Translate

الأربعاء، 14 يونيو 2023

إِثْبَات حَيَاةِ البَرْزَخِ فِي القُبُوْرِ وَالأَجْدَاث جمع وإعداد/ الشيخ: فؤاد بن يوسف أبو سعيد حفظه الله تعالى



إِثْبَات حَيَاةِ البَرْزَخِ فِي القُبُوْرِ وَالأَجْدَاث 

جمع وإعداد/ الشيخ: فؤاد بن يوسف أبو سعيد حفظه الله تعالى  

إمام وخطيب مسجد الزعفران بالمغازي  

25/ ربيع الآخر/ 1440هـ، الموافق: 1/ 1/ 2019م 

إِثْبَات حَيَاةِ البَرْزَخِ فِي القُبُوْرِ وَالأَجْدَاث

الحمد لله حمد الشاكرين الصابرين، ولا عدوان إلا على الظالمين، اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:

لقد أطلعنا ربنا سبحانه وتعالى في كتابه العزيز على شيء من علوم الغيب الماضية والحاضرة والمستقبلة، فكما وقعت الأمور الماضية والحاضرة، ستقع وتحدث الأمور الغيبية المستقبلية، ومن ذلك الغيب ما ثبت في شريعتنا من الحياة في البرزخ، ويلاقيه العبد بعد وفاته في قبره من النعيم أو العذاب.

والذي دفعني أن أشرع بالكتابة في هذا الموضوع:

ما انتشر عبر وسائل الإعلام المختلفة من إنكار حياة البرزخ، وما فيها من عذاب أو نعيم.

جهل كثير من أبنا الأمة المحمدية في هذا الزمان بأمور الإيمان بالغيب، وانجرارهم وراء الجهلاء ممن لا علم لهم بالدين والاعتقاد وأمور ما وراء المادة.

كثرة المتكلمين وغير المتخصصين في كل شيء من أمور الدين والتوحيد والعبادات دون التفقه أو الاستفادة من علم السابقين من علماء المسلمين، فضلوا وأضلوا.

ولست بدعا ممن كتب في هذا الموضوع، فلقد سبقني إلى ذلك كوكبة من العلماء الربانيين ألفوا وكتبوا في إثبات حياة البرزخ، فأذكر على سبيل المثال لا الحصر، ومن الكتب التي اشتهرت في ذلك:

(العاقبة في ذكر الموت)، المؤلف: عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحسين بن سعيد إبراهيم الأزدي، الأندلسي الأشبيلي، المعروف بابن الخراط، (المتوفى: 581هـ).

(التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة)، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي، (المتوفى: 671هـ).

(إثبات عذاب القبر وسؤال الملكين)، المؤلف: أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، (المتوفى: 458هـ).

(شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور)، المؤلف: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي.

(الاستعداد للموت وسؤال القبر)، المؤلف: زين الدين بن عبد العزيز بن زين الدين ابن علي بن أحمد المعبري المليباري الهندي، (المتوفى: 987هـ).

(المختصر الصحيح عن الموت والقبر والحشر)، جمع وترتيب: عبد الكريم محمد نجيب.

(البرزخ)، رسالة دكتوراة للشيخ: محمد حيدر.

(أحاديث حياة البرزخ في الكتب التسعة جمعا وتخريجا ودراسة)، المؤلف: محمد بن حيدر بن مهدي بن حسن.

(الحياة البرزخية) و (من أحوال الناس بعد الموت)، كلاهما للمؤلف: خالد بن عبد الرحمن بن حمد الشايع.

(من أسباب عذاب القبر)، المؤلف: سعيد بن مسفر بن مفرح القحطاني.

إلى غير ذلك مما اهتم به علماء كتب السنة الستة وغيرهم مما ضمنوه في غضون الأبواب والفصول.

تعريفات:

القبر: [مَوْضِعُ دَفْن الـمَوْتَى...]. النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 4).

وهو الجَدَث، والرَّمسُ والضريح.

البرزخ: [مَا بَيْنَ كُلِّ شَيْئَيْنِ مِنْ حَاجِزٍ]. النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 118).

[والبَرْزَخ: مَا بَين الدُّنيا والآخِرَةِ قبْلَ الحشْر، مِنْ وَقْتِ الموْتِ إِلى القِيَامَة. وَقَالَ الفرّاءُ: البَرزَخ مِن يَوم يموتُ إِلى يَوم يُبعَث. ومَنْ مات فقدْ دَخَلَه، أَي البَرْزخَ]. تاج العروس (7/ 234).

الروح: [(الرُّوحِ) فِي الْحَدِيثِ، كَمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، وَوَردت فِيهِ عَلَى مَعَان، والغالبُ مِنْهَا أَنَّ المرادَ بِالرُّوحِ الَّذِي يقُوم بِهِ الجَسَد وتكونُ بِهِ الحياةُ، وَقَدْ أطلقْ عَلَى الْقُرْآنِ، والوَحْى، والرحْمة، وَعَلَى جِبْرِيلَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {الرُّوحُ الْأَمِينُ}. ورُوحُ الْقُدُسِ؛ والرُّوحُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ]. النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 271، 272).

[النَّسَمة: نفسُ الروح، الإنسانُ، كل دابَّة فيها روح]. التعريفات الفقهية (ص: 227).

[النَّسَمَةُ: النَّفْس وَالرُّوحُ ...، وكلُّ دَابَّةٍ فِيهَا رُوح فَهِيَ نَسَمَةٌ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الناسَ]. النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 49).

***


 

تقديم:

أخبار النبي صلى الله عليه وسلم آحادها ومتواترها، أحكامها وعقائدها، وآدابها وأخلاقها، مادام ثبت إسنادها، ولم تشذ متونها، فكلها حقّ، واجبة الاعتقاد والعلم والعمل:

فعندما نقرأ في هدي النبي صلى الله عليه وسلم خصوصًا ما أخبر به من الغيب، وجدنا أمورا شهدها التاريخ؛ أنها وقعت كما أخبر عليه الصلاة والسلام، ومن هذه الأمور ما يسمى علامات الساعة الصغرى، كلها ظهرت بدون أن يتأخر شيء منها، وهذه أمثلة على ذلك:

* فقد أخبر بزوال ملك كسرى وقيصر، وقد زال ملكهما:

عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("إِذَا هَلَكَ كِسْرَى، فلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ، فلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ"). (خ) (2952)، (م) (2918)

-قَالَ الشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ كِسْرَى بِالْعِرَاقِ، وَلَا قَيْصَرُ بِالشَّامِ كَمَا كَانَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَلَّمَنَا صلى الله عليه وسلم بِانْقِطَاعِ مُلْكِهِمَا فِي هَذَيْنِ الْإِقْلِيمَيْنِ، فَكَانَ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم؛ فَأَمَّا كِسْرَى فَانْقَطَعَ مُلْكُهُ وَزَالَ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْض، وَتَمَزَّقَ مُلْكُهُ كُلَّ مُمَزَّق، وَاضْمَحَلَّ بِدَعْوَةِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

وَأَمَّا قَيْصَر، فَانْهَزَمَ مِنْ الشَّامِ وَدَخَلَ أَقَاصِي بِلَادِه، فَافْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بِلَادَهُمَا، وَاسْتَقَرَّتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَللهِ الْحَمْد، وَأَنْفَقَ الْمُسْلِمُونَ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ الله كَمَا أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم وَهَذِهِ مُعْجِزَات ظَاهِرَة. (النووي 9/ 304).-

* وأخبر عليه الصلاة والسلام بفتح بلاد الحيرة، وقد فُتِحت.

والحيرة [بالكسر ثم السكون، وراء: مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة على موضع يقال له النّجف]. معجم البلدان (2/ 328).

عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("مُثِّلَتْ لِيَ الْحِيرَةُ كَأَنْيَابِ الْكِلَابِ")، =يعني المباني التي فيها لونها أبيض، ومُثِّلَت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنها ستفتح، قال:= ("وَإِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَهَا")، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: (هَبْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ ابْنَةَ بُقَيْلَةَ)، =وبقيلة نصراني يحكم تلك البلاد، وهذا الرجل العربي رآها مرة وهي شابة، فرغب أن يهبها له النبي صلى الله عليه وسلم=، فَقَالَ: ("هِيَ لَكَ")، فَأَعْطَوهُ إِيَّاهَا، فَجَاءَ أَبُوهَا =بعد الفتح، جاء يطالب بابنته= فَقَالَ: (أَتَبِيعُهَا؟!) قَالَ: (نَعَمْ!) قَالَ: (بِكُمْ؟ احْتَكِمْ مَا شِئْتَ)، =ماذا تطلب فيها من ثمن، فـ= قَالَ: (بِأَلْفِ دِرْهَمٍ)، قَالَ: (قَدْ أَخَذْتُهَا)، فَقِيلَ لَهُ: (لَوْ قُلْتَ: ثَلَاثينَ أَلْفًا)، قَالَ: (وَهَلْ عَدَدٌ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفٍ؟!) (حب) (6674)، انظر الصَّحِيحَة: (2825).-

يريد (ألف درهم!) على البساطة! لا يعلم أنَّ هناك عددًا أكثر من الألف، فهذا قد وقع.

* وأخبر صلى الله عليه وسلم بأن هذا الأمرَ سيتمُّ، وهذا الدين سينتشر، ويعمّ الأمنُ والأمانُ، والسلم والسلامُ شبهَ الجزيرة العربية، وقد وقع، فقد ورد عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...: («... وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»). (خ) (3612).

-بَيْن صنعاء وحَضْرَمَوْت مَسَافَة بَعِيدَة، نَحْو خَمْسَة أَيَّام. فتح الباري (6/ 619).-

-أَيْ: سَيَزُولُ عَذَابُ الْمُشْرِكِينَ، فَاصْبِرُوا عَلَى أَمْرِ الدِّينِ كَمَا صَبَرَ مَنْ سَبَقَكُمْ. عون المعبود (6/ 79)-

* وأخبر صلى الله عليه وسلم عن مقتل عمّار بن ياسر رضي الله عنه على أيدي المسلمين، وقد حدث:

... عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعَمَّارٍ: ("تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ"). (م) 72- (2916)، -[قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُحِقًّا مُصِيبًا، وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى =الذين مع معاوية رضي الله عنه كانوا= بُغَاةٌ؛ لَكِنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ =مخطئون=، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ لِذَلِكِ، ... وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ =وهذه المعجزة قد وقعت= مِنْ =عدة= أَوْجُهٍ؛ مِنْهَا:

أَنَّ عَمَّارًا يَمُوتُ قَتِيلًا، =وكان كذلك.=

وَأَنَّهُ يَقْتُلُهُ مُسْلِمُونَ، =وكان كذلك.=

وَأَنَّهُمْ بُغَاةٌ، =وكانوا كذلك.=

وَأَنَّ الصَّحَابَةَ يُقَاتِلُونَ، =ويقتل بعضهم بعضا، وقد كان كذلك.=

وَأَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِرْقَتَيْنِ؛ =وقد وقع، فرقة= بَاغِيَةٍ وَغَيْرِهَا.

وَكُلُّ هَذَا =كما قال الإمام النووي رحمه الله= قَدْ وَقَعَ مِثْلُ فَلَقِ الصُّبْحِ، =فـ= صَلَّى اللَّهُ وسلم على رسوله؛ الذى لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يُوحَى]. شرح النووي (18/ 40).

* وإخباره صلى الله عليه وسلم عن الاقتتال بين طائفتين عظيمتين من المسلمين، وقد حدث بين طائفة عليٍّ وطائفة معاويةَ رضي الله عنهما:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: («لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ -عَظِيمَتَانِ-؛ فَيَكُونَ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ، ... »). (خ) (3609)، (م) 17- (157).

-الْمُرَادُ بِالفئتين مَنْ كَانَ مَعَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ لَمَّا تَحَارَبَا بِصِفِّينَ. (فتح)-

* وإخباره صلى الله عليه وسلم عن حدوث عهود مختلفة تحكم أمَّتَه من لدنْه صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة:

قال حُذَيْفَةُ رضي الله –تعالى- عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: («تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ»)، ثُمَّ سَكَتَ صلى الله عليه وسلم،... (حم) (18406)، انظر الصَّحِيحَة: (5).

وغير ذلك كثير! مما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنه سيقع وقد وقع، وهذا سيعطي المؤمنَ ثقةً وأمانًا وإيمانا؛ أن ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب أيضا ستقع لا محالة؛ لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى:

فقد أخبر عن علامات الصغرى وقد وقعت، وقد ذكرتُ بعضها، وأخبر عن علامات الساعة الكبرى ولم تقع منها علامةٌ حتى الآن؛ ولكنها ستقع كما أخبر، وكذلك أخبرَ عن الغيب، وأنها ستكون حياةٌ في البرزخ، وعذابٌ في القبر أو نعيم، وسيكون البعثُ والنشور، وحشْرُ الناس عراة، والقيامُ لرب العالمين، والحوضُ والميزانُ والصراط، والجنةُ وما فيها من مُتعةٍ ونعيم، والنارُ وما فيها من عذابٍ وجحيم.

وسيقعُ هذا كلُّه كما وقع ما أُخبرنا عنه من أشراط الساعة الصغرى.

***

فمن اعتقاد أهل السنة والجماعة -جعلنا الله وإياكم منهم، وحشرنا الله معهم-؛ الإيمانُ بالروح، واتصالُها بالجسد وتعلُّقها به:

والأمر في كلامنا هنا مركَّزٌ على ما بعد الموت وفي القبر، والتركيزُ على الروح، وأنَّ الأرواحَ مخلوقةٌ قبل الأجساد، وأنها من أمر الله سبحانه القائل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. (الإسراء: 85).

والروح تذكر وتؤنث، ويطلق عليها النفس، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. (الزمر: 42)

ويطلق عليها النَّسَمَة، فعن كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يُحَدِّثُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ("إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"). (س) (2073).

وأرواح البشر رآها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج، عن يمين آدم عليه السلام وعن يساره، ففي الحديث الصحيح، وهو حديث طويل نأخذ منه الشاهد: ("... فَلَمَّا فَتَحَ") –أي: فتح باب السماء- ("عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ")،- [وهو جمع سَواد؛ وَهُوَ الشَّخْص وَالْمرَاد جمَاعَة من بني آدم]. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 168)-، ("إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ اليَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى..."). (خ) (349)، (خ) (3342)، (م) 263- (163).

وأما اتصال الروح بالجسد، فأوَّلُ ما تتصل به عندما يكون جنينا قد بلغ أربعة أشهر، كما جاء في الحديث: ("... ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ..."). (خ) (3208)، تتصل به بعد الأربعة أشهر، ثم تتعلّق به بعد الولادة حتى الممات، وهذا يختلف عن تعلقها به في منامه، كما هو مشاهد، أما في قبره؛ فحياته الحياة البرزخية، منقطعةٌ عن إحساساتنا وتصوراتنا، ثم التعلُّق الكاملُ الذي لا انفصال بعده في الحياة الأبدية السرمدية، وهذان الاتصالان في البرزخ وفي الآخرة من علم الغيب، وما على العقل السليم، إلا القبولُ والإذعانُ والتسليم.

وعند الموت تخرج الروح من الجسد، فيتبعها البصر، فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ)، ثُمَّ قَالَ: ("إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ، تَبِعَهُ الْبَصَرُ"). (م) 7- (920)، (جة) (1454).

(شَقَّ بَصَرُهُ)، أَيْ: فتح عينيه... =فالميت إذا مات فتح عينيه، لماذا؟ الذي لا نعلمه أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن البصر يتبع الروح، فهي آخر ما يخرج منه=، (فَأَغْمَضَهُ) قَالُوا: وَالْحِكْمَة فِيهِ؛ =لماذا نغمض عيني الميت؟ قال:= أَلَّا يَقْبُحَ بِمَنْظَرِهِ لَوْ تُرِكَ إِغْمَاضُه.

(تَبِعَهُ الْبَصَرُ)، أَيْ: إِذَا خَرَجَ الرُّوحُ مِنْ الْجَسَد، يَتْبَعُهُ الْبَصَرُ نَاظِرًا أَيْنَ يَذْهَب. شرح النووي على مسلم (6/ 223).

وبعد خروج الروح وقبضها يُصعَد بها إلى السماء ثم تعود إلى الجسد، ففي الحديث: («فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا")، -أي: ملك الموت- ("فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا")، -أي: الملائكة الذين يحملونها-، ("فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ») قَالَ: ("فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ، يَعْنِي بِهَا، عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟! فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى"). قَالَ: ("فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ ..."). (د) (4753)، (حم) (18534)، انظر (تلخيص أحكام الجنائز) (ص: 66)، (صحيح الجامع) (1676).

إذن الروح تنفصل عن الجسد عند الموت وترجع إليه، ولم تكن في الجسد أصلا عندما كان جنينا قبل الأربعة أشهر، ثم تتصل به اتصالاً لا تنفكُّ عنه، وهذا يوم القيامة، هذه قال عنها العلماء وهي تعلُّق الروح بالجسد في خمسة أنواع، قال ابن أبي العز الحنفي في شرحه على العقيدة الطحاوية:

[وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثُبُوتِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ لِمَنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا، وَسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ، فَيَجِبُ اعْتِقَادُ ثُبُوتِ ذَلِكَ وَالْإِيمَانُ بِهِ، وَلَا تتكلم فِي كَيْفِيَّتِهِ]، -نتوقف عن الكيفية؛ لأن الكيفية فوق إدراك العقول-، [إِذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ وُقُوفٌ عَلَى كَيْفِيَّتِهِ، لِكَوْنِهِ لَا عَهْدَ لَهُ بِهِ فِي هذا الدَّار. وَالشَّرْعُ لَا يَأْتِي بِمَا تُحِيلُهُ الْعُقُولُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَأْتِي بِمَا تَحَارُ فِيهِ الْعُقُولُ.

فَإِنَّ عَوْدَ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ لَيْسَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْهُودِ فِي الدُّنْيَا؛ بَلْ تُعَادُ الرُّوحُ إِلَيْهِ إِعَادَةً غَيْرَ الْإِعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ فِي الدُّنْيَا.

فَالرُّوحُ لَهَا بِالْبَدَنِ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّعَلُّقِ، مُتَغَايِرَةِ الْأَحْكَامِ:

أَحَدُهَا: تَعَلُّقُهَا بِهِ فِي بَطْنِ الْأُمِّ جَنِينًا.

الثَّانِي: تَعَلُّقُهَا بِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ إِلَى وَجْهِ الْأَرْضِ.

الثَّالِثُ: تَعَلُّقُهَا بِهِ فِي حَالِ النَّوْمِ، فَلَهَا بِهِ تَعَلُّقٌ مِنْ وَجْهٍ، وَمُفَارَقَةٌ مِنْ وجه.

الرَّابِعُ: تَعَلُّقُهَا بِهِ فِي الْبَرْزَخِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ فَارَقَتْهُ –أي: بعد الموت- وَتَجَرَّدَتْ عَنْهُ؛ فَإِنَّهَا لَمْ تُفَارِقْهُ فِرَاقًا كُلِّيًّا، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهَا إِلَيْهِ الْتِفَاتٌ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ وَرَدَ رَدُّهَا إِلَيْهِ -ردّ الروح إلى الجسد في القبر- وَقْتَ سَلَامِ الْمُسَلِّمِ، وَوَرَدَ أَنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ، وَهَذَا الرَّدُّ إِعَادَةٌ خَاصَّةٌ لَا يُوجِبُ حَيَاةَ الْبَدَنِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَة.

الْخَامِسُ: تَعَلُّقُهَا بِهِ يَوْمَ بَعْثِ الأجساد، وهو أكمل أنواع تعلقها البدن، وَلَا نِسْبَةَ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعَلُّقِ إِلَيْهِ؛ إِذْ هُوَ تَعَلُّقٌ لَا يَقْبَلُ الْبَدَنُ مَعَهُ مَوْتًا وَلَا نَوْمًا؛ -لأن النوم موت أصغر- وَلَا فَسَادًا، فَالنَّوْمُ أخو الموت، فتأمل هذا يزح عنك إشكالات كثيرة]. شرح الطحاوية- ط دار السلام (ص: 399)، بتصرف يسير.

فلا ننفي ما لا نعلم، فعذابُ القبر ونعيمُه ثبت عن أكثر من ثلاثين صحابيا رضي الله عنهم، ولم أعلم أحدًا من الصحابة رضي الله عنهم أنكرَ حياةَ البرزخ، أو عذابَ القبر أو نعيمَه.

***

حياة البرزخ في القرآن:

وقد جمعت أكثر من عشر آيات قرآنية تدلُّ إمَّا صراحةً على حياة البرزخ، وإما بالإشارة استدلّ منها العلماء على إثبات الحياة البرزخية، وما فيها من عذاب القبر أو نعيم:

1) قال سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}. (البقرة: 154).

قال السعدي رحمه الله: [وفي الآية، دليل على نعيم البرزخ وعذابه، كما تكاثرت بذلك النصوص]. تفسير السعدي (ص: 75). فالحياة البرزخية حياة لا نشعر بها، {... بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}؛ لأنها من عالم الغيب.

2- قال جلّ جلاله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}. (آل عمران: 169- 171)

[قوله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ}، فالقوم الذينَ لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدُّنْيا، واستبشارهم بمن يكون في الدنيا ولا بد وأن يكون قبل القيامة، والاستبشار لا يكون إلا مع الحياةِ، فدل على كونهم أحياءً قبل يوم القيامة]. اللباب في علوم الكتاب (6/ 48).

[وفي هذه الآيات إثباتُ نعيمِ البرزخ، وأنّ الشهداء في أعلى مكان عند ربهم، وفيه تلاقي أرواح أهل الخير، وزيارة بعضهم بعضا، وتبشير بعضهم بعضا]. تفسير السعدي (ص: 157)، وانظر (الجامع لأحكام القرآن) القرطبي (المتوفى: 671هـ)، تفسير البحر المحيط (1/ 390)، البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، لأبي العباس أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني الأنجري الفاسي الصوفي (المتوفى: 1224هـ): (1/ 435)، وهذا كله يكون بعد الموت.

3- {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}. (آل عمران: 185).

ليس فيها نصُّ على البرزخ، ولكن كما قال المفسرون: [وفي هذه الآية إشارة لطيفة إلى نعيم البرزخ وعذابه، وأن العاملين يجزون فيه بعض الجزاء مما عملوه، ويقدَّم لهم أنموذجٌ مما أسلفوه، يفهم هذا من قوله: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، أي: توفية الأعمال التامة، إنما يكون يوم القيامة، وأما ما دون ذلك فيكون في البرزخ، -فالبرزخ ليس هناك توفية كاملة بل التوفية الكاملة تكون يوم القيامة-؛ بل قد يكون قبل ذلك في الدنيا كقوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. (السجدة: 21)]. تفسير السعدي (ص: 160)، وانظر تفسير البيضاوي (2/ 126)، روح المعاني (2/ 357)، فتح القدير للشوكاني (1/ 467)، البحر المحيط في التفسير (3/ 460)، تفسير أبي السعود= إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 123).

4) قال سبحانه: {... وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}. (الأنعام: 93).

[{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}، أي: شدائده وأهواله الفظيعة، وكُرَبه الشنيعة؛ لرأيت أمرا هائلا وحالة لا يقدر الواصف أن يصفَها.

{وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} إلى أولئك الظالمين المحتضرين بالضرب والعذاب، يقولون لهم عند منازعة أرواحهم وقلقها، وتعصيها للخروج من الأبدان: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}، أي: العذاب الشديد، الذي يهينُكم ويذلُّكم، والجزاء من جنس العمل، فإن هذا العذاب {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} من كذبكم عليه سبحانه، وردِّكم للحقّ، الذي جاءت به الرسل.

{وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}، أي: تَرَفَّعون عن الانقياد لها، والاستسلام لأحكامها.

وفي هذا دليل على عذاب البرزخ ونعيمه، فإن هذا الخطابَ، والعذابَ الموجه إليهم، إنما هو عند الاحتضار وقبيل الموت وبعده.

وفيه دليل، على أن الروح جسم، -كما نقول الملائكة جسم، لكن ليس كالأجسام، وكذلك الروح جسم ليس كالأجسام-، يدخل ويخرج، ويخاطب، ويساكن الجسد، ويفارقه، فهذه حالهم في البرزخ.

وأما يوم القيامة، فإنهم إذا وردوها؛ ورَدَوُها مفلسين، فرادى بلا أهل ولا مال، ولا أولاد ولا جنود، ولا أنصار، كما خلقهم الله أول مرة، عارين من كلِّ شيء]. تفسير السعدي (ص: 264)، وانظر تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 355)، فتح القدير للشوكاني (2/ 160).

5) قال الله سبحانه وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}. (إبراهيم: 27).

[يخبر سبحانه وتعالى أنه يثبت عباده المؤمنين، أي: الذين قاموا بما عليهم من إيمان القلب التام، الذي يستلزم أعمال الجوارح ويثمرها، فيثبتهم الله في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومراداتها.

وفي الآخرة عند الموت بالثبات على الدين الإسلامي والخاتمة الحسنة.

وفي القبر عند سؤال الملكين، للجواب الصحيح، إذا قيل للميت: "من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟" هداهم للجواب الصحيح بأن يقول المؤمن: "الله ربي والإسلام ديني ومحمد نبيي". صلى الله عليه وسلم.

{وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} عن الصواب في الدنيا والآخرة، وما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم.

وفي هذه الآية دلالة على فتنة القبر وعذابه، ونعيمه، كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة، وصفتها، ونعيم القبر وعذابه]. تفسير السعدي (ص: 425، 426)، وانظر تفسير ابن رجب الحنبلي (1/ 590)، تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 494).

6) قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}. (طه: 124).

هذه الآية فسرها حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}، قَالَ: ("عَذَابُ الْقَبْرِ"). (حب) (3119)، (صحيح الموارد) (1751)، فالمسألة فيها نص.

[{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي}، أي: كتابي الذي يتذكَّر به جميع المطالب العالية، وأن يتركه على وجه الإعراض عنه، أو ما هو أعظم من ذلك، بأن يكون على وجه الإنكار له، والكفر به -والعياذ بالله-، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}، أي: فإن جزاءه، أن نجعل معيشته ضيقة –فيها- مشقة، ولا يكون ذلك إلاَّ عذابا.

وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر، وأنه يضيق عليه قبره، ويُحصر فيه ويعذَّب، جزاءً لإعراضه عن ذكر ربه، وهذه إحدى الآيات الدالة على عذاب القبر...

والذي أوجب لمن فسرها بعذاب القبر فقط من السلف، وقصرها على ذلك -والله أعلم- آخر الآية.

وأن الله ذكر في آخرها عذاب يوم القيامة.

وبعض المفسرين، يرى أن المعيشة الضنك، عامة في دار الدنيا، بما يصيب المعرض عن ذكر ربه، من الهموم والغموم والآلام، التي هي عذاب معجل، وفي دار البرزخ، وفي الدار الآخرة، لإطلاق المعيشة الضنك، وعدم تقييدها.

{وَنَحْشُرُهُ}، أي: هذا المعرض عن ذكر ربه -يحصل له حشر- {يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} البصر على الصحيح، كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا}]. تفسير السعدي (ص: 515، 516)، وانظر تفسير السمعاني (3/ 361)، تفسير الطبري= جامع البيان ت شاكر (18/ 394).

7) قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. (المؤمنون: 99، 100).

[يخبر -سبحانه و- تعالى عن حال من حضره الموت، من المفرِّطين الظالمين، أنه يندم في تلك الحال، إذا رأى مآله، وشاهد قبح أعماله، فيطلب الرجعة إلى الدنيا، لا للتمتُّع بلذاتها، واقتطافِ شهواتها؛ وإنما ذلك يقول: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} من العمل، و -فيما- فرطت في جنب الله.

-وهنا كلمة- {كَلا}، -كلمة ردع وزجر-، أي: لا رجعة له ولا إمهال، قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون، {إِنَّهَا}، كما ورد في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا}؛ أي: مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا {كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}، أي: مجرد -كلمة، مجرد- قول باللسان، لا يفيد صاحبه إلا الحسرة والندم، وهو أيضا غير صادق في ذلك، فإنه لو رد -إلى الدنيا؛ إلى الذنوب والخطايا والكفر ونحو ذلك-؛ لعادَ لـما نهي عنه.

{وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، -وهذا نصٌّ في هذه الآية على حياة البرزخ، وكلمة وراء من الأضداد يعني تأتي بمعنيين خلف وأمام، والمقصود بها هنا- أي: من أمامهم وبين أيديهم برزخ، و –البرزخ- هو الحاجز بين الشيئين، فهو هنا: الحاجز بين الدنيا والآخرة، وفي هذا البرزخ، يتنعَّم المطيعون، ويعذَّب العاصون، من موتهم إلى يوم يبعثون، أي: فليعدوا له عدته، وليأخذوا له أهبته]. تفسير السعدي (ص: 559)، وانظر تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 31)، تفسير ابن كثير ت سلامة (5/ 495).

8) قال سبحانه: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. (السجدة: 21).

[أي: ولنذيقن الفاسقين المكذبين، نموذجًا -أي نوعا، ومثالاً- من العذاب الأدنى، وهو عذاب البرزخ، فنذيقهم طرفًا منه، قبل أن يموتوا، إما بعذابٍ بالقتل ونحوه، كما جرى لأهل بدر من المشركين، وإما عند الموت، كما في قوله -سبحانه و- تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}، ثم يكمل لهم العذاب الأدنى في برزخهم.

وهذه الآية من الأدلة على إثبات عذاب القبر، ودلالتها ظاهرة، فإنه قال: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى}، أي: بعض وجزء منه، -ليس عذابا كاملا- فدلّ على أن ثَمَّ عذابًا أدنى قبل العذاب الأكبر، وهو عذاب النار]. تفسير السعدي (ص: 656)، وانظر تفسير الطبري= جامع البيان ت شاكر (20/ 191)، تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 356).

[وَلَا مَانِعَ مِنْ دُخُولِ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ...]. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 461).

(وَأخرج هناد عَن أبي عُبَيْدَة فِي قَوْله {ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى} قَالَ: عَذَاب الْقَبْر). الدر المنثور في التفسير بالمأثور (6/ 555)

9) قال سبحانه: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. (الزمر: 42).

[يخبر -سبحانه و- تعالى أنه المتفرد بالتصرف بالعباد، في حال يقظتهم ونومهم –سبحانه-، وفي حال حياتهم وموتهم، فقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} وهذه الوفاة الكبرى، وفاة الموت.

وإخباره أنه يتوفى الأنفس وإضافة الفعل إلى نفسه، لا ينافي أنه قد وكَّل بذلك ملكَ الموت وأعوانُه، كما قال -سبحانه و- تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}، -وقال سبحانه-: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ}؛ لأنه تعالى يضيف الأشياء إلى نفسه، باعتبار أنه الخالق المدبّر، ويضيفها إلى أسبابها، باعتبار أنَّ من سننه -سبحانه و- تعالى وحكمته أن جعل لكل أمر من الأمور سببا.

وقوله: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} وهذه الموتة الصغرى، -فالنوم موتة صغرى-، أي: ويمسك النفس التي لم تمت في منامها، {فَيُمْسِكُ} من هاتين النفسين النفس {الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ}، وهي نفس من كان مات، أو قضي أن يموت في منامه.

{وَيُرْسِلُ} النفس {الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، أي: إلى استكمال رزقها وأجلها.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} على كمال اقتداره، وإحيائه الموتى بعد موتهم.

وفي هذه الآية دليل على أن الروح والنفس جسم قائم بنفسه، مخالف جوهره -أي مادته- جوهر البدن، وأنها مخلوقة مدبَّرة، يتصرّف الله فيها في الوفاة والإمساك والإرسال، وأن أرواح الأحياء والأموات تتلاقى في البرزخ، فتجتمع، فتتحادث، فيرسل الله أرواح الأحياء، ويمسك أرواح الأموات]. تفسير السعدي (ص: 725، 726)، تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 101).

10) قال سبحانه -وتعالى-: {... وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ* النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}. (غافر: 45، 46).

[أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا)، قال: يعرضون عليها صباحا –و- مساء، ويقال لها -أو لهم-: يا آل فرعون هذه منازلكم؛ توبيخا ونقمة وصغارا لهم]. الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (4/ 261).

[وفي البرزخ {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} فهذه العقوبات الشنيعة، التي تحلُّ بالمكذبين لرسل الله، المعاندين لأمره]. تفسير السعدي (ص: 739)، تفسير ابن كثير ت سلامة (7/ 146)، تفسير السمعاني (5/ 23)، تفسير القرطبي (15/ 319).

11) قال سبحانه: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ* يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ* وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. (الطور: 45- 47).

[لما ذكر الله عذاب الظالمين في القيامة، أخبر أن لهم عذابا دون عذاب يوم القيامة، وذلك شامل لِعذاب الدنيا، بالقتل والسبي والإخراج من الديار، و-شامل- لِعذاب البرزخ والقبر، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}، -لأنه يرى في القبر جثثا هامدة، أو جثث متآكلة، فلذلك لا يعلمون حياة القبر وحياة البرزخ-؛ أي: فلذلك أقاموا على ما يوجب -شدة- العذاب، وشدة العقاب]. تفسير السعدي (ص: 818)، تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 356)، تفسير البغوي معالم التنزيل، محقق وموافق المطبوع (11/ 3)، تفسير الطبري (22/ 486).

12) قال سبحانه: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}. (التكاثر: 1، 2).

[دلَّ قوله: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}، أن –حياة- البرزخ دار مقصود منها النفوذ إلى الدار الباقية؛ أن الله سماهم -الناس الذين هم في القبور، {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}، سماهم- زائرين، ولم يسمهم مقيمين -وهم الأموات-]. تفسير السعدي (ص: 934)، وانظر تفسير الطبري= جامع البيان ت شاكر (24/ 580)، تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 474).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في مجموع الفتاوى (4/ 282): [بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة، تُنعَّم النفس وتعذَّبُ منفردةً عن البدن، وتعذَّب متَّصِلةً بالبدن، والبدنُ متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين، كما يكون للرُّوحِ مفردة عن البدن].

يعني العذاب والنعيم عموما ثلاثةُ أنواع؛

فقد يعذَّب الجسد فقط، فإذا تعذّب الجسد فقط أو تنعم كما يحدث الآن فالروح تتعذب أو تتألم تبعا، فمن وُخِزَ بإبرة فالألمُ يحس به الجسد، والرح تتبعه في التألُّم، وإذا تذوق العسل فتتنعم الروح تبعا للجسد.

وقد تعذَّب الروحُ فقط أو تتنعّم، فيتعذّب أو يتنعم الجسد الذي لا نعلم كيفيته تبعا للروح، وهذا ما يحدث في البرزخ؛ فيتعذب البدن وإن كان متناثرا أو متآكلا أو ذراتٍ أو بَدَنٌ الله أعلم به، يتعذبُ أو يتنعم تبعا.

أمَّا أن يُعذَّب الروحُ والجسد معًا، فإمَّا يكون النعيمُ الكاملُ، والعذابُ الكامل، هذا يكون يوم القيامة، بحيث لا انفصال بين الروح والبدن.

وقال رحمه الله -في موضع آخر- (4/ 262): [وإثبات الثواب والعقاب في البرزخ ما بين الموت إلى يوم القيامة؛ هذا قول السلف قاطبةً وأهلِ السنة والجماعة، وإنما أنكر ذلك في البرزخ قليلٌ من أهل البدع].

وهنا شبهة والرد عليها:

هناك نصوصٌ يستدِلُّ بها من لا علم لديه ولا فقه، على عدم وجود حياة الـبرزخ أو حياةٌ بعد الموت، أو عذابٌ أو نعيمٌ في القبر بقوله سبحانه وتعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ} -أي من القبور- {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ* قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ* إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ* فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. (يس: 51– 54).

فيقول بعضهم على اليوتيوب وما شابه ذلك، ولعل بعضهم وهو مهندس، ولا شأن له بالعقيدة والدين، وهو المهندس علي منصور الكيالي؛

انظر الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=y7lC6O8to-I

والرابط: https://www.youtube.com/watch?v=4tau5isJFVI

قال المهندس على منصور الكيالي:

أنا ما أنكر عذاب القبر بل القرآن هو الذي أنكر عذاب القبر...

و[الكافر (ماذا) يقول يوم (البعث) {قالوا يا ويلنا من (بعثنا) من مرقدنا} راقد ومرتاح، يأتي (الجواب): {(هذا) ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} إذا كان الكافر راقد ومرتاح؛ ما بالكم (بالمؤمن)؟ لكن كيف سنفسر ما ورد في سورة غافر قوله تعالى عن الفراعنة: {(النار) يعرضون عليها غدوا وعشياً} يجب أن نميز فعلا بشكل طريف! من يعرض على من؟

حينما (يذهب) الزبون إلى السوق؛ هل الزبون يعرض على البضاعة أم البضاعة تعرض على الزبون؟ -كلام عجيب.

الله يقول سبحانه وتعالى في سورة الكهف: {وعرضنا جهنم (يومئذ) للكافرين عرضا}، لكن قال {(النار) يعرضون عليها}، (إذن) هنالك فرق بين أن الفراعنة يعرضون وبين أن النار تعرض عليهم.

-وينظر على أنه بكلامه هذا استطاع أن يفحم الآخرين، فيقول-: إذن الجواب واضح تماما الله سبحانه وتعالى يوضح الآن للنار من هم (الذين) سيأتون إليها (مثلما) وعد الكافرين بالنار وعد النار بالكافرين.

الله سبحانه وتعالى يقول: {وعرضنا جهنم (يومئذ) للكافرين عرضاً}، فكيف سيراها الكافر آلاف السنين، (ثم) الله -سبحانه وتعالى- يقول: سوف تعرض عليه للمرة الأولى -يوم القيامة- يوم البعث؟ (يومئذٍ) للكافرين عرضاً، لماذا لأن النار حاليا غير مسعرة! قال تعالى صراحة في سورة التكوير: {(وإذا) الجحيم سُعرت} معنى (ذلك) أنها غير مسعرة أصلاً}، -يعني أنها غير مخلوقة الآن-، انتهى كلام مهندس المباني... ذي الجهل الشديد بالتفسير واللغة والعقيدة -والتوحيد- ... والله الموفق.

ردُّ هذه الشبهة:

هذا تفسيره حسب عقله هو وعلمه، وجهالتِه بعلم الحديث والتفسير، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، والسلف الصالح رحمهم الله تعالى، وعلماء أهل السنة والجماعة، فقد قال قولا لم يقل به أحد من علماء أهل السنة والجماعة، والقرآن ليس فيه آية تنفي عذاب القبر، ولا آية معناها ينفي عذاب القبر.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وفي الجملة؛ من عَدَل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم، إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك؛ بل مبتدعا]. (مقدمة التفسير، ص: 38).

أولا: ما ادعاه من راحة الكافر؛ لو راجع أقوال المفسرين لاستفاد وأراح نفسه من التأويلات الباطلة، فالكافر يعذب في قبره إلى نفخة الصعق، ثم يرفع عنه العذاب أربعون سنة ثم إلى نفخة البعث، وكانوا أثناء ذلك كأنهم نيام، في الأربعين سنة هذه قبل يوم القيامة كأنهم نيام، فإذا بعثوا {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}. (يس: 52)، قَالَ الْبُخَارِيُّ =رحمه الله=: (ج6 ص: 122): {مَرْقَدِنَا}: مَخْرَجِنَا.

[قَالَ ابْن عَبَّاس: يرفع عَنْهُم الْعَذَاب مَا بَين النفختين.

وَعَن أبي بن كَعْب قَالَ: ينامون نومَة قبل الْبَعْث.

وَعَن مُجَاهِد قَالَ: يرفع عَنْهُم الْعَذَاب فيهجعون ويرقدون]. تفسير السمعاني (4/ 382).

ودل هذا على أنهم يعذبون إلى نفخة الصعق، نسأل الله السلامة.

[{قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا؟} يَعْنُونَ: مِنْ قُبُورِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ مِنْهَا، فَلَمَّا عَايَنُوا مَا كَذَّبُوهُ فِي مَحْشَرِهِمْ {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا؟} وَهَذَا لَا يَنْفِي =ينافي= عَذَابَهُمْ فِي قُبُورِهِمْ؛ لِأَنَّهُ =العذاب في القبور= بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا بَعْدَهُ فِي الشِّدَّةِ كَالرُّقَادِ، =كما يشعر المعذَّب في القبر كيف كان عذابه في الدنيا؟ يشعر بأن عذابه في الدنيا مهما كان من الآلام والأوجاع والأمراض، يشعر في الآخرة بأنها لا شيء، أو في القبر يشعر بأنه لا شيء، فالنسب تختلف.=

وَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: يَنَامُونَ نَوْمَةً قَبْلَ الْبَعْثِ.

قَالَ قَتَادَةُ: وَذَلِكَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ.

فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا؟}]. تفسير ابن كثير ت سلامة (6/ 581)

و[يعني بقوله: (مِنْ مَرْقَدِنَا ...) من أيقظنا من منامنا، وهو من قولهم: بعث فلان ناقته فانبعثت، إذا أثارها فثارت.

وقد ذُكر أنّ ذلك في قراءة ابن مسعود: (مِنْ أّهَبَّنَاِ مِنْ مَرْقَدِنَا)]. تفسير الطبري ت شاكر (20/ 532).

ثانيا: تفسيرُه -أي صاحب الشبهة- بالعرْض على النار أو عرض النار عليهم، فينكر عذابهم في القبر، والمسألة مسألة عرض، وليس هناك نار مخلوقة حتى الآن وإنما تخلق يوم القيامة! هذا مضمون ما ذكره مخترع الشبهة.

والجواب: الظاهر أنه لم يراجع أهل العلم بالشريعة والعقيدة والتفسير، فما هبَّ على عقله قاله.

قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: [فَقَوْلُ: {يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ}؛ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ يُبَاشِرُونَ حَرَّهَا، =يعرضون على النار، يعني لا يدخلونها، يباشرون حرها فلا أحد يدخل النار قبل يوم القيامة، أما في البرزخ فيباشر حرها،= كَقَوْلِ الْعَرَبِ: عَرَضَهُمُ عَلَى السَّيْفِ إِذَا قَتَلَهُمْ بِهِ، وَهُوَ مَعْنًى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ]. (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) (7/ 227).

ونحن نعلم بما ثبت عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن العبد في قبره يعرض عليه مقعده في الجنة أو النار، كل إنسان يعرض عليه مقعده في الجنة أو النار، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ =رضي الله عنه=، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ("إِنَّ الْمَيِّتَ يَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ، فَيُجْلَسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي قَبْرِهِ، غَيْرَ فَزِعٍ، وَلَا مَشْعُوفٍ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: فِيمَ كُنْتَ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ فِي الْإِسْلَامِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَصَدَّقْنَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ؟ فَيَقُولُ: مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرَى اللَّهَ")، =أي: قبل القيامة، فاعرف عقيدتك أيها المسلم حتى تعرف تجيب يوم القيامة=، ("فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ")، =هذا المؤمن الصالح= ("فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ اللَّهُ")، =هذا مقعدك في النار لو كنت من أهلها= ("ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا، وَمَا فِيهَا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، وَيُقَالُ لَهُ: عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ، وَعَلَيْهِ مُتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ"). (جة) (4268).

وفي رواية للبخاري: ("... فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ، ..."). (خ) (1338)

وعند ابن حبان: ("... ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ") =فالقبر فيه بابان؛ باب النار يغلق عن المؤمن، وباب يغلق عن الكافر وهو باب الجنة=، ("فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْهَا، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا لَوْ عَصَيْتَهُ، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ..."). (حب) (3113).

وفي رواية: ("وَيُجْلَسُ الرَّجُلُ السُّوءُ") =العبد المذنب أو الكافر= ("فِي قَبْرِهِ، فَزِعًا مَشْعُوفًا، فَيُقَالُ لَهُ: فِيمَ كُنْتَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلًا، فَقُلْتُهُ، فَيُفْرَجُ لَهُ قِبَلَ الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا صَرَفَ اللَّهُ عَنْكَ، ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا، يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، عَلَى الشَّكِّ كُنْتَ، وَعَلَيْهِ مُتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى"). (جة) (4268)

وفي رواية عند ابن حبان: ("... ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادُ حَسْرَةً وَثُبُورًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: ذَلِكَ مَقْعَدُكَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهِ لَوْ أَطَعْتَهُ، فَيَزْدَادُ حَسْرَةً وَثُبُورًا، ثُمَّ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، فَتِلْكَ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}"). (طه: 124)، (جة) (4268)، (حب) (3113)، انظر (التعليق الرغيب) (4/ 188- 189)، (أحكام الجنائز) (198- 202).

وثبت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ("إِنَّ أَحَدَكُمْ") =يخاطب الصحابة والمسلمين والناس= ("إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالعَشِيِّ")، =وكلمة الغداة والعشي؛ لا تدل على أن هناك في البرزخ صباحا ومساءً، لكنها تدل على الاستمرارية وعدم الانقطاع، قال:= ("إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ"). (خ) (1379)، (م) 65- (2866).

ثالثا: إنكاره =المشبه الذي يأتي بالشبه= لوجود النار الآن، وأنها لم تخلق بعد، بل تخلق يوم القيامة، وهذا قول مخالفٌ لما تواتر من النصوص على وجود الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان، قبل الإنسان، فالنار مخلوقة وتشتكي بين الحين والحين، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ("اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ"). (خ) (3260)، (م) 185- (617).

ومما يدل على أنها مخلوقة أيضا ما ورد عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِجِبْرِيلَ عليه السلام =في الإسراء والمعراج=: ("مَا لِي لَمْ أَرَ مِيكَائِيلَ ضَاحِكًا قَطُّ؟! قَالَ: مَا ضَحِكَ مِيكَائِيلُ مُنْذُ خُلِقَتِ النَّارُ"). (حم) (13367), الصَّحِيحَة: (2511), صَحِيح التَّرْغِيبِ: (3664)

والجنة مخلوقة مهيّأة أعدها الرحمن الرحيم لعباده المؤمنين، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("قَالَ اللهُ عز وجل: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ، مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ذُخْرًا، بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُمْ اللهُ عَلَيْهِ")، =أي: غير ما أطلعنا الله عليه، فهناك أمور أخرى مخفية للمؤمنين يوم القيامة=، ثُمَّ قَرَأَ: {فلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}"). (السجدة: 17) (خ) (4780)، (م) (2824).

-(بَلْهَ)، أَيْ: دَعْ عَنْك مَا أَطْلَعَكُمْ عَلَيْهِ، فَاَلَّذِي لَمْ يُطْلِعكُمْ عَلَيْهِ أَعْظَم، وَكَأَنَّهُ أَضْرَبَ عَنْهُ اِسْتِقْلَالًا لَهُ فِي جَنْب مَا لَمْ يُطْلِع عَلَيْهِ. (النووي) (17/ 166)-

رابعا: في الرد على الشبهة: القول بأن النار لم تخلق بعد، لقوله تعالى: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ}. (التكوير: 12)، فاستدل بهذه فقال: (معنى ذلك أنها غير مسعَّرة أصلاً!)

الجواب: هذا غير صحيح، فقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ}، ولم يقُل: (وَإِذَا الْجَحِيمُ خُلقت)، فهي مخلوقة ولكنها تسعَّر، فمعنى سعّرت؛ أي: زيد في إيقادها شدَّةً عمّا كانت عليه، فـ[النَّارُ الْمُسَعَّرَةُ؛ أَيْ: الْمُوقَدَةُ إِيقَادًا شَدِيدًا؛ لِأَنَّهَا بِشِدَّةِ الْإِيقَادِ يَزْدَادُ حَرُّهَا عِيَاذًا بِاللَّهِ =سبحانه وتعالى= مِنْهَا، وَمِنْ كُلِّ مَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ]. (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) للشنقيطي (4/ 263).

***

حياة الإنسان في القبور:

هي حياةٌ برزخية لا يعلم كيفيتها إلا الله سبحانه وتعالى، وهي ثابتة في الحديث بالتواتر.

وهي حياة غيبيّةٌ لا كالحياة الدنيا، فلا يُؤكل فيها طعام مثل طعامنا، ولا يُشرب فيها شراب مثل شرابنا، ولا يَشعر فيها بمتعة ولا لذة كما نشعر في الدنيا، ولا يَصدر صوتُ نسمعه، ولا حركة نراها.

بل في هذه الحياةٌ أجسادٌ تتآكلُ فلا أرواح متصلة بها، وتتحوَّل إلى ذرات تُجمع يوم القيامة، وتَرجِع إليها الأرواح، ولكنّ الأرواحَ هي التي تتنعَّم أو تتعذّب والأجساد المتآكلة، وذراتها المتناثرة تتنعّم وتتعذّب تبعًا للأرواح، أو تكون أجسادٌ لا نعلم كيفيتها لتلك الأرواح، والأرواح هي هي، فالروح التي دخلت في الجنين هي الروح التي فينا الآن وعندما ننام، هي نفس الروح التي تتعلق بالجسد في القبر، هي نفس الروح التي تعاد في الأجساد في الآخرة.

والذي تغيَّر أو تبدل أو تجدد بكيفية يعلمها الله جل جلاله، أجسادنا اليوم؛ جسدي وجسدك هل هي هي أجسادنا عندما كنا أجنّة؟

هل أجسادنا ونحن صغار كأجسادنا ونحن كبار؟

فإذا كان هذا غيرَ مستغرب؛ كيف نستغرب جسدا يوافق حياة البرزخ، وجسدا آخر يوافق الحياة السرمدية، لذلك في يوم القيامة قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}. (النساء: 56)

وإذا كان ("ضِرْسُ الْكَافِرِ")، =السن المتأخر= ("أَوْ نَابُ الْكَافِرِ مِثْلُ أُحُدٍ")، =الجبل المعروف طوله ثماني كيلو متر تقريبا، وارتفاعه تقريبا كيلو ونصف،= ("وَغِلَظُ جِلْدِهِ مَسِيرَةُ ثَلَاثٍ"). (م) 44- (2851)، =أي ثلاث ليالٍ=، و(«مَا بَيْنَ مَنْكِبَيِ الكَافِرِ مَسِيرَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ للرَّاكِبِ المُسْرِعِ»). (خ) (6551).

الروح هي الروح ما تغيرت، فالله على كلِّ شيء قدير.

فإذا قلنا: الأرواحُ كالأجساد مثلا، والأجساد كالثياب، نشبه أن الجسد ثوبٌ، فالثياب التي تلبسها الأجساد تتغيَّر وتتجدَّد، والأجسادُ هي هي، فالأرواح ثابتة، والأجساد تتبدَّل وتتغيّر.

فالحياة البرزخية تتبدَّل فيها الأجساد الدنيوية، إلى أجساد لا نعلم كيفيتها، والروح هي الروح.

فالأرض تأكل الأجساد، ولا يبقى من المخلوق عندما تخرج منه الروح إلا عَجْبُ الذنّب، كما ورد في الحديث، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ("وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى، إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"). (خ) (4935)، (م) 141- (2955)

وفي رواية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ("كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُهُ التُّرَابُ، إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، مِنْهُ خُلِقَ، وَفِيهِ يُرَكَّبُ"). (م) 142- (2955).

فعجب الذنَب، بفتح العين وسكون الجيم، هو آخر عظمة من العمود الفقري بالنسبة للإنسان.

سؤال: [فإن قلت: ما الحكمة في بقائه؟ =لـِمَ لَـمْ تتناثرْ ولم تتآكل هذه القطعة عجب الذنب مثل بقية الجسد؟ الجواب=:

قلت =والقائل الكوراني=: الظاهر والله أعلم؛ أن يصدُق عليه اسم الإعادة؛ إذ لو تلاشت =عظام عجب الذنب، أو= الأجزاء كلُّها كان إنشاءٌ آخر لا إعادة]. (الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري)، لأحمد بن إسماعيل بن عثمان بن محمد الكوراني الشافعي ثم الحنفي، المتوفى (893هـ) (8/ 253).

والله يقول: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}. (الأنبياء: 104)، فالإعادة هناك أصل موجود ويعاد، أما الشيء الجديد فهذا إنشاء.

والروح يطلق عليها النفس أحيانا؛ فـ[قد خَاطب اللهُ سُبْحَانَهُ =وتعالى= النَّفس؛ بِالرُّجُوعِ وَالدُّخُول وَالْخُرُوج، ={يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ}. (الفجر: 27)، خطاب لها=، ودلت النُّصُوص الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة على أنها تَصعد وتَنزل، وتُقبَض وَتُمسك وَتُرسل، وتُستفتَح لَهَا أَبْوَاب السَّمَاء، وتَسجُد وتَتكلم.

وَأَنَّهَا تَخرج تسيلُ كَمَا تسيل القطرة، وتُكفّن =ويكفنها الملائكة=، وتُحنَّط فِي أكفان الْجنَّة أَوْ النَّار، وأنّ ملك الْمَوْت يَأْخُذهَا بِيَدِهِ، =إذا في جسم موجود=، ثمَّ يَتَنَاوَلهَا الْمَلَائِكَة من يَده، ويُشَمُّ لَهَا كأطيب نفحة مسك، أَو كأنتن جيفة، وتُشيّع من سَمَاء الى سَمَاء، ثمَّ تُعَاد إلى الأرض مَعَ الْمَلَائِكَة، وَأَنَّهَا إِذا خرجت تَبِعها الْبَصَرُ =إذن تُرَى= حَيْثُ يَرَاهَا، وَهِي خَارِجَة.

وَدلّ الْقُرْآن على أَنَّهَا تنْتَقِلُ من مَكَان إِلَى مَكَان، حَتَّى تبلغ الْحُلْقُوم؛ =يعني تخرج من الأقدام حتى ترتفع في الجسد وتصل إلى الحلقوم= فِي حركتها.

وَجَمِيع مَا ورد من الأدلة الدَّالَّة على تلاقي الأرواحِ وتعارفِها، وأنها أجنادٌ مجندة؛ إلى غير ذَلِك ... =يؤكد الحياة البرزخية.=

وَقد شَاهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الأرواح لَيْلَة الاسراء، عَن يَمِين آدم وشماله، وَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنّ نَسمَة؛ =أي الروح النفس= الْمُؤمن طَائِرٌ يعلُق =أي يأكل ويرتع= فِي شجر الْجنَّة، وَأَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طيرٍ خُضْر، وَأخْبر تَعَالَى عَن أَرْوَاح آل فِرْعَوْن؛ أَنَّهَا تعرض على النَّار غدوًّا وعشيا]. (توضيح المقاصد شرح الكافية الشافية نونية ابن القيم)، لأحمد بن إبراهيم بن حمد بن محمد بن حمد بن عبد الله بن عيسى، (المتوفى: 1327هـ)، (1/ 108، 109).

لذلك يعرض على أهل القبور منازلهم ومقاعدهم في الآخرة صباحا ومساء عرضا لا ينقطع: فقد ورد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ("إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ"). (خ) (1379).

وفي الحياة الدنيا الأجساد تتنعم وتتعذب والأرواح تبعٌ لها كما قلنا.

وأما في الآخرة؛ فالعذاب والنعيم يقع على الأرواح والأجساد معا.

أما بعد الموت؛ فكلام الأموات يدلُّ على نوعٍ من الحياة؛ لكنّا لا نعلم كنهها ولا حقيقتها، وهي حياةُ البرزخ، ومن ذلك مخاطبةُ الميِّتِ لمن يحمله، بكلامٍ لا نسمعه، كما قال صلى الله عليه وسلم: ("إِذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ، وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً؛ قَالَتْ: قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ؛ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا! أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟! يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ"). (خ) (1314).

***

بدايةُ الحياةِ البرزخية، واستمرارُها إلى يوم القيامة:

سبق الكلام عن إثبات عذاب القبر أو نعيمه، وعن حياة البرزخ من القرآن الكريم، ورددنا على شبهة في ذلك أو شبهات.

والآن جاء دورُ الحديث عن حياة البرزخ من بدايتها إلى نهايتها من الأحاديث النبوية الصحيحة، في حوالي عشرين بندا:

أولا: قبض الروح:

وهذا عند انتهاء الأجل، وقربِ لحظة الموت، يأتيه ملكُ الموتُ فينادي روح المؤمن قائلا: ("... أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ"). قَالَ: («فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ")، =الذي هو من الجنة= ("وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ،...")، قَالَ: ("فَيَصْعَدُونَ بِهَا، ...»). (حم) (18534).

وفي رواية: ("... فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ مِسْكٍ حَتَّى إِنَّهُمْ لِيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا يَشُمُّونَهُ، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ السَّمَاءِ، ..."). (س) (1833).

يعني من فرحهم به كأنه عروس، تزفُّه الملائكة.

وينادي ملكُ الموت روحَ الكافر قائلا: ("أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ"، قَالَ: "فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ") =يعني تنتشر في الجسد ولا تريد أن تخرج=، ("فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ")، =سَفُّودٌ؛ كَتَنُّورٍ، ويُضمّ: حَدِيدةٌ ذاتُ شُعَبٍ مُعَقَّفَة؛ يُشْوَى بهَا ... اللَّحْمُ، وجَمْعه: سَفافِيدُ. تاج العروس (8/ 208)=، ("فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ")، =وهي من النار والعياذ بالله=، ("وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، ..."). (حم) (18534).

إذن؛ هذه المرحلة الأولى، وهي قبض الروح.

ثانيا: الصعود بالروح إلى بارئها:

فيصعدون بروح المؤمن إلى السماء في موكب مهيب، كأنه عروس تُزَفّ:

قَالَ: (" فَيَصْعَدُونَ بِهَا") =أي: الملائكة= ("فَلَا يَمُرُّونَ -يَعْنِي بِهَا- عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِه الرّوح") =وتذكر وتؤنث هذه الروح وهذا الروح= ("الطّيب فَيَقُولُونَ: فلَان بن فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى ينْتَهوا بهَا إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا فيستفتحون لَهُ، فَيفتح لَهُ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى ينتهى بهَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ؛ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أخرجهم تَارَة أُخْرَى"). مشكاة المصابيح (1/ 512، 515)، ح (1630) (صَحِيح)

وَفِي رِوَايَة: أن المؤمن ("إِذَا خَرَجَ رُوحُهُ؛ صَلَّى عَلَيْهِ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ، وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ؛ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ إِلَّا وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ؛ أَنْ يُعْرَجَ بِرُوحِهِ مِنْ قِبَلِهِمْ"). مشكاة المصابيح (1/ 512، 515)، ح (1630) (صَحِيح).

وأما روح الكافر: والعياذ بالله؛ قَالَ: ("فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرّوح الْخَبيث؟ فَيَقُولُونَ: فلَان بن فُلَانٍ -بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا-، حَتَّى يَنْتَهِي بهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ")، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سمِّ الْخياط}، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّين فِي الأَرْض السُّفْلى فتطرح روحه طرحا")، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيح فِي مَكَان سحيق}).

وفي رواية: ("وَتُنْزَعُ نَفْسُهُ -يَعْنِي الْكَافِرَ- مَعَ الْعُرُوقِ، فَيَلْعَنُهُ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ؛ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ إِلَّا وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ؛ أَنْ لَا يُعْرِجَ رُوحَهُ مِنْ قبلهم"). (حم) (18614)، وصححه الألباني في المشكاة: (1630).

ثالثا: عودة الروح إلى بدن الميت للحياة البرزخية، وسؤال الملكين:

بعد قبض الروح والصعود بها، تعود إلى جسد الميت، في أسرع من لمح البصر، فعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ =رضي الله عنه=: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ("المُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي القَبْرِ: يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}"). (إبراهيم: 27)، (خ) (4699).

وهذا يدل على الحياة البرزخية بعد الموت، فعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله =تعالى= عنه قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ، وَقَفَ عَلَيْهِ)، فَقَالَ: ("اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ؛ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ"). (د) (3221)، (ك) (1372)، (هق) (6856)، انظر صَحِيح الْجَامِع: (945)، صَحِيح التَّرْغِيبِ (3511). -أَيْ: أَنْ يُثَبِّتَهُ اللهُ فِي الْجَوَاب. عون المعبود (7/ 208).-

فعندما يقول الله لروح المؤمن: ("اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ؛ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أخرجهم تَارَة أُخْرَى"). قَالَ: ("فتعاد روحه فيأتيه ملكان فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولُونَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ الله فَيَقُولُونَ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُول: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ، فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ")، =هذا هو العلم الحقيقي؛ قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت=، ("فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاء: أَن قد صدق، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ"). مشكاة المصابيح (1/ 512، 515)، ح (1630) (صَحِيح).

جواب الكافر عن سؤال الملكين:

عندما يصعدون بروح الكافر ("... حَتَّى يَنْتَهِي بهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ")، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سم الْخياط}، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّين فِي الأَرْض السُّفْلى فتطرح روحه طرحا").

فنلاحظ هنا؛ أن أرواح المؤمنين في عليين، وكتابَهم في عليين، فوق السماء السابعة.

و أما كتاب الكفار وأرواح الكفار في سجين، في الأرض السابعة.

=نرجع إلى الحديث ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيح فِي مَكَان سحيق}، =حتى الكافر= ("فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ...").

("... وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي! فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي! فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي!") =وكلمة هاه؛ كأنه يريد أن يتذكر شيئا ليقوله، فيستعيدُ السؤال مرة ومرة، هاه هاه لا أدري=، ("فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَن كذب عَبدِي، فأفرشوا لَهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ حَرُّهَا وَسَمُومُهَا...").

رابعا: المؤمن في قبره في روضة من الرياض:

فبعد أن يجيب العبد الصالح عن أسئلة الملائكة: ("فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ قَدْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ")، =نعيم ومتعة= ("وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ")، قَالَ: («فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا") =فتعرض عليه ولم يدخلها الآن، ولكن يتنعّم بما يهبُّ عليه من روحها ما يستمتع به في قبره، فيأتيه من ريحها الطيبة= ("وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ»، قَالَ: ("وَيَأْتِيهِ") =أي يأتي الميت بالنسبة لنا، الحي حياة برزخية، يأتيه= ("رجلٌ حسن الْوَجْه، حسن الثِّيَاب، طيب الرّيح، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ! هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ! فَيَقُولُ") =العبد الصالح= ("لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟! فَوَجْهُكَ الْوَجْه يَجِيء بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي"). مشكاة المصابيح (1/ 512، 515)، ح (1630).

أما قبر الكافر فحفرة من حفر النيران:

فبعد سؤال الملكين وإجابةِ الكافر؛ ("ينادي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَن كذب عَبدِي، فأفرشوا لَهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ حَرُّهَا وَسَمُومُهَا")، =وهذا من عرضهم على النار في القبور، لكن لم يحن وقت دخولها، فالآن يذوقون من عذاب سمومها=، ("وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ؛ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يسوؤك، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟! فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ! فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ"). مشكاة المصابيح (1/ 514، 515)

فقبر المؤمن فسيحٌ منوّر، وقبرُ الكافر ضيّق مظلم.

وكلُّ قبر فيه بابان؛ بابٌ إلى الجنة وباب إلى النار، فقبرُ المؤمن باب الجنة فيه مفتوح، (فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا)، وباب النار عنه مغلق.

بينما قبر الكافر بابه مفتوح إلى النار، (فَيَأْتِيهِ حَرُّهَا وَسَمُومُهَا)، وهذا نتيجةَ العرضِ عليه، وباب الجنة عنه مغلق.

جليسُ المؤمن عملُه الصالح في هيئة؛ (رجل حسن الْوَجْه، حسن الثِّيَاب، طيب الرّيح).

وجليس الكافر عمله السيئ، على هيئة (رَجُلٍ قَبِيحِ الْوَجْهِ، قَبِيحِ الثِّيَابِ، مُنْتِنِ الرِّيحِ).

خامسا: عذاب القبر عذاب حقيقي، تتعذب الروح أصلا، والجسد يتعذّب تبعاً:

فقد ورد عَنْ أَنَسٍ =رضي الله عنه=؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ("لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"). (م) 68- (2868)، فلو كان عذابُ القبر معنويا؛ لما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حاول إسماعنا إياه، فلو أسمعنا صراخَهم؛ -أي: صراخ الميت في الحقيقة- وهم يحملونه على ظهره وصوته فهل يدفنونه؟

فلو أسمعنا أصواتَهم لما كان من الغيب، ولما حصل التدافن، فكيف ندفن من نسمعه يصرخ ويتألَّم، ويستنجدُ ويستغيث؟!

فها هو صلى الله عليه وسلم لـمَّا سمعَ عذابَ الموتى وصراخَهم تأثَّر فتغيَّر لونه، وارتجفت يداه؛ -بأبي هو وأمِّي صلى الله عليه وسلم- فكيف لو سمعناه نحن؟!

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ =رضي الله تعالى عنه=، قَالَ: (كُنَّا نَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَرْنَا عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَامَ)، =أي: وقف= (فَقُمْنَا مَعَهُ، فَجَعَلَ لَوْنُهُ يَتَغَيَّرُ حَتَّى رَعَدَ كُمُّ قَمِيصِهِ)، =أي: رجف واضطرب.=

فَقُلْنَا: (مَا لَكَ يَا نَبِيَّ اللَّه!)؟ قَالَ: ("مَا تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ؟!") قُلْنَا: (وَمَا ذَاكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟!) قَالَ: ("هَذَانِ رَجُلَانِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا عَذَابًا شَدِيدًا فِي ذَنْبٍ هَيِّنٍ")، قُلْنَا: (مِمَّ ذَلِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟!) قَالَ: ("كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَنْزِهُ مِنَ الْبَوْلِ، وَكَانَ الْآخَرُ يُؤْذِي النَّاسَ بِلِسَانِهِ، وَيَمْشِي بَيْنَهُمْ بِالنَّمِيمَةِ")، فَدَعَا بِجَرِيدَتَيْنِ مِنْ جَرَائِدِ النَّخْلِ، فَجَعَلَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، قُلْنَا: (وَهَلْ يَنْفَعُهُمَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟!) قَالَ: ("نَعَمْ! يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا دَامَا رَطْبَتَيْنِ"). (حب) (824) (التعليق الرغيب) (1/ 87- 88).

وفي رواية: («إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ فِي الْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ»). (حم) (20411).

سادسا: الميت في حياته البرزخية، يسمع قرع نعال أهله، ويتكلَّم مع الملكين، ويجيبُ عن أسئلتهم، ويُضرب بالمقامع؛ إن كان يستحقُّه، ويصرخ:

فعَنْ أَنَس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ("العَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ، فَأَقْعَدَاهُ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؛ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ")، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ("فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا الكَافِرُ -أَوِ الـمُنَافِقُ- فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ"). (خ) (1338).

قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ("فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، ..."). (خ) (1338)، (م) 70- (2870)، يدلّ على الحقيقة؛ أي حقيقة العذاب، وليس معنىً من المعاني، وكذلك إسماعُ صيحتِه للمخلوقات إلا الثقلين، كلها أشياء حقيقية؛ أي: أن الإنس والجن لا يسمعون صراخ المعذبين؛ لأنه من علم الغيب بالنسبة لهما.

أما غير الثقلين فيسمعون، وممَّن تأثَّر من عذابِ القبرِ البغلةُ التي كان يركبها صلى الله عليه وسلم، فقد سمعت صراخ موتى، فجفلت:

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ =رضي الله عنه=، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: (وَلَمْ أَشْهَدْهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ حَدَّثَنِيهِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ) =أي: بستان وحديقة= (لِبَنِي النَّجَّارِ، عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ، إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ، وَإِذَا أَقْبُرٌ)؛ =جمع قبر، ويسمونه جمع الجمع، قبور أقبر= (سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ) -قَالَ: كَذَا كَانَ يَقُولُ الْجُرَيْرِيُّ- فَقَالَ =عليه الصلاة والسلام=:

("مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ؟!") فَقَالَ رَجُلٌ: (أَنَا!) قَالَ =عليه الصلاة والسلام=:

("فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ؟") قَالَ: (مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ)، =أي ماتوا على الكفر=، فَقَالَ: ("إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا؛ لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ"). ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: ("تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ")، قَالُوا: (نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ)، فَقَالَ: ("تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ")، قَالُوا: (نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ)، قَالَ: ("تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ")، قَالُوا: (نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)، قَالَ: ("تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ") قَالُوا: (نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّال). (م) 67- (2867).

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: [... إذَا أَصَابَ الْخَيْلَ مَغَلٌ؛ =وهو نوع من أمراض الدواب التي تأكل الأعشاب بالتراب، فيصبح عندها تحجُّر وتيبسٌ في أمعائها فتحتاج إلى إسهال، والإسهال يأتي من الخوف، فإذا حدث ذلك لخيلهم وبغالهم=، ذَهَبُوا بِهَا إلَى قُبُورِ النَّصَارَى بِدِمَشْقَ، وَإِنْ كَانُوا بِمَسَاكِنِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالنُّصَيْرِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا، ذَهَبُوا بِهَا إلَى قُبُورِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا بِمِصْرَ ذَهَبُوا بِهَا إلَى قُبُورِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ لِهَؤُلَاءِ الْعُبَيْدِيِّينَ الَّذِينَ قَدْ يَتَسَمَّوْنَ بِالْأَشْرَافِ، وَلَيْسُوا مِنْ الْأَشْرَافِ، وَلَا يَذْهَبُونَ بِالْخَيْلِ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛... =فيعالجونها بالذهاب بها إلى هذه القبور، ليس لقبور الأنبياء والصالحين.=

وَقَدْ ذُكِرَ سَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ الْكُفَّارَ يُعَاقَبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَتَسْمَعُ أَصْوَاتَهُمْ الْبَهَائِمُ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ =صلى الله عليه وسلم= بِذَلِكَ؛ أَنَّ الْكُفَّارَ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، ... فَإِنَّ الْبَهَائِمَ إذَا سَمِعَتْ ذَلِكَ الصَّوْتَ الْمُنْكَرَ، أَوْجَبَ لَهَا مِنْ الْحَرَارَةِ مَا يُذْهِبُ الْمَغَلَ، وَكَانَ الْجُهَّالُ يَظُنُّونَ أَنَّ تَمْشِيَةَ الْخَيْلِ عِنْدَ قُبُورِ هَؤُلَاءِ؛ لِدِينِهِمْ وَفَضْلِهِمْ، =هكذا يقول الناس=، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ يُمَشُّونَهَا عِنْدَ قُبُورِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالنُّصَيْرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ دُونَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، =وغيرها عرفوا أنه عذاب البرزخ، وأن هذا بسبب العذاب، فيصيبها الخوف والفزع فتسهل ويذهب عنها ما هي فيه=، وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ؛ أَنَّهُمْ لَا يُمَشُّونَهَا عِنْدَ قَبْرِ مَنْ يُعْرَفُ بِالدِّينِ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَغَيْرِهَا؛ إنَّمَا يُمَشُّونَهَا عِنْدَ قُبُورِ الْفُجَّارِ وَالْكُفَّارِ: تَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَا كَانَ مُشْتَبِهًا]. (الفتاوى الكبرى) لابن تيمية (3/ 499، 500).

والمغل: [إذا أكلَ الترابَ مع البقل فاشتكى بطنه]. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (5/ 1819).

وعندما كنت أحضّر هذا الموضوع، وكنت مع بعض الإخوة أتدارس في هذه الأمر، أخبرني أخي الشيخ أبو حسن/ محمد فضة، وهو من رفح وكان من سكان الجموم بمكة المكرمة، سابقا، قال: كنت أرعى غنما من الماعز، فإذا اقتربت من القبور ترعى، فإذا بها تنفِر وتهرب فجأة، وتكرر منها ذلك النفور وهذا الهرب أكثر من مرة، والله تعالى أعلم.

سابعا: الإنسان في حياته البرزخية يسمع ولا يجيب:

فأهل القبور يرد الله عليهم أرواحهم إذا شاء فيسمعون ولكنهم لا يجيبون، فقد ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ؛ إِلَّا رَدَّ اللهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ"). (د) (2041), (حم) (10827).

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يسلِّم على أهل القبور، ويدعو لهم، وثبت أنّ كفارَ القَلِيب في غزوةِ بدر، قد سمعوا توبيخ النبي صلى الله عليه وسلم لهم، عندما قَالَ: («وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا!؟») فَقِيلَ لَهُ: (تَدْعُو أَمْوَاتًا؟!) فَقَالَ: («مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لاَ يُجِيبُونَ»). (خ) (1370).

وفي رواية: («إِنَّهُمُ الآنَ يَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ»). (خ) (3980).

وفي رواية: ("أَمَا وَاللَّهِ إِنَّهُمُ الْآنَ لَيَسْمَعُونَ كَلَامِي"). (حم) (4864).

وَعند سؤال الفتَّان؛ ما معنى الفتان؟ هو الملك الذي يسأل، فتُرَدُّ على الموتى عقولُهم، فالميت إذا مات يُردُّ عليه عقله عند السؤال، فـعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله =تعالى= عنهما قَالَ: (ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَّانَ الْقُبُورِ)، =وهي صفة الملك، ومنظره وجزالةُ صوته.=

فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: (يَا رَسُولَ اللهِ! أَتُرَدُّ عَلَيْنَا عُقُولُنَا؟!) =يعني هذا شيء يذهب العقل، فالشيء المخيف يذهب العقل.=

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("نَعَمْ! كَهَيْئَتِكُمْ الْيَوْمَ")، فَقَالَ عُمَرُ: (بِفِيهِ الْحَجَرُ). (حم) (6603), (حب) (3115)، انظر صَحِيح التَّرْغِيبِ (3553)، وقال الأرناؤوط في (حب): إسناده حسن.

كلمة بفيه الحجر معناها يلقي إليه الجواب كما ألقي حجرا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ خَفْقَ النِّعَالِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا، فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ؛ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ، حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ}، =وكذلك أثبت هذا ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه، فقال:= صَحَّ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]. مجموع الفتاوى (24/ 173). وهذه الرواية اختلف في تصحيحها العلماء، فضعفها الألباني وصححها ابن عبد الحق وابن عبد البر.

ثامنا: رأى النبي صلى الله عليه وسلم النارَ تشتعل بصاحب شملة أو عباءة سرقت من الغنيمة قبل قسمتها:

وهذه رآها رأي عين عليه الصلاة والسلام، فقد ثبت أن أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: (افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ، وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً، إِنَّمَا غَنِمْنَا البَقَرَ وَالإِبِلَ وَالـمَتَاعَ وَالحَوَائِطَ)، =أي: البساتين= (ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَادِي القُرَى، وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ، أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ)، =أي: سهم طائش= (حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ العَبْدَ)، فَقَالَ النَّاسُ: (هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: («بَلْ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا»)، =يعني قتل من ها هنا، والنار بدأت في البرزخ من ها هنا، فهذا عذاب القبر=، (فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ)، =سَيْرُ أو جِلد يستخدم للحزام وما شابه ذلك، هذا أخذه قبل القسمة أيضا مثله=، فَقَالَ: (هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: («شِرَاكٌ -أَوْ شِرَاكَانِ- مِنْ نَارٍ»). (خ) (4234).

وقد يقال: إن هذا ربما يكون يوم القيامة! يحتمل؛ لكن جاء في رواية عند ابن حبان كلمة (الآن): قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ("وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، الشَّمْلَةُ لَتَحْتَرِقُ عَلَيْهِ الْآنَ فِي النَّارِ غَلَّهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ خَيْبَرَ")، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَا رَسُولَ اللَّهِ (أَصَبْتُ يَوْمَئِذٍ شِرَاكَيْنِ)، قَالَ: ("يُعَدَّدُ لَكَ مِثْلُهُمَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ"). (حب) (4852)، (صحيح أبي داود) (2428).

ومما يوضح ذلك؛ -أي: عذاب القبر- ما ثبت عَنْ أَبِي رَافِعٍ =رضي الله عنه= قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَيَتَحَدَّثُ عِنْدَهُمْ حَتَّى يَنْحَدِرَ لِلْمَغْرِبِ)، قَالَ أَبُو رَافِعٍ: (فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْرِعُ إِلَى الْمَغْرِبِ، مَرَرْنَا بِالْبَقِيعِ)، =فمن رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة؟ أبو رافع،= فَقَالَ: ("أُفٍّ لَكَ، أُفٍّ لَكَ!"). قَالَ: (فَكَبُرَ ذَلِكَ فِي ذَرْعِي)، =النبي يخاطبني صلى الله عليه وسلم بلفظ أفٍّ لك=، (فَاسْتَأْخَرْتُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُرِيدُنِي)،

فَقَالَ: ("مَا لَكَ امْشِ"). فَقُلْتُ: (أَحْدَثْتَ حَدَثًا؟) قَالَ: ("مَا ذَاكَ؟!") قُلْتُ: (أَفَّفْتَ بِي؟!) قَالَ: ("لَا! وَلَكِنْ هَذَا فُلَانٌ بَعَثْتُهُ سَاعِيًا عَلَى بَنِي فُلَانٍ فَغَلَّ نَمِرَةً فَدُرِّعَ الْآنَ مِثْلُهَا مِنْ نَارٍ"). (س) (862).

تاسعا: عذاب القبر لمن لم ينوِ قضاء الديون:

بعض الناس يتداين ولا ينوي القضاء، فهذا يعذب في بره قبل يوم القيامة، وهذا ما ثبت عَنْ جَابِرٍ =رضي الله عنه=، قَالَ: (تُوُفِّيَ رَجُلٌ فَغَسَّلْنَاهُ، وَحَنَّطْنَاهُ، وَكَفَّنَّاهُ، ثُمَّ أَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَيْهِ)، فَقُلْنَا: (تُصَلِّي عَلَيْهِ؟!) فَخَطَا خُطًى)، =عليه الصلاة والسلام=، ثُمَّ قَالَ:

(«أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟») قُلْنَا: (دِينَارَانِ)، فَانْصَرَفَ، فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ، فَأَتَيْنَاهُ، فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: (الدِّينَارَانِ عَلَيّ)َ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: («حَقُّ الْغَرِيمُ، وَبَرِئَ مِنْهُمَا الْمَيِّتُ؟») قَالَ: (نَعَمْ!) فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ: («مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ؟!») فَقَالَ: (إِنَّمَا مَاتَ أَمْسِ!) =يعني أنه مات قريبا، ما مَرَّ وقتٌ طويل=، قَالَ: (فَعَادَ إِلَيْهِ مِنَ الْغَدِ)، فَقَالَ: (لَقَدْ قَضَيْتُهُمَا).

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: («الْآنَ بَرَّدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ»). (حم) (14536)، (ك) (2346)، (طل) (1673)، (هق) (11187)، (الإرواء) (1416)، صَحِيح الْجَامِع: (2753).

فكلمة الآن يدل على العذاب الواقع في البرزخ.

عاشرا: ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج من عذاب المعذَّبين في الحياة البرزخية:

وهم أنواع؛ فقد رأى من تقرض شفاههم بمقاريض من نار؛ مقصات من النار، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا قُرِضَتْ وَفَتْ")، =أي: رجعت مرة أخرى.=

("فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يا جبريل؟! مَنْ هَؤُلَاءِ؟! قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ؛ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَقْرَؤُنَ كِتَابَ اللهِ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهِ"). (هب) (1773)، صَحِيح التَّرْغِيبِ (125)، وصَحِيح الْجَامِع: (129).

وفي رواية: ("هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ؛ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ، أَفَلَا يَعْقِلُونَ؟!"). (حم) (12879)، (حب) (53)، تخريج فقه السيرة، (138)، (يع) (3992)، (الصحيحة) (291).

ورأى صلى الله عليه وسلم في الحياة البرزخية من يثلغ رأسه بالحجر:

يُدقُّ ويُضرب رأسه بحجر، وهذا ما ثبت عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّؤْيَا =التي رآها=، قَالَ: («أَمَّا الَّذِي يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالحَجَرِ؛ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفِضُهُ، وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاَةِ الـمَكْتُوبَةِ»). (خ) (1143).

ورأى النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج من يخمش وجهه وصدره بأظافر من نحاس:

فعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("لَمَّا عُرِجَ بِي، مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟! قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ"). (د) (4878)، (حم) (13364)، صحيح الجامع: (5213)، والصحيحة: (533).

الحادي عشر: في حياة البرزخ حيواناتٌ مخيفة ومخلوقات مرعبة تعذِّب ساكني القبور من الكفار:

فقد سأل صلى الله عليه وسلم أصحابه: ("أَتَدْرُونَ فِيمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}. (طه: 124)، أَتَدْرُونَ مَا الْمَعِيشَةُ الضَّنْكَةُ؟!") قَالُوا: (اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ!) قَالَ: ("عَذَابُ الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ إِنَّهُ يُسَلَّطَ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا، أَتَدْرُونَ مَا التِّنِّينُ؟ سَبْعُونَ حَيَّةً، لِكُلِّ حَيَّةٍ سَبْعُ رُءُوسٍ يِلْسَعُونَهُ، وَيَخْدِشُونَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"). (حب) (3122)، (يع) (6644)، انظر (التعليق الرغيب) (4/ 182) صَحِيح التَّرْغِيبِ (3552)، صحيح موارد الظمآن: (651)، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن.

[[99تنين × 70حية= 6930حية × 7رؤوس لكل حية، فيكون المجموع 48510رأس]]. نسأل الله السلامة، إذا كان الإنسان يخاف من حنش صغير في بيته؛ فكيف بهذا الحيوان الضخم في البيت الذي لا يعلم مداه إلا الله.

الثاني عشر: أخبرنا صلى الله عليه وسلم بأن في البرزخ الآن من يعذَّب بالغوص في الأرض كلّ يوم إلى يوم القيامة:

كما ثبت عن ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: («بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الخُيَلاَءِ، خُسِفَ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»). (خ) (3485)

وفي رواية قَالَ: ("بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ، يَمْشِي فِي بُرْدَيْهِ، قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ")، =فالخيلاء والعُجب والتبختُر عقابه الخسف، ("فَخَسَفَ اللهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"). (م) 50- (2088)

وفي رواية عن أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ...: («بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ، تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ، إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»). (خ) (5789)

وفي رواية بيَّنَت هذا الرجل، وهو شابٌّ حَدَثٌ، فقد ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: («بَيْنَمَا رَجُلٌ شَابٌّ، يَمْشِي فِي حُلَّةٍ يَتَبَخْتَرُ فِيهَا؛ مُسْبِلًا إِزَارَهُ، بَلَعَتْهُ الْأَرْضُ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»). (حم) (10383).

-وَمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأكُلُ جَسَدَ هَذَا الرَّجُل، فَيُمْكِن أَنْ يُلْغَز بِهِ، فَيُقَال: كَافِرٌ لَا يَبْلَى جَسَدُهُ بَعْدَ الْمَوْت. (فتح الباري).-

ويُسْتَدَلُّ من هذا الحديث على أن عذاب القبر قد يقع على البدن والروح معًا. ع-

هذه بعض النصوص الصحيحة الثابتة التي تدلُّ صراحةً على أن في القبر بعد الموت حياةً وهي حياة البرزخ، يعذب فيها الكفار وبعض العصاة، عذابا يقع على الروح فيتأذّى منه الجسد ويتألَّـم.

الثالث عشر: كذلك هناك في حياة البرزخ نعيمٌ يصيبُ الروحَ فتتنعّم الأجسادُ تبعا لذلك، وهذه بعض النصوص في ذلك:

النعيم في الحياة البرزخية: فالمؤمن يوسَّع له في قبره، ويملأ نورا وخضرة، قَالَ قَتَادَةُ: (وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُمْلَأُ عَلَيْهِ خَضِرًا، إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون)، =أي: يوم القيامة.= (م) 70- (2870).

ويؤيِّد ما قاله قتادة رحمه الله ما ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ("إِنَّ الْمُؤْمِنَ فِي قَبْرِهِ لَفِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، وَيُرْحَبُ لَهُ قَبْرُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعًا")، =وفي الرواية السابقة: "مَدَّ البصر"،= ("وَيُنَوَّرُ لَهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ،..."). (حب) (3122)، (يع) (6644)، انظر (التعليق الرغيب) (4/ 182) صَحِيح التَّرْغِيبِ (3552)، صحيح موارد الظمآن: (651)، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن.

ما ألذّه من نعيم! وما أكرمه من إنعام! عندما يقال للعبد الصالح: ("... نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ؛ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَبْعَثَهُ اللهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ")، ("قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ؛ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟! فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، ..."). (ت) (1071)، (حم) (18557)

هذا حياة الإنسان في قبره نعيم، -(الْعَرُوسِ): يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى =يقال هذا الرجل عروس، وهذه المرأة عروس= فِي أَوَّلِ اِجْتِمَاعِهِمَا، وَقَدْ يُقَالُ: لِلذَّكَرِ الْعَرِيسُ، وَإِنَّمَا شَبَّهَ نَوْمَهُ بِنَوْمَةِ الْعَرُوسِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي طَيِّبِ الْعَيْشِ. (الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ)، =وهذه نعمة طيبة تدل على الرفق واللين=، هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ عِزَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ عِنْدَ أَهْلِه، يَأْتِيهِ غَدَاةَ لَيْلَةِ زِفَافِهِ مَنْ هُوَ أَحَبُّ وَأَعْطَفُ، فَيُوقِظُهُ عَلَى الرِّفْقِ وَاللُّطْفِ. انظر تحفة الأحوذي (3/ 134)-

الرابع عشر: إنهم في القبر أحياء حياة برزخية لا دنيوية، يحسون إحساسا غير إحساسهم في الدنيا، ويشعرون بما يُعرض عليهم، فإن عرضت عليهم الجنة تنعَّموا، وإن عرضت عليهم النار تعذَّبوا وتألـَّمـوا، وهذا ما يكون من مقاعدهم ومن الأبواب التي تفتح عليهم، وذلك إلى يوم القيامة:

فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ، عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ؛ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"). (خ) 1379). (م) 65- (2866).

-(عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)، -أَيْ: أُظْهِرَ لَهُ مَكَانُهُ الْخَاصُّ مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ: وَقْتُهُمَا، وَإِلَّا فَالْمَوْتَى لَا صَبَاحَ عِنْدَهُمْ وَلَا مَسَاءَ.

ثُمَّ هُوَ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ الشُّهَدَاءِ، لِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، وَأَرْوَاحُهُمْ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ. وَفَائِدَةُ الْعَرْضِ فِي حَقِّهِمْ، تَبْشِيرُ أَرْوَاحِهِمْ بِاسْتِقْرَارِهَا فِي الْجَنَّةِ مُقْتَرِنَةً بِأَجْسَادِهَا، فَإِنَّ فِيهِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى مَا هِيَ فِيهِ الْآنَ. تحفة الأحوذي (3/ 135)-

الخامس عشر: ضمَّةُ القبر التي لا يسلم منها أحد:

عافانا الله وإياكم منها، ورد عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: (دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَهُ -يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ- فَاحْتَبَسَ)، =أي: تأخر عليه الصلاة والسلام في نزوله في قبر سعد رضي الله عنه=، (فَلَمَّا خَرَجَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا حَبَسَكَ؟!) قَالَ: ("ضُمَّ سَعْدٌ فِي الْقَبْرِ ضَمَّةً، فَدَعَوْتُ اللَّهَ فَكَشَفَ عَنْهُ"). (حب) (7034) (الصحيحة) (4/ 270).

وفي روايةَ: ("هَذَا الَّذِي تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ، وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَشَهِدَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً، ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ"). (س) (2055)، انظر الصحيحة: (3345).

والكافر، هل ينجو من هذه الضمة؟ أبدا؛ فبعد السؤال والجواب، السؤال من الفتان والجواب: ("...يُقَالُ لِلأَرْضِ: التَئِمِي عَلَيْهِ")، =أي على جسم الكافر= ("فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، فَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَضْلَاعُهُ، فَلَا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ"). (ت) (1071) الصحيحة (1391)، فضمة القبر للمؤمن مؤقَّتة، وضمَّة القبر للكافر مؤبَّدة.

السادس عشر: القبر أوّلُ منازل الآخرة، وآخرُ منازل الدنيا، وله بدايةٌ وهي عند الموت، وله نهايةٌ وهي يوم البعث والنشور:

عَنْ هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ: (كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ يَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ)، فَقِيلَ لَهُ: (تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ فَلَا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟!) فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ("إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ")؛ -أَيْ: مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ- ("فَمَا بَعْدَهُ") -أَيْ: مِنْ الْمَنَازِلِ- ("أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ")، -لِأَنَّ النَّارَ أَشَدُّ الْعَذَابِ، وَالْقَبْرُ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ. تحفة (6/ 93)-

قَالَ = عُثْمَانُ رضي الله عنه=: وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ("مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ، إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ"). (ت) (2308)، (جة) (4267)، انظر صَحِيح الْجَامِع: (5623)، صَحِيح التَّرْغِيبِ (3550).

-أَيْ: مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا فَظِيعًا عَلَى حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْفَظَاعَةِ، إِلَّا وَالْقَبْرِ أَقْبَحُ مِنْهُ. تحفة الأحوذي (6/ 93).-

السابع عشر: لولا أن في القبر بعد الموت عذابًا حقيقة لما كان التعوُّذ بالله من عذاب القبر، فالتعوذ من معدوم غير معقول شرعا ولا عرفا:

عَنْ أُمِّ خَالِدٍ ابْنَةِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ العَاصِ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهُوَ («يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ»). (خ) (1376)، (حم) (27056).

وعَنْ أُمِّ مُبَشِّرٍ =رضي الله عنها=، قَالَتْ: (دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا فِي حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ بَنِي النَّجَّارِ، فِيهِ قُبُورٌ مِنْهُمْ)، وَهُوَ يَقُولُ: ("اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ")، فَقُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلْقَبْرِ عَذَابٌ؟!) قَالَ: ("نَعَمْ! وَإِنَّهُمْ لَيُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ"). (حب) (3125)، (الصحيحة) (1445).

فنستعيذ بالله من عذاب القبر في كلّ صلاة بعد التشهد، وندعو لغيرنا أن يعيذهم -الله عز وجل- من عذاب القبر، وهذا هو ديدن النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه في صلاة الجنازة: فعن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، قال: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: ("اللهُمَّ، اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ -أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ-")، قَالَ: (حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ). (م) 85- (963).

ومن هدي السلف؛ إذا صلينا على من مات من الأطفال، نسأل الله أن يعيذهم من عذاب القبر: فعَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ =رحمه الله= يَقُولُ: (صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى صَبِيٍّ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ)، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ). (ط) (610).

وجاء في الحديث الطويل، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: («اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَلِ وَالهَرَمِ، وَالـمَأْثَمِ وَالـمَغْرَمِ، وَمِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ، وَعَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنِّي خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي مِنَ الخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الـمَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ»). (خ) (6368).

وهذا الحديث فيه استعاذة من فتنة القبر.

الثامن عشر: ما يقي من عذاب القبر:

منها: المداومة على تلاوة سورة الملك كل يوم: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ("إِنَّ سُورَةً مِنَ القُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ، وَهِيَ سُورَةُ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الـمُلْكُ"). (ت) (2891)، (د) (1400)، (جة) (3786).

وَفي رواية أخرى؛ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: ("يُؤْتَى الرَّجُلُ فِي قَبْرِهِ؛ فَتُؤْتَى رِجْلاهُ، فَتَقُولُ رِجْلاهُ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلِي سَبِيلٌ، كَانَ يَقُومُ يَقْرَأُ بِي سُورَةَ الْمُلْكِ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ صَدْرِهِ، فَيَقُولُ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلِي سَبِيلٌ، كَانَ يَقْرَأُ بِي سُورَةَ الْمُلْكِ، ثُمَّ يُؤْتَى رَأْسُهُ، فَيَقُولُ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلِي سَبِيلٌ كَانَ يَقْرَأُ بِي سُورَةَ الْمُلْكِ، قَالَ: فَهِيَ الْمَانِعَةُ، تَمْنَعُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَهِيَ فِي التَّوْرَاةِ سُورَةُ الْمُلْكِ، وَمَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَةٍ فَقَدْ أَكْثَرَ وَأَطَابَ"). (ك) (3839)، (ش) (6025)، (طب) (8651)، (ن) (10547)، انظر صَحِيح التَّرْغِيبِ (1475)، (1589).

وأيضا من موانع عذاب القبر والوقاية منه؛ المسلم يموت يوم الجمعة أو ليلته، وهذا ليس للعبد فعله، ولكنه تقديرٌ من الله عز وجل أن يموت الإنسان ليلة الجمعة، فقد ورد: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، إِلَّا وَقَاهُ اللهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ"). (ت) (1074)، (حم) (6582)، انظر (صَحِيح التَّرْغِيبِ) (3562)، والمشكاة: (1367)، و(أحكام الجنائز ص35).

-(فِتْنَةَ الْقَبْرِ)، أَيْ: عَذَابَهُ وَسُؤَالَهُ. تحفة الأحوذي (3/ 138).-

كذلك من مات بداء البطن كالإسهال ونحوه: عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ؛ لَمْ يُعَذَّبْ فِي قَبْرِهِ"). (ت) (1064)، (س) (2052)، (حم) (18312)، صَحِيح الْجَامِع: (6461)، صَحِيح التَّرْغِيبِ (1410).

والمرابط في سبيل الله يأمن من عذاب القبر: عَنْ سَلْمَانَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ("مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُومِنَ عَذَابَ الْقَبْرِ، وَنَمَا لَهُ أَجْرُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"). (حب) (4625)، (الإرواء) (1200)

وعَنْ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ("لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ"). (ت) (1663)، (جة) (2799).

ومن الأعمال الصالحة المانعة من عذاب القبر؛ أعمالٌ شتى كثيرة، إذا أكثرت منها منعت عنك عذابَ القبر، فقد ورد: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ("إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ؛ إِنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا، كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْ شِمَالِهِ، وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ، فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَتَقُولُ فَعَلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ فَيَجْلِسُ، وَقَدْ مُثِّلَتْ لَهُ الشَّمْسُ وَقَدْ أُدْنِيَتْ لِلْغُرُوبِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَا تَقُولُ فِيهِ، وَمَاذَا تَشَهَّدُ بِهِ عَلَيْهِ؟ فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ)، ==أي: يخاف أن تفوته صلاة العصر= ("فَيَقُولُونَ: إِنَّكَ سَتَفْعَلُ، أَخْبَرَنِي عَمَّا نَسْأَلُكُ عَنْهُ، أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَا تَقُولُ فِيهِ، وَمَاذَا تَشَهَّدُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيتَ وَعَلَى ذَلِكَ مِتَّ، وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْهَا، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا لَوْ عَصَيْتَهُ، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، وَيُعَادُ الْجَسَدُ لِمَا بَدَأَ مِنْهُ، فَتَجْعَلُ نَسْمَتُهُ فِي النَّسَمِ الطَّيِّبِ، وَهِيَ طَيْرٌ يَعْلُقُ") =بضم اللام، ومعناها ويأكل، ويرتع= ("فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}"). (إبراهيم: 27)، (إِلَى آخِرِ الْآيَةِ). (حب) (3113) (التعليق الرغيب) (4/ 188- 189)، (أحكام الجنائز) (198- 202).

التاسع عشر: الأرواح تتزاور فتتلاقى على شجر على الجنة: فعَنْ أُمِّ هَانِئٍ =رضي الله عنها=؛ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَتَزَاوَرُ إِذَا مِتْنَا؟ وَيَرَى بَعْضُنَا بَعْضًا؟!) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: («تَكُونُ النَّسَمُ") =أي: الأرواح= ("طَيْرًا تَعْلُقُ بِالشَّجَرِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَخَلَتْ كُلُّ نَفْسٍ فِي جَسَدِهَا»). (حم) (27387)، انظر الصَّحِيحَة: (679)، إصلاح المنطق (ص: 173).

[يقال: قد عَلَقت الإبل تَعْلُقُ، إذا تناولت من ورق الشجر، وهي إبل عَوَالِق]. إصلاح المنطق (ص: 173).

وفي حديث: ("إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ"). (م) 49- (943).

وفي رواية: ("إذا وَلِيَ أحدُكم أخاه فليحسن كفنه؛ فإنهم يُبعثون في أكفانهم، ويتزاورون في أكفانهم"). ورُمز له (سمويه عق خط) عن أنس، انظر صحيح الجامع (845)، الصحيحة (1425).

العشرون: الأرواح في البرزخ تتزاور فيما بنها وتستقبل روح الميت حديثا، إذا مات ميت تستقبله روح الميت والأرواح الأخرى، وتسأله عن أهلها الأحياء: فقد ثبت عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ:

("إِذَا قُبِضَتْ نَفْسُ الْعَبْدِ تَلَقَّاهُ أَهْلُ الرَّحْمَةِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ كَمَا يَلْقَوْنَ الْبَشِيرَ فِي الدُّنْيَا، فَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ لِيَسْأَلُوهُ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَنْظِرُوا أَخَاكُمْ حَتَّى يَسْتَرِيحَ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي كَرْبٍ، فَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ فَيَسْأَلُونَهُ مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟) =كلُّ واحد يسأل عن أهله= ("مَا فَعَلَتْ فُلَانَةٌ؟ هَلْ تَزَوَّجَتْ؟ فَإِذَا سَأَلُوا عَنِ الرَّجُلِ قَدْ مَاتَ قَبْلَهُ، قَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ قَدْ هَلَكَ، فَيَقُولُونَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، فَبِئْسَتِ الْأُمُّ، وَبِئْسَتِ الْمُرَبِيَّةُ، قَالَ: فَيُعْرَضُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالُهُمْ، فَإِذَا رَأَوْا حَسَنًا فَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا")، =هذا الميت الجديد، إذا أخبر أولئك بالأخبار الطيبة عن أهليهم فرحوا واستبشروا،= (وَقَالُوا: هَذِهِ نِعْمَتُكَ عَلَى عَبْدِكَ فَأَتِمَّهَا")، =هم يدعون أيضا للأحياء،= ("وَإِنْ رَأَوْا سُوءًا قَالُوا: اللَّهُمَّ رَاجِعْ بِعَبْدِكِ"). الزهد والرقائق لابن المبارك (1/ 149، 150) ح (443)، (الصحيحة) (2758).

وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -أَحْسَبُهُ رَفَعَهُ- قَالَ: («إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْزِلُ بِهِ الْمَوْتُ وَيُعَايِنُ مَا يُعَايِنُ، فَوَدَّ لَوْ خَرَجَتْ -يَعْنِي نَفْسَهُ- وَاللَّهُ يُحِبُّ لِقَاءَهُ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَصْعَدُ بِرُوحِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَتَأْتِيهِ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَسْتَخْبِرُونَهُ عَنْ مَعَارِفِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَإِذَا قَالَ: تَرَكْتُ فُلَانًا فِي الدُّنْيَا؛ أَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ، وَإِذَا قَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَدْ مَاتَ؛ قَالُوا: مَا جِيءَ بِهِ إِلَيْنَا!..."). قال الهيتمي في (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) (3/ 52) (4271): [قُلْتُ: فِي الصَّحِيحِ طَرَفٌ مِنْهُ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ خَلَا سَعِيدَ بْنَ بَحْرٍ الْقَرَاطِيسِيَّ، فَإِنِّي لَمْ أَعْرِفْهُ]. (الصحيحة) (2628). قال الألباني في (السلسلة الصحيحة) (6/ 263): أخرجه البزار في (مسنده) (ص 92- زوائده).

قال أبو المنذر فؤاد غفر الله له: جاء في (تاريخ الإسلام) للذهبي ت بشار (6/ 90)، رقم: (231) ترجمة لسعَيِد بْن بحر القَرَاطِيسيّ البَغْداديُّ. (الوفاة: 251- 260هـ)، فقال الذهبي عنه: [ثقة، مُسْنِد، سَمِعَ: عَبِيدَة بْن حُمَيْد، والْحُسَيْن الْجُعْفيّ، وجماعة، وَعَنْهُ: ابن صاعد، والـمَحَامِليّ، تُوُفّي سنة ثلَاثٍ وخمسين]. وانظر غير مأمور: (تاريخ بغداد) المشكول (10/ 131)، رقم: (4626).

الحادي والعشرون: أرواحُ المؤمنين تكون طيرا، بينما أرواح الشهداء منهم في حواصل طير خضر:

دلَّت الأحاديث في الحياة البرزخية؛ على أن أرواح المؤمنين تكون طيرا، بينما أرواح الشهداء منهم في حواصل طير خضر، في جوف طير خضر، تأوي إلى قناديلَ معلقة بالعرش؛ عرش الرحمن، فقد جاء في الحديث كما ثبت عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. (آل عمران: 169)، قَالَ: (أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ؟) فَقَالَ:

("أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً"، فَقَالَ: "هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ")، =يسألهم هل تشتهون شيئا؟= ("فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا، قَالُوا: يَا رَبِّ! نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا"). (م) 121- (1887).

وهذه حياة الشهداء ونعيمُ أرواحِهم التي مسكنها في أجواف طير خضر، وأجسادهم تتنعم تبعا لذلك في قبورها، عَنْ كَعْب بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ("إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ، تَعْلُقُ مِنْ ثَمَرِ الجَنَّةِ أَوْ شَجَرِ الجَنَّةِ"). هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، (ت) (1641).

فالشهداء كما ورد في أكثر من رواية: ("... أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، ..."). (د) (2520)، (حم) (2388).

ومن هؤلاء الشهداء الذين يطيرون في الجنة؛ وذكر النبي صلى الله عليه وسلم منهم جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، ويقال له: جعفر الطيار، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

("دَخَلْتُ الْجَنَّةَ الْبَارِحَةَ، فَنَظَرْتُ فِيهَا؛ فَإِذَا جَعْفَرٌ يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِذَا حَمْزَةُ مُتَّكِئٌ عَلَى سَرِيرٍ"). (ك) (4890)، (ت) (3763)، (طب) (ج3ص146ح2945)، صَحِيح الْجَامِع: (3363)

وفي رواية: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("رَأَيْتُ جَعْفَرًا بْنَ أَبِي طَالِبٍ مَلِكًا يَطِيرُ فِي الْجَنَّةِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ بِجَنَاحَيْنِ"). (ت) 3763)، (ك) (4935)، صَحِيح الْجَامِع: (3465)، الصَّحِيحَة: (1226)، وذلك لأنه قطعت يداه في سبيل الله.

بينما سائر المؤمنين كما ثبت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ("إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ") =فالمؤمن نسمه طائر، بينما الشهيد نسمته في جوف طائر،= ("فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"). (س) (2073)، (جة) (4271).

وفي رواية عن كعب بن مالك: («إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُسْلِمِ طَيْرٌ تَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»). (حم) (15776)، (15780)، وفي رواية: («نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ...»). (حم) (15777)، (15778)، (15787)، (15792)، (ط) (643)، (حب) (4657)، (الصحيحة) (995).

والخلاصة: أن [... الأرواحَ متفاوتةٌ في مستقرِّها في البرزخ أعظم تفاوت؛

فمنها في أعلى عليّين؛ وهي أرواح الأنبياء عليهم السلام، وهم متفاوتون في منازلهم.

ومنها في حواصل طير.

ومنها من يكون محبوسا على باب الجنة.

ومنها من يكون مقرُّه بباب الجنة.

ومنها من يكون محبوسا في الأرض =السابعة=، لم تَعْلُ روحُه إلى الملأ الأعلى، فإنها كانت روحا سُفلية.

ومنها أرواح تكون في تنُّور الزناة، وأرواح تكون في نهر الدم تسبح.

وليس للأرواح؛ شقيِّها وسعيدِها مستقر ٌّواحد؛ بل روحٌ في أعلى عليين، وروحٌ أرضيَّةٌ سُفْليَّةٌ لا تصعد عن الأرض.

وأنت إذا تأمَّلت السُّنن والآثارَ في هذا الباب، وكان لك فضلُ اعتناءٍ عرفت حجة ذلك.

ولا تظنّ أنّ بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضا...

والمفهوم منه أنّ مستقرَّها يتفاوت بتفاوت حال صاحبها؛ إيمانا وكفرا، وصلاحا وفسقا...]. الآيات البينات (ص: 91).

وفي الختام:

رؤيا حقٍّ رأتها إحدى الصحابيات رضي الله عنهن أجمعين، فقصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، وتحققت في وقتها:

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تُعْجِبُهُ الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ)، فَرُبَّمَا قَالَ: ("هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟") فَإِذَا رَأَى الرَّجُلُ رُؤْيَا سَأَلَ عَنْه؟ فَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِهِ بَأسٌ، كَانَ أَعْجَبَ لِرُؤْيَاهُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ:

(يَا رَسُولَ اللهِ! رَأَيْتُ كَأَنِّي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَسَمِعْتُ بِهَا وَجْبَةً) =أي: صوت شيء سقط=، (ارْتَجَّتْ لَهَا الْجَنَّةُ، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا قَدْ جِيءَ بِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، وَفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ)، حَتَّى عَدَّتْ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا =الأسماء التي ذكرتهم لا تعرفهم هي، لكن حصل= -وَقَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً قَبْلَ ذَلِكَ-، =فيها الاثني عشر هؤلاء= قَالَتْ: (فَجِيءَ بِهِمْ؛ عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ طُلْسٌ). -الأطلس: الثوب الخَلِق الوسخ-، (تَشْخُبُ)، أي: تسيل (أَوْدَاجُهُمْ، فَقِيلَ: اذْهَبُوا بِهِمْ إِلَى نَهْرِ الْبَيْدَجِ)، =أو البيدخ أو البيدح= (فَغُمِسُوا فِيهِ، فَخَرَجُوا مِنْهُ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ أُتُوا بِكَرَاسِيَّ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَعَدُوا عَلَيْهَا)، (وَجِيءَ بِصَحْفَةٍ)؛ -الصحفة: إِناءٌ كالقَصْعَة المبْسُوطة ونحوها، وجمعُها صِحَاف-، (مِنْ ذَهَبٍ فِيهَا بُسْرٌ)، =وهو البلح= (فَمَا يَقْلِبُونَهَا لِوَجْهٍ؛ إِلَّا أَكَلُوا مِنْ الْفَاكِهَةِ مَا أَرَادُوا)، قَالَتْ: (يَا رَسُولَ اللهِ! وَأَكَلْتُ مَعَهُمْ). =انتهت الرؤية.=

قَالَ: (فَجَاءَ الْبَشِيرُ مِنْ تِلْكَ السَّرِيَّةِ)، فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ! كَانَ مِنْ أَمْرِنَا كَذَا وَكَذَا، وَأُصِيبَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ)، حَتَّى عَدَّ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ عَدَّتْهُمُ الْمَرْأَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("عَلَيَّ بِالْمَرْأَةِ")، فَجَاءَتْ، فَقَالَ: ("قُصِّي عَلَى هَذَا رُؤْيَاكِ")، فَقَصَّتْ، فَقَالَ الرَّجُلُ: (هُوَ كَمَا قَالَتْ، أُصِيبَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ). (حم) (12385)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح، (حم) (13698)، مسند عبد بن حميد: (ج1/ص380)، ح (1275)، (حب) (6054)، صحيح موارد الظمآن: (1513).

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

واسأل الله أن يعيذنا من فتنة القبر وعذابه، وأن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنان، ولا يجعلها حفرة من حفر النيران، واغفر لنا ولإخواننا أجمعين، وبارك الله فيكم.

هذا والله تعالى أعلم

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الجنة دار الأبرار والطريق الموصل اليها

  ➌ الجنة ومتاعها والنار وسوء جحيمها عياذا بالله الواحد. {{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِ...