بأن المراد قول افعل مرادًا به ما يتبادر منه عند الإطلاق.
وعن الثاني: بأنه ليس قولًا لغيره افعل.
وعن الثالث: بمنع كونه أمرًا عندهم لغة، وإنما سمي به عرفًا.
وقال قوم في حده: هو صيغة افعل مجردة عن القرائن الصارفة عن الأمر.
واعترض عليه: بأنه تعريف الأمر بالأمر ولا يعرف الشيء بنفسه، وإن أسقط هذا القيد بقي صيغة افعل مجردة فيلزم تجرده مطلقًا، حتى عما يؤكدكونه أمرًا.
وأجيب عنه: بأن المراد القرائن الصارفة عما يتبادر منها إلى الفهم عند إطلاقها.
وقيل في حده: هو اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء.
واعترض على عكسه بأكفف وانته واترك وذر فإنها أوامر لا يصدق عليها الحد لعدم اقتضاء الفعل غير الكف فيها.
واعترض على طرده بلا تترك، ولا تنته ونحوهما، فإنها نواة ويصدق عليها الحد.
وأجيب: بأن المحدود هو النفسي، فيلتزم أن معنى لا تترك معنى الأمر النفسي، ومعنى اكفف وذر النهي فاطرد وانعكس.
وقيل في حده: هو صيغة افعل بإرادات ثلاث، وجود اللفظ، ودلالتها على الأمر، والامتثال.
واحترز بالأولى عن النائم، إذ يصدر عنه صيغة افعل من غير إرادة وجود اللفظ، وبالثانية عن التهديد والتخيير والإكرام والإهانة ونحوها، وبالثالثة عن الصيغة التي تصدر عن المبلغ، والحاكي، فإنه لا يريد الامتثال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "110" الأعراف، والآية "35" الشعراء.
2 انظر صفحة: "253".

ج / 1 ص -246- واعترض عليه: بأنه إن أريد بالأمر المحدود "اللفظ، أي الأمر الصيغي فلذلك الحد إرادة دلالتها، أي الصيغة على الأمر؛ لأن اللفظ غير مدلول عليه، وإن أريد بالأمر المحدود"* المعنى النفسي أفسد الحد جنسه فإن المعنى ليس بصيغة.
وأجيب: بأن المراد بالمحدود اللفظ، وبما في الحد المعنى الذي هو الطالب، واستعمل المشترك الذي هو لفظ الأمر في معنييه اللذين هما الصيغة المعلومة، والطلب بالقرينة العقلية.
وقيل في حده: إنه إرادة "الفعل"**.
واعترض عليه بأنه غير جامع لثبوت الأمر ولا إرادة، كما في أمر السيد لعبده بحضرة من توعد السيد على ضربه لعبده بالإهلاك إن ظهر أنه لا يخالف أمر سيده والسيد يدعي مخالفة العبد في أمره ليدفع عن نفسه الإهلاك، فإنه يأمر عبده بحضرة المتوعد له ليعصيه ويشاهد المتوعد عصيانه ويخلص من الهلاك فههنا قد أمر وإلا لم يظهر عذره، وهو مخالف الأمر ولا يريد منه العمل لا أنه لا يريد ما يفضي إلى هلاكه، وإلا كان مريدًا هلاك نفسه وإنه محال.
وأجيب عنه: بأنه مثله يجيء في الطلب؛ لأن العاقل لا يطلب ما يستلزم هلاكه، وإلا كان "طالبًا"*** لهلاكه. ودفع بالمنع، لجواز أن يطلب العاقل الهلاك لغرض إذا علم عدم وقوعه.
ورد هذا الدفع: بأن ذلك إنما يصح في اللفظي، أما النفسي فالطلب النفسي كالإرادة النفسية فلا يطلب الهلاك بقلبه كما لا يريده.
وقال الآمدي: لو كان الأمر إرادة لوقعت المأمورات بمجرد الأمر؛ لأن الإرادة صفة تخصص المقدور بوقت وجوده، فوجودها فرع وجود مقدور مخصص. والثاني باطل لأن إيمان الكفار المعلوم عدمه عند الله تعالى لا شك أنه مأمور به فيلزم أن يكون مرادًا ويستلزم وجوده مع أنه محال.

وأجيب عن هذا: بأن ذلك لا يلزم من حد الأمر بإرادة الفعل؛ لأنه من المعتزلة والإرادة عندهم بالنسبة "إلى العباد"**** ميل يتبع اعتقاد النفع أو دفع الضرر، وبالنسبة إليه سبحانه وتعالى العلم بما في الفعل من المصلحة.
إذا تقرر لك ما ذكرناه وعرفت ما فيه، فاعلم أن الأولى بالأصول تعريف الأمر الصيغي؛ لأن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": العقل وهو تصحيف.
*** في "أ": طلبًا.
**** في "أ": بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ميل إلخ.

ج / 1 ص -247- بحث هذا العلم عن الأدلة السمعية، وهي الألفاظ الموصلة من حيث "العلم"* بأحوالها من عموم وخصوص وغيرهما إلى قدرة إثبات الأحكام، والأمر الصيغي في اصطلاح أهل العربية صيغته المعلومة سواء كانت على سبيل الاستعلاء، أو لا. وعند أهل اللغة في صيغته المعلومة، المستعملة في الطلب الجازم مع الاستعلاء، هذا باعتبار لفظ الأمر الذي هو ألف، ميم، راء، بخلاف فعل الأمر نحو اضرب، فإنه لا يشترط فيه ما ذكر، بل يصدق مع العلو وعدمه، وعلى هذا أكثر أهل الأصول. ولم يعتبر الأشعري1 قيد العلو، وتابعه أكثر الشافعية، واعتبر العلو المعتزلة جميعًا إلا أبا الحسين منهم ووافقهم أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ وابن السمعاني من الشافعية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ا لمعلوم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو علي بن إسماعيل بن أبي بشر، العلامة، إمام المتكلمين، أبو الحسن الأشعري ولد سنة ستين ومائتين هـ، من آثاره: "العمد في الرؤية" "الموجز" "خلق الأعمال" وغيرها كثير، توفي سنة ثلاثين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 85"، شذرات الذهب "2/ 303".
الفصل الثالث: حقيقة صيغة افعل
اختلف أهل العلم في صيغة "افعل" وما في معناها هل هي حقيقة في الوجوب، أو فيه مع غيره، أو في غيره؟
فذهب الجمهور إلى أنها حقيقة في الوجوب فقط، وصححه ابن الحاجب والبيضاوي1.
قال الرازي: وهو الحق.
وذكر الجويني أنه مذهب الشافعي، قيل: وهو الذي أملاه الأشعري على أصحابه.
وقال أبو هاشم، وعامة المعتزلة، وجماعة من الفقهاء، وهو رواية الشافعي: إنها حقيقة الندب.
وقال الأشعري والقاضي: بالوقف، فقيل: إنهما توقفا في أنه موضوع للوجوب والندب، وقيل توقفا بأن قالا: لا ندري بما هو حقيقة فيه أصلًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد الله بن عمر، أبو سعيد، أو أبو الخير، "ناصر الدين"، قاض مفسر، علامة، ولد في المدينة البيضاء "بفارس"، ولي قضاء شيراز مدة، توفي سنة خمس وستمائة هـ، من آثاره: "لب اللباب في الإعراب" "أنوار التنزيل وأسرار التأويل". ا. هـ. معجم المؤلفين "6/ 98" بغية الوعاة "286"، الأعلام "4/ 110".

ج / 1 ص -248- وحكى السعد في "التلويح"1 عن الغزالي، وجماعة من المحققين، أنهم ذهبوا إلى الوقف في تعيين المعنى الموضوع له حقيقة، وحكى أيضًا عن ابن سريج الوقف في تعيين المعنى المراد عند الاستعمال، لا في تعيين الموضوع له عنده؛ لأنه موضوع عنده بالاشتراك للوجوب والندب، والإباحة والتهديد.
وقيل: إنها مشتركة بين الوجوب والندب اشتراكًا لفظيًّا، وهو قول الشافعي في رواية عنه.
وقيل: إنها مشتركة اشتراكًا لفظيًّا بين الوجوب والندب والإباحة.
وقيل: إنها موضوعة للقدر المشترك بين الوجوب والندب، وهو الطلب: أي ترجيح الفعل على الترك، ونسبه شارح التحرير2 إلى أبي منصور الماتريدي3 ومشايخ سمرقند.
وقيل: إنها للقدر المشترك بين الوجوب والندب، والإباحة، وهو الإذن برفع الحرج عن الفعل، وبه قال المرتضى من الشيعة.
وقال جمهور الشيعة: إنها مشتركة بين الثلاثة المذكورة والتهديد.
استدل القائلون بأنها حقيقة في الوجوب لغة وشرعًا كما ذهب إليه الجمهور، أو شرعًا فقط كما ذهب إليه البلخي4، وأبو عبد الله البصري، والجويني وأبو طالب بدليل العقل والنقل.
أما العقل، فإنا نعلم من أهل اللغة، قبل ورود الشرع أنهم أطبقوا على ذم عبد لم يمتثل أمر سيده، وأنهم يصفونه بالعصيان ولا يذم ويوصف بالعصيان إلا من كان تاركًا لواجب عليه، وأما المنقول فقد تكرر استدلال السلف بهذه الصيغة مع تجردها عن القرائن على الوجوب. وشاع ذلك وذاع بلا نكير. فأوجب العلم العادي باتفاقهم "على أنه له"*.
واعترض: بأن استدلالهم بها على الوجوب كان في صيغ من الأمر محتفة بقرائن الوجوب، بدليل استدلالهم بكثير منها على الندب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو "التلويح إلى كشف غوامض التنقيح" للسعد التفتازاني، انظر ترجمته ص46.
2 هو "التقرير والتحبير" للإمام محمد بن أمير حاج الذي شرح فيه كتاب "التحرير في أصول الفقه للإمام ابن الهمام، ولقد ذكر الشارح: أن المصنف قد حرر من مقاصد هذه العلم ما لم يحرره كثير، مع جمعه بين اصطلاحي الحنفية والشافعية على أحسن نظام وترتيب. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 358".
3 هو محمد بن محمد بن محمود الماتريدي، السمرقندي، أبو منصور، متكلم أصولي، توفي بسمرقند، من آثاره: "شرح الفقه الأكبر لأبي حنيفة" "تأويلات أهل السنة" "بيان وهم المعتزلة" "تأويلات القرآن" "مأخذ الشرائع في أصول الفقه"، توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. معجم المؤلفين "11/ 300" الفوائد البهية "195" هدية العارفين "2/ 36".
4 هو المعروف بالكعبي، سبقت ترجمته في الصفحة "129".

ج / 1 ص -249- وأجيب: بأن استدلالهم منها على الندب إنما كان بقرائن صارفة عن المعنى الحقيقي وهو الوجوب، معينة للمعنى المجازي وهو الندب، علمنا ذلك باستقراء الواقع منهم في الصيغ المنسوب إليها الوجوب، والصيغ المنسوب إليها الندب في الكتاب والسنة، وعلمنا بالتتبع أن فهم الوجوب لا يحتاج إلى قرينة لتبادره إلى الذهن بخلاف فهم الندب فإنه يحتاج إليها.
واعترض على هذا الدليل أيضًا بأنه استدلال بالدليل الظني في الأصول؛ لأنه إجماع سكوتي مختلف في حجيته كما تقدم1، ولا يستدل بالأدلة الظنية في الأصول.
وأجيب: بأنه لو سلم كون ذلك الدليل ظنيًّا لكفى في الأصول، وإلا تعذر العمل بأكثر الظواهر؛ لأنها لا تفيد إلا الظن، والقطع لا سبيل إليه، كما لا يخفى على من تتبع مسائل الأصول. وأيضًا نحن نقطع بتبادر الوجوب من الأوامر المجردة عن القرائن الصارفة، وذلك يوجب القطع به لغة وشرعا.
واستدلوا أيضًا بقوله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}2 وليس المراد منه الاستفهام بالاتفاق، بل الذم، وأنه لا عذر له في الإخلال بالسجود بعد ورود الأمر به له في ضمن قوله سبحانه للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيس}3 فدل ذلك على أن معنى الأمر المجرد عن القرائن الوجوب، ولو لم يكن دالًّا على الوجوب لما ذمه الله سبحانه وتعالى على الترك، ولكان لإبليس أن يقول: إنك ما ألزمتني السجود.
واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُون}4 فذمهم على ترك فعل ما قيل لهم افعلوه، ولو كان الأمر يفيد الندب لما حسن هذا الكلام، كما أنه لو قال لهم: الأولى أن تفعلوا ويجوز لكم تركه فإنه ليس له أن يذمهم على تركه.
واعترض على هذا: بأنه سبحانه وتعالى إنما ذمهم لأنهم لم يعتقدوا حقية الأمر، لا لأنهم تركوا المأمور به، والدليل عليه قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين}5.
وأيضًا فصيغة افعل قد تفيد الوجوب عند اقتران بعض القرائن بها، فلعله سبحانه وتعالى إنما ذمهم لأنه "كان قد"* وجدت قرينة دالة على الوجوب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": قد كان قد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة "223".
2 جزء من الآية "12" من سورة الأعراف.
3 جزء من الآية "34" من سورة البقرة.
4 الآية "48" من سورة المرسلات.
5 الآية "49" من سورة المرسلات.

ج / 1 ص -250- وأجيب عن الاعتراض الأول بأن المكذبين في قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين} إما أن يكونوا هم الذين تركوا الركوع لما قيل لهم اركعوا أو غيرهم، فإن كان الأول جاز أن يستحقوا الذم بترك الركوع، والويل بسبب التكذيب، وإن "كان"* الثاني لم يكن إثبات الويل للإنسان بسبب التكذيب منافيًا لثبوت الذم لإنسان آخر بسبب تركه للمأمور به.
وأجيب عن الاعتراض الثاني: بأن الله سبحانه وتعالى إنما ذمهم لمجرد أنهم تركوا الركوع لما قيل لهم اركعوا. فدل على أن منشأ الذم هذا القدر لا القرينة.
واستدلوا أيضًا بقوله سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}1 أي يعرضون عنه بترك مقتضاه: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} لأنه رتب على ترك مقتضى أمره إصابة الفتنة في الدنيا أو العذاب الأليم في الآخرة، فأفادت الآية بما تقتضيه إضافة الجنس من العموم أن لفظ الأمر يفيد الوجوب شرعًا، مع تجرده عن القرائن؛ إذ لولا ذلك لقبح التحذير.
واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}2 أي تركت مقتضاه، فدل على أن تارك المأمور به عاصٍ، وكل عاصٍ متوعد، وهو دليل الوجوب لهذه الآية، ولقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّم}3، والأمر الذي أمره به هو قوله تعالى: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}4 وهو أمر مجرد عن القرائن.
واعترض على هذا بأن السياق لا يفيد ذلك.
وأجيب: بمنع كونه لا يفيد ذلك.
واستدلوا أيضًا بقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}5 والقضاء بمعنى الحكم و"أمرًا" مصدر من غير لفظة، أو حال، أو تمييز، ولا يصح أن يكون المراد بالقضاء ما هو المراد في قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات}6؛ لأن عطف الرسول عليه يمنع ذلك، فتعين أن المراد الحكم، والمراد من الأمر القول لا الفعل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "يكن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "63" من سورة النور.
2 جزء من الآية "93" من سورة طه.
3 جزء من الآية "23" من سورة الجن.
4 جزء من الآية "142" من سورة الأعراف.
5 جزء من الآية "36" من سورة الأحزاب.
6 جزء من الآية "11" من سورة فصلت.

ج / 1 ص -251- واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون}1 والمراد منه الأمر حقيقة، وليس بمجاز عن سرعة الإيجاد كما قيل، وعلى هذا يكون الوجود مرادًا بهذا الأمر، أي: أراد الله أنه كلما وجد الأمر يوجد المأمور به، فكذا في كل أمر من الله تعالى، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم.
واستدلوا أيضًا بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"2 وكلمة "لولا" تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره "فههنا"* تفيد انتفاء الأمر لوجود المشقة. فهذا الحديث يدل على أنه لم يوجد الأمر بالسواك عند كل صلاة، والإجماع قائم على أنه مندوب، فلو كان المندوب مأمورًا به لكان الأمر قائمًا عند كل صلاة. فلما لم يوجد الأمر علمنا أن المندوب غير مأمور به. واعترض على هذا الاستدلال: بأنه لِمَ لا يجوز أن يقال: إن مراده لأمرتهم على وجه يقتضي الوجوب بقرائن تدل عليه لا مجرد الأمر.
ورد بأن كلمة "لولا" دخلت على الأمر، فوجب أن لا يكون الأمر حاصلا، والندب حاصل فوجب أن لا يكون الندب أمرا، والإلزام التناقض والمراد مجرد الأمر.
واستدلوا أيضًا بما وقع في قصة بريرة لَمَّا رغبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجوع إلى زوجها، فقالت: أتأمرني بذلك؟ فقال: "لا، إنما أنا شافع"3 فنفى صلى الله عليه وسلم الأمر منه، مع ثبوت الشفاعة الدالة على الندب، وذلك يدل على أن المندوب غير مأمور به، وإذا كان كذلك وجب أن لا يتناول الأمر الندب.
واستدلوا أيضًا بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستدلون بالأوامر على الوجوب، ولم يظهر مخالف منهم، ولا من غيرهم في ذلك فكان إجماعًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": هنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "40" من سورة النحل.
2 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة في الجمعة باب السواك يوم الجمعة "887" مالك في الموطأ في الطهارة باب ما جاء في السواك "1/ 66" والإمام أحمد في مسنده "2/ 245" والبيهقي في السنن "1/ 37" وابن حبان في صحيحه "1068" وذكره الشافعي في الأم "1/ 23".
3 أخرجه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الطلاق، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة "5283". وابن ماجه في الطلاق باب خيار الأمة إذا أعتقت "2075" والنسائي في آداب القضاء باب شفاعة الحاكم للخصوم قبل فصل الحكم "5432" "8/ 245". والإمام أحمد في مسنده 1/ 215 "1844". وابن حبان في صحيحه بنحوه "4270".

ج / 1 ص -252- واستدلوا أيضًا بأن لفظ "افعل" إما أن يكون حقيقة في الوجوب فقط، أو في الندب فقط، أو في غيرهما، والأقسام الثلاثة الآخرة باطلة، فتعين الأول لأنه لو كان للندب فقط لما كان الواجب مأمورًا به فيمتنع أن يكون الأمر للندب فقط، ولو كان لما لزم الجمع بين الراجح فعله مع جواز تركه، وبين الراجح فعله مع المنع من تركه والجمع بينهما محال، ولو كان حقيقة في غيرهما لزم أن يكون الواجب والمندوب غير مأمور بهما، وأن يكون الأمر حقيقة فيما لا "ترجيح"* فيه وهو باطل، ومعلوم أن الأمر يفيد رجحان الوجود على العدم، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مانعًا من الترك.
واستدل القائلون بأنها حقيقة في الندب بما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما هلك الذين من قبلكم من كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم"1 فرد ذلك إلى مشيئتنا وهو معنى الندب.
وأجيب عن هذا: بأنه دليل للقائلين بالوجوب لا للقائلين بالندب؛ لأن ما لا نستطيعه لا يجب علينا؛ وإنما يجب علينا ما نستطيعه، والمندوب لا حرج في تركه مع الاستطاعة.
واحتجوا أيضًا: بأنه لا فرق بين قول القائل لعبده اسقني "وقوله"** أريد أن تسقيني "فإن أهل اللغة يفهمون من أحدهما ما يفهمون من الآخر. وأجيب عنه: بأن قوله: اسقني يفيد طلب، الفعل مع الإرادة، بخلاف قوله: أن تسقيني"*** فليس إلا مجرد الإخبار بكونه مريدًا للفعل وليس فيه طلب للفعل، وهذا أشف ما احتجوا به مع كونه مدفوعًا بما سمعت، وقد احتجوا بغير ذلك مما لا يفيد شيئًا.
واحتج القائلون بأن صيغة الأمر مشتركة بين الوجوب والندب، أو بينهما وبين الإباحة اشتراكًا لفظيًّا بأنه قد ثبت إطلاقها عليهما، أو عليها، والأصل في الإطلاق الحقيقة.
وأجيب بما تقدم، من أن المجاز أولى من الاشتراك، وأيضًا كان يلزم أن تكون الصيغة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ترجح.
** في "أ": وبين قوله.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم "7288" ومسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره صلى الله عليه وسلم، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه "1337". وأحمد في مسنده "2/ 258". والنسائي "5/ 110". والدارقطني "2/ 181". وابن خزيمة في صحيحه "2508". وابن حبان في صحيحه "18". والبيهقي في سننه "4/ 326".

ج / 1 ص -253- حقيقة في جميع معاني الأمر التي سيأتي1 بيانها لأنه قد أطلق عليها ولو نادرًا ولا قائل بذلك.
واحتج القائلون بأن الصيغة موضوعة لمطلق الطلب: بأنه قد ثبت الرجحان في المندوب، كما ثبت في الواجب، وجعلها للوجوب بخصوصه لا دليل عليه.
وأجيب: بأنه قد دل الدليل عليه كما تقدم في أدلة القائلين بالوجوب، وأيضًا ما ذكروه هو إثبات اللغة بلوازم الماهيات، وذلك أنهم جعلوا الرجحان لازمًا للوجوب والندب، وجعلوا صيغة الأمر لهما بهذا الاعتبار، واللغة لا تثبت بذلك.
واحتج القائلون بالوقف، بأنه لو ثبت تعيين الصيغة لمعنى من المعاني لثبت بدليل ولا دليل.
وأجيب: بأن الدليل قد دل على تعيينها باعتبار المعنى الحقيقي للوجوب كما قدمنا2.
وإذا تقرر لك هذا عرفت أن الراجح ما ذهب إليه القائلون بأنها حقيقة في الوجوب، فلا تكون لغيره من المعاني إلا بقرينة لما ذكرناه3 من الأدلة، ومن أنكر استحقاق العبد المخالف لأمر سيده للذم، وأنه يطلق عليه بمجرد هذه المخالفة اسم العصيان، فهو مكابر ومباهت، فهذا يقطع النزاع باعتبار العقل.
وأما باعتبار ما ورد في الشرع وما ورد من حمل أهله للصيغ المطلقة من الأوامر على الوجوب ففيما ذكرناه سابقًا ما يغني عن التطويل، ولم يأت من خالف هذا بشيء يعد به أصلًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "254-255".
2 انظر صفحة: "247".
3 انظر صفحة: "248".
صيغ الأمر ومعانيه:
واعلم أن هذا النزاع إنما هو في المعنى الحقيقي للصيغة كما عرفت، وأما مجرد استعمالها فقد تستعمل في معانٍ كثيرة، قال الرازي في "المحصول": قال الأصوليون: صيغة افعل مستعملة في خمسة عشر وجهًا:
للإيجاب كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاة}1.
وللندب كقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}2، ويقرب منه التأديب كقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "كل مما يليك"3؛ فإن الأدب مندوب إليه وإن كان قد جعله بعضهم قسمًا مغايرًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "43" من سورة البقرة.
2 جزء من الآية "33" من سورة النور.
3 أخرجه البخاري من حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه في الأطعمة باب التسمية على الطعام "5376". ومسلم في الأشربة باب آداب الطعام والشراب "2022". والترمذي في الأطعمة باب ما جاء في التسمية على الطعام "1857". وأبو داود في الأطعمة باب الأكل باليمين "3777". وابن ماجه في الأطعمة باب الأكل باليمين "3267". والإمام أحمد في مسنده 4/ 26.

ج / 1 ص -254- للمندوب.
وللإرشاد كقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا}1 {فَاكْتُبُوهُ}2.
والفرق بين الندب والإرشاد أن الندب لثواب الآخرة، والإرشاد لمنافع الدنيا، فإنه لا ينتقص الثواب بترك الاستشهاد في المداينات ولا يزيد بفعله.
وللإباحة مثل قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا}3.
وللتهديد مثل: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}4، {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ}5، ويقرب منه الإنذار كقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا}6 وإن كان قد جعلوه قسمًا آخر.
وللامتنان مثل: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ الله}7.
وللإكرام: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِين}8.
وللتسخير: {كُونُوا قِرَدَة}9.
وللتعجيز: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِه}10.
وللإهانة: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيم}11.
وللتسوية: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا}12.
وللدعاء: {رَبِّ اغْفِرْ لِي}13.
وللتمني كقول الشاعر: "ألا أيها الليل الطويل ألا انجل"14.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 و2 جزء من الآية "282" من سورة البقرة.
3 جزء من الآية "24" من سورة الحاقة.
4 جزء من الآية "40" من سورة فصلت.
5 جزء من الآية "64" من سورة الإسراء.
6 جزء من الآية "30" من سورة إبراهيم.
7 جزء من الآية "114" من سورة النحل.
8 جزء من الآية "46" من سورة الحجر.
9 جزء من الآية "65" من سورة البقرة.
10 جزء من الآية "23" من سورة البقرة.
11 جزء من الآية "49" من سورة الدخان.
12 جزء من الآية "16" من سورة الطور.
13 جزء من الآية "28" من سورة نوح.
14 قائل هذا البيت امرؤ القيس وهو في معلقته المشهورة:
ألا أيها الطويل ألا انجل بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وهو من البحر الطويل ا. هـ. شرح المعلقات السبع "39".
ج / 1 ص -255- وللاحتقار كقوله تعالى: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}1.
وللتكوين: {كُنْ فَيَكُون}2 انتهى.
فهذه خمسة عشر معنى، ومن جعل التأديب والإنذار معنيين مستقلين جعلها سبعة عشر معنى، وجعل بعضهم من المعاني الأذن نحو قوله تعالى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَات}3، والخبر نحو: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}4، والتفويض نحو: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاض}5 والمشورة كقوله: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}6، والاعتبار نحو: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَر} والتكذيب نحو: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُم}8، والالتماس كقولك لنظيرك: "افعل". والتلهيف9 نحو: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُم}10 والتصبير نحو: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا}11 فتكون جملة المعاني ستة وعشرين معنى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "80" من سورة يونس، والآية "43" من سورة الشعراء.
2 جزء من الآية "82" من سورة يس.
3 جزء من الآية "51" من سورة المؤمنون.
4 جزء من الآية "82" من سورة التوبة.
5 جزء من الآية "72" من سورة طه.
6 جزء من الآية "102" من سورة الصافات.
7 جزء من الآية "99" من سورة الأنعام.
8 جزء من الآية "111" من سورة البقرة.
9 مأخوذ من اللهف وهو: الأسى والحزن والغيظ. ا. هـ. لسان العرب مادة لهف وكذلك الصحاح.
10 جزء من الآية "119" من سورة آل عمران.
11 جزء من الآية "42" من سورة المعارج.
الفصل الرابع: هل الأمر يفيد التكرار أم لا
ذهب جماعة من المحققين إلى أن صيغة الأمر باعتبار الهيئة الخاصة موضوعة لمطلق الطلب، من غير إشعار بالوحدة والكثرة، واختاره الحنفية، والآمدي، وابن الحاجب، والجويني، والبيضاوي.
قال السبكي: وأراه رأي أكثر أصحابنا، يعني الشافعية، واختاره أيضًا من المتعزلة أبو الحسين البصري، وأبو الحسن الكرخي قالوا جميعًا: إلا أنه لا يمكن تحصيل المأمور به بأقل من

ج / 1 ص -256- مرة فصارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به، لا أن الأمر يدل عليها بذاته.
وقال جماعة: إن صيغة الأمر تقتضي المرة الواحدة لفظًا، وعزاه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني إلى أكثر الشافعية، وقال: إنه مقتضى كلام الشافعي، وإنه الصحيح الأشبه بمذاهب العلماء وبه قال أبو علي الجبائي وأبو هاشم، وأبو عبد الله البصري، وجماعة من قدماء الحنفية، وقال جماعة: إنها تدل على التكرار مدة العمر مع الإمكان، وبه قال أبو إسحاق الشيرازي، والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، وجماعة من الفقهاء والمتكلمين، وإنما قيدوه بالإمكان لتخرج أوقات ضروريات الإنسان.
وقال الغزالي في "المستصفى": إن مرادهم من التكرار العموم، قال أبو زرعة: يحتمل أنهم أرادوا التكرار المستوعب لزمان العمر، وهو كذلك عند القائل لكن بشرط الإمكان دون أزمنة قضاء الحاجة والنوم وضروريات الإنسان ويحتمل أنهم أرادوا ما ذهب إليه بعض الحنفية والشافعية من أن الصيغة المقتضية للتكرار هي المعلقة على شرط أو صفة.
وقيل: إنها للمرة، وتحتمل التكرار وهذا مروي عن الشافعي.
وقيل: بالوقف، واختلف في تفسير معنى هذا الوقف، فقيل: المراد منه لا ندري أوضع للمرة أو للتكرار أو للمطلق، وقيل المراد منه لا يدري مراد المتكلم للاشتراك بينها، وبه قال القاضي أبو بكر وجماعة وروي عن الجويني.
احتج الأولون بإطباق أهل العربية على هيئة الأمر لا دلالة لها إلا على الطلب في خصوص زمان وخصوص المطلوب من قيام وقعود، وغيرهما إنما هو من المادة ولا دلالة لها إلا على مجرد الفعل فحصل من مجموع الهيئة والمادة أن تمام مدلول الصيغة هو طلب الفعل فقط والبراءة بالخروج عن عهدة الأمر تحصل بفعل المأمور به مرة واحدة لتحقق ما هو المطلوب بإدخاله في الوجود بها، ولهذا يندفع ما احتج به من قال: إنها للمرة حيث قال: إن الامتثال يحصل بالمرة فيكون لها، وذلك لأن حصوله بها لا يستدعي اعتبارها جزءًا من مدلول الأمر لأن ذلك حاصل على تقدير الإطلاق كما عرفت.
واحتج الأولون أيضًا بأن مدلول الصيغة طلب حقيقة الفعل، والمرة والتكرار خارجان عن حقيقته فوجب أن يحصل الامتثال به في أيهما وجد ولا يتقيد بأحدهما.
واعترض على هذا: بأنه استدلال بمحل النزاع، فإن منهم من يقول: هي الحقيقة المقيدة بالمرة، ومنهم من يقول: هي الحقيقة المقيدة بالتكرار. واحتجوا أيضًا بأن المرة والتكرار من صفات الفعل، كالقلة والكثرة، ولا دلالة للموصوف على الصفة المعينة منهما.

ج / 1 ص -257- واعترض على هذا بأنه إنما يقتضي انتفاء دلالة المادة على المرة والتكرار، والكلام في الصيغة هل هي تدل على شيء منهما أم لا؟ واحتمال الصيغة لهما لا يمنع ظهور أحدهما، والمدعى إنما هو للدلالة ظاهرًا لا نصًّا.
"واحتج"* القائلون بالتكرار: أنه تكرر المطلوب في النهي فعم الأزمان فوجب التكرار في الأمر لأنهما طلب.
وأجيب: بأن هذا قياس في اللغة وقد تقرر بطلانه.
وأجيب أيضًا: بالفرق بينهما لأن النهي لطلب الترك ولا يتحقق إلا بالترك، في كل الأوقات والأمر لطلب الإتيان بالفعل وهو يتحقق بوجوده مرة.
واعترض على هذا: بأنه مصادرة على المطلوب؛ لأن كون إثباته يحصل بمرة هو عين النزاع إذ المخالف يقول هو للتكرار لا للمرة.
وأجيب عن أصل التكرار: بأنه يستلزم المنع من فعل غير المأمور به؛ لأنه يستغرق جميع الأوقات ومن ضروريات البشر أنه يشغله شأن عن شأن آخر، فيتعطل عما سواه مما هو مأمور به وعن مصالح دينه ودنياه بخلاف النهي فإن دوام الترك لا يشغله عن شيء من الأفعال، واعترض على هذا بأن النزاع إنما هو في مدلول الصيغة هل تدل على التكرار أم لا؟ وإرادة المتكلم التكرار لا تستلزم كون التكرار مدلولًا للصيغة فيجوز أن يكون اللفظ دالا على التكرار لكن المتكلم لا تتعلق به إرادته.
واستدل القائلون بالتكرار أيضًا بأن الأمر نهي عن أضداده، وهي كل ما لا يجتمع مع المأمور به ومنها تركه، وهو أي النهي يمنع من المنهي عنه دائمًا فيتكرر الأمر في المأمور به إذ لو لم يتكرر واكتفى بفعله مرة في وقت واحد لم يمنع من أضداده في سائر الأوقات.
وأجيب: بأن تكرر النهي الذي تضمنه الأمر فرع تكرر الأمر فإثبات تكرر الأمر بتكرر النهي دور لتوقف كل من التكرارين على الآخر.
واحتج من قال: بأنه يتكرر إذا كان معلقًا على شرط أو صفة، بأنه قد تكرر في نحو قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}1.
وأجيب: بأن الشرط هنا علة، فيتكرر المأمور به بتكررها اتفاقا، ضرورة تكرر المعلول بتكرر علته، والنزاع إنما هو في دلالة الصيغة مجردة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": احتج.

‌ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "6" من سورة المائدة.

ج / 1 ص -258- قال الرازي في "المحصول": إن صيغة "افعل" لطلب إدخال ماهية المصدر في الوجود، فوجب أن لا تدل على التكرار، بيان الأولى: أن المسلمين أجمعوا على أن أوامر الله تعالى منها ما جاء على التكرار كما في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}1 ومنها ما جاء على غير التكرار، كما في الحج وفي حق العباد أيضًا قد لا يفيد التكرار، فإن السيد إذا أمر عبده بدخول الدار أو بشراء اللحم لم يعقل منه التكرار، ولو ذمه السيد على ترك التكرار للامه العقلاء، ولو كرر العبد الدخول حسن من السيد أن يلومه، ويقول له إني أمرتك بالدخول، وقد دخلت فيكفي ذلك وما "أمرتك"* بتكرار الدخول، وقد يفيد التكرار فإنه إذا قال: احفظ دابتي فحفظها ثم أطلقها يذم.
إذا ثبت هذا فنقول: الاشتراك والمجاز خلاف الأصل، فلا بد من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك بين الصورتين، وما ذلك إلا طلب إدخال ماهية المصدر في الوجوه وإذا ثبت ذلك، وجب أن لا يدل على التكرار لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الصورتين المختلفتين لا دلالة فيه على ما به تمتاز إحدى الصورتين عن الأخرى لا بالوضع ولا بالاستلزام, والأمر لا دلالة فيه ألبتة على التكرار، ولا على المرة الواحدة به على طلب الماهية من حيث هي هي إلا أنه لا يمكن إدخال تلك الماهية في الوجود بأقل من المرة الواحدة فصارت المرة الواحدة من "ضرورات"** الإتيان بالمأمور به، فلا جرم دل على المرة الواحدة من هذا الوجه ثم أطال الكلام استدلالًا للمذهب الأول ودفعًا لحجج المذاهب الآخرة "بما"*** قد تقدم حاصل معناه.
وإذا عرفت جميع ما حررناه تبين أن القول الأول هو الحق الذي لا محيص عنه وأنه لم يأت أهل الأقوال المخالفة له بشيء يعتد به.
هذا إذا كان الأمر مجردًا عن التعليق بعلة أو صفة أو شرط.
أما إذا كان معلقًا بشيء من هذه فإن كان معلقًا على علة فقد وقع الإجماع على وجوب اتباع العلة وإثبات الحكم بثبوتها فإذا تكررت تكرر، وليس التكرار مستفادًا ههنا من الأمر وإن كان معلقًا على شرط أو صفة، فقد ذهب كثير ممن قال إن الأمر لا يفيد التكرار إلى أنه مع هذا التعليق يقتضي التكرار و"لكن"**** لا من حيث الصيغة، بل من حيث التعليق لها على ذلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": وما أمرناك.
** في "أ": ضروريات.
*** في "أ": مما.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "43" من سورة البقرة.

ج / 1 ص -259- الشرط، أو الصفة، إن كان في الشرط أو الصفة ما يقتضي ذلك "أما لو لم يكن فيها ما يقتضى ذلك"* "فلا تكرار"**، وإلا فلا تكرار كقول السيد لعبده: اشتر اللحم إن دخلت السوق، وقول الرجل لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، وكذا لو قال: أعط الرجل العالم درهمًا أو أعط الرجل الفقير درهمًا.
والحاصل: أنه لا دلالة للصيغة على التكرار إلا بقرينة تفيد وتدل عليه، فإن حصلت حصل التكرار وإلا فلا يتم استدلال المستدلين على التكرار بصورة خاصة اقتضى الشرع أو اللغة أن الأمر فيها يفيد التكرار؛ لأن ذلك خارج عن محل النزاع وليس النزاع إلا في مجرد دلالة الصيغة مع عدم القرينة، فالتطويل في مثل هذا المقام بذكر الصور التي ذكرها أهل الأصول لا يأتي بفائدة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": وإلا فلا.
الفصل الخامس: هل يقتضي الأمر الفور أم لا
اختلف في الأمر هل يقتضي الفور أم لا؟ فالقائلون "إنه"* يقتضي التكرار يقولون: بأنه يقتضي الفور؛ لأنه يلزم القول بذلك مما لزمهم من استغراق الأوقات بالفعل المأمور على ما مر، وأما من عداهم فيقولون المأمور به لا يخلو إما أن يكون مقيدًا بوقت يفوت الأداء بفواته، أو لا وعلى الثاني يكون لمجرد الطلب فيجوز التأخير على وجه لا يفوت المأمور به، وهذا هو الصحيح عند الحنفية، وعزي إلى الشافعي وأصحابه، واختاره الرازي والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي.
قال ابن برهان: لم ينقل عن أبي حنيفة و الشافعي نص، وإنما فروعهما تدل على ذلك.
قال في "المحصول": والحق أنه موضوع لطلب الفعل، وهو القدر المشترك بين طلب الفعل على الفور وطلبه على التراخي من غير أن يكون في اللفظ إشعار بخصوص كونه فورًا أو تراخيًا. انتهى.
وقيل: إنه يقتضي الفور، فيحب الإتيان به في أول أوقات الإمكان للفعل المأمور به، وعزي إلى المالكية والحنابلة وبعض الحنفية والشافعية، وقال القاضي: الأمر يوجب إما الفور أو العزم على الإتيان به في ثاني الحال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": بأنه.

ج / 1 ص -260- وتوقف الجويني في أنه باعتبار اللغة للفور أو التراخي قال: فيمتثل المأمور بكل من الفور والتراخي لعدم رجحان أحدهما على الاخر مع التوقف في إثمه بالتراخي لا بالفور لعدم احتمال وجوب التراخي، وقيل بالوقف في الامتثال، أي لا ندري هل يأثم إن بادر أو إن أخر لاحتمال وجوب التراخي.
استدل القائلون بالتكرار المستلزم لاقتضاء الفور بما تقدم في الفصل الذي قبل هذا، وقد تقدم1 دفعه.
واحتج من قال: بأنه في غير المقيد بوقت لمجرد الطلب بما تقدم2 أيضًا، من أن دلالته لا تزيد على مجرد الطلب بفور أو تراخي لا بحسب المادة، ولا بحسب الصيغة لأن هيئة الأمر لا دلالة لها إلا على الطلب في خصوص زمان، وخصوص المطلوب من المادة، ولا دلالة لها إلا على مجرد الفعل فلزم أن تمام مدلول الصيغة طلب الفعل فقط، وكونها دالة على الفور، أو التراخي خارج عن مدلوله، وإنما يفهم ذلك بالقرائن فلا بد من جعلها حقيقة للقدر المشترك بين القسمين دفعًا للاشتراك والمجاز والموضوع لإفادة القدر المشترك بين القسمين لا يكون فيه إشعار بخصوصية أحدهما على التعيين؛ لأن تلك الخصوصية مغايرة لمسمى اللفظ وغير لازمة "له"* فثبت أن اللفظ لا إشعار له بخصوص كونه فورًا ولا بخصوص كونه تراخيًا.
واحتجوا أيضًا بأنه يحسن من السيد أن يقول لعبده: افعل الفعل الفلاني في الحال، أو غدا، ولو كان كونه فورًا داخلًا في لفظ "افعل" لكان الأول تكرارًا والثاني نقضًا وأنه غير جائز.
واحتجوا أيضًا بأن أهل اللغة قالوا: لا فرق بين قولنا: تفعل وبين قولنا افعل إلا أن الأول خبر3 والثاني إنشاء4، لكن قولنا تفعل لا إشعار له بشيء من الأوقات فإنه يكفي في صدقه الإتيان به في أي وقت كان فكذلك الأمر، وإلا لكان بينهما فرق سوى كون أحدهما خبرًا والثاني إنشاء.
واحتج القائلون بالفور: بأن كل مخبر بكلام خبري كزيد قائم، ومنشئ كبعت وطالق، يقصد الحاضر عند الإطلاق عن القرائن حتى يكون موجودًا للبيع والطلاق بما ذكر، فكذا الأمر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "256".
2 انظر صفحة: "258".
3 وهو كلام يحتمل الصدق والكذب لذاته، نحو: "المطر غزير". ا. هـ. جواهر البلاغة "53".
4 وهو كلام لا يحتمل صدقًا ولا كذبًا لذاته، نحو: "اغفر" ا. هـ. جواهر البلاغة "75".

ج / 1 ص -261- والجامع بينه وبين الخبر كون كل منهما من أقسام الكلام، وبينه وبين سائر الإنشاءات التي يقصد بها الحاضر كون كل منها إنشاء.
وأجيب: بأن ذلك قياس في اللغة؛ لأنهم قاسوا الأمر في أفادته الفور على الخبر والإنشاء للجامع المذكور، وهو مع اتحاد الحكم غير جائز فكيف مع اختلافه فإنه في الخبر والإنشاء تعين الزمان الحاضر "للظرفية"* ويمتنع ذلك في الأمر لأن الحاصل لا يطلب.
واحتجوا ثانيًا: بأن النهي يفيد الفور فكذا الأمر، والجامع بينهما كونهما طلبا.
وأجيب: بأنه قياس في اللغة وقد تقدم1 بطلانه.
وأيضًا: الفور في النهي ضروري؛ لأن المطلوب الترك مستمرًا على ما مر، بخلاف الأمر.
وأيضًا: المطلوب بالنهي وهو "الامتثال إنما يحصل بالفور، فالفور يثبت بضرورة"** الامتثال "لا أنه"*** يفيد الفور، فالمراد أن الفور ضروري في الامتثال للنهي.
واحتجوا ثالثًا: بأن الأمر نهي عن الأضداد، والنهي للفور فيلزم أن يكون الأمر للفور.
وأجيب بما تقدم من الدفع بمثل هذا في الفصل الذي قبل هذا.
واحتجوا رابعًا: بأن الله ذم إبليس على عدم الفور بقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}2، حيث قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا}3 فدل على أنه للفور، وإلا لما استحق الذم لأنه لم يتضيق عليه.
وأجيب عن هذا: بأن ذلك حكاية حال فلعله كان مقرونًا بما يدل على الفور، ولا يخفى ما في هذا الجواب من الضعف، فإنه لو كان مجرد التجويز مسوغًا لدفع الأدلة لم يبق دليل إلا وقيل فيه مثل ذلك.
وأجيب أيضًا: بأن هذا الأمر لإبليس مقيد بوقت، وهو وقت نفخ الروح في آدم بدليل قوله:
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين}4 فذم إبليس على تركه الامتثال للأمر في ذلك الوقت المعين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": للمظروفية.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ" لأنه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "260".
2 جزء من الآية "12" من صور الأعراف.
3 جزء من الآية "34" من سورة البقرة.
4 جزء من الآية "72" من صورة ص.

ج / 1 ص -262- واحتجوا خامسًا بقوله سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُم}1 وقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات}2.
وأجيب: بأن هاتين الآيتين لو دلتا على وجوب الفور لما فيهما من الأمر بالمسارعة والاستباق، لم يلزم منه دلالة نفس الأمر على الفور. واحتجوا سادسًا: بأنه لو جاز التأخير لجاز إما إلى بدل أو "إلى"* غير بدل، والقسمان باطلان، فالقول بجواز التأخير باطل.
أما فساد القسم الأول: فهو أن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل من كل الوجوه فإذا أتى بهذا البدل وجب أن يسقط عنه التكليف وبالاتفاق ليس كذلك.
وأما فساد القسم الثاني: فذلك يمنع من كونه واجبا؛ لأنه يفهم من قولنا ليس بواجب إلا أنه يجوز تركه إلى غير بدل.
وأجيب: باختيار الشق الأول، ويقوم البدل مقام المبدل في ذلك الوقت لا في كل الأوقات فلا يلزم من الإتيان بالبدل سقوط الأمر بالمبدل. ورد بأنه إذا كان مقتضى الأمر الإتيان بتلك الماهية مرة واحدة في أي وقت كان، فهذا البدل قائم مقامه في هذا المعنى فقد حصل ما هو المقصود من الأمر بتمامه فوجب سقوط الأمر بالكلية، وإنما يتم ما ذكروه من الجواب بتقدير اقتضاء الأمر للتكرار، وهو باطل كما تقدم3.
واحتجوا سابعًا: بأنه لو جاز التأخير لوجب أن يكون إلى وقت معين أو إلى آخر أزمنة الإمكان، والأول منتف لأن الكلام في غير المؤقت، والثاني تكليف ما لا يطلق لكونه غير معين عند المكلف، والتكليف بإيقاع الفعل في وقت مجهول تكليف بما لا يطاق.
وأجيب بالنقض الإجمالي والنقض التفصيلي، أما الاجمالي فلجواز التصريح بالإطلاق، بأن يقول الشارع افعل ولك التأجير فإنه جائز إجماعًا، وما ذكرتم من الدليل جار فيه، وأما التفصيل، فبأنه إنما يلزم تكليف ما لا يطاق بإيجاب التأخير إلى آخر أزمنة الإمكان، أما جواز التأخير إلى وقت يعينه المكلف فلا يلزم منه تكليف ما لا يطاق لتمكنه من الامتثال في أي وقت أراد إيقاع الفعل فيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية "133" من سورة آل عمران.
2 جزء من الآية "48" من سورة المائدة.
3 انظر صفحة "255".

ج / 1 ص -263- واحتج القاضي لما ذهب إليه أنه ثبت في خصال الكفارة1 بأنه لو أتى بإحداها أجزأ، ولو أخل بها عصى، وأن العزم يقوم مقام الفعل فلا يكون عاصيًا إلا بتركهما.
وأجيب: بأن الطاعة إنما هي بالفعل بخصوصه، فهو مقتضى الأمر؛ فوجوب العزم ليس مقتضاه.
واستدل الجويني على ما ذهب إليه من الوقف بأن الطلب متحقق، والشك في جواز التأخير فوجب الفور ليخرج عن العهدة بيقين.
واعترض عليه: بأن هذا الاستدلال لا يلائم ما تقدم له من التوقف في كون الأمر للفور وأيضًا وجوب المبادرة ينافي قوله المتقدم، حيث قال: أقطع بأن المكلف مهما أتى بالمأمور به فهو موقع بحكم الصيغة للمطلوب.
واعتراض عليه أيضا: بأن التأخير لا نسلم أنه مشكوك فيه، بل التأخير جائز حقًّا لما تقدم2 من الأدلة، فالحق قول من قال إنه لمطلق الطلب من غير تقييد بفور ولا تراخ، ولا ينافي هذا اقتضاء بعض الأوامر للفور كقول القائل: اسقني أطعمني فإنما ذلك من حيث إن مثل هذا الطلب يراد منه الفور فكان ذلك قرينة على إرادته به، وليس النزاع في مثل هذا إنما النزاع في الأوامر المجردة عن الدلالة على خصوص الفور أو التراخي كما عرفت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي كفارة اليمين، فإن التخيير فيها ثابت بين الإطعام والكسوة المذكور والإعتاق المذكور في قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} المائدة "89".
2 انظر صفحة: "261".
الفصل السادس: الأمر بالشيء نهي عن ضده
ذهب الجمهور من أهل الأصول، من الحنفية والشافعية والمحدثين إلى أن الشيء المعين إذا أمر به، كان ذلك الأمر به نهيًا عن الشيء المعين المضاد له سواء كان الضد واحدًا كما إذا أمره بالإيمان فإنه يكون نهيًا عن الكفر، وإذا أمره بالحركة فإنه يكون نهيًا عن السكون، أو كان الضد متعددًا كما إذا أمره بالقيام فإنه يكون نهيًا عن القعود والاضطجاع والسجود وغير ذلك، وقيل: ليس نهيًا عن الضد ولا يقتضيه عقلًا، واختاره الجويني والغزالي وابن الحاجب، وقيل أنه نهي عن واحد من الأضداد غير معين وبه قال جماعة من الحنفية والشافعية،

ج / 1 ص -264- والمحدثين، ومن هؤلاء القائلين بأنه نهى عن الضد من عمم فقال: إنه نهي عن الضد في الأمر الإيجابي والأمر الندبي، ففي الأول نهي تحريم، وفي الثاني نهي كراهة، ومنهم من خصص ذلك بالأمر الإيجابي دون الندبي، ومنهم أيضًا من جعل النهي عن الشيء أمرًا بضده كما جعل الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، ومنهم من اقتصر على كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، وسكت عن النهي وهذا معزو إلى الأشعري ومتابعيه. واتفق المعتزلة على أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده، والنهي عن الشيء ليس أمرًا بضده؛ وذلك لنفيهم الكلام النفسي، ومع اتفاقهم على هذا النفي أي نفي كون كل واحد منهما عينًا لإثبات ضده أو نفيه اختلفوا هل يوجب كل من الصيغتين حكمًا في الضد أم لا فأبو هاشم ومتابعوه قالوا: لا يوجب شيء منهما حكمًا في الضد بل الضد مسكوت عنه، وأبو الحسين، وعبد الجبار قالا: الأمر يوجب حرمة الضد، وفي عبارة أخرى عنهم يدل عليها، وفي عبارة ثالثة عنهم يقتضيها.
وقال الرازي، والقاضي أبو زيد، وشمس الأئمة السرخسي، وصدر الإسلام1 وأتباعهم من المتأخرين: الأمر يقتضي كراهة الضد، ولو كان إيجابًا والنهي يقتضي كون الضد سنة مؤكدة، ولو كان النهي تحريمًا.
وقال جماعة منهم صدر الإسلام، وشمس الأئمة وغيرهما: إن النزاع إنما هو في أمر الفور لا التراخي، وفي الضد الوجودي المستلزم للترك لا في الترك، قالوا: وليس النزاع في لفظ الأمر، والنهي بأن يقال للفظ الأمر نهي، وللفظ نهي، وللفظ النهي أمر للقطع بأن الأمر موضوع بصيغة افعل والنهي موضوع بصيغة لا تفعل، وليس النزاع أيضًا "مفهومهما"* للقطع بأنهما متغايران، بل النزاع في أن طلب الفعل الذي هو الأمر عين طلب ترك ضده الذي هو النهي "وفي أن"** وطلب الترك الذي هو النهي عين طلب فعل ضده، الذي هو الأمر. "هكذا"***حرروا محل النزاع.
وفائدة الخلاف في كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده استحقاق العقاب بترك المأمور به فقط، إذا قيل بأنه ليس نهيًا عن ضده أو به وبفعل الضد إذا قيل بأنه نهى عن فعل الضد؛ لأنه خالف أمرًا ونهيًا وعصى بهما وهكذا في النهي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": مفهومها.
** في "أ": وطلب الترك.
*** في "أ": وهكذا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو طاهر الملقب بصدر الإسلام ابن برهان صاحب المحيط والذخيرة محمود بن تاج الدين الصدر السعيد أحمد بن برهان الدين الكبير عبد العزيز بن مازة. ا. هـ. الفوائد البهية "85" تاج التراجم "137".

ج / 1 ص -265- استدل القائلون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده: بأنه لو لم يكن الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، لكان إما مثله أو ضده أو خلافه، واللازم باطل بأقسامه، أما الملازمة فلأن كل متغايرين إما أن يتساويا في صفات النفس، أو لا، والمعني بصفات النفس: ما لا يحتاج الوصف به إلى تعقل أمر زائد عليه كالإنسانية للإنسان، والحقيقة والوجود بخلاف الحدوث، والتحيز فإن تساويا فيها فهما مثلان كسوادين، أو بياضين وإلا فإما أن يتنافيا بأنفسهما، أي يمتنع اجتماعهما في محل، واحد بالنظر إلى ذاتيهما أو لا، فإن تنافيا بأنفسهما فضدان كالسواد والبياض، وإلا فخلافان كالسواد والحلاوة.
وأما انتفاء اللازم بأقسامه، فلأنهما لو كانا ضدين أو مثلين لم يجتمعا في محل واحد وهما يجتمعان إذ جواز الأمر بالشيء والنهي عن ضده معًا ووقوعه ضروري، ولو كانا خلافين لجاز اجتماع كل واحد منهما مع ضد الآخر، ومع خلافه لأن الخلافين حكمهما كذلك كما يجتمع السواد وهو خلاف الحلاوة مع الحموضة ومع الرائحة، فكان يجوز أن يجتمع الأمر بالشيء مع ضد النهي عن ضده، وهو الأمر بضده، وذلك محال لأنه يكون الأمر "بالشيء"* حينئذ طلب ذلك الشيء في وقت طلب فيه عدمه.
وأجيب: بمنع كون لازم كل خلافين ذلك، أي جواز اجتماع كل مع ضد الآخر، لجواز تلازمهما "على ما هو التحقيق من عدم اشتراط"** جواز الانفكاك في المتغايرين كالجوهر1 مع العرض والعلة مع المعلول فلا يجامع أحد الخلافين على تقدير تلازمهما الضد للآخر، وحينئذ فالنهي إذا ادعى كون الأمر إياه إذا كان طلب ترك ضد المأمور به: اخترنا كونهما خلافين، ولا يجب اجتماع النهي اللازم من الأمر مع ضد طلب المأمور به كما زعموا كالأمر بالصلاة والنهي عن الأكل فإنهما خلافان، ولا يلزم من كونهما خلافين اجتماع الصلاة المأمور بها مع إباحة الأكل "التي هي"*** ضد النهي عن الأكل.
واستدلوا أيضًا: بأن فعل السكون عين ترك الحركة، وطلب فعل السكون طلب لترك الحركة، وطلب تركها هي النهي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": لجواز تلازمهما الضد للآخر وحينئذ فالنهي جواز...إلخ وهو خطأ. ولعل الصواب لجواز تلازمهما المبني على ما هو التحقيق من عدم اشتراط جواز...إلخ.
*** في "أ": الذي هو.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو حقيقة الموجود ومقوماته، ويقابله العرض. ا. هـ. الصحاح مادة جهر.
2 وهو الموجود الذي يحتاج في وجوده إلى موضع، أي: محل يقوم به كاللون المحتاج في وجوده إلى جسم يحله ويقوم به. ا. هـ. التعريفات "192".

ج / 1 ص -266- وأجيب: بأن النزاع على هذا يرجع لفظيا في تسمية فعل المأمور به تركًا لضده، وفي تسميته طلبه نهيًا، فإن كان ذلك باعتبار اللغة فلم يثبت فيها ما يفيده ذلك.
ورد بمنع كون النزاع لفظيا، بل هو في وحدة الطلب القائم بالنفس، بأن يكون طلب الفعل عين طلب ترك ضده.
وأجيب ثانيًا: بحصول القطع بطلب الفعل مع عدم خطور الضد، وإنما يتم ما ذكروه من كون فعل السكون عين ترك الحركة فيما كان أحدهما ترك الآخر لا في الأضداد الوجودية، فطلب ترك أحدهما لا يكون طلبًا للمأمور به لأنه يتحقق تركه في ضمن ضد آخر.
واستدل القائلون بأن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن "الضد"* ولا نقيضه. بأنه: لو كان الأمر بالشيء عين النهي عن الضد ومستلزمًا له لزم تعقل الضد، والقطع حاصل بتحقق الأمر بالشيء مع عدم خطور الضد على البال "وهكذا الكلام في النهي"**.
واعترض "على هذا الاستدلال"*** بأن الذي لا يخطر بالبال من الأضداد إنما هو الأضداد الجزئية، وليست مرادة للقائل بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده، بل المراد الضد العام، وهو ما لا يجامع المأمور به، وتعقله لازم للأمر والنهي؛ إذ طلب الفعل موقوف على العلم بعدمه لانتفاء طلب الحاصل المعلوم حصوله، والعلم بالعدم ملزوم للعلم بالضد الخاص، والضد الخاص ملزوم للضد العام، فلا بد من تعقل الضد العام في الأمر بالشيء، وكذلك لا بد منه في النهي عن الشيء.
ولا يخفى ما في هذا الاعتراض من عدم التوارد، فإن شرط التوارد الذي هو مدار الاعتراض كون مورد الإيجاب1 والسلب2 للمتخاصمين، بحيث يكون قول كل منهما على طرف النقيض لقول الآخر، والمستدل إنما نفى خطور الضد الخاص على الإطلاق فقول المعترض: إن الذي لا يخطر هو الأضداد الجزئية موافقة معه فيها فلا تتحقق المناظرة بينهما باعتبار ذلك، نعم يجاب عنه بأن مراد المعترض من ذلك بيان غلط المستدل من حيث إنه اشتبه عليه مراد القائل بأن الأمر بالشيء نهي عن الضد، فزعم أن مراده الأضداد الجزئية، وليس كذلك، بل الضد العام، ولا يصح نفي خطورة بالبال لما تقدم فحينئذ تنعقد المناظرة3 بينهما ويتحقق التوارد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ضده.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الإثبات، وقضية موجبة أي: مثبتة نحو: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}.
2 هو النفي، وقضية سالبة، أي: منفية نحو: لا يخذل من قصد الحق.
3 هي النظر بالبصيرة من الجانيين في النسبة بين الشيئين إظهارًا للصواب. ا. هـ. التعريفات "298".

ج / 1 ص -267- وأيضًا: هذا الاعتراض متناقض في نفسه، فإن قول المعترض: إن ما لا يخطر بالبال هو الأضداد الجزئية، يناقض قوله: إن العلم بعدم الفعل ملزوم العلم بالضد الخاص؛ لأن الإيجاب الجزئي1 نقيض السلب الكلي2 عند اتحاد النسبة.
وأجيب: بمنع توقف الأمر بالفعل على العمل بعدم التلبس بذلك الفعل في حال الأمر به؛ لأن المطلوب مستقبل، فلا حاجة للطالب إلى الالتفات إلى ما في الحال من وجود الفعل أو عدمه، ولو سلم توقف الأمر بالفعل على "الفعل"* بعدم التلبس به فالكف عن الفعل المطلوب مشاهد محسوس، فقد تحقق ما توقف عليه الأمر بالفعل من العلم بعدم التلبس به، ولا يستلزم شهود الكف "عن الفعل المأمور به العلم بفعل ضد خاص لحصول شهود الكف"** بالسكون عن الحركة اللازمة لمباشرة الفعل المأمور به، ولو سلم لزوم تعقل الضد في الجملة فمجرد تعقله ليس ملزومًا؛ لتعلق الطلب بتركه الذي هو معنى النهي عن الضد لجواز الاكتفاء في الأمر بالشيء بمنع ترك الفعل المأمور به، فترك المأمور به ضد له، وقد تعقل حيث منع عنه لكنه فرق بين المنع عن الترك وبين طلب الكف عن الترك.
وتوضيحه: أن الآمر بفعل غير مجوز تركه، فقد يخطر بباله تركه من حيث إنه لا يجوز ملحوظًا بالتبع لا قصدا، وبهذا الاعتبار يقال منع تركه، ولا يقال طلب الكف عن تركه؛ لأنه يحتاج إلى توجه قصدي.
واستدل القائلون بأن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده بأن أمر الإيجاب طلب فعل يذم بتركه فاستلزم النهي عن تركه وعما يحصل الترك به، وهو الضد للمأمور به فاستلزم الأمر المذكور النهي عن ضده.
واعترض على هذا الدليل: بأنه لو تم لزم تصور الكف عن الكف عن المأمور به لكل أمر إيجاب، وتصور الكف عن الكف لازم لطلب الكف عن الكف، واللازم باطل للقطع بطلب الفعل مع عدم خطور الكف عن الكف، ولو سلم تصور الكف عن الكف منع كون الذم بالترك جزء الأمر الإيجابي أو لازم مفهومه لزومًا عقليًّا، واستلزام الأمر الإيجابي النهي عن تركه فرع كون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": العلم.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو كل مفهوم ذهني يتميز بأنه محدود الأبعاد ضمن فرد واحد. ا. هـ. ضوابط المعرفة "34" وانظر السلم المنورق شرح الدمنهوري "25".
2 هو كل مفهوم ذهني لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وإن كان لا يصدق في الواقع إلا على فرد واحد فقط، أو لا يوجد منه في الواقع أي فرد. ا. هـ. ضوابط المعرفة "35". وانظر شرح السلم المنورق "25".

ج / 1 ص -268- الذم بالترك جزءًا أو لازمًا.
وما قيل: من أنه لو سلم أن الأمر بالشيء متضمن للنهي عن ضده لزم أن لا مباح؛ إذ ترك المأمور به وضده يعم المباحات، والمفروض أن الأمر يستلزم النهي عنها والمنهي منه لا يكون مباحا، فغير لازم؛ إذ المراد من الضد المنهي عنه الضد المفوت للأمر، وليس كل ضد مفوتًا ولا كل مقدر من المباحات ضدًّا مفوتا، كخطوة في الصلاة، وابتلاع ريقه، وفتح عينه ونحو ذلك، فإنها أمور مغايرة بالذات للصلاة، وبهذا الاعتبار يطلق "عليها"* الضد للصلاة لكنها لا تفوت الصلاة.
وزاد القائلون بأن النهي عن الشيء يتضمن الأمر بضده، كما أن الأمر بشيء يتضمن النهي عن ضده دليلًا آخر فقالوا: إن النهي طلب ترك فعل وتركه بفعل أحد أضداده، فوجب أحد أضداده وهو الأمر؛ لأن ما لا يحصل الواجب إلا به واجب.
ودفع بأنه يلزم كون كل من المعاصي المضادة واجبًا كالزنا، فإنه من حيث كونه تركًا للواط لكونه ضدًّا له يكون واجبًا، ويكون اللواط من حيث كونه تركًا للزنا واجبًا.
ودفع أيضًا: بأنه يستلزم أن لا يوجد مباح؛ لأن كل مباح ترك المحرم وضد له.
فإن قيل: غاية ما يلزم وجوب أحد المباحات المضادة لا كلها، فيقال: إن وجوب أحد الأشياء لا على التعيين، بحيث يحصل ما هو الواجب بأداء كل واحد منها ينافي الإباحة كما في خصال الكفارة.
ودفع أيضًا: بمنع وجوب ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به.
ورد بأنه لو لم يجب ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به لجاز تركه، وذلك يستلزم جواز ترك المشروط في الواجب، وجواز فعل المشروط في المحرم بدون شرطه الذي لا يتم إلا به.
واستدل المخصصون لأمر الإيجاب: بأن استلزام الذم للترك المستلزم "للنهي"** إنما هو في أمر الوجوب.
واستدل القائل: بأن الأمر يقتضي كراهة الضد ولو إيجابًا، والنهي يقتضي كون الضد سنة مؤكدة بمثل ما استدل به القائلون: بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده إن كان واحد وإلا فعن الكل، وأن النهي أمر بالضد المتحد وفي المتعدد بواحد غير معين.
ويجاب عنه: بأن ذكر الكراهة في جانب الأمر، وذكر السنية في جانب النهي يوجب الاختلاف بينهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": للنفي.

ج / 1 ص -269- وإذا عرفت ما حررناه من الأدلة والردود "لها"* فاعلم: أن الأرجح في هذه المسألة أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده بالمعنى الأعم، فإن اللازم بالمعنى الأعم: هو أن يكون تصور الملزوم واللازم معًا كافيًا في الجزم باللزوم، بخلاف اللازم بالمعنى الأخص فإن العلم بالملزوم هناك يستلزم العلم باللازم، وهكذا النهي عن الشيء فإنه يستلزم الأمر بضده بالمعنى الأعم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": بها.
الفصل السابع: الإتيان بالمأمور به
اعلم أن الإتيان بالمأمور به على وجهه، الذي أمر به الشارع قد وقع الخلاف فيه بين أهل الأصول، هل يوجب الإجزاء أم لا؟ وقد فسر الإجزاء بتفسيرين:
أحدهما: حصول الامتثال به.
والآخر: سقوط القضاء به، فعلى التفسير الأول "لا شك"* أن الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي تحقق الإجزاء المفسر بالامتثال، وذلك متفق عليه، فإنه معنى الامتثال وحقيقته ذلك، وإن فسر بسقوط القضاء فقد اختلف فيه: فقال جماعة من أهل الأصول: إن الإتيان بالمأمور به على وجهه يستلزم سقوط القضاء.
وقال القاضي عبد الجبار: لا يستلزم.
استدل القائلون بالاستلزام: بأنه لو لم يستلزم سقوط القضاء لم يعلم امتثال أبدًا، واللازم منتفٍ فالملزوم مثله، أما الملازمة فلأنه حينئذ يجوز أن يأتي بالمأمور به، ولا يسقط عنه بل يجب عليه فعله مرة أخرى قضاء، وكذلك القضاء إذا فعله لم يسقط كذلك، وأما انتفاء اللازم فمعلوم قطعًا واتفاقا.
وأيضًا إن القضاء عبارة عن استدراك ما قد فات من مصلحة الأداء، والفرض أنه قد جاء بالمأمور به على وجهه، ولم يفت منه شيء، وحصل المطلوب بتمامه، فلو أتى به استدراكًا لكان تحصيلًا للحاصل.
قال في "المحصول": فعل المأمور به يقتضي الإجزاء، خلافًا لأبي هاشم وأتباعه.
لنا وجوه:
الأول: أنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة، وإنما قلنا إنه أتى بما أمر به لأن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".

ج / 1 ص -270- المسألة مرفوضة فيما إذا كان الأمر كذلك، وإنما قلنا يلزم أن يخرج عن العهدة؛ لأنه لو بقي الأمر بعد ذلك لبقي إما متناولًا للمأتي أو لغيره، والأول باطل؛ لأن الحاصل لا يمكن تحصيله،والثاني باطل؛ لأنه يلزم أن يكون الأمر قد كان متناولًا لغيره ذلك الذي وقع مأتيا به، ولو كان كذلك لما كان المأتي به تمام متعلق الأمر، وقد فرضناه كذلك هذا خلف.
والثاني: أنه لا يخلو إما يجب عليه فعله ثانيا، وثالثًا، أو ينقصى عن عهدته بما ينطلق عليه الاسم، والأول باطل لما بينا على أن الأمر لا يفيد التكرار، والثاني هو المطلوب لأنه لا معنى للإجزاء إلا كونه كافيًا في الخروج عن عهدة الأمر.
والثالث: أنه لو لم يقتض الإجزاء لكان يجوز أن يقول السيد لعبده: افعل فإذا فعلت لا يجزئ عنك، لو قال ذلك أحد لعد مناقضا.
احتج المخالف بوجوه:
الأول: أن النهي لا يدل على الفساد بمجرده فالأمر يجب أن لا يدل على الإجزاء بمجرده.
والثاني: أن كثيرًا من العبادات يجب على الشارع فيها إتمامها، والمضي فيها، ولا تجزئه عن المأمور به كالحجة الفاسدة والصوم الذي جامع فيه.
والثالث: أن الأمر بالشيء لا يفيد إلا كونه مأمورًا به، فأما أن الإتيان به يكون سببًا لسقوط التكليف فذاك لا يدل عليه بمجرد الأمر.
والجواب عن الأول: أنا إن سلمنا أن النهي لا يدل على الفساد، لكن الفرق بينه وبين الأمر أن نقول: النهي يدل على "أنه"* منعه من فعله وذلك لا ينافي أن يقول: إنك لو أتيت به لجعلته سببًا لحكم آخر، أما الأمر فلا دلالة فيه إلا على اقتضائه المأمور به مرة واحدة، فإذا أتى به فقد أتى بتمام المقتضى فوجب أن لا يبقى الأمر بعد ذلك مقتضيًا لشيء.
وعن الثاني: أن تلك الأفعال مجزئة بالنسبة إلى الأمر الوارد بإتمامها، وغير مجزئة بالنسبة إلى الأمر الأول؛ لأن الأمر الأول اقتضى إيقاع المأمور به لا على حد الوجه الذي وقع، بل على وجه آخر وذلك الوجه لم يوجد.
وعن الثالث: إن الإتيان بتمام المأمور به يوجب أن لا يبقى الأمر مقتضيًا بعد ذلك، وذلك هو المراد بالإجزاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".

ج / 1 ص -271- الفصل الثامن: هل يجب القضاء بأمر جديد أم بالأمر الأول
اختلفوا هل القضاء بأمر جديد أو بالأمر الأول؟ هذه المسألة لها صورتان:
الصورة الأولى:
الأمر المقيد، كما إذا قال افعل في هذا الوقت، فلم يفعل حتى مضى، فالأمر الأول هل يقتضي إيقاع ذلك الفعل فيما بعد ذلك الوقت، فقيل لا يقتضي لوجهين:
الأول: أن قول القائل لغيره "افعل" هذا الفعل يوم الجمعة لا يتناول الأمر "بفعله بعده"* وإذا لم يتناوله لم يدل عليه بنفي ولا إثبات.
الثاني: أن أوامر الشرع تارة لا تستلزم وجوب القضاء كما في صلاة الجمعة وتارة تستلزمه ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال، فلا يلزم القضاء إلا بأمر جديد وهو الحق، وإليه ذهب الجمهور، "جماعة من الحنابلة"** والحنفية والمعتزلة إلى أن وجوب القضاء يستلزمه الأمر بالأداء في الزمان المعين؛ لأن الزمان غير داخل في الأمر بالفعل.
ورد: بأنه داخل لكونه من ضروريات الفعل المعين وقته، وإلا لزم أن يجوز التقديم على ذلك الوقت المعين، واللازم باطل فالملزوم مثله.
الصورة الثانية:
الأمر المطلق، وهو أن يقول: افعل، ولا يقيده بزمان معين، فإذا لم يفعل المكلف ذلك في أول أوقات الإمكان فهل يجب فعله فيما بعد، أو يحتاج إلى دليل فمن لم يقل بالفور يقول إن ذلك الأمر المطلق يقتضي الفعل مطلقًا فلا يخرج المكلف عن العهدة إلا بفعله، ومن قال بالفور قال إنه يقتضي الفعل بعد أول أوقات الإمكان، وبه قال أبو بكر الرازي.
ومن القائلين بالفور من يقول: إنه لا يقتضيه، بل لا بد في ذلك من دليل زائد.
قال في "المحصول": ومنشأ الخلاف أن قول القائل لغيره: افعل هل معناه افعل في الزمان الثاني، فإن عصيت ففي الثالث، فإن عصيت ففي الرابع ثم كذلك أبدا، أو معناه في الثاني من غير بيان حال الزمان الثالث والرابع، فإن قلنا بالأول اقتضى الأمر الأول الفعل في سائر الأزمان، وإن قلنا بالثاني لم يقتضه.
والحق: أن الأمر المطلق يقتضي الفعل من غير تقييد بزمان، فلا يخرج المكلف عن عهدته إلا بفعله، وهو أداء وإن طال التراخي لأن تعيين بعض أجزاء الوقت له لا دليل عليه، واقتضاؤه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": وذهب جماعة وهو الصواب.

ج / 1 ص -272- الفور لا يستلزم أنه بعد أول أوقات الإمكان قضاء، بل غاية ما يستلزمه أن يكون المكلف آثمًا بالتأخير عنه إلى وقت آخر.
وقد استدل للقائلين بأن الأمر المقيد بوقت معين لا يقتضي إيقاع ذلك الفعل في وقت آخر: بأنه لو وجب القضاء بالأمر الأول لكان مقتضيًا للقضاء، واللازم باطل فالملزوم مثله، أما الملازمة فبينة؛ إذ الوجوب أخص من الاقتضاء، وثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم، وأما انتفاء اللازم فلأنا قاطعون بأن قول القائل "صم يوم الخميس" لا يقتضي "صوم"* يوم الجمعة بوجه من وجوه الاقتضاء، ولا يتناوله أصلًا.
واستدل لهم أيضًا بأنه لو وجب القضاء بالأمر الأول لاقتضاه، ولو اقتضاه لكان أداء فيكونان سواء فلا يأثم بالتأخير.
وأجيب عن "هذا"** بأن الأمر المقيد بوقت أمر بإيقاع الفعل في ذلك الوقت المعين، فإذا فات قبل إيقاع الفعل فيه بقي الوجوب مع نقص فيه فكان إيقاعه فيما بعد قضاء.
ويرد هذا بمنع بقاء الوجوب بعد انقضاء الوقت المعين.
واستدل القائلون بأن القضاء بالأمر الأول بقولهم: الوقت للمأمور به كالأجل للدين، فكما أن الدين لا يسقط بترك تأديته في أجله المعين، بل يجب القضاء فيما بعده، فكذلك المأمور به إذا لم يفعل في وقته المعين.
ويجاب عن هذا: بالفرق بينهما بالإجماع على عدم سقوط الدين إذا انقضى ولم يقضه من هو عليه، وبأن الدين يجوز تقديمه على أجله المعين بالإجماع "بخلاف"*** محل النزاع فإنه لا يجوز تقديمه عليه بالإجماع.
واستدلوا أيضًا بأنه لو وجب بأمر جديد لكان أداء لأنه أمر بفعله بعد ذلك الوقت المعين، فكان كالأمر بفعله ابتداء.
ويجاب عنه: بأنه لا بد في الأمر بالفعل بعد انقضاء ذلك الوقت من قرينة تدل على أنه يفعل استدراكًا لما فات، أما مع عدم القرينة الدالة على ذلك فما قالوه "ملتزم"**** ولا يضرنا ولا ينفعهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": واستدلوا محل النزاع وقوله بخلاف ساقطة منها.
**** في "أ": يلزم.

ج / 1 ص -273- الفصل التاسع: هل الأمر بالأمر بالشيء أمر به أم لا؟
اختلفوا هل الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء أم لا؟ فذهب الجمهور إلى الثاني، وذهب جماعة إلى الأول.
احتج الأولون: بأنه لو كان الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء لكان قول القائل لسيد العبد: مر عبدك ببيع ثوبي تعديًا على صاحب العبد بالتصرف في عبده بغير إذنه، ولكان قول صاحب الثوب بعد ذلك للعبد لا تبعه مناقضًا لقوله للسيد مر عبدك ببيع ثوبي لورود الأمر والنهي على فعل واحد.
وقال السبكي: إن لزوم التعدي ممنوع؛ لأن التعدي هو أمر عبد الغير بغير أمر سيده "وهنا أمره بأمر سيده"* فإن أمره للعبد متوقف على أمر سيده وليس بشيء؛ لأن النزاع في أن قوله: مر عبدك إلخ، هل هو أمر للعبد ببيع الثوب أم لا، لا في أن السيد إذا أمر عبده بموجب "مر عبدك" هل يتحقق عند ذلك أمر للعبد من قبل القائل "مر عبدك" " بجعل"** السيد سفيرًا أو وكيلًا "أم لا؟"***.
وأما استدلالهم بما ذكروه من المناقضة، فقد أجيب عنه: بأن المراد هنا منعه من البيع بعد طلبه منه، وهو نسخ لطلبه منه.
واحتج الآخرون بأوامر الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأمرنا، فإنا مأمورون بتلك الأوامر، وكذلك أمر الملك لوزيره بأن يأمر فلانًا بكذا، فإن الملك هو الآمر بذلك المأمور، لا الوزير.
وأجيب: بأنه فهم ذلك في الصورتين من قرينة أن المأمور أولًا هو رسول ومبلغ عن الله وأن الوزير هو مبلغ عن الملك، لا من لفظ الأمر المتعلق بالمأمور "الأول"****، ومحل النزاع هو هذا.
أما لو قال: قل لفلان افعل كذا، فالأول آمر والثاني مبلغ بلا نزاع، كذا نقل عن السبكي وابن الحاجب.
واختار السعد التسوية بينهما، والأول أولى، قال في "المحصول": فلو قال زيد لعمرو كل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": يجعل.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في هامش "أ" قوله بالمأمور الأول كذا بالأصل وصوابه بالمأمور الثاني تدبر.

ج / 1 ص -274- ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك، فالأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء في هذه الصورة، ولكنه بالحقيقة إنما جاء من قوله كل ما أوجب عليك فلانًا فهو واجب، وأما لو لم يقل ذلك كما في قوله صلىالله عليه وسلم و"مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع"1 فإن ذلك لا يقتضي الوجوب على الصبي. انتهى. وهذا الحديث ثابت في السنن.
ومما يصلح مثالًا لمحل النزاع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم لعمر وقد طلق ابنه عبد الله امرأته وهي حائض "مره فليراجعها"2.
وقيل: إنه ليس مما يصلح مثالًا لهذه المسألة لأنه قد صرح فيه بالأمر من الشارع بالمراجعة، حيث قال: "فليراجعها" بلام الأمر، وإنما يكون مثالًا لو قال: مره بأن يراجعها، والظاهر أنه من باب قل لفلان افعل كذا، وقد تقدم الخلاف فيه3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 404. وأبو داود في الصلاة باب متى يؤمر الغلام بالصلاة "495". والترمذي في السنن في كتاب الصلاة باب متى يؤمر الصبي بالصلاة "299". وقال: حسن صحيح. والدارقطني في سننه في الصلاة بأب الأمر بتعليم الصلوات والضرب عليها "1/ 230". وذكره البغوي في المصابيح "400".
2 أخرجه مسلم في الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها وأنه لو خالف وقع الطلاق "1471". والبخاري بلفظ: "ليراجعها" كتاب التفسير، باب سورة الطلاق "4908" وابن ماجه في الطلاق، باب الحامل كيف تطلق "2023". وأحمد في مسنده "2/ 26". والبيهقي في السنن، كتاب الطلاق، باب ما جاء في طلاق السنة وطلاق البدعة "7/ 325". وأبو داود، في الطلاق، باب في طلاق السنة "2181". والنسائي، كتاب الطلاق، باب ما يفعل إذا طلق تطليقه وهي حائض "3397" "6/ 141". وأبو يعلى في مسنده "5440".
3 انظر صفحة: "273".
الفصل العاشر: الأمر بالماهية ومقتضاه
اختلفوا أهل الأمر بالماهية الكلية، يقتضي الآمر بها، أو بشيء من جزئياتها اختلفوا أم هو أمر بفعل مطلق تصدق عليه الماهية ويخبر به عنها صدق الكلي على جزئياته من غير تعيين؟
فذهب الجمهور إلى الثاني.
وقال بعض الشافعية: بالأول.
احتج الأولون: بأن الماهية الكلية يستحيل وجودها في الأعيان فلا تطلب، وإلا امتنع الامتثال وهو خلاف الإجماع.

ج / 1 ص -275- ووجه ذلك: أنها لو وجدت في الأعيان لزم تعددها كلية في ضمن الجزئية، فمن حيث إنها موجودة تكون شخصية جزئية، ومن حيث إنها الماهية الكلية تكون كلية وأنه محال، فمن قال لآخر: "بع هذا الثوب" فإن هذا لا يكون أمر ببيعه بالغبن، ولا بالثمن الزائد، ولا بالثمن المساوي؛ لأن هذه الأنواع مشتركة في مسمى البيع، وتمييزه كل واحد منها بخصوص كونه بالغبن أو بالثمن الزائد أو المساوي، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز، وغير مستلزم له، فالأمر بالبيع الذي هو جهة الاشتراك لا يكون أمرًا بما به يمتاز كل واحد من الأنواع عن الآخر لا بالذات ولا بالاستلزام، وإذا كان كذلك فالأمر بالجنس لا يكون ألبتة أمرًا بشيء من أنواعه، لكن إذا دلت القرينة على إرادة بعض الأنواع حمل اللفظ عليه.
قال في "المحصول": وهذه قاعدة شريفة برهانية ينحل بها كثير من القواعد الفقهية إن شاء الله.
ومما يوضح المقام ويحصل به المرام من هذا الكلام، ما ذكره أهل علم المعقول من أن الماهيات ثلاث:
الأول:
الماهية1 لا بشرط شيء من القيود، ولا بشرط عدمها، وهي التي يسميها أهل المنطق الماهية المطلقة، ويسمونها الكلي الطبيعي، والخلاف في وجودها في الخارج معروف.
والحق: أن وجود الطبيعي بمعنى وجود أشخاصه.
والثانية:
الماهية بشرط لا شيء، أي: بشرط خلوها عن القيود، ويسمونها الماهية المجردة ولا خلاف بينهم في أنها لا توجد في الخارج.
والثالثة:
الماهية بشرط شيء من القيود، ولا خلاف في وجودها في الخارج.
وتحقيقه: أن الماهية قد تؤخذ بشرط أن تكون مع بعض العوارض، كالإنسان بقيد الوحدة، فلا يصدق على المتعدد وبالعكس، وكالمقيد بهذا الشخص، فلا يصدق على فرد آخر، وتسمى الماهية المخلوطة، والماهية بشرط شيء، ولا ارتياب في وجودها في الأعيان، وقد تؤخذ بشرط التجرد عن جميع العوارض، وتسمى المجردة، والماهية بشرط لا شيء، ولا خفاء في أنها لا توجد في الأعيان، بل في الأذهان، وقد تؤخذ لا بشرط أن تكون مقارنة أو مجردة، بل مع تجويز أن يقارنها شيء من العوارض، وأن لا يقارنها، وتكون مقولًا على المجموع حال المقارنة، وهي الكلي الطبيعي، والماهية لا بشرط شيء، والحق وجودها في الأعيان، لكن لا من حيث كونها جزءًا من الجزئيات المحققة، على ما هو رأي الأكثرين، بل من حيث إنه يوجد شيء تصدق هي عليه، وتكون عينه بحسب الخارج، وإن تغايرا بحسب المفهوم، وبمجموع ما ذكرناه يظهر لك بطلان قول: من قال إن الأمر بالماهية الكلية يقتضي الأمر بها، ولم يأتوا بدليل يدل على ذلك دلالة مقبولة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تطلق غالبًا على الأمر المتعقل، مثل المتعقل من الإنسان، وهو الحيوان الناطق مع قطع النظر عن الوجود الخارجي. ا. هـ. التعريفات "250".

ج / 1 ص -276- الفصل الحادي عشر: تعاقب الأمرين المتماثلين والمتغايرين
اختلفوا إذا تعاقب أمران بمتماثلين، هل يكون الثاني للتأكيد، فيكون المطلوب الفعل مرة واحدة، أو للتأسيس1، فيكون المطلوب الفعل مكررًا، وذلك نحو أن يقول: صل ركعتين، صل ركعتين. فقال الجبائي، وبعض الشافعية: إنه للتأكيد، وذهب الأكثر: إلى أنه للتأسيس. وقال أبو بكر الصيرفي: بالوقف في كونه تأسيسًا أو تأكيدا وبه قال أبو الحسن البصري.
واحتج القائلون بالتأكيد: بأن التكرير قد كثر في التأكيد، فكان الحمل على ما هو أكثر وإلحاق الأقل به أولى، وبأن الأصل البراءة من التكليف المتكرر، فلا يصار إليه مع الاحتمال.
ويجاب بمنع كون التأكيد أكثر في محل النزاع، فإن دلالة كل لفظ على مدلول مستقل هو "الأصل والظاهر"*، الأصل الظاهر وبمنع صحة الاستدلال بأصلية البراءة أو ظهورها، فإن تكرار اللفظ يدل على مدلول كل واحد منهما أصلًا وظاهرًا؛ لأن أصل كل كلام وظاهره الإفادة لا الإعادة.
وأيضًا التأسيس "أكثري"** والتأكيد "أقلي"*** وهذا معلوم عند كل من يفهم لغة العرب.
وإذا تقرر لك رجحان هذا المذهب عرفت منه بطلان ما احتج به القائلون بالوقف: من أنه قد تعارض الترجيح في التأسيس والتأكيد.
أما لو لم يكن الفعلان من نوع واحد فلا خلاف أن العمل بهما متوجه نحو صل ركعتين، صم يوما، وهكذا إذا كانا من نوع واحد، ولكن قامت القرينة الدلالة على أن المراد التأكيد نحو صم اليوم صم اليوم، ونحو صلِ ركعتين صلِ الركعتين، فإن التقيد باليوم، وتعريف الثاني يفيدان أن المراد بالثاني هو الأول، وهكذا إذا اقتضت العادة أن المراد التأكيد نحو اسقني ماء،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الأصل الظاهر.
** في "أ": أكثر.
*** في "أ": أقل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عبارة عن إفادة معنى آخر لم يكن أصلًا قبله، فالتأسيس خير من التأكيد لأن حمل الكلام على الإفادة خير من حمله على الإعادة.

ج / 1 ص -277- اسقني ماء، وهكذا إذا كان التأكيد بحرف العطف نحو: صلِ ركعتين وصلِ الركعتين؛ لأن التكرير المفيد للتأكيد لم يعهد إيراده بحرف العطف، وأقل الأحوال أن يكون قليلًا والحمل على الأكثر أولى.
أما لو كان الثاني مع العطف معرفًا فالظاهر التأكيد نحو صلِ ركعتين وصل الركعتين؛ لأن دلالة اللام على إرادة التأكيد أقوى من دلالة حرف العطف على إرادة التأسيس.


















[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]


إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
ج / 1 ص -278- الباب الثاني: في النواهي
وفيه مباحث ثلاثة:
المبحث الأول: في معنى النهي لغة واصطلاحًا
اعلم: أن النهي في اللغة معناه المنع، يقال: نهاه عن كذا أي منعه عنه، ومنه سمي العقل نهيه؛ لأنه ينهي صاحبه عن الوقوع فيما يخالف الصواب ويمنعه عنه، وهو في الاصطلاح القول الإنشائي الدال على طلب كف عن فعل على جهة الاستعلاء، فخرج الأمر؛ لأنه طلب فعل غير كف، وخرج الالتماس والدعاء؛ لأنه لا استعلاء فيهما.
وأورد على هذا الحد قول القائل: "كف عن كذا"*.
وأجيب بأنه "ملتزم لكونه"** من جملة أفراد النهي، فلا يرد النقض به، ولهذا قيل إن اختلافهما باختلاف الحيثيات والاعتبارات، فقولنا: كف عن الزنا باعتبار الإضافة إلى الكف أمر وإلى الزنا نهي.
وأوضح صيغ النهي: "لا تفعل كذا" ونظائرها، ويلحق بها اسم لا تفعل من أسماء الأفعال1، "كمه" فإن معناه لا تفعل، و"صه" فإن معناه لا تتكلم. وقد تقدم2 في حد الأمر ما إذا رجعت إليه عرفت ما يرد في هذا المقام من الكلام اعتراضًا ودفعا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": كف بقيد عن كذا.
** في "أ": يلتزم بكونه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو ما كان بمعنى الأمر أو الماضي، مثل: رويدًا زيدًا، أي: أمهله. وهيهات الأمر، أي: بعد ا. هـ. التعريفات "40".
2 انظر صفحة: "243".

ج / 1 ص -279- المبحث الثاني: النهي الحقيقي ومعناه
اختلفوا في معنى النهي الحقيقي، فذهب الجمهور إلى أن معناه الحقيقي هو التحريم، وهو الحق، ويرد فيما عداه مجازًا كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا في مبارك الإبل"1 فإنه للكراهة. وكما في قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا}2 فإنه للدعاء، وكما في قوله تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاء}3 فإنه للإرشاد، وكما في قول السيد لعبده الذي لم يمتثل أمره: لا تمتثل أمري؟! فإنه للتهديد، وكما في قوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْك}4 فإنه للتحقير، وكما في قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا}5 فإنه لبيان العاقبة، وكما في قوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ}6 فإنه للتأييس، وكما في قولك لمن يساويك: "لا تفعل" فإنه للالتماس.
والحاصل: أنه يرد مجازًا لما ورد له الأمر كما تقدم7، ولا يخالف الأمر إلا في كونه يقتضي التكرار في جميع الأزمنة، وفي كونه للفور فيجب ترك الفعل في الحال.
قيل: ويخالف الأمر أيضًا في كون تقدم الوجوب قرينة دالة على أنه للإباحة، ونقل الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الإجماع على أنه لا يكون تقدم الوجوب قرينة للإباحة، وتوقف الجويني في نقل الإجماع، ومجرد هذا التوقف لا يثبت له الطعن في نقل الأستاذ.
واحتج القائلون: بأنه حقيقة في التحريم: بأن العقل يفهم الحتم من الصيغة المجردة "عن القرائن"* وذلك دليل الحقيقة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": القرينة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي بنحوه من حديث أبي هريرة، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة في مرابض الغنم وأعطان الإبل "348" وقال: حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب الصلاة في أعطان الإبل وقراح الغنم "768" وفي الزوائد: إسناده صحيح، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه "895". وابن حبان في صحيحه "1384". والبيهقي، كتاب الصلاة، باب كراهة الصلاة في أعطان الإبل "2/ 449". قال الترمذي: وفي الباب عن جابر بن سمرة والبراء وسبرة بن معبد وعبد الله بن مغفل وابن عمر وأنس.
2 جزء من الآية "8" من سورة آل عمران.
3 جزء من الآية "101" من سورة المائدة.
4 جزء من الآية "88" من سورة النجم.
5 جزء من الآية "42" من سورة إبراهيم.
6 جزء من الآية "7" من سورة التحريم.
7 انظر صفحة: "247".

ج / 1 ص -280- واستدلوا أيضًا باستدلال السلف بصيغة النهي المجردة "على"* التحريم.
وقيل: إنه حقيقة في الكراهة واستدلوا على ذلك: بأن النهي إنما يدل على مرجوحية المنهي عنه، وهو لا يقتضي التحريم.
وأجيب بمنع ذلك بل السابق إلى الفهم عند التجرد هو التحريم.
وقيل: مشترك بين التحريم والكراهة، فلا يتعين أحدهما إلا بدليل، وإلا كان جعله لأحدهما ترجيحًا من غير مرجح.
وقالت الحنفية: إنه يكون للتحريم إذا كان الدليل قطعيًّا، ويكون للكراهة إذا كان الدليل ظنيًّا.
ورد: بأن النزاع إنما هو في طلب الترك، وهذا طلب قد يستفاد بقطعي فيكون قطعيًّا، وقد يستفاد بظني فيكون ظنيًّا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": عن.
المبحث الثالث: في اقتضاء النهي للفساد
فذهب الجمهور إلى أنه إذا تعلق النهي بالفعل، بأن طلب الكف عنه فإن كان لعينه، أي لذات الفعل أو لجزئه، وذلك بأن يكون منشأ النهي قبحًا ذاتيًّا كان النهي مقتضيًا للفساد المرادف للبطلان، سواء كان ذلك الفعل حسيًّا كالزنا وشرب الخمر، أو شرعيًّا كالصلاة والصوم، والمراد عندهم أنه يقتضيه شرعًا لا لغة.
وقيل: إنه يقتضي الفساد لغة كما يقتضيه شرعًا.
وقيل: إن النهي لا يقتضي الفساد إلا في العبادات فقط دون المعاملات، وبه قال أبو الحسين البصري، والغزالي، والرازي، وابن الملاحمي1 والرصاص2.
واستدل الجمهور على اقتضائه للفساد شرعًا: بأن العلماء في جميع الأعصار لم يزالوا يستدلون به على الفساد في أبواب الربويات، والأنكحة والبيوع، وغيرها.
وأيضًا لو لم يفسد لزم من نفيه حكمة يدل عليها النهي، ومن ثبوته حكمة تدل عليها الصحة، واللازم باطل؛ لأن الحكمتين إن كانتا متساويتين تعارضتا وتساقطتا، فكان فعله كلا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم نجد ترجمته فيما بين أيدينا من الكتب.
2 هو أحمد بن حسن بن الرصاص، الفقيه، الحنفي، النحوي، المتوفى سنة تسعين وسبعمائة هجرية بدمشق، من آثاره: "شرح الألفية في النحو". ا. هـ. معجم المؤلفين "1/ 191".

ج / 1 ص -281- فعل، "فامتنع"* النهي عنه لخلوه عن الحكمة. وإن كانت حكمة النهي مرجوحة فأولى؛ لفوات الزائد من مصلحة الصحة، وهي مصلحة خالصة، وإن كانت راجحة امتنعت الصحة، لخلوه عن المصلحة أيضًا، بل لفوت قدر الرجحان من مصلحة النهي.
واستدلوا على عدم اقتضائه للفساد لغة، بأن فساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه، وليس في لفظ النهي ما يدل عليه لغة قطعا.
واستدل القائلون بأنه يقتضيه لغة كما يقتضيه شرعًا، بأن العلماء لم يزالوا يستدلون به على الفساد.
وأجيب: بأنهم إنما استدلوا به على الفساد لدلالة الشرع عليه، لا لدلالة اللغة.
واستدلوا ثانيًا: بأن الأمر يقتضي الصحة لما تقدم1، والنهي نقيضه، والنقيضان لا يجتمعان فيكون النهي مقتضيًا للفساد.
وأجيب: بأن الأمر يقتضي الصحة شرعًا، لا لغة فاقتضاء الأمر للصحة لغة ممنوع، كما أن اقتضاء النهي للفساد لغة ممنوع.
واستدال القائلون: بأنه لا يقتضي الفساد إلا في العبادات دون المعاملات: بأن العبادات المنهي عنها لو صحت لكانت مأمورًا بها ندبًا؛ لعموم أدلة مشروعية العبادات فيجتمع النقيضان؛ لأن الأمر لطلب الفعل والنهي لطلب الترك وهو محال.
وأما عدم اقتضائه للفساد في غير العبادات فلأنه لو اقتضاه في غيرها لكان غسل النجاسة بماء مغصوب، والذبح بسكين مغصوبة، وطلاق البدعة، والبيع في وقت النداء، والوطء في زمن الحيض غير مستتبعة لآثارها من زوال النجاسة، وحل الذبيحة، وأحكام الطلاق، والملك، وأحكام الوطء، واللازم باطل، فالملزوم مثله.
وأجيب: بمنع كون النهي في الأمور المذكورة لذات الشيء أو لجزئه، بل لأمر خارج، ولو سلم لكان عدم اقتضائها للفساد لدليل خارجي، فلا يرد النقض بها.
وذهب جماعة من الشافعية، والحنفية، والمعتزلة: إلى أنه لا يقتضي الفساد لا لغة ولا شرعًا، لا في العبادات ولا في المعاملات، قالوا: لأنه لو دل على الفساد لغة أو شرعا، لناقض التصريح بالصحة لغة أو شرعًا واللازم باطل أما الملازمة فظاهرة، وأما بطلان اللازم: فلأن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": وامتنع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: "269".

ج / 1 ص -282- الشارع لو قال نهيتك عن الربا نهي تحريم ولو فعلت لكان البيع المنهي عنه موجبًا للملك لصح من غير تناقض، لا لغة ولا شرعا.
وأجيب: بمنع الملازمة؛ لأن التصريح بخلاف النهي قرينة صارفة له عن الظاهر، ولم ندع إلا أن ظاهره الفساد فقط.
وذهبت الحنفية إلى: أن ما لا تتوقف معرفته على الشرع كالزنا، وشرب الخمر يكون النهي عنه لعينه، ويقتضي الفساد إلا أن يقوم الدليل على أنه منهي عنه لوصفه، أو المجاور له، فيكون النهي حينئذ عنه لغيره، فلا يقتضي الفساد كالنهي عن قربان الحائض، وأما الفعل الشرعي وهو ما يتوقف معرفته على الشرع فالنهي عنه لغيره فلا يقتضي الفساد، ولم يستدلوا على ذلك بدليل مقبول.
والحق: أن كل نهي من غير فرق بين العبادات والمعاملات يقتضي تحريم المنهي عنه، وفساده المرادف للبطلان، اقتضاء شرعيًّا، ولا يخرج من ذلك إلا ما قام الدليل على عدم اقتضائه لذلك فيكون هذا الدليل قرينة صارفة له من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي.
ومما يستدل به على هذا ما ورد في الحديث المتفق عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد"1 والمنهي عنه ليس عليه أمرنا فهو رد، وما كان ردًّا أي: مردودًا كان باطلا، وقد أجمع العلماء مع اختلاف أعصارهم على الاستدلال بالنواهي على أن المنهي عنه ليس من الشرع، وأنه باطل لا يصح، وهذا هو المراد بكون النهي مقتضيًا للفساد، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه"2 فأفاد وجوب اجتناب المنهي عنه، وذلك هو المطلوب، ودع عنك ما "راوغوا3"*به من الرأي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": روغوا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخرجه البخاري من حديث عائشة، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود "2697". ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثان الأمور "1718". وأبو داود، كتاب السنة، وباب في لزوم السنة "4606". والبيهقي، كتاب آداب القاضي "10/ 119". وابن حبان في صحيحه "26".
2 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر "1337". والنسائي في السنن، كتاب مناسك الحج، باب وجوب الحج "2618". والترمذي في السنن، كتاب العلم، باب في الانتهاء عما نهى عنه رسول الله صلىالله عليه وسلم "2679". وقال: حسن صحيح. وابن ماجه في السنن، المقدمة "2". والبيهقي في السنن، كتاب الحج، باب وجوب الحج مرة واحدة "4/ 326". وابن حبان في صحيحه "18".
3 راغ الثعلب روغًا وروغانًا: ذهب يمنة ويسرة في سرعة خديعة، فهو لا يستر في جهة، ويستعار هذا المعنى للرجل المخادع. ا. هـ. المصباح المنير مادة روغ.

ج / 1 ص -283- هذا إذا كان النهي عن الشيء لذاته أو لجزئه؛ أما لو كان النهي عنه لوصفه، وذلك نحو النهي عن عقد الربا لاشتماله على الزيادة، فذهب الجمهور: إلى أنه لا يدل على فساد المنهي عنه، بل على فساد نفس الوصف.
واحتجوا لذلك: بأن النهي عن الشيء لوصفه لو دل على فساد الأصل لناقض التصريح بالصحة كما مر.
وأيضًا كان يلزم أن لا يعتبر طلاق الحائض، ولا ذبح ملك الغير لحرمته إجماعًا.
وذهب جماعة: إلى أنه يقتضي فساد الأصل، محتجيين بأن النهي ظاهر في الفساد من غير فرق بين كونه لذاته أو "لوصفه"* وما قيل من جواز التصريح بالصحة فملتزم إن وقع، ويكون دليلًا على خلاف ما يقتضيه الظاهر.
وقد استدل أهل العلم على فساد صوم يوم العيد بالنهي الوارد عن صومه1 وليس ذلك لذاته، ولا لجزئه؛ لأنه صوم، وهو مشروع بل لكونه صومًا في يوم العيد، وهو وصف لذات الصوم.
قال بعض المحققين من أهل الأصول: إن النهي عن الشيء لوصفه هو أن ينهي عن الشيء مقيدًا بصفة نحو "لا تصل كذا" ولا "تبع كذا" وحاصله ما ينهى عن وصفه لا ما يكون الوصف علة للنهي.
وأما النهي عن الشيء لغيره نحو النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة، فقيل: لا يقتضي الفساد لعدم مضادته لوجوب أصله لتغاير المتعلقين، والظاهر أنه يضاد وجود أصله لأن التحريم هو إيقاع الصلاة في ذلك المكان، كما صرح به الشافعي وأتباعه، وجماعة من أهل العلم، فهو كالنهي عن الصوم في يوم العيد، لا فرق بينهما.
وأما الحنفية فيفرقون بين النهي عن الشيء لذاته، ولجزئه، ولوصف لازم، ولوصف مجاور، ويحكمون في بعض بالصحة وفي بعض بالفساد في الأصل، أو في الوصف ولهم في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": لصفاته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن صيام يومين يوم الفطر ويوم الأضحى"، كتاب الصوم، باب صوم النحر "1993" ومسلم، كتاب الصوم، باب تحريم صوم يومي العيدين "1138". مالك في الموطأ، كتاب الصيام، باب صيام يوم الفطر والأضحى والدهر "1/ 300". والبيهقي في السنن، كتاب الصيام، باب الأيام التي نهى عن صومها "4/ 297". وابن حبان في صحيحه "3958". وأحمد في المسند "4/ 511، 529".

ج / 1 ص -284- ذلك فروق وتدقيقات لا تقوم بمثلها الحجة.
نعم النهي عن الشيء لذته أو لجزته الذي لا يتم إلا به يقتضي فساده في جميع الأحوال والأزمنة، والنهي عنه للوصف الملازم يقتضي فساده ما دام ذلك الوصف، والنهي عنه لوصف مفارق أو لأمر خارج يقتضي النهي عنه عند إيقاعه متصفًا بذلك الوصف، وعند إيقاعه في ذلك الأمر الخارج عنه؛ لأن النهي عن إيقاعه مقيدًا بهما يستلزم فساده ما داما قيدًا له.



















[ فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ]


إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول
ج / 1 ص -285- الباب الثالث: في العموم
وفيه ثلاثون مسألة
المسألة الأولى: في حده
وهو في اللغة شمول أمر لمتعدد، سواء كان الأمر لفظًا أو غيره، ومنه قولهم: عمهم الخير إذا شملهم وأحاط بهم.
وأما حده في الاصطلاح: فقال في "المحصول": هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد، كقوله الرجال فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له، ولا تدخل عليه النكرات، كقولهم رجل لأنه يصلح لكل واحد من رجال الدنيا، ولا يستغرقهم، ولا التثنية، ولا الجميع؛ لأن لفظ رجلان ورجال يصلح لكل اثنين وثلاثة ولا يفيدان الاستغراق، ولا ألفاظ العدد كقولنا: خمسة؛ لأنه يصلح لكل خمسة ولا يستغرقه. وقولنا: بحسب وضع واحد احتراز عن اللفظ المشترك، والذي له حقيقة ومجاز، فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معًا. انتهى.
وقد سبقه إلى بعض ما ذكره في هذا الحد أبو الحسين البصري فقال: العام هو اللفظ المستغرق لما يصلح له.
ورد عليه المشترك إذا استغرق جميع أفراد معنى واحد، واندفع الاعتراض عنه بزيادة قيد بوضع واحد ثم ورد عليه نحو عشرة ومائة ونحوهما لأنه يستغرق ما يصلح له من المتعدد الذي يفيده، وهو معنى الاستغراق.
ودفع بمثل ما ذكره في "المحصول".
وقال أبو علي الطبري1: هو مساواة بعض ما تناوله لبعض.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الحسن "أو الحسين" بن قاسم، شيخ الشافعية ببغداد، أول من صنف في الخلاف، من آثاره: "المحرر" "الإفصاح" "العدة"، توفي سنة خمسين وثلاثمائة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 62"، شذرات الذهب "3/ 3"، الأعلام "2/ 210".

ج / 1 ص -286- واعترض عليه بلفظ التثنية، فإن أحدهما مساوٍ للآخر وليس بعام.
وقال القفال الشاشي: أقل العموم شيئان، كما أن الخصوص واحد، وكأنه نظر إلى المعنى اللغوي، وهو الشمول، والشمول حاصل في التثنية، وإلا فمن المعلوم أن التثنية لا تسمى عمومًا لا سيما إذا قلنا: أقل الجمع ثلاثة، فإذا سلب عن التثنية أقل الجمع، فسلب العموم عنها أولى. وقال المازري: العموم عند أئمة الأصول هو القول المشتمل على شيئين فصاعدًا، والتثنية عندهم عموم لما يتصور فيها من معنى الجمع والشمول، الذي لا يتصور في الواحد. ولا يخفى ما يرد عليه.
وقال الغزالي: هو اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدًا واعترض عليه: أنه ليس بجامع ولا مانع، أما كونه ليس بجامع، فلخروج لفظ المعدوم، والمستحيل فإنه عام ومدلوله ليس بشيء، وأيضًا الموصولات مع صلاتها مع جملة العام وليست بلفظ واحد، وأما أنه ليس بمانع فلأن كل مثنى يدخل في الحد مع أنه ليس بعام، وكذلك كل جمع لمعهود وليس بعام.
وقد أجيب عن الأول: بأن المعدوم والمستحيل شيء لغة، وإن لم يكن شيئًا في الاصطلاح.
وعن الثاني: بأن الموصولات هي التي "ثبت لها العموم""1".
وقال ابن فورك: اشتهر من كلام الفقهاء أن العموم هو اللفظ المستغرق، وليس كذلك؛ لأن الاستغراق عموم وما دونه عموم وأقل العموم اثنان.
وقال ابن الحاجب: إن العام هو ما دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقًا ضربة؛ فقوله: ما دل جنس، وقوله: على مسميات يخرج نحو زيد، وقوله: باعتبار أمر اشتركت فيه يخرج نحو عشرة، فإن العشرة دلت على آحاد لا باعتبار أمر اشتركت فيه لأن آحاد العشرة أجزاء العشرة لا جزئياتها، فلا يصدق على واحد واحد أنه عشرة.
وقوله: "مطلقًا" ليخرج المعهود، فانه يدل على مسميات باعتبار ما اشتركت فيه مع قيد خصصه بالمعهودين وقوله: "ضربة" أي دفعة واحدة ليخرج نحو "رجل" مما يدل على مفرداته بدلًا لا شمولًا.
ويرد عليه خروج نحو علماء البلد مما يضاف من العمومات إلى ما يخصصه، مع أنه عام قصد به الاستغراق، ووجه ورود ذلك عليه من حيث اعتباره في التعريف "لقيد""2" الإطلاق، مع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": زيادة وهي ثبت لها العموم والصلات مبينات لها.
** في "أ": بقيد.

ج / 1 ص -287- أن العام المضاف قد قيد بما أضيف هو إليه.
وأجيب: بأن الذي اشتركت المسميات فيه هو علماء البلد مطلقًا لا "العلماء"*، وعالم البلد لم يتقيد بقيد وإنما قيد العلماء، "فأورد"** عليه أيضًا أنه قد اعتبر الأفراد في العام، وعلماء البلد مركب.
وأجيب: بأن العام إنما هو المضاف، من حيث إنه مضاف والمضاف إليه خارج.
وأورد عليه الجمع المنكر، كرجال فإنه يدل على مسميات، وهي آحاده باعتبار ما اشتركت فيه، وهو مفهوم رجل مطلقًا لعدم العهد وليس بعام عند من يشترط الاستغراق.
وقد أورد على المعتبرين للاستغراق في حد العام مطلقًا, مفردًا كان أو جمعًا أن دلالته على الفرد تضمنيه؛ إذ ليس الفرد مدلولًا مطابقيًّا؛ لأن المدلول المطابقي هو مجموع الأفراد المشتركة في المفهوم المعتبر فيه على ما صرحوا به، ولا خارجًا ولا لازمًا، ولا يمكن جعله أي: الفرد مما صدق عليه العام لصيرورته بمنزلة كلمة واحدة في اصطلاح العلماء، وليس مما يصدق على إفراده بدلًا، بل شمولًا، ولا يلزم من تعليقه بالكل تعليقه بكل جزئي.
وأجيب: بأنه يلزم من تعليقه بالكل تعليقه بالجزء لزومًا لغويًّا "لا عقليًّا"*** وأن ذلك مما يكفي في الرسوم؛ وفيه نظر.
وإذا عرفت ما قيل في حد العام علمت أن أحسن الحدود المذكورة هو ما قدمنا1 عن صاحب "المحصول"، لكن مع زيادة قيد "دفعة"، فالعام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد دفعة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الجنة دار الأبرار والطريق الموصل اليها

  ➌ الجنة ومتاعها والنار وسوء جحيمها عياذا بالله الواحد. {{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِ...